بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 8 أبريل 2010

نبذ من "اعلام الموقعين"/6

فصل المتوسطون بين الفرقين
قال المتوسطون بين الفرقين قد ثبت أن الله سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان فكلاهما في الإنزال أخوان وفي معرفة الأحكام شقيقان وكما لا يتناقضوا الكتاب في نفسه فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه ولا يتناقض الكتاب والميزان فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ولا دلالة الأقيسة الصحيحة ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة يصدق بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدا ونصوص الشارع نوعان أخبار وأوامر فكما أن أخباره لا تخالف العقل الصحيح بل هي نوعان نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملة أو جملة وتفصيلا ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه من حيث الجملة فهكذا أوامره سبحانه نوعان نوع يشهد به القياس والميزان ونوع لا يستقل بالشهادة به ولكن لا يخالفه وكما أن القسم الثالث في الأخبار محال

وهو ورودها بما يرده العقل الصحيح فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح
أوامر الشرع محيطة بأفعال المكلفين
وهذه الجملة إنما تنفصل بعد تمهيد قاعدتين عظيمتين إحداهما أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمرا ونهيا وإذنا وعفوا كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علما وكتابة وقدرا فعلمه وكتابه وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيره وأمره ونهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين إما الكون وإما الشرع الأمري فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به وجميع ما نهى عنه وجميع ما أحله وجميع ما حرمه وجميع ما عفا عنه وبهذا يكون دينه كاملا كما قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ولكن قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص وعن وجه الدلالة وموقعها وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم ولما خص سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث وقد أثنى عليه وعلى داود بالعلم والحكم وقد قال عمر لأبي موسى في كتابه إليه الفهم الفهم فيما أدلي إليك وقال علي إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وقال أبو سعيد كان أبو بكر أعلمنا برسول الله ص - ودعا النبي ص - لعبد الله بن عباس أن يفقه في الدين ويعلمه التأويل والفرق بين الفقه والتأويل أن الفقه هو فهم المعنى المراد والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي أخيته وأصله وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل فمعرفة التأويل يختص به الراسخون في العلم وليس المراد به تأويل التعريف وتبديل المعنى فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه والله يعلم بطلانه

فصل هل تحيط النصوص بحكم جميع الحوادث
والناس انقسموا في هذا الموضع إلى ثلاث فرق
رأي الفرقة الأولى
فرقة قالت إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث وغلا بعض هؤلاء حتى قال ولا بعشر معشارها قالوا فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص ولعمر الله إن هذا مقدار النصوص في فهمه وعلمه ومعرفته لا مقدارها في نفس الأمر واحتج هذا القائل بأن النصوص متناهية وحوادث العباد غير متناهية وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع وهذا احتجاج فاسد جدا من وجوه أحدها أن ما لا تتناهى أفراده لا يمتنع أن يجعل أنواعا فيحكم لكل نوع منها بحكم واحد فتدخل الأفراد التي لا تتناهى تحت ذلك النوع الثاني أن أنواع الأفعال بل والأعراض كلها متناهية والثالث أنه لو قدر عدم تناهيها فإن أفعال العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية وهذا كما تجعل الأقارب نوعين نوعا مباحا وهو بنات العم والعمة وبنات الخال والخالة وما سوى ذلك حرام وكذلك يجعل ما ينقض الوضوء محصورا وما سوى ذلك لا ينقضه وكذلك ما يفسد الصوم وما يوجب الغسل وما يوجب العدة وما يمنع منه المحرم وأمثال ذلك وإذا كان أرباب المذاهب يضبطون مذاهبهم ويحصرونها بجوامع تحيط بما يحل ويحرم عندهم مع قصور بيانهم فالله ورسوله المبعوث بجوامع الكلم أقدر على ذلك فإنه ص - يأتي بالكلمة الجامعة وهي قاعدة عامة وقضية كلية تجمع أنواعا وأفرادا وتدل دلالتين دلالة طرد ودلالة عكس
وهذا كما سئل ص - عن أنواع من الأشربة كالبتع والمزر وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال كل مسكر حرام و كل عمل ليس عليه أمرنا هو رد و كل قرض جر نفعا فهو ربا وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل و كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه وكل أحد أحق بماله من ولده ووالده

والناس أجمعين وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل معروف صدقة وسمى النبي ص - هذه الآية جامعة فاذة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ومن هذا قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون فدخل في الخمر كل مسكر جامدا كان أو مائعا من العنب أومن غيره ودخل في الميسر كل أكل مال بالباطل وكل عمل محرم يوقع في العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة ودخل في قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم كل يمين منعقدة ودخل في قوله يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات كل طيب من المطاعم والمشارب والملابس والفروج ودخل في قوله وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ما لا تحصى أفراده من الجنايات وعقوباتها حتى اللطمة والضربة والكسعة كما فهم الصحابة ودخل في قوله قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منا وما بطن والأثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون تحريم كل فاحشة ظاهرة وباطنة وكل ظلم وعدوان في مال أو نفس أو عرض وكل شرك بالله وإن دق في قول أو عمل أو إرادة بأن يجعل لله عدلا بغيره في اللفظ أو القصد أو الاعتقاد وكل قول على الله لم يأت به نص عنه ولا عن رسوله في تحريم أو تحليل أو إيجاب أو إسقاط أو خبر عنه باسم أو صفة نفيا أو إثباتا أو خبرا عن فعله فالقول عليه بلا علم حرام في أفعاله وصفاته ودينه ودخل في قوله والجروح قصاص وجوبه في كل جرح يمكن القصاص منه وليس هذا تخصيصا بل هو مفهوم من قوله قصاص وهو المماثلة ودخل في قوله وعلى الوارث مثل ذلك وجوب نفقة الطفل وكسوته ونفقة مرضعته على كل وارث قريب أو بعيد ودخل في قوله ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف جميع الحقوق التي للمرأة وعليها وإن مرد ذلك إلى

ما يتعارفه الناس بينهم ويجعلونه معروفا لا منكرا والقرآن والسنة كفيلان بهذا أتم كفالة
فصل رأي الفرقة الثانية
الفرقة الثانية قابلت هذه الفرقة وقالت القياس كله باطل محرم في الدين ليس منه وأنكروا القياس الجلي الظاهر حتى فرقوا بين المتماثلين وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئا لحكمة أصلا ونفوا تعليل خلقه وأمره وجوزوا بل جزموا بأنه يفرق بين المتماثلين ويقرن بين المختلفين في القضاء والشرع وجعلوا كل مقدور فهو عدل والظلم عندهم هو الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين
وهذا وإن كان قاله طائفة من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر وخالفوا القدرية والنفاة فقد أصابوا في إثبات القدر وتعليق المشيئة الإلهية بأفعال العباد الاختيارية كما تتعلق بذواتهم وصفاتهم وأصابوا في إثبات تناقض القدرية النفاة ولكن ردوا من الحق المعلوم بالعقل والفطرة والشرع ما سلطوا عليهم به خصومهم وصاروا ممن رد بدعة ببدعة وقابل الفاسد بالفاسد ومكنوا خصومهم بما نفوه من الحق من الرد عليهم وبيان تناقضهم ومخالفتهم الشرع والعقل
فصل رأي الفرقة الثالثة
الفرقة الثالثة قوم نفوا الحكمة والتعليل والأسباب وأقروا بالقياس كأبي الحسن الأشعري وأتباعه ومن قال بقوله من الفقهاء أتباع الأئمة وقالوا إن علل الشرع إنما هي مجرد أمارات وعلامات محضة كما قالوه في ترك الأسباب

وقالوا إن الدعاء علامة محضة على حصول المطلوب لا أنه سبب فيه والأعمال الصالحة والقبيحة علامات محضة ليست سببا في حصول الخير والشر وكذلك جميع ما وجدوه من الخلق والأمر مقترنا بعضه ببعض قالوا أحدهما دليل على الآخر مقارن له اقترانا عاديا وليس بينهما ارتباط سببية ولا علة ولا حكمة ولا له فيه تأثير بوجه من الوجوه
وليس عند أكثر الناس غير أقوال هؤلاء الفرق الثلاث وطالب الحق إذا رأى ما في هذه الأقوال من الفساد والتناقض والاضطراب ومناقضة بعضها لبعض ومعارضة بعضها لبعض بقي في الحيرة فتارة يتحيز إلى فرقة منها له ما لها وعليه ما عليها وتارة يتردد بين هذا الفرق تميميا مرة وقيسيا أخرى وتارة يلقي الحرب بينهما ويقف في النظارة وسبب ذلك خفاء الطريقة المثلى والمذهب الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الأديان وعليه سلف الأمة وأئمتها والفقهاء المعتبرون من إثبات الحكم والأسباب والغايات المحمودة في خلقه سبحانه وأمره وإثبات لام التعليل وباء السببية في القضاء والشرع كما دلت عليه النصوص مع صريح العقل والفطرة واتفق عليه الكتاب والميزان
ومن تأمل كلام سلف الأمة وأئمة أهل السنة رآه يمكر قول الطائفتين المنحرفتين عن الوسط فينكر قول المعتزلة المكذبين بالقدر وقول الجهمية المنكرين للحكم والأسباب والرحمة فلا يرضون لأنفسهم بقول القدرية المجوسية ولا بقول القدرية الجبرية نفاة الحكمة والرحمة والتعليل وعامة البدع المحدثة في أصول الدين من قول هاتين الطائفتين الجهمية والقدرية والجهمية رؤس الجبرية وأئمتهم أنكروا حكمة الله ورحمته وإن أقروا بلفظ مجرد فارغ عن حقيقة الحكمة والرحمة والقدرية النفاة أنكروا كمال قدرته ومشيئته فأولئك أثبتوا نوعا من الملك بلا حمد وهؤلاء أثبتوا نوعا من الحمد

بلا ملك فأنكر أولئك عموم حمده وأنكر هؤلاء عموم ملكه وأثبت له الرسل وأتباعه عموم الملك وعموم الحمد كما أثبته لنفسه فله كمال الملك وكمال الحمد فلا يخرج عين ولا فعل عن قدرته ومشيئته وملكه وله في كل ذلك حكمة وغاية مطلوبة يستحق عليها الحمد وهو في عموم قدرته ومشيئته وملكه على صراط مستقيم وهو حمده الذي يتصرف في ملكه به ولأجله
والمقصود أنهم كما انقسموا إلى ثلاث فرق في هذا الأصل انقسموا في فرعه وهو القياس إلى ثلاث فرق فرقة أنكرته بالكلية وفرقة قالت به وأنكرت الحكم والتعليل والمناسبات والفرقتان أخلت النصوص عن تناولها لجميع أحكام المكلفين وأنها أحالت على القياس ثم قالت غلاتهم أحالت عليه أكثر الأحكام وقال متوسطوهم بل أحالت عليه كثيرا من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها إلا به
النصوص محيطة بأحكام جميع الحوادث
والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث ولم يحلنا الله ولا رسوله على رأي ولا قياس بل قد بين الأحكام كلها والنصوص كافية وافية بها والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص فهما دليلان للكتاب والميزان وقد تخفي دلالة النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس ثم قد يظهر موافقا للنص فيكون قياسا صحيحا وقد يظهر مخالفا له فيكون فاسدا وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته ولكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته
فصل الرد على الفرق الثلاث
وكل فرقة من هذه الفرق الثلاث سدوا على أنفسهم طريقا من طرق الحق فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله فنفاة القياس لما سدوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم والمصالح وهو من الميزان والقسط الذي أنزله الله احتاجوا إلى توسعة الظاهر و الاستصحاب فحملوهما فوق الحاجة ووسعوهما أكثر مما يسعانه فحيث فهموا من النص حكما أثبتوه ولم يبالوا بما

وراءه حيث لم يفهموا منه نفوه وحملوا الاستصحاب وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها والمحافظة عليها وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه
ولكن أخطأوا من أربعة أوجه أحدها رد القياس الصحيح ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ ولا يتوقف عاقل في أن قول النبي ص - لما لعن عبد الله حمارا على كثرة شربه للخمر لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله بمنزلة قوله لا تلعنوا كل ما يحب الله ورسوله وفي أن قوله إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس بمنزلة قوله ينهيانكم عن كل رجس وفي أن قوله تعالى إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس نهى عن كل رجس وفي أن قوله في الهر ليس بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات بمنزلة قوله كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم نهي له عن كل طعام كذلك وإذا قال لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر نهي له عن كل مسكر ولا تتزوج هذه المرأة فإنها فاجرة وأمثال ذلك
الخطأ الثاني تقصيرهم في فهم لنصوص فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين فلم يفهموا من قوله ولا تقل لهما أف ضربا ولا سبا ولا إهانة غير لفظة أف فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان

الخطأ الثالث تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل وليس عدم العلم علما بالعدم
الاستصحاب معناه وأقسامه
وقد تنازع الناس في الاستصحاب ونحن نذكر أقسامه ومراتبها فالاستصحاب استفعال من الصحبة وهي استدامة إثبات ما كان ثابتا أو نفي ما كان منفيا وهو ثلاثة أقسام استصحاب البراءة الأصلية واستصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع
استصحاب البراءة الأصلية
فأما النوع الأول فقد تنازع الناس فيه فقالت طائفة من الفقهاء والأصوليين إنه يصلح للدفع لا للإبقاء كما قاله بعض الحنفية ومعنى ذلك أنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغيير الحال لا بقاء الأمر على ما كان فإن بقاءه على ما كان إنما هو مستند إلى موجب الحكم لا إلى عدم المغير له فإذا لم نجد دليلا نافيا ولا مثبتا أمسكنا لا نثبت الحكم ولا ننفيه بل ندفع بالاستصحاب دعوى من أثبته فيكون حال المتمسك بالاستصحاب كحال المعترض مع المستدل فهو يمنعه الدلالة حتى يثبتها لا أنه يقيم دليلا على نفي ما ادعاه وهذا غير حال المعارض فالمعارض لون والمعترض لون فالمعترض يمنع دلالة الدليل والمعارض يسلم دلالته ويقيم دليلا على نقيضه وذهب الأكثرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه قالوا لأنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن بقاء الأمر على ما كان عليه
استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي
ثم النوع الثاني استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه وهو حجة كاستصحاب حكم الطهارة وحكم الحدث واستصحاب بقاء النكاح وبقاء الملك وشغل الذمة بما تشغل به حتى يثبت خلاف ذلك وقد دل الشارع على تعليق

الحكم به في قوله في الصيد وإن وجدته غريقا فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك وقوله وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره لما كان الأصل في الذبائح التحريم وشك هل وجد الشرط المبيح أم لا بقي الصيد على أصله في التحريم ولما كان الماء طاهرا فالأصل بقاؤه على طهارته ولم يزلها بالشك ولما كان الأصل بقاء المتطهر على طهارته لم يأمره بالوضوء مع الشك في الحدث بل قال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ولما كان الأصل بقاء الصلاة في ذمته أمر الشاك أن يبني على اليقين ويطرح الشك ولا يعارض هذا رفعه للنكاح المتيقن بقول الأمة السوداء إنها أرضعت الزوجين فإن أصل الإبضاع على التحريم وإنما أبيحت الزوجة بظاهر الحال مع كونها أجنبية وقد عارض هذا الظاهر ظاهر مثله أو أقوى منه وهو الشهادة فإذا تعارضا تساقطا وبقي أصل التحريم لا معارض له فهذا الذي حكم به النبي ص - وهو عين الصواب ومحض القياس وبالله التوفيق
ولم يتنازع الفقهاء في هذا النوع وإنما تنازعوا في بعض أحكامه لتجاذب المسألة أصلين متعارضين مثاله أن مالكا منع الرجل إذا شك هل أحدث أم لا من الصلاة حتى يتوضأ لأنه وإن كان الأصل بقاء الطهارة فإن الأصل بقاء الصلاة في ذمته فإن قلتم لا نخرجه من الطهارة بالشك قال مالك ولا ندخله في الصلاة بشك فيكون قد خرج منها بالشك فإن قلتم يقين الحدث قد ارتفع بالوضوء فلا يعود بالشك قال منازعهم ويقين البراءة الأصلية قد ارتفع بالوجوب فلا يعود بالشك قالوا والحديث الذي تحتجون به من أكبر حججنا فإنه منع المصلي بعد دخوله في الصلاة بالطهارة المتيقنة أن يخرج منها بالشك فأين هذا من تجويز الدخول فيها بالشك ومن ذلك لو شك هل طلق واحدة أو ثلاثا فإن مالكا يلزمه بالثلاث لأنه تيقن طلاقا وشك هل هو مما تزيل أثره الرجعة أم لا وقول الجمهور في هذه المسألة أصح فإن النكاح متيقن فلا يزول بالشك ولم يعارض يقين النكاح إلا شك محض فلا يزول به وليس هذا نظير

الدخول في الصلاة بالطهارة التي لا شك في انتقاضها فإن الأصل هناك شغل الذمة وقد وقع الشك في فراغها ولا يقال هنا إن الأصل التحريم بالطلاق وقد شككنا في الحال فإن التحريم قد زال بنكاح متيقن وقد حصل الشك في ما يرفعه فهو نظير ما لو دخل في الصلاة بوضوء متيقن ثم شك في زواله فإن قيل هو متيقن للتحريم بالطلاق شاك في الحل بالرجعة فكان جانب التحريم أقوى قيل ليست الرجعية بمحرمة وله أن يخلو بها ولها أن تتزين له وتتعرض له وله أن يطأها والوطء رجعة عند الجمهور وإنما خالف في ذلك الشافعي وحده وهي زوجته في جميع الأحكام إلا في القسم خاصة ولو سلم أنها محرمة فقولكم إنه متيقن للتحريم إن أردتم به التحريم المطلق فإنه غير متيقن وإن أردتم به مطلق التحريم لم يستلزم أن يكون بثلاث فإن مطلق التحريم أعم من أن يكون بواحدة أو يكون بثلاث ولا يلزم من ثبوت الأعم وثبوت الأخص وهذا في غاية الظهور
فصل استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع
القسم الثالث استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع وقد اختلف فيه الفقهاء والأصوليون هل هو حجة على قولين أحدهما أنه حجة وهو قول المزني والصيرفي وابن شقالة وابن حامد وأبي عبد الله الرازي والثاني ليس بحجة وهو قول أبي حامد وأبي الطيب الطبري والقاضي أبي علي وابن عقيل وأبي خطاب والحلواني وابن الزاغوني وحجة هؤلاء أن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل النزاع كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة فأما بعد الرؤية فلا إجماع فليس هناك ما يستصحب إذ يمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع والاستصحاب إنما يكون لأمر ثابت فيستصحب ثبوته أو لأمر منتف فيستصحب نفيه قال الأولون غاية ما ذكرتم أنه لا إجماع في محل النزاع وهذا حق ونحن لم ندع الإجماع في محل النزاع بل استصحبنا حال المجمع عليه حتى

يثبت ما يزيله قال الآخرون الحكم إذا كان إنما ثبت بالإجماع وقد زال الإجماع زال الحكم بزوال دليله فلو ثبت الحكم بعد ذلك لثبت بغير دليل وقال المثبتون الحكم كان ثابتا وعلمنا بالإجماع ثبوته فالإجماع ليس هوى لة ثبوته ولا سبب ثبوته في نفس الأمر حتى يلزم من زوال العلة زوال معلولها ومن زوال السبب زوال حكمه وإنما الإجماع دليل عليه وهو في نفس الأمر مستند إلى نص أو معنى نص فنحن نعلم أن الحكم المجمع عليه ثابت في نفس الأمر والدليل لا ينعكس فلا يلزم من انتفاء الإجماع إنتقاء الحكم بل يجوز أن يكون باقيا ويجوز أن يكون منتفيا لكن الأصل بقاؤه فإن البقاء لا يفتقر إلى سبب حادث ولكن يفتقر إلى بقاء سبب ثبوته وأما الحكم المخالف فيفتقر إلى ما يزيل الحكم الأول وإلى ما يحدث الثاني وإلى ما ينفيه فكان ما يفتقر إليه الحادث أكثر مما يفتقر إليه الباقي فيكون البقاء أولى من التغير وهذا مثل استصحاب حال براءة الذمة فإنها كانت بريئة قبل وجود ما يظن به أنه شاغل ومع هذا فالأصل البراءة والتحقيق أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة ومن لا يجوز الاستدلال به إلا بعد معرفة المزيل فلا يجوز الاستدلال به لمن لم يعرف الأدلة الناقلة كما لا يجوز الاستدلال بالاستصحاب لمن يعرف الأدلة الناقلة وبالجملة فالاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل فإن قطع المستدل بانتفاء الناقل قطع بانتفاء الحكم كما يقطع ببقاء شريعة محمد ص - وأنها غير منسوخة وإن ظن انتفاء الناقل أو ظن إنتقاء دلالته ظن انتفاء أن كان الناقل معنى مؤثرا وتبين له عدم اقتضائه تبين له انتفاء انتفاء النقل مثل رؤية الماء في الصلاة لا تنقض الوضوء و إلا فمع تجويزه لكونه ناقصا للوضوء لا يطمئن ببقاء الوضوء وكذا كل من وقع النزاع في انتقاض وضوئه ووجوب الغسل عليه فإن الأصل بقاء طهارته كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاسات من غير السبيلين وبالخارج النادر منهما

وبمس النساء بشهوة وغيرها وبأكل ما مسته النار وغسل الميت وغير ذلك لا يمكنه اعتقاد استصحاب الحال فيه حتى يتيقن له بطلان ما يوجب الانتقال وإلا بقى شاكا وإن لم يتبين له صحة الناقل كما لو أخبره فاسق بخبر فإنه مأمور بالتبيت والتثبيت لم يؤمر بتصديقه ولا بتكذيبه فإن كليهما ممكن منه وهو مع خبره لا يستدل باستصحاب الحال كما كان يستدل به بدون خبره ولهذا جعل لوثا وشبهة وإذا شهد مجهول الحال فإنه هناك شاك في حال الشاهد ويلزم منه الشك في حال المشهود به فإذا تبين كونه عدلا تم الدليل وعند شهادة المجهولين تضعف البراءة أعظم مما تضعف عند شهادة الفاسق فإنه في الشاهد قد يكون دليلا ولكن لا تعرف دلالته وأما هناك فقد علمنا أنه ليس بدليل لكن يمكن وجود المدلول عليه في هذه الصورة فإن صدقه ممكن
فصل استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة
ومما يدل على أن استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة أن تبدل حال المحل المجمع على حكمه أولا كتبدل زمانه ومكانه وشخصه وتبدل هذه الأمور وتغيرها لا يمنع استصحاب ما ثبت له قبل التبدل فكذلك تبدل وصفه وحاله لا يمنع الاستصحاب حتى يقوم دليل على أن الشارع جعل ذلك الوصف الحادث ناقلا للحكم مثبتا لضده كما جعل الدباغ ناقلا لحكم نجاسة الجلد وتخليل الخمرة ناقلا للحكم بتحريمها وحدوث الاحتلام ناقلا لحكم البراءة الأصلية وحينئذ فلا يبقى التمسك بالاستصحاب صحيحا وأما مجرد النزاع فإنه لا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع والنزاع في رؤية الماء في الصلاة وحدوث العيب عند المشتري واستيلاد الأمة لا يوجب رفع ما كان ثابتا قبل ذلك من الأحكام فلا يقبل قول المعترض إنه قد زال حكم الاستصحاب بالنزاع

الحادث فإن النزاع لا يرفع ما ثبت من الحكم فلا يمكن المعترض رفعه إلا أن يقيم دليلا على أن ذلك الوصف الحادث جعله الشارع دليلا على نقل الحكم حينئذ فيكون معارضا في الدليل لا قادحا في الاستصحاب فتأمله فإنه التحقيق في هذه المسألة
فصل ما لم يبطله الشارع من الشروط صحيح
الخطأ الرابع لهم اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل وجمهور الفقهاء على خلافه وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه وهذا القول هو الصحيح فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ولا حرام إلا ما حرمه الله ولا دينا إلا ما شرعه الله فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم
والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين وهو تحريم ما لم يحرمه والتقرب إليه بما لم يشرعه وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله فإن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه وما سكت عنه

فهو عفو فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه
وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها فقال تعالى وأوفوا بالعهد وقال يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود وقال والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون وقال تعالى والموفون بعهدهم إذا عاهدوا وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وقال بلا من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين وقال إن الله لا يحب الخائنين وهذا كثير في القرآن وفي صحيح مسلم من حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ص - أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وفيه من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي ص - من علامات المنافق ثلاث وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي ص - يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته فيقال هذه غدرة فلان بن فلان وفيهما من حديث عقبة بن عامر عن النبي ص - إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج وفي سنن أبي داود عن أبي رافع قال بعثتني قريش إلى رسول الله ص - فلما رأيته ألقى في قلبي الإسلام فقلت يا رسول الله والله إني لا أرجع إليهم أبدا فقال رسول اله ص - إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن إرجع إليهم فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع قال فذهبت ثم أتيت النبي

ص - فأسلمت وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال ما منعنى أن أشهد بدرا إلا أني خرجت وأبي حسيل فأخذنا كفار قريش فقالوا إنكم تريدون محمدا فقلنا ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله ص - فأخبرناه الخبر فقال انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عامر قال دعتني أمي يوما ورسول الله ص - قاعد في بيتها فقالت تعال أعطك فقال لها رسول الله ص - ما أردت أن تعطيه فقالت أعطيه تمرا فقال لها رسول الله ص - أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي ص - قال قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره وأمر النبي ص - عمر بن الخطاب أن يوفي بالنذر الذي نذره في الجاهلية من اعتكافه ليلة عند المسجد الحرام وهذا عقد كان قبل الشرع وقال ابن وهب ثنا هشام بن سعد عن يزيد بن أسلم أن رسول الله ص - قال وأي المؤمن واجب قال ابن وهب وأخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله ص - كان يقول ولا تعد أخاك عدة وتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة قال ابن وهب وأخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي هريرة أن النبي ص - قال من قال لصبي تعال هذا لك ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة وفي السنن من حديث كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه المؤمنون عند شروطهم وله شاهد من حديث محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر يرفعه الناس على شروطهم ما وافق الحق وليست العمدة على هذين الحديثين بل على ما تقدم

أجوبة المانعين
وأصحاب القول الآخر يجيبون عن هذه الحجج تارة بنسخها وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه وتارة بمعارضتها بنصوص أخر كقول النبي ص - في الحديث الصحيح ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كاتب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق وكقوله من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وكقوله تعالى ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون وناظائر هذه الآية
قالوا فصح بهذه النصوص إبطال كل عهد وعقد ووعد وشرط ليس في كتاب الله الأمر به أو النص على إباحته قالوا وكل شرط أو عقد ليس في النصوص إيجابه ولا الإذن فيه فإنه لا يخلو من أحد وجوه أربعة إما أن يكون صاحبه قد التزم فيه إباحة ما حرم الله ورسوله أو تحريم ما أباحه أو إسقاط ما أوجبه أو إيجاب ما أسقطه ولا خامس لهذه الأقسام البتة فإن ملكتم المشترط والمعاقد والمعاهد جميع ذلك انسلختم من الدين وإن ملكتموه البعض دون البعض تناقضتم وسألناكم ما الفرق بين ما يملكه من ذلك وما لا يملك ولن تجدوا إليه سبيلا
فصل الجمهور يرد على أجوبة المانعين
قال الجمهور أما دعواكم النسخ فإنها دعوى باطلة تتضمن أن هذه النصوص ليست من دين الله ولا يحل العمل بها وتجب مخالفتها وليس معكم برهان قاطع بذلك فلا تسمع دعواه وأين التجاؤكم إلى الاستصحاب والتسبب به ما أمكنكم

وأما تخصيصها فلا وجه له وهو يتضمن إبطال ما دلت عليه من العموم وذلك غير جائز إلا ببرهان من الله ورسوله
وأما ضعف بعضها من جهة السند فلا يقدح في سائرها ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة
وأما معارضتها بما ذكرتم فليس بحمد الله بينها وبينه تعارض وهذا إنما يعرف بعد معرفة المراد بكتاب الله في قوله ما كان من شرط ليس في كتاب الله ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعا فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن بل علمت من السنة فعلم أن المراد بكتاب الله حكمه كقوله كتاب الله عليكم وقول النبي ص - كتاب الله القصاص في كسر السن فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وحكمه الذي حكم به على لسان رسوله ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له فيكون باطلا فإذا كان الله ورسوله ص - قد حكم بأن الولاء للمعتق فشرط خلاف ذلك يكون شرطا مخالفا لحكم الله ولكن أين في هذا أن ما سكت عن تحريمه من العقود والشروط يكون باطلا حراما وتعدي حدود الله هو تحريم ما أحله الله أو إباحة ما حرمه أو إسقاط ما أوجبه لا إباحة ما سكت عنه وعفا عنه بل تحريمه هو نفس تعدي حدوده
وأما ما ذكرتم من تضمن الشرط لأحد تلك الأمور الأربعة ففاتكم قسم خامس وهو الحق وهو ما أباح الله سبحانه للمكلف تنويع أحكامه بالأسباب التي ملكه إياه فيباشر من الأسباب ما يحله له بعد أن كان حرما عليه أو يحرمه عليه بعد أن كان حلالا له أو يوجبه بعد أن لم يكن واجبا أو يسقطه بعد وجوبه وليس في ذلك تغيير لأحكامه بل كل ذلك من أحكامه فهو الذي أحل وحرم وأوجب وأسقط وإنما إلى العبد الأسباب المقتضية لتلك

الأحكام ليس إلا فكما أن شراء الأمة ونكاح المرأة يحل له ما كان حراما عليه قبله وطلاقها وبيعها بالعكس يحرمها عليه ويسقط عنه ما كان واجبا عليه من حقوقها كذلك التزامه بالعقد والعهد والنذر والشرط فإذا ملك تغيير الحكم بالعقد ملكه بالشرط الذي هو تابع له وقد قال تعالى إلا إن تكون تجارة عن تراض منكم فأباح التجارة التي ترضى بها المتبايعان فإذا تراضيا على شرط لا يخالف حكم الله جاز لهما ذلك ولا يجوز إلغاؤه وإلزامهما بما لم يلتزما ولا ألزمهما الله ولا رسوله به ولا يجوز إلزمها بما لم يلزمها الله ورسوله به ولاهما التزامها ولا إبطال ما شرطاه مما لم يحرم الله ورسوله عليهما شرطه ومحرم الحلال كمحلل الحرام فهؤلاء ألغوا من شروط المتعاقدين ما لم يلغه الله ورسوله وقابلهم آخرون من القياسيين فاعتبروا من شروط الواقفين ما ألغاه الله ورسوله وكلا القولين خطأ بل الصواب إلغاء كل شرط خالف حكم الله واعتبار كل شرط لم يحرمه الله ولم يمنع منه وبالله التوفيق
فصل أخطاء أصحاب القياس
وأما أصحاب الرأي والقياس فإنهم لما لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافية بالأحكام ولا شاملة لها وغلاتهم على أنها لم تف بعشر معشارها فوسعوا طرق الرأي والقياس وقالوا بقياس الشبه وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن الشارع علقها بها واستنبطوا عللا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها ثم اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس ثم اضطربوا فتارة يقدمون القياس وتارة يقدمون النص وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير المشهور واضطرهم ذلك أيضا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرعت على خلاف القياس فكان خطؤهم من خمسة أوجه أحدهما ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث الثاني معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس الثالث اعتقادهم في كثير من الأحكام الشريعة أنها على خلاف

الميزان والقياس والميزان هو العدل فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به من هذه الأحكام الرابع اعتبارها عللا وأوصافا لم يعلم اعتبار الشارع لها وإلغاؤهم عللا وأوصافا اعتبرها الشارع كما تقدم بيانه الخامس تناقضهم في نفس القياس كما تقدم أيضا
ونحن نعقد ههنا ثلاثة فصول
الفصل الأول في بيان شمول النصوص للأحكام والاكتفاء بها عن الرأي والقياس
الفصل الثاني في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس وبطلانها مع وجود النص
الفصل الثالث في بيان أن أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح وليس فيما جاء به الرسول ص - حكم يخالف الميزان والقياس الصحيح
وهذه الفصول الثلاثة من أهم فصول الكتاب وبها يتبين للعالم المنصف مقدار الشريعة وجلالتها وهيمنتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع وأن رسول الله ص - كما هو عام الرسالة إلى كل مكلف فرسالته عامة في كل شيء من الدين أصوله وفروعه ودقيقه وجليله فكما لا يخرج أحد عن رسالته فكذلك لا يخرج حكم تحتاج إليه الأمة عنها وعن بيانه له ونحن نعلم أنا لا نوفي هذه حقها ولا نقارب وأنها أجل من علومنا وفوق إدراكنا ولكن ننبه أدنى تنبيه ونشير أدنى إشارة إلى ما يفتح أبوابها وينهج طرقها والله المستعان وعليه التكلان
الفصل الأول
شمول النصوص وإغناؤها عن القياس
وهذا يتوقف على بيان مقدمة وهي أن دلالة النصوص نوعان حقيقة وإضافية فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته وهذه الدلالة لا تختلف والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه

ومعرفته بالألفاظ ومراتبها وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك وقد كان أبو هريرة وعبد الله بن عمر أحفظ الصحابة للحديث وأكثرهم رواية له وكان الصديق وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما بل عبد الله بن عباس أيضا أفقه منهما ومن عبد الله بن عمر وقد أنكر النبي ص - على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله إنك ستأتيه وتطوف به فإنه لا دلالة في هذا اللفظ في تعيين العام الذي يأتونه فيه وأنكر على عدي بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين وأنكر علي من فهم من قوله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر شمول لفظه لحسن الثوب وحسن النعل وأخبرهم أنه بطر الحق وغمط الناس وأنكر على من فهم من قوله من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه أنه كراهة الموت وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب فإنه حينئذ يكره لقاء الله والله يكره لقاءه وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأنكر على عائشة إذا فهمت من قوله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا معارضته لقوله ص - من نوقش الحساب عذب وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض أي حساب العرض لا حساب المناقشة وأنكر على من فهم من قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء وبين إن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم والحزن والمرض والنصب وغير ذلك من مصائبها وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة وأنكر على من فهم من قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون أنه ظلم النفس بالمعاصي وبين أنه الشرك وذكر قول لقمان لابنه إن الشرك لظلم عظيم مع أن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك فإن الله سبحانه

لم يقل ولم يظلموا أنفسهم بل قال ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ولبس الشيء بالشيء تغطيته به وإحاطته به من جميع جهاته ولا يغطي الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر ومن هذا قوله تعالى بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فإن الخطيئة لا تحيط بالمؤمن أبدا فإن إيمانه يمنعه من إحاطة الخطيئة به ومع أن سياق قوله وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفرقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ثم حكم الله أعدل حكم وأصدقه أن من آمن ولم يلبس إيمانه بظلم فهو أحق بالأمن والهدى فدل على أن الظلم الشرك وسأله عمر ابن الخطاب عن الكلالة وراجعه فيها مرارا فقال تكفيك آية الصيف واعترف عمر بأنه خفي عليه فهمها وفهمها الصديق وقد نهى النبي ص - عن لحوم الحمر الأهلية ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تخمس وفهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حمولة القوم وظهرهم وفهم بعضهم أنه لكونها كانت جوال القرية وفهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة وكبار الصحابة ما قصده رسول الله ص - بالنهي وصرح بعلته من كونها رجسا وفهمت المرأة من قوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا جواز المغالاة في الصداق فذكرته لعمر فاعترف به وفهم ابن عباس من قوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا مع قوله والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين أن المرأة قد تلد لستة أشهر ولم يفهمه عثمان فهم برجم امرأة ولدت لها حتى ذكره به ابن عباس فأقر به ولم يفهمه عمر من قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها قتال مانعي الزكاة حتى بين له الصديق فأقر به وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا رفع الجناح عن الخمر حتى بين له عمر أنه لا يتناول الخمر

ولو تأمل سياق الآية لفهم المراد منها فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه الله من المطاعم فالآية لا تتناول المحرم بوجه ما وقد فهم من قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة انغماس الرجل في العدو حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضات الله وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها وقال الصديق رضي الله عنه أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله ص - يقول إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يعيروه أوشك أن يعمهم الله بالعقاب من عنده فأخبرهم أنهم يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها وأشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نهيت عنه من اليهود هل عذبوا أو نجوا حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين وهذا هو الحق لأنه سبحانه قال عن الساكتين وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم وإن لم يواجهوهم بالنهي فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية فلما قام به أولئك سقط عن الباقين فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم وأيضا فإن الله سبحانه إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه وهذا لا يتناول الساكتين قطعا فلما بين عكرمة لان عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه بردة وفرح به وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة ما تقولون في إذا جاء نصر الله والفتح السورة قالوا أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره فقال لابن عباس ما تقول أنت قال هو أجل رسول الله ص - أعلمه إياه فقال ما أعلم منها غير ما تعلم وهذا من أدق الفهم وألطفه ولا يدركه كل أحد فإنه سبحانه لم يعلق الاستغفار بعمله بل علقه بما يحدثه هو سبحانه

من نعمة فتحه على رسوله ودخول الناس في دينه وهذا ليس بسبب للاستغفار فعلم أن سبب الاستغفار غيره وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرا مطهرا من كل ذنب فيقدم عليه مسرورا راضيا مرضيا عنه ويدل عليه أيضا قوله فسبح بحمد ربك واستغفره وهو ص - كان يسبح بحمده دائما فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في هذا الدين أمر أكبر من ذلك المتقدم وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي ترقيه إلى ذلك المقام بقية فأمره بتوفيتها ويدل عليه أيضا أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتم الأعمال فشرعها في خاتمة الحج وقيام الليل وكان النبي ص - إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا وشرع للمتوضيء بعد كمال وضوئه أن يقول اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فعلم أن التوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجا فكأن التبليغ عبادة قد أكملها وأداها فشرع له الاستغفار عقيبها
والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به وهذا كما فهم ابن عباس من قوله وحمله وفصاله ثلاثون شهرا مع قوله والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين أن المرأة قد تلد لستة أشعر وكما فهم الصديق من آية الفرائض في أول السورة وآخرها أن الكلالة من لا ولد دله ولا والد

وأسقط الإخوة بالجد وقد أرشد النبي ص - عمر إلى هذا الفهم حيث سأله عن الكلالة وراجعه السؤال فيها مرارا فقال يكفيك آية الصيف وإنما أشكل على عمر قوله قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد الآية فدله النبي ص - على ما يبين له المراد منها وهي الآية الأولى التي نزلت في الصيف فإنه ورث فيها ولد الأم في الكلالة السدس ولا ريب أن الكلالة فيها من لا ولد له ولا والد وإن علا
ونحن نذكر عدة مسائل مما اختلف فيها السلف ومن بعدهم وقد بينتها النصوص ومسائل قد احتج فيها بالقياس وقد بينها النص وأغنى فيها عن القياس
المسألة المشتركة في الفرائض
المسألة الأولى المشتركة في الفرائض وقد دل القرآن على اختصاص ولد الأم فيها بالثلث بقوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث وهؤلاء ولد الأم فلو أدخلنا معهم ولد الأبوين لم يكونوا شركاء في الثلث بل يزاحمهم فيه غيرهم فإن قيل بل ولد الأبوين منهم إلغاء لقرابة الأب قيل هذا وهم لأن الله سبحانه قال في أول الآية وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ثم قال فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث فذكر حكم واحدهم وجماعتهم حكما يختص به الجماعة منهم كما يختص به واحدهم وقال في ولد الأبوين إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين فذكر حكم ولد الأب والأبوين واحدهم وجماعتهم وهو حكم يختص به جماعتهم كما يختص به واحدهم فلا يشاركهم فيه غيرهم فكذا حكم ولد الأم وهذا يدل على أن أحد الصنفين غير الآخرين فلا يشارك أحد الصنفين الآخر وهذا الصنف الثاني هو ولد الأبوين أو الأب بالإجماع والأول هو ولد الأم بالإجماع كما فسرته قراءة بعض

الصحابة من أم وهي تفسير وزيادة إيضاح وإلا فذلك معلوم من السياق ولهذا ذكر سبحانه ولد الأم في آية الزوجين وهم أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه ولا حظ لأحد منهم في التعصيب ولم يذكر فيها أحد من العصبة بخلاف ما ذكر في آية العمودين الآية التي قبلها فإن لجنسهم حظا في التعصيب ولهذا قال في آية الإخوة من الأم والزوجين غير مضار ولم يقل ذلك في آية العمودين فإن الإنسان كثيرا ما يقصد ضرار الزوج وولد الأم لأنهم ليسوا من عصبته بخلاف أولاده وآبائه فإنه لا يضارهم في العادة فإذا كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث لم يجز تنقيصهم منه وأما ولد الأبوين فهم جنس أخر وهم عصبته وقد قال النبي ص - ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر وفي هذه المسألة لم تبق الفرائض شيئا فلا شيء للعصبة بالنص وأما قول القائس هب أن أبانا كان حمارا فقول باطل حسا وشرعا فإن الأب لو كان حمارا لكانت الأم أتانا وإذا قيل يقدر وجوده كعدمه قيل هذا باطل فإن الموجود لا يكون كالمعدوم وأما بطلانه شرعا فإن الله سبحانه حكم في ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم
فإن قيل الأب أن لم ينفعهم لم يضرهم
قيل بل قد يضرهم كما ينفعهم فإن ولد الأم لو كان واحدا وولد الأبوين مائة وفضل نصف سدس انفرد ولد الأم بالسدس واشترك ولد الأبوين في نصف السدس فهلا قبلتم قولهم ههنا هب أن أبانا كان حمارا وهلا قدرتم الأب معدوما فخرجتم عن القياس كما خرجتم عن النص وإذا جاز أن ينقصهم الأب جاز أن يحرمهم وأيضا فالقرابة المتصلة الملتئمة من الذكر والأنثى لا تفرق أحكامها هذه قاعدة النسب في الفرائض وغيرها فالأخ من الأبوين لا نجعله كأخ من أب وأخ من أم فنعطيه السدس فرضا بقرابة الأم والباقي تعصيبا بقرابة الأب

فإن قيل فقد فرقتم بين القرابتين فقلتم في ابني عم أحدهما أخ لأم يعطي الأخ للأم بقرابة الأم السدس ويقاسم ابن العم بقرابة العمومة
قيل نعم هذا قول الجمهور وهو الصواب وإن كان شريح ومن قال بقوله أعطى الجميع لابن العم الذي هو أخ لأم كما لو كان ابن عم الأبوين والفرق بينهما على قول الجمهور أن كليهما في بنوة العم سواء وأما الأخوة للأم فمستقلة ليست مقترنة بأبوة حتى يجعل كابن العم للأبوين فها هنا قرابة الأم منفردة عن قرابة العمومة بخلاف قرابة الأم في مسألتنا فإنها متحدة بقرابة الأب
ومما يبين أن عدم التشريك هو الصحيح أنه لو كان فيها أخوات لأب لفرض لهن الثلثان وعالت الفريضة فلو كان معهن أخوهن سقطن به ويسمى الأخ المشئوم فلما كان بوجوده يصرن عصبة صار تارة ينفعهن وتارة يضرهن ولم يجعل وجوده كعدمه في حال الضرار فكذلك قرابة الأب لما صار الإخوة بها عصبة صار ينفعهم تارة ويضرهم أخرى وهذا شأن العصبة فإن العصبة تارة تحوز المال وتاره تحوزه أكثره وتارة تحوز أقله وتارة تخيب فمن أعطى العصبة مع استغراق الفروض المال خرج عن قياس الأصول وعن موجب النص
فإن قيل فهذا استحسان قيل لكنه استحسان يخالف الكتاب والميزان فإنه ظلم للأخوة من الأم حيث يأخذ حقهم ويعطاه غيرهم وإن كانوا يعقلون عن الميت وينفقون عليه لم يلزم من ذلك أن يشاركوا من لا يعقل ولا ينفق في ميراثه فعقالت المرأة من أعمامها وبنى عمها وأخواتها يعقلون عنها وميراثها لزوجها وولدها كما قضى بذلك رسول الله ص - فلا يمتنع أن يعقل ولد الأبوين ويكون الميراث لولد الأم
اختلاف الصحابة في العمريتين
المسألة الثانية العمريتان والقرآن يدل على قول جمهور الصحابة فيها كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت إن للأم ثلث ما يبقى بعد فرض

الزوجين وها هنا طريقان أحدهما بيان عدم دلالته على إعطائها الثلث كاملا مع الزوجين وهذا أظهر الطريقين والثاني دلالته على إعطائها ثلث الباقي وهو أدق وأخفى من الأول أما الأول فإن الله سبحانه إنما أعطها الثلث كاملا إذا انفرد الأبوان بالميراث فإن قوله سبحانه فإن لم يكن له ولد وورثة أبواه فلأمه الثلث شرط أن في استحقاق الثلث عدم الولد وتفردهما بميراثه فإن قيل ليس في قوله وورثه أبواه ما يدل على أنهما تفردا بميراثه قيل لو لم يكن تفردهما شرطا لم يكن في قوله وورثه أبواه فائدة وكانت تطويلا يغنى عنه قوله فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث فلما قال وورثه أبواه علم أن استحقاق الأم الثلث موقوف على الأمرين وهو سبحانه ذكر أحوال الأم كلها نصا وإيماء فذكر أن لها السدس مع الإخوة وأن لها الثلث كاملا مع عدم الولد وتفرد الأبوين بالميراث بقي لها حالة ثالثة وهي مع عدم الولد وعدم تفرد الأبوين بالميراث وذلك لا يكون إلا مع الزوج أو الزوجة فإما أن تعطى في هذه الحال الثلث كاملا وهو خلاف مفهوم القرآن وإما أن تعطى السدس فإن الله سبحانه لم يجعله فرضها إلا في موضعين مع الولد ومع الإخوة وإذا امتنع هذا وهذا كان الباقي بعد فرض الزوجين هو المال الذي يستحقه الأبوين ولا يشاركهما فيه مشارك فهو بمنزلة المال كله إذا لم يكن زوج ولا زوجة فإذا تقاسماه أثلاثا كان الواجب أن يتقاسما الباقي بعد فرض الزوجين كذلك
فإن قيل فمن أين تأخذون حكمها إذا ورثته الأم ومن دون الأب كالجد والعم والأخ وابنه
قيل إذا كانت تأخذ الثلث مع الأب فأخذها له مع من دونه من العصبات أولى وهذا من باب التنبية
فإن قيل فمن أين أعطيتموها الثلث كاملا إذا كان معها ومع هذه العصبة

الذي هو دون الأب زوج أو زوجة والله سبحانه إنما جعل لها الثلث كاملا إذا انفرد الأبوين بميراثه على ما قررتموه فإذا كان جد وأم أو عم وأم أو أخ وأم أو ابن عم أو ابن أخ مع أحد الزوجين فمن أين أعطيت الثلث كاملا ولم ينفرد الأبوين بالميراث
قيل بالتنبيه ودلالة الأولى فإنها إذا أخذت الثلث كاملا مع الأب فلأن تأخذه مع ابن العم أولى وأما إذا كان أحد الزوجين مع هذه العصبة فإنه ليس له إلا ما بقى بعد الفروض ولو استوعبت الفروض المال سقط كأم وزوج وأخ لأم بخلاف الأب
فإن قيل فمن أين تأخذون حكمها إذا كان مع العصبة ذو فرض غير البنات والزوجة
قيل لا يكون ذلك إلا مع ولد الأم أو الأخوات للأبوين أو للأب واحدة أو أكثر والله تعالى قد أعطاها السدس مع الإخوة فدل على أنها تأخذ الثلث مع الواحد إذ ليس بأخوة
بقي الأختان والأخوان فهذا مما تنازع فيه الصحابة فجمهورهم أدخلوا الاثنين في لفظ الإخوة وأبى ذلك ابن عباس ونظره أقرب إلى ظاهر اللفظ ونظر الصحابة أقرب إلى المعنى وأولى به فإن الإخوة إنما حجبوها إلى السدس لزيادة ميراثهم على ميراث الواحد ولهذا لو كانت واحدة أو أخا واحدا لكان لها الثلث معه فإذا كان الإخوة ولد أم كان فرضهم الثلث اثنين كانا أو مائة فالاثنان والجماعة في ذلك سواء وكذلك لو كن أخوات لأب أو لأب وأم ففرض الثنتين وما زاد واحد فحجبها على الثلث إلى السدس باثنين كحجبها بثلاثة سواء لا فرق بينهما البتة
وهذا الفهم في غاية اللطف وهو من أدق فهم القرآن ثم طرد ذلك في الذكور من ولد الأب والأبوين لمعنى يقتضيه وهو توفير السدس الذي حجبت

عنه لهم لزيادتهم على الواحد نظرا لهم ورعاية لجانبهم وأيضا فإن قاعدة الفرائض أن كل حكم اختص به الجماعة عن الواحد اشترك فيه الاثنان وما فوقها كولد الأم والبنات وبنات الابن والأخوات للأبوين أو للأب والحجب ها هنا قد اختص به الجماعة فيستوي فيه الاثنان وما زاد عليهما وهذا هو القياس الصحيح والميزان الموافق لدلالة الكتاب وفهم أكابر الصحابة وأيضا فإن الأمة مجمعة على قوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلث ما ترك يدخل في حكمه الثنتان وإن اختلفوا في كيفية دخولها في الحكم كما سيأتى فهكذا دخول الأخوين في الإخوة وأيضا فإن لفظ الأخوة كالفظ الذكور والإناث والبنات والبنين وهذا كله قد يطلق ويراد به الجنس الذي جاوز الواحد وإن لم يزد على اثنين فكل حكم علق بالجمع من ذلك دخل فيه الاثنان كالإقرار والوصية والوقف وغير ذلك فلفظ الجمع قد يراد به الجنس المتكثر أعم من تكثيره بواحد أو اثنين كما أن لفظ المثنى قد يراد به المتعدد أعم من أن يكون تعدده بواحد أو أكثر نحو ارجع البصر كرتين ودلالتهما حينئذ على الجنس المتكثر وأيضا فاستعمال الاثنين في الجمع بقرينه واستعمال الجمع في الاثنين بقرينه جائز بل واقع وأيضا فإنه سبحانه قال وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين وهذا يتناول الأخ الواحد والأخت الواحدة كما يتناول من فوقهما ولفظ الإخوة وسائر ألفاظ الجمع قد يعنى به الجنس من غير قصد التعدد كقوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم وقد يعنى به العدد من غير قصد لعدد معين بل لجنس التعدد وقد يعنى به لعدد مع قصد معدود معين فالأول يتناول الواحد وما زاد والثاني يتناول لاثنين وما زاد الثالث يتناول الثلاثه ف فما زاد عند إطلاقه وإذا قيد اختص اقيد به

ومما يدل على أن قوله تعالى فإن كان له إخوة فلأمه السدس أن المراد به الاثنان فصاعدا أنه سبحانه قال وإن كان كل رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ وأخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث فقوله كانوا ضمير جمع ثم قال فهم شركاء في الثلث فذكرهم بصيغة الجمع المضمر وهو قوله فهم والمظهر وهو قوله شركاء ولم يذكر قبل ذلك إلا قوله وله أخ أو أخت فذكر حكم الواحد وحكم اجتماعه مع غيره وهو يتناول الاثنين قطعا فإن قوله أكثر من ذلك أي أكثر من أخ أو أخت ولم يرد أكثر من مجموع الأخت والأخ بل أكثر من الواحد فدل على أن صيغة الجمع في الفرائض تتناول العدد الزائد على الواحد مطلقا ثلاثة كان أو أثر منه وهذا نظير قوله وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ومما يوضح ذلك أن لفظ الجمع قد يختص بالاثنين مع البيان وعدم اللبس كالجمع المضاف إلى اثنين مما يكون المضاف فيه جزءا من المضاف إليه أو كجزئه نحو قلوبهما وأيديهما فكذلك يتناول الاثنين فما فوقهما مع البيان بطريق الأولى وله ثلاثة أحوال أحدها اختصاصه بالاثنين الثانية صلاحيته لهما الثالثة اختصاصه بما زاد عليهما وهذه الحال له عند إطلاقه وأما عند تقييده فبحسب ما قيد به وهو حقيقة في الموضعين فإن اللفظ تختلف دلالته بالإطلاق والتقييد وهو حقيقة في الاستعمالين فظهر أن فهم جمهور الصحابة أحسن من فهم ابن عباس في حجب الأم بالاثنين كما أن فهمهم في العمريتين أتم من فهمه وقواعد الفرائض تشهد لقولهم فإنه إذا اجتمع ذكر وأنثى في طبقة واحدة كالابن والبنت والجد والجدة والأب والأم والأخ والأخت فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى أو يساويها فأما أن تأخذ الأنثى ضعف الذكر فهذا خلاف قاعدة الفرائض التي أوجبها شرع الله وحكمته وقد عهدنا الله سبحانه أعطى الأب ضعف ما أعطى الأم إذا انفرد الأبوان بميراث الولد وساوى بينهما في وجود الولد ولم يفضلها عليه في موضع واحد

فكان جعل الباقي بينهما بعد نصيب أحد الزوجين أثلاثا هو الذي يقتضيه الكتاب والميزان فإن ما يأخذه الزوج أو الزوجة من المال كأنه مأخوذ بدين أو وصية إذ لا قرابة بينهما وما يأخذه الأبوان يأخذانه بالقرابة فصارا هما المستقلين بميراث الولد بعد فرض الزوجين وهما في طبقة واحدة فقسم الباقي بينهما أثلاثا
فإن قيل فههنا سؤالان أحدهما أنكم هلا أعطيتموها ثلث جميع المال في مسألة زوجة وأبوين فإن الزوجة إذا أخذت الربع وأخذت هي الثلث كان الباقي للأب وهو أكثر من الذي أخذته فوفيتم حينئذ بالقاعدة وأعطيتموها الثلث كاملا والثاني أنكم هلا جعلتم لها ثلث الباقي إذا كان بدل اللأب في المسألتين جد
قيل قد ذهب إلى كل واحد من هذين المذهبين ذاهبون من السلف الطيب فذهب إلى الأول محمد بن سيرين ومن وافقه إلى الثاني عبد الله بن مسعود ولكن أبى ذلك جمهور الصحابة والأئمة بعدهم وقولهم أصح في الميزان وأقرب إلى دلالة الكتاب فإنا لو أعطيناها الثلث كاملا بعد فرض الزوجة كنا قد خرجنا عن قاعدة الفرائض وقياسها وعن دلالة الكتاب فإن الأب حينئذ يأخذ ربعا وسدسا والأم لا تساويه ولا تأخذ شطره وهي في طبقته وهذا لم يشرعه الله قط ودلالة الكتاب لا تقتضيه وأما في مسألة الجد فإن الجد أبعد منها وهو يحجب بالأب فليس في طبقتها فلا يحجبها عن شيء من حقها فلا يمكن أن تعطى ثلث الباقي ويفضل الجد عليها بمثل ما تأخذه فإنها أقرب منه وليس في درجتها ولا يمكن أن تعطى السدس فكان فرضها الثلث كاملا
وهذا مما فهمه الصحابة
رضي الله عنهم من النصوص بالاعتبار الذي هو في معنى الأصل أو بالاعتبار الأولى أو بالاعتبار الذي فيه إلحاق الفرع بأشبه الأصلين به أو تنبيه اللفظ أو إشارته وفحواه أو بدلالة التركيب وهي ضم نص إلى نص آخر وهي غير دلالة الاقتران بل هي ألطف منها وأدق وأصح كما تقدم
فالقياس المحض والميزان الصحيح أن الأم مع الأب كالبنت مع الابن والأخت

مع الأخ لأنهما ذكر وأنثى من جنس واحد وقد أعطى الله سبحانه الزوج ضعف ما أعطى الزوجة تفضيلا لجانب الذكورية وإنما عدل عن هذا في ولد الأم لأنهم يدلون بالرحم المجرد ويدلون بغيرهم وهو الأم وليس لهم تعصيب بخلاف الزوجين والأبوين والأولاد فإنهم يدلون بأنفسهم وسائر العصبة يدلون بذكر كولد البنين وكالإخوة للأبوين أو للأب فإعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين معتبر فيمن يدلي بنفسه أو بعصبة وأما من يدلي بالأمومة كولد الأم فإنه لا يفضل ذكرهم على أنثاهم وكان الذكر كالأنثى في الأخذ وليس الذكر كالأنثى في باب الزوجية ولا في باب الأبوة ولا البنوة ولا الأخوة فهذا هو الاعتبار الصحيح والكتاب يدل عليه كما تقدم بيانه
وقد تناظر ابن عباس وزيد بن ثابت في العمريتين فقال له ابن عباس أين في كتاب الله في ثلث ما بقي فقال زيد ليس في كتاب الله إعطاؤها الثلث كله مع الزوجين أو كما قال بل كتاب الله يمنع إعطاؤها الثلث مع أحد الزوجين فإنه لو أعطاها الثلث مع الزوج لقال فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث فكانت تستحقه مطلقا فلما خص الثلث في بعض الأحوال علم أنها لا تستحقه مطلقا ولو أعطيته مطلقا لكان قوله وورثه أبواه زيادة في اللفظ ونقصا في المعنى وكان ذكره عديم الفائدة ولا يمكن أن تعطى السدس لأنه إنما جعل لها مع الولد أو الإخوة فدل القرآن على أنها لا تعطى السدس مع أحد الزوجين ولا تعطى الثلث وكان قسمة ما بقي بعد فرض الزوجين بين الأبوين مثل قسمة أصل المال بينهما وليس بينهما فرق أصلالا في القياس ولا في المعنى
فإن قيل فهل هذه دلالة خطابية لفظية أو قياسية محضة
قيل هي ذات وجهين فهي لفظية من جهة دلالة الخطاب وضم بعضه إلى بعض واعتبار بعضه ببعض وقياسية من جهة اعتبار المعنى والجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين وأكثر دلالات النصوص كذلك في قوله من اعتق شركا له في عبد وقوله أيما رجل وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق

به وقوله من باع شركا له في أرض أو ربعة أو حائط حيث يتناول الحوانيت وقوله إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات فخص الإناث باللفظ إذ كن سبب النزول فنص عليهمن بخصوصهن وهذا أصح من فهم من قال من أهل الظاهر المراد بالمحصنات الفروج المحصنات فإن هذا لا يفهمه السامع من هذا اللفظ ولا من قوله فآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا من قوله والمحصنات من النساء ولا من قوله إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بل هذا من عرف الشارع حيث يعبر باللفظ الخاص عن المعنى وهذا غير باب القياس وهذا تارة يكون لكون اللفظ الخاص صار في العرف عاما كقوله لا يملكون نقيرا وما يملكون من قطمير و يظلمون فتيلا ونحوه وتارة لكونه قد علم بالضرورة من خطاب الشارع تعميم المعنى لكل ما كان مماثلا للمذكور وأن التعيين في اللفظ لا يراد به التخصيص بل التمثيل أو لحاجة المخاطب إلى تعيينه بالذكر أو لغير ذلك من الحكم
فصل الأخوات مع البنات عصبة
المسألة الثالثة ميراث الأخوات مع البنات وأنهن عصبة فإن القرآن يدل عليه كما أوجبته السنة الصحيحة فإن الله سبحانه قال يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد وهذا دليل على أن الأخت ترث النصف مع عدم الولد وإنه هو يرث المال كله مع عدم ولدها وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك إذ لو كان كذلك لكان قوله ليس له ولد زيادة في اللفظ ونقصا في المعنى وإيهاما لغير المراد فدل على أنها مع الولد لا ترث النصف والولد إما ذكر وإما أنثى فأما الذكر فإنه يسقطها كما يسقط الأخ بطريق الأولى ودل قوله وهو يرثها إن لم يكن لها ولد على أن الولد يسقطه كما يسقطها وأما الأنثى فقد دل القرآن على أنها إنما تأخذ النصف ولا تمنع الأخ عن النصف الباقي

إذا كانت بنت وأخ بل دل القرآن مع السنة والإجماع أن الأخ يفوز بالنصف الباقي كما قال تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك والوالدان والأقربون وقال النبي ص - ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر وليس في القرآن ما ينفي ميراث الأخت مع إناث الولد بغير جهة الفرض وإنما صريحه ينفي أن يكون فرضها النصف مع الولد فبقي ههنا ثلاثة أقسام إما أن يفرض لها أقل من النصف وإما أن تحرم بالكلية وإما أن تكون عصبة والأول محال إذ ليس للأخت فرض مقدر غير النصف فلو فرضنا لها أقل منه لكان ذلك وضع شرع جديد فبقي إما الحرمان وإما التعصيب والحرمان لا سبيل إليه فإنها وأخاها في درجة واحدة وهي لا تزاحم البنت فإذا لم يسقط أخوها بالبنت لم تسقط هي بها أيضا فإنها لو سقطت بالبنت ولم يسقط أخوها بها أقوى منها وأقرب إلى الميت وليس كذلك وأيضا فلو أسقطتها البنت إذا انفردت عن أخيها لأسقطتها مع أخيها فإن أخاها لا يزيدها قوة ولا يحصل لها نفعا في موضع واحد بل لا يكون إلا مضرا لها ضرر نقصان أو ضرر حرمان كما إذا خلفت زوجا وأما وأخوين لأم وأختا لأب وأم فإنها يفرض لها النصف عائلا وإن كان معها أخوها سقطا معا ولا تنتفع به في الفرائض في موضع واحد فلو أسقطتها البنت إذا انفردت لأسقطتها بطريق الأولى مع من يضعفها ولا يقويها وأيضا فإن البنت إذا لم تسقط ابن الأخ وابن العم وابن عم الأب والجد وإن بعد فأن لا تسقط الأخت مع قربها بطريق الأولى وأيضا فإن قاعدة الفرائض إسقاط البعيد بالقريب وتقديم الأقرب على الأبعد وهذا عكس ذلك فإنه يتضمن تقديم الأبعد جدا الذي بينه وبين الميت وسائط كثيرة على الأقرب الذي ليس بينه وبين الميت إلا واسطة الأب وحده فكيف يرث ابن عم جد الميت مثلا مع البنت وبينه وبين الميت وسائط كثيرة وتحرم الأخت القريبة التي ركضت معه في صلب أبيه ورحم أمه هذا من المحال الممتنع شرعا فهذا من جهة الميزان وأما من جهة فهم النص فإن

الله سبحانه قال في الأخ وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ولم يمنع ذلك في ميراثه منها إذ كان الولد أنثى فهكذا قوله إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك لا ينفي أن ترث غير النصف مع إناث الولد أو ترث الباقي إذا كان نصفا لأن هذا غير الذي أعطاها إياه فرضا مع عدم الولد فتأمله فإنه ظاهر جدا وأيضا فالأقسام ثلاثة إما أن يقال يفرض لها النصف مع البنت أو يقال تسقط معها بالكلية أو يقال تأخذ ما فضل بعد فرض البنت أو البنات والأول ممتنع بالنص والقياس فإن الله سبحانه إنما فرض لها النصف مع عدم الولد فلا يجوز إلغاء هذا الشرط وفرض النصف لها مع وجوده والله سبحانه إنما أعطاها النصف إذا كان الميت كلالة لا ولد له ولا والد فإذا كان له ولد لم يكن الميت كلالة فلا يفرض لها معه وأما القياس فإنها لو فرض لها النصف مع وجود البنت لنقصت البنت عن النصف إذا عالت الفريضة كزوجة أو زوج وبنت وأخت وإخوة والإخوة لا يزاحمون الأولاد لا بفرض ولا تعصيب فإن الأولاد أولى منهم فبطل فرض النصف وبطل سقوطها بما ذكرناه فتعين القسم الثالث وهو أن تكون عصبة لها ما بقي وهي أولى به من سائر العصبات الذين هم أبعد منها وبهذا جاءت السنة الصحيحة الصريحة التي قضى بها رسول الله ص - فوافق قضاؤه كتاب ربه والميزان الذي أنزله مع كتابه وبذلك قضى الصحابة بعده كابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهما
فإن قيل لكن خرجتم عن قوله ص - ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر فإذا أعطينا البنت فرضها وجب أن يعطى الباقي لابن الأخ أو العم أو ابنه دون الأخت فإنه رجل ذكر فأنتم عدلتم عن هذا النص وأعطيتموه الأنثى فكنا أسعد بالنص منكم وعملنا وبقضاء رسول الله ص - حيث أعطى البنت النصف وبنت الابن السدس والباقي للأخت إذ لم يكن هناك أولى رجل ذكر فكانت الأخت عصبة وهذا توسط بين قولكم وبين قول من أسقط الأخت بالكلية وهذا مذهب

إسحاق بن راهويه وهو اختيار أبي محمد بن حزم وسقوطها بالكلية مذهب ابن عباس كما قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة قيل لابن عباس رجل ترك ابنته وأخته لأبيه وأمه فقال لابنته النصف ولأمه السدس وليس لأخته شيء مما ترك وهو لعصبته فقال له السائل إن عمر قضى بغير ذلك جعل للبنت النصف وللأخت النصف قال ابن عباس أأنتم أعلم أم الله قال معمر فذكرت ذلك لابن طاوس فقال لي أخبرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول قال الله تعالى إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك فقلتم أنتم لها النصف وإن كان له ولد وقال ابن أبي مليكة عن ابن عباس أمر ليس في كتاب الله ولا في قضاء رسول الله ص - وستجدونه في الناس كلهم ميراث الأخت مع البنت
فالجواب أن نصوص رسول الله ص - كلها حق يصدق بعضها بعضا ويجب الأخذ بجميعها ولا يترك له نص إلا بنص آخر ناسخ له لا يترك بقياس ولا رأي ولا عمل أهل بلد ولا إجماع ومحال أن تجمع الأمة على خلاف نص له إلا أن يكون له نص آخر ينسخه فقوله ص - فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر عام قد خص منه قوله ص - تحوز المرأة ثلاث مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه وأجمع الناس على أنها عصبة عتيقها واختلفوا في كوناه عصبة لقيطها وولدها المنفي باللعان وسنة رسول الله ص - تفصل بين المتنازعين فإذا خصت منه هذه الصور بالنص وبعضها مجمع عليه خصت منه هذه الصورة لما ذكرناه من الدلالة
فإن قيل قوله فلأولى رجل ذكر إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب وهذا لا تخصيص فيه
قيل فأنتم تقدمون المعتق على الأخت مع البنت وليس من الأقارب فخالفتم النصين معا وهو ص - قال فلأولى رجل ذكر فأكده

بالذكورة ليبين أن العاصب بنفسه المذكور هو الذكر دون الأنثى وأنه لم يرد بلفظ الرجل ما يتناول الذكر والأنثى كما في قوله من وجد متاعه عند رجل قد أفلس ونحوه مما يذكر فيه لفظ الرجل والحكم يعم النوعين وهو نظير قوله في حديث الصدقات فابن لبون ذكر ليبين أن المراد الذكر دون الأنثى ولم يتعرض في الحديث للعاصب بغيره فدل قضاؤه الثابت عنه في إعطاء الأخت مع البنت وبنت البنت ما بقي أن الأخت عصبة بغيرها فلا تنافي بينه وبين قوله فلأولى رجل ذكر بل هذا إذا لم يكن ثم عصبة بغيره بل كان العصبة عصبة بأنفسهم فيكون أولهما وأقربهم إلى الميت أحقهم بالمال وأما إذا اجتمع العصبتان فقد دل حديث ابن مسعود الصحيح أن تعصيب الأخت أولى من تعصيب من هو أبعد منها فإنه أعطاها الباقي ولم يعطه لابن عمه مع القطع فإن العرب بنو عم بعضهم لبعض فقريب وبعيد ولا سيما إن كان ما حكاه ابن مسعود من قضاء رسول الله ص - قضاء عاما كليا فالأمر حينئذ يكون أظهر وأظهر
فصل صحة قول الجمهور في مسألة ميراث الأخوات
ومما يبين صحة قول الجمهور أن قوله تعالى ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك إنما يدل منطوقه على أنها ترث النصف مع عدم الولد والمفهوم إنما يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلا للحكم في المنطوق فإذا كان فيه تفصيل حصل بذلك مقصود المخالفة فلا يجب أن يكون كل صورة من صور المسكوت مخالفة لكل صور المنطوق ومن توهم ذلك فقد توهم باطلا فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص والحكم إذا ثبت لعلة فانتفت في بعض الصور أو جميعها جاز أن يخلفها علة أخرى

وأما قصد التخصيص فإنه يحصل بالتفصيل وحينئذ فإذا نفينا إرثها مع ذكور الولد أو نفينا إرثها النصف فرضا مع إناثهم وفينا بدليل الخطاب
فصل المراد بقوله ص - فلأولى رجل ذكر
ومما يبين أن المراد بقوله فلأولى رجل ذكر العصبة بنفسه لا بغيره أنه لو كان بعد الفرائض إخوة وأخوات أو بنون وبنات أو بنات ابن وبنو ابن م ينفرد الذكر بالباقي دون الإناث بالنص والإجماع فتعصيب الأخت بالبنت كتعصيبها بأخيها فإذا لم يكن قوله فلأولى رجل ذكر موجبا لاختصاص أخيها دونها لم يكن موجبا لاختصاص ابن عم الجد بالباقي دونها
يوضحه أنه لو كان معها أخوها لم تسقط وكان الباقي بعد فرض البنات بينها وبين أخيها هذا وأخوها أقرب إلى الميت من الأعمام وبنيهم فإذا لم يسقطها الأخ فلأن لا يسقطها ابن عم الجد بطريق الأولى والأحرى وإذا لم يسقطها ورثت دونه لكونها أقرب منه بخلاف الأخ فإنه تشاركه لاستوائهما في القرب من الميت فهذا محض القياس والميزان الموافق لدلالة الكتاب ولقضاء النبي ص - وعلى هذه الطريق فلا تخصيص في الحديث بل هو على عمومه وهذه الطريق أفقه وألطف
يوضح ذلك أن قاعدة الفرائض أن جنس أهل الفروض فيها مقدمون على جنس العصبة سواء كان ذا فرض محض أو كان له مع فرضه تعصيب في حال إما بنفسه وإما بغيره والأخوات من جنس أهل الفرائض فيجب تقديمهن على من هو أبعد منهن ممن لا يرث إلا بالتعصيب المحض كالأعمام وبنيهم وبني الإخوة والاستدلال بهذا الحديث على حرمانهن مع البنات كالاستدلال على حرمانهن إخوتهن وحرمان بنات الابن بل البنات أنفسهن مع إخوتهن وهذا باطل بالنص والإجماع فكذا الآخر

ومما يوضحه أنا رأينا قاعدة الفرائض أن البعيد من العصبات يعصب من هو أقرب منه إذا لم يكن له فرض كما إذا كان وبنات وبنات ابن وأسفل منهن ابن ابن ابن فإنه يعصبهن فيحصل لهن الميراث بعد كن محرومات وأما أن البعيد من العصبات يمنع الأقرب من الميراث بعد أن كان وارثا فهذا ممتنع شرعا وعقلا وهو عكس قاعدة الشريعة والله الموفق
وفي الحديث مسلك آخر وهو أن قوله ألحقوا الفرائض بأهلها المراد به من كان من أهلها في الجملة وإن لم يكن في هذه الحال من أهلها كما في اللفظ الآخر اقسموا المال بين أهل الفرائض وهذا أعم من كونه من أهل الفرائض بالقوة أو بالفعل فإذا كانوا كلهم من أهل الفرائض بالفعل كان الباقي للعصبة وإن كان فيهم من هو من أهل الفرائض بالقوة وإن حجب عن الفرض بغيره دخل في اللفظ الأول وإن لم يكن لأولى رجل ذكر معه شيء وإنما يكون له إذا كان أهل الفرائض مطلقا معدومين والله أعلم
فصل ميراث البنات
المسألة الرباعة ميراث البنات وقد دل صريح النص على أن للواحدة النصف ولأكثر من اثنتين الثلثين بقي الثنتان فأشكل دلالة القرآن على حكمها على كثير من الناس فقالوا إنما أثبتناه بالسنة الصحيحة وقالت طائفة بالإجماع وقالت طائفة بالقياس على الأختين
قالوا والله سبحانه نص على الأختين دون الأخوات ونص على البنات دون البنتين فأخذنا حكم كل واحد من الصورتين المسكوت عنها من الأخرى
وقالت طائفة بل أخذ نصوص القرآن ثم تنوعت طرقهم في الأخذ فقالت طائفة أخذناه من قوله يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين

فإذا أخذ الذكر الثلثين والأنثى الثلث علم قطعا أن حظ ا لأنثيين الثلثان وقالت طائفة إذا كان للواحدة مع الذكر الثلث لا الربع فأن يكون لها الثلث مع الأنثى أولى وأحرى وهذا من تنبيه النص بالأدنى على الأعلى وقالت طائفة أخذناه من قوله سبحانه وإن كانت واحدة فلها النصف فقيد النصف بكونها واحدة فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلا في حال وحدتها فإذا كان معها مثلها فإما أن تنقصها عن النصف وهو محال أو يشتركان فيه وذلك يبطل الفائدة في قوله وإن كانت واحدة ويجعل ذلك لغوا موهما خلاف المراد به وهو محال فتعين القسم الثالث وهو انتقال الفرض من النصف إلى ما فوقه وهو الثلثان
فإن قيل فأي فائدة في التقييد بقوله فوق اثنتين والحكم لا يختص بما فوقهما
قيل حسن ترتيب الكلام وتأليفه ومطابقة مضمره لظاهر أوجب ذلك فإنه سبحانه قال يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك فالضمير في كن مجموع يطابق الأولاد أي فإن كان الأولاد نساء فذكر لفظ الأولاد وهو جمع وضمير كن وهو ضمير جمع ونساء وهو اسم جمع فلم يكن بد من فوق اثنتين وفيه نكت أخرى وهو أنه سبحانه قد ذكر ميراث الواحدة نصا وميراث الثنتين تنبيها كما تقدم فكان في ذكر العدد الزائد على الاثنتين دلالة على أن الفرض لا يزيد بزيادتهن على الاثنتين كما زاد بزيادة الواحدة على الأخرى وأيضا فإن ميراث الاثنتين قد علم من النص فلو قال فإن كانتا اثنتين كان تكريرا ولم يعلم منه حكم ما زاد عليهما فكان ذكر الجمع في غاية البيان والإيجاز وتطابق أول الكلام وآخره وحسن تأليفه وتناسبه وهذا بخلاف سياق آخر الصورة فإنه قال إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك فلم يتقدم اسم جمع ولا ضمير جمع يقتضي أن يقول فإن كن نساء فوق اثنتين

وقد ذكر ميراث الواحدة وأنه النصف فلم يكن بد من ذكر ميراث الأختين وأنه الثلثان لئلا يتوهم أن الأخرى إذا انضمت إليها أخذت نصفا آخر ودل تشريكه بين البنات وإن كثرن في الثلثين على تشريكه بين الأخوات وإن كثرن في ذلك بطريق الأولى فإن البنات أقرب من الأخوات ويسقطن فرضهن فجاء بيانه سبحانه في كل من الآيتين من أحسن البيان فإنه لما بين ميراث الابنتين بما تقرر بين ميراث ما زاد عليهما وفي آية الإخوة والأخوات لما بين ميراث الأخت والأختين لم يحتج أن يبين ميراث ما زاد عليهما إذ قد علم بيان الزائد على الاثنتين في من هن أولى بالميراث من الأخوات ثم بين حكم اجتماع ذكورهم وإناثهم فاستوعب بيانه جميع الأقسام
فصل ميراث بنت الابن
المسألة الخامسة ميراث بنت الابن السدس مع البنت وسقوطها إذا استكمل البنات الثلثين ودلالة القرآن على هذا أخفى من سائر ما تقدم وبيانها أنه تعالى قال يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وقد علم أن الخطاب يتناول ولد البنين دون ولد البنات وأن قوله أولادكم يتناول من ينتسب إلى الميت وهم ولده وولد بنيه وأن يتناولهم على الترتيب فيدخل فيه ولد البنين عند عدم ولد الصلب فإذا لم يكن إلا بنت فلها النصف وبقي من نصيب البنات السدس فإذا كان ابن ابن أخذ الباقي كله بالتعصيب للنص فإذا كان معه أخواته شاركنه في الاستحقاق لأنهن معه عصبة وهذا أحد ما يدل على أن قوله فلأولى رجل ذكر لا يمنع أن تأخذ الأنثى إذا كانت عصبة بغيرها ولهذا أخذت الأخت مع البنت الباقي بالتعصيب لأنها عصبة بها وإن لم يكن مع البنت إلا بنات ابن فقد كن بصدد أخذ الثلثين لولا البنت فإذا أخذت النصف فالسدس الباقي

لا مانع لهن من أخذه فيفزن به ألا ترى أنه إذا استكمل البنات الثلثين لم يكن لهن شيء ولو لم يكن بنات أخذن جميع الثلثين فإذا قدمت البنت عليهن بالنصف أخذن بقية الثلثين اللذين كن يفزن بهما جميعا لولا البنت وهذا حكم النبي ص -
فإن قيل فمن أين أعطيتم بنات الابن إذا استكمل البنات الثلثين وكان معهن أخوهن والنبي ص - جعل الباقي لأولى رجل ذكر
قيل قد تقدم بيان ذلك مستوفى وأن هذا حكم كل عصبة معه وارث من جنسه في درجته كالأولاد والإخوة بخلاف الأعمام وبني الإخوة
فإن قيل فكيف عصب ابن ابن الابن من فوقه وليس في درجته
قيل إذا كان يعصب من هو في درجته مع أنه أنزل ممن فوقه ولا يسقطه فتعصيبه لمن هو فوقه وأقرب منه إلى الميت بطريق الأولى فإذا كان الأنزل لا يقوى هو على إسقاطه فكيف يقوى على إسقاط الأعلى على أن عبد الله بن مسعود لا يعصب به من في درجته ولا من فوقه بل يخصه بالباقي ووجه قوله أنها لا ترث مفردة فلا ترث مع أخيها كالمحجوبة برق أو كفر بخلاف ما إذا كانت وارثة كبنت وبنت ابن معها أخوها فإنه يعصبها اتفاقا لأنها وارثة وقول الجمهور أصح فإنها وارثة في الجملة وهي ممن يستفيد التعصيب بأخيها وهنا إنما سقط ميراثها بالفرض لاستكمال من فوقها الثلثين و لا يلزم من سقوط الميراث بالفرض سقوطه بالتعصيب مع قيام موجبه وهو وجود الأخ وإذا كان وجود الأخ يجعلها عصبة فيمنعها الميراث بالكلية ولولاه ورثت بالفرض وهو الأخ المشئوم فالعدل يقتضي أن يجعلها عصبة فيورثها إذا لم ترث بالفرض وهو الأخ النافع فهذا محض القياس والميزان وقد فهمت دلالة الكتاب عليه
والنزاع في الأخت للأب مع الأخت أو الأخوات للأبوين كبنت الابن مع البنت والبنات سواء وبالله التوفيق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"