بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 8 أبريل 2010

نبذ من "اعلام الموقعين"/8

فصل إعادة الصلاة لمن صلى منفردا خلف الصف توافق القياس
ومن ذلك ظن بعضهم أن أمره ص - لمن صلى فذا خلف الصف بالإعادة على خلاف القياس فإن الإمام والمرأة فذان وصلاتهما صحيحة
وهذا من أفسد القياس وأبطله فإن الإمام يسن في حقه التقدم وأن يكون وحده والمأمومون يسن في حقهم الاصطفاف فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس والفرق بينهما أن الإمام إنما جعل ليؤتم به وتشاهد أفعاله وانتقالاته فإذا كان قدامهم حصل مقصود الإمامة وإذا كان في الصف لم

يشاهد إلا من يليه ولهذا جاءت السنة بالتقدم ولو كانوا ثلاثة محافظة على المقصود بالائتمام وأما المرأة فإن السنة وقوفها فذة إذا لم يكن هناك امرأة تقف معها لأنها منهية عن مصافة الرجال فموقفها المشروع أن تكون خلف الصف فذة وموقف الرجل المشروع أن يكون في الصف فقياس أحدهما على الآخر من أبطل القياس وأفسده وهو قياس المشروع على غير المشروع
فإن قيل فلو كان معها نساء ووقفت وحدها صحت صلاتها
قيل هذا غير مسلم بل إذا كان صف النساء فحكم المرأة بالنسبة إليه في كونها فذة كحكم الرجل بالنسبة إلى صف الرجال لكن موقف المرأة وحدها خلف صف الرجال يدل على شيئين أحدهما أن الرجل إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه وتعذر عليه الدخول في الصف ووقف معه فذا صحت صلاته للحاجة وهذا هو القياس المحض فإن واجبات الصلاة تسقط بالعجز عنها الثاني وهو طرد هذا القياس إذا لم يمكنه أن يصلي مع الجماعة إلا قدام الإمام فإنه يصلي قدامه وتصح صلاته وكلاهما وجه في مذهب أحمد وهو اختيار شيخنا
رحمه الله
وبالجملة فليست المصافة أوجب من غيرها فإذا سقط ما هو أوجب منها للعذر فهي أولى بالسقوط ومن قواعد الشرع الكلية أنه لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة
فصل ركوب وحلب الرهن مقابل النفقة على وفق القياس
ومن ذلك قول بعضهم إن الحديث الصحيح وهو قوله الرهن مركوب ومحلوب وعلى الذي يركب ويحلب النفقة على خلاف القياس فإنه جوز لغير المالك أن يركب الدابة وأن يحلبها وضمنه ذلك بالنفقة لا بالقيمة فهو مخالف للقياس من وجهين

والصواب ما دل عليه الحديث وقواعد الشريعة وأصولها لا تقتضي سواه فإن الرهن إذا كان حيوانا فهو محترم في نفسه لحق الله سبحانه وللمالك فيه حق الملك وللمرتهن حق الوثيقة وقد شرع الله سبحانه الرهن مقبوضا بيد المرتهن فإذا كان بيده فلم يركبه ولم يحلبه ذهب نفعه باطلا وإن مكن صاحبه من ركوبه خرج عن يده وتوثيقه وإن كلف صاحبه كل وقت أن يأتي ليأخذ لبنه شق عليه غاية المشقة ولا سيما مع بعد المسافة وإن كلف المرتهن بيع اللبن وحفظ ثمنه للراهن شق عليه فكان مقتضى العدل والقياس ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب ويعوض عنهما بالنفقة ففي هذا جمع بين المصلحتين وتوفير الحقين فإن نفقة الحيوان واجبة على صاحبه والمرتهن إذا أنفق عليه أدى عنه واجبا وله فيه حق فله أن يرجع ببدله ومنفعة الركوب والحلب تصلح أن تكون بدلا فأخذها خير من أن تهدر على صاحبها باطلا ويلزم بعوض ما أنفق المرتهن وإن قيل للمرتهن لا رجوع لك كان في ذلك إضرار به ولم تسمح نفسه بالنفقة على الحيوان فكان ما جاءت به الشريعة هو الغاية التي ما فوقها في العدل والحكمة والمصلحة شيء يختار
فإن قيل ففي هذا أن من أدى عن غيره واجبا فإنه يرجع ببدله وهذا خلاف القياس فإنه إلزام له بما لم يلتزمه ومعاوضة لم يرض بها
قيل وهذا أيضا محض القياس والعدل والمصلحة وموجب الكتاب ومذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث أهل بلدته وأهل سنته فلو أدى عنه دينه أو أنفق على من تلزمه نفقته أو افتداه من الأسر ولم ينو التبرع فله الرجوع وبعض أصحاب أحمد فرق بين قضاء الدين ونفقة القريب فجوز الرجوع في الدين دون نفقة القريب قال لأنها لا تصير دينا
قال شيخنا والصواب التسوية بين الجميع والمحققون من أصحابه سووا

بينهما ولو افتداه من الأسر كان له مطالبته بالفداء وليس ذلك دينا عليه والقرآن يدل على هذا القول فإن الله تعالى قال فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع ولم يشترط عقدا ولا إذن الأب وكذلك قوله والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود رزقهن وكسوتهن بالمعروف فأوجب ذلك عليه ولم يشترط عقدا ولا إذنا ونفقة الحيوان واجبة على مالكه والمستأجر والمرتهن له فيه حق فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على ربه كان أحق بالرجوع من الإنفاق على ولده فإن قال الراهن أنا لم آذن لك في النفقة قال هي واجبة عليك وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون والمستأجر فإذا رضي المنفق بأن يعتاض بمنفعة الرهن وكانت نظير النفقة كان قد أحسن إلى صاحبه وذلك خير محض فلو لم يأت به النص لكان القياس يقتضيه وطرد هذا القياس أن المودع والشريك والوكيل إذا أنفق على الحيوان واعتاض عن النفقة بالركوب والحلب جاز ذلك كالمرتهن
فصل حكم الرسول على من وقع على جارية امرأته يوافق القياس
ومما قيل إنه من أبعد الأحاديث عن القياس حديث الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق أن رسول الله ص - قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها وفي رواية أخرى وإن كانت طاوعته فهي ومثلها من ماله لسيدتها رواه أهل السنن وضعفه بعضهم من قبل إسناده وهو حديث حسن يحتجون بما هو دونه في القوة ولكن لإشكاله أقدموا على تضعيفه مع لين في سنده

قال شيخ الإسلام وهذا الحديث يستقيم على القياس مع ثلاثة أصول صحيحة كل منها قول طائفة من الفقهاء
الأصل الأول من غير مال غيره
أحدها أن من غير مال غيره بحيث فوت مقصوده عليه فله أن يضمنه بمثله وهذا كما لو تصرف في المغصوب بما أزال اسمه ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره أحدها أنه باق على ملك صاحبه وعلى الغاصب ضمان النقص ولا شيء عليه في الزيادة كقول الشافعي والثاني يملكه الغاصب بذلك ويضمنه لصاحبه كقول أبي حنيفة والثالث يخير المالك بين أخذه وتضمين النقص وبين المطالبة بالبدل وهذا أعدل الأقوال وأقواها فإن فوت صفاته المعنوية مثل أن ينسيه صناعته أو يضعف قوته أو يفسد عقله أو دينه فهذا أيضا يخير المالك فيه بين تضمين النقص وبين المطالبة بالبدل ولو قطع ذنب بغلة القاضي فعند مالك يضمنها بالبدل ويملكها لتعذر مقصودها على المالك في العادة أو يخير المالك
فصل الأصل الثاني ضمان المتلفات بالجنس
الأصل الثاني أن جميع المتلفات تضمن بالجنس بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة حتى الحيوان فإنه إذا اقترضه رد مثله كما اقترض النبي ص - بكرا ورد خير منه وكذلك المغرور يضمن ولده بمثلهم كما قضت به الصحابة وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره وقصة داود وسليمان عليهما السلام من هذا الباب فإن الماشية كانت قد أتلفت حرث القوم فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث كأنه ضمنهم ذلك بالقيمة ولم يكن لهم مال إلا الغنم فأعطاهم الغنم بالقيمة وأما سليمان فحكم بأن أصحاب الماشية يقومون على الحرث حتى يعود كما كان فضمنهم إياه بالمثل وأعطاهم الماشية يأخذون منفعتها عوضا عن المنفعة التي فاتت من غلة الحرث إلى أن يعود وبذلك أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز

فيمن أتلف له شجر فقال الزهري يغرسه حتى يعود كما كان وقال ربيعة وأبو الزناد عليه القيمة فغلط الزهري القول فيهما وقول الزهري وحكم سليمان هو موجب الأدلة فإن الواجب ضمان المتلف بالمثل بحسب الإمكان كما قال تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها وقال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقال والحرمات قصاص وقال وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وإن كان مثل الحيوان والآنية والثياب من كل وجه متعذرا فقد دار الأمر بين شيئين الضمان بالدراهم المخالفة للمثل في الجنس والصفة والمقصود والانتفاع وإن ساوت المضمون في المالية والضمان بالمثل بحسب الإمكان المساوي للمتلف في الجنس والصفة والمالية والمقصود والانتفاع ولا ريب أن هذا أقرب إلى النصوص والقياس والعدل ونظير هذا ما ثبت بالسنة واتفاق الصحابة من القصاص في اللطمة والضربة وهو منصوص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد وقد تقدم تقرير ذلك وإذا كانت المماثلة من كل وجه متعذرة حتى في المكيل والموزون فما كان أقرب إلى المماثلة فهو أولى بالصواب ولا ريب أن الجنس إلى الجنس أقرب مماثلة من الجنس إلى القيمة فهذا هو القياس وموجب النصوص وبالله التوفيق
الأصل الثالث من مثل بعبده عتق عليه
والأصل الثالث أن من مثل بعبده عتق عليه وهذا مذهب فقهاء الحديث وقد جاءت بذلك آثار مرفوعة عن النبي ص - وأصحابه كعمر ابن الخطاب وغيره
فهذا الحديث موافق لهذه الأصول الثلاثة الثابتة بالأدلة الموافقة للقياس العادل فإذا طاوعته الجارية فقد أفسدها على سيدتها فإنها مع المطاوعة تنقص قيمتها إذ تصير زانية ولا تمكن سيدتها من استخدامها حق الخدمة لغيرتها منها وطمعها في السيد واستشراف السيد إليها وتتشامخ على سيدتها فلا تطيعها كما كانت تطيعها قبل ذلك والجاني إذا تصرف في المال بما ينقص قيمته كان لصاحبه المطالبة بالمثل فقضى الشارع لسيدتها بالمثل وملكه الجارية إذ

لا يجمع لها بين العوض والمعوض وأيضا فلو رضيت سيدتها أن تبقى الجارية على ملكها وتغرمه ما نقص من قيمتها كان لها ذلك فإذا لم ترض وعلمت أن الأمة قد فسدت عليها ولم تنتفع بخدمتها كما كانت قبل ذلك كان من أحسن القضاء أن يغرم السيد مثلها ويملكها
فإن قيل فاطردوا هذا القياس وقولوا إن الأجنبي إذا زنى بجارية قوم حتى أفسدها عليهم أن لهم القيمة أو يطالبوه ببدلها
قيل نعم هذا موجب القياس إن لم يكن بين الصورتين فرق مؤثر وإن كان بينهما فرق انقطع الإلحاق فإن الإفساد الذي في وطء الزوج بجارية امرأته بالنسبة إليها أعظم من الإفساد الذي في وطء الأجنبي وبالجملة فجواب هذا السؤال جواب مركب إذ لا نص فيه ولا إجماع
فصل استكراه الأمة والعبد على الفاحشة
وأما إذا استكرهها فإن هذا من باب المثلة فإن الإكراه على الوطء مثلة فإن الوطء يجري مجرى الجناية ولهذا لا يخلو عن عقر أو عقوبة ولا يجري مجرى منفعة الخدمة فهي لما صارت له بإفسادها على سيدتها أوجب عليه مثلها كما في المطاوعة وأعتقها عليه لكونه مثل بها
قال شيخنا ولو استكره عبده على الفاحشة عتق عليه ولو استكره أمة الغير على الفاحشة عتقت عليه وضمنها بمثلها إلا أن يفرق بين أمة امرأته وبين غيرها فإن كان بينهما فرق شرعي وإلا فموجب القياس التسوية
وأما قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم فهذا نهي عن إكراههن على كسب المال بالبغاء كما قيل إن عبد الله بن أبي رأس المنافقين كان له إماء يكرههن على البغاء وليس هذا استكراها للأمة على أن يزني بها هو فإن هذا بمنزلة التمثيل بها وذاك إلزام لها بأن تذهب هي فتزني

مع أنه يمكن أن يقال العتق بالمثلة لم يكن مشروعا عند نزول الآية ثم شرع بعد ذلك
قال شيخنا والكلام على هذا الحديث من أدق الأمور فإن كان ثابتا فهذا الذي ظهر في توجيهه وإن لم يكن ثابتا فلا يحتاج إلى الكلام عليه
نصوص الشرع معقولة
قال وما عرفت حديثا صحيحا إلا ويمكن تخريجه على الأصول الثابتة قال وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع فما رأيت قياسا صحيحا يخالف حديثا صحيحا كما أن المعقول الصحيح لا يخالف المنقول الصحيح بل متى رأيت قياسا يخالف أثرا فلا بد من ضعف أحدهما لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفي كثير منه على أفاضل العلماء فضلا عمن هو دونهم فإن إدراك الصفة المؤثرة في الأحكام على وجهها ومعرفة المعاني التي علقت بها الأحكام من أشرف العلوم فمنه الجلي الذي يعرفه أكثر الناس ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم فلهذا صارت أقيسة كثير من العلماء تجيء مخالفة للنصوص لخفاء القياس الصحيح كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام انتهى
فإن قيل فهب أنكم خرجتم ذلك على القياس فما تصنعون بسقوط الحد عنه وقد وطئ فرجا لا ملك له فيه ولا شبهة ملك
قيل الحديث لم يتعرض بنفي ولا إثبات وإنما دل على الضمان وكيفيته فإن قيل فكيف تخرجون حديث النعمان بن بشير في ذلك أنها إن كانت أحلتها له جلد مائة جلدة وإن لم تكن أحلتها له رجم بالحجارة على القياس
قيل هو بحمد الله موافق للقياس مطابق لأصول الشريعة وقواعدها فإن إحلالها له شبهة كافية في سقوط الحد عنه ولكن لما لم يملكها بالإحلال كان الفرج محرما عليه وكانت المائة تعزيرا له وعقوبة على ارتكاب فرج حرام عليه وكان إحلال الزوجة له وطأها شبهة دارئة للحد عنه

فإن قيل تكيف تخرجون التعزير بالمائة على القياس
قيل هذا من أسهل الأمور فإن التعزير لا يتقدر بقدر معلوم بل هو بحسب الجريمة في جنسها وصفتها وكبرها وصغرها وعمر بن الخطاب قد تنوع تعزيره في الخمر فتارة بحلق الرأس وتارة بالنفي وتارة بزيادة أربعين سوطا على الحد الذي ضربه رسول الله ص - وأبو بكر وتارة بتحريق حانوت الخمار وكذلك تعزير الغال وقد جاءت السنة بتحريق متاعه وتعزير مانع الصدقة بأخذها وأخذ شطر ماله معها وتعزير كاتم الضالة الملتقطة بإضعاف الغرم عليه وكذلك عقوبة سارق ما لا قطع فيه يضعف عليه الغرم وكذلك قاتل الذمي عمدا أضعف عليه عمر وعثمان ديته وذهب إليه أحمد وغيره
فإن قيل فما تصنعون بقول النبي ص - لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله
قيل نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة ولا منافاة بينه وبين شيء مما ذكرناه فإن الحد في لسان الشارع أعم منه في اصطلاح الفقهاء فإنهم يريدون بالحدود عقوبات الجنايات المقدرة بالشرع خاصة والحد في لسان الشارع أعم من ذلك فإن يراد به هذه العقوبة تارة ويراد به نفس الجناية تارة كقوله تعالى تلك حدود الله فلا تقربوها وقوله تلك حدود الله فلا تعتدوها فالأول حدود الحرام والثاني حدود الحلال وقال النبي ص - إن الله حد حدودا فلا تعتدوها وفي حديث النواس بن سمعان الذي تقدم في أول الكتاب والسور أن حدود الله ويراد به تارة جنس العقوبة وإن لم تكن مقدرة فقوله ص - لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله يريد به الجناية التي هي حق الله

فإن قيل فأين تكون العشرة فما دونها إذا كان المراد بالحد الجناية
قيل في ضرب الرجل امرأته وعبده وولده وأجيره للتأديب ونحوه فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط فهذا أحسن ما خرج عليه الحديث وبالله التوفيق
فصل المضي في الحج الفاسد يوافق القياس
وأما المضي في الحج الفاسد فليس مخالفا للقياس فإن الله سبحانه أمر بإتمام الحج والعمرة فعلى من شرع فيهما أن يمضي فيهما وإن كان متطوعا بالدخول باتفاق الأئمة وإن تنازعوا فيما سواه من التطوعات هل تلزم بالشروع أم لا فقد وجب عليه بالإحرام أن يمضي فيه إلى حين يتحلل ووجب عليه الإمساك عن الوطء فإذا وطىء فيه لم يسقط وطؤه ما وجب عليه من إتمام النسك فيكون ارتكابه ما حرمه الله عليه سببا لإسقاط الواجب عليه ونظير هذا الصائم إذا أفطر عمدا لم يسقط عنه فطره ما وجب عليه من إتمام الإمساك ولا يقال له قد بطل صومك فإن شئت أن تأكل فكل بل يجب عليه المضي فيه وقضاؤه لأن الصائم له حد محدود وهو غروب الشمس
فإن قيل فهلا طردتم ذلك في الصلاة إذا أفسدها وقلتم يمضي فيها ثم يعيدها
قيل من ههنا ظن من ظن أن المضي في الحج الفاسد على خلاف القياس والفرق بينهما أن الحج له وقت محدود وهو يوم عرفة كما للصيام وقت محدود وهو الغروب وللحج مكان مخصوص لا يمكن إحلال المحرم قبل وصوله إليه كما لا يمكن فطر الصائم قبل وصوله إلى وقت الفطر فلا يمكنه فعله ولا فعل الحج ثانيا في وقته بخلاف الصلاة فإنه يمكنه فعلها ثانيا في وقتها وسر الفرق أن وقت الصيام والحج بقدر فعله لا يسع غيره ووقت الصلاة أوسع منها

فيسع غيرها فيمكنه تدارك فعلها إذا فسدت في أثناء الوقت ولا يمكن تدارك الصيام والحج إذا فسدا إلا في وقت آخر نظير الوقت الذي أفسدهما فيه والله أعلم
فصل عدم فطر من أكل ناسيا يوافق القياس
وأما من أكل في صومه ناسيا فمن قال عدم فطره ومضيه في صومه على خلاف القياس ظن أنه من باب ترك المأمور ناسيا والقياس أنه يلزمه الإتيان بما تركه كما لو حدث ونسي حتى صلى والذين قالوا بل هو على وفق القياس حجتهم أقوى لأن قاعدة الشريعة أن من فعل محظورا ناسيا فلا إثم عليه كما دل عليه قوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وثبت عن النبي ص - أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال قد فعلت وإذا ثبت أنه غير آثم فلم يفعل في صومه محرما فلم يبطل صومه وهذا محض القياس فإن العبادة إنما تبطل بفعل محظور أو ترك مأمور وطرد هذا القياس أن من تكلم في صلاته ناسيا لم تبطل صلاته وطرده أيضا أن من جامع في إحرامه أو صيامه ناسيا لم يبطل صيامه ولا إحرامه وكذلك من تطيب أو لبس أو غطى رأسه أو حلق رأسه أو قلم ظفره ناسيا فلا فدية عليه بخلاف قتل الصيد فإنه من باب ضمان المتلفات فهو كدية القتيل وأما اللباس والطيب فمن باب الترفه وكذلك الحلق والتقليم ليس من باب الإتلاف فإنه لا قيمة له في الشرع ولا في العرف وطرد هذا القياس أن من فعل المحلوف عليه ناسيا لم يحنث سواء حلف بالله أو بالطلاق أو بالعتاق أو غير ذلك لأن القاعدة أن من فعل المنهي عنه ناسيا لم يعد عاصيا والحنث في الأيمان كالمعصية في الإيمان فلا يعد حانثا من فعل المحلوف عليه ناسيا وطرد هذا أيضا أن من باشر النجاسة في الصلاة ناسيا لم تبطل صلاته بخلاف من ترك شيئا من فروض

الصلاة ناسيا أو ترك الغسل من الجنابة أو الوضوء أو الزكاة أو شيئا من فروض الحج ناسيا فإنه يلزمه الإتيان به لأنه لم يؤد ما أمر به فهو في وقت عهدة الأمر وسر الفرق أن من فعل المحظور ناسيا يجعل وجوده كعدمه ونسيان ترك المأمور لا يكون عذرا في سقوطه كما كان فعل المحظور ناسيا عذرا في سقوط الإثم عن فاعله
فإن قيل فهذا الفرق حجة عليكم لأن ترك المفطرات في الصوم من باب المأمورات ولهذا تشترط فيه النية ولو كان فعل المفطرات من باب المحظور لم يحتج إلى نية كفعل سائر المحظورات
قيل لا ريب أن النية في الصوم شرط ولولاها لما كان عبادة ولا أثيب عليه لأن الثواب لا يكون إلا بالنية فكانت النية شرطا في كون هذا الترك عبادة ولا يختص ذلك بالصوم بل كل ترك لا يكون عبادة ولا يثاب عليه إلا بالنية ومع ذلك فلو فعله ناسيا لم يأثم به فإذا نوى تركها لله ثم فعلها ناسيا لم يقدح نسيانه في أجره بل يثاب على قصد تركها لله ولا يأثم بفعلها ناسيا وكذلك الصوم
وأيضا فإن فعل الناسي غير مضاف إليه كما قال النبي ص - من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه فأضاف فعله ناسيا إلى الله لكونه لم يرده ولم يتعمده وما يكون مضافا إلى الله لم يدخل تحت قدرة العبد فلم يكلف به فإنه إنما يكلف بفعله لا بما يفعل فيه ففعل الناسي كفعل النائم والمجنون والصغير وكذلك لو احتلم الصائم في منامه أو ذرعه القيء في اليقظة لم يفطر ولو استدعى ذلك أفطر به فلو كان ما يوجد بغير قصده كما يوجد بقصده لأفطر بهذا وهذا

التسوية بين الخطأ والنسيان في الصوم
فإن قيل فأنتم تفطرون المخطىء كمن أكل يظنه ليلا فبان نهارا أفطر
قيل هذا فيه نزاع معروف بين السلف والخلف والذي فرقوا بينهما قالوا فعل المخطىء يمكن الاحتراز منه بخلاف الناسي
ونقل عن بعض السلف أنه يفطر في مسألة الغروب دون مسألة الطلوع كما لو استمر الشك
قال شيخنا وحجة من قال لا يفطر في الجميع أقوى ودلالة الكتاب والسنة على قولهم أظهر فإن الله سبحانه سوى بين الخطأ والنسيان في عدم المؤاخذة ولأن فعل محظورات الحج يستوي فيه المخطىء والناسي ولأن كل واحد منهما غير قاصد للمخالفة وقد ثبت في الصحيح أنهم أفطروا على عهد رسول الله ص - ثم طلعت الشمس ولم يثبت في الحديث أنهم أمروا بالقضاء ولكن هشام بن عروة سئل عن ذلك فقال لا بد من قضاء وأبوه عروة أعلم منه وكان يقول لا قضاء عليهم وثبت في الصحيحين أن بعض الصحابة أكلوا حتى ظهر لهم الخيط الأسود من الأبيض ولم يأمر أحدا منهم بقضاء وكانوا مخطئين وثبت عن عمر بن الخطاب أنه أفطر ثم تبين النهار فقال لا نقضي لأنا لم نتجانف لإثم وروي عنه أنه قال نقضي وإسناد الأول أثبت وصح عنه أنه قال الخطب يسير فتأول ذلك من تأوله على أنه أراد خفة أمر القضاء واللفظ لا يدل على ذلك
قال شيخنا وبالجملة فهذا القول أقوى أثرا ونظرا وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس قلت له فالنبي ص - مر على رجل يحتجم فقال أفطر الحاجم والمحجوم ولم يكونا عالمين بأن الحجامة تفطر ولم يبلغهما قبل ذلك قوله أفطر الحاجم والمحجوم ولعل الحكم إنما شرع ذلك اليوم

فأجابني بما مضمونه أن الحديث اقتضى أن ذلك الفعل مفطر وهذا كما لو رأى إنسانا يأكل أو يشرب فقال أفطر الآكل والشارب فهذا فيه بيان السبب المقتضي للفطر ولا تعرض فيه للمانع
وقد علم أن النسيان مانع من الفطر بدليل خارج فكذلك الخطأ والجهل والله أعلم
فصل حكم عمر في امرأة المفقود يوافق القياس
ومما ظن أنه على خلاف القياس ما حكم به الخلفاء الراشدون في امرأة المفقود فإنه قد ثبت عن عمر بن الخطاب أن أجل امرأته أربع سنين وأمرها أن تتزوج فقدم المفقود بعد ذلك فخيره عمر بين امرأته وبين مهرها فذهب الإمام أحمد إلى ذلك وقال ما أدري من ذهب إلى غير ذلك إلى أي شيء يذهب وقال أبو داود في مسائله سمعت أحمد وقيل له في نفسك شيء من المفقود فقال ما في نفسي منه شيء هذا خمسة من أصحاب رسول الله ص - أمروها أن تتربص قال أحمد من ضيق علم الرجل أن لا يتكلم في امرأة المفقود
وقد قال بعض المتأخرين من أصحاب أحمد إن مذهب عمر في المفقود يخالف القياس والقياس أنها زوجة القادم بكل حال إلى أن نقول الفرقة تنفذ ظاهرا وباطنا فتكون زوجة الثاني بكل حال وغلا بعض ا لمخالفين لعمر في ذلك فقالوا لو حكم حاكم بقول عمر في ذلك لنقض حكمه لبعده عن القياس
وطائفة ثالثة أخذت ببعض قول عمر وتركوا بعضه فقالوا إذا تزوجت ودخل بها الثاني فهي زوجته ولا ترد إلى الأول وإن لم يدخل بها ردت إلى الأول

تصرف الغريب بين الرد والوقف
قال شيخنا من خالف عمر لم يهتد إلى ما اهتدى إليه عمر ولم يكن له من الخبرة بالقياس الصحيح مثل خبرة عمر وهذا إنما يتبين بأصل وهو وقف العقود إذا تصرف الرجل في حق الغير بغير إذنه هل يقع تصرفه مردودا أو موقوفا على إجازته على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد إحداهما أنها تقف على الإجازة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والثانية أنها لا تقف وهو أشهر قولي الشافعي وهذا في النكاح والبيع والإجارة وظاهر مذهب أحمد التفصيل وهو أن المتصرف إذا كان معذورا لعدم تمكنه من الاستئذان وكان به حاجة إلى التصرف وقف العقد على الإجارة بلا نزاع عنده وإن أمكنه الاستئذان أو لم تكن به حاجة إلى التصرف ففيه النزاع فالأول مثل من عنده أموال لا يعرف أصحابها كالغصوب والعواري ونحوها فإذا تعذر عليه معرفة أرباب الأموال ويئس منها فإن مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد أنه يتصدق بها عنهم فإن ظهروا بعد ذلك كانوا مخيرين بين الإمضاء وبين التضمين وهذا مما جاءت به السنة في اللقطة فإن الملتقط يأخذها بعد التعريف ويتصرف فيها ثم إن جاء صاحبها كان مخيرا بين إمضاء تصرفه وبين المطالبة بها فهو تصرف موقوف لما تعذر الاستئذان ودعت الحاجة إلى التصرف وكذلك الموصي بما زاد على الثلث وصيته موقوفة على الإجازة عند الأكثرين وإنما يخيرون بعد الموت فالمفقود المنقطع خبره إن قيل إن امرأته تبقى إلى أن يعلم خبره بقيت لا أيما ولا ذات زوج إلى أن تبقى من القواعد أو تموت والشريعة لا تأتي بمثل هذا فما أجلت أربع سنين ولم يكشف خبره حكم بموته ظاهرا
فإن قيل يسوغ للإمام أن يفرق بينهما للحاجة فإنما ذلك بعد اعتقاد موته وإلا فلو علمت حياته لم يكن مفقودا وهذا كما ساغ التصرف في الأموال التي تعذر معرفة أصحابها فإذا قدم الرجل تبينا أنه كان حيا كما إذا ظهر صاحب

المال والإمام قد تصرف في زوجته بالتفريق فيبقى هذا التفريق موقوفا على إجازته فإن شاء أجاز ما فعل الإمام وإن شاء رده وإذا أجازه صار كالتفريق المأذون فيه ولو أذن للإمام أن يفرق بينهما ففرق وقعت الفرقة بلا ريب وحينئذ فيكون النكاح الثاني صحيحا وإن لم يجز ما فعله الإمام كان التفريق باطلا فكانت باقية على نكاحه فتكون زوجته فكان القادم مخيرا بين إجازة ما فعله الإمام ورده وإذا أجاز فقد أخرج البضع من ملكه وخروج البضع عن ملك الزوج متقوم عند الأكثرين كمالك والشافعي وأحمد في نص الروايتين والشافعي يقول هو مضمون بمهر المثل والنزاع بينهم فيما إذا شهد شاهدان أنه طلق امرأته ثم رجعا عن الشهادة فقيل لاشى عليهما بناء على أن خروج البضع من ملك الزوج ليس بمتقوم وهذا قول أبى حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين اختارها متأخرو أصحابه كالقاضى أبى يعلى وأتباعه وقيل عليهما مهر المثل وهو قول الشافعى وهو وجه في مذهب أحمد وقيل عليهما المسمى وهو مذهب مالك وهو أشهر في نص أحمد وقد نص على ذلك فيما إذا أفسد نكاح امرأته برضاع أنه يرجع بالمسمى والكتاب والسنة يدلان على هذا القول فإن الله تعالى قال واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا وهذا هو المسمى دون مهر المثل ولذلك أمر النبي ص - زوج المختلعة أن يأخذ ما أعطاها دون مهر المثل وهو سبحانه إنما يأمر في المعاوضات المطلقة بالعدل
فحكم أمير المؤمنين في المفقود ينبني على هذا الأصل والقول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة ثبت ذلك عنهم في قضايا متعددة ولم يعلم أن أحدا منهم أنكر ذلك مثل قضية ابن مسعود في تصدقه عن سيد الجارية التي ابتاعها بالثمن الذي كان له عليه في الذمة لما تعذرت عليه معرفته

وكتصدق الغال بالمال المغلول من الغنيمة لما تعذر قسمه بين الجيش وإقرار معاوية له على ذلك وتصويبه له وغير ذلك من القضايا مع أن القول بوقف العقود مطلقا هو الأظهر في الحجة وهو قول الجمهور وليس في ذلك ضرر أصلا بل هو إصلاح بلا إفساد فإن الرجل قد يرى أن يشتري لغيره أو يبيع له أو يؤجر له أو يستأجر له ثم يشاوره فإن رضي وإلا لم يحصل له ما يضره وكذلك في تزويج وليته ونحو ذلك وأما مع الحاجة فالقول به لا بد منه فمسألة المفقود هي مما يوقف فيها تفريق الإمام على إذن الزوج إذا جاء كما يقف تصرف الملتقط على إذن المالك إذا جاء والقول برد المهر إلى الزوج بخروج بضع امرأته عن ملكه ولكن تنازعوا في المهر الذي يرجع به هل هو ما أعطاها هو أو ما أعطاها الثاني وفيه روايتان عن أحمد إحداهما يرجع بما مهرها الثاني لأنها هي التي أخذته والصواب أنه إنما يرجع بما مهرها هو فإنه الذي يستحقه وأما المهر الذي أصدقها الثاني فلا حق له فيه وإذا ضمن الثاني للأول المهر فهل يرجع به عليها فيه روايتان عن أحمد إحداهما يرجع لأنها هي التي أخذته والثاني قد أعطاها المهر الذي عليه فلا يضمن مهرين بخلاف المرأة فإنها لما اختارت فراق الزوج الأول ونكاح الثاني فعليها أن ترد المهر لأن الفرق جاءت من جهتها والثانية لا يرجع لأن المرأة تستحق المهر بما استحل من فرجها والأول يستحق المهر بخروج البضع عن ملكه فكان على الثاني وهذا المأثور عن عمر في مسألة المفقود وهو عند طائفة من الفقهاء من أبعد الأقوال عن القياس حتى قال بعض الأئمة لو حكم به حاكم نقض حكمه وهو مع هذا أصح الأقوال وأحراها في القياس وكل قول قيل سواه فهو خطأ فمن قال إنها تعاد إلى الأول بكل حال أو تكون مع الثاني بكل حال فكلا القولين خطأ إذ كيف تعاد إلى الأول وهو لا يختارها ولا يريدها وقد فرق بينه وبينها تفريقا سائغا في الشرع وأجاز هو ذلك التفريق فإنه وإن تبين للأمام أن الأمر بخلاف ما اعتقده فالحق في ذلك للزوج فإذا

أجاز ما فعله الإمام زال المحذور وأما كونها زوجة الثاني بكل حال مع ظهور زوجها وتبين أن الأمر بخلاف ما فعل الإمام فهو خطأ أيضا فإنه مسلم لم يفارق امرأته وإنما فرق بينهما بسبب ظهر أنه لم يكن كذلك وهو يطلب امرأته فكيف يحال بينه وبينها وهو لو طلب ماله أو بدله رد إليه فكيف لا ترد إليه امرأته وأهله أعز عليه من ماله وإن قيل حق الثاني تعلق بها قيل حقه سابق على حق الثاني وقد ظهر انتقاض السبب الذي به استحق الثاني أن تكون زوجة له وما الموجب لمراعاة حق الثاني دون الأول فالصواب ما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولهذا تعجب أحمد ممن خالفه فإذا ظهر صحة ما قاله الصحابة رضي الله عنهم وصوابه في مثل هذه المشكلات التي خالفهم فيها مثل أبي حنيفة ومالك الشافعي فلأن يكون الصواب معهم فيما وافقهم هؤلاء بطريق الأولى
قال شيخنا وقد تأملت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابة أفقه الأمة وأعلمها واعتبر هذا بمسائل الأيمان والنذور والعتق وغير ذلك ومسائل تعليق الطلاق بالشروط فالمنقول فيها عن الصحابة هو أصح الأقوال وعليه يدل الكتاب والسنة والقياس الجلي وكل قول سوى ذلك فمخالف للنصوص مناقض للقياس وكذلك في مسائل غير هذه مثل مسألة ابن الملاعنة ومسألة ميراث المرتد وما شاء الله من المسائل لم أجد أجود الأقوال فيها إلا أقوال الصحابة وإلى ساعتي هذه ما علمت قولا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا كان القياس معه لكن العلم بصحيح القياس وفاسده من أجل العلوم وإنما يعرف ذلك من كان خبيرا بأسرار الشرع ومقاصده وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد وما فيها من الحكمة البالغة والنعمة السابغة والعدل العام والله أعلم انتهى

فصل حكم علي في الزبية يوافق القياس
ومما أشكل على كثير من الفقهاء من قضايا الصحابة وجعلوه من أبعد الأشياء عن القياس مسألة التزاحم وسقوط المتزاحمين في البئر وتسمى مسألة الزبية
وأصلها أن قوما من أهل اليمن حفروا زبية للأسد فاجتمع الناس على رأسها فهوى فيها واحد فجذب ثانيا فجذب الثاني ثالثا فجذب الثالث رابعا فقتلهم الأسد فرفع ذلك إلى أمير المؤمنين كرم الله وجهه وهو على اليمن فقضى للأول بربع الدية وللثاني بثلثها وللثالث بنصفها وللرابع بكمالها وقال أجعل الدية على من حضر رأس البئر فرفع ذلك إلى النبي ص - فقال هو كما قال رواه سعيد بن منصور في سننه ثنا أبو عوانة وأبو الأحوص عن سماك بن حرب عن حنش الصنعاني عن على فقال أبو الخطاب وغيره ذهب أحمد إلى هذا توقيفا على خلاف القياس
والصواب أنه مقتضى القياس والعدل وهذا يتبين بأصل وهو أن الجناية إذا حصلت من فعل مضمون ومهدر سقط ما يقابل المهدر واعتبر ما يقابل المضمون كما لو قتل عبدا بينه وبين غيره أو أتلف مالا مشتركا أو حيوانا سقط ما يقابل حقه ووجب عليه ما يقابل حق شريكه وكذلك لو اشترك اثنان في إتلاف مال أحدهما أو قتل عبده أو حيوانه سقط عن المشارك ما يقابل فعله ووجب على الآخر من الضمان بسقطه وكذلك لو اشترك هو وأجنبي في قتل نفسه كان على الأجنبي نصف الضمان وكذلك لو رمى ثلاثة بالمنجنيق فأصاب الحجر أحدهم فقتله فالصحيح أن ما قابل فعل المقتول ساقط ويجب ثلثا ديته على عاقلة الآخرين هذا مذهب الشافعي واختيار صاحب المغني والقاضي أبو يعلى في المجرد وهو الذي قضى به علي عليه السلام في مسألة القارصة والواقصة قال الشعبي وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فركبت إحداهن على عنق الأخرى فقرصت الثالثة

المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت أي كسرت عنقها فماتت فرفع ذلك إلى علي عليه السلام فقضى بالدية أثلاثا على عواقلهن وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة لأنها أعانت على قتل نفسها
وإذا ثبت هذا فلو ماتوا بسقوط بعضهم فوق بعض كان الأول قد هلك بسبب مركب من أربعة أشياء سقوطه وسقوط الثاني والثالث والرابع وسقوط الثلاثة فوقه من فعله وجنايته على نفسه فسقط ما يقابله وهو ثلاثة أرباع الدية وبقي الربع الآخر لم يتولد من فعله وإنما تولد من التزاحم فلم يهدر وأما الثاني فلأن هلاكه كان من ثلاثة أشياء جذب من قبله له وجذبه هو لثالث ورابع فسقط ما يقابل جذبه وهو ثلثا الدية واعتبر ما لا صنع له فيه وهو الثلث الباقي وأما الثالث فحصل تلفه بشيئين جذب من قبله له وجذبه هو للرابع فسقط فعله دون السبب الآخر فكان لورثته النصف وأما الرابع فليس منه فعل البتة وإنما هو مجذوب محض فكان لورثته كمال الدية وقضى بها على عواقل الذين حضروا البئر لتدافعهم وتزاحمهم
فإن قيل على هذا سؤالان أحدهما أنكم لم توجبوا على عاقلة الجاذب شيئا مع أنه مباشر وأوجبتم على عاقلة من حضر البئر ولم يباشر وهذا خلاف القياس الثاني أن هذا هب أنه يتأتى لكم فيما إذا ماتوا بسقوط بعضهم على بعض فكيف يتأتى لكم في مسألة الزبية وإنما ماتوا بقتل الأسد فهو كما لو تجاذبوا فغرقوا في البئر
قيل هذان سؤالان قويان وجواب الأول أن الجاذب لم يباشر الإهلاك وإنما تسبب إليه والحاضرون تسببوا بالتزاحم وكان تسببهم أقوى من تسبب الجاذب لأنه ألجىء إلى الجذب فهو كما لو ألقى إنسان إنسانا على آخر فنفضه عنه لئلا يقتله فمات فالقاتل هو الملقى وأما السؤال الثاني فجوابه أن المباشر للتلف كالأسد والماء والنار لما لم يمكن الإحالة عليه ألغى فعله وصار الحكم

للسبب ففي مسألة الزبية ليس للرابع فعل البتة وإنما هو مفعول به محض فله كمال الدية والثالث فاعل ومفعول به فألغى ما يقابل فعله واعتبر فعل الغير به فكان قسطه نصف الدية والثاني كذلك إلا أنه جاذب لواحد والمجذوب جاذب لآخر فكان الذي حصل عليه من تأثير الغير فيه ثلث السبب وهو جذب الأول له فله ثلث الدية وأما الأول فثلاثة أرباع السبب من فعله وهو سقوط الثلاثة الذين سقطوا بجذبه مباشرة وتسببا وربعه من وقوعه بتزاحم الحاضرين فكان حظه ربع الدية وهذا أولى من تحميل عاقلة القتيل ما يقابل فعله ويكون لورثته وهذا هو خلاف القياس لأن الدية شرعت مواساة وجبرا فإذا كان الرجل هو القاتل لنفسه أو مشاركا في قتله لم يكن فعله بنفسه مضمونا كما لو قطع طرف نفسه أو أتلف مال نفسه فقضاء علي عليه السلام أقرب إلى القياس من هذا بكثير وهو أولى أيضا من أن يحمل فعل المقتول على عواقل الآخرين كما قاله أبو الخطاب في مسألة المنجنيق أنه يلغى فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكمالها على عاقلة الآخرين نصفين وهذا أبعد عن القياس مما قبله إذ كيف تتحمل العاقلة والأجانب جناية الإنسان على نفسه ولو تحملتها العاقلة لكانت عاقلته أولى بتحملها وكلا القولين يخالف القياس فالصواب ما قضى به أمير المؤمنين رضي الله عنه
وهو أيضا أحسن من تحميل دية الرابع لعاقلة الثالث وتحميل دية الثالث لعاقلة الثاني وتحميل دية الثاني لعاقلة الأول وإهدار دية الأول بالكلية فإن هذا القول وإن كان له حظ من القياس فإن الأول لم يجن عليه أحد وهو الجاني على الثاني فديته على عاقلته والثاني على الثالث والثالث على الرابع والرابع لم يجن على أحد فلا شيء عليه فهذا قد توهم أنه في ظاهر القياس أصح من قضاء أمير المؤمنين ولهذا ذهب إليه كثير من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم إلا أن ما قضى به على أفقه فإن الحاضرين ألجئوا الواقعين بمزاحمتهم لهم فعواقلهم أولى بحمل الدية من عواقل

الهالكين وأقرب إلى العدل من أن يجمع عليهم بين هلاك أوليائهم وحمل دياتهم فتتضاعف عليهم المصيبة ويكسروا من حيث ينبغي جبرهم ومحاسن الشريعة تأبى ذلك وقد جعل الله سبحانه لكل مصاب حظا من الجبر وهذا أصل شرع حمل العاقلة الدية جبرا للمصاب وإعانة له
وأيضا فالثاني والثالث كما هما مجني عليهما جانيان على أنفسهما وعلى من جذباه فحصل هلاكهم بفعل بعضهم ببعض فألغى ما قابل فعل كل واحد بنفسه واعتبر جناية الغير عليه
وهو أيضا أحسن من تحميل دية الرابع لعواقل الثلاثة ودية الثالث لعاقلة الثاني والأول ودية الثاني لعاقلة الأول خاصة وإن كان له أيضا حظ من قياس تنزيلا لسبب السبب منزلة السبب وقد اشترك في هلاك الرابع الثلاثة الذين قبله وفي هلاك الثالث الاثنان وانفرد بهلاك الثاني الأول ولكن قول علي عليه السلام أدق وأفقه
فصل حكم عمر في مسألة البصير والأعمى يوافق القياس
ومما يظن أنه يخالف القياس ما رواه علي بن رباح اللخمي أن رجلا كان يقود أعمى فوقعا في بئر فخر البصير ووقع الأعمى فوقه فقتله فقضى عمر ابن الخطاب
رضي الله عنه بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى يدور في الموسم وينشد ... يا أيها الناس لقيت منكرا ... هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا ... خرا معا كلاهما تكسرا ...
وقد اختلف الناس في هذه المسألة فذهب إلى قضاء عمر هذا عبد الله بن الزبير وشريح وإبراهيم النخعي والشافعي وإسحاق وأحمد وقال بعض الفقهاء

القياس أنه ليس على الأعمى ضمان البصير لأنه الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه وكان سبب وقوعه عليه وكذلك لو فعله قصدا منه لم يضمنه بغير خلاف وكان عليه ضمان الأعمى ولو لم يكن سببا لم يلزمه ضمان بقصده قال أبو محمد المقدسي في المغنى لو قيل هذا لكان له وجه إلا أن يكون مجمعا عليه فلا يجوز مخالفة الإجماع
والقياس حكم عمر لوجوه
أحدها أن قوده له مأذون فيه من جهة الأعمى وما تولد من مأذون فيه لم يضمن كنظائره
الثاني قد يكون قوده له مستحبا أو واجبا ومن فعل ما وجب عليه أو ندب إليه لم يلزمه ضمان ما تولد منه
الثالث أنه قد اجتمع على ذلك الإذنان إذن الشارع وإذن الأعمى فهو محسن بامتثال أمر الشارع محسن إلى الأعمى بقوده له وما على المحسنين من سبيل وأما الأعمى فإنه سقط على البصير فقتله فوجب عليه ضمانه كما لو سقط إنسان من سطح على آخر فقتله فهذا هو القياس
وقولهم هو الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه فهذا لا يوجب الضمان لأن قوده مأذون فيه من جهته ومن جهة الشارع وقولهم وكذلك لو فعله قصدا لم يضمنه فصحيح لأنه مسيء وغير مأذون له في ذلك لا من جهة الأعمى ولا من جهة الشارع فالقياس المحض قول عمر وبالله التوفيق
فصل حكم علي في التنازع على الولد يوافق القياس
ومما أشكل على جمهور الفقهاء وظنوه في غاية البعد عن القياس الحكم الذي حكم به علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة في الجماعة الذين وقعوا على امرأة في طهر واحد ثم تنازعوا الولد فأقرع بينهم فيه

ونحن نذكر هذه الحكومة ونبين مطابقتها للقياس فذكر أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن الخليل عن زيد بن أرقم قال كنت جالسا عند النبي ص - فجاء رجل من أهل اليمن فقال إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليا يختصمون إليه في ولد قد وقعوا على امرأة في طهر واحد فقال لاثنين طيبا بالولد لهذا فقالا لا ثم قال لاثنين طيبا بالولد لهذا فقالا لا ثم قال لاثنين طيبا بالولد لهذا فقالا لا فقال أنتم شركاء متشاكسون إني مقرع بينكم فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية فأقرع بينهم فجعله لمن قرع له فضحك رسول الله ص - حتى بدت أضراسه أو نواجذه وفي إسناده يحيى بن عبد الله الكندري الأجلح ولا يحتج بحديثه لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقات إلى عبد خير عن زيد بن أرقم قال أتى علي بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طهر واحد فقال لاثنين أتقران لهذا قالا لا حتى سألهم جميعا فجعل كلما سأل اثنين قالا لا فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي صارت له القرعة وجعل لصاحبيه عليه ثلثي الدية فذكر ذلك للنبي ص - فضحك حتى بدت نواجذه وقد أعل هذا الحديث بأنه روى عن عبد خير بإسقاط زيد بن أرقم فيكون مرسلا قال النسائي وهذا أصوب قلت وهذا ليس بعلة ولا يوجب إرسالا للحديث فإن عبد خير سمع من علي وهو صاحب القصة فهب أن زيد بن أرقم لا ذكر له في المتن فمن أين يجيء الإرسال
وبعد فقد اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث فذهب إلى القول به إسحاق بن راهويه وقال هو السنة في دعوى الولد وكان الشافعي يقول به في القديم وأما الإمام أحمد فسئل عنه فرجح عليه حديث القافه وقال حديث القافة أحب إلى
وههنا أمران أحدهما دخول القرعة في النسب

والثاني تغريم من خرجت له القرعة ثلثي دية ولده لصاحبيه وكل منهما بعيد عن القياس فلذلك قالوا هذا من أبعد شيء عن القياس
فيقال القرعة قد تستعمل عند فقدان مرجح سواها من بينة أو إقرار أو قافة وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذه الحال إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى ولها دخول في دعوى الأملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف أولى وأحرى
وأما أمر الدية فمشكل جدا فإن هذا ليس بقتل يوجب الدية وإنما هو تفويت نسبة بخروج القرعة له فيمكن أن يقال وطء كل واحد صالح لجعل الولد له فقد فوته كل واحد منهم على صاحبه بوطئه ولكن لم يتحقق من كان له الولد منهم فلما أخرجته القرعة لأحدهم صار مفوتا لنسبه على صاحبيه فأجرى ذلك مجرى إتلاف الولد ونزل الثلاثة منزلة أب واحد فحصة المتلف منه ثلث الدية إذ قد عاد الولد له فيغرم لكل من صاحبيه ما يخصه وهو ثلث الدية
ووجه آخر أحسن من هذا أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوق الولد به وجب عليه ضمان قيمته وقيمة الولد شرعا هي ديته فلزمه لهما ثلثا قيمته وهي ثلثا الدية وصار هذا كمن أتلف عبدا بينه وبين شركين له فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه فإتلاف الولد الحر عليهما بحكم القرعة كإتلاف الرقيق الذي بينهم ونظير هذا تضمين الصحابة المغرور بحرية الأمة لما فات رقهم على السيد بحريتهم وكانوا بصدد أن يكونوا أرقاء له وهذا من ألطف ما يكون من القياس وأدقه ولا تهتدي إليه إلا أفهام الراسخين في العلم وقد ظن طائفة أن هذا أيضا على خلاف القياس وليس كما ظنوا بل هو محض الفقه فإن الولد

تابع للأم في الحرية والرق ولهذا ولد الحر من أمة الغير رقيق وولد العبد من الحرة حر
قال الإمام أحمد إذا تزوج الحر بالأمة رق نصفه وإذا تزوج العبد بالحرة عتق نصفه فولد الأمة المزوجة بهذا المغرور كانوا بصدد أن يكونوا أرقاء لسيدها ولكن لما دخل الزوج على حرية المرأة دخل على أن يكون أولاده أحرارا والولد يتبع اعتقاد الواطيء فانعقد ولده أحرارا وقد فوتهم على السيد وليس مراعاة أحدهما بأولى من مراعاة الآخر ولا تفويت حق أحدهما بأولى من حق صاحبه فحفظ الصحابة الحقين وراعوا الجانبين فحكموا بحرية الأولاد وإن كانت أمهم رقيقة لأن الزوج إنما دخل على حرية أولاده ولو توهم رقهم لم يدخل على ذلك ولم يضيعوا حق السيد بل حكموا على الواطيء بفداء أولاده وأعطوا العدل حقه فأوجبوا فداءهم بمثلهم تقريبا لا بالقيمة ثم وفوا العدل بأن مكنوا المغرور من الرجوع بما غرمه على من غره لأن غرمه كان بسبب غروره والقياس والعدل يقتضي أن من تسبب إلى إتلاف مال شخص أو تغريمه أنه يضمن ما غرمه كما يضمن ما أتلفه إذ غايته أنه إتلاف بسبب وإتلاف المتسبب كإتلاف المباشر في أصل الضمان
فإن قيل وبعد ذلك كله فهذا خلاف القياس أيضا فإن الولد كما هو بعض الأم وجزء منها فهو بعض الأب وبعضيته للأب أعظم من بعضيته للأم ولهذا إنما يذكر الله سبحانه في كتابه تخليقه من ماء الرجل كقوله فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب وقوله ألم يك نطفة من مني بمنى ونظائرها من الآيات التي إن لم تختص بماء الرجل فهي فيه أظهر وإذا كان جزءا من الواطىء وجزءا من الأم فكيف كان ملكا لسيد الأم دون سيد الأب ويخالف القياس من وجه آخر وهو أن الماء بمنزلة

البذر ولو أن رجلا أخذ بذر غيره فزرعه في أرضه كان الزرع لصاحب البذر وإن كان عليه أجرة الأرض
قيل لا ريب أن الولد منعقد من ماء الأب كما هو منعقد من ماء الأم ولكن إنما تكون وصار مالا متقوما في بطن الأم فالأجزاء التي صار بها كذلك من الأم أضعاف أضعاف الجزء الذي من الأب مع مساواتها له في ذلك الجزء فهو أنما تكون في أحشائها من لحمها ودمها ولما وضعه الأب لم يكن له قيمة أصلا بل كان كما سماه الله ماء مهينا لا قيمة له ولهذا لو نزل فحل رجل على مكة آخر كان الولد لمالك الأم باتفاق المسلمين وهذا بخلاف البذر فإنه مال متقوم له قيمة قبل وضعه في الأرض يعاوض عليه بالأثمان وعسب الفحل لا يعاوض عليه فقياس أحدهما على الآخر من أبطل القياس
فإن قيل فهلا طردتم ذلك في النسب وجعلتموه للأم كما جعلتموه للأب قيل قد اتفق المسلمون على أن النسب للأب كما اتفقوا على أنه يتبع الأم في الحرية والرق وهذا هو الذي تقتضيه حكمة الله شرعا وقدرا فإن الأب هو المولود له والأم وعاء وإن تكون فيها والله سبحانه جعل الولد خليفة أبيه وشجنته والقائم مقامه ووضع الأنساب بين عباده فيقال فلان ابن فلان ولا تتم مصالحهم وتعارفهم ومعاملاتهم إلا بذلك كما قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا فلولا ثبوت الأنساب من قبل الآباء لما حصل التعارف ولفسد نظام العباد فإن النساء

محتجبات مستورات عن العيون فلا يمكن في الغالب أن تعرف عين الأم فيشهد على نسب الولد منها فلو جعلت الأنساب للأمهات لضاعت وفسدت وكان ذلك مناقضا للحكمة والرحمة والمصلحة ولهذا إنما يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم
قال البخاري في صحيحه باب يدعى الناس بآبائهم يوم القيامة ثم ذكر حديث لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان ابن فلان
فكان الأب من تمام الحكمة أن جعل الحرية والرق تبعا للأم والنسب تبعا للأب والقياس الفاسد إنما يجمع بين ما فرق الله بينه أو يفرق بين ما جمع الله بينه
فإن قيل فهلا طردتم ذلك في الولاء بل جعلتموه لموالي الأم والولاء لحمة كلحمة النسب
قيل لما كان الولاء من آثار الرق وموجباته كان تابعا له في حكمه فكان لموالي الأم ولما كان فيه شائبة النسب وهو لحمة كلحمته رجع إلى موالي الأب عند انقطاعه عن موالي الأم فروعي فيه الأمران ورتب عليه الأثران
فإن قيل فهلا جعلتم الولد في الدين تابعا لمن له النسب بل ألحقتموه بأبيه تارة وبأمه تارة
قيل الطفل لا يستقل بنفسه بل لا يكون إلا تابعا لغيره فجعله الشارع تابعا لخير أبويه في الدين تغليبا لخير الدينين فإنه إذا لم يكن له بد من التبعية لم يجز أن يتبع من هو على دين الشيطان وتنقطع تبعيته عمن هو على دين الرحمن فهذا محال في حكمة الله تعالى وشرعه
فإن قيل فاجعلوه تابعا لسابيه في الإسلام وإن كان معه أبواه أو أحدهما فإن تبعيته لأبويه قد انقطعت وصار السابي هو أحق به

قيل نعم وهكذا نقول سواء وهو قول إمام أهل الشام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ونص عليه أحمد واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وقد أجمع الناس على أنه يحكم بإسلامه تبعا لسابيه إذا سبي وحده قالوا لأن تبعيته قد انقطعت عن أبويه وصار تابعا لسابيه واختلفوا فيما إذا سبي مع أحدهما على ثلاثة مذاهب أحدها يحكم بإسلامه نص عليه أحمد في إحدى الروايتين وهي المشهورة من مذهبه وهو قول الأوزاعي والثاني لا يحكم بإسلامه لأنه لم ينفرد عن أبويه والثالث أنه إن سبي مع الأب تبعه في دينه وإن سبي مع الأم وحدها فهو مسلم وهو قول مالك وقول الأوزاعي وفقهاء أهل الثغر أصح وأسلم من التناقض فإن السابي قد صار أحق به وقد انقطعت تبعيته لأبويه ولم يبق لهما عليه حكم فلا فرق بين كونهما في دار الحرب وبين كونهما أسيرين في أيدي المسلمين بل انقطاع تبعيته لهما في حال أسرهما وقهرهما وإذلالهما واستحقاق قتلهما أولى من انقطاعها حال قوة شوكتهما وخوف معرتهما فما الذي يسوغ له الكفر بالله والشرك به وأبواه أسيران في أيدي المسلمين ومنعه من ذلك وأبواه في دار الحرب وهل هذا إلا تناقض محض وأيضا فيقال لهم إذا سبي الأبوان ثم قتلا فهل يستمر الطفل على كفره عندكم أو تحكمون بإسلامه فمن قولكم أنه يستمر على كفره كما لو ماتا فيقال وأي كتاب أو سنة أو قياس صحيح أو معنى معتبر أو فرق مؤثر بين أن يقتلا في حال الحرب أو بعد الأسر والسبي وهل يكون المعنى الذي حكم بإسلامه لأجله إذا سبي وحده زائلا بسبائهما ثم قتلهما بعد ذلك وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلين وأيضا فهل تعتبرون وجود الطفل والأبوين في ملك ساب واحد أو يكون معهما في جملة العسكر فإن اعتبرتم الأول طولبتم بالدليل على ذلك وإن اعتبرتم الثاني فمن المعلوم انقطاع تبعيته لهما واستيلائهما عليه واختصاصه بسابيه ووجودهما بحيث لا يمكنان منه ومن تربيته وحضانته واختصاصهما به لا أثر له وهو كوجودهما

في دار الحرب سواء وأيضا فإن الطفل لما لم يستقل بنفسه لم يكن بد من جعله تابعا لغيره وقد دار الأمر بين أن يجعل تابعا لمالكه وسابيه ومن هو أحق الناس به وبين أن يجعل تابعا لأبويه ولا حق لهما فيه بوجه ولا ريب أن الأول أولى وأيضا فإن ولاية الأبوين قد زالت بالكلية وقد انقطع الميراث وولاية النكاح وسائر الولايات فما بال ولاية الدين الباطل باقية وحدها وقد نص الإمام أحمد على منع أهل الذمة أن يشتروا رقيقا من سبي المسلمين وكتب بذلك عمر بن الخطاب إلى الأمصار واشتهر ولم ينكره منكر فهو إجماع من الصحابة وإن نازع فيه بعض الأئمة وما ذاك إلا أن في تمليكه للكافر ونقله عن يد المسلم قطعا لما كان بصدده من مشاهدة معالم الإسلام وسماعه القرآن فربما دعاه ذلك إلى اختياره فلو كان تابعا لأبويه على دينهما لم يمنعا من شراه وبالله التوفيق
فإن قيل فيلزمكم على هذا أنه لو مات الأبوان أن تحكموا بإسلام الطفل لانقطاع تبعيته للأبوين ولا سيما وهو مسلم بأصل الفطرة وقد زال معارض الإسلام وهو تهويد الأبوين وتنصيرهما
قيل قد نص على ذلك الإمام أحمد في رواية جماعة من أصحابه واحتج بقوله ص - ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإذا لم يكن له أبوان فهو على أصل الفطرة فيكون مسلما
فإن قيل فهل تطردون هذا فيما انقطع نسبة عن الأب مثل كونه ولد زنا أو منفيا بلعان
قيل نعم لوجود المقتضى لإسلامه بالفطرة وعدم المانع وهو وجود

الأبوين ولكن الراجح في الدليل قول الجمهور وأنه لا يحكم بإسلامه بذلك وهو الرواية الثانية عنه اختارها شيخ الإسلام وعلى هذا فالفرق بين هذه المسألة ومسألة المسبي أن المسبي قد انقطعت تبعيته لمن هو على دينه وصار تابعا لسابيه المسلم بخلاف من مات أبواه أو أحدهما فإنه تابع لأقاربه أو وصى أبيه فإن انقطعت تبعيته لأبويه فلم تنقطع لمن يقوم مقامهما من أقاربه أو أوصيائه والنبي ص - أخبر عن تهويد الأبوين وتنصيرهما بناء على الغالب وهذا لا مفهوم له لوجهين أحدهما أنه مفهوم لقب والثاني أنه خرج مخرج الغالب ومما يدل على ذلك العمل المستمر من عهد الصحابة وإلى اليوم بموت أهل الذمة وتركهم الأطفال ولم يتعرض أحد من الأئمة ولا ولاة الأمور لأطفالهم ولم يقولوا هؤلاء مسلمون ومثل هذا لا يهمله الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين
فإن قيل فهل تطردون هذا الأصل في جعله تبعا للمالك قتقولون إذا اشترى المسلم طفلا كافرا يكون مسلما تبعا له أو تتناقضون فتفرقون بينه وبين السابي وصورة المسألة فيما إذا زوج الذمي عبده الكافر من أمته فجاءت بولد أو تزوج الحر منهم بأمة فأولدها ثم باع السيد هذا الولد لمسلم
قيل نعم نطرده ونحكم بإسلامه قاله شيخنا قدس الله روحه ولكن جادة المذهب أنه باق على كفره كما لو سبي مع أبويه وأولى والصحيح قول شيخنا لأن تبعيته للأبوين قد زالت وانقطعت الموالاة والميراث والحضانة بين الطفل والأبوين وصار المالك أحق به وهو تابع له فلا يفرد عنه بحكم فكيف يفرد عنه في دينه وهذا طرد الحكم بإسلامه في مسألة السباء وبالله التوفيق

فصل كل ما في الشريعة يوافق العقل
فهذه نبذه يسيرة تطلعك على ما وراءها من أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يعلم لهم فيه مخالف وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها وجودا وعدما كما أن المعقول الصحيح دائر مع أخبارها وجودا وعدما فلم يخبر الله رسوله بما يناقض صريح العقل ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل
أمثلة من شبه نفاة القياس
ولنفاة الحكم والتعليل والقياس ههنا سؤال مشهور وهو أن الشريعة قد فرقت بين المتماثلين وجمعت بين المختلفين فإن الشارع فرض الغسل من المنى وأبطل الصوم بإنزاله عمدا وهو طاهر دون البول والمذي وهو نجس وأوجب غسل الثوب من بول الصبية والنضح من بول الصبي مع تساويهما ونقص الشطر من صلاة المسافر الرباعية وأبقى الثلاثية والثنائية على حالهما وأوجب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها وحرم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة المنظر إذا كانت حرة وجوزه إلى الأمة الشابة البارعة الجمال وقطع سارق ثلاثة دراهم دون مختلس ألف دينار أو منتهبها أو غاصبها ثم جعل ديتها خمسمائة دينار فقطعها في ربع دينار وجعل ديتها هذا القدر الكبير وأوجب حد الفرية على من قذف غيره بالزنا دون من قذفه بالكفر وهو شر منه واكتفى في القتل بشاهدين دون الزنا والقتل أكبر من الزنا وجلد قاذف الحر الفاسق دون العبد العفيف الصالح وفرق في العدة بين الموت والطلاق مع استواء حال الرحم فيهما وجعل عدة الحرة ثلاث حيض واستبراء الأمة بحيضة والمقصود العلم ببراءة الرحم وحرم المطلقة ثلاثا على الزوج الملق ثم أباحها له إذا تزوجت بغيره وحالها في الموضعين واحدة وأوجب غسل غير

الموضع الذي خرجت منه الريح ولم يوجب غسله ولم يعتبر توبة القاتل وندمه قبل القدرة عليه واعتبر توبة المحارب قبل القدرة عليه وقبل شهادة العبد والمملوك عليه بأنه ص - قال كذا وكذا ولم يقبل شهادته على آخاد الناس أنه قال كذا وكذا وأوجب الصدقة في السوائم وأسقطها عن العوامل وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن الرجل والأمة البارعة الجمال لا تحصنه ونقض الوضوء بمس الذكر دون مس سائر الأعضاء ودون مس العذرة والدم وأوجب الحد في القطرة الواحدة من الخمر ولم يوجبه بالأرطال الكثيرة من الدم والبول وقصر عدد المنكوحات على أربع وأطلق ملك اليمين من غير حصر وأباح للرجل أن يتزوج أربعا ولم يبح للمرأة إلا رجلا واحدا مع وجود الشهوة وقوة الداعي من الجانبين وجوز للرجل أن يستمتع من أمته بالوطء وغيره ولم يجوز للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره وفرق بين الطلقة الثالثة والثانية في تحريمها على المطلق بالثالثة دون الثانية وفرق بين لحم الإبل ولحم البقر والغنم والجواميس وغيرها فأوجب الوضوء من لحم الإبل وحده وفرق بين الكلب الأسود والأبيض في قطع الصلاة بمرور الأسود وحده وفرق بين الريح الخارجة من الدبر فأوجب بها الوضوء وبين الجشوة الخارجة من الحلق فلم يوجب بها الوضوء وأوجب الزكاة في خمس من الإبل وأسقطها عن عدة آلاف من الخيل وأوجب في الذهب والفضة والتجارة ربع العشر وفي الزروع والثمار العشر أو نصفه وفي المعدن الخمس وأوجب في أول نصاب من الإبل من غير جنسها وفي أول نصاب من البقر والغنم من جنسه وقطع يد السارق لكونها آلة المعصية فأذهب العضو الذي تعدى به على الناس ولم يقطع اللسان الذي يقذف به المحصنات الغافلات ولا الفرج الذي يرتكب به المحرم وأوجب على الرقيق نصف حد الحر مع أن حاجته إلى الزجر عن المحارم كحاجة الحر وجعل للقاذف إسقاط الحد باللعان في الزوجة دون الأجنبية وكلاهما قد ألحق به العار وجوز للمسافر المترفه في سفره رخصة القصر

والفطر دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة في سببه وأوجب على كل من نذر لله طاعة الوفاء بها وجوز لمن حلف على فعلها أن يتركها ويكفر يمينه وكلاهما قد التزم فعلها لله وحرم الذئب والقرد وما له ناب من السباع وأباح الضبع على قول ولها ناب تكسر به وجعل شهادة خزيمة بن ثابت وحده بشهادتين وغيره من الصحابة أفضل منه وشهادته بشهادة ورخص لأبي بردة بن نيار في التضحية بالعناق وقال لن تجزىء عن أحد بعدك وفرق بين صلاة الليل والنهار في السر والجهر ثم شرع الجهر في بعض صلاة النهار كالجمعة والعيدين وورث ابن ابن العم وإن بعدت درجته دون الخالة التي هي شقيقة الأم وحرم أخذ مال الغير إلا بطيبة من نفسه وسلطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة ثم شرع الشفعة فيما يمكن التخلص من ضرر الشركة بقسمته دون ما لا يمكن قسمته كالجوهرة والحيوان وهو أولى بالشفعة وحرم الصوم أول يوم من شوال وفرض صوم آخر يوم من رمضان مع تساوي اليومين وحرم على الإنسان نكاح بنت أخيه وأخته وأباح له نكاح بنت أخي أبيه وأخت أمه وحمل العاقلة ضمان جناية الخطأ على النفوس دون الجناية على الأموال وحرم وطء الحائض لأذى الدم وأباح وطء المستحاضة مع وجود الأذى ومنع بيع مد حنطة بمد وحفنة وجوز بيع مد حنطة بصاع فأكثر من الشعير فحرم ربا الفضل في الجنس الواحد دون الجنسين الجنسين ومنع المرأة من الإحداد على أبيها وابنها فوق ثلاثة أيام وأوجب عليها أن تحد على الزوج وهو أجنبي أربعة أشهر وعشرا وسوى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والمالية كالوضوء والغسل والصلاة والصوم والزكاة والحج وفي العقوبات كالحدود ثم جعلها على النصف من الرجل في الدية والشهادة والميراث والعقيقة وخص بعض الأزمنة على بعض وبعض الأمكنة على بعض بخصائص مع تساويها فجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر وجعل شهر رمضان سيد الشهور ويوم

الجمعة سيد الأيام ويوم عرفة ويوم النحر وأيام منى أفضل الأيام وجعل البيت أفضل بقاع الأرض
كيف يمكن القياس مع الفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات
قالوا وإذا كانت الشريعة قد جاءت بالتفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال وقد قتل الصيد وجمعت بين العاقل والمجنون والطفل والبالغ في وجوب الزكاة وجمعت بين الهرة والفأرة في طهارة كل منهما وجمعت بين الميتة وذبيحة المجوسي في التحريم وبين ما مات من الصيد أو ذبحه المحرم في ذلك وبين الماء والتراب في التطهير بطل القياس فإن مبدأه على هذين الحرفين وهما أصل قياس الطرد وقياس العكس
والجواب أن يقال الآن حمي الوطيس وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله وآن لحزب الله أن لا تأخذهم في الله لومة لائم وأن لا يتحيزوا إلى فئة معينة وأن ينصروا الله ورسوله بكل قول حق قاله من قاله ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قاله طائفتهم وفريقهم كائنا من كان ويردون ما قاله منازعوهم وغير طائفتهم كائنا ما كان فهذه طريقة أهل العصبية وحمية أهل الجاهلية ولعمر الله إن صاحب هذه الطريقة لمضمون له الذم . . . . . وغير ممدوح إن أصاب وهذا حال لا يرضى بها من نصح نفسا وهدى لرشده والله الموفق
وجواب هذا السؤال من طريقين مجمل ومفصل
الجواب المجمل عن هذه الشبه
أما المجمل فهو أن ما ذكرتم من الصور وأضعافها وأضعاف أضعافها فهو من أبين الأدلة على عظم هذه الشريعة وجلالتها ومجيئها على وفق العقول السليمة والفطر المستقيمة حيث فرقت بين أحكام هذه الصور المذكورة لافتراقها في الصفات التي اقتضت افتراقها في الأحكام ولو ساوت بينها في الأحكام لتوجه السؤال

وصعب الانفصال وقال القائل قد ساوت بين المختلفات وقرنت الشيء إلى غير شبيهه في الحكم وما امتازت صورة من تلك الصور بحكمها دون الصورة الأخرى إلا لمعنى قام بها أوجب اختصاصها بذلك الحكم ولا اشتركت صورتان في حكم لاشتراكهما في المعنى المقتضى لذلك الحكم ولا يضر افتراقهما في غيره كما لا ينفع اشتراك المختلفين في معنى لا يوجب الحكم فالاعتبار في الجمع والفرق إنما هو بالمعانى التي لأجلها شرعت تلك الأحكام وجودا وعدما
جواب ابن الخطيب وأبي الحسن البصري
وقد اختلفت أجوبة الأصوليين عن هذا السؤال بحسب أفهامهم ومعرفتهم بأسرار الشريعة فأجاب ابن الخطيب عنه بأن قال غالب أحكام الشريعة معللة برعاية المصالح المعلومة والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدا وورود الصورة النادرة على خلاف الغالب ولا يقدح في حصول الظن كما أن الغيم الرطب إذا لم يمطر نادرا لا يقدح في نزول المطر منه
وهذا الجواب لا يسمن ولا يغني من جوع وهو جواب أبي الحسين البصري بعينه
جواب أبي الحسن الآمدي
وأجاب عنه أبو الحسن الآمدي بأن التفريق بين الصور المذكورة في الأحكام إما لعدم صلاحية ما وقع جامعا أو لمعارض له في الأصل أو الفرع وأما الجمع بين المختلفات فإنما كان لاشتراكهما في معنى جامع صالح للتعليل أو لاختصاص كل صورة بعلة صالحة للتعليل فإنه لا مانع عند اختلاف الصور وإن اتحد نوع الحكم أن يعلل بعلل مختلفة
جواب أبي بكر الرازي
وأجاب عنه أبو بكر الرازي الحنفي بأن قال لا معنى لهذا السؤال فإنا لم نقل بموجب القياس من حيث اشتبهت المسائل في صورها وأعيانها وأسمائها

ولا أوجبنا المخالفة بينها من حيث اختلفت في الصور والأعيان والأسماء وإنما يجب القياس بالمعنى التي جعلت أمارات للحكم وبالأسباب الموجبة له فنعتبرها في مواضعها ثم لا نبالي باختلافها ولا اتفاقها من وجوه أخرى غيرها مثال ذلك أن النبي ص - لما حرم التفاضل في البر بالبر من جهة الكيل وفي الذهب بالذهب من جهة الوزن استدللنا به على أن الزيادة المحظورة معتبرة من جهة الكيل والوزن مع الجنس فحيث وجدا أوجبنا تحريم التفاضل إن اختلفت المبيعات من وجوه أخر كالحمص وهو مكيل فحكمه حكم البر من حيث كونه مكيلا وإن خالفه من وجوه أخر وكالرصاص وهو موزون فحكمه كحكم الذهب في تحريم التفاضل وإن خالفه في أوصاف أخر فمتى عقل المعنى الذي به تعلق الحكم وجعل علامة له وجب اعتباره حيث وجد كما رجم ماعزا لزناه وحكم بإلقاء الفأرة وما حولها لما ماتت في السمن فعقلنا عموم المعنى لكل زان وعموم المعنى لكل مائع جاور النجاسة إلا أن المعنى تارة يكون جليا ظاهرا وتارة يكون خفيا غامضا فيستدل عليه بالدلائل التي نصبها الله عليه
جواب القاضي أبي يعلي
وأجاب عنه القاضي أبو يعلي بأن قال العقل إنما يمنع أن يجمع بين الشيئين المختلفين من حيث اختلفا في الصفات النفسية كالسواد والبياض وأن يفرق بين المثلين فيما تماثلا فيه من صفات النفس كالسوادين والبياضين وما يجرى ذلك وأما ما عدا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجمع بين المختلفين في الحكم الواحد ألا ترى أن السواد والبياض قد اجتمعا في منافاة الحمرة وما يجري مجراها من الألوان فإن القعود في الموضع الواحد قد يكون حسنا إذا كان فيه نفع لا ضرر فيه وقد يكون قبيحا إذا كان فيه ضرر من غير نفع يوفي عليه وإن كان القعود المقصود في ذلك الموضع متيقنا وقد يكون القعود في مكانين مجتمعين في الحسن بأن يكون في كل منهما نفع لا ضرر فيه وإن كانا مختلفين على أن ذلك يكون يؤكد صحة القياس وذلك أن المثلين في العقليات إنما وجب تساوي حكمهما لأن كل واحد منهما قد ساوى الآخر فيما لأجله قد وجب له الحكم إما لذاته كالسوادين أو لعلة أوجبت

ذلك كالأسودين وهكذا القول في المختلفين وعلى هذه الطريقة بعينها يجري القياس لأنا إنما نحكم للفرع بحكم الأصل إذا شاركه في علة الحكم كما أن الله تعالى إنما نص على حكم واحد في الشيئين إذا اشتركا فيما أوجب الحكم فيهما فقد بان بذلك صحة ما ذكرناه
جواب القاضي عبد الوهاب المالكي
وأجاب عنه القاضي عبد الوهاب المالكي بأن قال دعواكم بأن هذه الصور التي اختلفت أحكامها متماثلة في نفسها دعوى والأمثلة لا تشهد لها ألا ترى أنه لا يمتنع أن يتفق الصوم والصلاة في امتناع أدائهما من الحائض ويفترقان في وجوب القضاء والتماثل في العقليات لا يوجب التساوي في الأحكام الشرعيات
وأيضا فهذا يوجب منع القياس في العقليات
وأيضا فإن القياس جائز على العلة المنصوص عليها مع وجود المعنى الذي ذكره فهذه أجوبة النظار ونحن بعون الله وتوفيقه نفرد كل مسألة منها بجواب مفصل وهو المسلك الثاني الذي وعدنا به
الأجوبة بالتفصيل
الغسل من المني دون البول
أما المسألة الأولى وهي إيجاب الشارع ص - الغسل من المني دون البول فهذا من أعظم محاسن الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة فإن المنى يخرج من جميع البدن ولهذا سماه الله سبحانه وتعالى سلالة لأنه يسيل من جميع البدن وأما البول فإنما هو فضلة الطعام والشراب المستحيلة في المعدة والمثانة فتأثر البدن بخروج المنى أعظم من تأثره بخروج البول وأيضا فإن الاغتسال من خروج المنى من أنفع شيء للبدن والقلب والروح بل جميع الأرواح القائمة بالبدن فإنها تقوى بالاغتسال والغسل يخلف عليه ما تحلل منه بخروج المنى وهذا أمر يعرف بالحس وأيضا فإن الجنابة توجب ثقلا وكسلا

والغسل يحدث له نشاطا وخفة ولهذا قال أبو ذر لما اغتسل من الجنابة كأنما ألقيت عني حملا وبالجملة فهذا أمر يدركه كل ذي حس سليم وفطرة صحيحة ويعلم أن الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب مع ما تحدثه الجنابة من بعد القلب والروح عن الأرواح الطيبة فإذا اغتسل زال ذلك البعد ولهذا قال غير واحد من الصحابة إن العبد إذا نام عرجت روحه فإن كان طاهرا أذن لها بالسجود وإن كان جنبا لم يؤذن لها ولهذا أمر النبي ص - الجنب إذا نام أن يتوضأ وقد صرح أفاضل الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته ويخلف عليه ما تحلل منه وإنه من أنفع شيء للبدن والروح وتركه مضر ويكفي شهادة العقل والفطرة بحسنه وبالله التوفيق
على أن الشارع لو شرع الاغتسال من البول لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة تمنعه حكمة الله ورحمته وإحسانه إلى خلقه
فصل الفرق بين بول الصبي والصبية
وأما غسل الثوب من بول الصبية ونضحه من بول الصبي إذا لم يطعما فهذا للفقهاء فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنهما يغسلان جميعا
والثاني ينضحان
والثالث التفرقة وهو الذي جاءت به السنة وهذا من محاسن الشريعة وتمام حكمتها ومصلحتها
والفرق بين الصبي والصبية من ثلاثة أوجه
أحدها كثرة حمل الرجال والنساء للذكر فتعم البلوى ببوله فيشق عليه غسله

والثاني أن بوله لا ينزل في مكان واحد بل ينزل متفرقا ههنا وههنا فيشق غسل ما أصابه كله بخلاف بول الأنثى
الثالث أن بول الأنثى أخبث وأنتن من بول الذكر وسببه حرارة الذكر ورطوبة الأنثى فالحرارة تخفف من نتن البول وتذيب منها ما لا يحصل مع الرطوبة وهذه معان مؤثرة يحسن اعتبارها في الفرق
فصل الفرق بين الصلاة الرباعية وغيرها في القصر
وأما نقصه الشطر من صلاة المسافر الرباعية دون الثلاثية والثنائية ففي غاية المناسبة فإن الرباعية تحتمل الحذف لطولها بخلاف الثنائية فلو حذف شطرها لأجحف بها ولزالت حكمة الوتر الذي شرع خاتمة العمل وأما الثلاثية فلا يمكن شطرها وحذف ثلثيها مخل بها وحذف ثلثها يخرجها عن حكمة شرعها وترا فإنها شرعت ثلاثا لتكون وتر النهار كما قال النبي ص - المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل
فصل الفرق بين قضاء الصوم دون الصلاة بالنسبة للحائض
وأما إيجاب الصوم على الحائض دون الصلاة فمن تمام محاسن الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح المكلفين فإن الحيض لما كان منافيا للعبادة لم يشرع فيه فعلها وكان في صلاتها أيام الطهر ما يغنيها عن صلاة أيام الحيض فيحصل لها مصلحة الصلاة في زمن الطهر لتكررها كل يوم بخلاف الصوم فإنه لا يتكرر وهو شهر واحد في العام فلو سقط عنها فعله بالحيض لم يكن لها سبيل إلى تدارك نظيره وفاتت عليها مصلحته فوجب عليها أن تصوم شهرا في طهرها لتحصل مصلحة الصوم التي هي من تمام رحمة الله بعبده وإحسانه إليه بشرعه وبالله التوفيق

فصل الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة
وأما تحريم النظر إلى العجوز الحرة الشوهاء القبيحة وإباحته إلى الأمة البارعة الجمال فكذب على الشارع فأين حرم الله هذا وأباح هذا والله سبحانه إنما قال قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ولم يطلق الله ورسوله للأعين النظر إلى الإماء البارعات الجمال وإذا خشي الفتنة بالنظر إلى الأمة حرم عليه بلا ريب وإنما نشأت الشبهة أن الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههن عن الأجانب وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك لكن هذا في إماء الاستخدام والابتذال وأما إماء التسري اللأتي جرت العادة بصونهن وحجبهن فأين الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوهن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس وأذن للرجال في التمتع بالنظر إليهن فهذا غلط محض على الشريعة وأكد هذا الغلط أن بعض الفقهاء سمع قولهم إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها وعورة الأمة ما لا يظهر غالبا كالبطن والظهر والساق فظن أن ما يظهر غالبا حكمه حكم وجه الرجل وهذا إنما هو في الصلاة لا في النظر فإن العورة عورتان عورة في النظر وعورة في الصلاة فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك والله أعلم
فصل الفرق بين السارق وبين المختلس والمنتهب والغاصب
وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضا فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضا وعظم الضرر واشتدت

المحنة بالسراق بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ويخلصوا حق المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس فليس كالسارق بل هو بالخائن أشبه وأيضا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالبا فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه وهذا يمكن الاحتراز منه غالبا فهو كالمنتهب وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر وهو أولى بعدم القطع من المنتهب ولكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال كما سيأتي
فإن قيل فقد وردت السنة بقطع جاحد العارية وغايته أنه خائن والمعير سلطه على قبض ماله والاحتراز منه ممكن بأن لا يدفع إليه المال فبطل ما ذكرتم من الفرق
قيل لعمر الله لقد صح الحديث بأن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر بها النبي ص - فقطعت يدها فاختلف الفقهاء في سبب القطع هل كان سرقتها وعرفها الراوي بصفتها لأن المذكور سبب القطع كما يقوله الشافعي وأبو حنيفة ومالك أو كان السبب المذكور هو سبب القطع كما يقوله أحمد ومن وافقه ونحن في هذا المقام لا ننتصر لمذهب معين البتة فإن كان الصحيح قول الجمهور اندفع السؤال وإن كان الصحيح هو القول الآخر فموافقته للقياس والحكمة والمصلحة ظاهرة جدا فإن العارية من مصالح بني آدم التي لا بد لهم منها ولا غنى لهم عنها وهي واجبة عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأجرة أو مجانا ولا يمكن المعير كل وقت أن يشهد على العارية

ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعا وعادة وعرفا ولا فرق في المعنى بين من توصل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها وهذا بخلاف جاحد الوديعة فإن صاحب المتاع فرط حيث ائتمنه
فصل الفرق بين دية اليد وقطعها في السرقة
وأما قطع اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمسمائة دينار فمن أعظم المصالح والحكمة فإنه احتاط في الموضعين للأموال والأطراف فقطعها في ربع دينار حفظا للأموال وجعل ديتها خمسمائة دينار حفظا لها وصيانة وقد أورد بعض الزنادقة هذا السؤال وضمنه بيتين فقال ... يد بخمس مىء من عسجد وديت ... ما يالها قطعت في ربع دينار ... تناقض ما لنا الا السكوت له ... ونستجير بمولانا من العار ...
فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة فلما خانت هانت وضمنه الناظم قوله ... يد بخمس مىء من عسجد وديت ... لكنها قطعت في ربع دينار ... حماية الدم أغلاها وأرخصها ... خيانة المال فانظر حكمة الباري ...
وروى أن الشافعي
رحمه الله أجاب بقوله ... هناك مظلومة غالت بقيمتها ... وههنا ظلمت هانت على الباري ...
وأجاب شمس الدين الكردي بقوله ... قل لمعري عار أيما عار ... جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار

لا تقدحن زناد الشعر عن حكم ... شعائر الشرع لم تقدح بأشعار ... فقيمة اليد نصف الألف من ذهب ... فإن تعدت فلا تسوى بدينار ...
فصل تخصيص القطع في ربع دينار
وأما تخصيص القطع بهذا القدر فلأنه لا بد من مقدار يجعل ضابطا لوجوب القطع إذ لا يمكن أن يقال يقطع بسرقة فلس أو حبة حنطة أو تمرة ولا تأتي الشريعة بهذا وتنزه حكمة الله ورحمته وإحسانه عن ذلك فلا بد من ضابط وكانت الثلاثة دراهم أول مراتب الجمع وهي مقدار ربع دينار وقال إبراهيم النخعي وغيره من التابعين كانوا لا يقطعون في الشيء التافه فإن عادة الناس التسامح في الشيء الحقير من أموالهم إذ لا يلحقهم ضرر بفقده وفي التقدير بثلاثة دراهم حكمة ظاهرة فإنها كفاية المقتصد في يومه له ولمن يمونه غالبا وقوت اليوم للرجل وأهله له خطر عند غالب الناس وفي الأثر المعروف من أصبح آمنا في سر به معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها
فصل القذف بالزنا يخالف القذف بالكفر
وأما إيجاب حد الفرية على من قذف غيره بالزنا دون الكفر ففي غاية المناسبة فإن القاذف غيره بالزنا لا سبيل للناس إلى العلم بكذبه فجعل حد الفرية تكذيبا له وتبرئة لعرض المقذوف وتعظيما لشأن هذه الفاحشة التي يجلد من رمى بها مسلما وأما من رمى غيره بالكفر فإن شاهد حال المسلم واطلاع المسلمين عليها كاف في تكذيبه ولا يلحقه من العار بكذبه عليه في ذلك ما يلحقه بكذبه عليه في الرمي بالفاحشة ولا سيما إن كان المقذوف امرأة

فإن العار والمعرة التي تلحقها بقذفه بين أهلها وتشعب ظنون الناس وكونهم بين مصدق ومكذب لا يلحق مثله بالرمي بالكفر
فصل الاكتفاء في القتل بشاهدين دون الزنا يوافق القياس
وأما اكتفاؤه في القتل بشاهدين دون الزنا ففي غاية الحكمة والمصلحة فإن الشارع احتاط للقصاص والدماء واحتاط لحد الزنا فلو لم يقبل في القتل إلا أربعة لضاعت الدماء وتواثب العادون وتجرءوا على القتل وأما الزنا فإنه بالغ في ستره كما قدر الله ستره فاجتمع على ستره شرع الله وقدره فلم يقبل فيه إلا أربعة يصفون الفعل وصف مشاهدة ينتفي معها الاحتمال وكذلك في الإقرار لم يكتف بأقل من بأربع مرات حرصا على ستر ما قدر الله ستره وكره إظهاره والتكلم به وتوعد من يحب إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة
فصل جلد قاذف الحر دون قاذف العبد يوافق القياس
وأما جلد قاذف الحر دون العبد فتفريق لشرعه بين ما فرق الله بينهما بقدره فما جعل الله سبحانه العبد كالحر من كل وجه لا قدرا ولا شرعا وقد ضرب الله سبحانه لعباده الأمثال التي أخبر فيها بالتفاوت بين الحر والعبد وأنهم لا يرضون أن تساويهم عبيدهم في أرزاقهم فالله سبحانه وتعالى فضل بعض خلقه على بعض وفضل الأحرار على العبيد في الملك وأسبابه والقدرة على التصرف وجعل العبد مملوكا والحر مالكا ولا يستوي المالك والمملوك وأما التسوية بينهما في أحكام الثواب والعقاب فذلك موجب العدل والإحسان فإنه يوم الجزاء لا يبقى هناك عبد وحر ولا مالك ولا مملوك

فصل التفريق في العدة يوافق القياس
وأما تفريقه في العدة بين الموت والطلاق وعدة الحرة وعدة الأمة وبين الاستبراء والعدة مع أن المقصود العلم ببراءة الرحم في ذلك كله فهذا إنما يتبين وجهه إذا عرفت الحكمة التي لأجلها شرعت العدة وعرف أجناس العدد وأنواعها
الحكمة في تشريع العدة
فأما المقام الأول ففي شرع العدة عدة حكم منها العلم ببراءة الرحم وأن لا يجتمع ماء الواطئين فأكثر في رحم واحد فتختلط الأنساب وتفسد وفي ذلك من الفساد ما تمنعه الشريعة والحكمة ومنها تعظيم خطر هذا العقد ورفع قدره وإظهار شرفه ومنها تطويل زمان الرجعة للمطلق إذ لعله أن يندم ويفيء فيصادف زمنا يتمكن فيه من الرجعة ومنها قضاء حق الزوج وإظهار تأثير فقده في المنع من التزين والتجمل ولذلك شرع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الوالد والولد ومنها الاحتياط لحق الزوج ومصلحة الزوجة وحق والولد والقيام بحق الله الذي أوجبه ففي العدة أربعة حقوق وقد أقام الشارع الموت مقام الدخول في استيفاء المعقود عليه فإن النكاح مدته العمر ولهذا أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق وفي تحريم الربيبة عند جماعة من الصحابة ومن بعدهم كما هو مذهب زيد بن ثابت وأحمد في إحدى الروايتين عنه فليس المقصود من العدة مجرد براءة الرحم بل ذلك من بعض مقاصدها وحكمها
أجناس العدد
المقام الثاني في أجناسها وهي أربعة في كتاب الله وخامس بسنة رسول الله ص - الجنس الأول أم باب العدة وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن الثاني والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا والثالث والمطلقات يتربصن بأنفسهن

ثلاثة قروء الرابع واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر الخامس قول النبي ص - لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرىء بحيضة ومقدم هذه الأجناس كلها الحاكم عليها كلها وضع الحمل فإذا وجد فالحكم له ولا التفات إلى غيره وقد كان بين السلف نزاع في المتوفي عنها أنها تتربص أبعد الأجلين ثم حصل الاتفاق على انقضائها بوضع الحمل وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل كما دل عليه عموم القرآن والسنة الصحيحة واتفاق الناس فإن الموت لما كان انتهاء العقد وانقضاءه استقرت به الأحكام من التوارث واستحقاق المهر وليس المقصود بالعدة ههناء مجرد استبراء الرحم كما ظنه بعض الفقهاء لوجوبها قبل الدخول ولحصول الاستبراء بحيضة واحدة ولاستواء الصغيرة الآيسة وذوات القروء في مدتها فلما كان الأمر كذلك قالت طائفة هي تعبد محض لا يعقل معناه وهذا باطل لوجوه منها أنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله ويخفى على من خفي عليه ومنها أن العدد ليست من باب العبادات المحضة فإنها تجب في حق الصغيرة والكبيرة والعاقلة والمجنونة والمسلمة والذمية ولا تفتقر إلى نية ومنها أن رعاية حق الزوجين والولد والزوج الثاني ظاهر فيها فالصواب أن يقال هي حريم لانقضاء النكاح لما كمل ولهذا تجد فيها رعاية لحق الزوج وحرمة له ألا ترى أن النبي ص - كان من احترامه ورعاية حقوقه تحريم نسائه بعده ولما كانت نساؤه في الدنيا هن نساؤه في الآخرة قطعا لم يحل لأحد أن يتزوج بهن بعده بخلاف غيره فإن هذا ليس معلوما في حقه لو حرمت المرأة على غيره لتضررت ضررا محققا بغير نفع معلوم ولكن لو تأيمت على أولادها كانت محمودة على ذلك وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في احترام حق الزوج وتعظيم حريم هذا العقد غاية المبالغة من تربص

سنة في شر ثيابها وحفش بيتها فخفف الله عنهم ذلك بشريعته التي جعلها رحمة وحكم ومصلحة ونعمة بل هي من أجل نعمه عليهم على الإطلاق فله الحمد كما هو أهله
وكانت أربعة أشهر وعشرا على وفق الحكمة والمصلحة إذ لا بد من مدة مضروبة لها وأولى المدد بذلك المدة التي يعلم فيها بوجود الولد وعدمه فإنه يكون أربعين يوما نطفة ثم أربعين علقة ثم أربعين مضغة فهذه أربعة أشهر ثم ينفخ فيه الروح في الطور الرابع فقدر بعشرة أيام لتظهر حياته بالحركة إن كان ثم حمل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"