بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 5 أبريل 2010

نبذ من "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" لابن القيم/5

فصل
المثال الثانى والعشرون قوم سكنوا مدينة مدة من الزمان فكثرت فيها الأحداث والآفات وطرقها المحن وأغارت عليها عساكر الجور والفساد فبنى ملكهم مدينة فى محل لا يطرقه آفة ولاعاهة وعزم على تخريب المدينة الأولى فأرسل الى سكانها فنودى فيهم بالرحيل بعد ثلاث ولا يتخلف منهم أحد وأمرهم أن ينقلوا إلى مدينة الملك الثانية خير ما فى تلك المدينة وأنفعه وأجله من الجواهر واللآلى والذهب والفضة وما خف حمله من المتاع وعظم قدره وصلح للملوك وأرسل اليهم الأدلاء وآلات النقل ونهج لهم الطريق ونصب لهم الاعلام وتابع الرسل يستحثونهم بعضهم فى اثر بعض فانقسموا فرقا فالاقلون علموا قصر مدة مقامهم فى تلك المدينة وتيقنوا أنهم ان لم يبادروا بتحصيل خير ما فيها وحمله الى مدينة الملك والا فانهم ذلك فلم يقدروا عليه فرأوا غبنا أن يقطعوا تلك المدة فى جمع المفضول والاشتغال به عن الفاضل فسألوا عن خير مافى المدينة وأنفسه وأحبه الى الملك وأنفعه فى مدينته فلما عرفوه لم يلتفوا الى مادونه ورأوا أن أحدهم اذا وافى بجوهرة عظيمة كانت أحب الى الملك من أن يوافيه بأحمال كثيرة من الفلوس والحديد ونحوها فكان همهم فى تحصيل ما هو أحب الى الملك وأنفس عنده ولو قل فى رأى العين وأقبلت فرقة أخرى على تعبئة الاحمال المحملة وتنافسوا فى كثرتها وهم على مراتب فمنهم من أحماله أثمان ومنهم من أحماله دون ذلك على قدر هممهم وما يليق بهم لكن هممهم مصروفة الى تعبئة الاحمال والانتقال من المدينة وأقبلت فرقة أخرى على عمارة القصور فى تلك المدينة والاشتغال بطيباتها ولذاتها ونزهها وحاربوا العازمين على النقلة وقالوا لا ندعكم تأخذون من متاعنا شيئا فإن شاركتمونا فى عمارة المدينة واستيطانها وعيشنا فيها والا لم

نمكنكم من النقلة ولا من شيء من المتاع فوقعت الحرب بينهم فقاتلوا السائرين فعمدوا الى أكل أموالهم وأهليهم وما نقموا منهم الا بسيرهم الى دار الملك واجابة داعيه والرغبة عن تلك الدار متى أمرهم بتركها وأقبلت فرقة أخرى على التنزه والبطالة والراحة والدعة وقالوا لا نتعب أنفسنا فى عمارتها ولا ننقل منها ولا نعارض من أراد النقلة ولا نحاربهم ولا نعاونهم وكان للملك فيها قصر فيه حريم له وقد أحاط عليه سورا وأقام عليه حرسا ومنع أهل المدينة من قربانه وطاف به القاعدون فلم يجدوا فيه بابا يدخلون منه فغدوا على جدرانه فنقبوها ووصلوا الى حريمه فأفسدوهم ونالوا منهم ما أسخط الملك وأغضبه وشق عليه ولم يقتصروا على ذلك حتى دعوا غيرهم الى افساد حريمه والنيل منهم فبينما هم على تلك الحال واذا بالنفير قد صاح فيهم كله فلم يمكن أحد منهم من التخلف فحملوا على تلك الحال وأحضروا بين يدى الملك فاستعرضهم واحدا واحدا وعرضت بضائعهم وما قدموا به من تلك المدينة عليه فقبل منها ما يصلح له وأعاض أربابه أضعاف أضعاف قيمته وأنزلهم منازلهم من قربه ورد منها مالا يصلح له وضرب به وجوه أصحابه وقابل من نقب حماه وأفسد حريمه بما يقابل به المفسدون فسألوا الرجعة الى المدينة ليعمروا قصره ويحفظوا حريمه ويقدموا عليه من البضائع بمثل ما قدم به التجار فقال هيهات قد خربت المدينة خرابا لا تعمر بعده أبدا وليس بعدها الا المدينة التى لا تخرب أبدا فصل
وقد مثلت الدنيا بمنام والعيش فيها بالحلم والموت باليقظة ومثلت بمزرعة والعمل فيها بالبذر والحصاد يوم المعاد ومثلت بدار لها بابان باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه ومثلت بحية ناعمة الملمس حسنة اللون وضربتها الموت ومثلث بطعام مسموم لذيذ الطعم طيب الرائحة من تناول منه بقدر حاجته كان فيه شفاؤه ومن زاد على حاجته كان فيه حتفه ومثلت بالطعام فى المعدة اذا أخذت الاعضاء منه حاجتها فحبسه قاتل أو مؤذ ولا راحة لصاحبه الا فى خروجه كما أشار اليه النبى فى آكلة الخضر وقد تقدم ومثلت بامرأة من أقبح النساء قد انتقبت على

عينين فتنت بهما الناس وهى تدعو الناس إلى منزلها فإذا أجابوها كشفت لهم عن منظرها وذبحتهم بسكاكينها وألقتهم فى الحفر وقد سلطت على عشاقها تفعل بهم ذلك قديما وحديثا
والعجب أن عشاقها يرون إخوانهم صرعى قد حلت بهم الآفات وهم ينافسون فى مصارعهم وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ويكفى فى تمثيلها ما مئلها الله سبحانه فى كتابه فهو المثل المنطبق عليها
قالوا وإذا كان هذا شأنها فالتقلل منها والزهد فيها خير من الاستكثار منها والرغبة فيها قالوا ومن الملعوم أنه لا تجتمع الرغبة فيها مع الرغبة فى الله والدار الآخرة أبدا ولا تسكن هاتان الرغبتان فى مكان واحد إلا وطردت إحداهما الأخرى واستبدت بالمسكن ولا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا قالوا ويكفى أن رسول الله عرضت عليه مفاتيح كنوزها ولو أخذها لكان أشكر خلق الله بها ولم تنقصه مما له عند الله شيئا فاختار جوع يوم وشبع يوم ومات ودرعه مرهونة على طعام لأهله كما تقدم ذكره
قالوا وقد انقسم الناس بعد رسول الله اربعة أقسام قسم لم يريدو الدنيا ولم تردهم كالصديق ومن سلك سبيله وقسم أرادتهم الدنيا ولم يريدوها كعمر بن الخطاب ومن سلك سبيله وقسم ارادوا الدنيا وأرادتهم كخلفاء بنى أمية ومن سلك سبيلهم حاشا عمر بن عبد العزيز فإنها ارادته ولم يردها وقسم أرادوها ولم تردهم كمن أفقر الله منها يده وأسكنها فى قلبه وامتحنه بجمعها ولا يخفى أن خير الاقسام القسم الاول والثانى انما فضل لأنه لم يردها فالتحق بالاول
قالوا وقد سأل رجل رسول الله أن يدله على عمل اذا فعله أحبه الله وأحبه الناس فقال له ازهد فى الدنيا بحبك الله وازهد فيما فى أيدى الناس يحبك الناس فلو كان الغنى أفضل لدله عليه قالوا وقد شرع الله سبحانه قتال الكفار وشرع الكف عن الرهبان لاعتزالهم عن الدنيا وزهدهم فيها فمضت السنة بأن لا يقاتلوا ولا يضرب عليهم جزية هذا وهم أعداؤه وأعداء رسله ودينه فعلم أن الزهد

فيها عند الله بمكان قالوا وكذلك استقرت حكمته في شرعه على أن عقوبة الواجد أعظم من عقوبة الفاقد فهذا الزانى المحصن عقوبته الرجم وعقوبة من لم يحصن الجلد والتغريب وهكذا يكون ثواب الفاقد أعظم من ثواب الواجد
قالوا وكيف يستوى عند الله سبحانه ذلة الفقر وكسرته وخضوعه وتجرع مرارته وتحمل أعبائه ومشاقه وعزة الغنى ولذته وصولته والتمتع بلذاته ومباشرة حلاوته فبعين الله ما يتحمل الفقراء من مرارة فقرهم وصبرهم ورضاهم به عن الله ربهم تبارك وتعالى وأين أجر مشقة المجاهدين إلى أجر عبادة القاعدين فى الامن والدعة والراحة
قالوا وكيف يستوى أمران أحدهما حفت به الجنة والثانى حفت به النار فإن أصل الشهوات من قبل المال وأصل المكاره من قبل الفقر قالوا والفقير لا ينفك في خصاصة من مضض الفقر والجوع والعرى والحاجه وآلام الفقر وكل واحد منها يكفر ما يقاومه من السيئات وذلك زيادة على أجره بأعمال البر فقد شارك الاغنياء بأعمال البر وامتاز عنهم بما يكفر سيئاته وما امتازوا به عليه من الانفاق والصدقة والنفع المتعدي فله سبيل الى لحاقهم فيه وله مثل أجورهم وهو أن يعلم الله من نيته أنه لو أوتى مثل ما أوتوه لفعل كما يفعلون فيقول لو أن لى مالا لعملت بأعمالهم فهو بنيته وأجرهما سواء كما أخبر به الصادق المصدوق فى الحديث الصحيح الذى رواه الامام أحمد والترمذى من حديث أبى كبشه الانمارى قالوا والفقير فى الدنيا بمنزلة المسجون اذ هو ممنوع عن الوصول الى شهواته وملاذها والغنى منخلص من هذا السجن وقد قال النبى الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فالغنى ان لم يسجن نفسه عن دواعى الغنى وطغيانه وأرسلها فى ميادين شهواتها كانت الدنيا جنة له فانما نال الفضل بتشبهه بالفقير الذى هو فى سجن فقره
قالوا وقد ذم الله ورسوله من عجلت له طيباته فى الحياة الدنيا وانه لحرى أن يكون عوضا عن طيبات الآخرة أو منقصة لها ولا بد كما تقدم بيانه بخلاف من استكمل طيباته فى الآخرة لما منع منها فى الدنيا وأتى رسول الله بسويق لوز فأبى أن يشربه وقال هذا شراب المترفين

قالوا وقد سئل الحسن البصرى فقيل له رجلان أحدهما تارك للدنيا والآخر يكتسبها ويتصدق بها فقال التارك لها أحب الى قالوا وقد سئل المسيح قبله عن هذه المسألة عن رجلين مر أحدهما بلبنة ذهب فتخطاها ولم يلتفت اليها ومر بها الآخر فأخذها وتصدق بها فقال الذى لم يلتفت اليها أفضل ويدل على هذا أن رسول الله مر بها ولم يلتفت اليها ولو أخذها لأنفقها فى سبيل الله
قالوا والفقير الفقيه فى فقره يمكنه لحاق الغنى فى جميع ما ناله بغناه بنيته وقوله فيساويه فى أجره ويتميز عنه بعدم الحساب بعدم المال فساواه

بثوابه ويخلص من حسابه كما تميز عنه بسبقه إلى الجنة بخمسمائة عام وتميز عنه بثواب صبره على ألم الفقر وخصاصته
قال الإمام أحمد حدثنا عبادة بن مسلم حدثنى يونس بن خباب عن أبى البحترى الطائى عن أبى كبشة قال سمعت رسول الله يقول ثلاث أقسم عليهن واحدثكم حديثا فاحفظوه فأما الثلاث التى أقسم عليهن فإنه ما نقص مال عبد من صدقة ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزوجل بها عزا ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر وأما الذى أحدثكم حديثا فاحفظوه فإنه قال إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقى فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم فيه لله حقا فهذا بأفضل المنازل عند الله وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو يقول لو كان لى مال عملت فيه بعمل فلان قال فأجرهما سواء وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يتخبط فى ماله بغير علم لا يتقى فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم الله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل عند الله وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول لو كان لى مال لفعلت بفعل فلان قال فهو بنيته ووزرهما سواء فلما فضل الغنى بفعله ألحق الفقير الصادق بنيته والغنى هناك انما نقص بتخلفه عن العمل والفقير انما نقص بسوء نيته فلم ينفع الغنى غناه مع التخلف ولا ضر الفقير فقره مع حسن النية ولا نفعه فقره مع سوء نيته
قالوا ففى هذا بيان كان شاف فى المسألة حاكم بين الفريقين وبالله التوفيق

الباب الرابع والعشرون فى ذكر ما احتجت به الأغنياء من الكتاب والسنة
والآثار والاعتبار
قالت الأغنياء لقد أجلبتم علينا أيها الفقراء بخيل الأدلة ورجلها ونحن نعلم أن عندكم مثلها وأكثر من مثلها ولكن توسطتم بين التطويل والاختصار وظننتم أنها حكمت لكم بالفضل دون ذوى اليسار ونحن نحاكمكم الى ما حاكمتمونا اليه ونعرض بضاعتنا على من عرضتم بضاعتكم عليه ونضع أدلتنا وأدلتكم فى ميزان الشرع والعقل الذى لا يعزل فحيئذ يتبين لنا ولكم الفاضل من المفضول ولكن اخرجوا من بيننا من تشبه بالفقراء الصادقين الصابرين ولبس لباسهم على قلب أحرص الناس على الدنيا وأشحهم عليها وأبعدهم من الفقر والصبر من كل مظهر للفقر مبطن للحرص غافل عن ربه متبع لهواه مفرط فى أمر معاده قد جعل زى الفقر صناعة وتحلى بما هو أبعد الناس منه بضاعة أو فقير حاجة فقره اضطرارا لا اختيارا فزهده زهد افلاس لا زهد رغبة فى الله والدار الآخرة أو فقير يشكو ربه بلسان قاله وحاله غير راض عن ربه فى فقره بل ان أعطى رضى وان منع سخط شديد اللهف على الدنيا والحسرة عليها وهو أفقر الناس فيها فهو أرغب شئ فيها وهى أزهد شيء فيه وأخرجوا من بيننا ذى الثروة الجموع المنوع المتكاثر بماله المستأثر به الذى عض عليه بناجذه وثنى عليه خناصره يفرح بزيادته ويأسى على نقصانه فقلبه به مشغوف وهو على تحصيله ملهوف ان عرض سوق الانفاق والبذل أعطى قليلا وأكدى وان دعى الى الايثار أمعن فى الهرب جدا وأخلصونا واخواننا من سباق الطائفتين وسادات الفريقين الذين تسابقوا الى الله والدار الآخرة بإيمانهم وأحوالهم ونافسوا فى القرب منه بأعمالهم وأموالهم فقلوبهم عاكفة عليه وهمتهم الى المسابقة اليه ينظر غنيهم الى فقيرهم فإذا رآه قد سبقه الى عمل صالح شمر الى اللحاق به وينظر فقيرهم الى غنيهم فإذا رآه قد فاته بإنفاق فى طاعة الله أنفق هو من أعماله وأقواله وصبره وزهده نظير ذلك أو أكثر منه فهؤلاء اخواننا الذين تكلم

الناس فى التفضيل بينهم وأيهم أعلى درجة وأما أولئك فإنما ينظر أيهم تحت الآخر فى العذاب وأسفل منه والله المستعان
اذا عرف هذا فقد مدح الله سبحانه فى كتابه أعمالا وأثنى على أصحابها ولا تحصل الا بالغنى كالزكاة والانفاق فى وجوه البر والجهاد فى سبيل الله بالمال وتجهيز الغزاة واعانة المحاويج وفك الرقاب والاطعام فى زمن المسغبة وأين يقع صبر الفقير من فرحة الملهوف المضطر المشرف على الهلاك اذا أعانه الغنى ونصره على فقره ومخمصته وأين يقع صبره من نفع الغنى بماله فى نصرة دين الله واعلاء كلمته وكسر أعدائه وأين يقع صبر أبى ذر على فقره إلى شكر الصديق به وشرائه المعذبين فى الله وإعتاقهم وإنفاقه على نصرة الاسلام حين قال النبى ما نفعنى مال احد ما نفعنى مال أبى بكر وأين يقع صبر أهل الصفة من إنفاق عثمان بن عفان تلك النفقات العظيمة التى قال له رسول الله فى بعضها ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم ثم قال غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما أبديت أو كما قال
واذا تأملتم القرآن وجدتم الثناء فيه على المنفقين أضعاف الثناء على الفقراء الصابرين وقد شهد رسول الله بأن اليد العليا خير من اليد السفلى وفسر اليد العليا بالمعطية والسفلى بالمسائلة وقد عدد الله سبحانه على رسوله من نعمه أن أغناه بعد فقره وكان غناه هو الحالة التى نقله اليها وفقره الحالة التى نقله منها وهو سبحانه كان ينقله من الشئ الى ما هو خير منه وقد قيل فى قوله تعالى وللآخرة خير لك من الاولى ان المراد به الحالتان أى كل حالة خير لك مما قبلها ولهذا أعقبه بقوله ولسوف يعطيك ربك فترضى فهذا يدخل فيه عطاؤه فى الدنيا والأخرة
قالوا والغنى مع الشكر زيادة فضل ورحمة والله يخص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم قالوا والاغنياء الشاكرون سبب لطاعة الفقراء الصابرين لتقويتهم اياهم بالصدقة عليهم والاحسان عليهم واعانتهم على طاعتهم فلهم نصيب وافر من أجور الفقراء زيادة الى نصيبهم من أجر الانفاق وطاعاتهم التى تخصهم كما فى صحيح

ابن خزيمة من رواية سلمان الفارسى رضى الله عنه عن النبى وذكر شهر رمضان فقال من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شئ فقد جاز الغنى الشاكر أجر صيامه ومثل أجر الفقير الذى فطره قالوا ولو لم يكن للغنى الشاكر الا فضل الصدقة التى لما تفاخرت الاعمال كان الفخر لها عليهن كما ذكر النظر بن شميل عن قرة عن سعيد بن المسيب أنه حدث عن عمر بن الخطاب قال ذكر أن الاعمال الصالحة تتباهى فتقول الصدقة أنا أفضلكم قالوا والصدقة وقاية بين العبد وبين النار والمخلص المسر بها مستظل بها يوم القيامة فى ظل العرش
وقد روى عمرو بن الحارث ويزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير عن عقبة بن عامر رضى الله عنه عن رسول الله قال ان الصدقه لتطفى على أهلها حر القبور وانما يستظل المؤمن يوم القيامه فى ظل صدقته
وقال يزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير عن عقبة يرفعه كل امرئ فى ظل صدقته حتى يقضى بين الناس قال يزيد وكان أبو الخير لا يأتى عليه يوم الا تصدق فيه ولو بكعكة أو بصلة وفى حديث معاذ عن النبى والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار
وروى البيهقى من حديث ابى يوسف القاضى عن المختار بن فلفل عن أنس يرفعه باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يخطى الصدقه وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة عن النبى قال اذا تصدق العبد من كسب طيب ولا يقبل الله الا طيبا أخذها الله بيمينه فيربيها لأحدهم كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل العظيم وفى لفظ البيهقى فى هذا الحديث حتى ان التمرة أو اللقمة لتكون أعظم من أحد وقال محمد بن المنكدر من موجبات المغفرة اطعام المسلم السغبان وقد روى مرفوعا من غير وجه
واذا كان الله سبحانه قد غفر لمن سقى كلبا على شدة ظمأه فكيف بمن سقى العطاش وأشبع الجياع وكسى العراة من المسلمين وقد قال رسول الله اتقوا النار ولو بشق تمرة قال فان لم تجدوا فبكلمة طيبة فجعل الكلم الطيب عوضا عن

الصدقة لمن لا يقدر عليها قالوا واين لذة الصدقة والاحسان وتفريحهما القلب وتقويتهما إياه وما يلقى الله سبحانه للمتصدقين من المحبة والتعظيم فى قلوب عباده والدعاء لهم والثناء عليهم وادخال المسرات عليهم من أجر الصبر على الفقر نعم ان له لأجرا عظيما لكن الاجر درجات عند الله
قالوا وأيضا فالصدقه والاحسان والاعطاء وصف الرب تعالى وأحب عباده اليه من اتصف بذلك كما قال النبى الخلق عيال الله فأحب الخلق اليه انفعهم لعياله قالوا وقد ذكر الله سبحانه اصناف السعداء فبدأ بالمتصدقين أولهم فقال تعالى ان المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم فهؤلاء أصناف السعداء ومقدموهم المصدقين والمصدقات
قالوا وفى الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها الا الله فمنها انها تقى مصارع السوء وتدفع البلاء حتى انها لتدفع عن الظالم قال ابراهيم النخعى وكانوا يرون أن الصدقة تدفع عن الرجل المظلوم وتطفئ الخطيئة وتحفظ المال وتجلب الرزق وتفرح القلب وتوجب الثقة بالله وحسن الظن به كما أن البخل سوء الظن بالله وترغم الشيطان يعنى الصدقة وتزكى النفس وتنميها وتحبب العبد الى الله والى خلقه وتستر عليه كل عيب كما أن البخل يغطى عليه كل حسنة وتزيد فى العمر وتستجلب أدعية الناس ومحبتهم وتدفع عن صاحبها عذاب القبر وتكون عليه ظلا يوم القيامة وتشفع له عند الله وتهون عليه شدائد الدنيا والآخرة وتدعوه الى سائر أعمال البر فلا تستعصى عليه وفوائدها ومنافعها أضعاف ذلك
قالوا ولو لم يكن فى النفع والاحسان الا أنه صفة الله وهو سبحانه يحب من اتصف بموجب صفاته وآثارها فيحب العليم والجواد والحيي والستير والمؤمن القوى أحب اليه من المؤمن الضعيف ويحب العدل والعفو والرحيم والشكور والبر والكريم فصفته الغنى والجود ويحب الغنى الجواد قالوا ويكفى فى فضل النفع المتعدى بالمال أن الجزاء عليه من جنس العمل فمن كسى مؤمنا كساه الله من حلل الجنة ومن أشبع جائعا أشبعه الله من ثمار الجنة ومن سقى ظمآنا سقاه الله من شراب الجنة ومن أعتق

رقبة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار حتى فرجه بفرجه ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه قالوا ونحن لا ننكر فضيلة الصبر على الفقر ولكن أين تقع من هذه الفضائل وقد جعل الله لكل شئ قدرا
قالوا وقد جعل رسول الله الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ومعلوم أنه اذا تعدى شكره الى الإحسان الى الغير ازداد أخرى فان الشكر يتضاعف الى ما لا نهاية له بخلاف الصبر فان له حدا يقف عليه
وهذا دليل مستقل فى المسألة يوضحه أن الشاكر أفضل من الراضى الذى هو أعلى من الصابر فاذا كان الشاكر أفضل من الراضى الذى هو أفضل من الصابر كان أفضل من الصابر فى درجتين
قالوا وفى الصحيحين من حديث الزهرى عن سالم عن ابيه قال قال رسول الله لا حسد الا فى اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل والنهار فجعل الغنى مع الانفاق بمنزلة القرآن مع القيام به قالوا وقد صرح فى حديث أبى كبشه الأنمارى أن صاحب المال إذا عمل فى ماله بعلمه واتقى فيه ربه ووصل به رحمه وأخرج منه حق الله فهو فى أعلى المنازل عند الله وهذا تصريح فى تفضيله وجعل الفقير الصادق اذا نوى أن يعمل بعمله وقال ذلك بلسانه ثانيا وانه بنيته وقوله وأجرهما سواء فإن كلا منهما نوى خيرا وعمل ما يقدر عليه فالغنى نواه ونفذه بعلمه والفقير العالم نواه ونفذه بلسانه فاستويا فى الاجر من هذه الجهة ولا يلزم من استوائهما فى أصل الاجر استواؤهما فى كيفيته وتفاصيله فإن الأجر على العمل والنيه له مزية على الاجر على مجرد النيه التى قارنها القول ومن نوى الحج ولم يكن له مال يحج به وان أثيب على ذلك فإن ثواب من باشر أعمال الحج مع النيه له مزية عليه
واذا اردت فهم هذا فتأمل قول النبى من سأل الله الشهادة صادقا من قلبه بلغه الله منازل الشهداء وان مات على فراشه ولا ريب أن ما حصل للمقتول فى سبيل

الله من ثواب الشهادة تزيد كيفيته وصفاته على ما حصل لناوى ذلك اذا مات على فراشه وان بلغ منزلة الشهيد فها هنا أجران أجر وقرب فان استويا فى اصل الاجر لكن الاعمال التى قام بها العامل تقتضى أثرا زائدا وقربا خاصا وهو فضل الله يؤتيه من يشاء وقد قال اذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار قالوا هذا القاتل فما بال المقتول قال انه أراد قتل صاحبه فاستويا فى دخول النار ولا يلزم استواؤهما فى الدرجة ومقدار العذاب فاعط الفاظ رسول الله حقها ونزلها منازلها يتبين لك المراد
يوضح هذا أن فقراء المهاجرين شكوا الى رسول الله وقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالاجور يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم ولهم فضول أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون قال أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحدا أفضل منكم الا من صنع مثل ما صنعتم قالوا بلى يا رسول الله قال تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين فرجع فقراء المهاجرين الى رسول الله فقالوا سمع اخواننا أهل الاموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فلو كانوا يلحقون بهم فى مقدار الاجر بمجرد النية لقال لهم أنووا أن تفعلوا مثل فعلهم فتنالوا مثل أجرهم فلما أعاضهم عما فاتهم من ثواب الصدقه والعتق والحج والاعتمار بما يحصل نظيره بالذكر علم أن الاغنياء قد فضلوهم بالانفاق فلما شاركوهم فى الذكر بقيت مزية الانفاق فشكوا الى رسول الله أن الامتياز لم يزل وانهم قد ساوونا فى الذكر كما ساوونا فى الصوم والصلاة فأخبرهم أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فلو كان لهم سبيل الى مساواتهم من كل وجه بالنيه والقول لدلهم عليها
قالت الفقراء هذا الحديث حجة لنا اذا فهم على الحقيقه وذلك أن معناه انهم وان كانوا قد ساووكم فى الايمان والاسلام والصلاة والصيام ثم فضلوكم فى الانفاق ففى التكبير والتسبيح والتهليل ما يلحقكم بدرجتهم وقد ساويتموهم أيضا بحسن النية إذ لو أمكنكم لأنفقتم مثلهم وفى بعض ألفاظ هذا الحديث ان أخذتم به سبقتم من قبلكم ولم يلحقكم من بعدكم وهذا يدل على أن الاغنياء لا يلحقونهم

وان قالوا مثل قولهم وقوله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء معناه ان فضل الله ليس مقصورا عليكم دونهم فكما آتاكم الله من فضله بالذكر كذلك يؤتيهم اياه اذا عملوا مثلكم أيضا فأنتم فهمتم من الفضل التخصيص فوضعتموه فى غير موضعه وانما معناه العموم والشمول وان فضله عام شامل للأغنياء والفقراء فلا تذهبون به دونهم فأين فى هذا الحديث التفضيل لكم علينا
قالوا ويحتمل قوله ذلك فضل الله ثلاثة أمور أحدها سبقهم لكم بالانفاق والثانى مساواتكم لهم فى فضيلة الذكر فلم تختصوا به دونهم والثالث سبقكم لهم الى الجنة بنصف يوم وهذا وان كان لا ذكر له فى هذه الروايه فهو مذكور فى بعض طرقه قال البزار فى مسنده حدثنا الوليد بن عمر حدثنا محمد ابن الزبرقان حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال اشتكى فقراء المهاجرين الى رسول الله ما فضل به أغنياؤهم فقالوا يا رسول الله اخواننا صدقوا تصديقنا وآمنوا ايماننا وصاموا صيامنا ولهم أموال يتصدقون منها ويصلون منها الرحم وينفقونها فى سبيل الله ونحن مساكين لا نقدر على ذلك فقال ألا اخبركم بشئ اذا أنتم فعلتموه أدركتم مثل فضلهم قولوا الله اكبر فى كل صلاة احدى عشرة مرة والحمد لله مثل ذلك ولا اله الا الله مثل ذلك وسبحان الله مثل ذلك تدركون مثل فضلهم ففعلوا فذكروا ذلك للأغنياء ففعلوا مثل ما ذلك فرجع الفقراء الى رسول الله فذكروا ذلك له فقالوا هؤلاء اخواننا فعلموا مثل نقول فقال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء يا معشر الفقراء ألا أبشركم ان فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام وتلا موسى ابن عبيدة وان يوما عند ربك كألف سنه مما تعدون
قالوا فهذا خبر واحد وكلام متصل ذكره بشارة لهم عندما ذكروا مساواة الاغنياء لهم فى القول المذكور فأشبه أن يرجع الفضل الى سبق الفقراء للأغنياء وأنهم بهذه البشارة مخصصون فكان السبق لهم دون غيرهم وان ساووهم فى القول وساووهم فى الانفاق بالنيه كما فى حديث أبى كبشة المتقدم وحصلت لهم مزية الفقر
قالت الاغنياء لقد بالغتم فى صرف الحديث عن مقصوده الى جهتكم وهو صريح

فى تفضيل هذا الحديث لمن انصف فإن قوله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء خرج جوابا للفقراء عن قولهم إن أهل الدثور قد ساووهم فى الذكر كما ساووهم فى الصلاة والصوم والايمان وبقيت مزية الانفاق ولم يحصل لهم ما يلحقهم فيها وما علمتنا من الذكر قد لحقونا فيه فقال لهم حينئذ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وهذا صريح جدا فى مقصوده فلما انكسر القوم بتحقق السبق بالانفاق الذى عجزوا عنه أخبرهم بالبشارة بالسبق إلى دخول الجنة بنصف يوم وأن هذا السبق فى مقابلة ما فاتكم من فضيلة الغنى والانفاق ولكن لا يلزم من ذلك رفعتهم عليهم فى المنزلة والدرجة فهؤلاء السبعون ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب من الموقوفين للحساب من هو أفضل من أكثرهم وأعلى منه درجة
قالوا وقد سمى سبحانه المال خيرا فى غير موضع من كتابه كقوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرا الوصية وقوله انه لحب الخير لشديد وأخبر رسول الله أن الخير لا يأتى الا بالخير كما تقدم وانما يأتى بالشر معصية الله فى الخير لا نفسه
وأعلم الله سبحانه أنه جعل المال قواما للأنفس وأمر بحفظها ونهى أن يأتى السفهاء من النساء والأولاد وغيرهم ومدحه النبى بقوله نعم المال الصالح مع المرء الصالح وقال سعيد بن المسيب لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله يكف به وجهه عن الناس ويصل به رحمه ويعطى حقه
وقال أبو اسحاق السبيعى كانوا يرون السعة عونا على الدين وقال محمد ابن المنكدر نعم العون على التقى الغنى وقال سفيان الثورى المال فى زماننا هذا سلاح المؤمن وقال يوسف بن سباط ما كان المال فى زمان منذ خلقت الدنيا أنفع منه فى هذا الزمان والخير كالخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر
قالوا وقد جعل الله سبحانه المال سببا لحفظ البدن وحفظه سبب لحفظ النفس التى هى محل معرفة الله والايمان به وتصديق رسله ومحبته والانابة اليه فهو سبب عمارة الدنيا والآخرة وانما يذم منه ما استخرج من غير وجهه وصرف فى غير حقه واستعبد صاحبه وملك قلبه وشغله عن الله والدار الآخرة فيذم منه ما يتوسل

به صاحبه الى المقاصد الفاسدة أو شغله عن المقاصد المحمودة فالذم للجاعل لا للمجعول قال النبى تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم فذم عبدهما دونهما قال الامام أحمد حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان عن يزيد بن ميسرة قال كان رجل ممن مضى جمع مالا فأوعى ثم أقبل على نفسه وهو فى أهله فقال أنعم سنين فأتاه ملك الموت فقرع الباب فى صورة مسكين فخرجوا اليه فقال ادعو لى صاحب الدار فقالوا يخرج سيدنا الى مثلك ثم مكث قليلا ثم عاد فقرع الدار وصنع مثل ذلك وقال أخبروه أنى ملك الموت فلما سمع سيدهم قعد فزعا وقال لينوا له الكلام قالوا ما تريد غير سيدنا بارك الله فيك قال لا فدخل عليه فقال قم فأوص ما كنت موصيا فإنى قابض نفسك قبل أن أخرج قال فصرخ أهله وبكوا ثم قال افتحو الصناديق وافتحوا أوعية المال ففتحوها جميعا فأقبل على المال يلعنه ويسبه يقول لعنت من مال أنت الذى أنسيتنى ربى وشغلتنى عن العمل لآخرتى حتى بلغنى أجلى فتكلم المال فقال لا تسبنى ألم تكن وضيعا فى أعين الناس فرفعتك ألم ير عليك من أثرى وكنت تحضر سدد الملوك والسادة فتدخل ويحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادة فتنكح ويخطب عباد الله الصالحون فلا ينكحون ألم تكن تنفقنى فى سبيل الخبث فلا أتعاصى ولو أنفقتنى فى سبيل الله لم أتعاص عليك وأنت ألوم منى إنما خلقت أنا وأنتم يا بنى آدم من تراب فمنطلق ببر ومنطلق بإثم فهكذا يقول المال فاحذروا وفى أثر يقول الله تبارك وتعالى أموالنا رجعت الينا سعد بها من سعد وشقى بها من شقى
قالوا ومن فوائد المال أنه قوام العبادات والطاعات وبه قام سوق بر الحج والجهاد وبه حصل الانفاق الواجب والمستحب وبه حصلت قربات العتق والوقف وبناء المساجد والقناطر وغيرها وبه يتوصل الى النكاح الذى هو أفضل من التخلى لنوافل العبادة وعليه قام سوق المروءة وبه ظهرت صفة الجود والسخاء وبه وقيت الاعراض وبه اكتسبت الاخوان والاصدقاء وبه توصل الابرار الى الدرجات العلى ومرافقة الذين أنعم الله عليهم فهو مرقاة يصعد بها الى أعلى غرف

الجنة ويهبط منها إلى أسفل سافلين وهو مقيم مجد الماجد كان بعض السلف يقول لا مجد إلا بفعال ولا فعال إلا بمال وكان بعضهم يقول اللهم إنى من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى وهو من أسباب رضا الله عن العبد كما كان من أسباب سخطه عليه
وهؤلاء الثلاثة الذين ابتلاهم الله به الابرص والاقرع والاعمى قال به الاعمى رضا ربه ونالا به سخطه والجهاد ذروة سنام العمل وتارة يكون بالنفس وتارة يكون بالمال وربما كان الجهاد بالمال أنكى وأنفع وبأى شئ فضل عثمان على على وعلى أكثر جهادا بنفسه واسبق إسلاما من عثمان
وهذا الزبير وعبد الرحمن بن عوف أفضل من جمهور الصحابة مع الغنى الوافر وتأثيرهما فى الدين أعظم من تأثير أهل الصفة وقد نهى رسول الله عن إضاعته وأخبر أن ترك الرجل ورثته أغنياء خير له من تركهم فقراء وأخبر أن صاحب المال لن ينفق نفقة يبتغى بها وجه الله إلا ازداد بها درجة ورفعة وقد استعاذ رسول الله من الفقر وقرنه بالكفر فقال اللهم إنى أعوذ بك من الكفر والفقر فإن الخير نوعان خير الآخرة والكفر مضاده وخير الدنيا والفقر مضاده فالفقر سبب عذاب الدنيا والكفر سبب عذاب الآخرة والله سبحانه وتعالى جعل إعطاء الزكاة وظيفة الأغنياء وأخذها وظيفة الفقراء وفرق بين اليدين شرعا وقدرا وجعل يد المعطى أعلى من الآخذ وجعل الزكاة أوساخ المال ولذلك حرمها على أطيب خلقه وعلى آله صيانة لهم وتشريفا ورفعا لأقدارهم
ونحن لا ننكر أن رسول الله كان فقيرا ثم أغناه الله والله فتح عليه وخوله ووسع عليه وكان يدخر لأهله قوت سنة ويعطى العطايا التى لم يعطها أحد غيره وكان يعطى عطاء من لا يخاف الفقر ومات عن فدك والنضير وأموال خصه الله بها وقال تعالى ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول فنزهه ربه سبحانه عن الفقر الذى يسوغ الصدقة وعوضه عما نزهه عنه بأشرف المال وأحله وأفضله وهو ما أخذه بظل رمحه وقائم سيفه من أعداء الله الذين كان مال الله بأيديهم ظلما وعدوانا فإنه خلق المال ليستعان به على طاعته وهو بأيدى الكفار والفجار

ظلما وعدوانا فإذا رجع الى أوليائه وأهل طاعته فاءاليهم ما خلق لهم ولكن لم يكن غنى رسول الله وملكه من جنس غنى بنى الدنيا وأملاكهم فإن غناهم بالشيء وغناه عن الشئ وهو الغنى العالى وملكهم ملك يتصرفون فيه بحسب إرادتهم وهو انما يتصرف فى ملكه تصرف العبد الذى لا يتصرف الا بأمر سيده
وقد اختلف الفقهاء فى الفئ هل كان ملكا للنبى على قولين هما روايتان عن أحمد والتحقيق أن ملكه له كان نوعا آخر من الملك وهو ملك يتصرف فيه بالأمر كما قال والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا انما أنا قاسم اضع حيث امرت ذلك من كمال مرتبة عبوديته ولأجل ذلك لم يورث فإنه عبد محض من كل وجه لربه
تعالى والعبد لا مال له فيورث عنه فجمع الله له سبحانه بين أعلى أنواع الغنى وأشرف أنواع الفقر فكمل له مراتب الكمال فليست احدى الطائفتين بأحق به من الأخرى فكان فى فقره أصبر خلق الله وأشكرهم وكذلك فى غناه والله تعالى جعله قدوة للأغنياء والفقراء وأى غنى أعظم من غنى من عرضت عليه مفاتيح كنوز الارض وعرض عليه أن يجعل له الصفا ذهبا وخير بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا ومع هذا فجيبت اليه أموال جزيرة العرب واليمن فأنفقها كلها ولم يستأثر منها بشئ بل تحمل عيال المسلمين ودينهم فقال من ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا فإلى وعلى فرفع الله سبحانه قدره أن يكون من جملة الفقراء الذين تحل لهم الصدقه كما نزهه أن يكون من جملة الاغنياء الذين أغناهم بالاموال الموروثة بل أغناه به عن سواه وأغنى قلبه كل الغنى ووسع عليه غاية السعة فأنفق غاية الانفاق وأعطى أجل العطايا ولا استأثر بالمال ولا اتخذ منه عقارا ولا ارضا ولا ترك شاة ولا بعيرا ولا عبدا ولا أمة ولا دينارا ولا درهما
فإذا احتج الغنى الشاكر بحاله لم يمكنه ذلك الا بعد أن يفعل فعله كما أن الفقير الصابر اذا احتج بحاله لم يمكنه ذلك الا بعد أن يصبر صبره ويترك الدنيا اختيارا لا اضطرارا فرسول الله وفى كل مرتبة من مرتبتى الفقر والغنى

حقها وعبوديتها وأيضا فإن الله سبحانه أغنى به الفقراء فما نالت أمته الغنى إلا به وأغنى الناس من صار غيره به غنيا
قال على بن أبى رباح اللخمى كنت عند مسلمة بن مخلد الأنصارى وهو يومئذ على مصر وعبد الله بن عمرو بن العاص جالس معه فتمثل مسلمة ببيت من شعر أبى طالب فقال لو أن ابا طالب رأى ما نحن فيه اليوم من نعمة الله وكرامته لعلم أن ابن أخيه سيد قد جاء بخير فقال عبد الله بن عمرو ويومئذ كان سيدا كريما قد جاء بخير فقال مسلمة ألم يقل الله تعالى ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فقال عبد الله بن عمرو أما اليتيم فقد كان يتيما من أبويه وأما لعيلة فكل ما كان بأيدى العرب الى القله يقول إن العرب كانت كلها مقلة حتى فتح الله عليه وعلى العرب الذين اسلموا ودخلوا فى دين الله أفواجا ثم توفاه الله قبل أن يتلبس منها بشئ ومضى وتركها وحذر منها ومن فتنتها قال وذلك معنى قوله ولسوف يعطيك ربك فترضى فلم تكن الدنيا لترضيه وهو لا يرضاها كلها لأمته وهو يحذر منها وتعرض عليه فيأباها وانما هو ما يعطيه من الثواب وما يفتح عليه وعلى أمته من ملك كسرى وقيصر ودخول الناس فى الاسلام وظهور الدين إذا كان ذلك محبته ورضاه صلوات الله وسلامه عليه
وروى سفيان الثورى عن الاوزاعى عن اسماعيل بن عبد الله بن عباس عن النبى قال رأيت ما هو مفتوح بعدى كفرا كفرا فسرنى ذلك فنزلت والضحى والليل الى قوله ولسوف يعطيك ربك فترضى قال اعطى ألف قصر من لؤلؤ ترابها المسك فى كل قصر ما ينبغى له
قالوا وما ذكرتم من الزهد فىالدنيا والتقلل منها فالزهد لا ينافى الغنى بل زهد الغنى أكمل من زهد الفقير فإن الغنى زهد عن قدرة والفقير عن عجز وبينهما بعد بعيد وقد كان رسول الله فى حال غناه أزهد الخلق وكذلك ابراهيم الخليل كان كثير المال وهو أزهد الناس فى الدنيا
وقد روى الترمذى فى جامعه من حديث ابى ذر عن النبى قال الزهادة فى الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعته ولكن الزهادة فى الدنيا أن لا تكون بما

فى يديك أوثق بما فى يد الله وأن تكون فى ثواب المصيبة إذا أنت اصبت بها أرغب فى ثوابها لو أنها بقيت لك
وسئل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه ألف دينار وهل يكون زاهدا قال نعم بشرط أن لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت وقال بعض السلف الزاهد من لا يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره وهذا من أحسن الحدود حقيقة مركبة من الصبر والشكر فلا يستحق اسم الزاهد من لا يتصف بهما فمن غلب شكره لما وسع عليه من الحلال وصبره لما عرض له من الحرام فهو الزاهد على الحقيقة بخلاف من غلب عليه الحلال شكره والحرام صبره فكان شكره وصبره مغلوبين فإن هذا ليس بزاهد
وسمعت شيخ الاسلام يقول الزهد تركك مالا ينفعك والورع تركك ما يضرك فالزهد فراغ القلب من الدنيا لافراغ اليدين منها ويقابله الشح والحرص وهو ثلاثة أقسام زهد فى الحرام وزهد فى الشبهات والمكروهات وزهد فى الفضلات فالاول فرض والثانى فضل والثالث متوسط بينهما بحسب درجة الشبهة وان قويت التحق بالاول والا فبالثالث وقد يكون الثالث واجبا بمعنى انه لا بد منه وذلك لمن شمر الى الله والدار الآخرة فزهد الفضلة يكون ضرورة فإن إرادة الدنيا قادحة فى إرادة الآخرة ولا يصح للعبد مقام الارادة حتى يفرد طلبه وارادته ومطلوبه فلا ينقسم المطلوب ولا الطلب
أما توحيد المطلوب أن لا يتعلق طلبه وارادته بغير الله وما يقرب اليه ويدنى منه وأما توحيده فى الطلب أن يستأصل الطلب والارادة نوازع الشهوات وجواذب الهوى وتسكن الارادة فى أقطار النفس فتملأها فلا يدع فيها فضلا لغير الانجذاب الى جانب الحق جل جلاله فتتمحض الارادة له ومتى تمحضت كان الزهد لصاحبها ضرورة فإنه يفرغه لعمارة وقته وجمع قلبه على ماهو بصدده وقطع مواد طمعه اللاتى هى من أفسد شئ للقلب بل اصل المعاصى والفساد والفجور كله من الطمع فالزهد يقطع مواده ويفرغ البال ويملأ القلب ويستحث الجوارح ويذهب الوحشة التى بين العبد وبين ربه ويجلب الانس به ويقوى الرغبة فى ثوابه إن ضعف عن الرغبة فى قربه والدنو منه وذوق حلاوة معرفته ومحبته فالزاهد أروح

الناس بدنا وقلبا فإن كان زهده وفراغه من الدنيا قوة له فى إرادة الله والدار الآخرة بحيث فرغ قلبه لله وجعل حرصه على التقرب إليه وشحه على وقته أن يضيع منه شئ فى غير ما هو أرضى الله وأحب اليه كان من أنعم الناس عيشا واقرهم عينا وأطيبهم نفسا وأفرحهم قلبا فإن الرغبة فى الدنيا تشتت القلب وتبدد الشمل وتطيل الهم والغم والحزن فهى عذاب حاضر يؤدى الى عذاب منتظر أشد منه وتفوت على العبد من النعم اضعاف ما يروم تحصيله بالرغبه فى الدنيا
قال الامام أحمد حدثنا الهيثم بن جميل حدثنا يعنى بن مسلم عن ابراهيم يعنى بن ميسرة عن طاووس قال قال رسول الله ان الزهد فى الدنيا يريح القلب والبدن وأن الرغبة فى الدنيا تطيل الهم والحزن وانما تحصل الهموم والغموم والأحزان من جهتين احداهما الرغبة فى الدنيا والحرص عليها والثانى التقصير فى أعمال البر والطاعة
قال عبد الله بن أحمد حدثنى بيان بن الحكم حدثنا محمد بن حاتم عن بشر بن الحارث قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن ليث عن الحكم قال قال رسول الله اذا قصر العبد بالعمل ابتلاه الله
تعالى بالهم
وكما أن الرغبة فى الدنيا أصل المعاصى الظاهرة فهى اصل معاصى القلب من التسخط والحسد والكبر والفخر والخيلاء والتكاثر وهذا كله من امتلاء القلب بها لا من كونها فى اليد وامتلاء القلب بها ينافى الشكر ورأس الشكر تفريغ القلب منها وامتداد المال كامتداد العمر والجاه فخيركم فى الدنيا من طال عمره وحسن عمله فهكذا من امتد ماله وكثر به خيره فنعم المرء وماله وجاهه اما أن يرفعه درجات واما أن يضعه درجات
وسر المسألة أن طريق الفقر والتقلل طريق سلامة مع الصبر وطريق الغنى والسعة فى الغالب طريق عطب فإن اتقى الله فى ماله ووصل به رحمه وأخرج منه حق الله وليس مقصورا على الزكاة بل من حقه اشباع الجائع وكسوة العارى واغاثة الملهوف واعانة المحتاج والمضطر فطريقه طريق غنيمة وهى فوق السلامة فمثل صاحب الفقر كمثل مريض قد حبس بمرضه عن أغراضه فهو يثاب على حسن صبره على حبسه

وأما الغنى فخطره عظيم فى جمعه وكسبه وصرفه فإذا سلم كسبه وحسن أخذه من وجهه وصرفه فى حقه كان أنفع له فالفقير كالمتعبد المنقطع عن الناس والغنى المنفق فى وجوه الخير كالمعين والمعلم والمجاهد ولهذا جعله النبى قرين الذى أتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها فهو أحد المحسودين الذين لا ثالث لهما والجهلة يغبطون المنقطع المتخلى المقصور النفع على نفسه ويجعلونه أولى بالحسد من المنفق والعالم المعلم
فإن قيل فأيهما افضل من يختار الغنى المتصدق والانفاق فى وجوه البر أم من يختار الفقر والتقلل ليبعد عن الفتنة ويسلم من الآفة ويرفه قلبه على الاستعداد للآخرة فلا يشغله بالدنيا أم من لا يختار لا هذا ولا ذاك بل يختار ما اختاره الله له فلا يعين باختباره واحدا من الامرين
قيل هذا موضع اختلف فيه حال السلف الصالح فمنهم من اختار المال للجهاد به والانفاق وصرفه فى وجوه البر كعبد الرحمن بن عوف وغيره من مياسير الصحابه وكان قيس بن سعد يقول اللهم انى من عبادك الذين لا يصلحهم الا الغنى ومنهم من اختار الفقر والتقلل كأبى ذر وجماعة من الصحابه معه وهؤلاء نظروا الى آفات الدنيا وخشوا الفتنة بها وأولئك نظروا الى مصالح الانفاق وثمراته العاجلة والآجلة والفرقة الثالثة لم تختر شيئا بل كان اختيارها ما اختاره الله لها وكذلك اختيار طول البقاء فى الدنيا لاقامة دين الله وعبادته فطائفة اختارته وتمنته وطائفة أحبت الموت ولقاء الله والراحة من الدنيا وطائفة ثالثة لم تختر هذا ولا ذاك بل اختارت ما يختاره الله لها وكان اختيارهم معلقا بما يريده الله دون مراد معين منهم وهى حال الصديق رضى الله عنه فإنهم قالوا له فى مرض موته ألا ندعو لك الطبيب فقال قد رآنى فقالوا فما قال لك قال قال لى انى فعال لما أريد والأولى حال موسى عليه السلام فإنه لما جاءه ملك الموت لطمه ففقأ عينه ولم يكن ذلك حبا منه للدنيا والعيش فيها ولكن لينفذ أوامر ربه ويقيم دينه ويجاهد أعداءه فكأنه قال لملك الموت أنت عبد مأمور وأنا عبد مأمور وأنا فى تنفيذ أوامر ربى

وإقامة دينه فلما عرضت عليه الحياة الطويلة وعلم أن الموت بعدها اختار ما اختاره الله له وأما نبينا صلوات الله وسلامه عليه فإن ربه أرسل إليه يخبره وكان أعلم الخلق بالله فعلم أن ربه تبارك وتعالى يحب لقاءه ويختاره له فاختار لقاء الله ولو علم أن ربه يحب له البقاء فى الدنيا لتنفيذ أوامره وإقامة دينه لما اختار غير ذلك فكان اختياره تابعا لاختيار ربه تعالى فكما أنه لما خيره ربه عزوجل بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا نبيا وعلم أن ربه يختار له أن يكون عبدا نبيا اختار ما اختاره الله له فكان اختياره فى جميع أموره تابعا لاختيار الله له ولهذا يوم الحديبية احتمل ما احتمل من تلك الحال فى ذاك الوقت ووفى هذا المقام حقه ولم يثبت عليه من كل وجه إلا الصديق فلم يكن له اختيار فى سوى ما اختاره الله له ولأصحابه من تلك الحال التى تقرر الأمر عليها فكان راضيا بها مختارا لها مشاهدا اختيار ربه لها وهذا غاية العبودية فشكر الله له ذلك وجعل شكرانه ما بشره به فى أول سورة الفتح حتى هنأه الصحابة به وقالوا هنيئا لك يا رسول الله وحق له أن يهنأ بأعظم ما هنأ به بشر صلوات الله وسلامه عليه
فصل ومما ينبغى أن يعلم أن كل حصلة من حصال الفضل قد أحل
الله رسوله فى أعلاها وخصه بذروة سنامها فإذا احتجت بحاله فرقة من فرق الأمة التى تعرفت تلك الخصال وتقاسمتها على فضلها على عيرها أمكن الفرقة الأخرى أن تحتج به على فضلها أيضا فإذا احتج به الغزاة والمجاهدون على أنهم افضل الطوائف احتج به العلماء والفقهاء على مثل ما احتج به أولئك واذا احتج به الزهاد والمتخلفون عن الدنيا على فضلهم احتج به الداخلون فى الدنيا والولايه وسياسة الرعيه لاقامة دين الله وتنفيذ أمره واذا احتج به الفقير الصابر احتج به الغنى الشاكر واذا احتج به أهل العبادة على فضل نوافل العبادة وترجيحها احتج به العارفون على فضل المعرفة واذا احتج به أرباب التواضع والحلم احتج به أرباب العز والقهر المبطلين والغلظه عليهم والبطش بهم واذا احتج به ارباب الوقار والهيبه والرزانة احتج به

أرباب الخلق الحسن والمزاح المباح الذى لا يخرج عن الحق وحسن العشرة للأهل والأصحاب وإذا احتج به أصحاب الصدع بالحق والقول به فى المشهد والمغيب احتج به أصحاب المدارة والحياء والكرم أن يبادروا الرجل بما يكرهه فى وجهه وإذا احتج به المتورعون على الورع المحمود احتج به الميسرون المسهلون الذين لا يخرجون عن سعة شريعته ويسرها وسهولتها وإذا احتج به من صرف عنايته إلى إصلاح دينه وقلبه احتج به من راعى إصلاح بدنه ومعيشته ودنياه فانه بعث لصلاح الدنيا والدين وإذا احتج به من لم يعلق قلبه بالاسباب ولا ركن إليها احتج به من قام بالاسباب ووضعها مواضعها وأعطاها حقها وإذا احتج به من جاع وصبر على الجوع احتج به من شبع وشكر ربه على الشبع واذا احتج به من اخذ بالعفو والصفح والاحتمال احتج به من انتقم فى مواضع الانتقام واذا احتج به من أعطى لله ووالى لله احتج به من منع لله وعادى لله واذا احتج به من لم يدخر شيئا لغد احتج به من يدخر لأهله قوت سنه واذا احتج به من يأكل الخشن من القوت والادم كخبز الشعير والخل احتج به من يأكل اللذيذ الطيب كالشوى والحلوى والفاكهة والبطيخ ونحوه وإذا احتج به من سرد الصوم احتج به من سرد الفطر فكان يصوم حتى يقال لا يفطر ويفطر حتى يقال لا يصوم واذا احتج به من رعب عن الطيبات والمشتهيات احتج به من أحب أطيب ما فى الدنيا وهو النساء والطيب وإذا احتج به من الان جانبه وخفض جناحه لنسائه احتج به من أدبهن وآلمهن وطلق وهجر وخيرهن واذا احتج به من ترك مباشرة أسباب المعيشة بنفسه احتج به من باشرها بنفسه فأجرو استأجر وباع واشترى واستسلف وادان ورهن واذا احتج به من يجتنب النساء بالكلية فى الحيض والصيام احتج به من يباشر امرأته وهى حائض بغير الوطء ومن يقبل امرأته وهو صائم واذا احتج به من رحم أهل المعاصى بالقدر احتج به من أقام عليهم حدود الله فقطع السارق ورجم الزانى وجلد الشارب واذا احتج به من أرباب الحكم بالظاهر احتج به ارباب السياسة العادلة المبنية على القرائن الظاهرة فإنه حبس فى تهمة وعاقب فى تهمة
وأخبر عن نبى الله سليمان أنه عليه السلام حكم بالولد للمرأة بالقرينة الظاهرة مع

اعترافها لصاحبتها به فلم يحكم بالاعتراف الذى ظهر له بطلائه بالقرينة وترجم أبو عبد الرحمن على الحديث ترجمتين احداهما قال التوسعه للحاكم أن يقول للشئ الذى لا يفعله افعله ليستبين به الحق ثم قال الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم عليه اذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به وكذلك الصحابة عملوا بالقرائن فى حياته وبعده فقال على رضى الله عنه للمرأة التى حملت كتاب حاطب لتخرجن الكتاب أولا لاجردنك وحد عمر رضى الله عنه فى الزنا بالحبل وفى الخمر بالرائحه
وحكى الله سبحانه عن شاهد يوسف حكاية مقرر غير منكر أنه حكم بقرينة شق القميص من دبر على براءته وقال لابن أبى الحقيق وقد زعم ان النفقة أذهبت كنز حيي بن أخطب العهد قريب والمال أكثر من ذلك فاعتبر قرينتين دالتين على بقاء المال وعاقبه حتى اقر به وجوز لأولياء القتيل أن يحلفوا على رجل انه قتله ويقتلونه به بناء على القرائن المرجحة صدقهم وشرع الله سبحانه رجم المرأة اذا شهد عليها زوجها فى اللعان وأبت أن تلاعن للقرينه الظاهرة على صدقه
وشريعته طافحة بذلك لمن تأملها فالحكم بالقرائن الظاهرة من نفس شريعته وما جاء به فهو حجة لقضاة الحق وولاة العدل كما أنه حجة على قضاة السوء وولاة الجور والله المستعان
والمقصود بهذا الفصل أنه ليس الفقراء الصابرون بأحق به من الاغنياء الشاكرين وأحق الناس به أعلمهم بسنته وأتبعهم لها وبالله التوفيق
الباب الخامس والعشرون فى بيان الأمور المضادة للصبر والمنافية له
والقادحة فيه
لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى الى غير الله والقلب عن التسخط والجوارح عن اللطم وشق الثياب ونحوها كان ما يضاده واقعا على هذه الجملة فمنه الشكوى الى المخلوق فإذا شكى العبد ربه الى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه الى من لا يرحمه ولا تضاده الشكوى الى الله كما تقدم فى شكاية يعقوب الى الله مع قوله

فصبر جميل وأما إخبار المخلوق بالحال فإن كان للاستعانة بإرشاده أو معاونته والتوصل الى زوال صرورة لم يقدح ذلك فى الصبر كإخبار المريض للطبيب بشكايته وإخبار المظلوم لمن ينتصر به بحاله وإخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو أن يكون فرجه على يديه وقد كان النبى إذا دخل على المريض يساله عن حاله ويقول كيف نجدك وهذا استخبار منه واستعلام بحاله
وأما الأنين فهل يقدح في الصبر فيه روايتان عن الامام أحمد قال أبو الحسين أصحهما الكراهة لما روى عن طاوس أنه كان يكره الأنين في المرض وقال مجاهد كل شيء يكتب على ابن آدم مما يتكلم حتى أنينه في مرضه قال هؤلاء وإن الأنين شكوى بلسان الحال ينافي الصبر
وقال عبد الله بن الامام أحمد قال لي أبي في مرضه الذي توفي فيه اخرج إلي كتاب عبد الله بن ادريس فأخرجت الكتاب فقال أخرج أحاديث ليث بن أبي سليم فأخرجت أحاديث ليث فقال اقرا على أحاديث ليث قال قلت لطلحة إن طاووس كان يكره الأنين في المرض فلما سمع له أنين حتى مات فما سمعت أبي أن في مرضه ذلك إلى ان توفي والرواية الثانية أنه لا يكره ولا يقدح في الصبر قال بكر بن محمد عن أبيه سئل احمد عن المريض يشكو ما يجد من الوجع فقال تعرف فيه شيئا عن رسول الله قال نعم حديث عائشة وارأساه وجعل يستحسنه وقال المروذي دخلت على أبي عبد الله وهو مريض فسألته فتغرغرت عينيه وجعل يخبرني ما مر به في ليلته من العلة
والتحقيق أن الأنين على قسمين انين شكوى فيكره وأنين استراحة وتفريج فلا يكره والله أعلم
وقد روى في أثر ان المريض إذا بدأ بحمد الله ثم أخبر بحاله لم يكن شكوى وقال شقيق البلخي من شكى من مصيبة نزلت به إلى غير الله لم يجد في قلبه حلاوة لطاعة الله أبدا

فصل والشكوى نوعان شكوى بلسان القال وشكوى بلسان الحال ولعلها أعظمها
ولهذا امر النبي من أنعم عليه أن يظهر نعمة الله عليه واعظم من ذلك من يشتكي ربه وهو بخير فهذا امقت الخلق عند ربه
قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن زيد حدثنا كهمس عن عبد الله بن شقيق قال قال كعب الاحبار أن من حسن العمل سبحة الحديث ومن شر العمل التحذيف قيل لعبد الله ما سبحة الحديث قال سبحان الله وبحمده في خلال الحديث قبل فما التحذيف قال يصبح الناس بخير فيسألون فيزعمون أنه بشر
فصل ومما ينافي الصبر في شق الثياب عند المصيبة ولطم الوجه والضرب
بإحدى اليدين على الأخرى وحلق الشعر والدعاء بالويل ولهذا بريء النبي ممن صلق وحلق وخرق صلق رفع صوته عند المصيبة وحلق رأسه وشق ثيابه ولا ينافيه البكاء والحزن قال الله تعالى عن يعقوب وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قال قتادة كظيم على الحزن فلم يقل إلا خيرا
وقال حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس عن النبي قال ما كان من العين والقلب فمن الله والرحمة وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان وقاتل هشيم عن عبد الرحمن بن يحيي عن حسان بن أبي جبلة قال قال رسول الله من بث فلم يصبر وقال خالد بن أبي عثمان مات ابن لي فرآني سعد بن جبير متقنعا فقال إياك والتقنيع فإنه من الاستكانة وقاتل بكر بن عبد الله المزني كان يقال من الاستكانة الجلوس في البيت بعد المصيبة وقال عبيد بن عمير ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب ولكن الجزع القول السيء والظن السيء
وسئل القاسم بن محمد عن الجزع فقال القول السيء والظن السيء ومات ابن لبعض قضاة البصرة فاجتمع إليه العلماء والفقهاء فتذاكروا ما يتبين به من جزع الرجل

من صبره فاجمعوا انه إذا ترك شيئا مما كان يصنعه فقد جزع وقال الحسين ابن عبد العزيز الحوري مات ابن لي نفيس فقلت لأمه اتقي الله واحتسبيه واصبري فقال مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع
وقال عبد الله بن المبارك أتى رجل يزيد بن يزيد وهو يصلي وإبنه في الموت فقال ابنك يقضي وانت تصلي فقال الرجل إذا كان له عمل يعمله فتركه يوما واحدا كان ذلك خللا في عمله
وقال ثابت أصيب عبد الله بن مطرف بمصيبة فرايته أحسن شئ شارة وأطيبه ريحا فذكرت له ما رأيت فقال تأمرنى يا أبا محمد أن أستكين للشيطان وأريه أنه قد أصابنى سوء والله يا أبا محمد لو كانت لى الدنيا كلها ثم أحذها منى ثم سقانى شربة يوم القيامة ما رايتها ثمنا لتلك الشربة
ومما يقدح فى الصبر اظهار المصيبة والتحدث بها وكتمانها رأس الصبر وقال الحسن بن الصباح فى مسنده حدثنا خلف بن تميم حدثنا زافر بن سليمان عن عبد العزيز بن أبى رواد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله من البر كتمان المصائب والامراض والصدقة وذكر أنه من بث الصبر فلم يصبر وروى من وجه آخر عن الحسن يرفعه من البر كتمان المصائب وما صبر من بث ولما نزل فى احدى عينى عطاء الماء مكث عشرين سنة لا يعلم به أهله حتى جاء ابنه يوما من قبل عينيه فعلم أن الشيخ قد أصيب
ودخل رجل على داود الطائى فى فراشه فرآه يرجف فقال انا لله وانا اليه راجعون فقال مه لا تعلم بهذا أحدا وقد أقعد قبل ذلك اربعة أشهر لا يعلم بذلك أحد وقال مغيرة شكى الاحنف الى عمه وجع ضرسه فكرر ذلك عليه فقال ما تكرر على لقد ذهبت عينى منذ أربعين سنة فما شكوتها الى أحد فصل
ويضاد الصبر الهلع وهو الجزع عند ورود المصيبة والمنع عند ورود النعمة قال تعالى ان الانسان خلق هلوعا اذا مسه الشر جزوعا واذا مسه الخير منوعا

وهذا تفسير الهلوع قال الجوهرى الهلع أفحش الجزع وقد هلع بالكسر فهو هلع وهلوع وفى الحديث شر ما فى العبد شح هالع وجبن خالع
قلت هنا أمران أمر لفظى وأمر معنوى فأما اللفظى فإنه وصف الشح بكونه هالعا والهالع صاحبه وأكثر ما يسمى هلوعا ولا يقال هالع له فإنه لا يتعدى ففيه وجهان أحدهما أنه على النسب كقولهم ليل نائم وسر كاتم ونهار صائم ويوم عاصف كله عند سيبويه على النسب أى ذو كذا كما قالوا تامر ولابن والثانى أن اللفظه غيرت عن بابها للازدواج مع خالع وله نظير
وأما المعنوى فإن الشح والجبن أردى صفتين فى العبد ولا سيما اذا كان شحه هالما أى ملق له فى الهلع وجبنه خالعا اى قد خلع قلبه من مكانه فلا سماحة ولا شجاعة ولا نفع بماله ولا ببدنه كما يقال لا طعنة ولا جفنة ولا يطرد ولا يشرد بل قد قمعه وصغره وحقره ودساه الشح والخوف والطمع والفزع واذا أردت معرفة الهلوع فهو الذى اذا اصابه الجوع مثلا أظهر الاستجاعه واسرع بها واذا أصابه الالم اسرع الشكايه وأظهرها واذا أصابه القهر أظهر الاستطامه والاستكانه وباء بها سريعا واذا اصابه الجوع أسرع الانطراح على جنبه وأظهر الشكايه واذا بدا له مأخذ طمع طار اليه سريعا واذا ظفر به أحله من نفسه محل الروح فلا احتمال ولا أفضال وهذا كله من صغر النفس ودناءتها وتدسيسها فى البدن واخفائها وتحقيرها والله المستعان
الباب السادس والعشرون فى بيان دخول الصبر والشكر فى صفات الرب جل
جلاله وتسميته بالصبور والشكور ولو لم يكن للصبر والشكر من الفضيلة الا ذلك لكفى به
أما الصبر فقد أطلقه عليه أعرف الخلق به وأعظمهم تنزيها له بصيغة المبالغة ففى الصحيحين من حديث الاعمش عن سعيد بن جبير عن أبى عبد الرحمن السلمى عن ابى موسى عن النبى قال ما أحد أصبر على اذى سمعه من الله
تعالى يدعون له ولدا وهو يعافيهم ويرزقهم

وفى أسمائه الحسنى الصبور وهو من أمثلة المبالغة أبلغ من الصابر والصبار وصبره تعالى يفارق صبر المخلوق ولا يماثله من وجوه متعددة منها أنه عن قدرة تامة ومنها أنه لا يخاف الغوث والعبد انما يستعجل الخوف الغوث ومنها أنه لا يلحقه بصبره ألم ولا حزن ولا نقص بوجه ما وظهور اثر الاسم فى العالم مشهود بالعيان كظهور اسمه الحليم والفرق بين الصبر والحلم أن الصبر ثمرة الحلم وموجبه فعلى قدر حلم العبد يكون صبره فالحلم فى صفات الرب تعالى أوسع من الصبر ولهذا جاء اسمه الحليم فى القرآن فى غير موضع ولسعته يقرنه سبحانه باسم العليم كقوله وكان الله عليما حليما والله عليم حليم
وفى أثر أن حملة العرش أربعة إثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وإثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك فإن المخلوق يحلم عن جهل ويعفو عن عجز والرب تعالى يحلم مع كمال علمه ويعفو مع تمام قدرته وما أضيف شئ الى شئ أزين من حلم الى علم ومن عفو الى اقتدار ولهذا كان فى دعاء الكرب وصف سبحانه بالحلم مع العظمة وكونه حليما من لوازم ذاته سبحانه
وأما صبره سبحانه فمتعلق بكفر العباد وشركهم ومسبتهم له سبحانه وأنواع معاصيهم وفجورهم فلا يزعجه ذلك كله الى تعجيل العقوبة بل يصبر على عبده ويمهله ويستصلحه ويرفق به ويحلم عنه حتى اذا لم يبق فيه موضع للصنيعه ولا يصلح على الامهال والرفق والحلم ولا ينيب الى ربه ويدخل عليه لا من باب الاحسان والنعم ولا من باب البلاء والنقم أخذه أخذ عزيز مقتدر بعد غاية الأعذار اليه وبذل النصيحة له ودعائه اليه من كل باب وهذا كله من موجبات صفة حلمه وهى صفة ذاتية له لا تزول
وأما الصبر فإذا زال متعلقه كان كسائر الأفعال التى توجد لوجود الحكمة وتزول بزوالها فتأمله فإنه فرق لطيف ما عثرت الحذاق بعشره وقل من تنبه له ونبه عليه وأشكل على كثير منهم هذا الاسم وقالوا لم يأت فى القرآن فأعرضوا عن الاشتغال به صفحا ثم اشتغلوا بالكلام فى صبر العبد وأقسامه ولو أنهم أعطوا هذا

الاسم حقه لعلموا أن الرب تعالى أحق به من جميع الخلق كما هو أحق باسم العليم والرحيم والقدير والسميع والبصير والحى وسائر أسمائه الحسنى من المخلوقين وأن التفاوت الذى بين صبره سبحانه وصبرهم كالتفاوت الذى بين حياته وحياتهم وعلمه وعلمهم وسمعه وأسماعهم وكذا سائر صفاته
ولما علم ذلك أعرف خلقه به قال لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله فعلم أرباب البصائر بصبره سبحانه كعلمهم برحمته وعفوه وستره مع أنه صبر مع كمال علم وقدرة وعظمة وعزة وهو صبر من أعظم مصبور عليه فإن مقابلة أعظم العظماء وملك الملوك وأكرم الأكرمين ومن احسانه فوق كل احسان بغاية القبح وأعظم الفجور وأفحش الفواحش ونسبته الى كل ما لا يليق به والقدح فى كماله وأسمائه وصفاته والإلحاد فى آياته وتكذيب رسله عليهم السلام ومقابلتهم بالسب والشتم والأذى وتحريق أوليائه وقتلهم واهانتهم أمر لا يصبر عليه الا الصبور الذى لا أحد اصبر منه ولا نسبة لصبر جميع الخلق من أولهم الى آخرهم الى صبره سبحانه
واذا اردت معرفة صبر الرب تعالى وحلمه والفرق بينهما فتأمل قوله تعالى ان الله يمسك السموات والارض أن تزولا ولئن زالتا ان أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا وقوله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا ادا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وقوله وان كان مكرهم لتزول منه الجبال على قراءة من فتح اللام
فأخبر سبحانه أن حلمه ومغفرته يمنعان زوال السموات والارض فالحلم وامساكهما أن تزولا هو الصبر فبحلمه صبر عن معالجة أعدائه وفى الآية اشعار بأن السموات والارض تهم وتستأذن بالزوال لعظم ما يأتى به العباد فيمسكها بحلمه ومغفرته وذلك حبس عقوبته عنهم وهو حقيقة صبره تعالى فالذى عنه الامساك هو صفة الحلم والامساك هو الصبر وهو حبس العقوبة ففرق بين حبس العقوبة وبين ما صدر عنه حبسها فتأمله
وفى مسند الامام أحمد مرفوعا ما من يوم الا والبحر يستأذن ربه أن يغرق بنى آدم وهذا مقتضى الطبيعة لأن كرة الماء تعلو كرة التراب بالطبع ولكن الله

يمسكه بقدرته وحلمه وصبره وكذلك خرور الجبال وتفطير السموات الرب تعالى يحبسها عن ذلك بصبره وحلمه فإن ما يأتى به الكفار والمشركون والفجار فى مقابلة العظمة والجلال والإكرام يقتضى ذلك فجعل سبحانه فى مقابلة هذه الاسباب أسبابا يحبها ويرضاها ويفرح بها أكمل فرح وأتمه تقابل تلك الأسباب التى هي سبب زوال العالم وخرابه فدفعت تلك الأسباب وقاومتها وكان هذا من آثار مدافعة رحمته لغضبه وغلبتها له وسبقها اياه فغلب اثر الرحمة أثر الغضب كما غلبت الرحمة الغضب ولهذا استعاذ النبى بصفة الرضا من صفة السخط وبفعل المعافاة من فعل العقوبة ثم جمع الامرين فى الذات اذ هما قائمان بها فقال أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك فإن ما يستعاذ به هو صادر عن مشيئته وخلقه بإذنه وقضائه فهو الذى أذن فى وقوع الاسباب التى يستعاذ منها خلقا وكونا فمنه السبب والمسبب وهو الذى حرك الانفس والابدان وأعطاها قوى التاثير وهو الذى أوجدها وأعدها ومدها وسلطها على ما شاء وهو الذى يمسكها إذا شاء ويحول بينها وبين قواها وتأثيرها
فتأمل ما تحت قوله أعوذ بك منك من محض التوحيد وقطع الالتفات الى غيره وتكميل التوكل عليه تعالى والاستعانة به وحده وافراده بالخوف والرجاء ودفع الضر وجلب الخير وهو الذى يمس بالضر بمشيئته وهو الذى يدفعه بمشيئته وهو المستعاذ بمشيئته من مشيئته وهو المعيذ من فعله بفعله وهو الذى سبحانه خلق ما يصبر عليه وما يرضى به فاذا أغضبه معاصى الخلق وكفرهم وشركهم وظلمهم ارضاه تسبيح ملائكته وعبادة المؤمنين له وحمدهم اياه وطاعتهم له فيعيذ رضاه من غضبه
قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السموات والارض من نور وجهه وان مقدار يوم من أيامكم عنده اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالامس أول النهار اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع منها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول ما يعلم بغضبه حملة العرش يجدونه يثقل عليهم فتسبحه حملة العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر

الملائكة حتى ينفخ جبريل فى القرن فلا يبقى شئ الا يسمع فيسبحون الرحمن ثلاث ساعات حتى يمتلئ الرحمن رحمة فتلك ست ساعات قال ثم يؤتى بالارحام فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله تعالى هو الذى يصوركم فى الارحام كيف يشاء ويهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا واناثا ويجعل من يشاء عقيما فتلك تسع ساعات ثم يؤتى بالارزاق فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وقوله كل يوم هو فى شأن قال هذا شأنكم وشأن ربكم رواه أبو القاسم الطبرانى فى السنة وعثمان بن سعيد الدارمى وشيخ الاسلام الانصارى وابن مندة وابن خزيمة وغيرهم
ولما ذكر سبحانه فى سورة الانعام أعداءه وكفرهم وشركهم وتكذيب رسله ذكر فى أثر ذلك شأن خليله ابراهيم وما اراه من ملكوت السموات والارض وما حاج به قومه فى اظهار دين الله وتوحيده ثم ذكر الانبياء من ذريته وأنه هداهم وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة ثم قال فان يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين
فأخبر أنه سبحانه كما جعل فى الارض من يكفر به ويجحد توحيده ويكذب رسله كذلك جعل فيها من عباده من يؤمن بما كفر به أولئك ويصدق بما كذبوا به ويحفظ من حرماته ما أضاعوه وبهذا تماسك العالم العلوى والسفلى والا فلو تبع الحق أهواء أعدائه لفسدت السموات والارض ومن فيهن ولخرب العالم ولهذا جعل سبحانه من أسباب خراب العالم رفع الاسباب الممسكه له من الارض وهى كلامه وبيته ودينه والقائمون به فلا يبقى لتلك الاسباب المقتضية لخراب العالم أسباب تقاومها وتمانعها ولما كان اسم الحليم أدخل فى الاوصاف واسم الصبور فى الافعال كان الحلم أصل الصبر فوقع الاستغناء بذكره فى القرآن عن اسم الصبور والله أعلم فصل
وأما تسميته سبحانه بالشكور فهو فى حديث أبى هريرة وفى القرآن تسميته شاكرا قال الله تعالى وكان الله شاكرا عليما وتسميته أيضا شكور قال الله تعالى والله

شكور حليم وقال تعالى إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا فجمع لهم سبحانه بين الأمرين أن شكر سعيهم وأثابهم عليه والله تعالى يشكر عبده إذا أحسن طاعته ويغفر له اذا تاب اليه فيجمع للعبد بين شكره لإحسانه ومغفرته لاساءته انه غفور شكور
وقد تقدم فى الباب العشرين ذكر حقيقة شكر العبد وأسبابه ووجوهه وأما شكر الرب تعالى فله شأن آخر كشأن صبره فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور بل هو الشكور على الحقيقة فإنه يعطى العبد ويوفقه لما يشكره عليه ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره ويشكر الحسنة بعشر أمثالها الى أضعاف مضاعفة ويشكر عبده بقوله بأن يثنى عليه بين ملائكته وفى ملئه الأعلى ويلقى له الشكر بين عباده ويشكره بفعله فإذا ترك له شيئا أعطاه أفضل منه وإذا بذل له شيئا رده عليه أضعافا مضاعفة وهو الذى وفقه للترك والبذل وشكره على هذا وذاك ولما عقر نبيه سليمان الخيل غضبا له اذ شغلته عن ذكره فاراد ألا تشغله مرة أخرى أعاضه عنها متن الريح ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها فى مرضاته أعاضهم عنها أن ملكهم الدنيا وفتحها عليهم ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن شكر له ذلك بأن مكن له فى الارض يتبوأ منها حيث يشاء ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزقها أعداؤه شكر لهم ذلك بأن أعاضهم منها طيرا خضرا أقر أرواحهم فيها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها الى يوم البعث فيردها عليهم أكمل ما تكون وأجمله وأبهاه ولما بذل رسله أعراضهم فيه لأعدائهم فنالوا منهم وسبوهم أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم هو وملائكته وجعل لهم أطيب الثناء فى سمواته وبين خلقه فأخلصهم بخالصة ذكرى الدار
ومن شكره سبحانه أنه يجازى عدوه بما يفعله من الخير والمعروف فى الدنيا ويخفف به عنه يوم القيامة فلا يضيع عليه ما يعمله من الاحسان وهو من أبغض خلقه اليه ومن شكره أنه غفر للمرأة البغى بسقيها كلبا كان قد جهده العطش حتى أكل الثرى وغفر لآخر بتنحيته غصن شوك عن طريق المسلمين فهو سبحانه يشكر العبد على احسانه لنفسه والمخلوق انما يشكر من أحسن اليه

وأبلغ من ذلك أنه سبحانه هو الذى أعطى العبد ما يحسن به الى نفسه وشكره على قليله بالاضعاف المضاعفة التى لا نسبة لإحسان العبد اليها فهو المحسن بإعطاء الاحسان وإعطاء الشكر فمن أحق باسم الشكور منه سبحانه
وتأمل قوله سبحانه ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما كيف تجد فى ضمن هذا الخطاب أن شكره تعالى يأبى تعذيب عباده سدى بغير جرم كما يأبى اضاعة سعيهم باطلا فالشكور لا يضبع أجر محسن ولا يعذب غير مسئ وفى هذا رد لقول من زعم أنه سبحانه يكلفه مالا يطيقه ثم يعذبه على مالا يدخل تحت قدرته تعالى الله عن هذا الظن الكاذب والحسبان الباطل علوا كبيرا فشكره سبحانه اقتضى أن لا يعذب المؤمن الشكور ولا يضيع عمله وذلك من لوازم هذه الصفة فهو منزه عن خلاف ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص التى تنافى كماله وغناه وحمده
ومن شكر سبحانه أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من خير ولا يضيع عليه هذا القدر ومن شكره سبحانه أن العبد من عباده يقوم له مقاما يرضيه بين الناس فيشكره له وينوه بذكره ويخبر به ملائكته وعباده المؤمنين كما شكر لمؤمن آل فرعون ذلك المقام وأثنى به عليه ونوه بذكره بين عباده وكذلك شكره لصاحب يس مقامه ودعوته اليه فلا يهلك عليه بين شكره ومغفرته الا هالك فإنه سبحانه غفور شكور يغفر الكثير من الزلل ويشكر القليل من العمل
ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلقه اليه من اتصف بصفة الشكر كما أن أبغض خلقه اليه من عطلها واتصف بضدها وهذا شأن اسمائه الحسنى أحب خلقه اليه من اتصف بموجبها وأبغضهم اليه من اتصف باضدادها ولهذا يبغض الكفور الظالم والجاهل والقاسي القلب والبخيل والجبان والمهين واللئيم وهو سبحانه جميل يحب الجمال عليم يحب العلماء رحيم يحب الراحمين محسن يحب المحسنين شكور يحب الشاكرين صبور يحب الصابرين جواد يحب أهل الجود ستار يحب أهل الستر قادر يلوم على العجز والمؤمن القوى أحب اليه من المؤمن الضعيف عفو يحب العفو وتر يحب الوتر وكل ما يحبه فهو من آثار اسمائه وصفاته وموجبها وكل ما يبغضه فهو مما يضادها وينافيها

خاتمة
يا من عزم على السفر إلى الله والدار الآخرة قد رفع لك علم فشمر إليه فقد أمكن التشمير واجعل سيرك بين مطالعة منته ومشاهدة عيب النفس والعمل والتقصير فما ابقى مشهد النعمة والذنب للعارف من حسنة يقول هذه منجيتى من عذاب السعير ما المعول إلا على عفوه ومفغرته فكل أحد إليهما فقير أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى أنا المذنب المسكين وأنت الرحيم الغفور ما تساوى أعمالك لو سلمت مما يبطلها أدنى نعمة من نعمه عليك وأنت مرتهن بشكرها من حين أرسل بها إليك فهل رعيتها بالله حق رعايتها وهى فى تصريفك وطوع يديك فتعلق بحبل الرجاء وادخل من باب التوبة والعمل الصالح انه غفور شكور نهج للعبد طريق النجاة وفتح له أبوابها وعرفه طرق تحصيل السعادة وأعطاه أسبابها وحذره من وبال معصيته وأشهده على نفسه وعلى غيره شؤمها وعقابها وقال إن أطعت فبفضلى وأنا أشكر وإن عصيت فبقضائى وأنا أغفر إن ربنا لغفور شكور أزاح عن العبد العلل وأمره أن يستعيذ به من العجز والكسل ووعده أن يشكر له القليل من العمل ويغفر له الكثير من الزلل إن ربنا لغفور شكور أعطاه ما يشكر عليه ثم يشكره على إحسانه إلى نفسه لا على إحسانه اليه ووعده على إحسانه لنفسه أن يحسن جزاءه ويقربه لديه وأن يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحه بين يديه ان ربنا لغفور شكور وثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعتها وعكفت بكرمه آمال المحسنين فما قطع طمعها وخرقت السبع الطباق دعوات التائبين والسائلين فسمعها ووسع الخلائق عفوه ومغفرته ورزقه فما من دابة فى الارض الا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ان ربنا لغفور شكور يجود على عبيده بالنوافل قبل السؤال ويعطى سائله ومؤمله فوق ما تعلقت به منهم الآمال ويغفر لمن تاب اليه ولو بلغت ذنوبه عدد الآمواج والحصى والتراب والرمال ان ربنا

لغفور شكور ارحم بعباده من الوالدة بولدها وأفرح بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التى عليها طعامه وشرابه فى الأرض المهلكة اذا وجدها وأشكر للقليل من جميع خلقه فمن تقرب اليه بمثقال ذرة من الخير شكرها وحمدها ان ربنا لغفور شكور تعرف الى عباده بأسمائه وأوصافه وتحبب اليهم بحلمه وآلائه ولم تمنعه معاصيهم بأن جاد عليهم بآلائه ووعد من تاب اليه وأحسن طاعته بمغفرة ذنوبه يوم لقائه ان ربنا لغفور شكور السعادة كلها فى طاعته والأرباح كلها فى معاملته والمحن والبلايا كلها فى معصيته ومخالفته فليس للعبد أنفع من شكره وتوبته ان ربنا لغفور شكور أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذى كتبه ان رحمته تغلب غضبه ان ربنا لغفور شكور يطاع فيشكر وطاعته من توفيقه وفضله ويعصى فيحلم ومعصية العبد من ظلمه وجهله ويتوب اليه فاعل القبيح فيغفر له حتى كأنه لم يكن قط من أهله ان ربنا لغفور شكور الحسنة عنده بعشر أمثالها أو يضاعفها بلا عدد ولا حسبان والسيئة عنده بواحدة ومصيرها الى العفو والغفران وباب التوبة مفتوح لديه منذ خلق السموات والارض الى آخر الزمان ان ربنا لغفور شكور بابه الكريم مناخ الآمال ومحط الأوزار وسماء عطاه لا تقلع عن الغيث بل هى مدرار ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ان ربنا لغفور شكور لا يلقى وصاياه الا الصابرون ولا يفوز بعطاياه الا الشاكرون ولا يهلك عليه الا الهالكون ولا يشقى بعذابه الا المتمردون ان ربنا لغفور شكور
فإياك أيها المتمرد أن ياخذك على غرة فإنه غيور واذا أقمت على معصيته وهو يمدك بنعمته فاحذره فإنه لم يهملك لكنه صبور وبشراك ايها التائب بمغفرته ورحمته أنه غفور شكور من علم أن الرب شكور تفوع فى معاملته ومن عرف أنه واسع المغفرة تعلق بأذيال مغفرته ومن علم أن رحمته سبقت غضبه لم ييأس من رحمته ان ربنا لغفور شكور من تعلق بصفة من صفاته أخذته بيده حتى تدخله عليه ومن سار اليه بأسمائه الحسنى وصل اليه ومن أحبه أحب أسمائه وصفاته وكانت آثر شئ لديه حياة القلوب فى معرفته ومحبته وكمال الجوارح فى التقرب

إليه بطاعته والقيام بخدمته والألسنة بذكره والثناء عليه بأوصاف مدحته فأهل شكره أهل زيادته وأهل ذكره أهل مجالسته وأهل طاعته أهل كرامته وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته إن تابوا فهو حبيبهم وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم يبتليهم بأنواع المصائب ليكفر عنهم الخطايا ويطهرهم من المعائب انه غفور شكور
والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله حمدا يملا السموات والارض ومابينهما وما شاء ربنا من شيء بعد بمجامع حمده كلها ما علمنا منها وما لم نعلم على نعمه كلها ما علمنا منها وما لم نعلم عدد ما حمد الحامدون وغفل عن ذكره الغافلون وعدد ما جرى به قلمه واحصاه كتابه واحاط به علمه
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد واله وصحبه اجمعين وعلى سائر الانبياء والمرسلين ورضى الله عن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين



نبذ من "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" لابن القيم/4

لباب الثالث والعشرون فى ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة
والآثار والاعتبار
قالت الفقراء لم يذكر الله سبحانه الغنى والمال فى القرآن الا على أحد وجوه الأول على وجه الذم كقوله تعالى كلا ان الانسان ليطغى أن رآه استغنى وقوله ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الارض وقوله ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والاخرة عند ربك للمتقين وقال تعالى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم انما يريد الله ليعذبهم بها فى الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون وقال تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا وقال زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة الاية ونظائر ذلك كثيرة الوجه الثانى أن يذكره على وجه الابتلاء والامتحان كما قال تعالى انما أموالكم وأولادكم فتنة وقال تعالى أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون وقال تعالى مخبرا عن ابتلائه بالغنى كما ابتلى بالفقر فأما الانسان اذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن الاية وقال تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون
الوجه الثالث اخباره سبحانه وتعالى أن الاموال والاولاد لا تقرب اليه شيئا

وانما يقرب اليه الايمان والعمل الصالح كما قال وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم فى الغرفات آمنون
الوجه الرابع إخباره أن الدنيا والغنى والمال انما جعلها متعة لمن لا نصيب له فى الاخرة وأن الآخرة جعلها للمتقين فقال تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وقال تعالى ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها وإلى هذا المعنى أشار النبى بقوله لعمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة وسيأتى الحديث
الوجه الخامس أنه سبحانه لم يذكر المترفين وأصحاب الثروة إلا بالذم كقوله إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وقوله وإذا اردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها وقوله تعالى لا تركضوا وارجعوا الى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون الوجه السادس أنه سبحانه ذم محب المال فقال وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما فذمهم بحب المال وعيرهم به
الوجه السابع أنه سبحانه ذم متمنى الدنيا والغنى والسعة فيها ومدح من أنكر عليهم وخالفهم فقال تعالى عن أغنى أهل زمانه فخرج على قومه فى زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتى قارون انه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتو العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها الا الصابرون فأخبروا أن ما عند الله خير من الدنيا لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقى هذه الوصية وهى الكلمة التى تكلم بها الذين أوتوا العلم أو المثوبة والجنة التى دل عليها قوله ثواب الله خير والسيرة والطريقة التى دل عليها قوله لمن آمن وعمل صالحا وعلى كل حال لا يلقى ذلك إلا الصابرون على الفقر وعن الدنيا وشهواتها وما أترف فيه الاغنياء وقد شهد الله سبحانه لهم أنهم من أهل العلم دون الذين تمنوا الدنيا وزينتها
الوجه الثامن انه سبحانه أنكر على من ظن أن التفضيل يكون بالمال الذى يحتاج

اليه لاقامة الملك فكيف بما هو زيادة وفضلة فقال تعالى وقال لهم نبيهم ان الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال ان الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم فرد الله سبحانه قولهم وأخبر سبحانه أن الفضل ليس بالمال كما توهموه وأن الفضل بالعلم لا بالمال وقال سبحانه قال بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ففضله ورحمته العلم والايمان والقرآن والذى يجمعونه هو المال وأسبابه ومثله قوله تعالى أهم يقسمون رحمة ربك الى قوله ورحمة ربك خير مما يجمعون
الوجه التاسع انه سبحانه أخبر أن التكاثر فى جمع المال وغيره ألهى الناس وشغلهم عن الآخرة والاستعداد لها وتوعدهم على ذلك فقال تعالى ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون فأخبر سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا وألهاهم عن الله والدار الآخرة حتى حضرهم الموت فزاروا المقابر ولم يفيقوا من رقدة من ألهاهم التكاثر وجعل الغاية زيارة المقابر دون الموت ايذانا بأنهم غير مستوطنين ولا مستقرين فى القبور وأنهم فيها بمنزلة الزائرين يحضرونها مدة ثم يظعنون عنها كما كانوا فى الدنيا زائرين لها غير مستقرين فيها ودار القرار هى الجنة أو النار ولم يعين سبحانه المتكاثر به بل ترك ذكره اما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشئ لا المتكاثر به كما يقال شغلك اللعب واللهو ولم يذكر ما يلعب ويلهو به واما ارادة الاطلاق وهو كل ما تكاثر به العبد غيره من أسباب الدنيا من مال أو جاه أو عبيد أو اماء أو بناء أو غراس أو علم لا ينبغى به وجه الله أو عمل لا يقربه الى الله فكل هذا من التكاثر الملهى عن الله والدار الآخرة
وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه قال انتهيت الى النبى وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك الا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت ثم أوعد سبحانه من ألهاه التكاثر وعيدا مؤكدا اذا عاين تكاثره هباء منثورا وعلم دنياه التى كاثر بها انما كانت خدعا وغرورا فوجد عاقبة

تكاثره عليه لا له وخسر هنالك تكاثره كما خسر أمثاله وبدا له من الله ما لم يكن فى حسابه وصار تكاثره الذى شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه فعذب بتكاثره فى دنياه ثم عذب به فى البرزخ ثم يعذب به يوم القيامة فكان أشقى بتكاثره اذ أفاد منه العطب دون الغنيمة والسلامة فلم يفز من تكاثره الا بأن صار من الأقلين ولم يحفظ به من علوه به فى الدنيا بأن حصل مع الاسفلين فيا له تكاثرا ما أقله ورزءا ما أجله ومن غنى جالبا لكل فقر وخيرا توصل به الى كل شر يقول صاحبه اذا انكشف عنه غطاؤه يا ليتنى قدمت لحياتى وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتى رب ارجعونى لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا انها كلمة هو قائلها تلك كلمة يقولها فلا يعول عليها ورجعة يسألها فلا يجاب إليها
وتأمل قوله أولا رب استغاث بربه ثم التفت الى الملائكة الذين أمروا بإحضاره بين يدى ربه تبارك وتعالى فقال أرجعونى ثم ذكر سبب سؤال الرجعة وهو أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه وسلطانه وقوته وأسبابه فيقال له كلا لا سبيل لك الى الرجعى وقد عمرت ما يتذكر فيه من تذكر
ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استغاث وأن يفسح له فى المهلة لتيذكر مافاته أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة هو قائلها لا حقيقة تحتها وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحا لو أجيب وانما ذلك شئ يقوله بلسانه وأنه لو رد لعاد لما نهى عنه وأنه من الكاذبين فحكمه أحكم الحاكمين وعزته وعلمه وحمده يأبى اجابته الى ما سأل فإنه لا فائدة فى ذلك ولو رد لكانت حالته الثانية مثل حالته الاولى كما قال تعالى ولو ترى اذ وقفوا على النار قالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا فراجع أقوالهم تجدها لا تشفى عليلا ولا تروى غليلا ومعناها أجل وأعظم مما فسروها به ولم يتفطنوا لوجه الاضراب ببل ولا للأمر الذى بدا لهم وكانوا يخفونه وطنوا أن الذى بدا لهم

العذاب فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله ما كانوا يخفون من قبل قد روا مضافا محذوفا وهو خبر ما كانوا يخفون من قبل فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه وهو أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه ولما علموا أن هذا وارد عليهم قالوا ان القوم فى بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذى أخفوه قال الواحدى وعلى هذا أهل التفسير ولم يصنع أرباب هذا القول شيئا فإن السياق والاضراب ببل والاخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين لا يلتئم بهذا الذى ذكروه فتأمله
وقالت طائفة منهم الزجاج بل بدا للاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير وفيه من التكلف ما ليس بخاف واجود من هذا ما فهمه المبرد من الآية قال كأن كفرهم لم يكن باديا لهم اذ خفيت عليهم مضرته ومعنى كلامه أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله فكأنه كان خفيا عنهم لم تظهر لهم حقيقته فلما عاينو العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره قال وهذا كما تقول لمن كنت حدثته فى أمر قبل وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك وقد كان ظاهرا له قبل هذا ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذى كانوا ينادون به على رءوس الاشهاد ويدعون اليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد وقتل النفوس والسعى فى الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك لجهله بسوء عاقبته وخفائها عليه
فمعنى الآية والله أعلم بما أراد من كلامه أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها تمنوا أنهم يردون الى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته ولا يكذبون رسله فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك وأنهم ليس فى طبائعهم وسجاياهم الايمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله وأخبر أنهم كاذبون فى زعمهم أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الاضراب ببل وتبين معنى الذى بدا

لهم والذى كانوا يخفونه والحامل لهم على قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا فى الدنيا على باطل وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم بل تواصوا بكتمانه فلم يكن الحامل لهم على تمنى الرجوع والايمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل وأن الرسل على الحق فعاينوا ذلك عيانا بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالايمان ولعادوا الى الكفر والتكذيب فإنهم لم يتمنوا الايمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل وانما تمنوا لما عاينوا العذاب الذى لا طاقة لهم باحتماله وهذا كمن كان يخفى محبة شخص ومعاشرته وهو يعلم أن حبه باطل وأن الرشد فى عدوله عنه فقيل له ان اطلع عليه وليه عاقبك وهو يعلم ذلك ويكابر ويقول بل محبته ومعاشرته هى الصواب فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاوده بعد معاينة العقوبة بل بعد أن مسته وأنهكته فظهر له عند العقوبة ما كان يخفى من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه ولو رد لعاد لما نهى عنه
وتأمل مطابقة الاضراب لهذا المعنى وهو نفى قولهم انا لو رددنا لآمنا وصدقنا لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق أى ليس كذلك بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه فلم يظهر لكم شئ لتكونوا عالمين به لتعذروا بل ظهر لكم ما كان معلوما وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه والله أعلم
ولا تستطل هذا الفضل المعترض فى أثناء هذه المسألة فلعله أهم منها وأنفع وبالله التوفيق فلنرجع الى تمام الكلام فيها
وقوله كلا لو تعلمون علم اليقين جوابه محذوف دل عليه ما تقدم أى لما ألهاكم التكاثر وانما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لما فقد منكم علم اليقين وهو العلم الذى يصل به صاحبه الى حد الضروريات التى لا يشك ولا يمارى فى صحتها وثبوتها ولو وصلت حقيقة هذا العلم الى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه

ويرتب أثره عليه فإن مجرد العلم بقبح الشئ وسوء عواقبه قد لا يكفى فى تركه فإذا صار له علم اليقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد فاذا صار عين يقين كجملة المشاهدات كان تخلف موجبه عنه من أندر شئ وفى هذا المعنى قال حسان بن ثابت رضى الله عنه فى أهل بدر
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم ... لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
وقوله كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون قيل تأكيد لحصول العلم كقوله كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون وقيل ليس تأكيدا بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت والعلم الثانى فى القبر هذا قول الحسن ومقاتل ورواه عطاء عن ابن عباس ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه أحدها أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته وعدم الاخلال بالفصاحة الثانى توسط ثم بين العلمين وهى مؤذنة بتراخى ما بين المرتبتين زمانا وخطرا الثالث ان هذا القول مطابق للواقع فإن المحتصر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه ثم يعلم فى القبر وما بعده ذلك علما هو فوق الأول الرابع أن عليا بن أبى طالب رضى الله عنه وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب القبر قال الترمذى حدثنا أبو كريب حدثنا حكام بن سليم الرازى عن عمرو بن أبى قيس عن الحجاج بن المنهال بن عمر عن زر عن على رضى الله عنه قال ما زلنا نشك فى عذاب القبر حتى نزلت الهاكم التكاثر قال الواحدى يعنى أن معنى قوله كلا سوف تعلمون فى القبر
الخامس ان هذا مطابق لما بعده من قوله لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من وجهين إطلاق الأولى وتقييد الثانية بعين اليقين وتقدم الأولى وتراخى الثانية عنها ثم ختم السورة بالاخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد والنون الثقيلة عن سؤال النعيم فكل أحد يسأل عن نعيمه الذى كان فيه فى الدنيا هل ناله من حلاله ووجهه أم لا فاذا تخلص من هذا السؤال سئل سؤالا آخر هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم لا فالأول سؤال عن سبب استخراجه والثانى عن محل صرفه كما فى جامع الترمذى من حديث عطاء بن أبى رباح

عن ابن عمر عن النبى قال لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسئل عن خمس عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعماذا عمل فيما علم
وفيه أيضا عن أبى برزة قال قال رسول الله لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما عمل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أبلاه قال هذا حديث صحيح
وفيه أيضا من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ان أول ما يسئل عنه العبد يوم القيامة يعنى من النعيم أن يقال له ألم نصح جسمك ونرويك من الماء البارد
وفيه أيضا من حديث الزبير بن العوام رضى الله عنه لما نزلت لتسئلن يومئذ عن النعيم قال الزبير يا رسول الله فأى النعيم نسئل عنه وانما هو الأسودان التمر والماء قال أما انه سيكون قال هذا حديث حسن وعن أبى هريرة نحوه وقال انما هو الاسودان العدو حاضر سيوفنا على عواتقنا قال ان ذلك سيكون وقوله ان ذلك سيكون إما أن يكون المراد به أن النعيم سيكون ويحدث لكم وإما أن يرجع الى السؤال أي ان السؤال يقع عن ذلك وان كان تمرا وماء فانه من النعيم ويدل عليه قوله فى الحديث الصحيح وقد أكلوا معه رطبا ولحما وشربوا من الماء البارد هذا من النعيم الذى تسئلون عنه يوم القيامة فهذا سؤال عن شكره والقيام بحقه
وفى الترمذى من حديث أنس رضى الله عنه عن النبى قال يجاء بالعبد يوم القيامة كأنه بذج فيوقف بين يدى الله تعالى فيقول الله أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك فماذا صنعت فيقول يا رب جمعته وثمرته فتركته أوفر ما كان فارجعنى آتيك به فاذا عبيد لم يقدم خيرا فيمضى به الى النار وفيه من حديث

أبى سعيد وأبى هريرة رضى الله عنهما قالا قال رسول الله يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا وسخرت لك الأنعام والحرث وتركتك ترأس وترتع أفكنت تظن أنك ملاق يومك هذا فيقول لا فيقول له اليوم أنساك كما نسيتنى قال هذا حديث صحيح
وقد زعم طائفة من المفسرين أن هذا الخطاب خاص بالكفار وهم المسؤلون عن النعيم وذكر ذلك عن الحسن ومقاتل واختار الواحدى ذلك واحتج بحديث ابى بكر لما نزلت هذه الآية قال رسول الله أرأيت أكلة أكلتها معك ببيت أبى الهيثم بن النبهان من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب وماء عذب أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذى نسأل عنه فقال رسول الله انما ذلك للكفار ثم قرأ وهل نجازى إلا الكفور قال الواحدى والظاهر يشهد بهذا القول لأن السورة كلها خطاب للمشركين وتهديد لهم والمعنى أيضا يشهد بهذا القول وهو أن الكفار لم يؤدوا حق النعيم عليهم حيث اشركوا به وعبدوا غيره فاستحقوا أن يسئلوا عما أنعم به عليهم توبيخا لهم هل قاموا بالواجب فيه أم ضيعوا حق النعمة ثم يعذبون على ترك الشكر بتوحيد المنعم قال وهذا معنى قول مقاتل وهو قول الحسن قال لا يسئل عن النعيم الا أهل النار
قلت ليس فى اللفظ ولا فى السنة الصحيحة ولا فى أدلة العقل ما يقتضى اختصاص الخطاب بالكفار بل ظاهر اللفظ وصريح السنة والاعتبار يدل على عموم الخطاب لكل من اتصف بإلهاء التكاثر له فلا وجه لتخصيص الخطاب ببعض المتصفين بذلك ويدل على ذلك قول النبى عند قراءة هذه السورة يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فابليت الحديث وهو فى صحيح مسلم وقائل ذلك قد يكون مسلما وقد يكون كافرا ويدل عليه أيضا الأحاديث التى تقدمت وسؤال الصحابة النبى وفهمهم العموم حتى قالوا له وأى نعيم نسئل عنه وانما هو الاسودان فلو كان الخطاب مختصا بالكفار لبين لهم ذلك وقال ما لكم ولها انما هى للكفار فالصحابة فهموا التعميم والأحاديث صريحة فى التعميم والذى أنزل عليه القرآن أقرهم على فهم العموم

وأما حديث ابى بكر الذى أحتج به أرباب هذا القول فحديث لا يصح والحديث الصحيح فى تلك القصة يشهد ببطلانه ونحن نسوقه بلفظه ففى صحيح مسلم عن ابى هريرة قال خرج رسول الله ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبى بكر وعمر فقال ما أخرجكما من بيوتكما فى هذه الساعة قالا الجوع يا رسول الله قال وأنا والذى نفسى بيده لأخرجنى الذى أخرجكما قوما فقاما معه فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس فى بيته فلما رأته امرأته قالت مرحبا وأهلا فقال لها رسول الله وأين فلان قالت ذهب يستعذب لنا من الماء إذ جاء الأنصارى فنظر الى رسول الله وصاحبيه فقال الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا منى قال فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب فقال كلوا من هذا فأخذ المدية فقال له رسول الله إياك والحلوبة فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله لابى بكر وعمر والذى نفسى بيده لتسئلن عن هذا النعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم فهذا الحديث الصحيح صريح فى تعميم الخطاب وأنه غير مختص بالكفار
وايضا فالواقع يشهد بعدم اختصاصه وأن الالهاء بالتكاثر واقع من المسلمين كثيرا بل أكثرهم قد الهاه التكاثر وخطاب القرآن عام لمن بلغه وان كان أول من دخل فيه المعاصرين لرسول الله فهو متناول لمن بعدهم وهذا معلوم بضرورة الدين وان نازع فيه من لا يعتد بقوله من المتأخرين فنحن اليوم ومن قبلنا ومن بعدنا داخلون تحت قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ونظائره كما دخل تحته الصحابة بالضرورة المعلومة من الدين فقوله ألهاكم التكاثر خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف وهم فى الالهاء والتكاثر درجات لا يحصيها الا الله
فإن قيل فالمؤمنون لم يلههم التكاثر ولهذا لم يدخلوا فى الوعيد المذكور لمن الهاه قيل هذا هو الذى أوجب لأرباب هذا القول تخصيصه بالكفار لأنه لم يمكنهم حمله على العموم ورأوا أن الكفار أحق بالوعيد فخصوهم به وجواب هذا أن الخطاب

للانسان من حيث هو إنسان على طريقة القرآن فى تناول الذم له من حيث هو إنسان كقوله وكان الانسان عجولا وكان الانسان قتورا ان الانسان لربه لكنود وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا ان الانسان لكفور ونظائره كثيرة فالانسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع والعمل الصالح وانما الله سبحانه هو الذى يكمله بذلك ويعطيه إياه وليس له ذلك من نفسه بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم والظلم المضاد للعدل وكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه لا من نفسه فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته التى هى له من نفسه ولا خروج له عن ذلك الا بتزكية الله له وجعله مريدا للآخرة مؤثرا لها على التكاثر بالدنيا فان أعطاه ذلك وإلا فهو ملته بالتكاثر فى الدنيا ولا بد
وأما احتجاجه بالوعيد على اختصاص الخطاب بالكفار فيقال الوعيد المذكو مشترك وهو العلم عند معاينة الآخرة فهذا أمر يحصل لكل أحد لم يكن حاصلا له فى الدنيا وليس فى قوله سوف تعلمون ما يقتضى دخول النار فضلا عن التخليد فيها وكذلك رؤية الجحيم لا يستلزم دخولها لكل من رآها فان أهل الموقف يرونها ويشاهدونها عيانا وقد اقسم الرب تبارك وتعالى أنه لا بد أن يراها الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم فليس فى جملة هذه السورة ما ينفى عموم خطابها وأما ما ذكره عن الحسن أنه لا يسأل عن النعيم الا أهل النار فباطل قطعا اما عليه واما منه والاحاديث الصحيحة الصريحة ترده وبالله التوفيق
ولا يخفى أن مثل هذه السورة مع عظم شأنها وشدة تحويفها وما تضمنته من تحذير الملهى وانطباق معناها على أكثر الخلق يأبى اختصاصها من أولها الى آخرها بالكفار ولا يليق ذلك بها ويكفى فى ذلك تأمل الاحاديث المرفوعة فيها والله أعلم
وتأمل ما فى هذا العتاب الموجع لمن استمر على الهاء التكاثر له مدة حياته كلها الى أن زار القبور ولم يستيقظ من نوم الالهاء بل أرقد التكاثر قلبه فلم يستفق منه الا وهو فى عسكر الأموات وطابق بين هذا وبين حال أكثر الخلق يتبين لك أن العموم مقصود وتأمل تعليقه سبحانه الذم والوعيد على مطلق التكاثر من غير

تقييد بمتكاثر به ليدخل فيه التكاثر بجميع أسباب الدنيا على اختلاف أجناسها وأنواعها وأيضا فان التكاثر تفاعل وهو طلب كل من المتكاثرين أن يكثر صاحبه فيكون أكثر منه فيما يكاثره به والحامل له على ذلك توهمه أن العزة للكاثر كما قيل
ولست بالأكثر منهم حصى ... وانما العزة للكاثر
فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره كما كانت الكثرة حاصلة لجماعة من الصحابة ولم تضرهم اذ لم يتكاثروا بها وكل من كاثر انسانا فى دنياه أو جاهه أو غير ذلك شغلته مكاثرته عن مكاثرة أهل الآخرة فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية انما تكاثر بما يدوم عليها نفعه وتكمل به وتزكو وتصير مفلحة فلا تحب أن يكثرها غيرها فى ذلك وينافسها فى هذه المكاثرة ويسابقها اليها فهذا هو التكاثر الذى هو غاية سعادة العبد وضده تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم فهذا تكاثر مله عن الله والدار الاخرة هو صائر الى غاية القلة فعاقبة هذا التكاثر قل وفقر وحرمان والتكاثر بأسباب السعادة الاخروية تكاثر لا يزال بذكر بالله ولقائه وعاقبته الكثرة الدائمة التى لا تزول ولا تفنى وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى غيره أفضل منه قولا وأحسن منه عملا وأغزر علما واذا رأى غيره أكثر منه فى خصلة من خصال الخير يعجز عن لحاقه فيها كاثره بخصلة أخرى هو قادر على المكاثرة بها وليس هذا التكاثر مذموما ولا قادحا فى اخلاص العبد بل هو حقيقة المنافسة واستباق الخيرات
وقد كانت هذه حال الاوس مع الخزرج رضى الله عنهم فى تصاولهم بين يدى رسول الله ومكاثرة بعضهم لبعض فى اسباب مرضاته ونصره وكذلك كانت حال عمر مع أبى بكر رضى الله عنهما فلما تبين له مدى سبقه له قال والله لا أسابقك الى شئ أبدا
فصل ومن تأمل حسن موقع كلا فى هذا الموضع فانها تضمنت ردعا لهم
وزجرا عن التكاثر ونفيا وابطالا لما يؤملونه من نفع التكاثر لهم وعزتهم وكمالهم به

فتضمنت اللفظة نهيا ونفيا وأخبرهم سبحانه أنهم لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علما بعد علم وأنهم لا بد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التى ألهتهم عن الاخرة رؤية بعد رؤية وأنه سبحانه لا بد أن يسألهم عن اسباب تكاثرهم من أين استخرجوها وفيما صرفوها
فلله ما أعظمها من سورة وأجلها وأعظمها فائدة وأبلغها موعظة وتحذيرا واشدها ترغيبا فى الآخرة وتزهيدا فى الدنيا على غاية اختصارها وجزالة ألفاظها وحسن نظمها فتبارك من تكلم بها حقا وبلغها رسوله عنه وحيا فصل
وتأمل كيف جعلهم عند وصولهم الى غاية كل حى زائرين غير مستوطنين بل هم مستودعون فى المقابر مدة وبين أيديهم دار القرار فإذا كانوا عند وصولهم الى الغاية زائرين فكيف بهم وهم فى الطريق فى هذه الدار فهم فيها عابرو سبيل الى محل الزيارة ثم منتقلون من محل الزيارة إلى المستقر فهنا هنا ثلاثة أمور عبور السبيل فى هذه الدنيا وغايته زيارة القبور وبعدها النقلة إلى دار القرار فصل
فلنرجع الى تمام المناظرة قالوا فالله تعالى حمى أولياءه عن الدنيا وصانهم عنها ورغب بهم عنها تكريما لهم وتطهيرا عن أدناسها ورفعة عن دناءتها وذمهالهم وأخبرهم بهوانها عليه وسقوط قدرها عنده وأعلمهم أن بسطها فتنة وأنه سب الطغيان والفساد فى الارض وإلهاء التكاثر بها عن طلب الاخرة وأنها متاع الغرور وذم محبيها ومؤثريها وأخبر أن من أرادها أو أراد زينتها وحرثها فليس له فى الاخرة من نصيب واخبر أن بسطها فتنة وابتلاء لا كرامة ومحبة وإن إمداد أهلها بها ليس مسارعة لهم فى الخيرات وأنها لا تقرب اليه ولا تزلف لديه وأنه لولا تتابع الناس فى الكفر لأعطى الكفار منها فوق مناهم ووسعها عليهم أعظم التوسعة بحيث يجعل سقوف بيوتهم وأبوابهم ومعارجهم وسررهم كلها من فضة وأخبر أنه زينها لأعدائه ولضعفاء العقول الذين لا نصيب لهم فى الاخرة ونهى رسوله عن مد عينيه اليها والى مامتع به أهلها وذم من أذهب طيباته فيها واستمتع

بها وقال لنبيه ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون وفى هذا تعزية لما منعه أولياءه من التمتع بالدنيا وكثرة الأكل فيها وتأديب لمن بسط له فيها ألا يطغى فيها ولا يعطى نفسه شهواتها ولا يتمتع بها ولام سبحانه محبيها المفتخرين بها المكاثرين بها الظانين أن الفضل والكرامة فى سعتها وبسطها فأكذبهم الله سبحانه
واخبر أنه ليس كما قالوه ولا توهموه ومثلها لعباده بالأمثلة التى تدعو كل لبيب عاقل الى الزهد فيها وعدم الوثوق بها والركون اليها فأحضر صورتها وحقيقتها فى قلوبهم بما ضربه لها مثلا كماء أنزله من السماء فخالط نبات الأرض فلما أخذت به الارض زخرفها وتزينت بأنواع النبات أتاها أمره فجعل تلك الزينة يبسا هشيما تذروه الرياح كأن لم يكن قط منه شئ
وأخبر سبحانه عن فنائها وسرعة انقضائها وأنه اذا عاين العبد الأخرة فكأنه لبث فيها ساعة من نهار أو يوما أو بعض يوم ونهى سبحانه عباده أن يغتروا بها واخبرهم أنها لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر ومتاع غرور وطريق ومعبر الى الاخرة وأنها عرض عاجل لابقاء له ولم يذكر مريدها بخير قط بل حيث ذكره ذمه وأخبر أن مريدها مخالف لربه تعالى فى ارادته فالله يريد شيئا ومريد الدنيا يريد خلافه فهو مخالف لربه بنفس ارادته كفى بهذا بعدا عنه سبحانه واخبر سبحانه عن أهل النار انهم انما دخلوها بسبب غرور الدنيا وأمانيها لهم قالوا وهذا كله تزهيد لهم منه سبحانه فيها وترغيب فى التقلل منها ما أمكن
قالوا وقد عرضها سبحانه وعرض مفاتيح كنوزها على أحب الخلق اليه وأكرمهم عليه عبده ورسوله محمد فلم يردها ولم يخترها ولو أثرها وارادها لكان أشكر الخلق بما اخذه منها وأنفقه كله فى مرضاة الله وسبيله قطعا بل اختار التقلل منها وصبر على شدة العيش فيها
قال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن محمد حدثنا عباد يعنى ابن عباد حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبى عن مسروق عن عائشة رضى الله عنها قالت دخلت على امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله عباءة مثنية فرجعت الى منزلها

فبعثت إلى بفراش حشوه الصوف فدخل على رسول الله فقال ما هذا فقلت فلانة الانصارية دخلت على فرأت فراشك فبعثت الى بهذا فقال رديه فلم أرده وأعجبنى أن يكون فى بيتى حتى قال ذلك ثلاث مرات فقال يا عائشة رديه والله لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضة
وعرض عليه مفاتيح كنوز الدنيا فلم يأخذها وقال بل أجوع يوما وأشبع يوما فاذا جعت تضرعت اليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك وسأل ربه أن يجعل رزق أهله قوتا كما فى الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا وفيهما عنه قال والذى نفس أبى هريرة بيده ما شبع نبى الله وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا
وفى صحيح البخارى عن أنس رضى الله عنه ما أعلم أن رسول الله رأى رغيفا مرققا ولا شاة سميطا قط حتى لحق بربه وفى صحيحه أيضا عنه قال خرج رسول الله ولم يشبع من خبز الشعير وفى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعا حتى قبض وفى صحيح مسلم عن عمر رضى الله عنه لقد رأيت رسول الله يظل اليوم ما يجد دقلا يملأ بطنه
وفى المسند والترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما كان رسول الله يبيت الليالى المتتابعات طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح وفى الترمذى من حديث أبى أمامة ما كان يفضل أهل بيت رسول الله خبز الشعير وفى المسند عن عائشة رضى الله عنها والذى بعث محمدا بالحق ما رأى منخلا ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه الله
تعالى الى أن قبض قال عروة فقلت فكيف كنتم تأكلون الشعير قالت كنا نقول أف أى ننفخه فيطير ما طار ونعجن الباقى
وفى صحيح البخارى عن أنس قال لقد رهن رسول الله درعه بشعير ولقد سمعته يقول ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى وانهم لتسعة ابيات

وفى مسند الحارث عن أبى أسامة عن أنس أن فاطمة رضى الله عنها جاءت بكسرة خبز الى النبى فقال ما هذه الكسرة يا فاطمة قالت قرص خبزته فلم تطب نفسى حتى أتيتك بهذه الكسرة فقال أما إنه أول طعام دخل فى فم أبيك منذ ثلاثة أيام
وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا عبد الواحد بن أيمن عن ابيه عن جابر رضى الله عنه قال لما حفر رسول الله الخندق أصابهم جهد شديد حتى ربط النبى على بطنه حجرا من الجوع
وقد أسرف أبو حاتم بن حبان فى تقاسيمه فى رد هذا الحديث وبالغ فى إنكاره وقال المصطفى أكرم على ربه من ذلك وهذا من وهمه وليس فى هذا ما ينقص مرتبته عند ربه بل ذلك رفعة له وزيادة فى كرامته وعبرة لمن بعده من الخلفاء والملوك وغيرهم وكأن أبا حاتم لم يتأمل سائر الاحاديث فى معيشة النبى وهل ذلك إلا من أعظم شواهد صدقه فإنه لو كان كما يقول أعداؤه وأعداء ربه أنه ملك طالب ملك ودنيا لكان عيشه عيش الملوك وسيرته سيرتهم ولقد توفاه الله وان درعه مرهونة عند يهودى على طعام أخذه لأهله وقد فتح الله عليه بلاد العرب وجبيت اليه الاموال ومات ولم يترك درهما واحدا ولا دينارا ولا شاة ولا بعيرا ولا عبدا ولا أمة
قال الامام أحمد حدثنا حسين بن محمد بن مطرف عن أبى حازم عن عروة أنه سمع عائشة تقول كان يمر بنا هلال وهلال ما يوقد فى بيت من بيوت رسول الله نار قلت يا خالة فعلى أى شئ كنتم تعيشون قالت على الأسودين التمر والماء وقد تقدم حديث أبى هريرة فى قصة أبى الهيثم ابن النبهان وانه خرج رسول الله من بيته فرأى أبا بكر وعمر رضى الله عنهما فقال ما أخرجكما قالا الجوع قال وأنا والذى نفسى بيده لأخرجنى الذى أخرجكما
وذكر أحمد من حديث مسروق قال دخلت على عائشة فدعت لى بطعام وقالت ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكى الا بكيت قال قلت لم قالت أذكر الحال التى فارق عليها رسول الله الدنيا والله ما شبع فى يوم مرتين من خبز البر

حتى قبض وفيه عنها ما شبع رسول الله من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض والحديثان صحيحان وفيه ايضا عنها ما شبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله عزوجل وفى الصحيحين عن أبى هريرة ما شبع رسول الله وأهله ثلاثا أتباعا من خبز البر حتى فارق الدنيا
وفى الترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال كان النبى يبيت الليالى طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير وفيه أيضا عن أنس عنه لقد اخفت فى الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت فى الله وما يؤذى أحد ولقد أتت على ثلاثون من بين يوم وليلة ومالى ولبلال طعام يأكله ولبد إلا شئ يواريه إبط بلال والحديثان صحيحان وفيه ايضا عن أنس بن مالك رضى الله عنه عن أبى طلحة رضى الله عنه قال شكونا الى رسول الله الجوع ورفعنا عن بطوننا حجرا حجرا فرفع رسول الله عن بطنه حجرين وفيه أيضا عن علقمة عن عبدالله رضى الله عنه قال نام رسول الله على حصير فقام وقد اثر فى جنبه فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال مالى وللدنيا ما أنا فى الدنيا الا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها حديث صحيح وفيه عن على رضى الله عنه قال خرجت فى يوم شات من بيت رسول الله وقد أخذت اهابا معطونا فجوبت وسطه وأدخلته فى عنقى فشددت به وسطى فحزمته بخوص من النخل وانى لشديد الجوع ولو كان فى بيت رسول الله طعام لطعمت منه فخرجت التمس شيئا فمررت بيهودى فى مال له وهو يسقى ببكرة له فاطلعت عليه من ثلمة من الحائط فقال مالك يا أعرابى وهل لك فى كل دلو بتمرة قلت نعم فافتتح الباب حتى أدخل ففتح فدخلت فأعطانى دلوه فكلما نزعت دلوا أعطانى تمرة حتى امتلأت كفى أرسلت دلوه وقلت حسبى فأكلتها ثم جرعت من الماء فشربت ثم جئت الماء فوجدت رسول الله فيه وقال سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه لقد رأيتنا نغزو مع رسول الله ما لنا طعام الا الحبلة وهذا السمر والحبلة ثمر العضاة ذات الشوك وهو حديث صحيح
وكان يصلى من الليل أحيانا وعليه كساء صوف بعضه عليه وبعضه على

عائشة قال الحسن أثمان ستة دراهم أو سبعة وقال أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا أبو زائدة حدثنا عطاء عن أبيه عن على قال جهز رسول الله فاطمة فى خميل وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف والخميل الكساء الذى خمل قال وحدثنا بهز بن اسد حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد قال قال أبو بردة دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء من هذه التى تدعونها الملبدة فقالت قبض رسول الله فى هذين الثوبين
قالوا ولو كان الغنى مع الشكر افضل من الفقر مع الصبر لاختاره رسول الله إذ عرضت عليه الدنيا ولأمره ربه أن يسأله إياه كما أمره أن يسأله زيادة العلم ولم يكن رسول الله ليختار الا ما اختاره الله له ولم يكن الله ليختار له الا الافضل اذ كان افضل خلقه وأكملهم
قالوا وقد أخبر النبى أن خير الرزق ما كان بقدر كفاية العبد فلا يعوزه ما يضره ولا يفضل عنه ما يطغيه ويلهيه
قال الامام أحمد حدثنا ابن مهدى حدثنا همام عن قتادة عن خليد العصرى عن أبى الدرداء قال قال رسول الله ما طلعت شمس قط الا بعث بجنبيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض الا الثقلين يا أيها الناس هلموا الى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ولا آبت شمس قط الا بعث بجنبيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض الا الثقلين اللهم أعط منفقا خلفا واعط ممسكا تلفا
وقال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا أسامة بن زيد عن محمد بن عبد الرحمن ابن ابى لبيبة عن سعد بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله خير الرزق ما يكفى وخير الذكر الخفى
وتأمل جمعه فى هذا الحديث بين رزق القلب والبدن رزق الدنيا والآخرة واخباره أن خير الرزقين ما لم يتجاوز الحد فيكفى من الذكر اخفاؤه فإن زاد على الاخفاء خيف على صاحبه الرياء والتكبر به على الغافلين وكذلك رزق البدن اذا زاد على الكفاية خيف على صاحبه الطغيان والتكاثر
قالوا وقد غبط رسول الله المتقلل من الدنيا ما لم يغبط به الغنى

قال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا على بن صالح عن أبى المهلب عن عبيد الله ابن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة رضى الله عنه قال قال رسول الله ان أغبط أوليائى عندى مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وكان غامضا فى الناس لا يشار اليه بالاصابع فعجلت منيته وقل تراثه وقلت بواكيه قال عبد الله بن أحمد سألت أبى ما تراثه قال ميراثه قالوا وحمية الله لعبده المؤمن عن الدنيا انما هو من محبته له وكرامته قال الامام أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبى عمرو عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد رضى الله عنه أن رسول الله قال ان الله تبارك وتعالى يحمى عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مرضاكم الطعام والشراب تخافون عليهم قالوا وقل أن يقع اعطاء الدنيا وتوسعتها الا استدراجا من الله لا اكراما ومحبة لمن أعطاه
قال الامام أحمد حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشد بن سعد عن حرملة بن عمران النجبى عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر رضى الله عنه عن النبى قال اذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا على معاصيه وما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا قوله تعالى فلما نسو ما ذكروا به فتحنا عليهم ابواب كل شيء الآية قالوا ولهوان الدنيا على الله منعها أكثر أوليائه وأحبائه
قال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن سالم بن ابى الجعد قال قال رسول الله ان من أمتى لو أتى باب احدكم فسأله دينارا لم يعطه اياه ولو سأله فلسا لم يعطه اياه ولو سأل الله تعالى الجنة لأعطاها اياه ولو سأله الدنيا لم يعطها اياه وما يمنعها اياه لهوانه عليه ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وهذا يدل على انه انما يمنعه اياها لهوانها عليه لا لهوانه هو عليه ولهذا يعطيه أفضل منها وأجل فإن الله تعالى يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الآخرة الا من يحب
قالوا وقد اخبرهم النبى أن أقربهم منه مجلسا ذووا التقلل من الدنيا الذين لم يستكثروا منها قال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هرون أخبرنا محمد بن عمرو قال

سمعت عراك بن مالك يقول قال ابو ذر إنى لأقربكم مجلسا من رسول الله يوم القيامة وذلك إنى سمعته يقول ان أقربكم منى مجلسا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئة ما تركته فيها وانه والله ما منكم من أحد الا وقد تشبث منها بشيء غيرى قالوا وقد غبط النبى من كان عيشه كفافا وأخبر بفلاحه قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا حيوة قال أخبرنى أبو هانى أن أبا على الحبشى أخبره أنه سمع فضاله بن عبيد يقول أنه سمع رسول الله يقول طوبى لمن هدى الى الاسلام وكان عيشه كفافا وقنع
وذكر أيضا من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله قال قد أفلح من اسلم رزق كفافا وقنعه الله بما آتاه قالوا ولو لم يكن فى التقلل الا خفة الحساب لكفى به فضلا على الغنى قال عبد الله بن الامام أحمد حدثنا بيان بن الحكم حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنى بشر بن الحارث حدثنا عيسى بن يونس عن هشام عن الحسن قال قال رسول الله ثلاثة لا يحاسب بهن العبد ظل خص يستظل به وكسرة يشد بها صلبه وثوب يوارى عورته
وقال الامام أحمد حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا ليث عن أبى عثمان قال لما افتتح المسلمون جوجى دخلوا يمشون فيها وأكداس الطعام فيها أمثال الجبال وكان رجل يمشى الى جنب سلمان فقال يا أبا عبد الله ألا ترى الى ما فتح الله علينا ألا ترى الى ما أعطانا الله فقال سلمان وما يعجبك مما ترى الى جنب كل حبة مما ترى حساب
قالوا وقد شهد النبى لأصحابه أنهم يوم فقرهم وفاقتهم خير منهم يوم غناهم وبسط الدنيا عليهم قال الامام أحمد حدثنا عبد الصمد أبو الاشهب عن الحسن قال قال نبى الله يا أهل الصفة كيف أنتم قالوا نحن بخير قال أنتم اليوم خير أم يوم تغدو على أحدكم جفنة وتروح أخرى ويغدو فى حلة ويروح فى أخرى وتسترون فى بيوتكم مثل أستار الكعبة قالوا يا نبى الله نحن يومئذ خير يعطينا ربنا تبارك وتعالى فنشكر قال بل أنتم اليوم خير فهذا صريح فى أنهم فى وقت صبرهم على فقرهم خير منهم فى وقت غناهم مع الشكر

وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبن ذر حدثنا حفص بن غياث عن داود بن أبى هند عن أبى حرب بن أبى الاسود عن طلحة البصرى قال قدمت المدينة ولم يكن لى بها معرفة فكان يجرى علينا مد من تمر بين اثنين فصلى بنا رسول الله صلاة فهتف به هاتف من خلفه فقال يا رسول الله قد حرق بطوننا التمر وعرفت عنا الكنف فخطب فحمد الله وأثنى عليه وقال والله لو أجد لكم اللحم والخبز لأطعمتكموه وليأتين عليكم زمان تغدو على أحدكم الجفان وتراح ولتلبسن بيوتكم مثل أستار الكعبة قالوا يا رسول الله نحن اليوم خير منا أو يومئذ قال بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ أنتم اليوم خير منكم يومئذ يضرب بعضكم رقاب بعض
قال الامام أحمد وحدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة قال ذكر لنا أن نبى الله دخل على أهل الصفة فذكر نحوه
قالوا ولو لم يكن فى الغنى والمال الا أنه فتنة وقل من سلم من اصابتها له وتأثيرها فى دينه كما قال تعالى انما أموالكم وأولادكم فتنة وفى الترمذى من حديث كعب ابن عياض قال سمعت رسول الله يقول ان لكل أمة فتنة وفتنة أمتى المال قال هذا حديث حسن صحيح قالوا والمال يدعو الى النار والفقر يدعو الى الجنة قال الامام أحمد حدثنا يزيد حدثنا أبو الاشهب حدثنا سعيد بن أيمن مولى كعب بن سور قال بينا رسول الله يحدث أصحابه اذ جاء رجل من الفقراء فجلس الى جنب رجل من الاغنياء فكأنه قبض من ثيابه عنه فقال رسول الله أخشيت يا فلان أن يغدو وغناك عليه أو يغدو فقره عليك قال يا رسول الله وشر الغنى قال نعم ان غناك يدعوك الى النار وان فقره يدعوه الى الجنة قال فما ينجينى منه قال تواسيه قال اذن افعل فقال الآخر لا أرب لى فيه قال فاستغفر وادع لأخيك
قالوا وحق الغنى أعظم من أن يقوم العبد بشكره وقد روى الترمذى فى جامعه من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه أن النبى قال ليس لابن آدم حق فى سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يوارى به عورته وجلف الخبز والماء

قال هذا حديث حسن صحيح وفى صحيح مسلم عن أبى أمامة رضى الله عنه قال قال رسول الله يا ابن آدم انك ان تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى
وفى صحيحه أيضا من حديث أبى نضرة عن أبى سعيد رضى الله عنه قال بينما نحن فى سفر مع رسول الله اذ جاء رجل على راحلة له فجعل يضرب يمينا وشمالا فقال رسول الله من كان معه فضل من ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان عنده فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا فى فضل
قالوا فهذا موضع النظر فى تفضيل الغنى الشاكر ببذل الفضل كله وأما غنى يمتع بأنواع الفضل ويشكر بالواجب وبعض المستحب فكيف يفضل على فقير صابرا راض عن الله فى فقره قالوا وقد أقسم رسول الله لأصحابه وهم أئمة الشاكرين أنه لا يخاف عليهم الفقر وانما يخاف عليهم الغنى ففى الصحيحين من حديث عمرو بن عوف وكان شهد بدرا أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح الى البحرين يأتى بجزيتها وكان رسول الله صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمى فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الانصار بقدوم أبى عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله فلما صلى رسول الله انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله حين رآهم ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشئ من البحرين فقالوا أجل يا رسول الله قال أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكنى أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوا فيها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم
قال الامام أحمد حدثنا روح حدثنا هشام عن الحسن قال قيل لأبى ثعلبة الخشنى أين دنياكم والتى كنتم تعدون يا أصحاب محمد قال ليبشر الآخر بدنيا قد ظلت تأكل والله الذى لا اله الا هو الايمان كما تأكل النار الحطب الجزل وقال أحمد حدثنا يزيد حدثنا هشام بن حسان قال سمعت الحسن يقول والله ما أحد من الناس بسط الله له دنياه فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها الا كان قد نقص علمه

وعجز رأيه وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه
قالوا وقد مر على النبى فقير وغنى فقال عن الفقير هذا خير من ملء الأرض مثل هذا وروى البخارى فى صحيحه عن سهل بن سعد رضى الله عنه قال مر رجل على رسول الله فقال ما تقولون فى هذا فقالوا جرى ان خطب أن ينكح وان شفع أن يشفع وان قال أن يسمع قال ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين فقال ما تقولون فى هذا قالوا حرى ان خطب أن لا ينكح وان يشفع الأيشفع وان قال ان لا يسمع لقوله فقال رسول الله هذا خير من ملء الارض مثل هذا
وقد بشر رسول الله الفقراء الصابرين بما لم يبشر به الأغنياء ففى الترمذى من حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم فىالصلاة من الخصاصة وهم أصحاب الصفة حتى يقول الاعراب هؤلاء مجانين فإذا صلى رسول الله انصرف اليهم وقال لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة قال فضالة وأنا يومئذ مع رسول الله وبشرهم بسبقهم الاغنياء الى الجنة
وقد اختلفت الروايات فى مدة هذا السبق ففى صحيح مسلم عن عبد الله ابن عمر أنه جاء ثلاثة نفر فقالوا يا أبا محمد والله ما نقدر على شئ لا نفقة ولا دابة ولا متاع فقال لهم ما شئتم ان شئتم رفعتم الينا فأعطيناكم ما يسر الله لكم وان شئتم ذكرنا أمركم للسلطان وان شئتم صبرتم فإنى سمعت رسول الله يقول ان فقراء المهاجرين يسبقون الاغنياء يوم القيامة بأربعين خريفا قالوا نصبر ولا نسأل شيئا
وقال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن بن سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله قال يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام قال الترمذى حديث حسن صحيح وفى الترمذى أيضا من حديث أبى سعيد قال قال رسول الله فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم

بخمسمائة سنة وهو حديث حسن وفيه وأيضا من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه عن النبى قال يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا وهو حديث حسن وهو موافق لحديث عبد الله بن عمر ولحديث أنس الذى فى الترمذى ان المساكين يدخلون قبل الاغنياء باربعين خريفا
فهؤلاء ثلاثة جابر وأنس وعبد الله بن عمر وقد اتفقوا على الاربعين وهذا أبو هريرة وأبو سعيد قد اتفقا على التقدير بخمسمائة سنة ولا تعارض بين هذه الاحاديث إذ التأخر والسبق درجات بحسب الفقر والغنى فمنهم من يسبق باربعين ومنهم من يسبق بخمسمائة ولا يتقيد السبق بهذا المقدار بل يزيد عليه وينقص وقد روى أبو داود فى سننه من حديث أبى هريرة عن النبى أن أول الامة دخولا الى الجنة أبو بكر الصديق رضى الله عنه ومعلوم أن المدة التى بينه وبين اخوانه من فقراء المهاجرين لا تطول وانها أطول مدة بين دخوله وبين دخول آخر من يدخل الجنة
وقد روى الامام أحمد فى مسنده من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنه عن النبى أنه قال هل تدرون أول من يدخل الجنة قالوا الله ورسوله أعلم قال فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء تقول الملائكة يا ربنا ملائكتك وخزنتك وسكان سماواتك لا تدخلهم الجنة قبلنا فيقول عبادى لا يشركون بى شيئا يتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء فعند ذلك تدخل عليهم الملائكة من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار
وقال الامام أحمد حدثنا حسين بن محمد ثنا دويد عن مسلم بن بشير عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله التقى مؤمنان على باب الجنة مؤمن غنى ومؤمن فقير كانا فى الدنيا فأدخل الفقير الجنة وحبس الغنى ما شاء الله أن يحبس ثم أدخل الجنة فلقيه الفقير فيقول أى أخى ماذا حبسك والله لقد احتبست حتى خفت عليك فيقول أى أخى انى حبست بعدك محبسا فظيعا كريها ما وصلت اليك حتى سال منى من العرق ما لو ورده ألف بعير كلها أكلت

حمضا لصدرت عنه رواء رواه وقال الطبرانى فى معجمه حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمى وعلى بن سعيد الرازى قالا حدثنا على بن بهرام العطار حدثنا عبد الملك ابن أبى كريمة عن الثورى عن محمد بن زيد عن أبى حازم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول إن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة فقال رجل أمنهم أنا يا رسول الله قال إن تغديت رجعت على عشاء وإذا تعشيت يبيت معك غداء قال نعم قال لست منهم فقام رجل فقال أمنهم أنا يارسول الله قال هل سمعت ما قلنا لهذا قال نعم ولست كذلك قال هل تجد ثوبا ستيرا سوى ما عليك قال نعم قال فلست منهم فقام آخر فقال أمنهم أنا يا رسول الله فقال هل سمعت ما قلت لهذين قبلك قال نعم قال هل تجد قرضا كلما شئت أن تستقرض قال نعم قال فلست منهم فقام آخر فقال أمنهم أنا يارسول الله فقال هل سمعت ما قلت لهؤلاء قال نعم قال تقدر ان تكتسب قال نعم قال فلست منهم قال فقام خامس فقال أنا منهم يا رسول الله فقال هل سمعت ما قلت لهؤلاء قال نعم قال هل تمسى عن ربك راضيا وتصبح كذلك قال نعم قال فأنت منهم قال النبى ان سادات المؤمين فى الجنة من اذا تغدى لم يجد عشاء واذا تعشى لم يبت عنده غداء وان استقرض لم يجد قرضا وليس له فضل كسوة إلا ما يوارى به مالا يجد منه بدا ولا يقدر على أن يكتسب ما يعشيه ويمسى عن الله راضيا ويصبح راضيا أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا قال الطبرانى هذا حديث غريب من حديث سفيان الثورى عن محمد بن زيد يقال هو العبدى تفرد به عبد الملك
قلت محمد هذا هو العبدى وثقه قوم وضعفه آخرون قال الداقطنى ليس بالقوى وقال أبو حاتم صالح الحديث وذكره ابن حبان فى الثقات وروى له الترمذى وابن ماجه وفى هذه الطبقة محمد بن زيد الشامى يروى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن وهو متروك ونخاف أن يكون هذا هو الثورى لم ينسبه وانما يقال هو العبدى والله أعلم

وقال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن ابراهيم حدثنا هشام الدستوائى عن يحيى ابن أبى كثير عن عامر العقيلى عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله عرض على أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد وعبد مملوك لم يشغله رق الدنيا عن طاعة ربه وفقير متعفف ذو عيال وأما أول ثلاثة يدخلون النار فأمير مستلط وذو ثروة من مال لا يؤدى حق الله فى ماله وفقير فخور وروى الترمذى منه ذكر الثلاثة الذين يدخلون الجنة فقط
قالوا ويكفى فى فضل الفقير أن عامة أهل الجنة الفقراء وعامة أهل النار الاغنياء قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن محمد بن أبى شيبة حدثنا شريك عن ابى اسحاق عن السائب بن مالك عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله أطلعت فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت فى النار فرأيت أكثر اهلها الأغنياء والنساء
وفى صحيح البخارى عن أبى رجاء قال جاء عمران بن حصين الى امرأته من عند رسول الله فقالت حدثنا ما سمعت من النبى فقال انه ليس من حديث فلم تدعه أو قال فأغضبته فقال سمعت رسول الله يقول نظرت فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ونظرت فى النار فرأيت أكثر أهلها النساء
وفى الصحيحين من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله قال قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء وفى صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبى اطلع فى النار فرأى أكثر أهلها النساء واطلع فى الجنة فرأى أكثر أهلها الفقراء
قالوا ويكفى فى فضل الفقر أن كل أحد يتمناه يوم القيامة من الاغنياء قال الامام احمد حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا اسماعيل يعنى ابن خالد عن نفيع عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله ما من أحد يوم القيامة غنى ولا فقير الا ود أن ما كان أوتى فى الدنيا قوتا قال البخارى يتكلمون فى نفيع وهذا أليق ما قيل فيه

قالوا وقد صرح رسول الله فى تفضيل الفقراء فى غير حديث فمنها ما تقدم من حديث سهل بن سعد وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاويه حدثنا الاعمش عن زيد بن وهب عن أبى ذر رضى الله عنه قال قال رسول الله يا أبا ذر ارفع بصرك فانظر أرفع رجل تراه فى المسجد قال فنظرت فإذا رجل جالس عليه حلة له قال فقلت هذا قال فقال يا أبا ذر ارفع بصرك فانظر أوضع رجل تراه في المسجد قال فنظرت فاذا رجل ضعيف عليه أخلاق قال فقلت هذا قال فقال رسول الله والذى نفسى بيده لهذا أفضل عند الله يوم القيامة من قراب الارض من هذا
قال حدثنا وكيع ووافقه زائد حدثنا الاعمش عن سليمان بن يسار عن خرشة ابن الحر عن أبى ذر فذكره وقال لهذا خير عند الله يوم القيامة من ملء الارض مثل هذا قال الامام أحمد وحدثنا أبو معاوية ووافقه يعلى قال حدثنا الاعمش عن زيد بن وهب عن أبى ذر فذكره
قالوا والذى يفصل بيننا فى هذه المسألة ويشفى العليل أن الفقر يوفر أجر صاحبه ومنزلته عند الله والغنى ولو شكر فإن ما ناله فى الدنيا بغناه يحسب عليه من ثوابه يوم القيامة وان تناوله بأحل وجه فقليل الفضل فى الدنيا ناقص من كثير الآخرة وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله قال ما من غازية تغزو فى سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثى أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وان لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم
وفى الصحيحين عن خباب بن الارت رضى الله عنه قال هاجرنا مع رسول الله نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير رضى الله عنه قتل يوم أحد وترك بردة فكنا اذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجلاه بدا رأسه فأمرنا رسول الله أن نغطى رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الاذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها وفى الصحيحين عن قيس بن أبى حازم قال دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال ان أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا وذكر الحديث

وقال سعيد بن منصور حدثنا معاوية عن الاعمش عن مجاهد عن ابن عمر رضى الله عنهما قال ما أوتى عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله وان كان عليه كريما
وفى صحيح البخارى عن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال أوتى عبد الرحمن رضى الله عنه بطعام وكان صائما فقال قتل مصعب بن عمير وهو خير منى وكفن فى بردة ان غطى رأسه بدت رجلاه وان غطى رجلاه بدا رأسه وقتل حمزة رضى الله عنه وهو خير منى فلم يوجد له كفن إلا بردة ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيباتنا فى حياتنا الدنيا ثم جعل يبكى حتى ترك الطعام
قال أبو سعيد بن الاعرابى وليس عبد الرحمن بن عوف وخباب قالا ذلك دون غيرهما لقد قاله الأكابر من أصحاب رسول الله وكرهوا ما فتح الله عليهم من الدنيا وأشفقوا منه وعلموا أن ما اختاره الله لنبيه كان أفضل وأن ما أخروا له كان أنقص منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وأبو عبيدة وعمار بن ياسر وسلمان وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وأبو هاشم بن عتبة وجماعة لم نذكرهم للاختصار رضى الله عنهم
فأما أبو بكر رضى الله عنه فحدثنا ابن ابى الدنيا حدثنا عبد الرحمن بن ابان الطائى حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد الواحد بن زيد حدثنى سلمان عن مرة عن زيد بن أرقم رضى الله عنه قال كنا مع أبى بكر الصديق رضى الله عنه فدعا بشراب فأتى بماء وعسل فلما أدناه من فيه بكى وبكى حتى أبكى أصحابه فسكتوا وما سكت ثم عاد وبكى حتى ظنوا أنهم لم يقدروا على مسألته قال ثم مسح عينيه فقالوا يا خليفة رسول الله ما أبكاك فقال كنت مع رسول الله فرأيته يدفع عن نفسه شيئا ولم أر معه أحدا فقلت يا رسول الله ما الذى تدفع عن نفسك قال هذه الدنيا مثلت لى فقلت لها اليك عنى ثم رجعت فقالت انك ان أفلت منى فلن يفلت منى من بعدك
وذكر ليث عن ابن سعد عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن

عوف عن أبيه أن أبا بكر رضى الله عنه قال فى مرضه الذى مات فيه إنى وليت أمركم وانى لست بخيركم وكلكم ورم أنفه من ذلك أن يكون هذا الامر له وذلك لما رأيت الدنيا قد أقبلت وأقبلت ولم تقبل حتى يتخذوا نضائد الحرير وستور الديباج وحتى يألم أحدكم من الاضطجاع على الصوف كما يألم من الاضطجاع على الحسك والسعدان ثم أنتم أول ضال بالناس تصفقون يمينا وشمالا ما هذا الطريق أخطأت انما هو البحر أو الفجر والله لئن يقدم أحدكم فتضرب عنقه فى غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا
وذكر محمد بن عطاء بن خباب قال كنت جالسا مع أبى بكر فرأى طائرا فقال طوبى لك يا طائر تأكل من هذا الشجر ثم تبعر ثم لا تكون شيئا وليس عليك حساب وددت أنى مكانك فقلت له أتقول هذا وأنت صديق رسول الله
وأما عمر رضى الله عنه فإنه لما اتى بكنوز كسرى بكى فقال له عبد الرحمن ابن عوف ما الذى يبكيك يا أمير المؤمنين فوالله ان هذا ليوم شكر ويوم سرور ويوم فرح فقال عمر ان هذا لم يعطه قوم الا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء ودخل عليه أبو سنان الدؤلى وعنده نفر من المهاجرين فأرسل عمر الى سفط أتى به من قلعة بالعراق وكان فيه خاتم فأخذه بعض ولده فأدخله فى فيه فانتزعه عمر منه ثم بكى فقال له من عنده لم تبكى وقد فتح الله لك وأظهرك وأقر عينك فقال سمعت رسول الله يقول لا تفتح الدنيا على أحد الا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة وأنا مشفق من ذلك
قال أبو سعيد وجدت فى كتاب بخط يدى عن أبى داود قال حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد حدثنا يونس عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أتى بقلنسوة بغزوة كسرى بين يديه وفى القوم سراقة بن مالك فألقى اليه سوارى كسرى فجعلهما فى يديه فبلغا منكبيه فلما رآهما فى يد سراقة قال الحمد لله سوارا كسرى بن هرمز فى يد سراقة بن مالك بن جعشم أعرابى من بنى مدلج ثم قال اللهم قد علمت أن رسولك قد كان يحب أن يصيب مالا فينفقه فى سبيلك وعلى عبادك فزويت ذلك عنه نظرا منك له واختيارا اللهم انى أعوذ بك أن يكون هذا مكر منك بعمر

ثم قال أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون
والمقصود أن سعة الدنيا وبسطها تعجيل من أجل الآخرة وتضييق من سعتها قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهرى عن ابن أبى صغيرة عن جابر بن عبدالله رضى الله عنهما قال لما كان يوم أحد أشرف النبى على الشهداء الذين قتلوا يومئذ فقال انى شهيد على هؤلاء فزملوهم بدمائهم قال معمر وأخبره فيمن سمع الحسن يقول قال النبى هؤلاء قد مضوا وقد شهدت عليهم لم يأكلوا من أجورهم شيئا وانكم قد أكلتم من أجوركم وانى لا أدرى ما تحدثون بعدى
وقال ابن المبارك أخبرنا جرير بن حازم قال سمعت الحسن يقول خرج رسول الله بأصحابه الى بقيع الغرقد فقال السلام عليكم يا أهل القبور لو تعلمون ما نجاكم الله منه مما هو كائن بعدكم ثم أقبل على أصحابه فقال هؤلاء خير منكم فقالوا يا رسول الله اخواننا أسلمنا كما أسلموا وهاجرنا كما هاجروا وجاهدنا كما جاهدوا وأتوا على آجالهم فمضوا فيها وبقينا فى آجالنا فما يجعلهم خيرا منا فقال ان هؤلاء خرجوا من الدنيا ولم يأكلوا من أجورهم شيئا وخرجوا وأنا شهيد عليهم وأنتم قد أكلتم من أجوركم ولا أدرى ما تحدثون بعدى قال فلما سمعها القوم والله عقلوها وانتفعوا بها فقالوا وانا لمحاسبون بما أصبنا من الدنيا بعدهم وانه لمنتقص به من أجورنا فأكلوا طيبا وأنفقوا قصدا وقدموا فضلا
وقال عبد الله بن أحمد قرأت على ابى هذا الحديث حدثنا اسود بن عامر حدثنا اسرائيل عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قال ما أعطى رجل من الدنيا الا نقص من درجته
قالوا وقد صرح سادات الاغنياء بأنهم ابتلو بالضراء فصبروا وابتلوا بالسراء فلم يبصروا قال ذلك عبد الرحمن وغيره وكان هذا مصداقا لما رواه مصعب بن سعد عن ابيه قال قال رسول الله لأنا من فتنة السراء أخوف عليكم من فتنة الضراء أنكم ابتليتم بالضراء فصبرتم وان الدنيا حلوة خضرة
قالوا وها هنا قضيتان صادقتان بهما يتبين الفضل احداهما أن الاكثرين هم الاقلون وقد تقدم الدليل عليها بما فيه الكفاية

وأما الثانية ففى الصحيحين من حديث أبى ذر رضى الله عنه قال خرجت ليلة من الليالى فإذا رسول الله يمشى وحده ليس معه انسان قال فظننت أنه يكره أن يمشى معه أحد فجعلت أمشى فى ظل القمر فالتفت فرآنى فقال من هذا قلت أبو ذر جعلنى الله فداك قال يا أبا ذر تعال فمشيت معه ساعة فقال ان المكثرين هم المقلون يوم القيامة الا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا وذكر الحديث
قالوا ولو كان الغنى افضل من الفقر لما حض الله رسوله على الزهد فى الدنيا والاعراض عنها وذم الحرص عليها والرغبة فيها بل كان ينبغى أن يحض عليها وعلى اكتسابها والاكثار منها كما حض على اكتساب الفضائل التى بها كمال العبد من العلم والعمل فلما حض على الزهد فيها والتقلل دل على أن الزاهدين فيها المتقللين منها أفضل الطائفتين وقد أخبر أنها لو ساوت عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء وأنها أهون على الله من السخلة الميتة على أهلها وان مثلها فى الآخرة كمثل ما يعلق بأصبع من أدخل أصبعه فى البحر وأنها ملعونة ملعون ما فيها الا ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم وأنها سجن المؤمنين وجنة الكافرين وأمر العبد أن يكون فيها كأنه غريب أو عابر سبيل ويعد نفسه من أهل القبور واذا أصبح فلا ينتظر المساء واذا أمسى فلا ينتظر الصباح ونهى عن اتخاذ ما يرغب فيها ولعن عبد الدينار وعبد الدرهم ودعا عليه بالتعس والانتكاس وعدم اقالة العثرة بالانتقاش
وأخبر أنها خضرة حلوة أى تأخذ العيون بخضرتها والقلوب بحلاوتها وأمر باتقائها والحذر منها كما يتقى النساء ويحذر منهن وأخبر أن الحرص عليها وعلى الرياسة والشرف يفسد الدين كإفساد الذئبين الضاربين اذا ارسلا فى زريبة غنم أو أشد افسادا وأخبر أنه فى الدنيا كراكب استظل تحت شجرة فى يوم صائف ثم راح وتركها
وهذه في الحقيقة حال سكان الدنيا كلهم ولكن هو شهد هذه الحال وعمى عنها بنو الدنيا ومر بهم وهم يعالجون خصا لهم قد وهى فقال ما أرى الأمر ألا أعجل

من ذلك وأمر بستر على بابه فنزع وقال انه يذكرنى الدنيا وأعلم الناس أنه ليس لأحد منهم حق فى سوى بيت يسكنه وثوب يوارى عورته وقوت يقيم صلبه وأخبر أن الميت يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله وأخبر أن للمتخوض فيما شاءت نفسه من مال الله بغير حق النار يوم القيامة وأقسم أنه لا يخاف الفقر على أصحابه وانما يخاف عليهم الدنيا وتنافسهم فيها وإلهائها لهم وأخبر أنه ليس لابن آدم من ماله إلا ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو تصدق فأمضى وأخبر أن حسب ابن آدم من الدنيا لقيمات يقمن صلبه فإن لم يقتصر عليها فثلث بطنه لطعامه وثلثه لشرابه وثلثه لنفسه وفى هذا الحديث الارشاد إلى صحة القلب والبدن والدين والدنيا
وأخبر أن غنى العبد فيها غنى نفسه لا كثرة عرضه وسأل الله أن يجعل رزقه فيها قوتا وغبط من كان رزقه فيها كفافا بعد أن هدى للاسلام وأخبر أن من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وشتت عليه شمله ولم يأته منها إلا ما كتب له وعرض عليه ربه أن يجعل له بطحاء مكة ذهبا فقال لا يارب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت اليك وذكرتك واذا شبعت حمدتك وشكرتك وأعلمهم أن من أصبح منهم آمنا فى سربه معافى فى جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا
وأخبر أن بذل العبد ما فضل عن حاجته خير له وإمساكه شر له وأنه لا يلام على الكفاف ونهى أمته أن ينظر أحدهم الى من هو فوقه فى الدنيا وأمره أن ينظر الى من هو دونه فى الدنيا وأخبر أنه لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة وضر مثلها مثل ما يخرج من ابن آدم عند خلائه وان كان أوله طيبا لذيذا فهذا آخره وأخبر أن عباد الله ليسوا بالمتنعمين فيها فإن أمامهم دار النعيم فهم لا يرضون بنعيمهم فى الدنيا عوضا من ذلك النعيم
وأخبر أن نجاة أول هذه الأمة بالزهد واليقين وهلكة آخرها بالبخل وطول الأمل وكان يقول لبيك لا عيش الا عيش الآخرة وأخبر أنه تعالى اذا أحب عبدا حماه الدنيا كما يحمى الانسان مريضه من الطعام والشراب ودخل على عثمان

ابن مظعون وهو فى الموت فاكب عليه يقبله ويقول رحمك الله يا عثمان ما أصبت من الدنيا ولا أصابت منك فغبطه بذلك وكان يقول الزهد فى الدنيا يريح القلب والبدن والرغبة فى الدنيا تطيل الهموم والحزن وكان يقول من جعل الهموم كلها هما واحدا كفاه الله سائر همومه ومن تشعبت به الهموم فى أحوال الدنيا لم يبال الله فى أى أوديتها هلك
وأخبر أنه يؤتى يوم القيامة بأنعم الناس كان فى الدنيا فيقول الله
تعالى اصبغوه فى النار صبغة ثم يؤتى به فيقول يا ابن آدم هل أصبت نعيما قط هل رأيت قرة عين قط هل أصبت سرورا قط فيقول لا وعزتك ثم يقول ردوه الى النار ثم يؤتى بأشد الناس كان بلاء فى الدنيا وأجهده جهدا فيقول تبارك وتعالى اصبغوه فى الجنة صبغة فيصبغ فيها ثم يؤتى به فيقول يا ابن آدم هل رأيت ما تكره قط فيقول لا وعزتك ما رأيت شيئا قط اكرهه
وفى حديث مناجاة موسى الذى رواه الامام أحمد فى كتاب الزهد حدثنا اسماعيل بن عبد الكريم بن معقل حدثنا عبد الصمد بن معقل قال سمعت وهب ابن منبه فذكره وفيه ولا تعجبكما زينته ولا ما متع به ولا تمدان الى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين وانى لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر اليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت ولكنى أرغب بكما عن نعيمها ذلك وازويه عنكما وكذلك أفعل بأوليائى وقديما ما خرت لهم فى ذلك فإنى لاذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعى الشفيق غنمه عن مراعى الهلكة وانى لأجنبهم سلوتها وعيشها كما يجنب الراعى الشفيق ابله عن مبارك الغرة وما ذلك لهوانهم على ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتى سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطغه الهوى
واعلم انه لم يتزين لى العباد بزينة هى أبلغ من الزهد فى الدنيا فإنها زينة المتقين عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع سماهم فى وجههم من أثر السجود أولئك أوليائى حقا فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل لهم قلبك ولسانك وذكر الحديث

وقال أحمد حدثنا عون بن جابر قال سمعت محمد بن داود عن أبيه عن وهب قال قال الحواريون يا عيسى من أولياء الله الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون قال الذين نظروا الى باطن الدنيا حين نظر الناس الى عاجلها فأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم فصار استكثارهم منها استقلالا وذكرهم إياها فواتا وفرحهم بما اصابوا منها حزنا فما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها وخربت بينهم فليسوا يعمرونها وماتت فى صدورهم فليسوا يحيونها يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم رفضوها فكانوا بها هم الفرحين ونظروا الى أهلها صرعى قد حلت بهم المثلات فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره ويضيئون به لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه عملوا ليسوا يرون نائلا مع ما نالوا ولا أمانا دون ما يرجون ولا خوفا دون ما يحذرون
وحدثنا روح حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال قيل لعيسى بن مريم يا رسول الله لو اتخذت حمارا تركبه لحاجتك قال أنا أكرم على الله من أن يجعل لى شيئا يشغلنى به وقال اجعلوا كنوزكم فى السماء فإن قلب المرء عند كنزه وقال اتقوا فضول الدنيا فإن فضول الدنيا عند الله رجز وقال يا بنى اسرائيل اجعلوا بيوتكم كمنازل الأضياف فما لكم فى العالم من منزل ان أنتم إلا عابرى سبيل وقال يا معشر الحواريين ايكم يستطيع أن يبنى على موج البحر دارا قالوا ياروح الله من يقدر على ذلك قال اياكم والدنيا فلا تتخذوها قرارا وقال أكل الخبز البر وشرب ماء عذب ونوم على المزابل مع الكلاب كثير لمن يريد أن يرث الفردوس
قال أحمد وحدثنا بهز عن الاعمش عن خيثمة قال قال المسيح بشدة ما يدخل الغنى الجنة وقال المسيح حلاوة الدنيا مرارة الاخرة ومرارة الدنيا حلاوة الاخرة وقال يا بنى اسرائيل تهاونوا بالدنيا تهن عليكم وأهينوا الدنيا تكرم عليكم الاخرة ولا تكرموا الدنيا تهن عليكم الاخرة فإن الدنيا ليست بأهل الكرامة وكل يوم تدعو

الى الفتنة والخسارة وقال اسحق بن هانئ فى مسائلة قال أبو عبد الله وأنا أخرج من داره قال الحسن أهينوا الدنيا فوالله لأهنأ ما تكون حين تهان وقال الحسن والله ما أبالى شرقت أم غربت قال وقال لى أبو عبد الله يا اسحق ما أهون الدنيا على الله تعالى وقال الدنيا قليلها يجزى وكثيرها لا يجزى
قالوا وقد تواتر عن السلف أن حب الدنيا رأس الخطايا وأصلها وقد روى فيه حديث مرفوع لا يثبت ولكنه يروى عن المسيح قال عبد الله بن احمد حدثنا عبيد الله بن عمر القواريرى حدثنا معاذ بن هشام حدثنى ابى عن بديل بن ميسرة قال حدثنى جعفر بن خرفاش أن عيسى بن مريم عليه السلام قال رأس الخطيئة حب الدنيا والنساء حبالة الشيطان والخمر جماع كل شر
وقال الامام أحمد حدثنا عمر بن سعد أبو داود الحفرى عن سفيان قال كان عيسى بن مريم يقول حب الدنيا أصل كل خطيئة والمال فيه داء كثير قالوا وما داؤه قال لا يسلم من الفخر والخيلاء قالوا فان سلم قال يشغله اصلاحه عن ذكر الله عزوجل قالوا وذلك معلوم بالتجربة والمشاهدة فان حبها يدعو الى خطيئة ظاهرة وباطنة ولا سيما خطيئة يتوقف تحصيلها عليها فيسكر عاشقها حبها عن علمه بتلك الخطيئة وقبحها وعن كراهتها واجتنابها وحبها يوقع فى الشبهات ثم فى المكروهات ثم فى المحرمات وطالما أوقع فى الكفر بل جميع الأمم المكذبة لأنبيائهم انما حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدنيا فان الرسل لما نهوهم عن الشرك والمعاصى التى كانوا يكسبون بها الدنيا حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم فكل خطيئة فى العالم أصلها حب الدنيا ولا تنس خطيئة الأبوين قديما فإنما كان سببها حب الخلود فى الدنيا ولا تنس ذنب ابليس وسببه حب الرياسة التي محبتها شر من محبة الدنيا وبسببها كفر فرعون وهامان وجنودهما وأبو جهل وقومه واليهود فحب الدنيا والرياسة هو الذى عمر النار بأهلها والزهد فى الدنيا والرياسة هو الذى عمر الجنة بأهلها والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير وصاحب هذا السكر لا يفيق منه الا فى ظلمة اللحد ولو انكشف عنه غطاؤه فى الدنيا لعلم ما كان فيه من السكر وانه اشد من سكر الخمر والدنيا تسحر العقول أعظم سحر

قال الإمام أحمد حدثنا سيار حدثنا جعفر قال سمعت مالك بن دينار يقول اتقوا السحارة اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء
وقال يحيى بن معاذ الرازى الدنيا خمر الشيطان من سكر منها فلا يفيق إلا فى عسكر الموتى نادما بين الخاسرين وأقل ما فى حبها أنه يلهى عن حب الله وذكره ومن الهاه ماله عن ذكر الله فهو من الخاسرين وإذا لها القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان وصرفه حيث اراد ومن فقهه فى الشر أنه يرضيه ببعض أعمال الخير ليريه أنه يفعل فيها الخير وقد تعبد لها قلبه فأين يقع ما يفعله من البر مع تعبده لها وقد لعنه رسول الله ودعا عليه فقال لعن عبد الدينار والدرهم وقال تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم ان أعطى رضى وإن منع سخط وهذا تفسير منه وبيان لعبوديتها وقد عرضت الدنيا على النبى بحذافيرها وتعرضت له فدفع فى صدرها باليدين وردها على عقبيها ثم عرضت بعده على أصحابه وتعرضت لهم فمنهم من سلك سبيله ودفعها عنه وهم القليل ومنهم من استعرضها وقال ما فيك قالت فى الحلال والشبهة والمكروه والحرام فقالوا هاتى حلالك ولا حاجة لنا فيما عداه فأخذوا حلالها ثم تعرضت لمن بعدهم فطلبوا حلالها فلم يجدوه فطلبوا مكروهها وشبهها فقالت قد أخذه من قبلكم فقالوا هاتى حرامك فأخذوه فطلبه من بعدهم فقالت هو فى أيدى الظلمة قد استأثروا به عليكم فتحيلوا على تحصيله منهم بالرغبة والرهبة فلا يمد فاجر يده الى شئ من الحرام إلا وجد أفجر منه وأقوى قد سبقه اليه هذا وكلهم ضيوف وما بأيديهم عارية كما قال ابن مسعود رضى الله عنه ما أصبح أحد فى الدنيا إلا ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مؤادة
قالوا وانما كان حب الدنيا رأس الخطايا ومفسدا للدين من وجوه أحدها أن حبها يقتضى تعظيمها وهى حقيرة عند الله ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقر الله وثانيها أن الله لعنها ومقتها وأبغضها إلا ما كان له فيها ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للفتنة ومقته وغضبه وثالثها انه اذا أحبها صيرها غايته وتوسل اليها بالأعمال التى جعلها الله وسائل اليه والى الدار الآخرة فعكس الأمر وقلب الحكمة فانعكس قلبه وانعكس سيره الى وراء فها هنا أمران أحدهما جعل الوسيلة

غاية والثانى التوسل بأعمال الآخرة إلى الدنيا وهذا شر معكوس من كل وجه وقلب منكوس غاية الانتكاس وهذا هو الذى انطبق عليه حذو القذة بالقذة قوله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف اليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم فى الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون وقوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا وقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب فهذه ثلاث آيات يشبه بعضها بعضا وتدل على معنى واحد وهو أن من أراد بعمله الدنيا وزينتها دون الله والدار الآخرة فحظه ما اراد وهو نصيبه ليس له نصيب غيره
والاحاديث عن رسول الله مطابقة لذلك مفسرة له كحديث أبى هريرة رضى الله عنه فى الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار الغازى والمتصدق والقارئ الذين أرادوا بذلك الدنيا والنصيب وهو فى صحيح مسلم
وفى سنن النسائى عن أبى أمامة رضى الله عنه قال جاء رجل الى النبى فقال يا رسول الله رجل غزا يلتمس الأجر والذكر ما له فقال رسول الله لا شئ له فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله لا شئ له ثم قال إن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصا وابتغى به وجهه فهذا قد بطل أجره وحبط عمله مع أنه قصد حصول الأجر لما ضم اليه قصد الذكر بين الناس فلم يخلص عمله لله فبطل كله
وفى مسند الامام أحمد عن أبى هريرة أن رجلا قال يارسول الله الرجل يريد الجهاد فى سبيل الله وهو يبتغى عرض الدنيا فقال له رسول الله لا أجر له فأعظم الناس ذلك وقالوا للرجل عد لرسول الله لعله لم يفهم فعاد فقال يا رسول الله الرجل يريد الجهاد فى سبيل الله وهو يبتغى عرض الدنيا فقال رسول الله لا أجر له ثم أعاد الثالثة فقال رسول الله لا أجر له
وفى المسند ايضا وسنن النسائى عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال ان رسول الله قال من غزا فى سبيل الله عزوجل وهو لا ينوى فى غزاته إلا عقالا فله ما نوى

وفى المسند والسنن عن يعلى بن منبه قال كان رسول الله يبعثنى فى سرايا فبعثنى ذات يوم فى سرية وكان رجلا يركب بغلا فقلت له ارحل فإن النبى قد بعثنى فى سرية فقال ما أنا بخارج معك حتى تجعل لى ثلاثة دنانير ففعلت فلما رجعت من غزاتى ذكرت ذلك لرسول الله فقال النبى ليس له من غزاته هذه ومن دنياه وآخرته الا ثلاثة دنانير
وفى سنن أبى داود أن عبد الله بن عمر رضى الله عنه قال يا رسول الله أخبرنى عن الجهاد والغزو فقال يا عبد الله بن عمر ان قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا وان قاتلت مرائيا مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا يا عبد الله بن عمر على أى حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تلك الحال
وفى المسند والسنن عن ابى ايوب رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول انها ستفتح عليكم الامصار وتضربون فيها بعوثا فيكره الرجل منكم البعث فيخلص من قومه ويعرض نفسه على القبائل يقول من أكفيه بعث كذا وكذا إلا وذلك الأجير الى آخر قطرة من دمه فانظر محبة الدنيا ماذا حرمت هذا المجاهد من المجاهدين من الأجر وأفسدت عليه عمله وجعلته أول الداخلين إلى النار فصل
ورابعها أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه فى الآخرة لاشتغاله عنه بمحبوبه والناس ها هنا مراتب فمنهم من يشغله محبوبه عن الايمان وشرائعه ومنهم من يشغله عن الواجبات التى تجب عليه لله ولخلقه فلا يقوم بها ظاهرا ولا باطنا ومنهم من يشغله حبها عن كثير من الواجبات ومنهم من يشغله عن واجب يعارض تحصيلها وان قام بغيره ومنهم من يشغله عن القيام بالواجب فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى فيفرط فى وقته وفى حقوقه ومنهم من يشغله عن عبودية قلبه فى الواجب وتفريغه لله عند أدائه فيؤديه ظاهر الا باطنا وأين هذا من عشاق الدنيا ومحبيها هذا من أندرهم وأقل درجات حبها ان يشغل عن سعادة العبد وهو تفريغ القلب لحب الله ولسانه لذكره وجمع قلبه على لسانه

وجمع لسانه وقلبه على ربه فعشقها ومحبتها تضر بالآخرة ولا بد كما أن محبة الآخرة تضر بالدنيا وفى هذا الحديث قد روى مرفوعا من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته اضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى فصل
وخامسها أن محبتها تجعلها أكثر هم العبد وقد روى الترمذى من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله من كانت الآخرة أكبر همه جعل الله غناه فى قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهى راغمة ومن كانت الدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له فصل
وسادسها أن محبها أشد الناس عذابا بها وهو معذب فى دوره الثلاث يعذب فى الدنيا بتحصيلها والسعى فيها ومنازعة أهلها وفى دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجوا اجتماعه به ابدا ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه فهذا اشد الناس عذابا فى قبره يعمل الهم والغم والحزن والحسرة فى روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض فى جسمه كما قال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن عبد الكريم حدثنا عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه أن حزقبل كان فيمن سبى بختنصر فذكر عنه حديثا طويلا وفى آخره قال فبينا أنا نائم على شط الفرات إذ أتانى ملك فاخذ براسى فاحتملنى حتى وضعنى بقاع من الأرض قد كانت معركة قال واذا فيه عشرة آلاف قتيل قد بددت الطير والسباع لحومهم وفرقت أوصالهم قال لى إن قوما يزعمون أن من مات منهم أو قتل فقد انفلت منى وذهبت عنه قدرتى فادعهم قال حزقبل فدعوتهم فإذا كل عظم قد أقبل الى مفصله الذى انقطع منه ما الرجل بصاحبه بأعرف من العظم بمفصله الذى فارق حتى أم بعضها بعظائم نبت عليها اللحم ثم نبتت عليها العروق ثم انبسطت الجلود وأنا أنظر الى ذلك ثم قال ادع أرواحهم قال فدعوتها فاذا كل روح قد أقبل الى جسده الذى فارق فلما جلسوا سألتهم فيم كنتم قالوا إنا لما متنا وفارقنا الحياة لقينا ملك فقال هلموا أعمالكم وخذوا أجوركم كذلك سنتنا فيكم وفيمن كان قبلكم وفيمن هو كائن بعدكم قال فنظر فى أعمالنا فوجدنا نعبد

الأوثان فسلط الدود على أجسادنا وجعلت الأرواح تألمه وسلط الغم على أرواحنا وجعلت أجسادنا تألمه فلم نزل كذلك نعذب حتى دعوتنا ولا يستريح عاشق الدنيا فقولهم كنا نعبد الأوثان فسيان عبادة الاثمان وعبادة الأوثان تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم
والمقصود أن محب الدنيا يعذب فى قبره ويعذب يوم لقاء ربه قال تعالى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم انما يريد الله ليعذبهم بها فى الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون قال بعض السلف يعذبهم بجمعها وتزهق أنفسهم بحبها وهم كافرون بمنع حق الله فيها فصل
وسابعها أن عاشقها ومحبها الذى يؤثرها على الآخرة من أسفه الخلق وأقلهم عقلا اذ آثر الخيال على الحقيقة والمنام على اليقظة والظل الزائل على النعيم الدائم والدار الفانية على الدار الباقية وباع حياة الأبد فى ارغد عيش بحياة انما هى أحلام نوم أو كظل زائل ان اللبيب بمثلها لا يخدع كما نزل أعرابى بقوم فقدموا له طعاما فأكل ثم قام الى ظل خيمة فنام فاقتلعوا الخيمة فاصابته فانتبه وهو يقول وان امرؤ دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور وكان بعض السلف يتمثل بهذا البيت يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها ... ان اغترارا بظل زائل حمق
قال يونس بن عبد الأعلى ما شبهت الدنيا الا كرجل نام فرأى فى منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك انتبه وقال ابن أبى الدنيا حدثنى أبو على الطائى حدثنا عبد الرحمن البخارى عن ليث قال رأى عيسى بن مريم الدنيا فى صورة عجوز عليها من كل زينة فقال كم تزوجتى قالت لا أحصيهم قال فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك قالت بل كلهم قتلته فقال عيسى بؤسا لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين تهلكينهم واحدا واحدا ولا يكونوا منك على حذر أرى اشقياء الناس لا يسأمونها ... على أنهم فيها عراة وجوع اراها وان كانت تحب فإنها ... سحابة صيف عن قليل تقشع

أشبه الأشياء بالدنيا الظل تحسب له حقيقة ثابتة وهو فى تقلص وانقباض فتتبعه لتدركه فلا تلحقه وأشبه الأشياء بها السراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وأشبه الأشياء بها المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره فإذا استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له وأشبه الأشياء بها عجوز شوهاء قبيحة المنظر والمخبر غدارة بالأزواج تزينت للخطاب بكل زينة وسترت كل قبيح فاغتر بها من لم يجاوز بصره ظاهرها فطلب النكاح فقالت لا مهر إلا نقد الآخرة فإننا ضرتان واجتماعنا غير مأذون فيه ولا مستباح فآثر الخطاب العاجلة وقالوا ما على من واصل حبيبته من جناح فلما كشف قناعها وحل إزارها إذا كل آفة وبلية فمنهم من طلق واستراح ومنهم من اختار المقام فما استتمت ليلة عرسه إلا بالعويل والصياح
تالله لقد اذن مؤذنها على رءوس الخلائق يحي على غير الفلاح فقام المجتهدون والمسلمون لها فواصلوا فى طلبها الغدو بالرواح وسروا ليلهم فلم يحمد القوم السرى عند الصباح طاروا فى صيدها فما رجع أحد منهم إلا وهو مكسور الجناح فوقعوا فى شبكتها فأسلمتهم للذباح
قال ابن أبى الدنيا حدثنا محمد بن على بن شقيق حدثنا ابراهيم بن الأشعث قال سمعت الفضيل بن عياض قال قال ابن عباس رضى الله عنهما يؤتى بالدنيا يوم القيامة فى صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوه خلقها فتشرف على الخلائق فيقال أتعرفون هذه فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه فيقال هذه الدنيا التى تشاجرتم عليها بها تقاطعتم الأرحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم ثم يقذف بها فى جهنم فتنادى يا رب أين أتباعى وأشياعى فيقول الله عزوجل ألحقوا بها أتباعها وأشياعها
قال ابن أبى الدنيا وحدثنا اسحق بن اسماعيل حدثنا روح بن عبادة حدثنا عوف عن أبى العلاء قال رأيت فى النوم عجوزا كبيرة عليها من كل زينة الدنيا والناس عكوف عليها متعجبون ينظرون اليها فجئت فنظرت فتعجبت من نظرهم اليها وإقبالهم عليها فقلت لها ويلك من أنت قالت أما تعرفنى قلت لا

قالت أنا الدنيا قال قلت أعوذ بالله من شرك قالت فان أحببت أن تعاذ من شرى فابغض الدرهم
قال ابن أبي الدنيا وحدثنى ابراهيم بن سعيد الجوهرى حدثنا سفيان بن عيينة قال قال لى أبو بكر بن عياش رأيت الدنيا فى النوم عجوزا مشوها شمطاء تصفق بيديها وخلفها خلق يتبعونها ويصفقون ويرقصون فلما كانت بحذائى أقبلت على فقالت لو ظفرت بك صنعت بك ما صنعت بهؤلاء ثم بكى أبو بكر قال وحدثنا محمد بن على حدثنا ابراهيم بن الاشعث قال سمعت الفضيل قال بلغنى أن رجلا عرج بروحه قال فاذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة الحلى والثياب واذا هى لا يمر بها أحد إلا جرحته وإذا هى أدبرت كانت أحسن شيء رآه الناس واذا أقبلت أقبح شئ عجوز شمطاء زرقاء عمشاء فقلت أعوذ بالله قالت لا والله لا يعيذك الله حتى تبغض الدرهم قال قلت من أنت قالت أنا الدنيا
ووصف على رضى الله عنه الدنيا فقال دار من صح فيها هرم ومن سقم فيها ندم ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن فى حلالها الحساب وفى حرامها النار وقال ابن مسعود رضى الله عنه الدنيا دارت من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له
وذكر ابن أبى الدنيا أن الحسن كتب الى عمر بن عبد العزيز أما بعد فان الدنيا دار ظعن ليست بدار اقامة وانما أنزل آدم اليها عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فان الزاد منها تركها والغناء فيها فقرها لها فى كل حال قتيل تذل من أعزها وتفقر من جمعها هى كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه فكن فيها كمداو جرحاته يحتمى قليلا مخافة ما يكره طويلا ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدار الغرارة الخيالة الخداعة التى قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وخيلت بآمالها وشوقت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلوة فالعيون اليها ناظرة والقلوب عليها والهه والنفوس لها عاشقة وهى لأزواجها كلهم قاتله فلا الباقى بالماضى معتبر ولا الآخر بالاول مزدجر والعارف بالله حين أخبره عنها مذكر فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسى المعاد فشغل فيها لبه حتى

زلت عنها قدمه فعظمت ندامته وكبرت حسرته واجتمع عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت ونغصه فذهب منها فى كمد ولم يدرك منها ما طلب ولم يرح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد فاحذرها يا أمير المؤمنين وأسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه السار فيها غذاء ضار وقد وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها الى فناء فسرورها مشوب بالحزن ما يرجع منها ما ولى فأدبر ولا يدرى ما هو آت فينتظر أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد فلو كان الخالق لها لم يخبر عنها خبرا ولم يضرب لها مثلا لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله تعالى عنها زاجر وفيها واعظ فما لها عند الله عزوجل قدر ولا وزن وما نظر اليها منذ خلقها ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا تنقصه عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها وكره أن يحب ما ابغض الله خالقه أو يرفع ماوضع مليكه فزواها عن الصالحين اختيارا وبسطها لأعدائه اغترارا فيظن المغرور بها القادر عليها أنه أكرم بها ونسى ما صنع الله بمحمد حين شد الحجر على بطنه
وقال الحسن أيضا ابن آدم لا تعلق قلبك فى الدنيا فتعلقه بشر معلق اقطع حبالها وغلق أبوابها حسبك يا أبن آدم منها ما يبلغك المحل وكان يقول إن قوما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب فأهينوها فأهنا ما تكون إذا أهنتموها هيهات هيهات ذهبت الدنيا وبقيت الأعمال قلائد فى الاعناق
وقال المسيح عليه السلام لا تتخذوا الدنيا ربا فتخذكم عبيدا واعبروها ولا تعمروها واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا ورب شهوة أورثت أهلها حزنا طويلا ما سكنت الدنيا فى قلب عبد إلا التاط قلبه منها بثلاثة شغل لا ينفك عناؤه وفقر لا يدرك غناؤه وأمل لا يدرك منتهاه الدنيا طالبه مطلوبه فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه وطالب الدنيا تطلبه الاخرة حتى يجئ الموت فيأخذ بعنقه يا معشر الحواريين ارضوا بدنئ الدنيا مع سلامة الدين كما رضى أهل الدنيا بدنئ الدين مع سلامة الدنيا

وقال ابن ابى الدنيا حدثنا هرون بن عبد الله حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا مالك ابن دينار قال قال ابو هريرة رضى الله عنه الدنيا موقوفه بين السماء والارض منذ خلقها الله تعالى الى يوم يفنيها تنادى ربها يا رب لم تبغضنى فيقول اسكتى يا لا شئ اسكتى يا لا شئ وقال الفضيل تجئ الدنيا يوم القيامة فتتبختر فى زينتها ونضرتها فتقول يا رب اجعلنى لأحسن عبادك دارا فيقول لا أرضاك له أنت لا شئ فكونى هباء منثورا
فصل فى ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا
المثال الاول للعبد ثلاثة أحوال حالة لم يكن فيها شيئا وهى ما قبل أن يوجد وحالة أخرى وهى من ساعة موته الى مالا نهايه له فى البقاء السرمدى فلنفسه وجود بعد خروجها من البدن إما فى الجنة واما فى النار ثم تعاد الى بدنه فيجازى بعمله ويسكن احدى الدارين فى خلود دائم ثم بين هاتين الحالتين وهى ما بعد وجوده وما قبل موته حالة متوسطه وهى أيام حياته فلينظر الى مقدار زمانها وأنسبه الى الحالتين يعلم أنه أقل من طرفة عين فى مقدار عمر الدنيا ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن اليها ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها فى ضر وضيق أو فى سعه ورفاهية ولهذا لم يضع رسول الله لبنه على لبنه ولا قصبه على قصبه وقال مالى وللدنيا انما مثلى ومثل الدنيا الا كراكب قال فى ظل شجرة ثم راح وتركها وقال ما الدنيا فى الآخرة الا كما يجعل أحدكم اصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع والى هذا أشار المسيح عليه السلام بقوله الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها وهذا مثل صحيح فإن الحياة معبر الى الاخرة والمهد هو الركن الاول على أول القنطرة واللحد هو الركن الثانى على آخرها ومن الناس من قطع نصف القنطرة ومنهم من قطع ثلثيها ومنهم من لم يبق له الا خطوة واحدة وهو غافل عنها وكيفما كان فلا بد من العبور فمن وقف يبنى على القنطرة ويزينها بأصناف الزينة وهو يستحث العبور فهو فى غاية الجهل والحمق فصل
المثال الثانى شهوات الدنيا فى القلب كشهوات الاطعمه فى المعدة وسوف يجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا فى قلبه من الكراهه والنتن والقبح

ما يجده للأطعمه اللذيذة إذا انتهت فى المعدة غايتها وكما أن الأطعمة كلما كانت ألذ طعما وأكثر دسما وأكثر حلاوة كان رجيعها أقذر فكذلك كل شهوة كانت فى النفس ألذ واقوى فالتأذى بها عند الموت أشد كما أن تفجع الإنسان بمحبوبه إذا فقده يقوى بقدر محبة المحبوب
وفى المسند أن النبى قال للضحاك بن سفيان ألست تؤتى بطعامك وقد ملح وقزح ثم تشرب عليه الماء واللبن قال بلى قال فإلى م يصير قال إلى ما قد علمت قال فإن الله عزوجل ضرب مثل الدنيا لما يصير اليه طعام ابن آدم كان بعض السلف يقول لأصحابه انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم الى مزبلة فيقول انظروا الى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم فصل
المثال الثالث لها ولأهلها فى اشتغالهم بنعيمها عن الآخرة وما يعقبهم من الحسرات مثل أهلها فى غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم الى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة وحذرهم الابطاء وخوفهم مرور السفينة فتفرقوا فى نواحى الجزيرة فقضى بعضهم حاجته وبادر الى السفينة فصادف المكان خاليا فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمراده ووقف بعضهم فى الجزيرة ينظر الى أزهارها وأنوارها العجيبة ويسمع نغمات طيورها ويعجبه حسن أحجارها ثم حدثته نفسه بفوت السفينة وسرعة مرورها وخطر ذهابها فلم يصادف إلا مكانا ضيقا فجلس فيه وأكب بعضهم على تلك الحجارة المستحسنة والأزهار الفائقة فحمل منها حمله فلما جاء لم يجد فى السفينة الا مكانا ضعيفا وزاده حمله ضيقا فصار محموله ثقلا عليه ووبالا ولم يقدر على نبذه بل لم يجد من حمله بدا ولم يجد له فى السفينة موضعا فحمله على عتقه وندم على أخذه فلم تنفعه الندامة ثم ذبلت الأزهار وتغيرت اراييجها وآذاه نتنها وتولج بعضهم فى تلك الغياض ونسى السفينة وأبعد فى نزهته حتى أن الملاح نادى بالناس عند دفع السفينة فلم يبلغه صوته لاشتغاله بملاهيه فهو تارة يتناول من الثمر وتارة يشم تلك الانوار وتارة يعجب من حسن الأشجار وهو على ذلك خائف من سبع يخرج عليه غير منفك من شوك يتشبث فى ثيابه ويدخل فى قدميه أو غصن يجرح بدنه أو عوسج يخرق ثيابه

ويهتك عورته أو صوت هائل يفزعه ثم من هؤلاء من لحق السفينة ولم يبق فيها موضع فمات على الساحل ومنهم من شغله لهوه فافترسته السباع ونهشته الحيات ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك فهذا مثال أهل الدنيا فى اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم وما أقبح بالعاقل أن تغره أحجار ونبات يصير هشيما قد شغل باله وعوقه عن نجاته ولم يصحبه فصل
المثال الرابع لاغترار الناس بالدينا وضعف ايمانهم بالآخرة قال ابن أبى الدنيا حدثنا اسحق بن اسماعيل حدثنا روح بن عباده حدثنا هشام بن حسان عن الحسن قال بلغنى أن رسول الله قال لاصحابه انما مثلى ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى اذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أم ما بقى أنفدوا الزاد وحسروا الظهر وبقوا بين ظهرانى المفازة لا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك اذ خرج عليهم رجل فى حلة يقطن رأسه فقالوا ان هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا الامن قريب فلما انتهى اليهم قال يا هؤلاء علام أنتم قالوا على ما ترى قال أرأيتم ان هديتكم على ماء رواه ورياض خضر ما تجعلون لى قالوا لا نعصيك شيئا قال عهودكم ومواثيقكم بالله قال فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يحصونه شيئا قال فأوردهم ماء ورياضا خضراء قال فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال يا هؤلاء الرحيل قالوا الى أين قال الى ماء ليس كمائكم ورياض ليست كرياضكم قال فقال جل القوم وهم أكثرهم والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده وما نصنع بعيش هو خير من هذا قال وقالت طائفة وهم أقلهم ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئا وقد صدقكم فى أول حديثه فو الله ليصدقنكم فى آخره فراح بمن اتبعه وتخلف بقيتهم فبادرهم عدوهم فأصبحوا بين أسير وقتيل فصل
المثال الخامس للدنيا وأهلها ما مثلها به النبى كظل شجرة والمرء مسافر فيها الى الله فاستظل فى ظل تلك الشجرة فى يوم صائف ثم راح وتركها فتأمل حسن هذا المثال ومطابقته للواقع سواء فانها فى خضرتها كشجرة وفى سرعة انقضائها وقبضها شيئا فشيئا كالظل والعبد مسافرا الى ربه والمسافر اذا رأى شجرة

فى يوم صائف لا يحسن به أن يبنى تحتها دارا ولا يتخذها قرارا بل يستظل بها بقدر الحاجة ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق فصل
المثال السادس تمثيله لها بمدخل أصبعه فى اليم فالذى يرجع به أصبعه من البحر هو مثل الدنيا بالنسبة الى الآخرة وهذا أيضا من أحسن الامثال فإن الدنيا منقطعة فانية ولو كانت مدتها أكثر مما هى والاخرة أبدية لا انقطاع لها ولا نسبة للمحصور الى غير المحصور بل لو فرض أن السموات والارض مملوءتان خردلا وبعد كل ألف سنة طائر ينقل خردلة لفنى الخردل والاخرة لا تفنى فنسبة الدنيا الى الآخرة فى التمثيل كنسبة خردلة واحدة الى ذلك الخردل ولهذا لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر وأشجار الارض كلها أقلام يكتب بها كلام الله لنفذت الابحر والاقلام ولم تنفد كلمات الله لأنها لا بداية لها ولا نهايه لها والابحر والاقلام متناهيه
قال الإمام أحمد وغيره لم يزل الله متكلما إذا شاء وكماله المقدس مقتض لكلامه وكماله من لوازم ذاته فلا يكون الا كاملا والمتكلم أكمل ممن لا يتكلم وهو سبحانه لم يلحقه كلل ولا تعب ولا سآمه من الكلام وهو يخلق ويدبر خلقه بكلماته فكلماته هى التى أوجد بها خلقه وأمره وذلك حقيقة ملكه وربوبيته وإلهيته وهو لا يكون الا ربا ملكا إلها لا إله الا هو والمقصود أن الدنيا نفس من أنفاس الآخرة وساعة من ساعاتها
فصل المثال السابع ما مثلها به فى الحديث المتفق على صحته من
حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال قام رسول الله فخطب الناس فقال لا والله ما أخشى عليكم الا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا فقال رجل يا رسول الله أو يأتى الخير بالشر فصمت رسول الله ثم قال كيف قلت قال يا رسول الله أو يأتى الخير بالشر فقال رسول الله ان الخير لا يأتى الا بالخير وان مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم الا آكله الخضر أكلت حتى

إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس فتطلت وبالت ثم اجترت فعادت فأكلت قمن أخذ مالا بحقه بورك له فيه ومن أخذ مالا بغير حقه فمثله كمثل الذى يأكل ولا يشبع فأخبر أنه انما يخاف عليهم الدنيا وسماها زهرة فشبهها بالزهر فى طيب رائحته وحسن منظره وقله بقائه وأن وراءه ثمرا خيرا وابقى منه
وقوله ان مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم هذا من أحسن التمثيل المتضمن للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والمسرة فيها وذلك أن الماشيه يروقها نبت الربيع فتأكل منها بأعينها فربما هلكت حبطا والحبط انتفاخ بطن الدابه من الامتلاء أو من المرض يقال حبط الرجل والدابه تحبط حبطا اذا أصابه ذلك ولما أصاب الحارث بن مازن بن عمرو بن تميم ذلك فى سفره فمات حبطا فنسب الحبطى كما يقال السلمى فكذلك الشرهه فى المال يقتله شرهه وحرصه فإن لم يقتله قارب أن يقتله وهو قوله أو يلم وكثير من ارباب الأموال انما قتلتهم أموالهم فانهم شرهوا فى جمعها واحتاج اليها غيرهم فلم يصلوا اليها إلا بقتلهم أو ما يقاربه من اذلالهم وقهرهم
وقوله الا آكلة الخضر هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته مثله بالشاة الآكلة من الخضر بقدر حاجتها أكلت حتى اذا امتلأت خاصرتاها وفى لفظ آخر امتدت خاصرتاها وانما تمتد من امتلائها من الطعام وثنى الخاصرتين لأنهما جانبا البطن وفى قوله استقبلت عين الشمس فتلطت وبالت ثلاث فوائد احداها انها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته وبركت مستقبله الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته الثانية انها أعرضت عما يضرها من الشره فى المرعى وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التى يحصل لها بحرارتها انضاج ما أكلته واخراجه الثالثة انها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى فى بطنها فاستراحت بإخراجه ولو بقى فيها لقتلها فكذلك جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة
وأول الحديث مثل الشره فى جمع الدنيا الحريص على تحصيلها فمثاله مثال الدابة التى

حملها شره الأكل على أن يقتلها حبطا أو يلم إذا لم يقتلها فإن الشره الحريص إما هالك وإما قريب من الهلاك فإن الربيع ينبت أنواع البقول والعشب فتستكثر منه الدابة حتى ينتفخ بطنها لما جاوزت حد الاحتمال فتنشق أمعاؤها وتهلك كذلك الذى يجمع الدنيا من غير حلها ويحبسها أو يصرفها فى غير حقها وآخر الحديث مثل للمقتصد بآكلة الخضر الذى تنتفع الدابة بأكله ولم يحملها شرهها وحرصها على تناولها منه فوق ما تحتمله بل أكلت بقدر حاجتها وهكذا هذا أخذ ما يحتاج اليه ثم أقبل على ما ينفعه وضرب بول الدابة وثلطها مثلا لإخراجه المال فى حقه حيث يكون حبسه وإمساكه مضرا به فنجا من وبال جمعه بأخذ قدر حاجته منه ونجا من وبال إمساكه بإخراجه كما نجت الدابة من الهلاك بالبول الثلط
وفى هذا الحديث اشارة الى الاعتدال والتوسط بين الشره فى المرعى القاتل بكثرته وبين الاعراض عنه وتركه بالكلية فتهلك جوعا وتضمن الخبر أيضا إرشاد المكثر من المال الى ما يحفظ عليه قوته وصحته فى بدنه وقلبه وهو الاخراج منه وانفاقه ولا يحبسه فيضره حبسه وبالله التوفيق فصل
المثال الثامن ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن سليمان بن يسار عن ميمونة قالت قال رسول الله لعمرو بن العاص الدنيا خضرة حلوة فمن اتقى الله فيها وأصلح والا فهو كالآكل ولا يشبع وبين الناس فى ذلك كبعد الكوكبين أحدهما يطلع فى المشرق والآخر يغيب فى المغرب فنبه بخضرتها على استحسان العيون لها وبحلاوتها على استجلاء الصدور لها وبتلك الخضرة والحلاوة زينت لأهلها وحببت اليهم لا سيما وهم مخلوقون منها وفيها كما قيل ونحن بنو الدنيا ومنها نباتنا ... وما أنت منه فهو شئ محبب
وجعل الناس فيها قسمين أحدهما مصلح متقى فهذا تقواه وإصلاحه لا يدعانه ينهمك عليها ويشره فيها ويأخذها من غير حلها ويضعها فى غير حقها فان لم يتق ويصلح صرف نهمته وقواه وحرصه الى تحصيلها فكان كالذى يأكل ولا يشبع وهذا من أحسن الأمثلة فان المقصود من الأكل حفظ الصحة والقوة وذلك تابع لقدر الحاجة وليس المقصود منه ذاته ونفسه فمن جعل نهمته فوق مقصوده لم

يشبع ولهذا قال الامام أحمد الدنيا قليلها يجزى وكثيرها لا يجزى وأخبر عن تفاوت الناس فى المنزلتين أعنى منزلة التقوى والاصلاح ومنزلة الاكل والشره وأن بين الرجلين فى ذلك كما بين الكوكبين الغارب فى الأفق والطالع منه وبين ذلك منازل متفاوتة فصل
المثال التاسع ما تقدم من حديث المستورد بن شداد قال كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله على السخلة الميتة فقال رسول الله أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها قالوا ومن هوانها ألقوها يا رسول الله قال فو الذى نفس محمد بيده للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها قال الترمذى حديث حسن صحيح فلم يقتصر على تمثيلها بالسخلة الميتة بل جعلها أهون على الله منها
وفى مسند الامام أحمد فى هذا الحديث فو الذى نفسى بيده للدنيا عند الله أهون عليه من تلك السخلة على أهلها فأكد ذلك بالقسم الصادق فإذا كان مثلها عند الله أهون وأحقر من سخله ميته على أهلها فمحبها وعاشقها أهون على الله من تلك السخلة وكونها سخله أهون عليهم من كونها شاة كبيرة لأن تلك ربما انتفعوا بصوفها أو دبغوا جلدها وأما ولد شاة صغيرة ميت ففى غاية الهوان والله المستعان فصل
المثال العاشر مثلها مثل البحر الذى لا بدل للخق كلهم من ركوبه ليقطعوه الى الساحل الذى فيه دورهم وأوطانهم ومستقرهم ولا يمكن قطعه الا فى سفينة النجاة فارسل الله رسله لتعرف الأمم اتخاذ سفن النجاة وتأمرهم بعملها وركوبها وهى طاعته وطاعة رسله وعبادته وحده واخلاص العمل له والتشمير للآخرة وارادتها والسعى لها سعيها فنهض الموفقون وركبوا السفينه ورغبوا عن خوض البحر لما علموا أنه لا يقطع خوضا ولا سباحه وأما الحمقاء فاستصعبوا عمل السفينه وآلاتها والركوب فيها وقالوا نخوض البحر فاذا عجزنا تطباه سباحة وهم أكثر أهل الدنيا فخاضوه فلما عجزوا عن الخوض أخذوا فى السباحه حتى أدركهم الغرق ونجا أصحاب السفينة كما نجوا مع نوح عليه السلام وغرق أهل الارض فتأمل هذا المثل وحال أهل الدنيا فيها يتبين لك مطابقته للواقع وقد ضرب هذا المثل للدنيا

والآخرة والقدر والأمر فإن القدر بحر والأمر فيه سفينة لا ينجو إلا من ركبها فصل
المثال الحادي عشر مثالها مثال اناء مملوء عسلا رآه الذباب فاقبل نحوه فبعضه قعد على حافة الاناء وجعل يتناول من العسل حتى أخذ حاجته ثم طار وبعضه حمله الشره على أن رمى بنفسه فى لجة الاناء ووسطه فلم يدعه انغماسه فيه أن يتهنأ به الا قليلا حتى هلك فى وسطه فصل
المثال الثانى عشر مثال حب قد نثر على وجه الارض وجعلت كل حبة فى فخ وجعل حول ذلك الحب حب ليس فى فخاخ فجاءت الطير فمنها من قنع بالجوانب ولم يرم نفسه فى وسط الحب فأخذ حاجته ومضى ومنها من حمله الشره على اقتحام معظم الحب فما استتم اللقاط الا وهو يصيح من أخذة الفخ له فصل
المثال الثالث عشر كمثل رجل أوقد نارا عظيمة فجعلت الفراش والجنادب يرون ضوءها فيقصدونها ويتهافتون فيها ومن له علم بحالها جعل يستضىء ويستدفئ بها من بعيد وقد أشار النبى الى هذا المثل بعينه فى الحديث الذى رواه مالك بن اسماعيل عن حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما عن عمر رضى الله عنه عن النبى قال انى ممسك بحجزكم عن النار وتتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب ويوشك أن أرسل بحجزكم وفى لفظ آخر مثلى ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعلت الفراش والجنادب يتقاحمن فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تغلبونى وتتقاحمون فيها وهذا المثال مطبق على أهل الدنيا المنهمكين فيها فالرسل تدعوهم الى الاخرة وهم يتقاحمون فى الدنيا تقاحم الفراش فصل
المثال الرابع عشر مثل قوم خرجوا فى سفر بأموالهم وأهليهم فمروا بواد مشعب كثير المياه والفواكه فنزلوا به وضربوا خيمهم وبنوا هنالك الدور والقصور فمر بهم رجل يعرفون نصحه وصدقه وأمانته فقال انى رأيت بعينى هاتين الجيش خلف هذا الوادى وهو قاصدكم فاتبعونى أسلك بكم على غير طريق العدو فتنجوا منه فأطاعته طائفة قليلة فصاح فيهم يا قوم النجاة النجاة أتيتم أتيتم وصاح السامعون له بأهليهم وأولادهم وعشائرهم فقالوا كيف نرحل من

هذا الوادى وفيه مواشينا وأموالنا ودورنا وقد استوطناه فقال لهم الناصح لينج كل واحد منكم بنفسه مما خف عليه من متاعه والا فهو مأخوذ وماله مجتاح فثقل على أصحاب الجد والأموال ورؤساء القوم النقلة ومفارقة ما هم فيه من النعيم والرفاهية والدعة وقال كل أحمق لى أسوة بالقاعدين فهم أكثر منى مالا وأهلا فما أصابهم أصابنى معهم ونهض الأقلون مع الناصح ففازوا بالنجاة وصبح الجيش أهل الوادى فقتلهم واجتاح أموالهم
وقد أشار النبى الى هذا المثل بعينه فى الحديث المتفق على صحته من حديث أبى بردة عن أبى موسى عن النبى قال انما مثلى ومثل ما بعثنى الله به كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم انى رأيت الجيش بعينى وأنا النذير العريان فالنجاة النجاة فأطاعه طائفة من قومه فأذلجوا و انطلقوا على مهلهم فنجوا وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعنى واتبع ما جئت به ومثل من عصانى وكذب بما جئت به من الحق فصل
المثال الخامس عشر رجل هيأ دارا وزينها ووضع فيها من جميع الالات ودعى الناس اليها فكلما دخل داخل أجلسه على فراش وثير وقدم اليه طبقا من ذهب عليه لحم ووضع بين يديه أوان مفتخرة فيها من كل ما يحتاج اليه وأخدمه عبيده ومماليكه فعرف العاقل أن ذلك كله متاع صاحب الدار وملكه وعبيده فاستمتع بتلك الالات والضيافة مدة مقامه فى الدار ولم يعلق قلبه بها ولا حدث نفسه بتملكها بل اعتمد مع صاحب الدار ما يعتمده الضيف يجلس حيث أجلسه ويأكل ما قدمه له ولا يسأل عما وراء ذلك اكتفاء منه بعلم صاحب الدار وكرمه وما يفعله مع ضيوفه فدخل الدار كريما وتمتع فيها كريما وفارقها كريما ورب الدار غير ذام له وأما الاحمق فحدث نفسه بسكنى الدار وحوز تلك الالات الى ملكه وتصرفه فيها بحسب شهوته وارادته فتخير المجلس لنفسه وجعل ينقل تلك الآلات الى مكان فى الدار يخبؤها فيه وكلما قدم اليه ربها شيئا أو آلة حدث نفسه بملكه واختصاصه به عن سائر الاضياف ورب الدار يشاهد ما يصنع وكرمه يمنعه من اخراجه من داره حتى اذا ظن انه استبد بتلك الآلات وملك الدار

وتصرف فيها وفى آلاتها تصرف المالك الحقيقى واستوطنها واتخذها دارا له أرسل إليه مالكها عبيده فأخرجوه منها إخراجا عنيفا وسلبوه كل ما هو فيه ولم يصحبه من تلك الآلات شئ وحصل على مقت رب الدار وافتضاحه عنده وبين مماليكه وحشمه وخدمه
فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل فإنه مطابق للحقيقة والله المستعان قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه كل أحد فى هذه الدنيا ضيف وما له عارية فالضيف مرتحل والعارية مؤداة
وفى الصحيحين عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال مات ابن لأبى طلحة من أم سليم فقالت لأهلها لا تحدثوا أبا طلحة حتى أكون أنا أحدثه فجاء فقربت اليه عشاء فأكل وشرب وقال ثم تصنعت له احسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت يا ابا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم قال لا قالت فاحتسب ابنك قال فغضب قال تركتينى تلطخت ثم أخبرتينى بابنى فانطلق حتى أتى رسول الله فأخبره بما كان منها فقال رسول الله بارك الله لكما فى ليلتكما وذكر الحديث فصل
المثال السادس عشر قوم سلكوا مفازة فاجأهم العطش فانتهوا الى البحر وماؤه أمر شيء وأملحه فلشدة عطشهم لم يجدوا مرارته وملوحته فشربوا منه فلم يرووا وجعلوا كلما ازدادوا شربا ازدادوا ظمأ حتى تقطعت أمعاؤهم وماتوا عطشا وعلم عقلاؤهم أنه مر مالح وأنه كلما ازداد الشارب منه ازداد ظمأه فتباعدوا عنه مسافة حتى وجدوا أرضا حلوة فحفروا فيها قليا فنبع لهم ماء عذب فرات فشربوا وعجنوا وطبخوا ونادوا إخوانهم الذين على حافة البحر هلموا إلى الماء الفرات وكان منهم المستهزئ ومنهم المعرض الراضى بما هو فيه وكان المجيب واحدا بعد واحد وهذا المثل بعينه قد ضربه المسيح عليه السلام فقال مثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله فصل
المثال السابع عشر مثل الانسان ومثل ماله وعمله وعشيرته مثل رجل

له ثلاثة اخوة فقضى له سفر بعيد طويل لا بد له منه فدعا إخوته الثلاثة وقال قد حضر ما ترون من هذا السفر الطويل وأحوج ما كنت اليكم الآن فقال أحدهم أنا كنت أخاك الى هذه الحال ومن الآن فلست بأخ ولا صاحب وما عندى غير هذا فقال له لم تغن عنى شيئا فقال للآخر ما عندك فقال كنت أخاك وصاحبك إلى الآن وأنا معك حتى أجهزك الى سفرك وتركب راحلتك ومن هنالك لست لك بصاحب فقال له أنا محتاج الى مرافقتك فى مسيرى فقال لا سبيل لك الى ذلك فقال لم تغن عنى شيئا فقال للثالث ما عندك أنت فقال كنت صاحبك فى صحتك ومرضك وأنا صاحبك الآن وصاحبك اذا ركبت راحلتك وصاحبك فى مسيرك فإن سرت سرت معك وان نزلت نزلت معك واذا وصلت الى بلدك كنت صاحبك فيها لا أفارقك ابدا فقال ان كنت لأهون الاصحاب على وكنت أوثر عليك صاحبيك فليتنى عرفت حقك وآثرتك عليهما
فالأول ماله والثانى أقاربه وعشيرته وأصحابه والثالث عمله وقد روى فى هذا المثل بعينه حديث مرفوع لكنه لا يثبت رواه أبو جعفر العقيلى فى كتاب الضعفاء من حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة وعن ابن المسيب عن عائشة مرفوعا وهو مثل صحيح فى نفسه مطابق للواقع فصل
المثال الثامن عشر وهو من أحسن الأمثلة ملك بنى دارا لم ير الراءون ولم يسمع السامعون أحسن ولا أوسع ولا أجمع لكل ملاذ النفوس منها ونصب لها طريقا وبعث داعيا يدعو الناس اليها وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زينت بأنواع الزينة وألبست أنواع الحلى والحلل وممر الناس كلهم عليها وجعل لها أعوانا وخدما وجعل تحت يدها ويد أعوانها زادا للمارين السائرين الى الملك فى تلك الطريق وقال لها ولأعوانها من غض طرفه عنك ولم يشتغل بك عنى وابتغى منك زادا يوصله الى فاخدميه وزوديه ولا تعوقيه عن سفره الى بل أعينيه بكل ما يبلغه فى سفره ومن مد اليك عينيه ورضى بك وآثرك على وطلب وصالك فسوميه سوء العذاب وأوليه غاية الهوان واستخدميه واجعليه يركض خلفك ركض الوحش ومن يأكل منك فاخدعيه به قليلا ثم استرديه منه واسلبيه اياه

كله وسلطى عليه أتباعك وعبيدك وكلما بالغ فى محبتك وتعظيمك وإكرامك فقابليه بأمثاله قلى وإهانة وهجرا حتى تتقطع نفسه عليك حسرات فتأمل هذا المثال وحال خطاب الدنيا وخطاب الآخرة والله المستعان وهذا المثل مأخوذ من الاثر المروى عن الله تعالى يا دنيا اخدمى من خدمنى واستخدمى من خدمك فصل
المثال التاسع عشر ملك خط مدينة فى أصح المواضع وأحسها هواء وأكثرها مياها وشق أنهارها وغرس أشجارها وقال لرعيته تسابقوا إلى أحسن الأماكن فيها فمن سبق إلى مكان فهو له ومن تخلف سبقه الناس الى المدينة فأخذوا منازلهم وتبوؤا مساكنهم فيها وبقى من أصحاب الحسرات ونصب لهم ميدان السباق وجعل على الميدان شجرة كبيرة لها ظل مديد وتحتها مياه جارية وفى الشجرة من كل أنواع الفواكه وعليها طيور عجيبة الأصوات وقال لهم لا تغتروا بهذه الشجرة وظلها فعن قليل تجتث من أصلها ويذهب ظلمها وينقطع ثمرها وتموت أطيارها وأما مدينة الملك فاكلها دائم وظلها مديد ونعيمها سرمدى وفيها مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فسمع الناس بها فخرجوا فى طلبها على وجوههم فمروا بتلك الشجرة على أثر تعب ونصب وحر وظمأ فنزلوا كلهم تحتها واستظلوا بظلها وذاقوا حلاوة ثمرها وسمعوا نغمات أطيارها فقيل لهم إنما نزلتم تحتها لتحموا أنفسكم وتضمروا مراكبكم للسباق فتهيئوا للركوب وكونوا على أهبة فإذا صاح النفير استدركتم حلبة السباق فقال الأكثرون كيف ندع هذا الظل الظليل والماء السلسبيل والفاكهة النضجة والدعة والراحة ونقتحم هذه الحلبة فى الحر والغبار والتعب والنصب والسفر البعيد والمفاوز المعطشة التى تنقطع فيها الأمعاء وكيف نبيع النقد الحاضر بالنسيئة الغائبة الى الأجل البعيد ونترك ما نراه الى مالا نراه وذرة منقودة فى اليد أولى من ذرة موعودة بعد غد خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ونحن بنو اليوم وهذا عيش حاضر كيف نتركه لعيش غائب فى بلد بعيد لا ندرى متى نصل اليه ونهض من كل ألف واحد وقالوا والله ما مقامنا هذا فى ظل زائل تحت شجرة قد دنى قلعها وانقطاع ثمرها وموت أطيارها ونترك المسابقة الى الظل الظليل الذى لا يزول والعيش الهنئ الذى لا ينقطع الا من أعجز العجز وهل

يليق بالمسافر اذا استراح تحت ظل أن يضرب خباءه عليه ويتخذ وطنه خشية التأذى بالحر وبالبرد وهل هذا الا أسفه السفه فالسباق السباق والبدار البدار
حكم المنية فى البرية جارى ... ما هذه الدنيا بدار قرار
اقضوا مآربكم سراعا انما ... أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضوا خيل السباق وبادروا ... أن تسترد فإنهن عوارى
ودعوا الإقامة تحت ظل زائل ... أنتم على سفر بهذى الدار
من يرجو طيب العيش فيها انما ... يبنى الرجاء على شفير هار
والعيش كل العيش بعد فراقها ... فى دار أهل السبق أكرم دار
فاقتحموا حلقة السباق ولم يستوحشوا من قلة الرفاق وساروا فى ظهور العزائم ولم تأخذهم فى سيرهم لومة لائم والمتخلف فى ظل الشجرة نائم فوالله ما كان الا قليل حتى ذوت أغصان تلك الشجرة وتساقطت أوراقها وانقطع ثمرها ويبست فروعها وانقطع مشربها فقلعها قيمها من أصلها فأصبح أهلها فى حر السموم يتقلبون وعلى ما فاتهم من العيش فى ظلها يتحسرون أحرقها قيمها فصارت هى وما حولها نارا تلظى وأحاطت النار بمن تحتها فلم يستطع أحد منهم الخروج منها فقالوا أين الركب الذين استظلوا معنا تحت ظلها ثم راحوا وتركوه فقيل لهم ارفعوا أبصاركم تروا منازلهم فرأوهم من البعد فى قصور مدينة الملك وغرفها يتمتعون بأنواع اللذات فتضاعفت عليهم الحسرات ألا يكونوا معهم وزاد تضاعفها بأن حيل بينهم وبين ما يشتهون وقيل هذا جزاء المتخلفين وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فصل
المثال العشرون ما مثلها به النبى من الثوب الذى شق وبقى معلقا بخيط فى آخره فما بقاء ذلك الخيط قال ابن أبى الدنيا حدثنى الفضل بن جعفر حدثنا وهب بن حماد حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا أبو سعيد خلف بن حبيب عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله مثل هذه الدنيا مثل ثوب

شق من أوله الى أخره فبقى معلقا بخيط فى آخره فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع
وان أردت لهذا المثل زيادة ايضاح فانظر الى ما رواه أحمد فى مسنده من حديث أبى نظرة عن أبى سعيد قال صلى بنا رسول الله العصر نهارا ثم قام فخطبنا فلم يترك شيئا قبل قيام الساعة الا اخبر به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه وجعل الناس يلتفتون الى الشمس هل بقى منها شئ فقال ألا انه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها الا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه
وروى حفص بن غياث عن ليث عن المغيرة بن حكيم عن ابن عمر قال خرج علينا رسول الله والشمس على أطراف السعف فقال ما بقى من الدنيا الا مثل ما بقى من يومنا هذا فيما مضى منه
وروى ابن أبى الدنيا عن ابراهيم بن سعد حدثنا موسى بن خلف عن قتادة عن أنس أن رسول الله خطب عند مغرب الشمس فقال ما بقى من الدنيا فيما مضى منها الا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه
فالدنيا كلها كيوم واحد بعث رسول الله فى آخره قبل غروب شمسه بيسير وقال جابر وأبو هريرة رضى الله عنهما عنه بعثت أنا والساعة كهاتين وقرن بين أصابعه السبابة والوسطى وكان بعض السلف يقول تصبروا فإنما هى أيام قلائل وانما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت وانه قد نعيت اليك أنفسكم والموت حبس لا بد منه والله بالمرصاد وانما تخرج هذه النفوس على آخر سورة الواقعة فصل
المثال الحادى والعشرون مثال الدنيا كحوض كبير ملئ ماء وجعل موردا للأنام والانعام فجعل الحوض ينقص على كثرة الوارد حتى لم يبق منه الا كدر فى أسفله قد بالت فيه الدواب وخاصته الناس والأنعام كما روى مسلم فى

صحيحه عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم فقال فى خطبته إن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الاناء يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون عنها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم وقال عبد الله بن مسعود إن الله تعالى جعل الدنيا كلها قليلا فما بقى منها إلا قليل من قليل ومثل ما بقى منها كالثغب شرب صفوه وبقى كدره الثغب الغدير
بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"