بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 8 أبريل 2010

نبذ من "اعلام الموقعين"/11

صل الحكمة في تفضيل بعض الأزمنة والأمكنة على بعض
وأما قوله وخص بعض الأزمنة والأمكنة وفضل بعضها على بعض مع تساويها إلخ فالمقدمة الأولى صادقة والثانية كاذبة وما فضل بعضها على بعض إلا لخصائص قامت بها اقتضت التخصيص وما خص سبحانه شيئا إلا بمخصص ولكنه قد يكون ظاهرا وقد يكون خفيا واشتراك الأزمنة والأمكنة في مسمى الزمان والمكان كاشتراك الحيوان في مسمى الحيوانية والإنسان في مسمى الإنسانية بل وسائر الأجناس في المعنى الذي يعمها وذلك لا يوجب استواءها في أنفسها والمختلفات تشترك في أمور كثيرة والمتفقات تتباين في أمور كثيرة والله سبحانه أحكم وأعلم من أن يفضل مثلا على مثل من كل وجه بلا صفة تقتضي ترجيحه وهذا مستحيل في خلقه وأمره كما أنه سبحانه لا يفرق بين المتماثلين من كل وجه فحكمته وعدله تأبى هذا وهذا وقد نزه سبحانه نفسه عمن يظن به ذلك وأنكر عليه زعمه الباطل وجعله حكما منكرا ولو جاز عليه ما يقول هؤلاء لبطلت حججه وأدلته فإن مبناها على أن حكم الشيء حكم مثله وعلى ألا يسوي بين المختلفين فلا يجعل الأبرار كالفجار ولا المؤمنين كالكفار ولا من أطاعه كمن عصاه ولا العالم كالجاهل وعلى هذا مبنى الجزاء فهو حكمه الكوني والديني وجزاؤه الذي هو ثوابه وعقابه وبذلك حصل الاعتبار ولأجله ضربت الأمثال وقصت علينا أخبار الأنبياء وأممهم ويكفي في بطلان هذا المذهب المتروك الذي هو من أفسد مذاهب العالم أنه يتضمن لمساواة ذات جبريل لذات إبليس وذات الأنبياء لذات أعدائهم ومكان البيت العتيق بمكان الحشوش وبيوت الشياطين وأنه لا فرق بين هذه الذوات في الحقيقة وإنما خصت هذه الذات عن هذه الذات بما خصت به لمحض المشيئة المرجحة مثلا على مثل بلا موجب بل قالوا ذلك في جميع

الأجسام وأنها متماثلة فجسم المسك عندهم مساو لجسم البول والعذرة وإنما امتاز عنه بصفة عرضية وجسم الثلج عندهم مساو لجسم النار في الحقيقة وهذا مما خرجوا به عن صريح المعقول وكابروا فيه الحس وخالفهم فيه جمهور العقلاء من أهل الملل والنحل وما سوى الله بين جسم السماء وجسم الأرض ولا بين جسم النار وجسم الماء ولا بين جسم الهواء وجسم الحجر وليس مع المنازعين في ذلك إلا الاشتراك في أمر عام وهو قبول الانقسام وقيام الأبعاد الثلاثة والإشارة الحسية ونحو ذلك مما لا يوجب التشابه فضلا عن التماثل وبالله التوفيق
فصل الجمع بين المختلفات في الحكم لاشتراكها في سببه
وأما قوله إن الشريعة جمعت بين المختلفات كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال فغير منكر في العقول والفطر والشرائع والعادات اشتراك المختلفات في حكم واحد باعتبار اشتراكها في سبب ذلك الحكم فإنه لا مانع من اشتراكها في أمر يكون علة لحكم من الأحكام بل هذا هو الواقع وعلى هذا فالخطأ والعمد اشتركا في الإتلاف الذي هو علة للضمان وإن افترقا في علة الإثم وربط الضمان بالإتلاف من باب ربط الأحكام بأسبابها وهو مقتضى العدل الذي لا تتم المصلحة إلا به كما أوجب على القاتل خطأ دية القتيل ولذلك لا يعتمد التكليف فيضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح الأمة إلا بها فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتلف بعضهم أموال بعض وادعى الخطأ وعدم القصد وهذا بخلاف أحكام الإثم والعقوبات فإنها تابعة للمخالفة وكسب العبد ومعصيته ففرقت الشريعة فيها بين العامد والمخطيء وكذلك البر والحنث في الأيمان فإنه نظير الطاعة والعصيان في الأمر والنهي فيفترق الحال فيه بين العامد والمخطىء

وأما جمعها بين المكلف وغيره في الزكاة فهذه مسألة نزاع واجتهاد وليس عن صاحب الشرع نص بالتسوية ولا بعدمها والذين سووا بينهما رأوا ذلك من حقوق الأموال التي جعل الله سبحانه الأموال سببا في ثبوتها وهي حق للفقراء في نفس هذا المال سواء كان مالكه مكلفا أو غير مكلف كما جعل في ماله حق الإنفاق على بهائمه ورقيقه وأقاربه فكذلك جعل في ماله حقا للفقراء والمساكين
فصل الفارة كالهرة قي الطهارة
وأما جمعها بين الهرة والفأرة في الطهارة فهذا حق وأي تفاوت في ذلك وكان السائل رأى أن العداوة التي بينهما توجب اختلافهما في الحكم كالعدواوة التي بين الشاة والذئب وهذا جهل منه فإن هذا أمر لا تعلق له بطهارة ولا نجاسة ولا حل ولا حرمة والذي جاءت به الشريعة من ذلك في غاية الحكمة والمصلحة فإنها لو جاءت بنجاستهما لكان فيه أعظم حرج ومشقة على الأمة لكثرة طوفانهما على الناس ليلا ونهارا وعلى فرشهم وثيابهم وأطعمتهم كما أشار إليه ص - بقوله في الهرة إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات
فصل ذبيحة غير الكتابي مثل الميتة
وأما جمعها بين الميتة وذبيحة غير الكتابي في التحريم وبين ميتة الصيد وذبيحة المحرم له فأي تفاوت في ذلك وكأن السائل رأي أن الدم لما احتقن في الميتة كان سببا لتحريمها وما ذبحه المحرم أو الكافر غير الكتابي لم يحتقن دمه فلا وجه لتحريمه وهذا غلط وجهل فإن علة التحريم لو انحصرت في احتقان الدم لكان للسؤال وجه فأما إذا تعددت علل التحريم لم يلزم من انتفاء

بعضها انتفاء الحكم إذا خلفه علة أخرى وهذا أمر مطرد في الأسباب والعلل العقلية فما الذي ينكر منه في الشرع
تصرف الشارع في الأسماء اللغوية
فإن قيل أليس قد سوت الشريعة بينهما في كونهما ميتة وقد اختلفا في سبب الموت فتضمنت جمعها بين مختلفين وتفريقها بين متماثلين فإن الذبح واحد صورة وحسا وحقيقة فجعلت بعض صوره مخرجا للحيوان عن كونه ميتة وبعض صوره موجبا لكونه ميتة من غير فرق
قيل الشريعة لم تسو بينهما في اسم الميتة لغة وإنما سوت بينهما في الإسم الشرعي فصار اسم الميتة في الشرع أعم منه في اللغة والشارع يتصرف في الأسماء اللغوية بالنقل تارة وبالتعميم تارة وبالتخصيص تارة وهكذا يفعل أهل العر ف فهذا ليس بمنكر شرعا ولا عرفا وأما الجمع بينهما في التحريم فلأن الله سبحانه حرم علينا الخبائث والخبث الموجب للتحريم قد يظهر لنا وقد يخفى فما كان ظاهرا لم ينصب عليه الشارع علامة غير وصفه وما كان خفيا نصب عليه علامة تدل على خبثه فاحتقان الدم في الميتة سبب ظاهر وأما ذبيحة المجوسي والمرتد وتارك التسمية ومن أهل بذبيحته لغير الله فنفس ذبيحة هؤلاء أكسبت المذبوح خبثا أوجب تحريمه ولا ينكر أن يكون اسم الأوثان والكواكب والجن على الذبيحة يكسبها خبثا وذكر اسم الله وحده يكسبها طيبا إلا من قل نصيبه من حقائق العلم والإيمان وذوق الشريعة وقد جعل الله سبحانه ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح فسقا وهو الخبيث ولا ريب أن ذكر اسم الله على الذبيحة يطيبها ويطرد الشيطان عن الذابح والمذبوح فإذا أخل بذكر اسمه لابس الشيطان الذابح والمذبوح فأثر ذلك خبثا في الحيوان والشيطان يجري في مجاري الدم من الحيوان والدم مركبه وحامله وهو أخبث الخبائث فإذا ذكر الذابح اسم الله خرج الشيطان مع الدم فطابت الذبيحة فإذا لم يذكر اسم الله لم يخرج الخبث وأما إذا ذكر اسم عدوه من الشياطين والأوثان فإن ذلك يكسب الذبيحة خبثا آخر

يوضحه أن الذبيحة تجري مجرى العبادة ولهذا يقرن الله سبحانه بينهما كقوله فصل لربك وانحر وقوله قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين وقال تعالى والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا إسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم فأخبر أنه إنما سخرها لمن يذكر اسمه عليها وأنه إنما يناله التقوى وهو التقرب إليه بها وذكر اسمه عليها فإذا لم يذكر اسمه عليها كان ممنوعا من أكلها وكانت مكروهة لله فأكسبتها كراهيته لها حيث لم يذكر عليها اسمه أو ذكر عليها اسم غيره وصف الخبث فكانت بمنزلة الميتة وإذا كان هذا في متروك التسمية وما ذكر عليه اسم غير الله فما ذبحه عدوه المشرك به الذي هو من أخبث البرية أولى بالتحريم فإن فعل الذابح وقصده وخبثه لا ينكر أن يؤثر في المذبوح كما أن خبث الناكح ووصفه وقصده يؤثر في المرأة المنكوحة وهذه أمور إنما يصدق بها من أشرق فيه نور الشريعة وضياؤها وباشر قلبه بشاشة حكمها وما اشتملت عليه من المصالح في القلوب والأبدان وتلقاها صافية من مشكاة النبوة وأحكم العقد بينها وبين الأسماء والصفات التي لم يطمس نور حقائقها ظلمة التأويل والتحريف
فصل الجمع بين الماء والتراب في التطهير
وأما جمعها بين الماء والتراب في التطهير فلله ما أحسنه من جمع وألطفه وألصقه بالعقول السليمة والفطر المستقيمة وقد عقد الله سبحانه الإخاء بين الماء والتراب قدرا وشرعا فجمعهما الله عن
تعالى وخلق منهما آدم وذريته فكانا أبوين اثنين لأبوينا وأولادهما وجعل منهما حياة كل حيوان وأخرج منهما أقوات الدواب والناس والأنعام وكانا أعم الأشياء وجودا وأسهلها تناولا

وكان تعفير الوجه في التراب لله من أحب الأشياء إليه ولما كان عقد هذه الأخوة بينهما قدرا أحكم عقد وأقواه كان عقد الأخوة بينهما شرعا أحسن عقد وأصحه فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم
فصل شرح الباقي من كتاب أمير لمؤمنين عمر
فهذا ما يتعلق بقول أمير المؤمنين
رضي الله عنه واعرف الأشباه والنظائر وفي لفظ واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فلنرجع إلى شرح باقي كتابه
ثم قال وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عن الخصومة أوالخصوم شك أبو عبيد فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر
هذا الكلام يتضمن أمرين
التحذير من الغضب
أحدهما التحذير مما يحول بين الحاكم وبين كمال معرفته بالحق وتجريد قصده له فإنه لايكون خير الأقسام الثلاثة إلاباجتماع هذين الأمرين فيه والغضب والقلق والضجر مضاد لهما فإن الغضب غول العقل يغتاله كما تغتاله الخمر ولهذا نهى النبي ص - أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان والغضب نوع من الغلق والإغلاق الذي يغلق على صاحبه باب حسن التصور والقصد وقد نص أحمد على ذلك في رواية حنبل وترجم عليه أبو بكر في كتابه الشافي وزاد المسافر وعقد له بابا فقال في كتاب الزاد باب النية في الطلاق والإغلاق قال أبو عبد الله في رواية حنبل عن عائشة سمعت رسول الله ص - يقول لا طلاق ولا عتاق في إغلاق فهذا الغضب

وأوصى بعض العلماء لولى أمر فقال إياك والغلق والضجر فإن صاحب الغلق لا يقدم عليه صاحب حق وصاحب الضجر لا يصبر على حق
التحريض على تنفيذ الحق والصبر عليه
والأمر الثاني التحريض على تنفيذ الحق والصبر عليه وجعل الرضا بتنفيذه في موضع الغضب والصبر في موضع القلق والضجر والتحلى به واحتساب ثوابه في موضع التأذي فإن هذا دواء ذلك الداء الذي هو من لوازم الطبيعة البشرية وضعفها فما لم يصادفه هذا الدواء فلا سبيل إلى زواله هذا مع ما في التنكر للخصوم من إضعاف نفوسهم وكسر قلوبهم وإخراس ألسنتهم عن التكلم بحججهم خشية معرة التنكر ولا سيما أن يتنكر لإحد الخصمين دون الآخر فإن ذلك الداء العضال
العبودية نوعان عامة وخاصة
وقوله فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر هذا عبودية الحكام وولاة الأمر التي تراد منهم ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها فعلى العالم من عبوديته نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره وعلى الحاكم من عبوديه إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي وعلى الغني من عبوديه أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما
وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يوما في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقالت له امرأة هذا واجب قد وضع عنا فقال هبي أنه قد وضع عنكن سلاح اليد واللسان فلم يوضع عنكن سلاح القلب فقالت صدقت جزاك الله خيرا
وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع وعطلوا هذه العبوديات فلم يحدثوا

قلوبهم بالقيام بها وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينا فإن الدين هو القيام لله بما أمر به فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجها ذكرها شيخنا رحمه الله في بعض تصانيفه ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله ص - وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا والله المستعان وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسول الله ص - يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين وخيارهم المتحزن المتلمظ ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون وهو موت القلوب فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل
وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرا أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا فقال يا رب كيف وفيهم فلان العابد فقال به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه في يوما قط
وذكر أبو عمر في كتاب التمهيد أن الله سبحانه أوحى إلى نبي من أنبيائه أن قل لفلان الزاهد أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة وأما انقطاعك إلي فقد اكتسبت به العز ولكن ماذا عملت فيما لي عليك فقال يا رب وأي شيء لك علي قال هلى واليت في وليا أو عاديت في عدوا

فصل عاقبة الإخلاص لله
قوله فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس فيه شانه الله هذا شقيق كلام النبوة وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المحدث الملهم وهاتان الكلمتان من كنوز العلم ومن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره وانتفع غاية الانتفاع فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله والثانية أصل الشر وفصله فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالى وكان قصده وهمه علمه لوجهه سبحانه كان الله معه فإنه سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق والله سبحانه لا غالب له فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء فإن كان الله مع العبد فمن يخاف وإن لم يكن معه فمن يرجو وبمن يثق ومن ينصره من بعده فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولا وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها وجعل له فرجا مخرجا وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة أو في اثنين منها أو في واحد فمن كان قيامه في باطل لم ينصر وإن نصر نصرا عارضا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولا والقيام في الحق وسيلة إليه فهذا لم تضمن له النصرة فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين وإن نصر فبحسب ما معه من الحق فإن الله لا ينصر إلا الحق وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر والصبر منصور أبدا فإن كان صاحبه محقا كان منصورا له العاقبة وإن كان مبطلا

لم يكن له عاقبة وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعينا به متوكلا عليه مفوضا إليه بريا من الحول والقوة إلا به فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك ونكتة المسألة أن تجريد التوحيدين في أمر الله لا يقوم له شيء البتة وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء
قال الإمام أحمد حدثنا داود أنبأنا شعبة عن واقد بن محمد بن زيد عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت من أسخط الناس برضاء الله
تعالى كفاه الله الناس ومن أرضى الناس بسخط الله وكله إلى الناس
والعبد إذا عزم على فعل أمر فعليه أن يعلم أولا هل هو طاعة لله أم لا فإن لم يكن طاعة فلا يفعله إلا أن يكون مباحا يستعين به على الطاعة وحينئذ يصير طاعة فإذا بان له أنه طاعة فلا يقدم عليه حتى ينظر هل هو معان عليه أم لا فإن لم يكن معانا عليه فلا يقدم عليه فيذل نفسه وإن كان معانا عليه بقي عليه نظر آخر وهو أن يأتيه من بابه فإن أتاه من غير بابه أضاعه أو فرط فيه أو أفسد منه شيئا فهذه الأمور الثلاثة أصل سعادة العبد وفلاحه وهي معنى قول العبد إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم فأسعد الخلق أهل العبادة والاستعانة والهداية إلى المطلوب وأشقاهم من عدم الأمور الثلاثة ومنهم من يكون له نصيب من إياك نعبد ونصيبه من إياك نستعين معدوم أو ضعيف فهذا مخذول مهين محزون ومنهم من يكون نصيبه من إياك نستعين قويا ونصيبه من إياك نعبد ضعيفا أو مفقودا فهذا له نفوذ وتسلط وقوة ولكن لا عاقبة له بل عاقبته أسوأ عاقبة ومنهم من يكون له نصيب من إياك نعبد وإياك نستعين ولكن نصيبه من الهداية إلى المقصود ضعيف جدا كحال كثير من العباد

والزهاد الذين قل علمهم بحقائق ما بعث الله به رسوله ص - من الهدى ودين الحق
وقول عمر
رضي الله عنه فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه إشارة إلى أنه لا يكفي قيامه في الحق لله إذا كان على غيره حتى يكون أول قائم به على نفسه فحينئذ يقبل قيامه به على غيره وإلا فكيف يقبل الحق ممن أهمل القيام به على نفسه
وخطب عمر بن الخطاب يوما وعليه ثوبان فقال أيها الناس ألا تسمعون فقال سلمان لا نسمع فقال عمر ولم يا أبا عبد الله قال إنك قسمت علينا ثوبا ثوبا وعليك ثوبان فقال لا تعجل يا عبد الله يا عبد الله فلم يجبه أحد فقال يا عبد الله بن عمر فقال لبيك يا أمير المؤمنين فقال نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك قال نعم اللهم نعم فقال سلمان أما الآن فقل نسمع
فصل عقوبة المتزين بما ليس فيه
وأما قوله ومن تزين بما ليس فيه شانه الله لما كان المتزين بما ليس فيه ضد المخلص فإنه يظهر للناس أمرا وهو في الباطن بخلافه عامله الله بنقيض قصده فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعا وقدرا ولما كان المخلص يعجل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابة في قلوب الناس عجل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته أن شانه الله بين الناس لأنه شان باطنه عند الله وهذا موجب أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته في قضائه وشرعه
هذا ولما كان من تزين للناس بما ليس فيه من الخشوع والدين والنسك والعلم وغير ذلك قد نصب نفسه للوازم هذه الأشياء ومقتضايتها فلا بد أن تطلب منه فإن لم توجد عنده افتضح فيشينه ذلك من حيث ظن أنه يزينه وأيضا

فإنه أخفى عن الناس ما أظهر لله خلافه فأظهر الله من عيوبه للناس ما أخفاه عنهم جزءا له من جنس عمله وكان بعض الصحابة يقول أعوذ بالله من خشوع النفاق قالوا وما خشوع النفاق قال أن ترى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع وأساس النفاق وأصله هو التزين للناس بما ليس في الباطن من الإيمان فعلم أن هاتين الكلمتين من كلام أمير المؤمنين مشتقة من كلام النبوة وهما من أنفع الكلام وأشفاه للسقام
فصل المقبول من أعمال العباد وغير المقبول
وقوله فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصا والأعمال أربعة واحد مقبول وثلاثة مردودة فالمقبول ما كان لله خالصا وللسنة موافقا والمردود ما فقد منه الوصفان أو أحدهما وذلك أن العمل المقبول هو ما أحبه الله ورضيه وهو سبحانه إنما يحب ما أمر به وما عمل لوجهه وما عدا ذلك من الأعمال فإنه لا يحبها بل يمقتها ويمقت أهلها قال تعالى الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا
قال الفضيل بن عياض هو اخلص العمل وأصوبه فسئل عن معنى ذلك فقال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا فالخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ثم قرأ قوله فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا
فإن قيل فقد بان بهذا أن العمل لغير الله مردود غير مقبول والعمل لله وحده مقبول فبقي قسم آخر وهو أن يعمل العمل لله ولغيره فلا يكون لله محضا ولا للناس محضا فما حكم هذا القسم هل يبطل العمل كله أم يبطل ما كان لغير الله ويصح ما كان لله

قيل هذا القسم تحته أنواع ثلاث
أحدها ان يكون الباعث الأول على العمل هو الإخلاص ثم يعرض له الرياء وإرادة غير الله في إثنائه فهذا المعول فيه على الباعث الأول ما لم يفسخه بإرادة جازمة لغير الله فيكون حكمه حكم قطع النية في أثناء العبادة وفسخها أعنى قطع ترك استصحاب حكمها
الثاني عكس هذا وهو أن يكون الباعث الأول لغير الله ثم يعرض له قلب النية لله فهذا لا يحتسب له بما مضى من العمل ويحتسب له من حين قلب نيته ثم إن كانت العبادة لا يصح آخرها إلا بصحة أولها وجبت الإعادة كالصلاة وإلا لم تجب كمن أحرم لغير الله ثم قلب نيته لله عند الوقوف والطواف
الثالث أن يبتدئها مريدا بها الله والناس فيريد أداء فرضه والجزاء والشكور من الناس وهذا كمن يصلي بالأجرة فهو لو لم يأخذ الأجرة صلى ولكنه يصلي لله وللأجرة وكمن يحج ليسقط الفرض عنه ويقال فلان حج أو يعطي الزكاة كذلك فهذا لا يقبل منه العمل وإن كانت النية شرطا في سقوط الفرض وجبت عليه الإعادة فإن حقيقة الإخلاص التي هي شرط في صحة العمل والثواب عليه لم توجد والحكم المعلق بالشرط عدم عند عدمه فإن الإخلاص هو تجريد القصد طاعة للمعبود ولم يؤمر إلا بهذا وإذا كان هذا هو المأمور به فلم يأت به بقي في عهدة الأمر وقد دلت السنة الصريحة على ذلك كما في قوله ص - يقول الله
تعالى يوم القيامه أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فهو كله للذي أشرك به وهذا هو معنى قوله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا
فصل جزاء المخلص في دنياه وآخرته
وقوله فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته يريد به تعظيم

جزاء المخلص وأنه رزق عاجل إما للقلب أو للبدن أو لهما ورحمته مدخرة في خزائنه فإن الله سبحانه يجزي العبد على ما عمل من خير في الدنيا ولا بد ثم في الآخرة يوفيه أجره كما قال تعالى وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فما يحصل في الدنيا من الجزاء على الأعمال الصالحة ليس جزاء توفية وإن كان نوعا آخر كما قال تعالى عن إبراهيم وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين وهذا نظير قوله تعالى وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين فأخبر سبحانه أنه أتى خليله أجره في الدنيا من النعم التي أنعم بها عليه في نفسه وقلبه وولده وماله وحياته الطيبة ولكن ليس ذلك أجر توفية وقد دل القرآن في غير موضع على أن لكل من عمل خيرا أجرين عمله في الدنيا ويكمل له أجره في الآخرة كقوله تعالى للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين وفي الآية الأخرى والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون وقال في هذه السورة من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون وقال فيها عن خليله وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين فقد تكرر هذا المعنى في هذه السورة دون غيرها في أربعة مواضع لسر بديع فإنها سورة النعم التي عدد الله سبحانه فيها أصول النعم وفروعها فعرف عبادة أن لهم عنده في الآخرة من النعم أضعاف هذه بما لا يدرك تفاوته وأن هذه من بعض نعمه العاجلة عليهم وأنهم إن أطاعوه زادهم إلى هذه النعم نعما أخرى ثم في الآخرة يوفيهم أجور أعمالهم تمام التوفية وقال تعالى وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله فلهذا قال أمير المؤمنين فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام
فهذا بعض ما يتعلق بكتاب أمير المؤمنين
رضي الله عنه من الحكم والفوائد والحمد لله رب العالمين

ذكر تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وذكر الإجماع على ذلك
قد تقدم قوله تعالى وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وأن ذلك يتناول القول على الله بغير علم في أسمائه وصفاته وشرعه ودينه
وتقدم حديث أبي هريرة المرفوع من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه
لا ضير على من لا يعلم ان يقول الله أعلم
وروى الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال سمع النبي ص - قوما يتمارون في القرآن فقال إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا ولا يكذب بعضه بعضا فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه فأمر من جهل شيئا من كتاب الله أن يكله إلى عالمه ولا يتكلف القول بما لا يعلمه
وروى مالك بن مغول عن أبي حصين عن مجاهد عن عائشة أنه لما نزل عذرها قبل أبو بكر رأسها قالت فقلت ألا عذرتني عند النبي ص - فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم
وروى أيوب عن ابن أبي مليكة قال سئل أبو بكر الصديق
رضي الله عنه عن آية فقال أي أرض تقلني وأي وسماء تظلني وأين أذهب وكيف أصنع إذا أنا قالت في كتاب الله بغير ما أريد الله بها
وذكر البيهقي من حديث مسلم البطين عن عزرة التميمي قال قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة وابردها على كبدي ثلاث مرات قالوا يا أمير المؤنين وما ذاك قال أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول الله أعلم

وذكر أيضا عن علي رضي الله عنه قال خمس إذا سافر فيهن رجل إلى اليمن كن فيه عوضا من سفره لا يخشى عبد إلا ربه ولا يخاف إلا ذنبه ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم ولا يستحي من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم والصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد
وقال الزهري عن خالد بن أسلم وهو أخو زيد بن أسلم خرجنا مع ابن عمر نمشي فلحقنا أعرابي فقال أنت عبد الله بن عمر قال نعم قال سألت عنك فدللت عليك فأخبرني أترث العمة قال لا أدري قال أنت لا تدري قال نعم اذهب إلى العلماء بالمدينة فاسألهم فلما أدبر قبل يديه وقال نعما قال أبو عبد الرحمن سئل عما لا يدري فقال لا أدري
وقال ابن مسعود من كان عنده علم فليقل به ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم فإن الله قال لنبيه قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين
وصح عن ابن مسعود وابن عباس من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون
وقال ابن شبرمة سمعت الشعبي إذا سئل عن مسألة شديدة قال رب ذات وبر لا تنقاد ولا تنساق ولو سئل عنها الصحابة لعضلت بهم
وقال أبو حصين الأسدي إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر
وقال ابن سيرين لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم
وقال القاسم من إكرام الرجل نفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه وقال يا أهل العراق والله لا نعلم كثيرا مما تسألوننا عنه ولأن يعيش الرجل جاهلا إلا أن يعلم ما فرض الله عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم

وقال مالك من فقه العالم أن يقول لا أعلم فإنه عسى أن يتهيأ له الخير وقال سمعت بن هرمز يقول ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه
وقال الشعبي لا أدري نصف العلم
وقال ابن جبير ويل لمن يقول لما لا يعلم إني أعلم
وقال الشافعي سمعت مالكا يقول سمعت ابن عجلان يقول إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتلة وذكره ابن عجلان عن ابن عباس
وقال عبد الرحمن بن مهدي جاء رجل إلى مالك فسأله عن شيء فمكث أياما ما يجيبه فقال يا أبا عبد الله إني أريد الخروج فأطرق طويلا ورفع رأسه فقال ما شاء الله يا هذا إني أتكلم فيما أحتسب فيه الخير ولست أحسن مسألتك هذه
وقال ابن وهب سمعت مالكا يقول العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق قال وكان يقال التأني من الله والعجلة من الشيطان وهذا الكلام قد رواه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس أن رسول الله ص - قال التأني من الله والعجلة من الشيطان وإسناده جيد
وقال ابن المنكدر العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم وقال ابن وهب قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب في المسائل يا عبد الله ما عملت فقل وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء
وقال مالك حدثني ربيعة قال قال لي أبو خلدة وكان نعم القاضي يا ربيعة أراك تفتي الناس فإذا جاءك الرجل يسألك فلا يكن همك أن تتخلص مما سألك عنه
وكان ابن المسيب لا يكاد يفتي إلا قال اللهم سلمني وسلم مني

وقال مالك ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني هل تراني موضعا لذلك سألت ربيعة وسألت يحيى بن سعيد فأمراني بذلك فقيل له يا أبا عبد الله فلو نهوك قال كنت أنتهي
وقال ابن عباس لمولاه عكرمة اذهب فأفت الناس وأنا لك عون فمن سألك عما يعنيه فأفته ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس
تكرير السؤال وفوائده
وكان أيوب إذا سأله السائل قال له أعد فإن أعاد السؤال كما سأله عنه أولا أجابه وإلا لم يجبه وهذا من فهمه وفطنته
رحمه الله وفي ذلك فوائد عديدة منها أن المسألة تزداد وضوحا وبيانا بتفهم السؤال ومنها أن السائل لعله أهمل فيها أمرا يتغير به الحكم فإذا أعادها ربما بينه له ومنها أن المسؤل قد يكون ذاهلا عن السؤال أولا ثم يحضر ذهنه بعد ذلك ومنها أنه ربما بان له تعنت السائل وأنه وضع المسألة فإذا غير السؤال وزاد فيه ونقص فربما ظهر له أن المسألة لا حقيقة لها وأنها من الأغلوطات أو غير الواقعات التي لا يجب الجواب عنها فإن الجواب بالظن إنما يجوز عند الضرورة فإن وقعت المسألة صارت حال ضرورة فيكون التوفيق إلى الصواب أقرب والله أعلم
ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به وإلى ما يجب المصير إليه وإلى ما يسوغ من غير إيجاب
فأما النوع الأول فهو ثلاثة أنواع أحدها الإعراض عما أنزل الله وعدم الالفتات إليه اكتفاء بتقليد الآباء الثاني تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله الثالث التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول

المقلد والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قلد قبل تمكنه من العلم والحجة وهذا قلد بعد ظهور الحجة له فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله
وقد ذم الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه كما في قوله تعالى وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباؤهم أو لو كان آباؤنا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون وقال تعالى وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إن وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباؤكم وقال تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا وهذا في القرآن كثير يذم فيه من أعرض عما أنزله وقنع بتقليد الآباء
فإن قيل إنما ذم من قلد الكفار وآباءه الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ولم يذم من قلد العلماء المهتدين بل قد أمر بسؤال أهل الذكر وهم أهل العلم وذلك تقليد لهم فقال تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وهذا أمر لمن لا يعلم بتقليد من يعلم
فالجواب أنه سبحانه ذم من أعرض عما أنزله إلى تقليد الآباء وهذا القدر من التقليد هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذمه وتحريمه وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه فقلد فيه من هو أعلم منه فهذا محمود غير مذموم ومأجور غير مأزور كما سيأتي بيانه عند ذكر التقليد الواجب والسائغ إن شاء الله
وقال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم كما سيأتي وقال تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا

على الله ما لا تعلمون وقال تعالى اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء فأمر باتباع المنزل خاصة والمقلد ليس له علم أن هذا هو المنزل وإن كان قد تبينت له الدلالة في خلاف قول من قلده فقد علم أن تقليده في خلافه اتباع لغير المنزل وقال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا فمنعنا سبحانه من الرد إلى غيره وغير رسوله وهذا يبطل التقليد وقال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلا بعينه مختارا على كلام الله وكلام رسوله وكلام سائر الأمة يقدمه على ذلك كله ويعرض كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة على قوله فما وافقه منها قبله لموافقته لقوله وما خلفه منها تلطف في رده وتطلب له وجوه الحيل فإن لم تكن هذه وليجة فلا ندري ما الوليجة وقال تعالى يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا وهذا نص في بطلان التقليد
فإن قيل إنما فيه ذم من قلد من أضله السبيل أما من هداه السبيل فأين ذم الله تقليده
قيل جواب هذا السؤال في نفس السؤال فإنه لا يكون العبد مهتديا حتى يتبع ما أنزل الله على رسوله فهذا المقلد إن كان يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو مهتد وليس بمقلد وإن كان لم يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو جاهل ضال بإقراره على نفسه فمن أين يعرف أنه على هدى في تقليده وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب وأنهم إذا كانوا إنما يقلدون أهل الهدى فهم في تقليدهم على هدى
فإن قيل فأنتم تقرون أن الأئمة المقلدين في الدين على هدى فمقلدوهم

على هدى قطعا لأنهم سالكون خلفهم
قيل سلوكهم خلفهم مبطل لتقليدهم لهم قطعا فإن طريقتهم كانت اتباع الحجة والنهي عن تقليدهم كما سنذكره عنهم إن شاء الله فمن ترك الحجة وارتكب ما نهوا عنه ونهى الله ورسوله عنه قبلهم فليس على طريقتهم وهو من المخالفين لهم وإنما يكون على طريقتهم من اتبع الحجة وانقاد للدليل ولم يتخذ رجلا بعينه سوى الرسول ص - يجعله مختارا على الكتاب والسنة يعرضهما على قوله وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتباعا وإيهامه وتلبيسه بل هو مخالف للاتباع وقد فرق الله ورسوله وأهل العلم بينهما كما فرقت الحقائق بينهما فإن الاتباع سلوك طريق المتبع والإتيان بمثل ما أتي به
الاتباع والتقليد
قال أبو عمر في الجامع باب فساد التقليد ونفيه والفرق بينه وبين الاتباع قال أبو عمر قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه فقال اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله روي عن حذيفة وغيره وقال لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم وقال عدي ابن حاتم أتيت رسول الله ص - وفي عنقي صليب فقال يا عدي ألق هذا الوثن من عنقك وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال فقلت يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا قال بلى أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل لكم فتحرمونه فقلت بلى قال فتلك عبادتهم
قلت الحديث في المسند والترمذي مطولا
وقال أبو البختري في قوله
تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية

وقال وكيع ثنا سفيان والأعمش جميعا عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي ثابت عن أبي البختري قال قيل لحذيفة في قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله أكانوا يعبدونهم فقال لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه
وقال تعالى وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه أباءكم فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء فقالوا إنا بما أرسلتم به كافرون وفي هؤلاء ومثلهم قال الله
تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وقال تعالى معاتبا لأهل الكفر وذاما لهم ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين وقال وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد كما لو قلد رجلا فكفر وقلد آخر فأذنب وقلد آخر في مسألة فأخطأ وجهها كان كل واحد ملموما على التقليد بغير حجة لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه وقال الله تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون
قال فإذا أبطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها وهي الكتاب والسنة وما كان في معناهما بدليل جامع ثم ساق من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله ص

يقول إني لا أخاف على أمتي من بعدي إلا من أعمال ثلاثة قالوا وما هي يا رسول الله قال أخاف عليهم زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع وبهذا الإسناد عن النبي ص - أنه قال تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله ص -
قلت والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبيان زلة العالم ليبينوا بذلك فساد التقليد وأن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم فلا يجوز قبول كل ما يقوله وينزل قوله منزلة قول المعصوم فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض وحرموه وذموا أهله وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه وفيما لم يزل فيه وليس لهم تمييز بين ذلك فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ويشرعون ما لم يشرع ولا بد لهم من ذلك إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه فالخطأ واقع منه ولا بد وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير هذا عن أبيه عن جده مرفوعا اتقوا زلة العالم وانتظروا فيئته
وذكر من حديث مسعود بن سعد عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله ص - أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم
ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها إذ لولا التقليد لم يخف من زلة العالم على غيره
فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين فإنه اتباع للخطأ على عمد ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه وكلاهما مفرط فيما أمر به وقال الشعبي قال عمر يفسد الزمان ثلاثة أئمة مضلون وجدال

المنافق بالقرآن والقرآن حق وزلة العالم وقد تقدم أن معاذا كان لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال حين يجلس الله حكم قسط هلك المرتابون الحديث وفيه وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق قلت لمعاذ ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق قال لي اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا
وذكر البيهقي من حديث حماد بن زيد عن المثنى بن سعيد عن أبي العالية قال قال ابن عباس ويل للأتباع من عثرات العالم قيل وكيف ذاك يا أبا العباس قال يقول العالم من قبل رأيه ثم يسمع الحديث عن النبي ص - فيدع ما كان عليه وفي لفظ فيلقى من هو أعلم برسول الله ص - منه فيخبره فيرجع ويقضي الأتباع بما حكم
وقال تميم الداري اتقوا زلة العالم فسأله عمر ما زلة العالم قال يزل بالناس فيؤخذ به فعسى أن يتوب العالم والناس يأخذون بقوله
وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال قال معاذ بن جبل يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال منافق بالقرآن فسكتوا فقال أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب وأما القرآن فله منار كمنارالطريق فلا يخفى على أحد فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه وما شككتم فكلوه إلى عالمه وأما الدنيا فمن جعل الله الغني في قلبه فقد أفلح ومن لا فليس بنافعته دنياه
وذكر أبو عمر من حديث حسين الجعفي عن زائدة عن عطاء بن السائب

عن أبي البختري قال قال سلمان كيف أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وأما مجادلة المنافق بالقرآن فإن للقرآن منار كمنار الطريق فلا يخفى على أحد فما عرفتم منه فخذوه وما لم تعرفوه فكلوه إلى الله وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم
قال أبو عمر وتشبه زلة العالم بانكسار السفينة لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير
قال أبو عمر وإذا صح وثبت ان العالم يزل ويخطىء لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه
وقال غير أبي عمر كما أن القضاة ثلاثة قاضيان في النار وواحد في الجنة فالمفتون ثلاثة ولا فرق بينهما إلا في كون القاضي يلزم بما أفتى به والمفتي لا يلزم به
وقال ابن وهب سمعت سفيان بن عيينة يحدث عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه كان يقول اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك قال ابن وهب فسألت سفيان عن الإمعة فحدثني عن أبي الزناد عن أبي الأحوص عن أبي مسعود قال كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيأتي معه بغيره وهو فيكم المحقب دينه الرجال
وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو والنصري ثنا أبو مسهر ثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله عن السائب بن يزيد ابن أخت نمر أنه سمع عمر ابن الخطاب
رضي الله عنه يقول إن حديثكم شر الحديث إن كلامكم شر الكلام فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل قال فلان وقال فلان ويترك كتاب الله من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله وإلا فليجلس فهذا قول عمر لأفضل قرن على وجه الأرض فكيف لو أدرك ما أصبحنا فيه من ترك

كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة لقول فلان وفلان فالله المستعان
حديث علي لكميل بن زياد
قال أبو عمر وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة لكميل ابن زياد النخعي وهو حديث مشهور عند أهل العلم يستغني عن الإسناد لشهرته عندهم ياكميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير والناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ثم قال آه إن ههنا علما وأشار بيده إلى صدره لو أصبت له حملة بل قدأصبت لقنا غير مأمون يستعمل آلة الدين للدنيا ويستظهر بحجج الله على كتابه وبنعمه على معاصيه أو حامل حق لا بصيرة في إحيائه ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق أن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر مشغوف بما لا يدري حقيقته فهو فتنة لمن فتن به وإن من الخير كله من عرفه الله دينه وكفى بالمرء جهلا لا يعرف دينه
النهي عن الإستنان بالرجال
وذكر أبو عمر عن أبي البختري عن علي قال إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة فإن كنتم لابد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء
وقال ابن مسعود لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لاأسوه في الشر
قال أبو عمر وقد ثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال يذهب

العلماء ثم يتخذ الناس رءوسا جهالا يسألون فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون قال أبو عمر وهذا كله نفي للتقليد وإبطال له لمن فهمه وهدى لرشده
ثم ذكر من طريق يونس بن عبد الأعلى ثنا سفيان بن عينية قال اضطجع ربيعة مقنعا رأسه وبكى فقيل له ما يبكيك قال رياء ظاهر وشهوة خفية والناس عند علمائهم كالصبيان في إمامهم ما نهوهم عنه انتهوا وما أمروا به ائتمروا
وقال عبد الله بن المعتمر لا فرق بين بهيمة تنقاد وإنسان يقلد
ثم ساق من حديث جامع بن وهب أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن بكر بن عمر عن عمروا بن أبي نعيمة عن مسلم بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله ص - قال من قال علي مالم أقل فليتبوأ مقعده من النار ومن استشار أخاه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه ومن أفتى بفتيا بغير ثبت فإنما إثمها على من أفتاه وقد تقدم هذا الحديث من رواية أبي داود وفيه دليل على تحريم الإفتاء بالتقليد فإنه إفتاء بغير ثبت فإن الثبت الحجة التي يثبت بها الحكم باتفاق الناس كما قال أبو عمر
الرد على من أجاز التقليد بحجج عقلية
وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بعدما تقدم فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني وأنا أورده قال يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فيما حكمت به فإن قال نعم بطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد وإن قال حكمت به بغير حجة قيل له فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة قال الله عزوجل هل عندكم من سلطان بهذا أي من حجة بهذا فإن قال أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كبيرا من العلماء وهولا يقول إلا بحجة خفيت علي قيل له إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك

كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله ص - وإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له كيف تجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما وهذا تناقض فإن قال لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك قيل له وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله ص - وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع والتابع من دونه في قياس قوله والأعلى للأدنى أبدا وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضا وفسادا
وقال أبو عمر قال أهل العلم والنظر حد العلم البتيين وإدراك المعلوم على ما هو به فمن بان له الشيء فقد علمه قالوا والمقلد لا علم له ولم يختلفوا في ذلك ومن ههنا والله أعلم قال البحتري ... عرف العالمون فضلك ... بالعلم وقال الجهال بالتقليد ... وأرى الناس مجمعين على ... فضلك من بين سيد ومسود ...
وقال أبو عبد الله بن خواز منداد البصري المالكي التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه وذلك ممنوع منه في الشريعة والاتباع ما ثبت عليه حجة
وقال في موضع آخر من كتابه كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله بدليل يوجب ذلك فأنت مقلده والتقليد في دين الله غير صحيح وكل من أوجب الدليل عليك اتباع قوله فأنت متبعه والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع

وقال وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عنه قال كان مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما وإذا سأله ابن دينار وذووه لا يجيبهم فتعرض له ابن دينار يوما فقال له يا أبا بكر لم تستحل مني ما لا يحل لك فقال له يا ابن أخي وما ذاك قال يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذووي فلا تجيبنا فقال أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك قال نعم قال إني قد كبرت سني ودق عظمي وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان إذا سمعا مني حقا قبلاه وإن سمعا خطأ تركاه وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه
قال ابن حارث هذا والله الدين الكامل والعقل الراجح لا كمن يأتي بالهذيان ويريد أن ينزل قوله من القلوب منزلة القرآن
قال أبو عمر يقال لمن قال بالتقليد لم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا فإن قال قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله وسنة رسول الله ص - لم أحصها والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني قيل له أما العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله ص - أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه فإن قال قلدته لأني اعلم أنه على صواب قيل له علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سنة أو إجماع فإن قال نعم أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل وإن قال قلدته لأنه أعلم مني قيل له فقلد كل من هو أعلم منك فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا ولا تخص من قلدته إذ علتك فيه أنه أعلم منك فإن قال قلدته لأنه أعلم الناس قيل له فإنه إذا أعلم من

الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحا فإن قال أنا أقلد بعض الصحابة قيل له فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله على أن القول لا يصح لفضل قائله وإنما يصح بدلالة الدليل عليه
وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار قال عن القاسم عن مالك قال ليس كلما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله
تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه فإن قال قصري وقلة علمي يحملني على التقليد قيل له أما من قلد فيما ينزل به من أحكام شريعته عالما يتفق له على علمه فيصدر في ذلك عما يخبره فمعذور لأنه قد أدى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك ولكن من كانت هذه حاله هل تجوز له الفتيا في شرائع دين الله فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك ويصيرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ولا قام الدليل عليه وهو مقر أن قائله يخطىء ويصيب وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما خالفه فيه فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع لزمه أن يجيزه للعامة وكفى بهذا جهلا وردا للقرآن وقال الله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقال أتقولون على الله ما لا تعلمون وقد أجمع العلماء على أن مالم يتبين ولم يتيقن فليس بعلم وإنما هو ظن والظن لا يغني من الحق شيئا ثم ذكر حديث ابن عباس من أفتى بفتيا وهو يعمى عنها كان إثمها عليه موقوفا ومرفوعا قال وهب عن النبي ص - إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث
قال ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد ثم ذكر من طريق ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو عثمان بن مسنة أن رسول الله

ص - قال إن العلم بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ومن طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي ص - قال إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل له يا رسول الله وما الغرباء قال الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله وكان يقال العلماء غرباء لكثرة الجهال ثم ذكر عن مالك عن زيد بن أسلم في قوله نرفع درجات من نشاء قال بالعلم وقال ابن عباس في قول الله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات قال يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات
وروى هشام بن سعد عن زيد بن أسلم في قوله ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض قال بالعلم وإذا كان المقلد ليس من العلماء بأنفاق العلماء لم يدخل في شيء من هذه النصوص وبالله التوفيق
فصل نهى الأئمة عن تقليدهم
وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة فقال الشافعي مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري ذكره البيهقي
وقال إسماعيل بن يحيى المزني في أول مختصره اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه
وقال أبو داود قلت لأحمد الأوزاعي هو أتبع من مالك قال لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي ص - وأصحابه فخذ به ثم التابعي بعد الرجل فيه مخير
وقد فرق أحمد بين التقليد والاتباع فقال أبو داود سمعته يقول الاتباع

أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي ص - وعن أصحابه ثم هو من بعد في التابعين مخير وقال أيضا لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا وقال من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال
وقال بشر بن الوليد قال أبو يوسف لا يحل لأحد ان يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا
وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله
وقال جعفر الفريابي حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني الهيثم بن جميل قال قلت لمالك بن أنس يا أبا عبد الله إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم ثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا وفلان عن إبراهيم بكذا ويأخذ بقول إبراهيم قال مالك وصح عندهم قول عمر قلت إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم فقال مالك هؤلاء يستتابون والله أعلم
فصل في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان
قال المقلد نحن معاشر المقلدين ممتثلون قول الله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون فأمر الله سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه وهذا نص قولنا وقد أرشد النبي ص - من لا يعلم إلى سؤال من يعلم فقال في حديث صاحب الشجة ألا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال وقال أبو العسيف الذي زنى بامرأة مستأجره وإني سألت أهل العلم فأخبروني أنما علي ابنى جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم

فلم ينكر عليه تقليد من هو أعلم منه وهذا عالم الأرض عمر قد قلد أبا بكر فروى شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء هو ما دون الولد والوالد فقال عمر بن الخطاب إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر وصح عنه أنه قال له رأينا لرأيك تبع وصح عن ابن مسعود أنه كان يأخذ بقول عمر
وقال الشعبي عن مسروق كان ستة من أصحاب النبي ص - يفتون الناس ابن مسعود وعمر بن الخطاب وعلي وزيد بن ثابت وأبي ابن كعب وأبو موسى وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم لقول ثلاثة كان عبد الله يدع قوله لقول عمر وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب وقال جندب ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس وقد قال النبي ص - إن معاذا قد سن لكم سنة فكذلك فافعلوا في شأن الصلاة حيث أخر فصلى ما فاته من الصلاة مع الإمام بعد الفراغ وكانوا يصلون ما فاتهم أولا ثم يدخلون مع الإمام
قال المقلد وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وهم العلماء أو العلماء والأمراء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به فإن لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختص بهم
وقال تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان
رضي الله عنهم ورضوا عنه وتقليدهم اتباع لهم ففاعله ممن رضي الله عنهم ويكفي في ذلك الحديث المشهور أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم
وقال عبد الله بن مسعود من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات

فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
وقد روي عن النبي ص - أنه قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وقال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد وقد كتب عمر إلى شريح أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله ص - فإن لم يكن في سنة رسول الله ص - فاقض بما قضى به الصالحون وقد منع عمر عن بيع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة وألزم بالطلاق الثلاث وتبعوه أيضا واحتلم مرة فقال له عمرو بن العاص خذ ثوبا غير ثوبك فقال لو فعلتها صارت سنة وقال أبي بن كعب وغيره من الصحابة ما استبان لك فاعمل به وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه
وقد كان الصحابة يفتون ورسول الله ص - حي بين أظهرهم وهذا تقليد لهم قطعا إذ قولهم لا يكون حجة في حياة النبي ص - وقد قال تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فأوجب عليهم قبول ما أنذروهم به إذا رجعوا إليهم وهذا تقليد منهم للعلماء
وصح عن ابن الزبير أنه سئل عن الجد والإخوة فقال أما الذي قال رسول الله ص - لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذته خليلا فإنه أنزله أبا وهذا ظاهر في تقليده له وقد أمر الله سبحانه بقبول شهادة الشاهد وذلك تقليد له وجاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمقوم للمتلفات وغيرها والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد وذلك تقليد محض

وأجمعت الأمة على قبول قول المترجم والرسول والمعرف والمعدل وإن اختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد وذلك تقليد محض لهؤلاء
وأجمعوا على جواز شراء اللحمان والثياب والأطعمة وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها وتحريمها اكتفاء بتقليد أربابها ولو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء فضلاء لضاعت مصالح العباد وتعطلت الصنائع والمتاجر وكان الناس كلهم علماء مجتهدين وهذا مما لا سبيل إليه شرعا والقدر قد منع من وقوعه
وقد أجمع الناس على تقليد الزوج للنساء اللاتي يهدين إليه زوجته وجواز وطئها وتقليدا لهن في كونها هي زوجته
وأجمعوا على أن الأعمى يقلد في القبلة وعلى تقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة وما يصح به الاقتداء وعلى تقليد الزوجة مسلمة كانت أو ذمية أن حيضها قد انقطع فيباح للزوج وطؤها بالتقليد ويباح للولي تزويجها بالتقليد لها في انقضاء عدتها وعلى جواز تقليد الناس للمؤذنين في دخول أوقات الصلوات ولا يجب عليهم الاجتهاد ومعرفة ذلك بالدليل
وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحارث أرضعتك وأرضعت امرأتك فأمره النبي ص - بفراقها وتقليدها فيما أخبرته به من ذلك
وقد صرح الأئمة بجواز التقليد فقال حفص بن غياث سمعت سفيان يقول إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى تحريمه فلا تنهه
وقال محمد بن الحسن يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد من هو مثله
وقد صرح الشافعي بالتقليد فقال في الضبع بعير قلته تقليدا لعمر وقال في

مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب قلته تقليدا لعثمان وقال في مسألة الجد مع الإخوة إنه يقاسمهم ثم قال وإنما قلت بقول زيد وعنه قبلنا أكثر الفرائض وقد قال في موضع آخر من كتابه الجديد قلته تقليدا لعطاء
وهذا أبو حنيفة
رحمه الله قال في مسائل الآبار ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة ويصرح في موطئه بأنه أدرك العمل على هذا وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا ويقول في غير موضع ما رأيت أحدا أفتدي به يفعله ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال
وقد قال الشافعي في الصحابة رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا ونحن نقول ونصدق أن رأى الشافعي والأئمة معه لنا خير من رأينا لأنفسنا
وقد جعل الله سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا وذلك عام في كل علم وصناعة وقد فاوت الله سبحانه بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها ولو كان كذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء بل جعل سبحانه هذا عالما وهذا متعلما وهذا متبعا للعالم مؤتما به بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع وأين حرم الله تعالى على الجاهل أن يكون متبعا للعالم مؤتما به مقلدا له يسير بسيره وينزل بنزوله وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق فهل فرض على كل منهم فرض عين أن يأخذ حكم نازلته من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها وهل ذلك في إمكان أحد فضلا عن كونه مشروعا وهؤلاء أصحاب رسول الله ص - فتحوا البلاد وكان الحديث العهد بالإسلام يسألهم فيفتونه ولا يقولون له عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل ولا يعرف

ذلك عن أحد منهم البتة وهل التقليد إلامن لوازم التكليف ولوازم الوجود فهو من لوازم الشرع والقدر والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها
ونقول لمن احتج على إبطاله كل حجة أثرية ذكرتها فأنت مقلد لحملها ورواتها إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم فليس بيدك إلا تقليد الراوي وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم فما الذي سوغ لك تقليد الراوي والشاهد ومنعنا من تقليد العالم وهذا سمع بأذنه ما رواه وهذا عقل بقلبه ما سمعه فأذى هذا مسموعه وأدى هذا معقوله وفرض على هذا تأدية ما سمعه وعلى هذ تأدية ما عقله وعلى من لم يبلغ منزلتهما القبول منهما
ثم يقال للمانعين من التقليد أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قلده مخطئا في فتواه ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه وهذا كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرا بها أمينا ناصحا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه وهذا متفق عليه بين العقلاء
قال أصحاب الحجة عجبا لكم معاشر المقلدين الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ولا معدودين في زمرة أهله كيف أبطلتم مذهبكم بنفس دليلكم فما للمقلد وما للاستدلال وأين منصب المقلد من منصب المستدل وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابا استعرتموها من صاحب الحجة فتجملتم بها بين الناس وكنتم في ذلك متشبعين بما لم تعطوه ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه وذلك ثوب زور لبستموه ومنصب لستم من

أهله غصبتموه فاخبرونا هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه وبرهان دلكم عليه فنزلتم به من الاستدلال أقرب منزل وكنتم به عن التقليد بمعزل أم سلكتم سبيله اتفاقا وتخمينا من غير دليل وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين سبيل وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكم والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة قلتم لسنا من أهل هذه السبيل وإن خاطبناكم بحكم التقليد فلا معنى لما أقمتموه من الدليل
والعجب أن كل طائفة من الطوائف وكل أمة من الأمم تدعى أنها على حق حاشا فرقة التقليد فإنهم لا يدعون ذلك ولو ادعوه لكانوا مبطلين فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليه وبرهان دلهم عليه وإنما سبيلهم محض التقليد والمقلد لا يعرف الحق من الباطل ولا الحالي من العاطل
وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم وقالوا نحن على مذاهبهم وقد دانوا بخلافهم في أصول المذهب الذي بنوا عليه فإنهم بنوا على الحجة ونهوا عن التقليد وأوصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه فخالفوهم في ذلك كله وقالوا نحن من أتباعهم تلك أمانيهم وما أتباعهم إلا من سلك سبيلهم واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم
وأعجب من هذا أنهم مصرحون في كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه وأنه لا يحل القول به في دين الله ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته ومنهم من صحح التولية وأبطل الشرط وكذلك المفتي يحرم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده إذ طريق ذلك مسدودة عليه ثم كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله ويترك له كل ما خالفه من

كتاب أو سنة أو قول صاحب أو قول من هو أعلم من متبوعه أو نظيره وهذا من أعجب العجب
وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلا منهم يقلده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئا وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئا ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله ص - وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله ص - قالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه يبيحون به الفروج والدماء والأموال ويحرمونها ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ على خطر عظيم ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء
وأيضا فنقول لكل من قلد واحدا من الناس دون غيره ما الذي خص صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره فإن قال لأنه أعلم أهل عصره وربما فضله على من قبله مع جزمه الباطل أنه لم يجيء بعده أعلم منه قيل له وما يدريك ولست من أهل العلم بشهادتك على نفسك أنه أعلم الأمة في وقته فإن هذا إنما يعرفه من عرف المذاهب وأدلتها وراجحها من مرجوحها فما للأعمى ونقد الدراهم وهذا أيضا باب آخر من القول على الله بلا علم ويقال له ثانيا فأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعائشة وابن عباس وابن عمر
رضي الله عنهم أعلم من صاحبك بلا شك فهلا قلدتهم وتركته بل سعيد بن المسيب والشعبي وعطاء وطاوس وأمثالهم أعلم وأفضل بلا شك فلم تركت تقليد الأعلم الأفضل الأجمع لأدوات الخير والعلم والدين ورغبت عن أقواله ومذاهبه إلى من هو دونه فإن قال لأن صاحبي ومن قلدته أعلم به فتقليدي له أوجب علي مخالفة قوله لقول من

قلدته لأن وفور علمه ودينه يمنعه من مخالفة من هو فوقه وأعلم منه إلا لدليل صار إليه هو أولى من قول كل واحد من هؤلاء قيل له ومن أين علمت أن الدليل الذي صار إليه صاحبك الذي زعمت أنت أنه صاحبك أولى من الدليل الذي صار إليه من هو أعلم منه وخير منه أو هو نظيره وقولان معا متناقضان لا يكونان صوابا بل أحدهما هو الصواب ومعلوم أن ظفر الأعلم الأفضل بالصواب أقرب من ظفر من هو دونه فإن قلت علمت ذلك بالدليل فههنا إذا قد انتقلت عن منصب التقليد إلى منصب الاستدلال وأبطلت التقليد
ثم يقال لك ثالثا هذا لا ينفعك شيئا البتة فيما اختلف فيه فإن من قلدته ومن قلده غيرك قد اختلفا وصار من قلده غيرك إلى موافقة أبي بكر وعمر أو علي وابن عباس أو عائشة وغيرهم دون من قلدته فهلا نصحت نفسك وهديت لرشدك وقلت هذان عالمان كبيران ومع أحدهما من ذكر الصحابة فهو أولى بتقليدي إياه
ويقال له رابعا إمام بإمام ويسلم قول الصحابي فيكون أولى بالتقليد
ويقال له خامسا إذا جاز أن يظفر من قلدته بعلم خفي على عمر بن الخطاب وعلى علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وذويهم فأحق وأحق وأجوز وأجوز أن يظفر نظيره ومن بعده بعلم خفي عليه هو فإن النسبة بين من قلدته وبين نظيره ومن بعده أقرب أقرب بكثير من النسبة بين من قلدته وبين الصحابة والخفاء على من قلدته أقرب من الخفاء على الصحابة
ويقال سادسا إذا سوغت لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم لقول المفضول فهلا سوغت لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه وهل كان الذي ينبغي ويجب إلا عكس ما ارتكبت
ويقال سابعا هل أنت في تقليد إمامك وإباحة الفروج والدماء والأموال ونقلها عمن هي بيده إلى غيره موافق لأمر الله أو رسوله أو إجماع أمته أو قول أحد من الصحابة فإن قال نعم قال ما يعلم الله ورسوله وجميع العلماء بطلانه وإن قال لا فقد كفانا مؤنته وشهد على نفسه بشهادة الله ورسوله وأهل العلم عليه

ويقال ثامنا تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده فإنه نهاك عن ذلك وقال لا يحل لك أن تقول بقوله حتى تعلم من أين قاله ونهاك عن تقليده وتقليد غيره من العلماء فإن كنت مقلدا له في جميع مذهبه فهذا من مذهبه فهلا اتبعته فيه
ويقال تاسعا هل أنت على بصيرة في أن من قلدته أولى بالصواب من سائر من رغبت عن قوله من الأولين والآخرين أم لست على بصيرة فإن قال أنا على بصيرة قال ما يعلم بطلانه وإن قال لست على بصيرة وهو الحق قيل له فما عذرك غدا بين يدي الله حين لا ينفعك من قلدته بحسنة واحدة ولا يحمل عنك سيئة واحدة إذا حكمت وأفتيت بين خلقه بما لست على بصيرة منه هل هو صواب أم خطأ
ويقال عاشرا هل تدعى عصمة متبوعك أو تجوز عليه الخطأ والأول لا سبيل إليه بل تقر ببطلانه فتعين الثاني وإذا جوزت عليه الخطأ فكيف تحلل وتحرم وتوجب وتريق الدماء وتبيح الدماء وتبيح الفروج وتنقل الأموال وتضرب الأبشار يقو من أنت مقر بجواز كونه مخطئا
ويقال حادي عشر هل تقول إذا أفتيت أو حكمت بقول من قلدته إن هذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشرعه لعباده ولا دين له سواه أو تقول إن دين الله الذي شرعه لعباده خلافه أو تقول لا أدري ولا بد لك من قول من هذه الأقوال ولا سبيل لك إلى الأول قطعا فإن دين الله الذي لا دين له سواه لا تسوغ مخالفته وأقل درجات مخالفه أن يكون من الآثمين والثاني لا تدعيه فليس لك ملجأ إلا الثالث فيالله الله العجب كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمر أحسن أحواله وأفضلها لا أدري ... فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم ...
ويقال ثاني عشر على أي شيء كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان وفلان الذين قلدتموهم وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع وليتكم اقتصرتم

على ذلك بل جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على هدى أو على ضلالة فلا بد من أن تقروا بأنهم كانوا على هدى فيقال لهم فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنن والآثار وتقديم قول الله ورسوله وآثار الصحابة على ما يخالفها والتاحكم إليها دون قول فلان أو رأي فلان وإذا كان هذا هو الهدى فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تؤفكون فإن قالت كل فرقة من المقلدين وكذلك يقولون صاحبنا هو الذي ثبت على ما مضى عليه السلف واقتفى منهاجهم وسلك سبيلهم قيل لهم فمن سواه من الأئمة هل شارك صاحبكم في ذلك أو انفرد صاحبكم بالاتباع وحرمه من عداه فلا بد من واحد من الأمرين فإن قالوا بالثاني فهم أضل سبيلا من الأنعام وإن قالوا بالأول فيقال كيف وقفتم لقبول قول صاحبكم كله ورد قول من هو مثله أو أعلم منه كله فلا يرد لهذا قول ولا يقبل لهذا قول حتى كأن الصواب وقف على صاحبكم والخطأ وقف على من خالفه ولهذا أنتم موكلون بنصرته في كل ما قاله وبالرد على من خالفه في كل ما قاله وهذه حال الفرقة الأخرى معكم
ويقال ثالث عشر فمن قلدتموه من الأئمة قد نهوكم عن تقليدهم فأنتم أول مخالف لهم قال الشافعي مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه وقال أحمد لا تقلد دينك أحدا
ويقال رابع عشر هل أنتم موقنون بأنكم غدا موقوفون بين يدي الله وتسألون عما قضيتم به في دماء عباده وفروجهم وأبشارهم وأموالهم وعما أفتيتم به في دينه محرمين ومحللين وموجبين فمن قولهم نحن موقنون بذلك فيقال لهم فإذا سألكم من أين قلتم ذلك فماذا جوابكم فإن قلتم جوابنا إنا حللنا وحرمنا وقضينا بما في كتاب الأصل لمحمد بن الحسن مما رواه عن أبي حنيفة

وأبي يوسف من رأى واختيار وبما في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم من رأى واختيار وبما في الأم من رواية الربيع من رأى واختيار وبما في جوابات غير هؤلاء من رأي واختيار وليتكم اقتصرتم على ذلك أو صعدتم إليه أو سمت هممكم نحوه بل نزلتم عن ذلك طبقات فإذا سئلتم هل فعلتم ذلك عن امري أو أمر رسولي فماذا يكون جوابكم إذا فإن أمكنكم حينئذ أن تقولوا فعلنا ما أمرتنا به وأمرنا به رسولك فزتم وتخلصتم وإن لم يمكنكم ذلك فلا بد أن تقولوا لم تامرنا بذلك ولا رسولك ولا أئمتنا ولا بد من أحد الجوابين وكأن قد
ويقال خامس عشر إذا نزل عيسى بن مريم إماما عدلا وحكما مقسطا فبمذهب من يحكم وبرأي من يقضي ومعلوم أنه لا يحكم ولا يقضي إلا بشريعة نبينا ص - التي شرعها الله لعباده فذلك الذي يقضى به أحق وأولى الناس به عيسى بن مريم هو الذي أوجب عليكم أن تقضوا به وتفتوا ولا يحل لأحد أن يقضى ولا يفتي بشيء سواه البتة فإن قلتم نحن وأنتم في هذا السؤال سواء قيل أجل ولكن نفترق في الجواب فنقول يا ربنا إنك لتعلم أنا لم نجعل أحدا من الناس عيارا على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك ونرد ما تنازعنا فيه إليه ونتحاكم إلى قوله ونقدم أقواله على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك وكان الخلق عندنا أهون أن نقدم كلامهم وآراءهم على وحيك بل أفتينا بما وجدناه في كتابك وبما وصل إلينا من سنة رسولك وبما أفتى به أصحاب نبيك وإن عدلنا عن ذلك فخطأ منا لا عمد ولا نتخذ من دونك ولا دون رسولك ولا المؤمنين وليجة ولم نفرق ديننا ونكون شيعا ولم نقطع أمرنا بيننا زبرا وجعلنا أئمتنا قدوة لنا ووسائط بيننا وبين رسولك في نقلهم ما بلغوه إلينا عن رسولك

فاتبعناهم في ذلك وقلدناهم فيه إذ أمرتنا أنت وأمرنا رسولك بأن نسمع منهم ونقبل ما بلغوه عنك وعن رسولك فسمعا لك ولرسولك وطاعة ولم نتخذهم أربابا نتحاكم إلى أقوالهم ونخاصم بها ونوالي ونعادي عليها بل عرضنا أقوالهم على كتابك وسنة رسولك فما وافقهما قبلناه وما خالفهما أعرضنا عنه وتركناه وإن كانوا اعلم منا بك وبرسولك فمن وافق قوله قول رسولك كان أعلم منهم في تلك المسألة فهذا جوابنا ونحن نناشدكم الله هل أنتم كذلك حتى يمكنكم هذا الجواب بين يدي من لا يبدل القول لديه ولا يروج الباطل عليه
ويقال سادس عشر كل طائفة منكم معاشر طوائف المقلدين قد أنزلت جميع الصحابة من أولهم إلى آخرهم وجميع التابعين من أولهم إلى آخرهم وجميع علماء الأمة من أولهم إلى آخرهم إلا من قلدتموه في مكان من لا يعتد بقوله ولا ينظر في فتاواه ولا يشتغل بها ولا يعتد بها ولا وجه للنظر فيها إلا للتمحل وإعمال الفكر وكده في الرد عليهم إذا خالف قولهم قول متبوعهم وهذا هو المسوغ للرد عليهم عندهم فإذا خالف قول متبوعهم نصا عن الله ورسوله فالواجب التمحل والتكلف في إخراج ذلك النص عن دلالته والتحيل لدفعه بكل طريق حتى يصح قول متبوعهم فيالله لدينه وكتابه وسنة رسوله ولبدعة كادت تثل عرش الإيمان وتهد ركنه لولا أن الله ضمن لهذا الدين أن لا يزال فيه من يتكلم بأعلامه ويذب عنه فمن أسوأ ثناء على الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين وأشد استخفافا بحقوقهم وأقل رعاية لواجبهم وأعظم استهانة بهم ممن لا يلتفت إلى قول رجل واحد منهم ولا إلى فتواه غير صاحبه الذي اتخذه وليجة من دون الله ورسوله
ويقال سابع عشر من أعجب أمركم أيها المقلدون انكم اعترفتم وأقررتم على أنفسكم بالعجز عن معرفة للحق بدليله من كلام الله وكلام رسوله مع سهولته

وقرب مأخذه واستيلائه على أقصى غايات البيان واستحالة التناقض والاختلاف عليه فهو نقل مصدق عن قائل معصوم وقد نصب الله سبحانه الأدلة الظاهرة على الحق وبين لعباده ما يتقون فادعيتم العجز عن معرفة ما نصب عليه الأدلة وتولى بيانه ثم زعمتم أنكم قد عرفتم بالدليل أن صاحبكم أولى بالتقليد من غيره وأنه أعلم الأمة وأفضلها في زمانه وهلم جرا وغلاة كل طائفة منكم توجب اتباعه وتحرم اتباع غيره كما هو في كتب أصولهم فعجبا كل العجب لمن خفي عليه الترجيح فيما نصب الله عليه الأدلة من الحق ولم يهتد إليها واهتدى إلى ان متبوعه أحق وأولى بالصواب ممن عداه ولم ينصب الله على ذلك دليلا واحدا
ويقال ثامن عشر أعجب من هذا كله من شأنكم معاشر المقلدين أنكم إذا وجدتم آية من كتاب الله توافق رأي صاحبكم أظهرتم أنكم تأخذون بها والعمدة في نفس الأمر على ما قاله لا على الآية وإذا وجدتم آية نظيرها تخالف قوله لم تأخذوا بها وتطلبتم لها وجوه التأويل وإخراجها عن ظاهرها حيث لم توافق رأيه وهكذا تفعلون في نصوص السنة سواء وإذا وجدتم حديثا صحيحا يوافق قوله أخذتم به وقلتم لنا قوله ص - كيت وكيت وإذا وجدتم مائة حديث صحيح بل وأكثر تخالف قوله لم تلتفتوا إلى حديث منها ولم يكن لكم منها حديث واحد فتقولون لنا قوله ص - كذا وكذا وإذا وجدتم مرسلا قد وافق رأيه أخذتم به وجعلتموه حجة هناك وإذا وجدتم مائة مرسل تخالف رأيه أطرحتموها كلها من أولها إلى آخرها وقلتم لا نأخذ بالمرسل
ويقال تاسع عشر أعجب من هذا كله أنكم إذا أخذتم بالحديث مرسلا كان أو مسندا لموافقته رأي صاحبكم ثم وجدتم فيه حكما يخالف رأيه لم تأخذوا به

في ذلك الحكم وهو حديث واحد وكأن الحديث حجة فيما وافق رأي من قلدتموه وليس بحجة فيما خالف رأيه
ولنذكر من هذا طرفا فإنه من عجيب أمرهم
المقلدون يتضاربون في أقوالهم
فاحتج طائفة منهم في سلب طهورية الماء المستعمل في رفع الحدث بأن الني ص - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة والمرأة بفضل وضوء الرجل وقالوا الماء المنفصل عن أعضائهما هو فضل وضوئهما وخالفوا نفس الحديث فجوزوا لكل منهما أن يتوضأ بفضل طهور الآخر وهو المقصود بالحديث فإنه نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت بالماء وليس عندهم للخلوة أثر ولا لكون الفضلة فضلة امرأة أثر فخالفوا نفس الحديث الذي احتجوا به وحملوا الحديث على غير محمله إذ فضل الوضوء بيقين هو الماء الذي فضل منه ليس هو الماء المتوضأ به فإن ذلك لا يقال له فضل الوضوء فاحتجوا به فيما لم يرد به وأبطلوا الاحتجاج به فيما أريد به
ومن ذلك احتجاجهم على نجاسة الماء بالملاقاة وإن لم يتغير بنهيه ص - أن يبال في الماء الدائم ثم قالوا لو بال في الماء الدائم لم ينجسه حتى ينقص عن قلتين
واحتجوا على نجاسته أيضا بقوله ص - إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ثم قالوا لو غمسها قبل غسلها لم ينجس الماء ولا يجب عليه غسلها وإن شاءان يغمسها قبل الغسل فعل
واحتجوا في هذه المسألة بأن النبي ص - أمر بحفر الأرض التي بال فيها البائل وإخراج ترابها ثم قالوا لا يجب حفرها بل لو تركت حتى يبست بالشمس والريح طهرت

واحتجوا على منع الوضوء بالماء المستعمل بقوله ص - يابني عبد المطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس يعني الزكاة ثم قالوا لا تحرم الزكاة على بني عبد المطلب
واحتجوا على أن السمك الطافي إذا وقع في الماء لا ينجسه بخلاف غيره من ميتة البر فإنه ينجس الماء بقوله ص - في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته ثم خالفوا هذا الخبر بعينه وقالوا لا يحل ما مات في البحر من السمك ولا يحل شيء مما فيه أصلا غير السمك
واحتج أهل الرأي على نجاسة الكلب وولوغه بقول النبي ص - إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات ثم قالوا لا يجب غسله سبعا بل يغسل مرة ومنهم من قال ثلاثا
واحتجوا على تفريقهم في النجاسة المغلظة بين قدر الدرهم وغيره بحديث لا يصح من طريق غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه تعاد الصلاة من قدر الدرهم ثم قالوا لا تعاد الصلاة من قدر الدرهم
واحتجوا بحديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة في الزكاة في زيادة الإبل على عشرين ومائة أنها ترد إلى أول الفريضة فيكون في كل خمس شاة وخالفوه في اثنى عشر موضعا منه ثم احتجوا بحديث عمرو بن حزم أن ما زاد على مائتي درهم فلا شيء فيه حتى يبلغ أربعين فيكون فيها درهم وخالفوا الحديث بعينه في نص ما فيه في أكثر من خمسة عشر موضعا
واحتجوا على أن الخيار لا يكون أكثر من ثلاثة أيام بحديث المصراة وهذا من إحدى العجائب فإنهم من أشد الناس إنكارا له ولا يقولون به فإن كان حقا وجب اتباعه وإن لم يكن صحيحا لم يجز الاحتجاج به في تقدير

الثلاث مع أنه ليس في الحديث تعرض لخيار الشرط فالذي أريد بالحديث ودل عليه خالفوه والذي احتجوا عليه به لم يدل عليه
واحتجوا لهذه المسألة أيضا بخبر حبان بن منقذ الذي كان يغبن في البيع فجعل له النبي ص - الخيار ثلاثة أيام وخالفوا الخبر كله فلم يثبتوا الخيار بالغبن ولو كان يساوي عشر معشار ما بذله فيه وسواء قال المشتري لا خلابة أو لم يقل وسواء غبن قليلا أو كثيرا لا خيار له في ذلك كله
واحتجوا في إيجاب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان بأن في بعض ألفاظ الحديث أن رجلا أفطر فأمره النبي ص - أن يكفر ثم خالفوا هذا اللفظ بعينه فقالوا إن استف دقيقا أو بلع عجينا أو أهليلجا أو طيبا أفطر ولا كفارة عليه
واحتجوا على وجوب القضاء على من تعمد القيء بحديث أبي هريرة ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا إن تقيأ أقل من ملء فيه فلا قضاء عليه
واحتجوا على تحديد مسافة الفطر والقصر بقوله ص - لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع زوج أو ذي محرم وهذا مع أنه لادليل فيه البتة على ما ادعوه فقد خالفوه نفسه فقالوا يجوز للممولكة والمكاتبة وأم الولد السفر مع غير زوج ومحرم
واحتجوا على منع المحرم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس في الذي وقصته ناقته وهو محرم فقال النبي ص - لا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا وهذا من العجب فإنهم يقولون إذا مات المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه وقد بطل إحرامه
واحتجوا على إيجاب الجزاء على من قتل ضبعا في الإحرام بحديث جابر أنه أفتى بأكلها وبالجزاء على قاتلها وأسند إلى ذلك رسول الله ص

ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا لا يحل أكلها
واحتجوا فيمن وجبت عليه ابنة مخاض فأعطى ابنة لبون تساوي ابنة مخاض أو حمارا يساويها أنه يجزئه بحديث أنس الصحيح وفيه من وجبت عليه ابنة مخاض وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تؤخذ منه ويرد عليه الساعي شاتين أو عشرين درهما وهذا من العجب فإنهم لا يقولون بما دل عليه الحديث من تعيين ذلك ويستدلون به على ما لم يدل عليه بوجه ولا أريد به
واحتجوا على إسقاط الحدود في دار الحرب إذا فعل المسلم أسبابها بحديث لا تقطع الأيدي في الغزو وفي لفظ في السفر ولم يقولوا بالحديث فإن عندهم لا أثر للسفر ولا للغزو في ذلك
واحتجوا في إيجاب الأضحية بحديث أن النبي ص - أمر بالأضحية وأن يطعم منها الجار والسائل فقالوا لا يجب أن يطعم منها جار ولا سائل
واحتجوا في إباحة ما ذبحه غاصب أو ساق بالخبر الذي فيه أن رسول الله ص - دعى إلى الطعام مع رهط من أصحابه فلما أخذ لقمة قال إني أجد لحم شاة أخذت بغير حق فقالت المرأة يا رسول الله إني أخذتها من امرأة فلان بغير علم زوجها فأمر رسول الله ص - أن تطعم الأسارى وقد خالفوا هذا الحديث فقالوا ذبيحة الغاصب حلال ولا تحرم على المسلمين
واحتجوا بقوله ص - جرح العجماء جبار في إسقاط الضمان بجناية المواشي ثم خالفوه فيما يدل عليه وأريد به فقالوا من ركب دابة أو قادها أو ساقها فهو ضامن لمن عضت بفمها ولا ضمان عليه فيما أتلفت برجلها

واحتجوا على تأخير القود إلى حين البرء بالحديث المشهور أن رجلا طعن آخر في ركبته بقرن فطلب القود فقال له رسول الله ص - حتى يبرأ فأبى فأقادته قبل أن يبرأ الحديث وخالفوه في القصاص من الطعنة فقالوا لا يقتص منها
واحتجوا على إسقاط الحد عن الزاني بأمة ابنه أو أم ولده بقوله ص - أنت ومالك لأبيك وخالفوه فيما دل عليه فقالوا ليس للأب من مال ابنه شيء البتة ولم يبيحوا له من مال ابنه عود أراك فما فوقه وأوجبوا حبسه في دينه وضمان ما أتلفه عليه
واحتجوا على أن الإمام يكبر إذا قال المقيم قد قامت الصلاة بحديث بلال أنه قال قال رسول الله ص - لا تسبقني بآمين وبقول أبي هريرة لمروان لا تسبقني بآمين ثم خالفوا الخبر جهارا فقالوا لا يؤمن الإمام ولا المأموم
واحتجوا على وجوب مسح ربع الرأس بحديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله ص - مسح بناصيته وعمامته ثم خالفوه فيما دل عليه فقالوا لا يجوز المسح على العمامة ولا أثر للمسح عليها البتة فإن الفرض سقط بالناصية والمسح على العمامة غير واجب ولا مستحب عندهم
واحتجوا لقولهم في استحباب مساوقة الإمام بقوله ص - إنما جعل الإمام ليؤتم به قالوا والائتمام به يقتضي أن يفعل مثل فعله سواء ثم خالفوا الحديث فيما دل عليه فإن فيه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون
واحتجوا على أن الفاتحة لا تتعين في الصلاة بحديث المسيء في صلاته حيث قال له اقرأ ما تيسر معك من القرآن وخالفوه فيما دل عليه صريحا

في قوله ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا وقوله ارجع فصل فأنك لم تصل فقالوا من ترك الطمأنينة فقد صلى وليس الأمر بها فرضا لازما مع أن الأمر بها وبالقراءة سواء في الحديث
واحتجوا على إسقاط جلسة الاستراحة بحديث أبي حميد حيث لم يذكرها فيه وخالفوه في نفس ما دل عليه من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه
واحتجوا على إسقاط فرض الصلاة على النبي ص - والسلام في الصلاة بحديث ابن مسعود فإذا قلت ذلك فقد تمت صلاتك ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا صلاته تامة قال ذلك أو لم يقله
واحتجوا على جواز الكلام والإمام يخطب على المنبر يوم الجمعة بقوله ص - للداخل أصليت يا فلان قبل أن تجلس قال لا قال قم فاركع ركعتين وخالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا من دخل والإمام يخطب جلس ولم يصل
واحتجوا على كراهية رفع اليدين في الصلاة بقوله ص - ما بالهم رافعي أيديهم كأنها أذناب خيل شمس ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فإن فيه إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه من عن يمينه وشماله السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله فقالوا لا يحتاج إلى ذلك ويكفيه غيره من كل مناف للصلاة
واحتجوا في استخلاف الإمام إذا أحدث بالخبر الصحيح أن رسول الله ص - خرج وأبو بكر يصلي بالناس فتأخر أبو بكر وتقدم النبي ص - فصلى بالناس ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا من فعل مثل ذلك بطلت صلاته وأبطلوا صلاة من فعل مثل فعل النبي ص - وأبي بكر ومن حضر من الصحابة فاحتجوا بالحديث فيما لم يدل

عليه وأبطلوا العمل به في نفس ما دل عليه
واحتجوا لقولهم إن الإمام إذا صلى جالسا لمرض صلى المأمومون خلفه قياما بالخبر الصحيح عن النبي ص - أنه خرج فوجد أبا بكر يصلي بالناس قائما فتقدم النبي ص - وجلس وصلى بالناس وتأخر أبو بكر ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه وقالوا إن تأخر الإمام لغير حدث وتقدم الآخر بطلت صلاة الإمامين وصلاة جمع المأمومين
واحتجوا على بطلان صوم من أكل يظنه ليلا فبان نهارا بقوله ص - إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه فقالوا لا يجوز الأذان للفجر بالليل لا في رمضان ولا في غيره ثم خالفوه من جهة أخرى فإن في نفس الحديث وكان ابن مكتوم رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت وعندهم من أكل في ذلك الوقت بطل صومه
واحتجوا على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالغائط بقول النبي ص - لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها وخالفوا الحديث نفسه وجوزوا استقبالها واستدبارها بالبول
واحتجوا على عدم شرط الصوم في الاعتكاف بالحديث الصحيح عن عمر أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فأمره رسول الله ص - أن يوفي بنذره وهم لا يقولون بالحديث فإن عندهم أن نذر الكافر لا ينعقد ولا يلزم الوفاء به بعد الإسلام
واحتجوا على الرد بحديث تحوز المرأة ثلاث مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه ولم يقولوا بالحديث في حيازتها مال لقيطها وقد قال به عمر بن الخطاب وإسحاق بن راهوية وهو الصواب

واحتجوا في توريث ذوي الأرحام بالخبر الذي فيه التمسوا له وارثا أو ذا رحم فلم يجدوا فقال أعطوه الكبر من خزاعة ولم يقولوا به في أن من وارث له يعطي ماله للكبر من قبيلته
واحتجوا في منع القاتل ميراث المقتول بخبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا يرث قاتل ولا يقتل مؤمن بكافر فقالوا بأول الحديث دون آخره
واحتجوا على جواز التيمم في الحضر مع وجود الماء للجنازة إذا خاف فوتها بحديث أبي جهيم بن الحارث في تيمم النبي ص - لرد السلام ثم خالفوه فيما دل عليه في موضعين أحدهما أنه تيمم بوجهه وكفيه دون ذراعيه والثاني أنهم لم يكرهوا رد السلام للمحدث ولم يستحبوا التيمم لرد السلام
واحتجوا في جواز الاقتصار في الاستنجاء على حجرين بحديث ابن مسعود أن رسول الله ص - ذهب لحاجته وقال له ائتني بأحجار فأتاه بحجرين وروثه فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال هذه ركس ثم خالفوه فيما هو نص فيه فأجازوا الاستجمار بالروث واستدلوا به على ما لا يدل عليه من الاكتفاء بحجرين
واحتجوا على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء بصلاة النبي ص - حاملا أمامه بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها وإذا ركع أو سجد وضعها ثم قالوا من صلى كذلك بطلت صلاته وصلاة من ائتم به قال بعض أهل العلم ومن العجب إبطالهم هذه الصلاة وتصحيحهم الصلاة بقراءة مدهامتان بالفارسية ثم يركع قدر نفس ثم يرفع قدر حد السيف أو لا يرفع بل يخر كما هو ساجدا ولا يضع على الأرض يديه ولا رجليه وإن أمكن أن لا يضع ركبتيه صح ذلك ولا جبهته بل يكفيه وضع رأس أنفه كقدر نفس واحد

ثم يجلس مقدار التشهد ثم يفعل فعلا ينافي الصلاة من فساء أو ضراط أو ضحك أو نحو ذلك
واحتجوا على تحريم وطء المسبية والمملوكة قبل الاستبراء بقول النبي ص - لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ثم خالفوا صريحه فقالوا إن أعتقها وزوجها وقد وطئها البارحة حل للزوج أن يطأها الليلة
واحتجوا في ثبوت الحضانة للخالة بخبر بنت حمزة وأن رسول الله ص - قضى بها لخالتها ثم خالفوه فقالوا لو تزوجت الخالة بغير محرم للبنت كابن عمها سقطت حضانتها
واحتجوا على المنع من التفريق بين الأخوين بحديث علي في نهيه عن التفريق بينهما ثم خالفوه فقالوا لا يرد المبيع إذا وقع كذلك وفي الحديث الأمر برده
واحتجوا على جريان القصاص بين المسلم والذمي بخبر روى أن النبي ص - أقاد يهوديا من مسلم لطمه ثم خالفوه فقالوا لا قود في اللطمة والضربة لا بين مسلمين ولا بين مسلم وكافر
واحتجوا على أنه لا قصاص بين العبد وسيده بقوله ص - من لطم عبده فهو حر ثم خالفوه فقالوا لا يعتق بذلك واحتجوا أيضا بالحديث الذي فيه من مثل بعبده عتق عليه فقالوا لم يوجب عليه القود ثم قالوا لا يعتق عليه
واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب في العين نصف الدية ثم خالفوه في عدة مواضع منها قوله وفي العين القائمة السادة لموضعها ثلث الدية ومنها قوله في السن السوداء ثلث الدية

واحتجوا على جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض بحديث النعمان بن بشير وفيه أشهد على هذا غيري ثم خالفوه صريحا فإن في الحديث نفسه إن هذا لا يصلح وفي لفظ إني لا أشهد على جور فقالوا بل هذا يصلح وليس بجور ولكل أحد أن يشهد عليه
واحتجوا على أن النجاسة تزول بغير الماء من المائعات بحديث إذا وطىء أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب لهما طهور ثم خالفوه فقالوا لو وطىء العذرة بخفيه لم يطهرهما التراب
واحتجوا على جواز المسح على الجبيرة بحديث صاحب الشجة ثم خالفوه صريحا فقالوا لا يجمع بين الماء والتراب بل إما أن يقتصر على غسل الصحيح إن كان أكثر ولا يتيمم وإما أن يقتصر على التيمم إن كان الجريح أكثر ولا يغسل الصحيح
واحتجوا على جواز تولية أمراء أو حكام أو متولين مرتين واحدا بعد واحد بقول النبي ص - أميركم زيد فإن قتل فعبد الله بن رواحة فإن قتل فجعفر ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا لا يصح تعليق الولاية بالشرط ونحن نشهد بالله أن هذه الولاية من أصح ولاية على وجه الأرض وأنها أصح من كل ولاياتهم من أولها إلى آخرها
واحتجوا على تضمين المتلف ما أتلفه ويملك هو ما أتلفه بحديث القصعة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين فرد النبي ص - على صاحبة القصعة نظيرتها ثم خالفوه جهارا فقالوا إنما يضمن بالدراهم والدنانير ولا يضمن بالمثل
واحتجوا على ذلك أيضا بخبر الشاة التي ذبحت بغير إذن صاحبها وأن

النبي ص - لم يردها على صاحبها ثم خالفوه صريحا فإن النبي ص - لم يملكها الذابح بل أمر بإطعامها الأسارى
واحتجوا على سقوط القطع بسرقة الفواكه وما يسرع إليه الفساد بخبر لا قطع في ثمر ولا كثر ثم خالفوا الحديث نفسه في عدة مواضع أحدها أن فيه فإذا آواه إلى الجرين ففيه القطع وعندهم لا قطع فيه آواه إلى الجرين أو لم يؤوه الثاني أنه قال إذا بلغ ثمن المجن وفي الصحيح أن ثمن المجن كان ثلاثة دراهم وعندهم لا يقطع في هذا القدر الثالث أنهم قالوا ليس الجرين حرزا فلو سرق منه ثمرا يابسا ولم يكن هناك حافظ لم يقطع
واحتجوا في مسالة الآبق يأتي به الرجل أن له أربعين درهما بخبر فيه أن من جاء بآبق من خارج الحرم فله عشرة دراهم أو دينار وخالفوه جهرة فأوجبوا أربعين
واحتجوا على خيار الشفعة على الفور بحديث ابن البيلماني الشفعة كحل العقال ولا شفعة لصغير ولا لغائب ومن مثل به فهو حر فخالفوا جميع ذلك إلا قوله الشفعة كحل العقال
واحتجوا على امتناع القود بين الأب والابن والسيد والعبد بحديث لا يقاد والد بولده ولا سيد بعبده وخالفوا الحديث نفسه فإن تمامه ومن مثل بعبده فهو حر
واحتجوا على أن الولد يلحق بصاحب الفراش دون الزاني بحديث ابن وليدة زمعة وفيه الولد للفراش ثم خالفوا الحديث نفسه صريحا فقالوا الأمة لا تكون فراشا وإنما كان هذا القضاء في أمة ومن العجب أنهم قالوا إذا عقد على أمه وابنته وأخته ووطئها لم يحد للشبهة وصارت فراشا بهذا العقد الباطل المحرم وأم ولده وسريته التي يطؤها ليلا ونهارا ليست فراشا له
ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنية ينشئها من النهار

قبل الزوال بحديث عائشة أن النبي ص - كان يدخل عليها فيقول هل من غداء فتقول لا فيقول فإني صائم ثم قالوا لو فعل ذلك في صوم التطوع لم يصح صومه والحديث إنما هو في التطوع نفسه
واحتجوا على المنع من بيع المدبر بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية وفي بيعه إبطال لذلك وأجابوا عن بيع النبي ص - المدبر بأنه قد باع خدمته ثم قالوا لا يجوز بيع خدمة المدبر أيضا
واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها بقوله قضى رسول الله ص - بالشفعة في كل شرك في ربعة أو حائط ثم خالفوا نص الحديث نفسه فإن فيه ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به فقالوا يحل له أن يبيع قبل إذنه ويحل له أن يتحيل لإسقاط الشفعة وإن باع بعد إذن شريكه فهو أحق أيضا بالشفعة ولا أثر للاستئذان ولا لعدمه
واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم بالحيوان ثم خالفوه نفسه فقالوا يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه
واحتجوا على أن عطية المريض المنجزة كالوصية لا تنفذ إلا في الثلث بحديث عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته لا مال له سواهم فجزأهم النبي ص - ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ثم خالفوه في موضعين فقالوا لا يقرع بينهم البتة ويعتق من كل واحد سدسه
وهذا كثير جدا والمقصود أن التقليد حكم عليكم بذلك وقادكم إليه قهرا ولو حكمتم الدليل على التقليد لم تقعوا في مثل هذا فإن هذه الأحاديث إن كانت

حقا وجب الانقياد لها والأخذ بما فيها وإن لم تكن صحيحة لو يؤخذ بشيء مما فيها فأما أن تصحح ويؤخذ بها فيما وافق قول المتبوع وتضعف أو ترد إذا خالفت قوله أو تؤول فهذا من أعظم الخطأ والتناقض
فإن قلتم عارض ما خالفناه منها ما هو أقوى منه ولم يعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدول عنه واطراحه
قيل لا تخلو هذه الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة أو محكمة فإن كانت منسوخة لم يحتج بمنسوخ البتة وإن كانت محكمة لم يجز مخالفة شيء منها البتة
فإن قيل هي منسوخة فيما خالفناها فيه ومحكمة فيما وافقناها فيه
قيل هذا مع أنه ظاهر البطلان يتضمن ما لا علم لمدعيه به فهو قائل ما لا دليل له عليه فأقل ما فيه أن معارضا لو قلب عليه هذه الدعوى بمثلها سواء لكانت دعواه من جنس دعواه ولم يكن بينهما فرق ولا فرق وكلاهما مدع ما لا يمكنه إثباته فالواجب اتباع سنن رسول الله ص - وتحكيمها والتحاكم إليها حتى يقوم الدليل القاطع على نسخ المنسوخ منها أو تجمع الأمة على العمل بخلاف شيء منها وهذا الثاني محال قطعا فإن الأمة ولله الحمد لم تجمع على ترك العمل بسنة واحدة إلا سنة ظاهرة النسخ معلوم للأمة ناسخها وحينئذ يتعين العمل بالناسخ دون المنسوخ وأما أن تترك السنن لقول أحد من الناس فلا كائنا من كان وبالله التوفيق
الوجه العاشرون أن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله وأمر رسوله وهدى أصحابه وأحوال أئمتهم وسلكوا ضد طريق أهل العلم أما أمر الله فإن أمر برد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله والمقلدون قالوا إنما نرده إلى من قلدناه وأما أمر رسوله فإنه ص - أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ وقال المقلدون بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ونقدمه

على كل ما عداه وأما هدي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد رجلا واحدا في جميع أقواله ويخالف ما عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئا ولا يقبل من أقوالهم شيئا وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم
وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله ص - وأقوال خلفائه الراشدين فما وافق ذلك منهم قبلوه ودانوا الله به وقضوا به وأفتوا به وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع من غير أن يلزمها بها أحدا ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها هذه طريقة أهل العلم سلفا وخلفا وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين فزيفوا كتاب الله وسنة رسوله وأقوال خلفائه وأصحابه فعرضوها على أقوال من قلدوه فما وافقها منها قالوا لنا وانقادوا له مذعنين وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا احتج الخصم بكذا وكذا ولم يقبلوه ولم يدينوا به واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن وتطلبوا لها وجوه الحيل التي تردها حتى إذا كانت موافقة لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها شنعوا على منازعهم وأنكروا عليه ردها بتلك الوجوه بعينها وقالوا لا ترد النصوص بمثل هذا ومن له همة تسموا إلى الله ومرضاته ونصر الحق الذي بعث الله به رسوله أين كان ومع من كان لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم
الوجه الحادي والعشرون أن الله سبحانه ذم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم بخلاف أهل العلم فإنهم وإن اختلفوا لم يفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعا بل شيعة واحدة

متفقة على طلب الحق وإيثاره عند ظهوره وتقديمه على كل ما سواه فهم طائفة واحدة قد اتفقت مقاصدهم وطريقهم فالطريق واحد والقصد واحد والمقلدون بالعكس مقاصدهم شتى وطرقهم مختلفة فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق
الوجه الثاني والعشرون أن الله سبحانه ذم الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون والزبر الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله فقال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعلمون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فأمر تعالى الرسل بما أمر به أممهم أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا صالحا وأن يعبدوه وحده وأن يطيعوا أمره وحده وأن لا يتفرقوا في الدين فمضت الرسل وأتباعهم على ذلك ممتثلين لأمر الله قابلين لرحمته حتى نشأت خلوف قطعوا أمرهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فمن تدبر هذه الآيات ونزلها على الواقع تبين له حقيقة الحال وعلم من أي الحزبين هو والله المستعان
الوجه الثالث والعشرون أن الله سبحانه قال ولتكن منكم أمة يدعون إلى خير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون فخص هؤلاء بالفلاح دون من عداهم والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله لا الداعون إلى رأي فلان وفلان
الوجه الرابع والعشرون أن الله سبحانه ذم من إذا دعي إلى الله ورسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره وهذا شأن أهل التقليد قال تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقون يصدون عنك صدودا فكل من أعرض عن الداعي له إلى ما أنزل الله ورسوله إلى غيره فله نصيب من هذا الذم فمستكثر ومستقل

الوجه الخامس والعشرون أن يقال لفرقة التقليد دين الله عندكم واحد وهو في القول وضده فدينه هو الأقوال المختلفة المتضادة التي يناقض بعضها بعضا ويبطل بعضها بعضا كلها دين الله فإن قالوا بلى هذه الأقوال المتضادة المتعارضة التي يناقض بعضها بعضا كلها دين الله خرجوا عن نصوص أئمتهم فإن جميعهم على أن الحق في واحد من الأقوال كما أن القبلة في جهة من الجهات وخرجوا عن نصوص القرآن والسنة والمعقول والصريح وجعلوا دين الله تابعا لآراء الرجال وإن قالوا الصواب الذي لا صواب غيره أن دين الله واحد وهو ما أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده كما أن نبيه واحد وقبلته واحدة فمن وافقه فهو المصيب وله أجران ومن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على خطئه
قيل لهم فالواجب إذا طلب الحق وبذل الاجتهاد في الوصول إليه بحسب الإمكان لأن الله سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة وتقواه فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فلا بد أن يعرف العبد ما أمر به ليفعله وما نهى عنه ليجتنبه وما أبيح له ليأتيه ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلب وتحر للحق فإذا لم يأت بذلك فهو في عهدة الأمر ويلقى الله ولما يقض ما أمره
الوجه السادس والعشرون أن دعوة رسول الله ص - عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة والواجب على من بعد الصحابة هو الواجب عليهم بعينه وإن تنوعت صفاته وكيفياته باختلاف الأحوال ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يعرضون ما يسمعون منه ص - على أقوال علمائهم بل لم يمكن لعلمائهم قول غير قوله ولم يكن أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلا وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا به وهو بعينه الواجب

علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة ومعلوم أن هذا الواجب لم ينسخ بعد موته ولا هو مختص بالصحابة فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله
الوجه السابع والعشرون أن أقوال العلماء وآراءهم لا تنضبط ولا تنحصر ولم تضمن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا فلا يكون اتفاقهم إلا حقا ومن المحال أن يحيلنا الله ورسوله على ما لا ينضبط ولا ينحصر ولم يضمن لنا عصمته من الخطأ ولم يقم لنا دليلا على أن أحد القائلين أولى بأن نأخذ قوله كله من الآخر بل يترك قول هذا كله ويؤخذ قول هذا كله هذا محال أن يشرعه الله أو يرضى به إلا إذا كان أحد القائلين رسولا والآخر كاذبا على الله فالفرض حينئذ ما يعتمده هؤلاء المقلدون مع متبوعهم ومخالفيهم
الوجه الثامن والعشرون أن النبي ص - قال بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وأخبر أن العلم يقل فلا بد من وقوع ما أخبر به الصادق ومعلوم أن كتب المقلدين قد طبقت شرق الأرض وغربها ولم تكن في وقت قط أكثر منها في هذا الوقت ونحن نراها في كل عام في ازدياد وكثرة والمقلدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه وشهرتها في الناس خلاف الغربة بل هي المعروف الذي لا يعرفون غيره فلو كانت هي العلم الذي بعث الله به رسوله لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم في شهرة وظهور وهو خلاف ما أخبر به الصادق
الوجه التاسع والعشرون أن الاختلاف كثير في كتب المقلدين وأقوالهم وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه بل هو حق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض وقد قال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
الوجه الثلاثون أنه لا يجب على العبد أن يقلد زيدا دون عمرو بل

يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد الآخر عند المقلدين فإن كان قول من قلده أولا هو الحق لا سواه فقد جوزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه وهذا محال وإن كان الثاني هو الحق وحده فقد جوزتم الإقامة على خلاف الحق وإن قلتم القولان المتضادان المتناقضان حق فهو أشد حالة ولا بد لكم من قسم من هذه الأقسام الثلاثة
الوجه الحادي والثلاثون أن يقال للمقلد بأي شيء عرفت أن الصواب مع من قلدته دون من لا تقلده فإن قال عرفته بالدليل فليس بمقلد وإن قال عرفته تقليدا له فإنه أفتى بهذا القول ودان به وعلمه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه يمنعه أن يقول غير الحق قيل له أفمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ فإن قال بعصمته أبطل وإن جوز عليه الخطأ قيل له فما يؤمنك أن يكون قد أخطأ فيما قلدته فيه وخالف فيه غيره فإن قال وإن أخطأ فهو مأجور قيل أجل هو مأجور لاجتهاده وأنت غير مأجور لأنك لم تأت بموجب الأجر بل قد فرطت في الاتباع الواجب فأنت إذا مأزور فإن قال كيف يأجره الله على ما أفتى به ويمدحه عليه ويذم المستفتي على قبوله منه وهل يعقل هذا قيل له المستفتي إن هو قصر وفرط في معرفته الحق مع قدرته عليه لحقه الذم والوعيد وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور أيضا وأما المتعصب الذي جعل قول متبوعه عبارا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنها به فما وافق قول متبوعه منها قبله وما خالفه رده فهذا إلى الذم والعقاب أقرب منه إلى الأجر والصواب وإن قال وهو الواقع اتبعته وقلدته ولا أدري أعلي صواب هو أم لا فالعهدة على القائل وأنا حاك لأقواله قيل له فهل تتخلص بهذا من الله عند السؤال لك عما حكمت به بين عباد الله وأفتيتهم به فوالله إن للحكام والمفتين لموقفا للسؤال لا يتخلص فيه إلا من عرف الحق وحكم به وأفتى به وأما من عداهما فسيعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء

الوجه الثاني والثلاثون أن نقول أخذتم بقول فلان لأن فلانا قاله أو لأن رسول الله ص - قاله فإن قلتم لأن فلانا قاله جعلتم قول فلان حجة وهذا عين الباطل وإن قلتم لأن رسول الله ص - قاله كان هذا أعظم وأقبح فإنه مع تضمنه للكذب على رسول الله ص - وتقويلكم عليه ما لم يقله وهو أيضا كذب على المتبوع فإنه لم يقل هذا قول رسول الله ص - فقد دار قولكم بين أمرين لا ثالث لهما إما جعل قول غير المعصوم حجة وإما تقويل المعصوم ما لم يقله ولا بد من واحد من الأمرين فإن قلتم بل منهما بد وبقي قسم ثالث وهو أنا قلنا كذا لأن رسول الله ص - أمرنا أن نتبع من هو أعلم منا ونسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم ونرد ما لم نعلمه إلى استنباط أولي العلم فنحن في ذلك متبعون ما أمرنا به نبينا قيل وهل ندندن إلا حول اتباع أمره ص - فتحيهلا بالموافقة على هذا الأصل الذي لا يتم الإيمان والإسلام إلا به فنناشدكم بالذي أرسله إذا جاء أمره وجاء قول من قلدتموه هل تتركون قوله لأمره ص - وتضربون به الحائط وتحرمون الأخذ به والحالة هذه حتى تتحق المتابعة كما زعمتم أم تأخذون بقوله وتفوضون أمر الرسول ص - إلى الله وتقولون هو أعلم برسول الله ص - منا ولم يخالف هذا الحديث إلا وهو عنده منسوخ أو معارض بما هو أقوى منه أو غير صحيح عنده فتجعلون قول المتبوع محكما وقول الرسول متشابها فلو كنتم قائلين بقوله لكون الرسول أمركم بالأخذ بقوله لقدمتم قول الرسول أين كان
ثم نقول في الوجه الثالث والثلاثين وأين أمركم الرسول بأخذ قول واحد من الأمة بعينه وترك قول نظيره ومن هو أعلم منه وأقرب إلى الرسول وهل هذا إلا نسبة لرسول الله ص - إلى أنه أمر بما لم يأمر به قط

يوضحه الوجه الرابع والثلاثون أن ما ذكرتم بعينه حجة عليكم فإن الله سبحانه أمر بسؤال أهل الذكر والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر الله نساء نبيه أن يذكرنه بقوله واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة فهذا هو الذكر الذي أمرنا الله باتباعه وأمر من لا علم عنده أن يسأل أهله وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنزله على رسوله ليخبروه به فإذا أخبروه به لم يسعه غير اتباعه وهذا كان شأن أئمة أهل العلم لم يكن لهم مقلد معين يتبعونه في كل ما قال فكان عبد الله بن عباس يسأل الصحابة عما قاله رسول الله ص - أو فعله أو سنه لا يسألهم عن غير ذلك وكذلك الصحابة كانوا يسألون أمهات المؤمنين خصوصا عائشة عن فعل رسول الله ص - في بيته وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن نبيهم فقط وكذلك أئمة الفقه كما قال الشافعي لأحمد يا أبا عبد الله أنت أعلم بالحديث مني فإذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شاميا كان أو كوفيا أو بصريا ولم يكن أحد من أهل العلم قط يسأل عن رأي رجل بعينه ومذهبه فيأخذ به وحده ويخالف له ما سواه
الوجه الخامس والثلاثون أن النبي ص - إنما أرشد المستفتين كصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه وسنته فقال قتلوه قتلهم الله فدعا عليهم لما أفتوا بغير علم وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد فإنه ليس علما باتفاق الناس فإن ما دعا رسول الله ص - على فاعله فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم فما احتج المقلدون به هو من أكبر الحجج عليهم والله الموفق وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجره لأهل العلم فإنهم لما أخبروه بسنة رسول الله ص - في البكر الزاني أقره على ذلك ولم ينكره فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم
الوجه السادس والثلاثون قولهم إن عمر قال في الكلالة إني لأستحي من الله

أن أخلف أبا بكر وهذا تقليد منه له فجوابه من خمسة أوجه
أحدها أنهم اختصروا الحديث وحذفوا منه ما يبطل استدلالهم ونحن نذكره بتمامه قال شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي إن أبا بكر قال في الكلالة أقضي فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء هو ما دون الولد والوالد فقال عمر بن الخطاب إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر فاستحى عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه وأنه ليس كلامه كله صوابا مأمونا عليه الخطأ ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء وقد اعترف أنه لم يفهمها
الوجه الثاني أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يذكر كما خالفه في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر وخالفه عمر وبلغ خلافه إلى أن ردهن حرائر إلى أهلهن إلا من ولدت لسيدها منهن ونقض حكمه ومن جملتهن خولة الحنفية أم محمد بن علي فأين هذا من فعل المقلدين بمتبوعهم وخالفه في أرض العنوة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر وخالفه في المفاضلة في العطاء فرأي أبو بكر التسوية ورأي عمر المفاضلة ومن ذلك مخالفته له في الاستخلاف وصرح بذلك فقال إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر وإن لم أستخلف فإن رسول الله ص - لم يستخلف قال ابن عمر والله ما هو إلا أن ذكر رسول الله ص - فعلمت أنه لا يعدل برسول الله ص - أحدا وأنه غير مستخلف فهكذا يفعل أهل العلم حين تتعارض عندهم سنة رسول الله ص - وقول غيره لا يعدلون بالسنة شيئا سواها لا كما يصرح به المقلدون صراحا وخلافه له في الجد والإخوة معلوم أيضا
الثالث أنه لو قدر تقليد عمر لأبي بكر في كل ما قاله لم يكن في ذلك مستراح لمقلدي من هو بعد الصحابة والتابعين ممن لا يدابي الصحابة ولا يقاربهم فإن كان كما زعمتم لكم أسوة بعمر فقلدوا أبا بكر واتركوا تقليد غيره والله ورسوله

وجميع عباده يحمدونكم على هذا التقليد ما لا يحمدونكم على تقليد غير أبي بكر
الرابع أن المقلدين لأئمتهم لم يستحيوا مما استحيا منه عمر لأنهم يخالفون أبا بكر وعمر معه ولا يستحيون من ذلك لقول من قلدوه من الأئمة بل قد صرح بعض غلاتهم في بعض كتبه الأصولية أنه لا يجوز تقليد أبي بكر وعمر ويجب تقليد الشافعي فبا لله العجب الذي أوجب تقليد الشافعي حرم عليكم تقليد أبي بكر وعمر ونحن نشهد الله علينا شهادة نسأل عنها يوم نلقاه أنه إذا صح عن الخليفتين الراشدين اللذين أمرنا رسول الله ص - باتباعهما والاقتداء بهما قول وأطبق أهل الأرض على خلافه لم نلتفت إلى أحد منهم ونحمد الله أن عافانا مما ابتلى به من حرم تقليدهما وأوجب تقليد متبوعه من الأئمة وبالجملة فلو صح تقليد عمر لأبي بكر لم يكن في ذلك راحة لمقلدي من لم يأمر الله ولا رسوله بتقليده ولا جعله عيارا على كتابه وسنة نبيه ولا هو جعل نفسه كذك
الخامس أن غاية هذا أن يكون عمر قد قلد أبا بكر في مسألة واحدة فهل في هذا دليل على جواز اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة
الوجه السابع والثلاثون قولهم إن عمر قال لأبي بكر رأينا لرأيك تبع فالظاهر أن المحتج بهذا سمع الناس يقولون كلمة تكفي العاقل فاقتصر من الحديث على هذه الكلمة واكتفى بها والحديث من أعظم الأشياء إبطالا لقوله ففي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألون الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية فقالوا هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية قال ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما أصبنا لكم وتردون لنا ما أصبتم منا وتدون لنا قتلانا وتكون

قتلاكم في النار وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله والمهاجرين أمرا يعذرونكم به فعرض أبو بكر ما قال على القوم فقام عمر بن الخطاب فقال قد رأيت رأيا سنشير عليك أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت من أن تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقتلت على ما أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات فتتابع القوم على ما قال عمر فهذا هو الحديث الذي في بعض ألفاظه قد رأيت رأيا ورأينا لرأيك تبع فأي مستراح في هذا لفرقة التقليد
الوجه الثامن والثلاثون قولهم إن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر فخلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده وإنما كان يوافقه كما يوافق العالم العالم وحتى لو أخذ بقوله تقليدا لعمر فإنما ذلك في نحو أربع مسائل نعدها وكان من عماله وكان عمر أمير المؤمنين وأما مخالفته له ففي نحو مائة مسألة منها أن ابن مسعود صح عنه أن أم الولد تعتق من نصيب ولدها ومنها أنه كان يطبق في الصلاة إلى أن مات وعمر كان يضع يديه على ركبتيه ومنها أن ابن مسعود كان يقول في الحرام هي يمين وعمر يقول طلقة واحدة ومنها أن ابن مسعود كان يحرم نكاح الزانية على الزاني أبدا وعمر كان يتوبهما وينكح أحدهما الآخر ومنها أن ابن مسعود كان يرى بيع الأمة طلاقها وعمر يقول لا تطلق بذلك إلى قضايا كثيرة
والعجب أن المحتجين بهذا لا يرون تقليد ابن مسعود ولا تقليد عمر وتقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي أحب إليهم وآثر عندهم ثم كيف ينسب إلى ابن مسعود تقليد الرجال وهو يقول لقد علم أصحاب رسول الله ص - أني أعلمهم بكتاب الله ولو أعلم أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه قال شقيق فجلست في حلقة من أصحاب رسول الله فيما سمعت أحدا يرد ذلك عليه وكان يقول والذي لا إله إلا هو ما من كتاب الله سورة إلا وأنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا

هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه وقال أبو موسى الأشعري كنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي ص - من كثرة دحولهم ولزومهم له وقال أبو مسعود البدري وقد قام عبد الله بن مسعود ما أعلم رسول الله ص - ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم فقال أبو موسى لقد كان يشهد إذا ما غبنا ويؤذن له إذا ما حجبنا وكتب عمر إلى أهل الكوفة إني بعثت إليكم عمارا أميرا وعبد الله معلما وزيرا وهما من النجباء من أصحاب محمد ص - من أهل بدر فخذوا عنهما واقتدوا بهما فإني آثرتكم بعبد الله على نفسي وقد صح عن ابن عمر أنه استفتى ابن مسعود في البتة وأخذ بقوله ولم يكن ذلك تقليدا له بل لما سمع قوله فيها تبين له أنه الصواب فهذا هو الذي كان يأخذ به الصحابة من أقوال بعضهم بعضا وقد صح عن ابن مسعود أنه قال أغد عالما أو متعلما ولا تكونن إمعة فأخرج الإمعة وهو المقلد من زمرة العلماء والمتعلمين وهو كما قال رضي الله عنه فإنه لا مع العلماء ولا مع المتعلمين للعلم والحجة كما هو معروف ظاهر لمن تأمله
الوجه التاسع والثلاثون قولهم إن عبد الله كان يدع قوله لقول عمر وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي وزيد يدع قوله لقول أبي بن كعب فجوابه أنهم لم يكونوا يدعون ما يعرفون من السنة تقليدا لهؤلاء الثلاثة كما تفعله فرقة التقليد بل من تأمل سيرة القوم رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا يدعونها لقول أحد كائنا من كان وكان ابن عمر يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة وابن عباس ينكر على من يعارض ما بلغه من السنة بقوله قال أبو بكر وعمر ويقول يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله ص - وتقولون قال أبو بكر وعمر فرحم الله ابن عباس ورضى عنه فوالله لو شاهد خلفنا هؤلاء الذين إذا قيل لهم قال رسول الله ص

قالوا قال فلان وفلان لمن لا يداني الصحابة ولا قريبا من قريب وإنما كانوا يدعون أقوالهم لأقوال هؤلاء لأنهم يقولون القول ويقول هؤلاء فيكون الدليل معهم فيرجعون إليهم ويدعون أقوالهم كما يفعل أهل العلم الذين هو أحب إليهم مما سواه وهذا عكس طريقة فرقه أهل التقليد من كل وجه وهذا هو الجواب عن قول مسروق ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس
الوجه الأربعون قولهم إن النبي ص - قد سن لكم معاذ فاتبعوه فعجبا لمحتج بهذا على تقليد الرجال في دين الله وهل صار ما سنه معاذ سنة إلا بقوله ص - فاتبعوه كما صار الأذان سنة بقوله ص - وإقراره وشرعه لا بمجرد المنام
فإن قيل فما معنى الحديث
قيل معناه أن معاذا فعل فعلا جعله الله لكم سنة وإنما صار سنة لنا حين أمر به النبي ص - لا لأن معاذا فعله فقط وقد صح عن معاذ أنه قال كيف تصنعون بثلاث دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال منافق بالقرآن فأما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب وأما القرآن فإن له منارا كمنار الطريق لا يخفى على أحد فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحدا وما لم تعلموه فكلوه إلى عالمه وأما الدنيا فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح ومن لا فليست بنافعته دنياه فصدع
رضي الله عنه بالحق ونهى عن التقليد في كل شيء وامر باتباع ظاهر القرآن وأن لا يبالي بمن خالف فيه وأمر بالتوقف فيما أشكل وهذا كله خلاف طريقة المقلدين وبالله التوفيق
الوجه الحادي والأربعون قولكم إن الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر وهم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتنون به فجوابه أن أولي الأمر قد قيل

هم الأمراء وقيل هم العلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين وطاعتهم من طاعة الرسول لكن خفي على المقلدين أنهم إنما يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله ورسوله فكان العلماء مبلغين لأمر الرسول والأمراء منفذين له فحينئذ تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله ص - وإيثار التقليد عليها
الوجه الثاني والأربعون أن هذه الآية من أكثر الحجج عليهم وأعظمها إبطالا للتقليد وذلك من وجوه أحدها الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه الثاني طاعة رسوله ولا يكون العبد مطيعا لله ورسوله حتى يكون عالما بأمر الله ورسوله ومن أقر على نفسه بأنه ليس من أهل العلم بأوامر الله ورسوله وإنما هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله ألبتة الثالث أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم كما صح ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة وذكرناه نصا عن الأئمة الأربعة وغيرهم وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد وإن لم تكن واجبة بطل الأستدلال الرابع أنه سبحانه قال في الآية نفسها فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد
فإن قيل فما هي طاعتهم المختصة بهم إذ لو كانوا إتما يطاعون فيما يخبرون به عن الله ورسوله كانت الطاعة لله ورسوله لا لهم
قيل وهذا هو الحق وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال ولهذا قرنها بطاعة الرسول ولم يعد العامل وأفرد طاعة الرسول وأعاد العامل لئلا يتوهم

أنه إنما يطاع تبعا كما يطاع أولو الأمر تبعا وليس بل طاعته واجبة استقلالا سواء كان ما أمر به ونهى عنه في القرآن أو لم يكن
الوجه الثالث والأربعون قولهم إن الله سبحانه وتعالى أثنى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وتقليدهم هو اتباعهم بإحسان فما أصدق المقدمة الأولى وما أكذب الثانية بل الآية من أعظم الأدلة ردا على فرقة التقليد فإن اتباعهم هو سلوك سبيلهم ومنهماجهم وقد نهوا عن التقليد وكون الرجل إمعة وأخبروا أنه ليس من أهل البصيرة ولم يكن فيهم ولله الحمد رجل واحد على مذهب هؤلاء المقلدين وقد أعاذهم الله وعافاهم مما ابتلى به من يرد النصوص لآراء الرجال وتقليدها فهذا ضد متابعتهم وهو نفس مخالفتهم فالتابعون لهم بإحسان حقا هم أولو العلم والبصائر الذين لا يقدمون على كتاب الله وسنة رسوله رأيا ولا قياسا ولا معقولا ولا قول أحد من العالمين ولا يجعلون مذهب أحد عيارا على القرآن والسنن فهؤلاء أتباعهم حقا جعلنا الله منهم بفضله ورحمته
يوضحه الوجه الرابع والأربعون أن أتباعهم لو كانوا هم المقلدين الذين هم مقرون على أنفسهم وجميع أهل العلم أنهم ليسوا من أولي العلم لكان سادات العلماء الدائرون مع الحجة ليسوا من أتباعهم والجهال أسعد بأتباعهم منهم وهذا عين المحال بل من خالف واحدا منهم للحجة فهو المتبع له دون من أخذ قوله بغير حجة وهكذا القول في أتباع الأئمة
رضي الله عنهم معاذ الله أن يكونوا هم المقلدين لهم الذين ينزلون آراءهم منزلة النصوص بل يتركون لها النصوص فهؤلاء ليسوا من أتباعهم وإنما أتباعهم من كان على طريقتهم واقتفى منهاجهم
ولقد أنكر بعض المقلدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي وهي وقف على الحنابلة والمجتهد ليس منهم فقال إنما أتناول ما أتناوله منها

على معرفتي بمذهب أحمد لا على تقليدي له ومن المحال أن يكون هؤلاء المتأخرون على مذهب الأئمة دون أصحابهم الذين لم يكونوا يقلدونهم فأتبع الناس لمالك ابن وهب وطبقته ممن يحكم الحجة وينقاد للدليل أين كان وكذلك أبو يوسف ومحمد أتبع لأبي حنيفة من المقلدين له مع كثرة مخالفتهما له وكذلك البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم وهذه الطبقة من أصحاب أحمد أتبع له من المقلدين المحض المنتسبين إليه وعلى هذا فالوقف على أتباع الأئمة أهل الحجة والعلم أحق به من المقلدين في نفس الأمر
الوجه الخامس والأربعون قولهم يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم جوابه من وجوه
أحدها أن هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر ولا يثبت شيء منها قال ابن عبد البر حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن أبا عبد الله بن مفرج حدثهم ثنا محمد بن أيوب الصموت قال قال لنا البزار وأما ما يروى عن النبي ص - أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فهذا الكلام لا يصح عن النبي ص -
الثاني أن يقال لهؤلاء المقلدين فكيف استجزتم ترك تقليد النجوم التي يهتدي بها وقلدتم من هو دونهم بمراتب كثيرة فكان تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد آثر عندكم من تقليد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فما دل عليه الحديث خالفتموه صريحا واستدللتم به على تقليد من لم يتعرض له بوجه
الثالث أن هذا يوجب عليكم تقليد من ورث الجد مع الأخوة منهم ومن أسقط الإخوة به معا وتقليد من قال الحرام يمين ومن قال هو طلاق وتقليد من حرم الجمع بين الأختين بملك اليمين ومن أباحه وتقليد من جوز للصائم أكل البرد ومن منع منه وتقليد من قال تعتد المتوفي عنها

بأقصى الأجلين ومن قال بوضع الحمل وتقليد من قال يحرم على المحرم استدامة الطيب وتقليد من أباحه وتقليد من جوز بيع الدرهم بالدرهمين وتقليد من حرمه وتقليد من أوجب الغسل من الإكسال وتقليد من أسقطه وتقليد من ورث ذوي الأرحام ومن أسقطهم وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير ومن لم يره وتقليد من منع تيمم الجنب ومن أوجبه وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدا ومن رآه ثلاثا وتقليد من أوجب فسخ الحج إلى العمرة ومن منع منه وتقليد من أباح لحوم الحمر الأهلية ومن منع منها وتقليد من رأى النقض بمس الذكر ومن لم يره وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها ومن لم يره وتقليد من وقف المولى عند الأجل ومن لم يقفه وأضعاف أضعاف ذلك مما اختلف فيه أصحاب رسول الله ص - فإن سوغتم هذا فلا تحتجوا لقول على قول ومذهب على مذهب بل اجعلوا الرجل مخيرا في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم ولا تنكروا على من خالف مذهبكم واتبع قول أحدهم وإن لم تسوغوه فأنتم أول مبطل لهذا الحديث ومخالف له وقائل بضد مقتضاه وهذا مما لا انفكاك لكم منه
الرابع أن الاقتداء بهم هو اتباع القرآن والسنة والقبول من كل من دعا إليهما منهم فإن الاقتداء بهم يحرم عليكم التقليد ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل كما كان عليه القوم
رضي الله عنهم وحينئذ فالحديث من أقوى الحجج عليكم وبالله التوفبق
الوجه السادس والأربعون قولكم قال عبد الله بن مسعود من كان مستنا منكم فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد فهذا من أكبر الحجج عليكم من وجوه فإنه نهى عن الاستنان بالأحياء وأنتم تقلدون الأحياء والأموات الثاني أنه عين المستن بهم بأنهم خير الخلق وأبر الأمة وأعلمهم وهم الصحابة
رضي الله عنهم وأنتم معاشر المقلدين لا ترون تقليدهم ولا الاستنان بهم وإنما ترون تقليد فلان وفلان ممن هو دونهم بكثير الثالث أن الاستنان بهم هو الإقتداء

بهم وهو بأن يأتي المقتدي بمثل ما أتوا به ويفعل كما فعلوا وهذا يبطل قبول قول أحد بغير حجة كما كان الصحابة عليه الرابع أن ابن مسعود قد صح عنه النهي عن التقليد وأن يكون الرجل إمعة لا بصيرة له فعلم أن الاستنان عنده غير التقليد
الوجه السابع والأربعون قولكم قد صح النبي ص - أنه قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وقال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر فهذا من أكبر حججنا عليكم في بطلان ما أنتم عليه من التقليد فإنه خلاف سنتهم ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا منهم لم يكن يدع السنة إذا ظهرت لقول غيره كائنا من كان ولم يكن له معها قول ألبتة وطريقة فرقة التقليد خلاف ذلك
يوضحه الوجه الثامن والأربعون أنه
صلى الله عليه وسلم قرن سنتهم بسنته في وجوب الاتباع والأخذ بسنتهم ليس تقليدا لهم بل اتباع لرسول الله ص - كما أن الأخذ بلأذان لم يكن تقليدا لمن رآه في المنام والأخذ بقضاء ما فات المسبوق من صلاته بعد سلام الإمام لم يكن تقليدا لمعاذ بل اتباعا لما أمرنا بالأخذ بذلك فاين التقليد الذي أنتم عليه من هذا
يوضحه الوجه التاسع والأربعون أنكم أول مخالف لهذين الحديثين فإنكم لا ترون الأخذ بسنتهم ولا الاقتداء بهم واجبا وليس قولهم عندكم حجة وقد صرح بعض غلاتكم بأنه لا يجوز تقليدهم ويجب تقليد الشافعي فمن العجائب احتجاجكم بشيء أنتم أشد الناس خلافا له وبالله التوفيق
يوضحه الوجه الخمسون أن الحديث بجملته حجة عليكم من كل وجه فإنه أمر عند كثرة الاختلاف بسنته وسنة خلفائه وأمرتم أنتم برأي فلان ومذهب فلان الثاني أنه حذر من محدثات الأمور وأخبر أن كل محدثة بدعة

وكل بدعة ضلالة ومن المعلوم بالاضطرار أن ما أنتم عليه من التقليد الذي ترك له كتاب الله وسنة رسوله ويعرض القرآن والسنة عليه ويجعل معيارا عليهما من أعظم المحدثات والبدع التي برأ الله سبحانه القرون التي فضلها وخيرها على غيرها وبالجمله فما سنه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة فهو حجة لا يجوز العدول عنها فأين هذا من قول فرقة التقليد ليست سنتهم حجة ولا يجوز تقليدهم فيها
يوضحه الوجه الحادي والخمسون أنه ص - قال في نفس هذا الحديث فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا وهذا ذم للمختلفين وتحذير من سلوك سبيلهم وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله وهم الذين فرقوا الدين وصيروا أهله شيعا كل فرقة تنصر متبوعها وتدعو إليه وتذم من خالفها ولا يرون العمل بقولهم حتى كأنهم ملة أخرى سواهم يدأبون ويكدحون في الرد عليهم ويقولون كتبهم وكتبنا وأئمتهم وأئمتنا ومذهبهم ومذهبنا هذا والنبي واحد والقرآن واحد والدين واحد والرب واحد فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواء بينهم كلهم وأن لا يطيعوا إلا الرسول ولا يجعلوا معه من يكون أقواله كنصوصه ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله فلو اتفقت كلمتهم على ذلك وانقاد كل واحد منهم لمن دعاه إلى الله ورسوله وتحاكموا كلهم إلى السنة وآثار الصحابة لقل الاختلاف وإن لم يعدم من الأرض ولهذا تجد أقل الناس اختلافا أهل السنة والحديث فليس على وجه الأرض طائفة أكثر اتفاقا وأقل اختلافا منهم لما بنوا على هذا الأصل وكلما كانت الفرقة عن الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر فإن من رد الحق مرج عليه أمره واختلط عليه والتبس عليه وجه الصواب فلم يدر أين يذهب كما قال تعالى بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج

الوجه الثاني والخمسون قولكم إن عمر كتب إلى شريح أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يكن في سنة رسول الله فبما قضى به الصالحون فهذا من أظهر الحجج عليكم على بطلان التقليد فإنه أمره أن يقدم الحكم بالكتاب على كل ما سواه فإن لم يجده في الكتاب ووجده في السنة لم يلتفت إلى غيرها فإن لم يجده في السنة قضى بما قضى الصحابة ونحن نناشد الله فرقة التقليد هل هم كذلك أو قريبا من ذلك وهل إذا نزلت بهم نازلة حدث أحد منهم نفسه أن يأخذ حكمها من كتاب الله ثم ينفذه فإن لم يجدها في كتاب الله أخذها من سنة رسول الله ص - فإن لم يجدها في السنة أفتى فيها بما أفتى به الصحابة والله يشهد عليهم وملائكته وهم شاهدون على أنفسهم بأنهم إنما يأخذون حكمها من قول من قلدوه وإن استبان لهم في الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة خلاف ذلك لم يلتفتوا إليه ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلدوه فكتاب عمر من أبطل الأشياء وأكسرها لقولهم وهذا كان سير السلف المستقيم وهديهم القويم
فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير وقالوا إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولا هل فيها اختلاف أم لا فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا في سنة بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به وحكم به وهذا خلاف ما دل عليه حديث معاذ وكتاب عمر وأقوال الصحابة والذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أولى فإنه مقدور مأمور فإن علم المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهل عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم وهذا إن لم يكن متعذرا فهو أصعب شيء وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام فكيف يحيلنا الله ورسوله على ما لا وصول لنا إليه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"