بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 23 يناير 2014



بسم الله الرحمن الرحيم 

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين 

الى شباب الأمة  ممن اختلط عليهم الأمر ووقعوا في فتن الأهواء  ودعوات أئمة البترودولار  

اقرؤوا هذه الرسالة للقاضي محجوب التونسي في عهد حمودة ياشا  وهو يرد على رسالة محمد عبد الوهاب  

وانظروا الى الحجج  .....لتعلموا من غرر بكم و قذفكم في أتون الموت ....عوض أن تكونوا فاعلين في مجتمعاتكم.....

والله ولي التوفيق.....






في أواخر القرن 18 بعث محمد بن عبد الوهاب (الذي تنسب إليه الطائفة الوهابية) إلى الأقطار مشرقا ومغربا رسالة دعوية لإتّباع الناس له والولاء له والتهديد من خالفه بالشرك واستباح قتله. يمكن اعتبار هذه الرسالة موجزا لكتابه "التوحيد الذي هو حق الله على العبيد".

رسالة بن عبد الوهاب كان لها صدى و شاعت فى القطر التونسي ممّا أضطّر حمودة باشا، باي تونس من 26 ماي 1782 إلى 15 سبتمبر 1814، أن يطلب من علماء عصره أن يوضِّحوا للنّاس الحقّ. كتب الردّ على هذه الرسالة عمر المحجوب، فقيه، قاضي الجماعة بتونس و إماما ثالثا بجامع الزّيتونة ( 1724 ـ 1807 م)

ردّ عمر المحجوب كان مفحما إلى درجة أن محمد بن عبد الوهاب لم يجب على هذه الرسالة الرسمية التي أرسلها له حمودة باشا باي تونس .ودليلا على عدم نزاهة الوهابيون نجد فى كتبهم التى توزع مجانا فى العالم كله وفى مواقعهم الكثيرة على الإنترنت نص رسالة محمد بن عبد الوهاب ولكن لا تجد أبدا ردّ عمر المحجوب!

نصّ الردّ للعلامة عمر المحجوب موجود بكتاب المؤرخ التونسي أحمد بن أبي الضياف : "إتحاف أهل الزمان في أخبار ملوك تونس وعهد الأمان" وبكتاب إبراهيم السمنودي : "سعادة الدارين في الردّ على الفرقتين الوهابية ومقلدة الظاهرية" ج 2 ص 181ـ192 وقد وسمها بالرسالة الرحمانية

فيما يلي نص ردّ عمر المحجوب على رسالة محمد بن عبد الوهاب ويتبعها نص رسالة عبد الوهاب.

ردّ عمر المحجوب علي رسالة محمد عبد الوهاب :

"{ربنا افتَحْ بيننا وبينَ قومِنا بالحَقِّ وأنتَ خيرُ الفاتحين} [سورة الأعراف/89]، {ربنا لا تجعلنا فتنةً للقومِ الظالمين* ونجِّنا برحمتِكَ من القومِ الكافرين} [سورة يونس/85ء86]، {يا أيُّها الذينَ أمنوا عليكُم أنفُسَكُم لا يضُرُّكُم من ضَلَّ إذا اهتَدَيتُم إلى الله مرجِعُكُم جميعًا فيُنَبِّئُكم بما كنتم تعملون} [سورة المائدة/105]، {يا أيُّها الذينَ أمنوا لا تُحِلُّوا شعائرَ اللهِ ولا الشهرَ الحرامَ ولا الهَدْيَ ولا القلائِدَ ولا أمِّينَ البيتَ الحرامَ يبتغونَ فضلاً مِن ربِّهم ورِضوانًا وإذا حَلَلْتُم فاصطادوا ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنَئَانُ قومٍ أن صَدُّوكُمْ عنِ المسجدِ الحرامِ أن تعتدوا وتعاونوا على البِرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثمِ والعُدوان} [سورة المائدة/2].

أما بعد هذه الفاتحة التي طلعت في سماء المفاتحة، فإنك راسلتنا تزعمُ أنك القائم بنصرة الدين، وأنك تدعو على بصيرة لما دعا إليه سيد الأولين والآخرين، وتحثُّ على الاقتفاء والاتباع، وتنهى عن الفرقة والابتداع، وأشرت في كتابك إلى النهي عن الفرقة واختلاف العباد، فاصبحت كما قال الله تعالى: {ومِنَ الناسِ مَن يُعجبُكَ قولُهُ في الحياةِ الدنيا ويُشهِدَ اللهَ على ما في قلبهِ وهوَ ألدُّ الخِصام* وإذا تولَّى سعى في الارضِ ليُفسِدَ فيها ويُهلِكَ الحرْثَ والنسلَ واللهُ لا يحبُّ الفساد} [سورة البقرة/204ء205].

وقد زعمت أن الناس قد ابتدعوا في الإسلام أمورًا، وأشركوا بالله من الأموات جمهورًا في توسلهم بمشاهد الأولياء عند الأزمات، وتشفعهم بهم في قضاء الحاجات، ونذر النذور إليهم والقربات، وغير ذلك من أنواع العبادات، وأن ذلك كله إشراك برب الأرضين والسموات، وكفر قد استحللتم به القتال وانتهاك الحرمات، ولعمر الله إنك قد ضللت وأضللت، وركبت مراكب الطغيان بما استحللت، وشنّعت وهوّلت، وعلى تكفير السلف والخلف عوَّلت، وها نحن نحاكمك إلى كتاب الله المحكم، وإلى السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أما ما أقدمت عليه من قتال أهل الإسلام، وإخافة أهل البلد الحرام، والتسلط على المعتصمين بكلمتي الشهادة، وأدمتم إضرام الحرب بين المسلمين وإيقاده، فقد اشتريتم في ذلك حُطام الدنيا بالآخرة، ووقعتم بذلك في الكبائر المتكاثرة، وفرقتم كلمة المسلمين، وخلعتم من أعناقكم ربقة الطاعة والدين، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيَّنوا ولا تقُولوا لمن ألقى إليكم السلامَ لستَ مؤمنًا تَبْتَغونَ عَرَضَ الحياةِ الدُّنيا فعِندَ اللهِ مغانِمُ كثيرةٌ} [سورة النساء/94]، وقال عليه الصلاة والسلام: "أُمرتُ أنا أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" –أي ومحمد رسول اللهء "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله" [10].

وحيث كنت لكتاب الله معتمدًا [11]، ولعماد سنته مستندًا [12]، فكيف بعد هذا –ويحكء تستحلُّ دماء أقوام بهذه الكلمة ناطقون، وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم مصدقون، ولدعائم الإسلام يُقيمون، ولحوزة الإسلام يحمون، وبعبدة الأصنام يقاتلون، وعلى التوحيد يناضلون، وكيف قذفتم أنفسكم في مهواة الإلحاد، ووقعتم في شق العصا والسعي في الأرض بالفساد؟.

وأما ما تأوَّلته من تكفيرهم بزيارة الأولياء والصالحين، وجعلهم وسائط بينهم وبين رب العالمين، وزعمت أن ذلك شنشنةُ الجاهلية الماضين، فنقول لكم في جوابه: معاذ الله أن يعبد مسلم تلك المشاهد، وأن يأتي إليها معظمًا تعظيم العابد، وأن يخضع لها خضوع الجاهلية للأصنام، وأن يعبدها بسجود أو ركوع أو صيام، ولو وقع ذلك من جاهل لانتهض إليه ولاة الامر والعظماء، وأنكره العارفون والعلماء، وأوضحوا للجاهل المنهج القويم، وهدوء الصراط المستقيم.

وأما ما جنحت إليه وعوَّلت في التفكير عليه، من التوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على العدى، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، التي لا يقدر عليها إلا رب الأرضين والسموات، إلى أخر ما ذكرتم، موقدًا به نيران الفرقة والشتات، فقد أخطأت فيه خطأ مبينًا، وابتغيت فيه غير الإسلام دينًا، فإن التوسل بالمخلوق مشروع، ووارد في السنة القويمة ليس بمحظور ولا ممنوع، ومشارعُ الحديث الشريف بذلك مفعمة، وأدلته كثيرة محكمة، تضيق المهارق عن استقصائها، ويكلُّ اليراع إذا كُلف بإحصائها، ويكفي منها توسل الصحابة والتابعين، في خلافة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، واستقساؤهم عام الرمادة بالعباس، واستدفاعُهم به الجدب والبأس، وذلك أن الارض أجدبت في زمن عمر رضي الله عنه، وكانت الريح تذرو ترابًا كالرماد لشدة الجدب، فسميت عام الرمادة لذلك، فخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالعباس بن عبد المطلب يستسقي للناس، فأخذ بضبْعَيْهِ وأشخصه قائمًا بين يديه وقال: اللهم إنّا نتقرب إليك بعم نبيك، فإنك تقول وقولك الحق: {وأمَّا الجِدارُ فكانَ لغُلامَينِ يتيمَيْنِ في المدينةِ وكانَ تحتهُ كنزٌ لهُما وكانَ أبوهُما صالحًا} [سورة الكهف/82]، فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دنونا به إليك مستغفرين ثم أقبل على الناس وقال: استغفروا ربكم إنه كان غفارًا، والعباس عيناه تنضحان يقول: اللهم أنت الراعي لا تُهمِلِ الضالةَ ولا تدعِ الكسير بدار مَضْيَعة، فقد ضرع الصغير ورقّ الكبير وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغثهم بغياثكَ قبل أن يقنطوا فيهلكوا، إنه لا يبأس من رَوْحك إلا القوم الكافرون، اللهم فأغثهم بغياثك فقد تقرَّب القومُ إليك بمكانتي من نبيك عليه السلام، فنشأت سحابة ثم تراكمت، وماسَتْ فيها ريح ثم هزّت، ودرَّت بغيثٍ واكفٍ، وعاد الناس يتمسحون بردائه ويقولون له: هنيئًا لك ساقيَ الحرمين [13].

فأخبرني –يا أخ العربء هل تكفّر بهذا التوسل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وتكفر معه سائر من حضر من الصحابة والتابعين، لكونهم جعلوا بينهم وبين الله واسطة من الناس، وتشفّعوا إليه بالعباس، وهل أشركوا بهذا الصنيع مع الله غيره، وما منهم إلا من أنهضته للدين القويم غيرة. كلا والله، وأقسم بالله وتالله، بل مكفّرهم هو الكافر، والحائد عن سبيلهم هو المنافق الفاجر، وهم أهدى سبيلاً، وأقوم قيلاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "اقتدوا بمن بعدي: أبي بكر وعمر" [14].

وإذا قدحت في هذا الجمع من الصحابة الذين منهم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهما فمن أين وصل لك هذا الدين، و[من] رواه لك مبلغًا عن سيد المرسلين؟ ثم ما تصنع يا هذا في الحديث الآخر الذي رواه مسلم [15] في صحيحه مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم في أويس، وأنه أخبر به عليه الصلاة والسلام وهو من أعلام النبوءة، وأمر عمر بطلب الاستغفار منه، وأنه طلب منه ذلك واستغفر له، وقد قال الله تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام: {يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنَّا كُنَّا خاطِئين} [سورة يوسف/97].

فالزائر للأولياء والصالحين إما أن يدعو الله لحاجته، ويتوسل بسرّ ذلك الولي في إنجاح بُغيته، كفعل عمر في الاستسقاء، أو يستمدَّ من المزور الشفاعة له وإمداده بالدعاء كما في حديث أويس القرني، إذ الأولياء والعلماء كالشهداء أحياء في قبورهم [16]، إنما انتقلوا من دار الفناء إلى دار البقاء.

فأيُّ حرج بعد هذا يا أيها القائم للدين، في زيارة الأولياء والصالحين؟ وأي منكر تقوم بتغييره، وتقتحم شقّ العصا وإضرام سعيره؟ ولعلك من المبتدعة الذين ينكرون أنواعًا كثيرة من الشفاعة، ولا يثبتونها إلا لأهل الطاعة، كما أنه يلوح من كتابك إنكار كرامات الأولياء، وعدم نفع الدعاء، وكلها عقائد عن السنة زائغة، وعن الطريق المستقيم رائغة.

وقولكم إن ما قلتموه لا يخالف فيه أحد من المسلمين، افتراء ومَيْن، وإلحاد في الدين، لأن أهل السنة والجماعة يثبتون لغير الأنبياء الشفاعة، كالعلماء والصلحاء وأحاد المؤمنين، فمنهم من يشفع للقبيلة ومنه من يشفع للفئام من الناس كما ورد أيضًا أن أويسًا القرني يشفع في مثل ربيعة ومضر [17].

وأما المعتزلة فإنهم منعوا شفاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم وأثبتوا الشفاعة العظمى من هول الموقف، والشفاعة للمؤمنين المطيعين أو التائبين في رفع الدرجات، ولم يثبتوا الشفاعة لأهل الكبائر الذين لن يتوبوا في النجاة من النار بناء على مذهبهم الفاسد من التكفير بالذنوب، وأنه يجب عليها التعذيب.

وأما ما جنحت إليه من هدم ما بُنيَ على مشاهد الأولياء من القباب، من غير تفرقة بين العامر والخراب، فهي الداهية الدهياء والعظيمة العظمى من الظلم التي أظلك الله فيها على علم: {ومَنْ أظلمُ مِمَّن منَعَ مساجِدَ اللهِ أن يُذْكَرَ فيها اسمُهُ وسعى في خرابِها أولئِكَ ما كانَ لهم أن يدخُلوها إلا خائِفينَ لهُمْ في الدنيا خِزْيٌ ولهُم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ} [سورة البقرة/114]. وكأنك سمعت في بعض المحاضر بعض الأحاديث الواردة في النهي عن البناء على المقابر، فتلقَّفْته مجملاً من غير بيان، وأخذته جُزافًا من غير مكيال ولا ميزان، وجعلت ذلك وليجةً إلى ما تقلدته من العسف والطغيان، في هدم ما على قبور الأولياء والعلماء من البنيان. ولو فاوضت الأئمة، واستهديت هداة الأمة، الذين خاضوا من الشريعة لُججها، واقتحموا ثَبَجها، وعالجوا غِمارها، وركبوا تيارها، لأخبروك أن محلّ ذلك الزجر، ومطلع ذلك الفجر، في البناء في مقابر المسلمين المعدّة لدفن عامّتهم لا على التعيين، لِما فيه من التحجير على بقية المستحقين، ونبش عظام المسلمين.

وأما ما يبنيه المسلمون في أملاكهم المملوكة لهم، ليصلوا بمن يُدفن هناك حبلهم، فلا حرج يلحقهم، ولا حرمة ترهقهم. فكما لا تحجير عليهم في بناء أملاكهم دُورًا أو حوانيت أو مساجد، كذلك لا حرج عليهم في جعلها قبابًا أو مقامات أو مشاهد.

ثم ليتك إذ تلقفت ذلك منهم، ووعيته عنهم، أن تعيد عليهم السؤال، وتشرح لهم نازلة الحال، وهل يجوز بعد النزول والوقوع، هدم ما بُني على الوجه الممنوع، وهل هذا التخريب محظور أو مشروع. فإذا أجابوك أنه من معارك الانظار، ومحل اختلاف العلماء والنُّظار، وأن منهم من يقول بإبقائه على حاله، رعيا للحائز في إتلاف ماله، وأن له شبهة في الجملة تحميه، وفي ذلك البناء منفعة للزائر تقيه. ومنهم من شدد النكير، وأبى إلا الهدم والتغيير.

فإذا تحقق عندك هذا، فكيف تقدم هذا الإقدام وتخوض مزالق الأقدام، وتطلق العنان في هدم كل مقام، من غير مراعاة في الدين ولا ذمام. فإذا انفتحت لك هذه الأبواب، نظرت بنظر أخر ليس فيه ارتياب، وهو أن المنكر الذي اقتضى نظرُك تغييره، ليس متفقًا عليه عند أهل البصيرة، وأنه من مدارك الاجتهاد، وقد سقط عنك القيام فيه والانتقاد.

ثم بعد الوصول إلى هذا المقام، أعد نظرًا في إيقاد نار الحرب بين أهل الإسلام، واستباحة المسجد الحرام، وإخافة أهل الحرمين الشريفين، والاستهوان لإصابة لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فسيتضح لك أنك غيَّرت المنكر في زعمك، ويحسب اعتقادك وفهمك، وأتيت بجمل كثيرة من المناكر، وطائفة عديدة من الكبائر، أذيت بها نفسك والمسلمين، وابتغيت بها غير سبيل المؤمنين، وتعرضت بها لإذاية الأولياء والصالحين، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث رواه البخاري [18] والإمام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل قال من عادى لي وليًّا فقد أذنني بحرب"، فكفى بالتعرض لحرب الله خطرًا، وقذفًا في العطب وضررًا.

وأما إنكار زيارة القبور، فأي حرج فيها أو محظور، وأي ذميمة تطرقها أو تعروها، مع ثبوت حديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" [19]، فإن هذا الحديث ناسخ لما ورد من النهي عن زيارتها، وماحٍ لما في أول الإسلام من حماية الأمة من أسباب ضلالتها، لقرب عهدها بجاهليتها، وعبادة أصنامها وألهتها. وكيف تمنع من زيارتها والنبي صلى الله عليه وسلم قد شرعها، وسامَ رياضها وأربعها، فقد ثبت في حديث عائشة أم المؤمنين أنه صلى الله عليه وسلم زار بقيع الغرقد واستغفر فيه لموتى المسلمين [20]، وثبت أيضًا أنه زار قبر أمه أمنة بنت وهب [21] واستغفر بها [22].

وأخذ بذلك الصحابة والتابعون، ودرج عليه العلماء والسلف الماضون، فقد ثبت في الاحاديث المروية عن أئمة الهدى ونجوم الاقتداء، أن فاطمة سيدة نساء العالمين زارت عمها سيد الشهداء، وذهبت من المدينة إلى جبل أحد، ولم ينكر من الصحابة أحد، وهم إذ ذاك بالمدينة متآمرون، وعلى إقامة الدين متناصرون. أفنجعل هؤلاء أيضًا مبتدعين، وأنهم سكتوا عن الابتداع في الدين؟ كلا والله، بل يجب علينا اتباعهم، ومن أدلة الشريعة إجماعهم.

وقد مضت على ذلك العلماء في جميع الاقطار، وانتدبوا بأنفسهم للاستمداد من قبور الصلحاء وقضاء الأوطار، و[دونوا] [23] ذلك في كتبهم ومؤلفاتهم، وسطروه في دواوينهم وتعليقاتهم، وقسموا الزيارة إلى أقسام، وأوضحوا ما تلخص لديهم بالأدلة الشرعية من الأحكام.

وذلك أن الزيارة إن كانت للاتعاظ والاعتبار، فلا فرق في جوازها بين قبور المسلمين والكفار، وإن كانت للترحم والاستغفار من الزائر، فلا منع فيها إلا في حق الكافر، فإن الشريعة أخبرت بعدم غفران كفره وعليه حملوا قوله تعالى: {ولا تُصَلِّ على أحدٍ منهُم ماتَ أبدًا ولا تَقُمْ على قبرهِ} [سورة التوبة/84]. وإن كانت الزيارة لاستمداد الزائر من المزور، وتوخي المكان الذي فضله مشهور، والدعاء عند قبره لامر من الأمور، فلا حرج فيها ولا محظور، بل هو مندوب إليه، ومرغّب فيه، وإنه مما تشد المطي إليه، ومن خالف في هذا الحكم سبيل جمهورهم، واتبع من الشبهات مخالف منشورهم، فقد شدد العلماء في النكير عليه، وسددوا سهام النقد إليه، وأشرعوا نحوه رماح التضليل، وأرهفوا له سيوف التجهيل، واتفقت كلمتهم على بدعته في الاعتقاد، وثنوا إليه عنان الانتقاد، ومن يُضلل الله فما له من هاد.

وأما النهي [24] الوارد في شد المطي لغير المساجد الثلاثة فإنما هو بالنسبة لنذر الصلاة فيها، فإنه لا يختلف ثواب الصلاة لديها [25].

وأما المزارات فتختلف في التصريف مقاماتها، وتتفاوت في ذلك كراماتها، وذلك لسرّ في الاستمداد والأمداد لا تطلع عليه، وضُرب بسور له باب بينك وبين الوصول إليه، وقد اوضح ذلك حجة الإسلام، ومن شهد له بالصديقية العلماء والاولياء العظام.

وأما ادماجكم لقبور الأنبياء في أثناء النكير، والتضليل لزائرها والتكفير، فهو الذي أحفظ عليكم الصدور، وأترع حياض الكراهة والنفور، وسدد إليكم سهام الاعتراض، وأوقد شُواظ بغض والارتماض.

فقل لي –يا أخا العربء هل قمت لنصرة الدين أن لنقض عراه، وهل أنت مصدق بالوحي لنبيه أن قائل: إن هو إلا إفك افتراه؟ وما تصنع بعد اللتيَّا والتي، في حديث "من زار قبري وجبت له شفاعتي" [26]؟ وأخبرني هل تضلل سليمان بن داود في بنائه على قبر الخليل ومن معه من أنبياء بني إسرائي؟ وما تقول –ويحكء في الحديث الذي رواه جهابذة الرواة، وصححه المحدثون الثقات، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لما أسري بي إلى بيت المقدس، مرّ بي جبريل على قبر إبراهيم عليهما السلام، فقال لي انزل فصلّ هنا ركعتين، فإن ههنا قبر أبيك إبراهيم عليه السلام" [27]. وعنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أنه قال: "من لم تُمكنْه زيارتي فليزُر قبر إبراهيم الخليل عليه السلام" [28]. فأين تذهب بعد هذا يا هذا؟ وهل تجد لنفسك مدخلاً أو معاذًا؟ وهل أبقيت بعد تضليل جميع الأنبياء ملاذًا؟ {ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذْ هَدَيْتنا وهبْ لنا من لدُنكَ رحمةً إنكَ أنتَ الوهاب} [سورة أل عمران/8].

وأما تلميحكم للأحاديث التي تتلقفونها، ولا تحسنونها ولا تعرفونها، فهِمْتُم بسبب ذلك في أودية الضلالة، ولم تشيموا بها إلا بُرُوق الجهالة، وسلكتم شِعابها من غير خبير، ونحوتم أبوابها بلا تدبرر ولا تدبير، فإن حديث: "لا تتخذوا قبري مسجدًا" [29]، محمله عند البخاري على جعله للصلاة متعبدًا، حفظًا للتوحيد، وحماية للجاهل من العبيد، لأن المصلي للقبلة يصير كأنه مصلٍّ إليه [30]، فحمى صلى الله عليه وسلم حمى ذلك من الوقوع فيه. وأما قصده للزيارة والاستشفاع والاستمداد ببركته والانتفاع، وقصد المسلمين إياه من سائر البقاع، فما يسعنا إلا الاتباع.

وكذلك ما لوَّحْتَ به إلى شدّ الرحال، فإنك أخطأت في الاستشهاد به في نازلة الحال، وذلك أن الحصر في المساجد، دون سائر المشاهد.

وكذلك ما لمحت إليه من حديث تعظيم القبر بإسراجه، فإنك أخطأت فيه واضح منهاجه، مع بهرجة نقده في رواجه، ومحمله –على فرض صحتهء على فعل ذلك للتعظيم المجرد عن الانتفاع للزائرين، أما إذا كان القصد به انتفاع اللائذين والمقيمين، فهو جائز بلا مَيْن.

وأما ما تدَّعونه من ذبح الذبائح والنذور، وتبالغون في شأنها التغيير والتنكير، وتصف ألسنتكم الكذب، وتثيرون في شأنها الهرج والشغب، فكون الذبائح المذكورة مما أهِلَّ به لغير الله مكابرةٌ لليعان، وقذفٌ بالإفك والبهتان، فإنا بلونا أحوال أولئك الناذرين، فلم نر أحدًا منهم يسمي عند ذبحها اسم ولي من الصالحين، ولا يلطخ الضرائح، بدم تلك الذبائح، ولا يأتون بفعل من الأفعال، الحاكمة على تحريم الذبيحة والإهلال.

وأما نذرها لتلكم المزارات، فليس على أنها من باب الديانات، ولا أن من لم يفعل ذلك يكون ناقص الدين في العادات، وإنما يقصدون بذلك مقاصد الرُّقى والنشر [31]، والانتفاع في الدنيا بسر في التصدق بها استتر، ولم يدر منها إلا ما اشتهر.

والواجب علينا وعليكم الرجوع في حكم نذرها إلى العلماء الأعلام، المتضلعين من دراية الاحكام، المقيمين لقسطاسها، المسرجين لنبراسها، الناقبين على أساسها، ومن لديهم محك عسجدها ونحاسها.

فإن كنتم تقيمون، ومن مخالفة الشريعة تتجرمون {فسْئَلوا أهلَ الذِّكرِ إن كنتم لا تعلمون} [سورة النحل/43]، {ولا تَقْعُدوا بكُلِّ صِراطٍ تُعدون} [سورة الأعراف/86]، فإنهم يهدونكم السبيل، ويفتونكم في هذه المسألة بالتفصيل، وأن هذا الناذر إن نذر تلك الذبائح للولي المعيّن بلفظ الهدي والبدنة، فقد جاء بالسيئة مكان الحسنة، ولكن ما رأينا من خلعَ في هذا المحظور رسَنَه، ولا من اهتصَرَ فَتَنه، وإن نذر تلك الذبائح لمحل الزيارة، بغير هاته العبارة، وكان من الذبائح التي تقبل أن تكون هديًا، فهل يلزمه أن يسعى به لذلك المزار سعيًا، أو لا يلزمه إلا التصدق به في موضعه رعيًا، خلاف في مذهب مالك شهير، قرره النحارير.

وإن كان ذلك النذر مما لا يصح إهداؤه، فالقاصد للفقراء الملازمين بمحل الشيخ يلزمه بعثه وإنهاؤه، والقاصد للولي في نذره وتشرعه، لا يلزمه إلا التصدق به في موضعه.

وإذا اتضح لديك الحال، فأي داعية للحرب والقتال؟ وهل يتميز المشروع من هذه الصور بالمحظور، إلا بالنيات التي لا يعلمها إلا العالم بما في الصدور؟ والله إنما كلفنا بالظاهر، ووكل إليه أمر السرائر. ولم يقيّض بالخواطر نقيبًا، ولا جعل عليها مهيمنًا من الولاة ولا رقيبًا.

وإذا التزمت سدَّ الذريعة بالمنع من المشروع، خوفًا من الوقوع في الممنوع، فالتزم هذا الالتزام، في سائر العبادات الواقعة في الإسلام، التي لا تفرقة فيها بين المسلم والكافر، إلا بما انطوت عليه الضمائر. فإن المصلي في المسجد يحتمل أن يقصد عبادة الحجارة، بمثل ما احتمل صاحب الذبائح والزيارة، والصائم يحتمل أن يقصد بصومه تصحيح المزاج، أو المداواة والعلاج، والمزكي يحتمل أن يقصد مقصدًا دنيويًا، أو معبودًا جاهليًا، والمُحرِم بحج أو عمرة، يحتمل أن ينوي ما يوجب كفره.

وإذا وصلت إلى هذا الالتزام، نقضت سائر دعائم الإسلام، والتبس أهل الكفر بأهل الإيمان، وأفضى الحال إلى هدم جميع الأركان، واستبيحت دماء جميع المسلمين، وهدمت صلواتهم ومساجدهم وصوامعهم أجمعين.

فانظر أيها الإنسان، ما هذا الهذيان، وكيف لعب بك الشيطان، وماذا أوقعك فيه من الخسران. فارجع عن هذا الضلال المبين، وقل ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين.

وأما ما جلبتم من الاحاديث الواردة في تغيير النبي صلى الله عليه وسلم للقبور، وأنه أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بطمسها وتسويتها، فقد أخطأتم الطريق في فهمها، ولم يأتِكم نبأ علمها، ولو سألتم عن ذلك ذويه، لأخبروكم بأن محمله طمس ما كانت الجاهلية عليه، وكانت عادتهم إذا مات عظيم من عظمائهم، بنوا على قبره بناء كأُطُمٍ من أطامهم، مباهاة وفخرًا، وتعاظمًا وكبرًا، فبعث صلى الله عليه وسلم من يمحو من الجاهلية أثارها، ويطمس مباهاتها وفخارها، وإلا فلو كان كما ذكرتم، لكان حكم التسنيم [32] كحكم ما أنكرتم.

وإذا استبان لكم واتضح لديكم، انقلبت الحجة التي أتيتم بها عليكم، وكيف تجعلون تلك الأحاديث حجة قاضية على وجوب كون القبور ضاحية [33]، والفرق ظاهر بين البناء على القبور، وحفر القبور تحت البناء، فالأول من فعل الجاهلية الوارد فيه ما ورد، والثاني هو الذي يعوزكم فيه المستند، ولا يوافقكم على تعميم النهي أحد.

وأما ما نزعتم إليه من التهديد، وقرعتم فيه بآيات الحديد، وذكرتم "أن من لم يُجِب بالحجة والبيان، دعوناه بالسيف والسنان"، فاعلم يا هذا أننا لسنا ممن يعبد الله على حرف، ولا ممن يفرُّ عن نصرة دينه من الزحف، ولا ممن يظن بربه الظنون، أو يتزحزح عن الوثوق بقوله تعالى: {فإذا جاءَ أجلُهُم لا يَسْتأخِرونَ ساعةً ولا يستقدِمون} [سورة الأعراف/34]، ولا ممن يميل عن الاعتصام بالله سرًا وعلنًا، أو يشك في قوله تعالى: {قُل لن يُصيبَنا إلا ما كتبَ اللهُ لنا} [سورة التوبة/51]، وما بنا من وهن ولا فشل، ولا ضعف في النكاية ولا كسل، ننتصر للدين ونحمي حماه، وما النصر إلا من عند الله.

وأما ما جال في نفوسكم، ودار في رؤوسكم، وامتدت إليه يد الطمع، وسوَّلته الأماني والخدع، من أنكم من الفئة الذين هم ومن حالفهم لا يضرهم من خالفهم، وأنكم من الطائفة الظاهرين على الحق، وأن هذه المناقب تساق إليكم وتَحقُّ، فكلا وحاشا أن يكون لكم في هذه المناقب من نصيب، أو يصير لكم إرثها بفرض أو تعصيب، فإن هذا الحديث وإن كان واردًا صحيحًا [34]، إلا أنكم لم تُوفُّوا طريقه تنقيحًا، فإن في بعض رواياته "وهم بالمغرب" [35] وهي تحجبكم عن هذه المناقب، وتبعدكم عنها بعد المشارق من المغارب.

فانفض يديك مما ليس إليك، ولا تمدَّنَّ عينيك إلى من حرِّمت عليك، فإنكاح الثريا من سهيل، أمكن من هذا المستحيل.

أما أهل هذه الأصقاع والذين بأيديهم مقاليد هذه البقاع، فهم أجدر أن يكونوا من إخواننا، وتمتدُّ أيديهم إلى خِوانها، لصحة عقائدهم السنية، واتباعهم سبيل الشريعة المحمدية، ونبذهم للابتداع في الدين، وانقيادهم للإجماع وسبيل المؤمنين.

وقد أنبأتنا في هذا الكتاب، وأعربت في طيّ الخطاب، عن عقائد المبتدعة، الزائغين عن السنة المتبعة، الراكبين مراكب الاعتساف، الراغبين عن جمع الكلمة والائتلاف، فالنصيحة النصيحة، أن تنزع لباس العقائد الفاسدة وتتسربل العقائد الصحيحة، وترجع إلى الله وتؤمن بلقاه، ولا تكفّر أحدًا بذنب اجتناه، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله.

وزبدة الجواب وفذلكة الحساب، أنك إن قفوت يا أخا العرب نصحك، وأسَوْت بالتوبة جرحك، وأدملت بالإنابة قرحك، فمرحبًا بأخي الصَّلاح، وحيَّهلا بالمؤازر على الطاعة والنجاح، وجمع الكلمة والسماح، وإن أطلت في لُجّة الغواية سبْحَكَ وشيدت في الفتنة صرحك، واختلتَ عارضًا رُمحك، فإن بني عمك فيهم رماح، وما منهم إلا من يتقلد الصفاح، ويجيل في الحرب فائز القِداح.

والله تعالى يسدد سهام الأمة الساعية فيما يحبه ويرضاه، ويُخمد ضرام الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله والسلام" انتهى.

الأربعاء، 15 يناير 2014

المبحث الأول: تعريف الخوارج لغة

الخوارج في اللغة جمع خارج، وخارجي اسم مشتق من الخروج، وقد أطلق علماء اللغة كلمة الخوارج في آخر تعريفاتهم اللغوية في مادة (خرج) على هذه الطائفة من الناس؛ معللين ذلك بخروجهم عن الدين أو على الإمام علي، أو لخروجهم على الناس  .
وقد أطلقت كلمة الخوارج هذه في كتب اللغة على طائفة من أهل الآراء والأهواء لخروجها على الدين أو على الإمام علي رضي الله عنه. فيقول الأزهري في (تهذيب اللغة): والخوارج: قوم من أهل الأهواء لهم مقالة على حدة. وهو تعريف ابن منظور والفيروزآبادي أيضاً  . ويقول الزبيدي عنهم: هم الحرورية والخارجية طائفة منهم، وهم سبع طوائف سموا به لخروجهم على الناس أو عن الدين أو عن الحق أو عن علي كرم الله وجهه بعد صفين  ...
المبحث الثاني: تعريف الخوارج اصطلاحا

اختلف العلماء في التعريف الاصطلاحي للخوارج، وحاصل ذلك:
منهم من عرفهم تعريفاً سياسياً عاماً، اعتبر الخروج على الإمام المتفق على إمامته الشرعية خروجاً في أي زمن كان.
قال الشهرستاني: (كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين لهم بإحسان والأئمة في كل زمان)  .
ومنهم من خصهم بالطائفة الذين خرجوا على الإمام علي رضي الله عنه. قال الأشعري: (والسبب الذي سُمّوا له خوارج؛ خروجهم على علي بن أبي طالب)  .
زاد ابن حزم بأن اسم الخارجي يلحق كل من أشبه الخارجين على الإمام عليّ أو شاركهم في آرائهم في أي زمن. وهو يتفق مع تعريف الشهرستاني  .
وعرفهم بعض علماء الإباضية بأنهم طوائف من الناس في زمن التابعين وتابع التابعين أولهم نافع بن الأزرق  .، ولم أر هذا التعريف عند أحد غير الإباضية.
وهذا التعريف لأبي إسحاق أطفيش يريد منه أن لا علاقة بين المحكمة الأولى –الذين لا يعتبرهم خوارج لشرعية خروجهم كما يزعم- وبين من بعدهم إلى قيام نافع سنة 64هـ، وهذا التعريف غير مقبول حتى عند بعض علماء الإباضية، ويبقى الراجح هو التعريف الثاني؛ لكثرة من مشى عليه من علماء الفرق في تعريفهم بفرقة الخوارج، وقيام حركتهم ابتداء من خروجهم في النهروان، وهو ما يتفق أيضاً مع مفهوم الخوارج كطائفة ذات أفكار وآراء اعتقاديه أحدثت في التاريخ الإسلامي دوياً هائلاً.
وأما في اصطلاح علماء الفرق فيؤخذ وجهات نظر ثلاثة في التعريف بالخوارج:
- من يرى أنهم الخارجون على الإمام الحق في أي زمان.
- من يرى أنهم الخارجون عن الإمام علي ومن يرون رأيهم.
- ومن يرى أنهم الخارجون بعد الإمام علي ابتداءً من الأزارقة.
وتعريف الشهرستاني هذا تعريف عام يشمل أقسام الخروج، ولا يخص فرقة الخوارج، إذ الخروج على إمام المسلمين ينقسم إلى أقسام:
أولا: من خرج لمنازعة في الملك، ولكنه خرج غضبا للدين، ومن أجل جور الولاة وترك عملهم بالسنة، مثل الحسين بن علي  ، وأهل المدينة في وقعة الحرة، وزيد بن علي زين العابدين  .
ثانيا: من خرج على ولي الأمر بتأويل سائغ  يقره الكتاب والسنة، وهذا ما كان من أصحاب الجمل وصفين إذ خرجوا على علي رضي الله عنه لا معاندين مطالبين بالملك، بل لرأي رأوه واجتهاد صاروا إليه من طلب القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه  .
ثالثا: من خرج لطلب الملك فقط، وكان القتال على الدنيا وهؤلاء هم البغاة حقا  .وقد جاء الوعيد والذم لهذه الطائفة المفرقة للأمة السافكة لدماء المسلمين من أجل الدنيا والملك.
رابعا: من خرج على الإمام وعلى الجماعة المسلمة للدعاء إلى معتقدهم  ، فخروج هؤلاء نابع من مخالفة لأصول في الشريعة الاعتقادية أو العلمية  .
والقسم الرابع هذا الخارج للدعاء إلى معتقده هو الذي وردت فيه نصوص نبوية في ذمه، والأمر بقتاله لأن خطره عظيم على الأمة المسلمة وهو أخطر أقسام الخروج السابقة، يقول ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق الصحابة والعلماء بعدهم على قتال هؤلاء  ، فإنهم بغاة على جميع المسلمين سوى من وافقهم على مذهبهم، وهم يبدؤون المسلمين بالقتال، ولا يندفع شرهم إلا بالقتال، فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق؛ فإن أولئك مقصودهم المال، فلو أعطوه لم يقاتلوا، وإنما يتعرضون لبعض الناس، وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن...
وهم شر على المسلمين من غيرهم، فإنهم لم يكن أحد شرا على المسلمين منهم ولا اليهود ولا النصارى؛ فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفرين لهم وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة"  .
إذا الخوارج بتعريف عام: "كل من خرج على الإمام وعلى الجماعة المسلمة بالسيف للدعاء إلى معتقده وكان خروجه نابعا من مخالفة الأصول في الشريعة" فهذا التعريف أقرب لتعريف الخوارج كفرقة من الفرق، أما من خرج لغير ذلك مما تقدم فيطلق عليهم اسم الخروج العام، ويطلق عليهم خوارج "كحكم شرعي، وصفة لفعلهم.
ونجد د/ ناصر العقل يعرف الخوارج كفرقة من الفرق أنهم: "الذين يكفرون بالمعاصي ويخرجون على أئمة المسلمين وجماعتهم"  . وهذا التعريف عام وإن كان أخص مما ذكره الشهرستاني إلا أنه يشمل كل من سار على هذا المنهج، وإن تسمى باسم آخر غير الخوارج، أو انتمى إلى فرقة أخرى، إذ كل من خرج على إمام المسلمين وجماعتهم بالسيف، وكان الدافع لهذا الخروج عقيدة يعتقدها من تكفير المخالفين أو بدعة يدعو إليها يسمى خارجيا، ويعتبرون خوارج ويلحقهم الذم الوارد في النصوص  ، لذلك يطلق على فرقة الرافضة خوارج مارقة بهذا المعنى  .
وإن كانت الخوارج والرافضة كلها تكفر بالمعاصي  ، وترى الخروج على إمام المسلمين وجماعتهم على خلاف فيما بينهم في تفصيل ذلك إلا أن الفيصل بينهما هو القول في علي رضي الله عنه، فالخوارج الحرورية تكفره، والرافضة تتولاه. لذا إذا أردنا أن نعرف الخوارج الحرورية بتعريف خاص بهم كفرقة من الفرق، لا كحكم شرعي فيهم أو تعريف عام لهم نقول: هم كل من كفر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعثمان وأصحاب الجمل ومن رضي بالتحكيم، وهم الذين يكفرون بالمعاصي ، ويرون الخروج على إمام المسلمين وجماعتهم، ويتولون فرقة المحكمة الأولى  .
فهؤلاء هم الخوارج الحرورية وهم المرادون في هذا المبحث والله أعلم، والخوارج فرق متعددة، عدها بعضهم وأوصلها إلى العشرين  .
الفصل الثالث: نشأة الخوارج

اختلف المؤرخون وعلماء الفرق في تحديد بدء نشأتهم، وخلاصة ذلك ما يلي:
أنهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
أنهم نشأوا في عهد عثمان رضي الله عنه.
أنهم نشأوا في عهد علي رضي الله عنه حين خرج عليه طلحة والزبير، كما يزعم بعض علماء الإباضية.
أو حين خرج الخوارج من المحكمة عن جيشه كما هو الراجح.
أنهم ظهروا في عهد نافع بن الأزرق ابتداء من سنة 64هـ، كما تقدم في التعريف بهم. وفيما يلي مناقشة تلك الأقوال وبيان الصحيح منها:
أما بالنسبة للقول الأول، فإن المقصود به ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم من قيام ذي الخويصرة- عبد الله ذي الخويصرة التميمي- في إحدى الغزوات في وجه الرسول معترضاً على قسمة الرسول صلى الله عليه وسلم للفيء، وأنه لم يعدل - حاشاه - في قسمتها.
وقد قال بهذا القول كثير من العلماء منهم: الشهرستاني وابن حزم وابن الجوزي، والآجري، إلا أنه ينبغي التفريق بين بدء نزعة الخروج على صورة ما، وظهور الخوارج كفرقة لها آراء وتجمع قوي.
فذو الخويصرة لا يعتبر في الحقيقة زعيماً للخوارج، لأن فعلته حادثة فردية- تقع للحكام كثيراً- ولم يكن له حزب يتزعمه ولا كان مدفوعاً من أحد - إلا طمعه وسوء أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فيمكن القول بأن نزعة الخروج قد بدأت بذرتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم 
وأما بالنسبة للقول الثاني، فهو رأي لبعض العلماء أيضاً كابن كثير وابن أبي العز  , ولكن يرد على هذا أن أولئك الثوار البغاة كان هدفهم قتل عثمان وأخذ المال، ولا ينطبق عليهم وصف فرقة ذات طابع عقائدي خاص، ولهذا اندمجوا مع المسلمين بعد تنفيذ جريمتهم ولم يشكلوا فرقة مستقلة –وإن كان فعلهم يعتبر خروجاً عن الطاعة وخروجاً على الإمام –إلا أنهم ليسوا هم الخوارج كفرقة عقائدية سياسية لما تقدم.
وأما بالنسبة للقول الثالث؛ وهو للورجلاني الإباضي، فأنه قول مردود؛ فإن طلحة والزبير رضي الله عنهما لا يصح وصفهما بالخوارج ولا ينطبق عليهما وصف الخوارج كفرقة، وكان معهما أيضاً أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد شهد الله لها بالإيمان، وطلحة والزبير رضي الله عنهما من العشرة المبشرين بالجنة  .
وأما بالنسبة للقول بأن نشأتهم تبدأ من قيام نافع بن الأزرق؛ فإنه لم يقل به غير من ذكرنا من علماء الإباضية؛ لنفيهم وجود صلة ما بين المحكمة ومن سار على طريقتهم وبين الأزارقة بعدهم، وهو قول غير مقبول لوجود تسلسل الأحداث وارتباطها من المحكمة إلى ظهور نافع بن الأزرق.
والحاصل أن الخوارج بالمعنى الصحيح اسم يطلق على تلك الطائفة ذات الاتجاه السياسي والآراء الخاصة، والتي خرجت عن جيش الإمام علي رضي الله عنه والتحموا معه في معركة النهروان الشهيرة   .
ومما نذكره هنا محاورات بين علي رضي الله عنه والخوارج، تصور لنا مدى التعنت الذي اتصف به الخوارج.
يختلف المؤرخون في تحديد بدء نشأة الخوارج هل كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو في عهد عثمان أو في عهد علي رضي الله عنهما أو أن نشأتهم لم تبدأ إلا بظهور نافع بن الأزرق وخروجه عام 64هـ؟
وسوف نتناول أقوال المؤرخين في هذا المقام بالعرض والدراسة واختيار ما نراه صحيحا منها.
القول الأول:
أن أول الخوارج هو ذو الخويصرة أو عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي الذي بدأ الخروج بالاعتراض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة الفيء واتهامه إياه بعدم العدل وقد ورد في حديث البخاري تحت باب (من ترك قتال الخوارج للتألف وأن لا ينفر الناس عنه) عن أبي سعيد قال: ((بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمى فقال: اعدل يا رسول الله . فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل. قال عمر بن الخطاب دعني أضرب عنقه . قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته ، وصيامه مع صيامه ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شىء، قد سبق الفرث والدم ، آيتهم رجل إحدى يديه - أو قال ثدييه - مثل ثدي المرأة - أو قال مثل البضعة - تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه ، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال فنزلت فيه وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ))  ، فهو على ما يبدو من تبويبه لهذا الحديث يعتبر ذا الخويصرة أول الخوارج وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك قتله للتألف.
وقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله هذا الحديث مع اختلاف في الألفاظ  وقد اقتصر في تسمية ذلك الخارجي الأول على (ذي الخويصرة) بينما هو في البخاري عبد الله بن ذي الخويصرة وربما رجع ذلك إلى اشتهار عبد الله باسم أبيه ذي الخويصرة فاقتصر مسلم على الشهرة بينما ذكر البخاري اسمه كاملاً.
وسواء كان الخارج على النبي هو عبد الله أو أباه؛ فإن الحادثة قد وقعت بهذه الصورة وقد أورد مسلم عدة روايات حول هذه القضية ولكنه لم يصرح بالاسم إلا  في رواية أبي سعيد، وفي بعض الروايات التي ذكرها الإمام مسلم عن أبي سعيد ذكر أوصاف ذلك الرجل دون ذكر اسمه كما في قوله:  ((بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر؛ الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن بدر الفزاري، وعلقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وزيد الخير الطائي، ثم أحد بني نبهان قال: فغضبت قريش فقالوا: أيعطي صناديد نجد ويدعنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم. فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد. قال: فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن يطع الله إن عصيته، أيأمنني على أهل الأرض ولا تؤمنوني؟ قال: ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله (يرون أنه خالد بن الوليد)، فقال رسول الله: إن من ضئضئ  هذا قوما يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد))  .
وقد أخبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه ببعض أوصافهم التي أخبره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووقع مصداق ذلك حين قتلهم علي بن أبي طالب  في معركة النهروان، كما جاء في كلام عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم  (أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب قالوا: لا حكم إلا لله قال علي: كلمة حق أريد بها باطل؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم (وأشار إلى حلقه)، من أبغض خلق الله إليه منهم أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي، فلما قتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: انظروا، فنظروا فلم يجدوا شيئا فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثا. ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه. قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم: زاد يونس في روايته: قال بكير: وحدثني رجل عن أبي حنين أنه قال: رأيت ذلك الأسود )  .
وقد ذهب إلى القول بأن أول الخوارج هو ذو الخويصرة كثير من العلماء منهم ابن الجوزي وذلك في قوله: أن  " أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة " . وقوله:  " فهذا أول خارجي خرج في الإسلام وآفته أنه رضي برأي نفسه ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه  .
ومنهم ابن حزم  ، وهو رأي الشهرستاني أيضاً حيث يقول: وهم الذين أولهم ذو الخويصرة وآخرهم ذو الثدية  ، واعتبر اعتراض ذي الخويصرة خروجا صريحا؛ إذ إن الاعتراض على الإمام الحق يسمى خروجاً فكيف بالاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ويقول بعد أن ذكر حديث ذي الخويصرة: وذلك خروج صريح على النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صار من اعترض على الإمام الحق خارجيا فمن اعترض على الرسول أحق بأن يكون خارجياً  .
وينقل الطالبي عن أبي بكر محمد بن الحسن الآجري أنه يرى أن أول الخوارج كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنهم بعد ذلك خرجوا من بلدان شتى واجتمعوا وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى قدموا المدينة فقتلوا عثمان، ثم خرجوا بعد ذلك على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  .
القول الثاني:
وهو للقاضي علي بن علي بن أبي العز الحنفي شارح (الطحاوية)، الذي يرى أن نشأة الخوارج بدأت بالخروج على عثمان رضي الله عنه في تلك الفتنة التي انتهت بقتله وتسمى الفتنة الأولى – يقول:  فالخوارج والشيعة حدثوا في الفتنة الأولى .
ويسمي ابن كثير الذين ثاروا على عثمان وقتلوه خوارج فيقول: وجاء الخوارج فأخذوا مال بيت المال وكان فيه شيء كثير جدا  .
القول الثالث:
وهو للورجلاني حيث يعتبر أن نشأة الخوارج بدأت منذ أن فارق طلحة والزبير علياً رضي الله عنه وخرجا عليه بعد مبايعتهما له، ثم يقول: وشرعا دين الخوارج دينا؛ فلهما أجور الخوارج وأوزارهما  .
القول الرابع:
أن نشأة الخوارج بدأت سنة 64هـ بقيادة نافع بن الأزرق في أواخر ولاية ابن زياد وهذا الرأي لعلي يحيى معمر الإباضي  . وهو في هذا الرأي يتابع قطب الأئمة أبي إسحاق أطفيش الإمام الإباضي الذي يرى أن ما حدث بين الإمام علي وبين الطائفة التي انفصلت عن جيشه والتي سميت فيما بعد بالمحكمة إنما هو نوع من أنواع الفتن الداخلية التي وقعت بين المسلمين في ذلك العصر؛ حيث اعتبرت تلك الطائفة أن علياً رضي الله عنه قد زالت عنه الإمامة الشرعية حينما قبل التحكيم، ولهذا فقد ولوا عبد الله بن وهب الراسبي في زهده وتقواه ودعى هذا بدوره عليا للدخول في طاعته بعد أن اختاره من معه من الصحابة وغيرهم  – كما يدعي الخوارج.
فلم يكن ما حدث بين علي ومن معه في نظر أصحاب هذا الرأي إلا فتنة انتهت على نحو ما انتهت عليه وليس خروجا على الإمام، كما هو المعنى الحقيقي للخروج الذي يرون أنه لم يبتدئ إلا بخروج نافع بن الأزرق. أما ما كان قبل ذلك من حركات ثورية على علي رضي الله عنه والأمويين من بعده فهي مجرد ثورات ومواقع حربية دارت بين الفريقين وليست خروجا بالمعنى الصحيح. يقول في هذا أبو إسحاق أطفيش:
 " الخوارج طوائف من الناس في زمن التابعين وتابع التابعين رؤوسهم: نافع بن الأزرق، ونجدة بن عامر، ومحمد بن الصفار، ومن شايعهم، وسموا خوارج لأنهم خرجوا عن الحق وعن الأمة بالحكم على مرتكب الذنب بالشرك "  .
 ويقول علي يحيى معمر:  " سبق إلى أذهان أكثر الناس – بسبب خطأ المؤرخين في ربط الأحداث – أن المحكمة الذين قتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في وقعة النهروان هم أصل الخوارج وهو مفهوم خاطئ؛ فإن المحكمة قد قتلوا في النهر ولم ينج منهم إلا تسعة أفراد، ثم ثار على الحكم الأموي طوائف كثيرة من الناس جماعات وأفرادا، حتى ظهر الخوارج  في أواخر ولاية ابن زياد سنة  64 هـ, بقيادة نافع بن الأزرق، فمعركة النهروان هي فتنة بين الصحابة وقعت بين الإمام علي بن أبي طالب والمحكمة  . ومما يجدر بالذكر أنه قد استبعد أن يكون الناجون من حرب النهروان تسعة فقط كما يأتي ذلك فيما بعد. وهنا أثبت ذلك العدد تأكيدا لرأيه في بدء نشأة الخوارج .
القول الخامس:
أن نشأتهم بدأت بانفصالهم عن جيش الإمام علي رضي الله عنه وخروجهم عليه، وهذا الرأي هو الذي عليه الكثرة الغالبة من العلماء إذ يعرفون الخوارج بأنهم هم الذين خرجوا على علي بعد التحكيم ، ومن هؤلاء الأشعري فقد أرخ للخوارج، وأقدم من أرخ لهم منهم هم الخارجون على الإمام علي وقال عنهم:  " والسبب الذي سموا له خوارج خروجهم على علي بن أبي طالب  .
وقد تابعه  في صنيعه البغدادي؛ حيث بدأ التاريخ للخوارج بذكر الخارجين على علي رضي الله عنه  . وكذلك يرى أبو الحسين الملطي أن الفرقة الأولى للخوارج هي المحكّمة  .
وقد سار على هذا الرأي أصحاب المعاجم ودوائر المعارف ( في مادة الخروج) والكتاب المحدثون الذين كتبوا عن الفرق الإسلامية كالأستاذ أحمد أمين والشيخ أبو زهرة والغرابي رحمهم الله وغيرهم، والمؤرخون في تأريخهم لأحداث الفتنة الكبرى.
يقول الأستاذ أحمد أمين: واسم الخوارج جاء من أنهم خرجوا على علي وصحبه  .
ويقول الشيخ أبو زهرة: اقترن ظهور هذه الفرقة (أي الخوارج) بظهور الشيعة، فقد ظهر كلاهما كفرقة في عهد علي رضي الله عنه وقد كانوا من أنصاره  . وصاحب كتاب (الأديان) وهو إباضي يعتبر خروج الخوارج إنما كان على علي حينما حكم  .
وقد أصبح إطلاق اسم الخوارج  على الخارجين عن الإمام علي أمرا مشتهرا بحيث لا يكاد ينصرف إلى غيرهم بمجرد ذكره.
هذه هي الأقوال في بدء نشأة الخوارج، وعلينا في اختيار ما نراه صحيحا منها أن نفرق بين بدء نزعة الخروج على صورة ما، وظهور الخوارج كفرقة لها آراؤها الخاصة، ولها تجمعها الذي تحافظ عليه وتعمل به على نصرة هذه الآراء.
والواقع أن نزعة الخروج – أو بتعبير أدق بدء نزعة الخروج – قد بدأت بذرتها الأولى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتراض ذي الخويصرة عليه. لكن هل كان خروجا حقيقيا أم كان مجرد حادثة فردية اعترض فيها واحد من المسلمين على طريقة تقسيم الفيء طمعا في أن يأخذ منه نصيبا أكبر؟ وهو الأمر الذي سنرجحه  فيما بعد.
أما تعبير النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي الخويصرة بأن له أصحابا فقد يجوز:
أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد توقع وجود أصحاب يؤيدون هذا الرجل حيث استطاع الاعتراض على صاحب الدعوة، فامتنع عن قتله تألفا له ولهم.
ويجوز أيضا أن يكون ذلك القول كان توقعاً من النبي عليه السلام وإخبارا عما سيكون من عاقبة هذا الرجل وأمثاله؛ إذ إن الاعتراض على شخصيته صلى الله عليه وسلم يجعل من المتوقع أن يوجد الاعتراض على الخلفاء من بعده والخروج عليهم من باب أولى.
ويجوز أن يكون قصد النبي صلى الله عليه وسلم بالأصحاب لهذا الرجل هم من يكونون على شاكلته في مستقبل الأيام بحيث يكونون متابعين له على فكرته، وإن لم يتزعم قيادتهم في هذا الخروج على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الخلفاء.
لقد مضى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يكن لذي الخويصرة ذكر في هذه العهود بعد تلك الحادثة لا بنفسه ولا مع من يمكن أن يكونوا على شاكلته. ولم يذكر التاريخ -  فيما اطلعت عليه – أنه كان كذلك من الثائرين على عثمان رضي الله عنه أو أنه كان له أبناء أو أصحاب ينتسبون إليه في تلك الثورة مع أن الفارق الزمني بين ورود  الحديث فيه وبين أحداث الفتنة الكبرى يسمح بمثل هذا لو كان.
كل هذا يجعل من هذه الحادثة التي ارتكبها ذو الخويصرة حادثة فردية في وقتها؛ حيث لم يشتهر بالخروج ولم تعرف له آراء خاصة يتميز بها ولم يكون له حزبا سياسيا معارضا وإن لم يمنع هذا من اعتباره الفيء لمجرد نزعة الخروج في صورة ساذجة، إذا صح أن يكون الاعتراض على تقسيم الفيء خروجا.
وأما القول بأن نشأتهم تبدأ بثورة الثائرين على عثمان رضي الله عنه، فلا شك أن ما حدث كان خروجا عن طاعة الإمام إلا أنه لم يكن يتميز بأنه خروج فرقة ذات طابع عقائدي خاص لها آراء وأحكام في الدين، غاية ما هنالك أن قوما غضبوا على عثمان واستحوذ عليهم الشيطان حتى أدى بهم إلى ارتكاب جريمة قتله ثم دخلوا بين صفوف المسلمين كأفراد منهم.
وفيما يتعلق بالقول بأن طلحة والزبير رضي الله عنهما كانا أول الخارجين على علي – كما يقول الورجلاني – فمن الصعب عليه إثبات ذلك. فقد كان معهما أم المؤمنين عائشة ومن معهم من المسلمين، و على كل فقد انتهت موقعة الجمل واندمج من بقي منهم في صفوف المسلمين دون أن تجمعهم رابطة فكرية معينة كتلك التي حدثت بين الخوارج على علي في جيشه فيما بعد، وكان خروجهم باسم المطالبة بدم عثمان رضي الله عنه فإذا كان قد بدئ الخروج على علي بخروج أصحاب موقعة الجمل فإنه لا ينطبق عليهم مصطلح الخوارج كطائفة لها اتجاهها السياسي وآراؤها الدينية الخاصة، وطلحة والزبير من العشرة الذين بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، فكيف يجوز أن يعتبرا من الخوارج ويطبق عليهما أحاديث المروق الواردة في الخوارج؟!
أما القول بأن نشأتهم تبدأ من قيام نافع بن الأزرق فإنه لم يقل به غير علي يحيى معمر تبعا لقطب الأئمة الإباضية أبي إسحاق أطفيش لنفيهم وجود صلة ما بين المحكمة ومن ثار على طريقتهم وبين الأزارقة بعدهم، وهو قول غير مقبول لوجود تسلسل الأحداث وارتباطها من المحكمة إلى ظهور نافع بن الأزرق بحيث يظهر أن الأولين هم سلف الخوارج جميعا، كما سنبين هذا عند الكلام عن حركات الخوارج وفرقهم.
وهكذا يتضح الفرق بين مجرد وجود نزعة الاعتراض أو الثورة خروجا عن طاعة الإمام، وبين الخروج في شكل طائفة لها اتجاهها السياسي وآراؤها الخاصة؛ كخروج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه منذ وقعة صفين، وهم الذين ينطبق عليهم مصطلح الخوارج بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وهذا هو القول الأخير الذي نختاره ونسير عليه في هذه الرسالة مؤرخين لهذه الطائفة دارسين لآرائهم.
والواقع أن هذا هو ما يشهد له واقع تلك الحركة التي أحدثت دويا هائلا في تاريخ هذه الأمة الإسلامية عدة قرون تميزت فيها بآراء ومعتقدات وأنظمة لفتت إليها أنظار علماء التاريخ والفرق الإسلامية، بخلاف ما سبقها من حركات فإنها لم يكن لها أثر فكري أو عقائدي يذكر.
بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"