بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 5 مايو 2013





الأكاديمية الإسلامية المفتوحة
الدورة العلمية الثالثة
صفة الصلاة (2)
د. سعد الشتري


.....
وقد يمرُّ علينا شيء من الخلافات الفقهية بين السادة الفقهاء، ولكن ليس معنى هذا أن الغالب في المسائل هو الخلاف.
فمثلًا في الصلاة: أساس الصلاة وأركانها محل اتفاق بين الفقهاء، فلا تجد فقيهًا يقول: لا تكبر تكبيرة الإحرام، ولا تجد فقيهًا يقول: لا تقرأ سورة الفاتحة، ولا تجد فقيهًا يقول: لا تركع، أو لا تسجد، أو لا تسجد للتشهد؛ فكل هذه مسائل محل اتفاق.
فجوهر الصلاة وعظمها وأركانها محل اتفاق بين الفقهاء، ولكن المسائل الخلافية مسائل يسيرة بالنسبة لأصول مسائل الصلاة، والمسائل الخلافية لها أسباب، ولها ثمرات ونتائج.
فأما الأسباب: فقد لا تصل بعض الأحاديث لبعض الفقهاء، فتخفى عليه السنة لم يعرفها.
وقد يكون ذلك الفقيه ظن أن تلك السنة لم تثبت، أو أنه يقابلها ما هو أقوى منه من الأدلة، ولا يكون الأمر كذلك.
وقد يكون الاختلاف بسبب إساءة الأتباع لفهم كلام الإمام، وإلى غير ذلك من الأسباب.
وهذا الخلاف له ثمرات عظيمة كثيرة، فمن تلك الثمرات:
- نماء البحث العلمي: فيتباحث الناس في مسائل الصلاة، ويتعرفون على أحكامها، لأنهم متى اختلفوا تباحثوا وتناقشوا، ورد بعضهم على بعض، فكان ذلك من أسباب ازدهار العلم ونمائه.
نأتي إلى موضوعنا وهو صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد ذكرنا شيئًا من المقدمات والشروط في مجلسنا الماضي، وفي هذا المجلس -بإذن الله عز وجل- ندخل في صفة الصلاة.
أول ذلك: إذا استقبل الإنسان القبلة يجب عليه أن يصلي قائمًا، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُصلِّ شيئًا من الفرائض إلا وهو قائم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: «صلِّ قائمَا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب»، كما في الصحيح من حديث عمران -رضي الله عنه.
ولما جاء الرجل الذي أساء في صلاته قال له النبي -صلى الله عليه وسلم: «إذا قمت إلى الصلاة»، معناه أن القيام ركن من أركان الصلوات.
ثم يستقبل الإنسان القبلة، وينوي الدخول في الصلاة، والنية محلها القلب كما هو مفهوم النية في لغة العرب.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».
إذا قصد الإنسان الصلاة يكون قد نوى، إذا علم أنه بعد قليل سيصلي يكون بذلك قد نوى الدخول في الصلاة.
أما التلفظ بالنية فلم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه تلفظ بالنية، ولذلك فهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- هو عدم التلفظ بالنية.
بعد ذلك يُشرع للإنسان أن يُكبر، وبه يدخل في الصلاة، والتكبير يكون بقول: الله أكبـر.
وعند أحمد ومالك لا يُجزئ إلا هذه اللفظة، فلو قال: الله الأكبر؛ لم يُجزئه خلافًا للشافعي. ولو قال: الله أعظم، لم يُجزئه خلافًا للإمام أبي حنيفة.
وكلامنا في نقل صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يُؤثر عنه -صلى الله عليه وسلم- إلا لفظ التكبير في دخوله للصلاة، وفي انتقاله بين أركان الصلاة، جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «كان يُكبِّر في كل خفض ورفع»، فهذا يشمل ما لو سجد سجود التلاوة في أثناء الصلاة، فإن هذا يُقال له خفض ورفع، ومن ثَم يُشرع له أن يُكبر عند ذهابه لسجود التلاوة، وعند رفعه منه.
تكبيرة الإحرام يتذكر الإنسان بها أن الله أكبر من كل شيء، ومن ثَمَّ يترك الهموم، ويترك الأفكار، ويُقبل على صلاته، لأنه بذلك يُناجي ربه كما ورد في الحديث الصحيح.
إذا كبَّر الإنسان استحضر الخشوع، والخشوع معنى عظيم في الصلاة يؤثر في قلب المصلي، وخشوع الإنسان له أسباب، من تلك الأسباب:
- أن يتفكر فيما سيقرأه في أثناء صلواته، فعندما تتفكر في قراءتك تكون بذلك ممن خشع في أثناء الصلاة.
- هكذا عندما تحرص على تطبيق السنة في جميع أفعالك في الصلاة تكون بذلك ممن خشع في الصلاة.
إذا استحضرت كيف تضه يديك، وكيف تضع قدميك، وكيف تضع ركبتيك، ونحو ذلك؛ حينئذٍ تكون بذلك قد تقربت لله -عز وجل- بهذه الأفعال، وفي نفس الوقت يكون ذلك من أسباب خشوعك في الصلاة.
قال الله -جل وعلا: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 1، 2].
يُستحب للإنسان عند تكبيرة الإحرام أن يرفع يديه حذو منكبيه. ما هو المنكب؟
المفصل الذي يكون بين الكتف والعضد، فهذا هو المنكب.
ويستحب له -على الصحيح- أن تكون أطراف أصابعه عند فروع أذنيه.
جاء في حديث ابن عمر وأبي حميد وغيرهما أنهما قالا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- «كان يرفع يديه حذو منكبيه».
وفي حديث أبي هريرة أنه «كان يرفع يديه إلى فروع أذنيه»، فنجمع بينهما بأن يكون أسفل الكف حذو المنكبين، وأن تكون الأصابع عند فروع الأذنين، وبذلك نجمعبين الأحاديث الواردة في هذا الباب.
ورفع اليدين في هذا الموكن محل إجماع بين العلماء، وقد ورد رفع اليدين عند تكبيرة الركوع، وعند الرفع من الركوع، وعند الرفع من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة، فهذه المواطن الأربعة يُستحب للإنسان أن يرفع يديه إلى منكبيه فيها، وتكون أصابعه مضمومة ممدودة بعضها إلى جنب بعض، لا فراغات بينها، ممدودة غير مقبوضة.
قال أبو حميد الساعدي: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كبَّر رفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع».
وجاء في حديث ابن عمر إثبات الموطن الرابع: عند القيام من التشهد الأول.
بعد ذلك أي يضع يديه؟
قال جمهور أهل العلم بأنه يضع اليد اليمنى على اليد اليسرى لِمَا ورد من حديث جماعة في صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يضع يده اليمنى على يده اليسرى، وقد أخبر بعض الصحابة أن هذا الفعل من السنة، وبهذا قال جدمهور أهل العلم.
وقال بعض المالكية بانه يستحب أن يسدل يديه، وألا يضع اليد اليمن على اليد اليسرى، وأخذوا ذلك من فعل الإمام مالك، فإن الإمام مالك لما أفتى بأن أيمان المكره غير لازمة ضربه بعض الولاة، لأنهم خشوا من أن يأخذ بعض الناس بهذه الفتوى، فلا يلتزمون بطاعة الولاة؛ فضربوه حتى انخلعت كتفه -رحمه الله- فكان لا يستطيع أن يرفع يديه وأن يقبضهما، فظن أصحابه وتلاميذه بأنه يقول أن السنة في هذا الباب كذلك، وإلا فالإمام مالك قد نصَّ في كتاب الموطأ على استحباب وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى.
ولذلك تكلم بعض فقهاء المالكية على غيره من الفقهاء بالتشنيع عليهم في هذا الباب، فمثلًا لو شاهدت كلام الإمام ابن عبد البر في هذا الباب وفي شرحه في التمهيد لوجدته ينص صراحة على أن مذهب الإمام مالك -رحمه الله- هو قبض اليد اليسرى باليد اليمنى.
أين توضع؟
ليس في ذلك أحاديث ثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورد في حديث أنه على الصدر، لكنه فيه راوٍ متكلَّمٌ فيه عند ابن حبَّان، وورد أنه يضعه فوق السرَّة، وأنه تحت السرَّة، وكلها أحاديث لم تثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
وبكل محل من هذه المحالِّ أخذ بعض الفقهاء، لكن بما أن الباب لا يثبت فيه شيء فنقول: الأمر في هذا واسع، فلا فرق بين موطن وموطن آخر.
كيف يقبض يده اليسرى بيده اليمنى.
ورد أنه يقبض اليدي باليد، وورد أنه يقبض الساعد ويقبض المفصل.
ولذلك نقول: بان المستحب في هذا الباب أن يضع الإنسان يده اليمنى بحيث تكون على جزء من كفه، وعلى المفصل، وعلى جزء من السَّاعد، وبلذك يكون قد امتثل الأحاديث الواردة في هذا الباب.
ماذا يقرأ بعد هذا؟
قال جمهور أهل العلم: يستحب له أن يدعو بدعاء الاستفتاح، وقد ورد في ذلك ألفاظ متعددة، منها ما ورد في حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم: رأيت إسكاتتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيها؟
فقال: «أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد».
والإمام الشافعي اختار ما ورد في حديث علي أنه يقول في دعاء الاستفتاح: «وجهت وجهي للذي فطر السماوات...»، إلى آخر ما ورد في الآية.
والإمام أحمد كان يختار أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك»، كما ورد ذلك مرفوعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وموقوفًا على عمر -رضي الله عنه.
وكل هذه واردة.
والإمام مالك كان يقول بعدم مشروعية دعاء الاستفتاح، لأنه قد ورد في حديث أنس قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر يفتتحون الصلاة بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2] ".
ولذلك قال بعدم مشروعية دعاء الاستفتاح.
وقال الجمهور بان حديث أنس يُراد به ما يتعلق بالقراءة والجهر بها، القراءة المجهور بها، بخلاف ما يُسرُّ به.
وبعد دعاء الاستفتاح يستعيذ من الشيطان، ويبسمل، فإن كان في الصلاة السرية فلا إشكال أنه يبسمل سرًّا، وأما بالنسبة للصلاة الجهرية فعند الإمام الشافعي أنه يستحب له أن يجهر بالبسملة، واستدل على ذلك بأن قال: "هي آية من سورة الفاتحة"، ولذلك يرى كثير من الشافعية بطلان صلاة مَن لم يقرأ بالبسملة.
والصواب: أن البسملة ليست آية من سورة الفاتحة، وإنما هي آية للفصل بين السور وفي مقدمة السور، وذلك لما ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين.
قال الله: حمدني عبدي.
وإذا قال العبد: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
قال الله: أثنى علي عبدي.
وإذا قال العبد: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾.
قال الله: مجدني عبدي.
وإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل.
وإذا قرأ بقية السورة قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل».
فلم يذكر البسملة، مما يدل على أن البسملة ليست آية من سورة الفاتحة، ومن ثَم يُقال بعدم استحباب الجهر بها في الصلوات الجهرية.
ثم بعد ذلك يقرأ سورة الفاتحة، وسورة الفاتحة ركن في الصلاة، وهذا بالنسبة للإمام والمنفرد، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، وأخبر أن الصلاة التي لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب خداج، يعني ناقصة.
أما بالنسبة للمأموم:
فقد اختلف الفقهاء في حكم قراءةى الفاتحة بالنسبة للمأموم على ثلاثة أقوال مشهورة:
فالقول الأول: بأن قراءة الفاتحة للمأموم مستحبة في الصلوات الجهرية، والصوات السرية، وليست بواجبة.
والقول الثاني: بأنها واجبة في السرية دون الجهرية.
والقول الثالث: بان قراءة الفاتحة واجبة في الصلوات الجهرية، والصوات السرية.
ومعنى كونها واجبة: أنها تسقط حال العذر كما لو لم يدرك الإنسان إلا الركوع، فإنه يُدرك بذلك الركعة كما في حديث أبي بكرة لما أقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على احتساب الركعة بإدراكه للركوع؛ فدل هذا على أن قراءة الفاتحة ليست بركن.
وأما كونها واجبة فهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، وهو مذهب الإمام الشافعي -رحمه الله- خلافًا لجمهور الفقهاء.
ودليل ذلك: ما ورد في سنن أبي داوود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بأصحابه، فلما فرغ من الصلاة قال: «من ذا الذي ينازوعني بالقراءة؟». ثم قال -صلى الله عليه وسلم: «لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، وهذا الخطاب موجَّه للمأموم، وليس موجهًا للإمام ولا للمنفرد.
وهذا الحديث من رواية ابن إسحاق صاحب السيرة، وهو صدوق ولكنه يدلِّس، فلا يُقبل ما لا يُصرح فيه بالتحديث، وقد صرح بالتحديث كما ورد في بعض أسانيد -أو طرق- هذا الحديث.
ولذلك قلنا بأن قراءة الفاتحة من الواجبات.
وعلى الإنسان أن يتعلم قراءة الفاتحة وأن يضبطها، وأن ينطقها على وِفق لغة العرب بمخارج الحروف المعتادة عند العرب، وأن يتعلم ذلك.
وإذا عجز الإنسان عن حفظها أمكنه أن يكتبها، وأن يستمع إليها، وأن يقرأها في أثناء صلاته.
ثم بعد ذلك يُستحب له أن يقرأ سورة بعد سورة الفاتحة، وذلك في الركعتين الأوليين من الصلوات، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الصلوات الجهرية ويجهر بالقراءة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: «وإذا قرأ -يعني الإمام- فأنصتوا»، أي استمعوا لقراءته.
وقد قال -عز وجل: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204].
وقد حُكيَ اتفاق الصحابة على أن هذه الآية يدخل في مدلولها قراءة الإمام في الصلوات.
دثم بعد ذلك يُستحب للإنسان أن يسكت قليلًا في أثناء القراءة، وقد ورد في بعض الأحاديث قال: «كان يسكت بعد القراءة».
فاختلف الفقهاء في هذه اللفظة: هل المراد بها أنه يسكت بعد قراءة الفاتحة؟ أو أنه يسكت بعد تمام القراءة وقبل الركوع؟
وللعلماء في ذلك قولان مشهوران، ويظهر لي أن المراد بالحديث الإسكاتة بعد قراءة الفاتحة، وقبل قراءة السورة الأخرى.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُنوِّع بين القراءة، فيقرأ مرة بقصار السور، ومرة بطوالها، وكان الغالب في صلاة الفجر أن يطول فيه القراءة، وذلك لقوله تعالى: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78].
وأما بالنسبة لصلاة المغرب: فكان يقرأ فيها بقصار السور، وربما قرأ فيها بالمتوسط منها، فقرأ مرة بالمرسلات، ومرة بالطور، وربما قرأ بالطوال، فقد ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه «قرأ بسورة الأعراف في صلاة المغرب».
وأما بالنسبة لصلاة العشاء: فقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل إلى أن يقرأ في صلاة العشاء بـ "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى" والغاشية، وما تلاهما من السور.
وأما بالنسبة لصلاة الفجر: فكان -كما تقدم- يطيل القراءة، وربما قلَّل القراءة، وفقد ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- «أنه قرأ في سورة الفجر بسورة "والتين"»، ولكن أكثر أهل العلم يقولون بأنه قراها في السفر، ولم يقرأها في الحضر.
ثم بعد ذلك يُكبر، وهذه التكبيرة تكبيرة الركوع، يركع ويكبر في أثناء الركوع.
ويستحب أن تكون التكبيرة في أثناء الانتقال، بحيث يبتدئ بها مع بدء الانتقال، وينتهي مع انتهاء الانتقال، واستقراره في الركوع، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكبر في الركوع في كل خفضٍ ورفع، وجعل هذا التكبير للانتقال، ولذلك قلنا يستحب أن يكون التكبير في أثناء الانتقال.
وإذا كبر في أثناء انتقاله يُستحب له في هذه الحال أن يرفع يديه -كما تقدم- وقد ورد ذلك في الأحدايث الصحيحة، ورفع اليدين هو قول لجماهير أهل العلم خلافًا للإمام أبي حنيفة، وقد ورد في رفع اليدين في هذا الموطن عن قرابة خمسة عشر صحابيًّا.
والإمام أبو حنيفة يستدل بما ورد في السنن من حديث ابن مسعود: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام، ثم لا يعود»، ولكن هذا الحديث ضعيف الإسناد جدًّا، ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن ثَم قيل باستحباب رفع اليدين في المواطن الثلاثة الأخرى.
إذا كبر للركوع وركع فإنه حينئذٍ يساوي ظهره، وقد ورد في حديث لأبي حميد قال: «ثم هصر ظهره».
وقد ورد في بعض الألفاظ «أنه يساوي رأسه مع ظهرها»، وأنه «لو صُبَّ الماء على ظهره لم يسقط منه شيئ»، كما ورد ذلك في الخبر.
وقد ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه».
كانوا في أول الإسلام يضعون اليدين بين الركبتين، ثم بعد ذلك نُسخ فجُعل وضع اليدين على الركبتين، ويُشرع أن يُفرق بين أصابعه، وقد ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «كان يُجافي بين يديه وعضديه»، يجعل بينهما مجالًا، ولا يُلصق اليد بالجنب.
ثم بعد ذلك يقول في أثناء الركوع: «سبحان ربي العظيم»، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أما الركوع فعظموا فيه الرب».
وورد في الحديث أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة: 74]، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في كوعكم».
ويستحب عند العلماء أن يقولها ثلاثة، والواجب عند أحمد أن يقولها واحدة، والجمهور يقولون بأنها من المستحبات، ومذهب أحمد في القول بالوجوب أرجح، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمر بذلك فقال: «اجعلوها في ركوعكم»، وقال: «فعظموا»، والأصل في ألفاظ الأوامر أن تكون للوجوب، ولكنها ليست من الأركان، فمن تركها نسيانًا لم تبطل صلاته بذلك، بخلاف مَن ترك الركوع.
ثم بعد ذلك يرفع من الركوع ويقول: «سمع الله من حمده»، بمعنى: استجاب له، استجاب الله -جل وعلا- لمن يحمده.
وحينئذٍ نقول: يُتسحب لمن يدعو الله أن يحمد الله -جل وعلا- في أثناء الدعاء، وأن يتقرب بذلك لله -جل وعلا- ليكون ذلك من أسباب استجابة الدعاء.
وقد ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلًا يدعو لم يحمد الله في جعائه ولم يُصلِّ على نبيه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لقد عجل هذا»، ثم أرشد أصحابه إلى أن يحمدوا الله، وأن يصلوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائهم.
ثم بعد ذلك يقف ويعود إلى وقوفه السابق، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: «وإذا قال -يعني الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد».
وقد وردت بألفاظ متعددة:
- ورد بلفظ: «ربنا لك الحمد».
- و «ربنا ولك الحمد» بزيادة الواو.
- وورد بلفظ: «اللهم ربنا لك المحمد»، بزيادة "اللهم".
- وورد بلفظ: «اللهم ربنا ولك الحمد»، بزيادة "اللهم" والواو.
وكلها ثابتة على الصحيح.
وإذا قال الإنسان أيَّ هذه الألفاظ فإنه يُجزئ.
فإن سأل سائل: أيها أفضل؟
قلنا: الأفضل فيها لأكثر في الألفاظ، لأن كل لفظ ينطقه الإنسان في صلاته يؤجر عليه.
ثم بعد ذلك يُشرع للإنسان أن يذكر الله -جل وعلا- وقد ورد في ذلك أن رجلًا قال: "اللهم لك الحمد حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى"، فابتدرته الملائكة ليسجلوا لفظه.
أما بالنسبة لوضع اليدين؛ فما المشروع في اليدين في هذه الحال؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال مشهورة:
- فعند الإمام مالك وأبي حنيفة: أنه لا يُشرع وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في هذا الموطن.
- وعند الإمام أحمد أو وضع اليد اليمنى على اليسرى والسدل سواء، فيرى أن القبض والسَّدل سواء بالنسبة لما بعد الركوع.
- ويرى الإمام الشافعي استحباب القبض.
ولعل مذهب الإمام الشافعي في هذه المسألة أرجح، لأمرين:
• الأمر الأول: ما ورد في الأحاديث قال: «كنا نؤمر بوضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة»، ولم يفرق بين ما كان قبل الركوع، وما كان بعده.
• الدليل الثاني: ما ورد في حديث أبي حميد الساعدي أنه قال: «فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل عظم -أو قال: كل فقار- إلى مكانه»، وكان مكان اليدين قبل الركوع هو كونهما مقبوضتين.
ولهذا فإن القول بالقبض أرجح القولين في هذه المسألة، والخلاف فيها من قديم وليس خلافًا ناشئًا.
ثم بعد ذلك يستحب للإنسان أن يذكر الله -عز وجل- في هذا الموطن.
وأما بالنسبة لدعاء القنوت:
- فإن كان في النوازل فإن يُشرع دعاء القنوت على الصحيح من أقوال أهل العلم، لما ورد في حديث أنس «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قنت شهرًا يدعو على قبائل من العرب قتلوا القراء»، فدل هذا على مشروعية قنوت النوازل.
وقد اختلف الفقهاء في قنوت النوازل هل يختص بالفجر أو يختص بالصلوات الجهرية أو يكون عامًّا في جميع الصلوات؟
والأظهر أنه يُشرع في جميع الصلوات، ولكنه ليس على سبيل الوجوب، وذلك لأنه قد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- القنوت في كل منها، فدل ذلك على مشروعيتها في الجميع.
- وأما بالنسبة للقنوت في صلاة الفجر في غير النوازل: فقد اختاره طائفة من أهل العلم، وهو مذهب الإمام الشافعي، وقول لكثير من المالكيَّة.
واستدلوا على ذلك بما ورد في حديث أنس، والجمهور على أن دعاء القنوت في الفجر إنما يكون في النوازل خاصَّة، ولا يكون لجميع الأيام.
استدلوا على ذلك بأن أحاديث القنوت قيَّدته بشهر، واستدلوا بما ورد من حديث أبي برزة أنه قال عن القنوت في الفجر: "يا بني محدَث"، يعني أنه أمر جديد لم يكن عليه أهل الزمان الأول.
ثم بعد ذلك يُشرع للإنسان أن يسجد، والسجود من واجبات الصلاة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ [الحج: 77]، فهو ركن فيها، مَن لم يسجد في صلاته بطلت صلاته، وليست صلاته بصحيحة إلا أن يكون عاجزًا عن السجود.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء، قمننٌ أن يُستجاب لكم».
ويُشرع للإنسان عند السجود وعند الهوي إلى الأرض أن يُكبِّر دون أن يرفع يديه لما ورد في حديث ابن عمر أنه لما ذكر رفع اليدين حذو المنكبين قال: «ولم يكن يفعل ذلك عند السجود»، فأي انتقال يكون قبل السجود أو بعد السجود فإنه لا يُشرع فيه رفع اليدين حذو المنكبين.
وأما الانتقال الذي قبله سجود وليس بعده سجود فإنه يُشرع فيه رفع اليدين لما ورد من حديث ابن عمر في هذا الباب.
ثم يقول في أثناء النزول لسجوده: الله أكبر، فهذا ذكر مشروع عند كل انتقال.
يقول في أثناء السجود: "سبحان ربي الأعلى".
قال أحمد بجوب ذلك خلافًا للجمهور.
واستدل على ذلك بانه لما نزل قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1]، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم»، وهذا حديث حسن الإسناد، والطلب فيه قد جاء بصيغة الأمر، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب.
والواجب أن يقولها الإنسان مرة، وإذا قالها ثلاثًا فحينئذٍ وصل درجة الكمال، وإن زاد أو اكثر من الأدعية والأذكار في أثناء السجود فإنه يكون حينئذٍ يُرجى له أن يكون قد نال الأجر والثواب من رب العزة والجلال.
وأما بالنسبة لكيفية السجود: فإنه يسجد بجعل الأعضاء السبعة على الأرض، جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم». ما هي هذه الأعظم؟
أولًا: أصابع القدمين.
وثانيًا: الركبتان.
هذه أربعة.
ثالثًا: اليدان. هذه ستة.
رابعًا: الجبهة والأنف. هذا هو السابع.
فهذه سبعة أعضاء يجب على الإنسان أن يضع هذه الأعضاء على الأرض، وإذا لم يضعها على الأرض فإن سجوده لا يكون تامًّا؛ بل يكون سجودًا باطلًا، ولا تصح صلاته حينئذٍ.
ولو قُدِّر أنه وضع هذه الأعضاء ولو للحظة أجزأته.
ولا يجب أن تصل إلى الأرض، يعني لو سجد على شيء غير مباشر كما لو سجد على طرف ثوبه، أو سجد على كوفيَّته، أو سجد على شيء من ثيابه، أو كان عليه جوارب أو خِفاف؛ فحينئذٍ يُقال له بأنه قد سجد على الأعضاء السبعة.
مَن عجز عن السجود على جبهته سقط عنه السجود كله، وحينئذٍ مَن كان يصلي على الكرسي لعجز فإنه لا يضع شيئًا أمامه يسجد عليه، وإنما يومئ بالسجود إيماءً، ولا يُشرع له في هذه الحال أن يضع سجادة أو يضع طاولة ليسجد عليها.
وبالنسبة لأصابع القدمين: يستحب أن تكون أصابع القدمين موجَّهة إلى جهة القبلة بأن يميلهما ويضغط عليهما قليلًا لتكون متوجهة إلى القبلة.
ويُلاحظ أن بعض الناس عند السجود قد يرفع قدميه ولا يجعلهما على الأرض، فهذا خطأ ولا تتم الصلاة بذلك.
وهكذا أيضًا بالنسبة لليدين: يستحب أن تضم الأصابع وألا تفرق، وأن تكون الأصابع ممدودة، وأن تكون حذو منكبيه على وِفق رفعه لليدين في تكبيرة الإحرام. فهذا هو المشروع.
ويستحب للرجل أن يجافي بين عضديه، وألا يجعل يديه مجاورتين لجنبيه إذا لم يُضايق لمن حوله.
وهكذا أيضًا يستحب له أن يُطيل في سجوده، يمعنى أن يباعد بين محل سجوده وبين محلِّ ركبتيه.
وهكذا أيضًا لابد من وضع الكفين على الأرض، فلا يصح أن يضع كفيه على فخذيه، فإنه لا تصح الصلاة في هذه الحال، ولا يصح له أن يضع يديه على رأسه فتبطل الصلاة حينئذٍ.
ويجب على الإنسان أن يرفع مرفقيه وساعديه عن الأرض، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن انبساطٍ كانبساط الكلب.
وبعد ذلك يُشرع له أن يجلس، وأن يكبر عند الجلوس، ويشرع له في هذا الجلوس أن يكون مفترشًا.
ما معنى كونه مفترشًا؟
أن ينصب رجله اليمنى، وأن يجلس على رجله اليسرى التي يضعها مفروشة على الأرض، هذا هو الصحيح من قولي أهل العلم في كيفية الجلوس.
ويشرع له في اليدين أن يضع يديه مضمومة الأضابع على فخذيه، فلا يجعلهما على ركبتيه، وإنما يجعلهما على فخذيه، بحيث يكون أطراف الأصابع قبل الركبتين بقليل.
وأما ما يفعله الناس من قبض الركبتين باليد فهذا ليس واردًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلاف ما ورد عنه -صلى الله عليه وسلم.
ماذا يقول في الجلسة بين السجدتين؟
يدعو الله -عز وجل- بما حضر عنده، وإن قال: «رب اغفر لي، وراحمني، وعافني واعفُ عني، وارزقني»، فهذا أيضًا من الأذكار الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد ذلك يُكبِّر للسجود بدون رفع اليدينو تكون تكبيرته موازية لانتقاله أولها بأولها، وآخر التكبير بآخر الانتقال، ويفعل في سجدته الثانية كما فعل في السجدة الأولى.
وبذلك نكون قد أتممنا الركعة، ولعلنا نواصل ما يتعلق بصفة الصلاة في يوم غدٍ -بإذن الله عز وجل.
أسأل الله -جل وعلا- أن يسبغ عليكم نعمه، وأن يدر عليكم خيراته، وأن يرزقكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعلكم من الهداة المهتدين.
اللهم أصلح قلوبنا جميعًا، اللهم يا حي يا قيوم املأها من التقوى والسرور والسَّكينة برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واجعل أعمالنا على البر والتقوى برحمتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعلنا من المحافظين على صلواتنا، واللهم اجعلنا ممن يحافظ على الصلاة مع الجماعة، وممن يؤديها على أكمل وجوهها برحمتك يا أرحم الراحمين.
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات 180-182].


ه �J �0� � `�� @� �ته وبرحمته بامته: «ربِّ أصحابي أصحابي».
فيُقال: «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».
الإحداث في الدين من أعظم ما يصد الناس عن كوثر سيد المرسلين -عليه الصلاة والسلام- وعن حوضه -عليه أفضل الصلاة واتم السلام.
الركن السادس من أركان الإيمان: الإيمان باليوم بالقدر خيره وشره.
الإيمان بالقدر دلَّ عليه كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما هي الآية في القرآن تدل على الإيمان بالقدر؟
 ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
ودلَّ عليه سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنها هذا الحديث -حديث جبريل عليه السلام.
الإيمان بالقدر من الأمور التي كانت فيها بوادر إحداث البدع في الإسلام، حينما نبتت نابتة في عهد الصحابة يُنكرون علم الله -جل وعلا- فكفَّرهم الصحابة -رضوان الله عليهم- ثم اندثرت هذه المقالة.
كيف نؤمن بالقضاء والقدر؟
أربعة أركان للمسلم في إيمانه بقضاء الله وقدره:
الركن الأول: الإيمان بعلم الله -جل وعلا.
فالله -سبحانه وتعالى- علم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
فالله -سبحانه وتعالى- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾ [يونس: 61]، وقال -سبحانه وتعالى: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 282].
فالركن الأول من أركان الإيمان: الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء، ولا نقول كما يقول بعض أهل البدع أن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا- بل الله -سبحانه وتعالى- يعلم كل شيء -عز وجل.
الأمر الثاني في الإيمان بالقضاء والقدر: الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء.
قال -عز وجل: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 12].
وقال -صلى الله عليه وسلم- واسمع لهذا الحديث فإنه يدل على عظمة الله: «لما خلق الله القلم قال له: اكتب.
قال: ربِّ، وما أكتب؟
قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة».
فكل شيء مكتوب في هذا الكتاب العظيم، وهو اللوح المحفوظ.
طيب، يقول البعض كما يقول بعض العقلاني: جماد يتكلم؟!
عندنا طائفة من الناس تقول لك: الحديث إذا لم يقبله عقلي فأنا لا أصدقه. كيف الجماد يتكلم؟
نقول: الله -عز وجل- قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11].
في الحديث -وهذا من الأحاديث التي ينكرونها وهو في صحيح البخاري: النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لأبي ذر، كان معه حينما غربت الشمس، قال: «هل تعلم أين ذهبت الشمس؟».
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: «إنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن ربها أن تشرق مرة أخرى، فيأذن الله لها، وإنه يوشك أن تأتي أن تسجد فلا يؤذن لها، ويُقال لها: عودي من حيث شئتي، فذلك طولع الشمس من مغربها».
هذا الحديث في صحيح البخاري، يأتي البعض يقول: لا والله، عقلي ما يقبله.
عقل مَن؟! ما العقل الذي سنحتكم إليه؟!
وهذا ما كان يقوله شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في درء تعارض العقل والنقل حينما يقولون: نريد أن العقول تقبل هذا الأمر، ومع أنه لا يوجد شيء في القرآن ولا في صحيح السنة إلا وهو يوافق العقول، لكن مَن شرح الله -عز وجل- صدره استوعب هذا.
إذن الإيمان الأول: الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء.
الثاني: الإيمان بان الله -عز وجل- كتب كل شيء في اللوح المحفوظ.
الإيمان الثالث: الإيمان بمشيئة الله -عز وجل- النافذة.
كل ما في هذا الكون فهو بمشيئة الله، لا يكون شيء إلا والله -عز وجل- شاءه، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [البقرة: 253].
وقال -عز وجل: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: 137].
فكل ما في هذا الكون لا يكون إلأا بمشيئة الله، حتى أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئة الله -جل وعلا.
الرابع والأخير: هو الإيمان بالخلق.
الإيمان بأن الله خلق كل شيء، فيؤمن المسلم بأن الله -عز وجل- خالق السماء، وخالق الأرض، وخالق الناس، وخالق أفعالهم، فلا عمل للإنسان إلا والله -عز وجل- خلقه، لأن الله هو الذي خلق الإنسان، وهذا من الأمور التي بيَّنها نبينا -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «إن الله خالق كل صانع وصنعته».
هذه الأركان الأربعة جمعها الشاعر في بيت من الشعر من أجل أن يسهل حفظها، فقال:
"علم كتابة مولانا مشيئته".
علم: هذا الركن الأول:
كتابة: هذا الثاني.
علم كتابة مولانا مشيئته ** خلقه وهو إيجاد وتكوين
العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق؛ هذه هي أركان الإيمان بقضاء الله وقدره.
علم كتابة مولانا مشيئته ** خلقه وهو إيجاد وتكوين
هذه هي أركان الإيمان الستة التي وردت في حديث جبريل -عليه السلام.
هناك تفاصيل كثيرة تتعلق بالمشيئة، المشيئة الكونية، والمشيئة القدرة، وهناك مسائل كثيرة تتعلق بالاستدلال بالقدر في المصائب وفي المعائب وغيرها من المسائل، لكن بعض الأمور قد لا يناسب طرحها بشكل عام، لكن هذه هي أهم المسائل وأبرز المسائل التي يبحثها العلماء في هذا المجال.
هناك كتاب أنصحكم جميعًا به -أو سلسلة من الكتب- تتحدثت عن هذه القضايا بالتفصيل، وهي سلسلة العقيدة للشيخ عمر الأشقر، وهو من علماء الأردن، له ستة كتب: كتاب الإيمان بالله، وكتاب القضاء والقدر، وغيرها من الكتب.
أيضًا من الكتب المفيدة في القضاء والقدر: كتاب لأخينا إيراهيم الحمد، له كتاب بعنوان القضاء والقدر.
كذلك كتاب رسالة ماجستير للدكتور عبد الرحمن المحمود، تحدث فيها عن عقيدة أهل السنة في القضاء والقدر.
وعمومًا يجمع هذه جميعًا العودة الصادقة لكتاب الله، وإلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
غدًا -إن شاء الله- نكمل بقية حديثنا في حديث جبريل -عليه السلام.
نختم هذا اللقاء بالدعاء، فنقول: اللهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم يا رب الأرباب، يا مسبب الأسباب، اللهم يا خالق خلقه من تراب، اللهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آمنَّا في أوطاننا، اللهم أسعد أرواحنا، وأنر قلوبنا بكتابك، وبطاعتك وطاعة رسولك -صلى الله عليه وسلم- اللهم أسعد صدورنا وأقر أعيننا برؤية عزِّ الإسلام وانتصار المسلمين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم عونًا ونصيرًا، اللهم إن بإخواننا في سوريا من الضر واللأواء ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم فرج همهم، اللهم نفِّس كربهم، اللهم كن لهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم سدِّد رميهم، اللهم عليك بعدوهم، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا عسيرًا إلا يسَّرته، ولا مريضًا إلا شفيته.
اللهم يسر أمورنا، وفرج كروبنا، واشرح صدورنا، اللهم اجعلنا ممن يرفع لا إله إلا الله، وارفعنا بها، واجعلها آخر كلامنا من الدنيا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا جميعها يا ذا الجلال والإكرام، اللهم كما جمعتنا في هذا المكان المبارك اللهم اجمعنا في دار كرامتك، وفي مستقر رحمتك يا ذا الجلال والإكرام.
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات 180-182].


الأكاديمية الإسلامية المفتوحة
الدورة العلمية الثالثة
شرح كتاب التوحيد (4)
د. راشد الزهراني


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده المصطفى، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا إلى يوم الدين.
أما بعد أيها الأحبة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجمعنا وإياكم في دار كرامته، إنه -سبحانه وتعالى- جواد كريم.
كنا تحدثنا بالأمس عن حديث جبريل -عليه السلام- الذي رواه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقلنا أن هذا الحديث هو حديث أم السنة.
وتحدثنا عن بعض فوائدة التربوية، وكذلك كان الحديث عن أركان الإسلام، عرفنا الإسلام في اللغة وفي الشرع، والفرق بين الإسلام والإيمان، ثم كان الحديث عن سؤال جبريل -عليه السلام- للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان، عرفنا الإيمان لغة، وعرفناه شرعًا، وذكرنا أركانه، وقلنا أن عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه ما اشتمل على خمس نونات، وهو قول باللسان وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان.
قال: «فسأله عن الإيمان.
قال: الإيمان: أن تؤمن بالله».
الإيمان بالله يشتمل على أربعة أنواع من الإيمان، ثلاثة منها سبق الحديث عنها، وهو: الإيمان بألوهية الله، والإيمان بربوبيته، والإيمان بأسماء الله -جل وعلا- وصفاته.
والرابع: الإيمان بوجود الله -جل وعلا.
وإنما ذكرت هذا الأمر لأنه في الفترة الأخيرة بدأنا نستمع اغترار كثير من الشباب ببعض دعوات الإلحاد التي تنفي وجود الله -سبحانه وتعالى- ولا شك أن الإيمان بوجود الله دلت عليه الفطرة -فطرة الإنسان- انظر إلى الإنسان حينما يكون في مأزق ويكون في ضيق أين يرفع بصره؟
إلى السماء، لأنه يعلم أن هناك إله وهو الله الواحد القهار.
وأيضًا دلَّ عليه العقل، فهذا الكون الذي خلقه الله -جل وعلا- لابد له من خالق، ولابد له من موجد.
يُقال أن الإمام أبا حنيفة -رحمه الله تعالى- مرة طائفة يُقال لهم السُّومانيَّة ممن يُنكرون وجود الله -جل وعلا- فالتقوا بالإمام، فلما التقى بهم قال: دعوني، إني أفكر في أمر.
قالوا: في ماذا تفكر؟
قال: أفكر في سفينة مليئة بالبضائع، تشق البحر حتى ترسو على الشاطئ الآخر، ثم تُفرغ حمولتها دون أن يكون احد يعمل فيها شيئًا.
قالوا: هذا لا يكون، محال! أين عقلك؟!
قال: سبحان الله! هذا الملكوت الذي خلقه الله -جل وعلا- ولا تثبتون وجوده -سبحانه وتعالى؟!
كل ما في الكون يدل على الله ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات20، 21]، ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية 17 - 20].
فهذا تأمل في ملكوت الله -سبحانه وتعالى.
تأمل في رياض الأر وانظر ** إلى آثار ما صنع المليك
عين من لجين شاخصات ** بأحداق هي الذهب السبيك
على كسب الزبرجد شاهدات ** بأن الله ليس له شريك
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
أعرابي لا يقرأ ولا يكتب، وإنما عمله في رعي الإبل، فقيل له: كيف عرفت الله؟
فقال بلغته البسيطة -وهو راعي إبل: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؛ ألا تدل على اللطيف الخبير؟!
بل، إنها تدل عليه -سبحانه وتعالى.
ودل على وجوده -جل وعلا- الوحي -القرآن والسنة.
فدلالة الفطر، ودلالة العقلأ، ودلالة العقل؛ كلها على وجود الله -جل وعلا.
وأنا أقول دائمًا لشبابنا الذين يتأثرون بهذا الفكر؛ أقول: انظروا إلى أساطين الإلحاد الذين تبنوا هذا الفكر، تجد أنهم في آخر حياتهم أثبتوا وجود الله -جل وعلا- فلا تقتحموا هذه التجربة، فقد يموت الإنسان وهو عليها -والعياذ بالله.
يُقال إن فيلسوفًا معاصرًا وكان يُقال عنه أنه أشرس ملحد في القرن العشرين، كان لا يُقام مؤتمر عن الإلحاد إلا ويحضره، في كتاب اسمه رحلة عقل، فلابد أن يحضر هذا المؤتمر ويُدافع عن هذه الفكرة، ويُدافع عن الإلحاد ويحذر الناس من الإيمان بوجود الله -جل وعلا.
لما أصبح عمره في الثمانين، وإذا بالناس يستمعون في صباحهم إلى الإذاعة، وإذا به يتحدث، فقال لهم: "لقد عشت ثمانين عامًا وأنا أنكر وجود الإله، والآن بعد كل هذا العمر وكل هذه التجاري أُثبت أن هناك إله".
فقال له المذيع: هل أسلمت؟
قال: لم أسلم، ولست يهوديًّا، ولست نصرانيًّا، لكن لابد أن يكون هناك إله، مَن هو هذا الإله؟ سأبحث وأخبركم.
ثم مات.
فلهذا أقول: نعمة الإيمان، ونعمة هذه العقيدة التي شرفنا الله بها هي من أعظم نعم الله التي يجب أن نُحافظ عليها.
قال: «وما الإيمان؟
قال: أن تؤمن بالله، وملائكته».
لماذا قدَّم الإيمان بالملائكة على الرسل؟
لأنهم من عالم الغيب، فقدمهم على الإيمان بالرسل.
الإيمان بالملائكة كيف يكون؟
الإيمان بالملائكة يكون بأمور:
أولًا: الإيمان بمَن سمى الله منهم.
الله -جل وعلا- سمى جبريل، وسمى ميكائيل، وسمى إسرافيل. هذا الإيمان الأول -الإيمان بمن سمى الله منهم.
الإيمان الآخر: الإيمان بالأعمال التي كلفهم الله -سبحانه وتعالى- بها.
الملائكة مخلوقات من النور، مخلوقات نورانية، خلقهم الله -جل وعلا- لعبادته، يعبدون الله -سبحانه وتعالى- لا يعصونه في أمره؛ بل بفعلون ما يؤمرون.
وهؤلاء الملائكة كان المشركون في مكة يقولون عنهم أنهم ماذا؟
بنات الله.
قال الله -جل وعلا: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء 26، 27].
في القرآن أخبرنا الله أن لهم أجنحة، فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فاطر: 1].
الملائكة لهم أعمال عظيمة كُلفوا بها.
من أعظم الملائكة: جبريل -عليه السلام- وقد وكله الله بماذا؟
بالوحي.
وهو الأمين الذي قال الله -جل وعلا- عنه: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 98].
وقال -سبحانه وتعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ [الشعراء: 193].
وقال: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ [التكوير 19، 20].
أيضًا من الأمور التي أخبرنا بها النبي -صلى الله عليه وسلم- عن جبريل -أو جبرائيل عليه السلام- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- رآه على هيئته التي خلقه الله عليها.
ما هي صفته؟
اسمع، يا من يغتر بقوته، يا مَن يغتر بجسمه، يا من يغتر بعضلاته؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل على هيئته التي خلقه الله عليها له ستمئة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق».
في البداية والنهاية لابن كثير قال: «يخرج منها التهاويل والدر»، يعني الألوان المختلفة.
بطرف جناحه -ناح من الستمئة جناح- لما عصى قوم لوط ربهم وفعلوا الفاحشة رفعهم بطرف جناحه، رفع أمة كاملة بأرضها، حتى علا بهم إلى السماء، فسمع أهل السماء نباح كلابهم وصياح ديكتهم، ثم جعل عالها سافلها.
رآه مرتان على هذه الحالة:
المرة الأولى: حينما انقطع الوحي بعد أن نزلت ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1].
المرة الثانية: حينما عُرِجَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم.
قال الله -جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم 13، 14].
أيضًا من الملائة، وهو من الإيمان أن ؤنمن بالملَك الموكل بالقطر من السماء وهو: ميكائيل، هو موكل بهذا الأمر الذي أمره الله -جل وعلا.
وأيضًا من الملائكة: إسرافيل، وهو الملَك الموكل بالنفخ في الصور.
وهؤلاء الملائكة الثلاثة -جبريل وميكائيل وإسرافيل- كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفتتح صلاة الليل بهذا الدعاء، فيقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض».
وكل واحد من هؤلاء الملائكة وكله الله -عز وجل- بما به الحياة:
فجبريل -عليه السلام: وكله الله بحياة الروح، وهو الوحي.
وميكائيل: وكله الله -جل وعلا- بحياة الأرض.
وإسرافيل: وكله الله -جل وعلا- بحياة الناس بعد الصعق.
أيضًا من الملائكة: الملك الموكل بقبض الأرواح، وهو ماذا يسمونه؟
عزرائيلو ولا يوجد في القرآن ولا في السنة تسميته بهذا الاسم، وإنما يوجد في بعض الكتب الإسرائيلية، وإنما يُسمى بملك الموت، كما قال الله -عز وجل: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: 11]، وقال -جل وعلا: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: 61].
ومن الملائكة: الملائكة الموكلون بحفظ العباد.
قال الله -جل وعلا: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد 10، 11].
ومنهم الملائكة الكتبة: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18].
أيضًا من الملائكة: الملائكة الموكلون بفتنة الناس في قبورهم، وهو منكر ونكير.
ومن الملائكة كذلك: خزنة جهنم، ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ [الزمر: 71].
وهنالك كذلك خزنة الجنة، كما قال الله -عز وجل: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ [الزمر: 73].
فهؤلاء هم الملائكة.
ومنهم ملائكة جوَّالون، فإذا بلغوا مجالس الذكر حطُّوا رحالهم فيها، فنسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا وإياكم ممن تتنزل عليهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرنا الله -عز وجل- فيمن عنده.
كم عدد الملائكة؟
حينما نزل قول الله -عز وجل: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [المدثر: 30]، قال أبو جهل: يا قوم إن محمدًا يخوفكم بستعة عشر قد جُعلوا على جهنم، أيعجز كل مئة رجل منكم عن واحد منهم؟
فقال الله -جل وعلا: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر: 31].
أضرب لكم مثالًا يدل على كثرتهم:
تعرفون الكعبة -معروفة طبعًا- يمحاذاتها في السماء السابعة هناك كعبة أخرى يُقال لها البيت المعمور، وهي كعبة الملائكة، يطوف حول هذا البيت كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه مرة أخرى ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31].
أما في خلقهم: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أذن لي أن أتحدث عن ملك من ملائكة الله ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمئة سنة»، فسبحان الله! إذا كان هذا المخلوق الضعيف، فكيف بالخالق -سبحانه وتعالى؟!يقول -صلى الله عليه وسلم: «أطَّت السماء».
الأطيط: هو صوت الرحل الذي يكون على البعير.
قال: «أطَّت السماء، وحُقَّ لها أن تئطّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم وملك راكع وملك ساجد يذكرون الله -سبحانه وتعالى».
إذن هذا هو الركن الثاني من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالملائكة.
الركن الثالث: الإيمان بالكتب:
قال الله -عز وجل: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136].
كيف يكون الإيمان بالكتب؟
هو التصديق الجازم بأنها كلها من عند الله -سبحانه وتعالى- وأن الله -عز وجل- أنزلها على رسلها، وأن الله تكلم بها حقيقة -سبحانه وتعالى.
ومن الإيمان بالكتب: الإيمان بما سمى الله منها، فالله -جل وعلا- سمى لنا في القرآن التوراة، وسمى لنا الإنجيل، وسمى لنا الزبور ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورً﴾ [النساء: 163]، وسمى لنا صحف إبراهيم وموسى ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى: 19].
فيجب الإيمان بانها من عند الله -سبحانه وتعالى.
ومن الإيمان أن نعلم أن جميع الكتب السابقة قد طالها التحريف، وطالها التبديل إلا القرآن، لأن الله -جل وعلا- استودع حفظ الكتب السابقة إلى الأحبار، وأما القرآن فقد حفظه الله -جل وعلا- فقال -سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
يذكر الخطيب البغدادي في تاريخه عن رجل يهودي كان يعمل ورَّاقًا. ما معنى ورَّاق؟
يبيع في الكتب.
فقام هذا اليهودي فأسلم، فسألوه عن سبب إسلامه، فقال: أنا أعمل في هذا المكان أبيع الكتب، فكل كتاب أبيعه أقوم بزيادة صفحتين ثلاث من أجل أن يكون ثمنه غاليًا.
فيقول: حرفت التوراة، وحرفت الإنجيل، ولم أُبقِ كتابًا -يهودي! وهذه شغلته.
يقول: حتى أتى القرآن فأضفت فيه صفحة، فبعتها لأحد المسلمين، فعاد إلي في نفس اليوم وقال: هذا القرآن لا أريده.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن فيه إضافة.
قلت: والله إن الذي حفظ القرآن لهو الدين الحق، أشهد ألا له إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
الإيمان الرابع: الإيمان بالرسل.
الله -عز وجل- من رحمته أن أرسل الرسل للناس لتعليمهم وبيان الحق لهم، ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]، فهذه حجة من الله -عز وجل- على عباده، وهي رحمة الله -سبحانه وتعالى- بعباده.
وأيضًا يقول الله -جل وعلا: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7].
الإيمان بالرسل يجب أن يكون متلازمًا، فلا يجوز الإيمان بالبعض وترك البعض، ولهذا فإن أعظم الأديان احترامًا للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هو دين الإسلام، فهم يؤمنون بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ويؤمنون بعيسى، ويؤمنون بموسى، ويؤمنون بكل الأنبياء الذين أخبرنا الله -جل وعلا- بهم.
يقول الله -سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 150].
وقال -جل وعلا: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 136].
الإيمان بالرسل يجب أن يكون كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو: التصديق الجازم بأن الله بعث في كل أمة رسولًا يدعوهم إلى عبادة الله والكفر بالطاغوت، وهذا هو معنى لا إله إلا الله.
كم عدد الأنبياء؟ كم عدد الرسل؟
الرسل: ثلاثمئة ونيَّفًا كما ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والأنبياء أكثر من ذلك، وقد قصَّ الله -جل وعلا- علينا في القرآن بعضهم، فقال -عز وجل: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164].
مثل مَن؟
نوح، إدريس، صالح، إبراهيم، يونس، يعقوب، إسحاق، يوسف، وجملة من الأبياء جمعها بعضهم حتى بلغوا ثمانية وعشرين نبيًّا ورد ذكرهم في كتاب الله -عز وجل.
مَن أول الأنبياء؟
أول الأنبياء: آدم -عليه السلام.
وأول الرسل: هو نوح -عليه السلام.
وهنا يأتي السؤال: ما الفرق بين النبي وبين الرسول؟
من أحسن مَن بحث هذا الأمر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب النبوات.
من العلماء من قالوا: النبي هو: من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، وإنما يعمل به في نفسه.
والرسول هو: مَن أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.
ولهذا؛ فأول الأنبياء آدم، وأول الرسل نوح -عليه الصلاة والسلام.
ومن العلماء -وهو الصحيح- من قال: أن النبي: مَن أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه إلى قومٍ موافقين.
والرسول: مَن أوحي إليه بشرعٍ وأُمر بتبليغه إلى قومٍ مخالفين.
في القرآن قصَّ الله -عز وجل- لنا وأخبرنا بأولي العزم من الرسل. مَن هم أولي العزم من الرسل؟
أولو العزم من الرسل اختلف العلماء فيهم عل أقوال:
القول الأول: أنهم المذكورون في سورة الشورى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13].
وهؤلاء الخمسة هم الذين يتراجعون الشهادة يوم القيامة، يأتي الناس إلى نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد -صلى الله عليه وسلم- فيقول -عليه الصلاة والسلام: «أنا لها».
وقيل: إن أولي العزم من الرسل هم الذ أمروا بالجاهد وإظهار المكاشفة مع العدو.
وقيل غير ذلك، لكن أصوب الأقوال أنهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد -صلى الله عليه وسلم.
ما الذي يجمع هؤلاء الرسل؟ ما الرابط الذي يجمعهم؟
قالوا: هو صبرهم العظيم على أممهم وأقوامهخم، ومَن تأمل حياة هؤلاء الأنبياء الخمسة -عليهم الصلاة والسلام- يجد هذا واضحًا جليًّا.
الشيخ حافظ الحكمي في كتابه النفيس، أتمنى كل طالب علم يريد أن يتخصص في العقيدة أو أن يستزيد في العقيدة أن يقرأ كتابه معارج القبول.
الركن الخامس وهو: الإيمان باليوم الآخر.
يقول الله -سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: 4].
وقال -سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 264].
وقال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 25].
الإيمان باليوم الآخر من الأمور التي لا يعلمها إلا الله -جل وعلا- ولهذا في هذا الحديث سأله عن الساعة، قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل».
متى يبدأ اليوم الآخر؟
لا يعلمه إلا الله -جل وعلا- ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]، فلا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى.
 ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا﴾ [النازعات 42-44]، فلا يعلم هذا الغيب إلا الله -سبحانه وتعالى.
ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بما بعد الموت، هناك أمور تكون بعد الموت، ولهذا فإنها من الإيمان باليوم الآخر.
من ذلك أولًا: الإيمان بعذاب القبر -نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن ينجو، لأنها فتنة عظيمة، والسعيد مَن نجَّاه الله جل وعلا-
قال -صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
قال -سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ [الأنعام: 93].
ويقول -سبحانه وتعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27].
النبي-صلى الله عليه وسلم- مرَّ بقبرين، فقال -عليه الصلاة والسلام: «إنهما ليعذبان»، ما العمل الذي يُعذبان بسببه؟
قال: «إنهما ليُعذبان، وما يُعذبان في كبير»، بلى إنه لكبير، هو ليس كبير حينما يسمعه الناس، لكنه عظيم عند الله -جل وعلا.
قال: «أما أحدهما فكان يمشي بين الناس بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله».
يقول -صلى الله عليه وسلم: «إذا وُضع العبد في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان فيقعدانه -في الحديث الآخر: يقولان له: مَن ربك؟ وما دينك؟ ومَن نبيك- فأما المؤمن -نسأل الله أن يعلنا وإياكم منهم- فيقول: ربي الله، ودين الإسلام، ونبيي محمد -صلى الله عليه وسلم.
وأما الكافر أو المنافق فيقول: ها ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته».
وهذا الأمر من الأمور الغيبية التي أخبرنا عنها نبينا -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أيضًا من الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بما أعده الله -جل وعلا- للمؤمنين في قبورهم من النعيم والسرور.
يقول -صلى الله عليه وسلم: «إن للقبر ضمة، لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ»، طيب كيف سعد بن معاذ وهو الذي اهتز عرش الرحمن لموته؟
نقول: ضمة القبر للمؤمن كضمة الحبيب لحبيبه، وضمته للكافر تختلف معها أضلاعه.
وأيضًا أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- «أنه إن كان مؤمنًا فنجا يُفتح له نافذة إلى النار ويُقال: هذا مكانك لو كفرت بالله، ثم يُفتح له نافذة إلى الجنة فيرى من نعيمها وسرورها وريحها، فيقول: ربِّ أقم الساعة، ربِّ أقم الساعة.
أما الكافر أو المنافق فيُفتح له نافذة إلى الجنة، فيأتيه من ريحها ويأتيه من هوائها، ثم يُفتح له نافذة إلى النار، فهنا يقول: ربِّ لا تقم الساعة، ربِّ لا تقم الساعة».
فالقضية ليست هيِّنة وليست سهلة، ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27].
ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالحوض -حوض النبي صلى الله عليه وسلم- فقد أخبرنا النبي -عليه الصلاة والسلام- أن الناس يردون حوضه فيشربون من يده المباركة شربة هنيئة لا يظمؤون بعدها أبدًا، وهذا الحوض نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من ورَّاده.
هذا الحوض عدد كيزانه كعدد نجوم السماء، ثم يأتي أناس يعرفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيُمنعون، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم- بشفقته وبرحمته بامته: «ربِّ أصحابي أصحابي».
فيُقال: «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».
الإحداث في الدين من أعظم ما يصد الناس عن كوثر سيد المرسلين -عليه الصلاة والسلام- وعن حوضه -عليه أفضل الصلاة واتم السلام.
الركن السادس من أركان الإيمان: الإيمان باليوم بالقدر خيره وشره.
الإيمان بالقدر دلَّ عليه كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما هي الآية في القرآن تدل على الإيمان بالقدر؟
 ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
ودلَّ عليه سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنها هذا الحديث -حديث جبريل عليه السلام.
الإيمان بالقدر من الأمور التي كانت فيها بوادر إحداث البدع في الإسلام، حينما نبتت نابتة في عهد الصحابة يُنكرون علم الله -جل وعلا- فكفَّرهم الصحابة -رضوان الله عليهم- ثم اندثرت هذه المقالة.
كيف نؤمن بالقضاء والقدر؟
أربعة أركان للمسلم في إيمانه بقضاء الله وقدره:
الركن الأول: الإيمان بعلم الله -جل وعلا.
فالله -سبحانه وتعالى- علم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
فالله -سبحانه وتعالى- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾ [يونس: 61]، وقال -سبحانه وتعالى: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 282].
فالركن الأول من أركان الإيمان: الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء، ولا نقول كما يقول بعض أهل البدع أن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا- بل الله -سبحانه وتعالى- يعلم كل شيء -عز وجل.
الأمر الثاني في الإيمان بالقضاء والقدر: الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء.
قال -عز وجل: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 12].
وقال -صلى الله عليه وسلم- واسمع لهذا الحديث فإنه يدل على عظمة الله: «لما خلق الله القلم قال له: اكتب.
قال: ربِّ، وما أكتب؟
قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة».
فكل شيء مكتوب في هذا الكتاب العظيم، وهو اللوح المحفوظ.
طيب، يقول البعض كما يقول بعض العقلاني: جماد يتكلم؟!
عندنا طائفة من الناس تقول لك: الحديث إذا لم يقبله عقلي فأنا لا أصدقه. كيف الجماد يتكلم؟
نقول: الله -عز وجل- قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11].
في الحديث -وهذا من الأحاديث التي ينكرونها وهو في صحيح البخاري: النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لأبي ذر، كان معه حينما غربت الشمس، قال: «هل تعلم أين ذهبت الشمس؟».
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: «إنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن ربها أن تشرق مرة أخرى، فيأذن الله لها، وإنه يوشك أن تأتي أن تسجد فلا يؤذن لها، ويُقال لها: عودي من حيث شئتي، فذلك طولع الشمس من مغربها».
هذا الحديث في صحيح البخاري، يأتي البعض يقول: لا والله، عقلي ما يقبله.
عقل مَن؟! ما العقل الذي سنحتكم إليه؟!
وهذا ما كان يقوله شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في درء تعارض العقل والنقل حينما يقولون: نريد أن العقول تقبل هذا الأمر، ومع أنه لا يوجد شيء في القرآن ولا في صحيح السنة إلا وهو يوافق العقول، لكن مَن شرح الله -عز وجل- صدره استوعب هذا.
إذن الإيمان الأول: الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء.
الثاني: الإيمان بان الله -عز وجل- كتب كل شيء في اللوح المحفوظ.
الإيمان الثالث: الإيمان بمشيئة الله -عز وجل- النافذة.
كل ما في هذا الكون فهو بمشيئة الله، لا يكون شيء إلا والله -عز وجل- شاءه، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [البقرة: 253].
وقال -عز وجل: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: 137].
فكل ما في هذا الكون لا يكون إلأا بمشيئة الله، حتى أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئة الله -جل وعلا.
الرابع والأخير: هو الإيمان بالخلق.
الإيمان بأن الله خلق كل شيء، فيؤمن المسلم بأن الله -عز وجل- خالق السماء، وخالق الأرض، وخالق الناس، وخالق أفعالهم، فلا عمل للإنسان إلا والله -عز وجل- خلقه، لأن الله هو الذي خلق الإنسان، وهذا من الأمور التي بيَّنها نبينا -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «إن الله خالق كل صانع وصنعته».
هذه الأركان الأربعة جمعها الشاعر في بيت من الشعر من أجل أن يسهل حفظها، فقال:
"علم كتابة مولانا مشيئته".
علم: هذا الركن الأول:
كتابة: هذا الثاني.
علم كتابة مولانا مشيئته ** خلقه وهو إيجاد وتكوين
العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق؛ هذه هي أركان الإيمان بقضاء الله وقدره.
علم كتابة مولانا مشيئته ** خلقه وهو إيجاد وتكوين
هذه هي أركان الإيمان الستة التي وردت في حديث جبريل -عليه السلام.
هناك تفاصيل كثيرة تتعلق بالمشيئة، المشيئة الكونية، والمشيئة القدرة، وهناك مسائل كثيرة تتعلق بالاستدلال بالقدر في المصائب وفي المعائب وغيرها من المسائل، لكن بعض الأمور قد لا يناسب طرحها بشكل عام، لكن هذه هي أهم المسائل وأبرز المسائل التي يبحثها العلماء في هذا المجال.
هناك كتاب أنصحكم جميعًا به -أو سلسلة من الكتب- تتحدثت عن هذه القضايا بالتفصيل، وهي سلسلة العقيدة للشيخ عمر الأشقر، وهو من علماء الأردن، له ستة كتب: كتاب الإيمان بالله، وكتاب القضاء والقدر، وغيرها من الكتب.
أيضًا من الكتب المفيدة في القضاء والقدر: كتاب لأخينا إيراهيم الحمد، له كتاب بعنوان القضاء والقدر.
كذلك كتاب رسالة ماجستير للدكتور عبد الرحمن المحمود، تحدث فيها عن عقيدة أهل السنة في القضاء والقدر.
وعمومًا يجمع هذه جميعًا العودة الصادقة لكتاب الله، وإلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
غدًا -إن شاء الله- نكمل بقية حديثنا في حديث جبريل -عليه السلام.
نختم هذا اللقاء بالدعاء، فنقول: اللهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم يا رب الأرباب، يا مسبب الأسباب، اللهم يا خالق خلقه من تراب، اللهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آمنَّا في أوطاننا، اللهم أسعد أرواحنا، وأنر قلوبنا بكتابك، وبطاعتك وطاعة رسولك -صلى الله عليه وسلم- اللهم أسعد صدورنا وأقر أعيننا برؤية عزِّ الإسلام وانتصار المسلمين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم عونًا ونصيرًا، اللهم إن بإخواننا في سوريا من الضر واللأواء ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم فرج همهم، اللهم نفِّس كربهم، اللهم كن لهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم سدِّد رميهم، اللهم عليك بعدوهم، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا عسيرًا إلا يسَّرته، ولا مريضًا إلا شفيته.
اللهم يسر أمورنا، وفرج كروبنا، واشرح صدورنا، اللهم اجعلنا ممن يرفع لا إله إلا الله، وارفعنا بها، واجعلها آخر كلامنا من الدنيا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا جميعها يا ذا الجلال والإكرام، اللهم كما جمعتنا في هذا المكان المبارك اللهم اجمعنا في دار كرامتك، وفي مستقر رحمتك يا ذا الجلال والإكرام.
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات 180-182].

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"