بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 3 يوليو 2010

الاسراء والمعراج/6

قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت راجعا ، فلما مررت بموسى بن عمران ونعم الصاحب كان لكم سألني كم فرض عليك من الصلاة ؟ فقلت خمسين صلاة كل يوم فقال إن الصلاة ثقيلة وإن أمتك ضعيفة فارجع إلى ربك ، فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك . فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني ، وعن أمتي ، فوضع عني عشرا . ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك فرجعت فسألت ربي ، فوضع عني عشرا . ثم انصرفت ، فمررت على موسى ، فقال لي مثل ذلك فرجعت فسألته فوضع عني عشرا ، ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه قال فارجع فاسأل حتى انتهيت إلى أن وضع ذلك عني ، إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة .

ثم رجعت إلى موسى ، فقال لي مثل ذلك فقلت : قد راجعت ربي وسألته ، حتى استحييت منه فما أنا بفاعل " ، رواه البيهقي في كتاب دلائل النبوة وابن جرير وابن أبي حاتم فمن أداهن منكم إيمانا بهن واحتسابا لهن كان له أجر خمسين صلاة مكتوبة . رواه . وفي الحديث غرابة ونكارة


فرض الصلاة

فصل وأما فرض الصلاة عليه هنالك ففيه التنبيه على فضلها ، حيث لم تفرض إلا في الحضرة المقدسة ولذلك كانت الطهارة من شأنها ، ومن شرائط أدائها ، والتنبيه على أنها مناجاة الرب وأن الرب تعالى مقبل بوجهه على المصلي يناجيه يقول حمدني عبدي ، أثنى علي عبدي إلى آخر السورة وهذا مشاكل لفرضها عليه في السماء السابعة حيث سمع كلام الرب وناجاه ولم يعرج به حتى طهر ظاهره وباطنه بماء زمزم كما يتطهر المصلي للصلاة وأخرج عن الدنيا بجسمه كما يخرج المصلي عن الدنيا بقلبه ويحرم عليه كل شيء إلا مناجاة ربه وتوجهه إلى قبلته في ذلك الحين وهو بيت المقدس ، ورفع إلى السماء كما يرفع المصلي يديه إلى جهة السماء إشارة إلى القبلة العليا فهي البيت المعمور ، وإلى جهة عرش من يناجيه ويصلي له سبحانه .

فرض الصلوات خمسين

فصل وأما فرض الصلوات خمسين ثم حط منها عشرا بعد عشر إلى خمس صلوات . وقد روي أيضا أنها حطت خمسا بعد خمس وقد يمكن الجمع بين الروايتين لدخول الخمس في العشر فقد تكلم في هذا النقص من الفريضة أهو نسخ أم لا ؟

على قولين فقال قوم هو من باب نسخ العبادة قبل العمل بها ، وأنكر أبو جعفر النحاس هذا القول من وجهين أحدهما البناء على أصله ومذهبه في أن العبادة لا يجوز نسخها قبل العمل بها ، لأن ذلك عنده من البداء والبداء محال على الله سبحانه .

الثاني : أن العبادة إن جاز نسخها قبل العمل بها عند من يرى ذلك فليس يجوز عند أحد نسخها قبل هبوطها إلى الأرض ووصولها إلى المخاطبين قال وإنما ادعى النسخ في هذه الصلوات الموضوعة عن محمد وأمته القاشاني ، ليصحح بذلك مذهبه في أن البيان لا يتأخر ثم قال أبو جعفر إنما هي شفاعة شفعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته ومراجعة راجعها ربه ليخفف عن أمته ولا يسمى مثل هذا نسخا .

قال المؤلف أما مذهبه في أن العبادة لا تنسخ قبل العمل بها ، وأن ذلك بداء فليس بصحيح لأن حقيقة البداء أن يبدو للآمر رأي يتبين له الصواب فيه بعد أن لم يكن تبينه وهذا محال في حق من يعلم الأشياء بعلم قديم وليس النسخ من هذا في شيء إنما النسخ تبديل حكم بحكم والكل في سابق علمه ومقتضى حكمته كنسخه المرض بالصحة والصحة بالمرض ونحو ذلك وأيضا بأن العبد المأمور يجب عليه عند توجه الأمر إليه ثلاث عبادات الفعل الذي أمر به والعزم على الامتثال عند سماع الأمر واعتقاد الوجوب إن كان واجبا فإن نسخ الحكم قبل الفعل فقد حصلت فائدتان العزم واعتقاد الوجوب .

وعلم الله ذلك منه فصح امتحانه له واختباره إياه وأوقع الجزاء على حسب ما علم من نيته وإنما الذي لا يجوز نسخ الأمر قبل نزوله وقبل علم المخاطب به والذي ذكر النحاس من نسخ العبادة بعد العمل بها ، فليس هو حقيقة النسخ لأن العبادة المأمور بها قد مضت وإنما جاء الخطاب بالنهي عن عملها لا عنها ، وقولنا في الخمس والأربعين صلاة الموضوعة عن محمد وأمته أحد وجهين إما أن يكون نسخ ما وجب على النبي صلى الله عليه وسلم من أدائها ورفع عنه استمرار العزم واعتقاد الوجوب وهذا قد قدمنا أنه نسخ على الحقيقة ونسخ عنه ما وجب عليه من التبليغ فقد كان في كل مرة عازما على تبليغ ما أمر به وقول أبي جعفر إنما كان شافعا ومراجعا ينفي النسخ فإن النسخ قد يكون عن سبب معلوم فشفاعته عليه السلام لأمته كانت سببا للنسخ لا مبطلة لحقيقته ولكن المنسوخ ما ذكرنا من حكم التبليغ الواجب عليه قبل النسخ وحكم الصلوات الخمس في خاصته وأما أمته فلم ينسخ عنهم حكم إذ لا يتصور نسخ الحكم قبل بلوغه إلى المأمور كما قدمنا ، وهذا كله أحد الوجهين في الحديث .

والوجه الثاني أن يكون هذا خبرا لا تعبدا ، وإذا كان خبرا لم يدخله النسخ ومعنى الخبر أنه عليه السلام أخبره ربه أن على أمته خمسين صلاة ومعناه أنها خمسون في اللوح المحفوظ وكذلك قال في آخر الحديث هي خمس وهي خمسون والحسنة بعشر أمثالها فتأوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنها خمسون بالفعل فلم يزل يراجع ربه حتى بين له أنها خمسون في الثواب لا بالعمل .

فإن قيل فما معنى نقضها عشرا بعد عشر ؟ قلنا : ليس كل الخلق يحضر قلبه في الصلاة من أولها إلى آخرها ، وقد جاء في الحديث أنه يكتب له منها ما حضر قلبه فيها ، وأن العبد يصلي الصلاة فيكتب له نصفها ربعها حتى انتهى إلى عشرها ، ووقف فهي خمس في حق من كتب له عشرها ، وعشر في حق من كتب له أكثر من ذلك وخمسون في حق من كملت صلاته وأداها بما يلزمه من تمام خشوعها وكمال سجودها وركوعها .

أوصاف من الملائكة

فصل وذكر أنه عليه السلام لم يلقه ملك من الملائكة إلا ضاحكا مستبشرا إلا مالكا خازن جهنم وذلك أنه لم يضحك لأحد قبله ولا هو ضاحك لأحد ومصداق هذا في كتاب الله تعالى ، قال الله سبحانه عليها ملائكة غلاظ شداد [ التحريم 60 ] وهم موكلون بغضب الله تعالى فالغضب لا يزايلهم أبدا ، وفي هذا الحديث معارضة للحديث الذي في صفة ميكائيل أنه ما ضحك منذ خلق الله جهنم وكذلك يعارضه ما خرج الدارقطني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبسم في الصلاة فلما انصرف سئل عن ذلك فقال " رأيت ميكائيل راجعا من طلب القوم على جناحيه الغبار فضحك إلي فتبسمت إليه " وإذا صح الحديثان فوجه الجمع بينهما : أن يكون لم يضحك منذ خلق الله النار إلى هذه المدة التي ضحك فيها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون الحديث عاما يراد به الخصوص أو يكون الحديث الأول حدث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل هذا الحديث الأخير ثم حدث بعد بما حدث به من ضحكه إليه والله أعلم ولم ير مالكا على الصورة التي يراه عليها المعذبون في الآخرة ولو رآه على تلك الصورة ما استطاع أن ينظر إليه .

أكلة الربا في رؤيا المعراج

وذكر أكلة الربا وأنهم بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة وهي العطاش والهيام شدة العطش وكان قياس هذا الوصف ألا يقال فيه مهيومة كما لا يقال معطوشة إنما يقال هائم وهيمان وقد يقال هيوم ويجمع على هيم ووزنه فعل بالضم لكن كسر من أجل الياء كما قال تعالى : فشاربون شرب الهيم [ الواقعة 55 ] ولكن جاء في الحديث مهيومة كأنه شيء فعل بها كالمحمومة والمجنونة وكالمنهوم وهو الذي لا يشبع وكان قياس الياء أن تعتل فيقال مهيمة كما يقال مبيعة في معنى مبيوعة ولكن صحت الياء لأنها في معنى الهيومة كما صحت الواو في عور لأنه في معنى أعور كما صحت في اجتوروا لأنه في معنى : تجاوروا ، وإنما رآهم منتفخة بطونهم لأن العقوبة مشاكلة للذنب فآكل الربا يربو بطنه كما أراد أن يربو ماله بأكل ما حرم عليه فمحقت البركة من ماله وجعلت نفخا في بطنه حتى يقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وإنما جعلوا بطريق آل فرعون يمرون عليهم غدوا وعشيا لأن آل فرعون هم أشد الناس عذابا يوم القيامة كما قال سبحانه أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ غافر 46 ] . فخصوا بسبيلهم ليعلم أن الذين هم أشد الناس عذابا يطئونهم فضلا عن غيرهم من الكفار وهم لا يستطيعون القيام ومعنى كونهم في طريق جهنم بحيث يمر بالكفار عليهم أن الله سبحانه قد أوقف أمرهم بين أن ينتهوا ، فيكون خيرا لهم وبين أن يعودوا ويصروا ، فيدخلهم النار وهذه صفة من هو في طريق النار قال الله تعالى : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله [ البقرة 275 ] . إلى آخر الآية وفي بعض المسندات أنه رأى بطونهم كالبيوت يعني : أكلة الربا ، وفيها حيات ترى خارج البطون .

فإن قيل هذه الأحوال التي وصفها عن أكلة الربا إن كانت عبارة عن حالهم في الآخرة قال فرعون في الآخرة قد أدخلوا أشد العذاب وإنما يعرضون على النار غدوا وعشيا في البرزخ وإن كانت هذه الحال التي رآهم عليها في البرزخ فأي بطون لهم وقد صاروا عظاما ورفاتا ، ومزقوا كل ممزق فالجواب أنه إنما رآهم في البرزخ لأنه حديث عما رأى ، وهذه الحال هي حال أرواحهم بعد الموت وفيها تصحيح لمن قال الأرواح أجساد لطيفة قابلة للنعيم والعذاب فيخلق الله في تلك الأرواح من الآلام ما يجده من انتفخ بطنه حتى وطئ بالأقدام ولا يستطيع من قيام وليس في هذا الحديث دليل على أنهم أشد عذابا من آل فرعون ، ولكن فيه دليل على أنهم يطؤهم آل فرعون وغيرهم من الكفار الذين لم يأكلوا الربا ما داموا في البرزخ إلى أن يقوموا يوم القيامة كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ثم ينادي منادي الله أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ غافر 46 ] وكذلك ما رأى من النساء المعلقات بثديهن يجوز أن يكون رأى أرواحهن وقد خلق فيها من الآلام ما يجده من هذه حاله ويحتمل أيضا أن يكون مثلت له حالهن في الآخرة وذكر الذين يدعون ما أحل الله من نسائهم ويأتون ما حرم عليهم وهذا نص على تحريم إتيان النساء في أعجازهن وقد قام الدليل على تحريمه من الكتاب والسنة والإجماع وقد ذكرنا المواضع التي يقوم منها التحريم على هذه المسألة من كتاب الله ومن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرنا ما جاء في ذلك عن ابن عباس من قوله هو الكفر وقول ابن عمر هو اللوطية الصغرى وأما الإجماع فإن المرأة ترد بداء الفرج ولو جاز وطؤها في المسلك الآخر ما أجمعوا على ردها بداء الفرج وقد مهدنا الأدلة على هذه المسألة مفردة في غير هذا الإملاء بما فيه شفاء والحمد لله . الولد لغير رشدة وقوله فأكل حرائبهم الحريبة المال وهو من الحرب وهو السلب يريد أن الولد إذا كان لغير رشدة نسب إلى الذي ولد على فراشه فيأكل من ماله صغيرا ، وينظر إلى بناته من غير أمه وإلى أخواته ولسن بعمات له وإلى أمه وليست بجدة له وهذا فساد كبير وإنما قدم ذكر الأكل من حريبته وماله قبل الاطلاع على عوراته وإن كان الاطلاع على العورات أشنع لأن نفقته عليه أول من حال صغره ثم قد يبلغ حد الاطلاع على عوراته أو لا يبلغ وأيضا فإن الأم أرضعته بلبانها ، ولم تدفعه إلى مرضعة كان الزوج أبا له من الرضاعة وكان حكمه حكم الابن من الرضاعة وفي ذلك نقصان من الشناعة فإن بلغ الصبي ، وتابت الأم ، وأعلمته أنه لغير رشدة ليستعف عن ميراثهم ويكف عن الاطلاع على عوراتهم أو علم ذلك بقرينة حال وجب عليه ذلك وإن كان شر الثلاثة كما جاء في الحديث في ابن الزنا ، وقد تؤول حديث شر الثلاثة على وجوه هذا أقربها إلى الصواب لقوله عليه السلام أكل حرائبهم واطلع على عوراتهم ومن فعل هذا عن عمد وقصد فهو شر الناس وإن لم يعلم فأكله واطلاعه شر عمل وأبواه حين زنيا فارقا ذلك العمل الخبيث لحينهما والابن في عمل خبيث من منشئه إلى وفاته فعمله شر عمل .

حكم الحاكم لا يحل الحرام

وفي هذا الحديث من الفقه أيضا أن حكم الحاكم لا يحل حراما ، وذلك أن الولد في حكم الشريعة للفراش إلا أن ينفى باللعان فإذا حكم الحاكم بهذا ، وعلم الولد عند بلوغه خلاف ما حكم به الحاكم لم يحل له بهذا الحكم ما حرم الله عليه من أكل الحرائب والاطلاع على العورات وفي هذا رد لمذهب أبي حنيفة من قوله إن حكم الحاكم قد يحل ما يعلم أنه حرام مثل أن يشهد شاهدان على رجل أنه طلق وهما يعلمان أنه لم يطلق فيقبل القاضي شهادتهما فيطلق المرأة على الرجل فإذا بانت منه كان لأحد الشاهدين أن ينكحها مع علمه بأنه قد شهد زورا ، لم يقل أبو حنيفة بهذا القول في الأموال لقول النبي عليه السلام " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من صاحبه فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار " ففي هذا الحديث مع الذي تقدم رد لمذهبه ولا حجة له في أن يقول ذلك مخصوص بالأموال من وجهين

أحدهما : أن القياس أصل من أصوله وقياس المسألتين واحد الثاني : أنه قال من حق أخيه ولم يقل من مال أخيه وهذا لفظ يعم الحقوق كلها قال المؤلف وعندي أن أبا حنيفة رحمه الله إنما بنى هذه المسألة على أصله في طلاق المكره فإنه عنده لازم فإذا أكره الرجل على الطلاق وقلنا يلزم الطلاق له فقد حرمت المرأة عليه وإذا حرمت عليه جاز أن ينكحها من شاء فالإثم إنما تعلق في هذا المذهب بالشهادة دون النكاح وقد خالفه فقهاء الحجاز في طلاق المكره وقولهم يعضده الأثر وقول أبي حنيفة يعضده النظر والخوض في هذه المسألة يصدنا عما نحن بسبيله .

مكان إدريس فصل وذكره لإدريس في السماء الرابعة مع قوله تعالى : ورفعناه مكانا عليا [ مريم : 57 ] ، مع أنه قد رأى موسى وإبراهيم في مكان أعلى من مكان إدريس فذلك والله أعلم لما ذكر عن كعب الأحبار أن إدريس خص من جميع الأنبياء أن رفع قبل وفاته إلى السماء الرابعة ورفعه ملك كان صديقا له وهو الملك الموكل بالشمس فيما ذكر وكان إدريس سأله أن يريه الجنة فأذن له الله في ذلك فلما كان في السماء الرابعة رآه هنالك ملك الموت فعجب وقال أمرت أن أقبض روح أدريس الساعة في السماء الرابعة فقبضه هنالك فرفعه حيا إلى ذلك المكان العلي خاص له دون الأنبياء .

قول الأنبياء في كل سماء

فصل وذكر من قول الأنبياء له في كل سماء مرحبا بالأخ الصالح وقول آدم لإبراهيم بالابن الصالح وقد ذكرنا في أول هذا الكتاب حجة لمن قال إن إدريس ليس بجد لنوح ولا هو من آباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه قال مرحبا بالأخ الصالح ولم يقل بالابن الصالح .

خرافة طلب موسى أن يكون من أمة أحمد

وأما اعتناء موسى - عليه السلام - بهذه الأمة وإلحاحه على نبيها أن يشفع لها ، ويسأل التخفيف عنها ، فلقوله - والله أعلم - حين قضي إليه الأمر بجانب الغربي ورأى صفات أمة محمد عليه السلام في الألواح وجعل يقول إني أجد في الألواح أمة صفتهم كذا ، اللهم اجعلهم أمتي ، فيقال له تلك أمة أحمد وهو حديث مشهور فكان إشفاقه عليهم واعتناؤه بأمرهم كما يعتني بالقوم من هو معهم لقوله اللهم اجعلني منهم والله أعلم .

بعض ما رأى

ومما جاء في حديث الإسراء مما لم يذكره ابن إسحاق في مسند الحارث بن أبي أسامة أنه - عليه السلام - ناداه مناد وهو على ظهر البراق يا محمد فلم يعرج عليه ثم ناداه آخر يا محمد يا محمد ثلاثا ، فلم يعرج عليه ثم لقيته امرأة عليها من كل زينة ناشرة يديها ، تقول يا محمد يا محمد حتى تغشته فلم يعرج عليها ، ثم سأل جبريل عما رأى ، فأخبره فقال أما المنادي الأول فداعي اليهود لو أجبته لتهودت أمتك ، وأما الآخر فداعي النصارى ، ولو أجبته لتنصرت أمتك ، وأما المرأة التي كان عليها من كل زينة فإنها الدنيا لو أجبتها لآثرت الدنيا على الآخرة

الاسراء والمعراج/5

حديث أم هانئ عن الإسراء

قال محمد بن إسحاق وكان - فيما بلغني - عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها - واسمها : هند - في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول ما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو في بيتي ، نائم عندي تلك الليلة في بيتي ، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا ، فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما صلى الصبح وصلينا معه قال " يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين " ، ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فتكشف عن بطنه كأنه قبطية مطوية فقلت له يا نبي الله لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك ، قال " والله لأحدثنهموه " . قالت فقلت لجارية لي حبشية ويحك اتبعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تسمعي ما يقول الناس وما يقولون له . فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس أخبرهم فعجبوا وقالوا : ما آية ذلك يا محمد ؟

فإنا لم نسمع بمثل هذا قط ، قال " آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا ، فأنفرهم حس الدابة فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا موجه إلى الشام . ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما ، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان وآية ذلك أن عيرهم الآن تصوب من البيضاء ، ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء " . قالت فابتدر القوم الثنية ، فلم يلقهم أول من الجمل كما وصف لهم وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءا ماء ثم غطوه وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوه ولم يجدوا فيه ماء . وسألوا الآخرين وهم بمكة فقالوا : صدق والله لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكره وند لنا بعير فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه .

فقلت لجبريل يا جبريل مره فليردها إلى مكانها . قال فأمره فقال لها : اخبي ، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه . فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل . حتى إذا دخلت من حيث خرجت رد عليها غطاءها قال أبو سعيد الخدري في حديثه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " لما دخلت السماء الدنيا ، رأيت بها رجلا جالسا تعرض عليه أرواح بني آدم فيقول لبعضها ، إذا عرضت عليه خيرا ويسر به ويقول روح طيبة خرجت من جسد طيب ويقول لبعضها إذا عرضت عليه أف ويعبس بوجهه ويقول روح خبيثة خرجت من جسد خبيث . قال قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال هذا أبوك آدم ، تعرض عليه أرواح ذريته فإذا مرت به روح المؤمن منهم سر بها : وقال روح طيبة خرجت من جسد طيب . وإذا مرت به روح الكافر منهم أفف منها ، وكرهها ، وساء ذلك وقال روح خبيثة خرجت من جسد خبيث قال ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل في أيديهم قطع من نار كالأفهار يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم . فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟

قال هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما قال ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون ، يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار يطئونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك . قال قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء أكلة الربا .

قال ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم ثمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب . قال قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن .

قال ثم رأيت نساء معلقات بثديهن فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم

قال ابن إسحاق : وحدثني جعفر بن عمرو ، عن القاسم بن محمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فأكل حرائبهم واطلع على عوراتهم " .

عود إلى حديث الخدري ثم رجع إلى حديث أبي سعيد الخدري قال " ثم أصعدني إلى السماء الثانية ، فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكريا ، قال ثم أصعدني إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر قال قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال هذا أخوك يوسف بن يعقوب . قال ثم أصعدني إلى السماء الرابعة فإذا فيها رجل فسألته : من هو ؟ قال هذا إدريس - قال يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفعناه مكانا عليا - قال ثم أصعدني إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية عظيم العثلون لم أر كهلا أجمل منه قال قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال هذا المحبب في قومه هارون بن عمران ، قال ثم أصعدني إلى السماء السادسة فإذا فيها رجل آدم طويل أقنى كأنه من رجال شنوءة فقلت له من هذا يا جبريل ؟ قال هذا أخوك موسى بن عمران . ثم أصعدني إلى السماء السابعة فإذا فيها كهل جالس على كرسي إلى باب البيت المعمور ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة . لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه قال قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال هذا أبوك إبراهيم .

قال ثم دخل بي الجنة فرأيت فيها جارية لعساء فسألتها : لمن أنت ؟

وقد أعجبتني حين رأيتها ، فقالت لزيد بن حارثة فبشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة "

قال ابن إسحاق : ومن حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني : أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا قالوا له حين يستأذن في دخولها : من هذا يا جبريل ؟ فيقول محمد فيقولون أو قد بعث ؟ فيقول نعم فيقولون حياه الله من أخ وصاحب حتى انتهى به إلى السماء السابعة ثم انتهى به إلى ربه ففرض عليه خمسين صلاة في كل يوم

الاسراء والمعراج/4

قال ابن هشام وكانت صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما - ذكر عمر مولى غفرة عن إبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب ، قال كان علي بن أبي طالب عليه السلام إذا نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لم يكن بالطويل الممغط ، ولا القصير المتردد وكان ربعة من القوم ، ولم يكن بالجعد القطط ولا السبط كان جعدا رجلا ، ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم وكان أبيض مشربا ، أدعج العينين أهدب الأشفار جليل المشاش الكتد دقيق المسربة أجرد شثن الكفين والقدمين إذا مشى تقلع ، كأنما يمشي في صبب وإذا التفت التفت معا ، بين كتفيه خاتم النبوة وهو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين أجود الناس كفا ، وأجرأ الناس صدرا ، وأصدق الناس لهجة وأوفى الناس ذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه أحبه يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم


صفة النبي فصل وذكر في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما نعته به علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال لم يكن بالطويل الممغط بالغين المعجمة وفي غير هذه الرواية بالعين المهملة وذكر الأوصاف إلى آخرها وقد شرحها أبو عبيد ، فقال عن الأصمعي ، والكسائي وأبي عمرو وغير واحد قوله ليس بالطويل الممعط أي ليس بالبائن الطويل ولا القصير المتردد يعني : الذي تردد خلقه بعضه على بعض وهو مجتمع ليس بسبط الخلق يقول فليس هو كذلك ولكن ربعة بين الرجلين وهكذا صفته - صلى الله عليه وسلم - وفي حديث آخر ضرب اللحم بين الرجلين .

وقوله ليس بالمطهم قال الأصمعي : هو التام كل شيء منه على حدته فهو بارع الجمال وقال غير الأصمعي المكلثم المدور الوجه يقول ليس كذلك ولكنه مسنون وقوله : مشرب يعني الذي أشرب حمرة والأدعج العين الشديد سواد العين قال الأصمعي : الدعجة هي السواد والجليل المشاش : العظيم العظام مثل الركبتين والمرفقين والمنكبين وقوله الكتد هو الكاهل وما يليه من جسده وقوله شثن الكفين والقدمين يعني : أنهما إلى الغلظ .

وقوله ليس بالسبط ولا الجعد القطط فالقطط الشديد الجعودة مثل شعور الحبشة ، ووقع في غريب الحديث لأبي عبيد التام كل شيء منه على حدته . يقول : ليس كذلك ولكنه بارع الجمال فهذه الكلمة أعني : ليس كذلك مخلة بالشرح وقد وجدته في رواية أخرى عن أبي عبيد بإسقاط يقول كذلك ولكن على نص ذكرناه آنفا .

رؤية النبي ربه

فصل وقد تكلم العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء فروى مسروق عن عائشة أنها أنكرت أن يكون رآه وقالت من زعم أن محمدا رأى ربه ، فقد أعظم على الله الفرية واحتجت بقوله سبحانه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار [ الأنعام 103 ] وفي مصنف الترمذي عن ابن عباس وكعب الأحبار أنه رآه قال كعب إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قلت : يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ قال رأيت نورا ، وفي حديث آخر من كتاب مسلم أنه قال نورا أنى أراه وليس في هذا الحديث بيان شاف أنه رآه وحكي عن أبي الحسن الأشعري أنه قال رآه بعيني رأسه وفي تفسير النقاش عن ابن حنبل أنه سئل هل رأى محمد ربه فقال رآه رآه رآه حتى انقطع صوته وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وذكر إنكار عائشة أنه رآه فقال الزهري : ليست عائشة أعلم عندنا من ابن عباس ، وفي تفسير ابن سلام عن عروة أنه كان إذ ذكر إنكار عائشة أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه يشتد ذلك عليه وقول أبي هريرة في هذه المسألة كقول ابن عباس أنه رآه ؟

روى يونس عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين قال سأل مروان أبا هريرة هل رأى محمد ربه ؟ قال نعم وفي رواية يونس أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس يسأله هل رأى محمد ربه ؟ فقال نعم رآه فقال ابن عمر وكيف رآه فقال ابن عباس كلاما كرهت أن أورده بلفظه لما يوهم من التشبيه ولو صح لكان له تأويل والله أعلم والتحصيل من هذه الأقوال - والله أعلم - أنه رآه لا على أكمل ما تكون الرؤية على نحو ما يراه في حظيرة القدس عند الكرامة العظمى والنعيم الأكبر ولكن دون ذلك وإلى هذا يومي قوله رأيت نورا ونورا أنى أراه في الرؤية الأخرى والله أعلم .

وأما الدنو والتدلي فهما خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعض المفسرين وقيل إن الذي تدلى هو جبريل عليه السلام تدلى إلى محمد حتى دنا منه وهذا قول طائفة أيضا ، وفي الجامع الصحيح في إحدى الروايات منه فتدلى الجبار وهذا مع صحة نقله لا يكاد أحد من المفسرين يذكره لاستحالة ظاهره أو للغفلة عن موضعه ولا استحالة فيه لأن حديث الإسراء إن كان رؤيا رآها بقلبه وعينه نائمة - كما في حديث أنس فلا إشكال فيما يراه في نومه عليه السلام فقد رآه في أحسن صورة ووضع كفه بين كتفيه حتى وجد بردها بين ثدييه رواه الترمذي من طريق معاذ في حديث طويل ولما كانت هذه رؤيا لم ينكرها أحد من أهل العلم ولا استبشعها ، وقد بينا آنفا أن حديث الإسراء كان رؤيا ثم كان يقظة فإن كان قوله فتدلى الجبار في المرة التي كان فيها غير نائم وكان الإسراء بجسده فيقال فيه من التأويل ما يقال في قوله

ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فليس بأبعد منه في باب التأويل فلا نكارة فيه كان في نوم أو يقظة وقد أشرنا إلى تمام هذا المعنى في شرح ما تضمنه لفظ القوسين من قوله قاب قوسين في جزء أمليناه في شرح سبحان الله وبحمده تضمن لطائف من معنى التقديس والتسبيح فلينظر هناك وأملينا أيضا في معنى رؤية الرب سبحانه في المنام وفي عرصات القيامة مسألة لقناع الحقيقة في ذلك كاشفة فمن أراد فهم الرؤية والرؤيا فلينظرها هنالك ويقوي ما ذكرناه من معنى إضافة التدلي إلى الرب سبحانه كما في حديث البخاري ما رواه ابن سنجر مسندا إلى شريح بن عبيد ، قال لما صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء فأوحى إلى عبده ما أوحى ، فلما أحس جبريل بدنو الرب خر ساجدا ، فلم يزل يسبح سبحان رب الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة حتى قضى الله إلى عبده ما قضى ، قال ثم رفع رأسه فرأيته في خلقه الذي خلق عليه منظوما أجنحته بالزبرجد واللؤلؤ والياقوت فخيل إلي أن ما بين عينيه قد سد الأفقين وكنت لا أراه قبل ذلك إلا على صور مختلفة وكنت أكثر ما أراه على صورة دحية بن خليفة الكلبي وكان أحيانا لا يراه قبل ذلك إلا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال .

لقاؤه للنبيين

فصل ومما سئل عنه من حديث الإسراء وتكلم فيه لقاؤه لآدم في السماء الدنيا ، ولإبراهيم في السماء السابعة وغيرهما من الأنبياء الذين لقيهم في غير هاتين السماءين والحكمة في اختصاص كل واحد منهم بالسماء التي رآه فيها ، وسؤال آخر في اختصاص هؤلاء الأنبياء باللقاء دون غيرهم وإن كان رأى الأنبياء كلهم فما الحكمة في اختصاص هؤلاء الأنبياء بالذكر ؟

وقد تكلم أبو الحسن بن بطال في شرح البخاري على هذا السؤال فلم يصنع شيئا ، ومغزى كلامه الذي أشار إليه أن الأنبياء لما علموا بقدومه عليهم ابتدروا إلى لقائه ابتدار أهل الغائب للغائب القادم فمنهم من أسرع ومنهم من أبطأ . إلى هذا المعنى أشار فلم يزد عليه والذي أقول في هذا : إن مأخذ فهمه من علم التعبير فإنه من علم النبوءة وأهل التعبير يقولون من رأى نبيا بعينه في المنام فإن رؤياه تؤذن بما يشبه حال ذلك النبي من شدة أو رخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والحديث.

وحديث الإسراء كان بمكة وهي حرم الله وأمنه وقطانها جيران الله لأن فيها بيته فأول ما رأى عليه من الأنبياء آدم الذي كان في أمن الله وجواره فأخرجه عدوه إبليس منها ، وهذه القصة تشبهها الحالة الأولى من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أخرجه أعداؤه من حرم الله وجوار بيته فكربه ذلك وغمه .

وأشبهت قصته في هذا قصة آدم مع أن آدم تعرض عليه أرواح ذريته البر والفاجر منهم فكان في السماء الدنيا بحيث يرى الفريقين لأن أرواح أهل الشقاء لا تلج في السماء ولا تفتح لهم أبوابها كما قال الله تعالى ، ثم رأى في الثانية عيسى ويحيى وهما الممتحنان باليهود أما عيسى فكذبته اليهود وآذته وهموا بقتله فرفعه الله وأما يحيى فقتلوه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد انتقاله إلى المدينة صار إلى حالة ثانية من الامتحان وكانت محنته فيها باليهود آذوه وظاهروا عليه وهموا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه فنجاه الله تعالى كما نجى عيسى منهم ثم سموه في الشاة فلم تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره كما قال عند الموت وهكذا فعلوا بابني الخالة عيسى ويحيى ، لأن أم يحيى أشياع بنت عمران أخت مريم ، أمهما : حنة وأما لقاؤه ليوسف في السماء الثالثة فإنه يؤذن بحالة ثالثة تشبه حال يوسف ، وذلك بأن يوسف ظفر بإخوته بعدما أخرجوه من بين ظهرانيهم فصفح عنهم وقال لا تثريب عليكم الآية وكذلك نبينا - عليه السلام - أسر يوم بدر جملة من أقاربه الذين أخرجوه فيهم عمه العباس وابن عمه عقيل فمنهم من أطلق ومنهم من قبل فداءه ثم ظهر عليهم بعد ذلك عام الفتح فجمعهم فقال لهم أقول ما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم ثم لقاؤه لإدريس في السماء الرابعة وهو المكان الذي سماه الله مكانا عليا ، وإدريس أول من آتاه الله الخط بالقلم فكان ذلك مؤذنا بحالة رابعة وهي علو شأنه - عليه السلام - حتى أخاف الملوك وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم ، حين جاءه كتاب للنبي - عليه السلام - ورأى ما رأى من خوف هرقل : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، حتى أصبح يخافه ملك بني الأصفر وكتب عنه بالقلم إلى جميع ملوك الأرض فمنهم من اتبعه على دينه كالنجاشي وملك عمان ، ومنهم من هادنه وأهدى إليه وأتحفه كهرقل والمقوقس ، ومنهم من تعصى عليه فأظهره الله عليه فهذا مقام علي ، وخط بالقلم كنحو ما أوتي إدريس - عليه السلام - ولقاؤه في السماء الخامسة لهارون المحبب في قومه يؤذن بحب قريش ، وجميع العرب له بعد بغضهم فيه ولقاؤه في السماء السادسة لموسى يؤذن بحالة تشبه حالة موسى حين أمر بغزو الشام فظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها ، وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد إهلاك عدوهم وكذلك غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبوك من أرض الشام ، وظهر على صاحب دومة حتى صالحه على الجزية بعد أن أتي به أسيرا ، وافتتح مكة ، ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه ثم لقاؤه في السماء السابعة لإبراهيم - عليه السلام - لحكمتين

إحداهما : أنه رآه عند البيت المعمور مسندا ظهره إليه والبيت المعمور حيال مكة ، وإليه تحج الملائكة كما أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة ، وأذن في الناس بالحج إليها والحكمة الثانية أن آخر أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - حجه إلى البيت الحرام ، وحج معه نحو من سبعين ألفا من المسلمين ورؤية إبراهيم عند أهل التأويل تؤذن بالحج لأنه الداعي إليه والرافع لقواعد الكعبة المحجوبة فقد انتظم في هذا الكلام الجواب عن السؤالين المتقدمين أحدهما : السؤال عن تخصيص هؤلاء بالذكر والآخر السؤال عن تخصيصهم بهذه الأماكن من السماء الدنيا إلى السابعة وكان الحزم ترك التكلف لتأويل ما لم يرد فيه نص عن السلف ولكن عارض هذا الغرض ما يجب من التفكير في حكمة الله والتدبر لآيات الله وقول الله تعالى : إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وقد روي أن " تفكر ساعة خير من عبادة سنة " ما لم يكن النظر والتفكير مجردا من ملاحظة الكتاب والسنة ومقتضى كلام العرب ، فعند ذلك يكون القول في الكتاب والسنة بغير علم عصمنا الله - تعالى - من ذلك وجعلنا من الممتثلين لأمره حيث يقول فاعتبروا يا أولي الأبصار وليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ولولا إسراع الناس إلى إنكار ما جهلوه وغلظ الطباع عن فهم كثير من الحكمة لأبدينا من سر هذا السؤال وكشفنا عن الحكمة في هؤلاء الأنبياء المسلمين في هذه المراتب أكثر مما كشفنا .

البيت المعمور

فصل وذكر البيت المعمور ، وأنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك روى ابن سنجر عن علي - رحمه الله - قال البيت المعمور بيت في السماء السابعة يقال له الضراح واسم السماء السابعة عريبا روى أبو بكر الخطيب بإسناد صحيح إلى وهب بن منبه قال من قرأ البقرة وآل عمران يوم الجمعة كان له نور يملأ ما بين عريباء وجريباء وجريبا ، وهي الأرض السابعة وذكر عن عبد الله بن أبي الهذيل قال البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف دحية عند كل دحية سبعون ألف ملك رواه عنه أبو التياح [ يزيد الضبعي ] قال أبو سلمة قلت ما الدحية ؟ قال الرئيس وروى ابن سنجر أيضا من طريق أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في السماء السابعة بيت يقال له المعمور بحيال مكة ، وفي السماء السابعة نهر يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم فينغمس فيه انغماسة ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخر عنه سبعون ألف قطرة يخلق الله من كل قطرة ملكا ويؤمرون أن يأتوا البيت المعمور ويصلوا فيه فيفعلون ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبدا ، [ و ] يولى عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم من السماء موقفا يسبحون الله [ فيه ] إلى أن تقوم الساعة " .

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"