بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 1 أكتوبر 2010

حكم الاحرام بالحج يوم الثامن والخروج الى منى

حكم الإحرام بالحج يوم الثامن والخروج إلى منى
فإذا كان يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة استحب للمحلين بمكة ومن أراد الحج من أهلها الإحرام بالحج
78
من مساكنهم ; لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا بالأبطح وأحرموا بالحج منه يوم التروية عن أمره صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا إلى البيت فيحرموا عنده أو عند الميزاب وكذا لم يأمرهم بطواف الوداع عند خروجهم إلى منى , ولو كان ذلك مشروعا لعلمهم إياه , والخير كله في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .
ويستحب أن يغتسل ويتنظف ويتطيب عند إحرامه بالحج كما يفعل ذلك عند إحرامه من الميقات . وبعد إحرامهم بالحج يسن لهم التوجه إلى
79
منى قبل الزوال أو بعده من يوم التروية ويكثروا من التلبية إلى أن يرموا جمرة العقبة ويصلون بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر , والسنة أن يصلوا كل صلاة في وقتها قصرا بلا جمع إلا المغرب والفجر فلا يقصران .
ولا فرق بين أهل مكة وغيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس من أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة قصرا . ولم يأمر أهل مكة بالإتمام ولو كان واجبا عليهم لبينه لهم .
ثم بعد طلوع الشمس من يوم عرفة يتوجه الحاج من منى إلى عرفة , ويسن
80
أن ينزلوا بنمرة إلى الزوال , إذا تيسر ذلك لفعله صلى الله عليه وسلم , فإذا زالت الشمس سن للإمام أو نائبه أن يخطب الناس خطبة تناسب الحال يبين فيها ما يشرع للحاج في هذا اليوم وبعده , ويأمرهم فيها بتقوى الله وتوحيده والإخلاص له في كل الأعمال , ويحذرهم من محارمه , ويوصيهم فيها بالتمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , والحكم بهما والتحاكم إليهما في كل الأمور اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله , وبعدها يصلون الظهر والعصر قصرا وجمعا في وقت الأولى بأذان واحد وإقامتين لفعله صلى الله عليه وسلم . رواه
81
مسلم من حديث جابر .
ثم يقف الناس بعرفة , وكلها موقف إلا بطن عرنة , ويستحب استقبال القبلة وجبل الرحمة إن تيسر ذلك فإن لم يتيسر استقبالهما استقبل القبلة وإن لم يستقبل الجبل , ويستحب للحاج في هذا الموقف أن يجتهد في ذكر الله سبحانه ودعائه والتضرع إليه , ويرفع يديه حال الدعاء وإن لبى أو قرأ شيئا من القرآن فحسن , ويسن أن يكثر من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . لما روي عن النبي
82
صلى الله عليه وسلم أنه قال :
خير الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : أحب الكلام إلى الله أربع : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
فينبغي الإكثار من هذا الذكر وتكراره بخشوع وحضور قلب وينبغي الإكثار أيضا من الأذكار والأدعية الواردة في الشرع في كل وقت ولا سيما في هذا الموضع في هذا اليوم العظيم
83
ويختار جوامع الذكر والدعاء ومن ذلك " سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم "
لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ " لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " " لا حول ولا قوة إلا بالله " رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
" اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها
84
معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والموت راحة لي من كل شر "
" أعوذ بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء "
" اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل ومن الجبن والبخل ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال .
أعوذ بك اللهم من البرص والجنون والجذام ومن سيئ الأسقام . اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي .
اللهم استر عوراتي
85
وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني .
اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي .
اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني . أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير . اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد . وأسألك شكر
86
نعمتك وحسن عبادتك . وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا . وأسألك من خير ما تعلم . وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك علام الغيوب .
اللهم رب النبي محمد عليه الصلاة والسلام اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأعذني من مضلات الفتن ما أبقيتني .
اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأول
87
فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر .
اللهم أعط نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها .
اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والهرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر .
اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت أعوذ بعزتك أن تضلني لا إله إلا أنت . أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس
88
يموتون اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها .
اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء .
اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي .
اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك .
اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى .
اللهم إني أسألك الهدى والسداد .
اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه
89
وما لم أعلم وأسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم . وأعوذ بك من شر ما استعاذ منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم .
اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا , لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير .
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
اللهم صل على محمد وعلى آل
90
محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
ويستحب في هذا الموقف العظيم أن يكرر الحاج ما تقدم من الأذكار والأدعية وما كان في معناها من الذكر والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويلح في الدعاء . ويسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا كرر الدعاء ثلاثا فينبغي التأسي به في ذلك
91
عليه الصلاة والسلام .
ويكون المسلم في هذا الموقف مخبتا لربه سبحانه متواضعا له خاضعا لجنابه منكسرا بين يديه يرجو رحمته ومغفرته , ويخاف عذابه ومقته , ويحاسب نفسه ويجدد توبة نصوحا ; لأن هذا يوم عظيم , ومجمع كبير , يجود الله فيه على عباده , ويباهي بهم ملائكته , ويكثر فيه العتق من النار , وما رئي الشيطان في يوم هو فيه أدحر ولا أصغر ولا أحقر منه في يوم عرفة إلا ما رئي يوم بدر , وذلك لما يرى من جود الله على عباده وإحسانه إليهم وكثرة إعتاقه ومغفرته .
92
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة , فإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء
فينبغي للمسلمين أن يروا الله من أنفسهم خيرا وأن يهينوا عدوهم الشيطان ويحزنوه بكثرة الذكر والدعاء وملازمة التوبة والاستغفار من جميع الذنوب والخطايا ولا يزال الحجاج في هذا الموقف مشتغلين بالذكر والدعاء والتضرع إلى أن تغرب الشمس , فإذا غربت انصرفوا إلى مزدلفة بسكينة ووقار
93
وأكثروا من التلبية وأسرعوا في المتسع لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز الانصراف قبل الغروب لأن النبي صلى الله عليه وسلم
وقف حتى غربت الشمس وقال : " خذوا عني مناسككم " . فإذا وصلوا إلى مزدلفة صلوا بها المغرب ثلاث ركعات والعشاء ركعتين جمعا بأذان وإقامتين من حين وصولهم إليها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم سواء وصلوا إلى مزدلفة في وقت المغرب أو بعد دخول وقت العشاء , وما يفعله بعض العامة من لقط حصى الجمار من حين وصوله إلى مزدلفة قبل الصلاة واعتقاد كثير منهم أن ذلك مشروع فهو غلط لا
94
أصل له , والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أن يلتقط له الحصى إلا بعد انصرافه من المشعر إلى منى ومن أي موضع لقط الحصى أجزأه ذلك , ولا يتعين لقطه من مزدلفة بل يجوز لقطه من منى والسنة التقاط سبع في هذا اليوم يرمي بها جمرة العقبة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أما في الأيام الثلاثة فيلتقط من منى كل يوم إحدى وعشرين حصاة يرمي بها الجمار الثلاث .
ولا يستحب غسل الحصى بل يرمي به من غير غسل لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يرمي بحصى
95
قد رمي به ويبيت الحاج في هذه الليلة بمزدلفة ويجوز للضعفاء من النساء والصبيان ونحوهم أن يدفعوا إلى منى آخر الليل . لحديث عائشة وأم سلمة وغيرهما . وأما غيرهم من الحجاج فيتأكد في حقهم أن يقيموا بها إلى أن يصلوا الفجر ثم يقفوا عند المشعر الحرام فيستقبلوا القبلة ويكثروا من ذكر الله وتكبيره والدعاء إلى أن يسفروا جدا , ويستحب رفع اليدين هنا حال الدعاء وحيثما وقفوا من مزدلفة أجزأهم ذلك ولا يجب عليهم القرب من المشعر ولا صعوده , لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
وقفت ههنا - يعني على المشعر - وجمع كلها موقف
96
رواه مسلم في صحيحه , وجمع هي مزدلفة , فإذا أسفروا جدا انصرفوا إلى منى قبل طلوع الشمس وأكثروا من التلبية في سيرهم فإذا وصلوا إلى محسر استحب الإسراع قليلا , فإذا وصلوا إلى منى قطعوا التلبية عند جمرة العقبة ثم رموها من حين وصولهم بسبع حصيات متعاقبات , يرفع يده عند رمي كل حصاة ويكبر , ويستحب أن يرميها من بطن الوادي ويجعل الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه , لفعل النبي صلى الله عليه وسلم , وإن رماها من الجوانب الأخرى
97
أجزأه إذا وقع الحصى في المرمى , ولا يشترط بقاء الحصى في المرمى وإنما المشترط وقوعه فيه فلو وقعت الحصاة في المرمى ثم خرجت منه أجزأت في ظاهر كلام أهل العلم . وممن صرح بذلك النووي رحمه الله في شرح المهذب , ويكون حصى الجمار مثل حصى الخذف , وهو أكبر من الحمص قليلا .
ثم بعد الرمي ينحر هديه ويستحب أن يقول عند نحره أو ذبحه " بسم الله والله أكبر , اللهم هذا منك ولك " . ويوجه إلى القبلة , والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى وذبح البقر
98
والغنم على جنبها الأيسر , ولو ذبح إلى غير القبلة ترك السنة وأجزأته ذبيحته لأن التوجيه إلى القبلة عند الذبح سنة وليس بواجب , ويستحب أن يأكل من هديه ويهدي ويتصدق لقوله تعالى :
فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ويمتد وقت الذبح إلى غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق في أصح أقوال أهل العلم , فتكون مدة الذبح يوم النحر وثلاثة أيام بعده ثم بعد نحر الهدي أو ذبحه يحلق رأسه أو يقصره , والحلق أفضل لأن
99
النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالرحمة والمغفرة للمحلقين ثلاث مرات وللمقصرين واحدة ولا يكفي تقصير بعض الرأس بل لا بد من تقصيره كله كالحلق , والمرأة تقصر من كل ضفيرة قدر أنملة فأقل .
وبعد رمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير يباح للمحرم كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء ويسمى هذا التحلل : التحلل الأول , ويسن له بعد هذا التحلل التطيب والتوجه إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة , لحديث عائشة رضي الله عنها قالت :
كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم
100
ولحله قبل أن يطوف بالبيت
أخرجه البخاري ومسلم .
ويسمى هذا الطواف طواف الإفاضة وطواف الزيارة وهو ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به , وهو المراد في قوله عز وجل
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ثم بعد الطواف وصلاة الركعتين خلف المقام يسعى بين
101
الصفا والمروة إن كان متمتعا , وهذا السعي لحجه والسعي الأول لعمرته .
ولا يكفي سعي واحد في أصح قول العلماء لحديث عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث وفيه فقال :
من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا إلى أن قالت : " فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم " رواه البخاري ومسلم . وقولها رضي الله عنها عن الذين أهلوا بالعمرة ثم طافوا طوافا
102
آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم , تعني به الطواف بين الصفا والمروة على أصح الأقوال في تفسير هذا الحديث , وأما قول من قال أرادت بذلك طواف الإفاضة فليس بصحيح لأن طواف الإفاضة ركن في حق الجميع وقد فعلوه , وإنما المراد بذلك ما يخص المتمتع وهو الطواف بين الصفا والمروة مرة ثانية بعد الرجوع من منى لتكميل حجه , وذلك واضح بحمد الله وهو قول أكثر أهل العلم ويدل على صحة ذلك أيضا ما رواه البخاري في الصحيح تعليقا مجزوما به عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن متعة الحج فقال : ( أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب . وقال من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله , ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ) انتهى المقصود منه وهو صريح في سعي المتمتع مرتين والله أعلم .
104
وأما ما رواه مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا . طوافهم الأول فهو محمول على من ساق الهدي من الصحابة لأنهم بقوا على إحرامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى حلوا من الحج والعمرة جميعا . والنبي صلى الله عليه وسلم قد أهل بالحج والعمرة وأمر من ساق الهدي أن يهل بالحج مع العمرة وألا يحل حتى يحل منهما جميعا والقارن بين الحج والعمرة ليس عليه إلا سعي واحد كما دل عليه حديث جابر المذكور وغيره من الأحاديث الصحيحة .
105
وهكذا من أفرد الحج وبقي على إحرامه إلى يوم النحر ليس عليه إلا سعي واحد , فإذا سعى القارن والمفرد بعد طواف القدوم كفاه ذلك عن السعي بعد طواف الإفاضة وهذا هو الجمع بين حديث عائشة وابن عباس وبين حديث جابر المذكور وبذلك يزول التعارض ويحصل العمل بالأحاديث كلها .
ومما يؤيد هذا الجمع أن حديثي عائشة وابن عباس حديثان صحيحان وقد أثبتا السعي الثاني في حق المتمتع وظاهر حديث جابر ينفي والمثبت مقدم
106
على النافي كما هو مقرر في علمي الأصول ومصطلح الحديث والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب , ولا حول ولا قوة إلا بالله
.

فقه الحج

الحمد لله الذي فضل بحكمته البيت الحرام ، وفرض حجه على من استطاع إليه السبيل من أهل الإيمان و الإسلام ، وغفر لمن حج واعتمر ما اكتسب من الذنوب والآثام ، أحمده حمداً كثيراً طيباً على مر الليالي والأيام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله أفضل الخلق وصفوة الأنام .اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الأخيار ، أما بعد …فهذه رسالة موجزة ومختصرة في ( توضيح الأحكام الخاصة في مناسك الحج والعمرة ) والزيارة فيها من أقوال أهل العلم المختصر المفيد ، وقد أرجعنا ما أشكل علينا من المسائل إلى ترجيحات سماحة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى وجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء .فما كان من صواب فمن الواحد المنان وما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان . والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به كل من قرأه وطبعه ونشره وأن يجعله سبباً للفوز لديه في جنات النعيم إنه سميع مجيب وهو حسبنا ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .المبحث الأول : تعريف الحج والعمرة لغة وشرعاً :الحج لغة :- القصد ( النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/340 ) تقول العرب :حج بنو فلان فلاناً إذا قصدوه وأكثروا التردد عليه ثم غلب في الاستعمال الشرعي والعرفي على حج بيت الله تعالى وإتيانه ، فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد لأنه هو المشروع الموجود كثيراً (شرح العمدة في بيان مناسك الحج والعمرة لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/75 وانظر المصباح المنير 1/121 ).الحج شرعاً :- هو التعبد لله عز وجل بأعمال مخصوصة في أوقات مخصوصة ، في مكان مخصوص من شخص مخصوص على ما جاء في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم .العمرة لغة :- الزيارةالعمرة شرعاً :- التعبد لله عز وجل بزيارة البيت العتيق على وجه مخصوص ، بإحرام وطواف وسعي وحلق أو تقصير ، ثم تحلل .المبحث الثاني : حكم الحج والعمرة :أولاً الحج :- وهو واجب وفرض بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين ( الإجماع لابن المنذر ص54 وشرح العمدة 15/87 ) . وهو أحد أركان الإسلام التي بني عليها . وهو واجب على من توافرت به الشروط في العمر مرة واحدة إلا أن ينذر فيجب عليه الوفاء بالنذر وما زاد فهو تطوع .ودليل وجوب الحج هو قول الله تبارك وتعالى [ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ] سورة آل عمران آية 97 . وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : [ أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ..] رواه مسلم 2/975 في الحج باب فرض الحج مرة في العمر .ومن أنكر فرضية الحج فهو كافر مرتد عن الإسلام إلا أن يكون جاهلاً بذلك كأن يكون حديث عهد بإسلام أو ناشئ في بادية بعيدة لا يعرف من أحكام الإسلام شيئاً فهذا يعذر بجهله ويعرّف ، ويبين له الحكم ، فإن أصر على إنكاره حكم بردّته ، وأما من تركه متهاوناً مع اعترافه بفرضيته فهذا لا يكفر ولكنه على خطر عظيم لأن الراجح أن الحج واجب على الفور فيمن توافرت فيه شروط الحج ( التي سيتم ذكرها بعد قليل لأن الأصل في الأمر أن يكون على الفور ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية حين أمرهم بالإحلال وتباطؤوا ) أخرجه البخاري في الشروط (2731 ) ، (2732 ) . ولأن الإنسان لا يدري ما يعرض له فقد يكون الآن قادراً وفي المستقبل عاجزاً ولأن في ذلك إبراء للذمة قبل معاجلة الموت ولأن الله تعالى أمر بالاستباق إلى الخيرات فقال :- [ فاستبقوا الخيرات ] سورة البقرة آية 148 . وبعد أن تبينا حكم الحج نود أن نتعرض لتاريخ مشروعية : تاريخ مشروعية الحج ( متى فرض الحج ) :اختلف العلماء في تاريخ مشروعية الحج على أقوال فمنهم من قال في السنة السادسة للهجرة وقال آخرون في السنة التاسعة وهو الصواب لأن آية فرضيته هو قول الله تعالى [ ولله على الناس حج البيت .. ] وهي في صدر سورة آل عمران وقد نزل صدر هذه السورة عام الوفود (شرح العمدة لشيخ الإسلام 1/219 وتفسير ابن كثير 1/368 ) وفي هذا العام قدم وفد نجران وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أداء الجزية والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع . وحكمة تأخر فرضية الحج والله تعالى أعلم ، أن مكة زادها الله شرفاً ، كانت قبل تلك السنة تحت سيطرة المشركين من قريش فليس يتسنى للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يحجوا على الوجه الأكمل ومن المتوقع أن تمنعهم قريش من الحج كما فعلوا في السنة السادسة عندما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن إتمام عمرتهم ، ولكن بعد أن تحررت مكة من الكفر بعد فتحها صار إيجاب الحج على الناس موافقاً للحكمة .ثانياً : العمرة :- فقد اختلف العلماء في حكم العمرة فمنهم من يرى أنها واجبة ومنهم من قال أنها سنة ومنهم من فرق بين المكي وغيره ، فقال هي واجبة على غير المكي أما أهل مكة فلا تجب عليهم . والراجح والله تعالى أعلم أنها واجبة على المكي وغيره في العمر مرة لكن وجوبها أدنى من وجوب الحج ، لأن وجوب الحج فرض مؤكداً ، وهو أحد أركان الإسلام بخلاف العمرة يقول ابن عمر رضي الله عنهما [ ليس أحد إلا وعليه حج وعمرة ] البخاري مع الفتح 3/597 . وعندما سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟ قال : [ نعم عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة ] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 65/156 وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 2/151 . وعن أبي رزين أنه قال : [ يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن ، قال : فحج عن أبيك واعتمر ] أخرجه أهل السنن وقال الألباني صحيح النسائي 2/556 – أبي داود 1/341 . وهذا هو الصواب الذي دلت عليه الأدلة الشرعية أن الحج والعمرة واجبان في العمر مرة واحدة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة ؟ قال : [ بل مرة واحدة ، فمن زاد فهو تطوع ] صححه الألباني في صحيح أبي داود 1/324 والنسائي 2/556 وابن ماجه 2/148 .المبحث الثالث : شروط وجوب الحج والعمرة :فما هي شروط الحج والعمرة : يجب الحج والعمرة بخمسة شروط (شرح العمدة في بيان مناسك الحج والعمرة لابن تيمية 1/113 ) .الشرط الأول : [ الإسلام ] لقوله تعالى [ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ] سورة التوبة آية 28 . ولأنه لا يصح منهم ذلك ومحال أن يجب ما لا يصح لأن العبادات لا تجب إلا على المسلم لأن كل عبادة لا تصح من كافر لقوله تعالى [ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ] سورة التوبة آية 54 .الشرط الثاني : [ العقل ] فلا حج ولا عمرة على مجنون إلا أن يفيق لقوله صلى الله عليه وسلم [ رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبدأ ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم ] رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الألباني ص ج ص 2/35 .الشرط الثالث : [ البلوغ ] فلا يجب الحج على الصبي حتى يبلغ ولكن لو حج صح حجه لكن لا يجزئه عن حجة الإسلام . لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبياً فقالت : ألهذا حج ؟ قال : [ نعم ولك أجر ] رواه مسلم 2/974 .ولقوله عليه الصلاة والسلام : [ أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى .. ] رواه الخطيب البغدادي وصححه الألباني في ص ج ص 2729
الشرط الرابع : [ كمال الحرية ] فلا يجب الحج على المملوك ولكنه لو حج فحجه صحيح لكن لا يجزئه عن حجة الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم : [ وأيما عبد حج ثم أعتق ، فعليه أن يحج حجة أخرى ] نفس المصدر السابق .الشرط الخامس : [ القدرة أو الاستطاعة بالمال والبدن ] :* فإن كان الإنسان قادراً بماله دون بدنه فإنه ينيب من يحج عنه لفعل المرأة الخثعمية التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم ( فقالت يا رسول الله : إن أبي أدركته فريضة الله على عباده في الحج شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال عليه الصلاة والسلام [ نعم ] وذلك في حجة الوداع ) شريطة أن يكون النائب قد حج عن نفسه .* أما من كان قادراً ببدنه دون ماله ولا يستطيع الوصول إلى مكة فإن الحج لا يجب عليه .* [ ومن القدرة ] أن تجد المرأة محرماً لها . فإن لم تجد محرماً فإن الحج لا يجب عليها لقوله عليه الصلاة والسلام [ لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا ومع ذي محرم ، فقال رجل : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال عليه الصلاة والسلام [ انطلق فحج مع امرأتك ] البخاري مع الفتح 6/143 ومسلم 3/978 .* لكن لو حجت المرأة بغير محرم أجزأتها الحجة عن حجة الفرض مع معصيتها وعظيم الإثم عليها .[شرح العمدة في بيان مناسك الحج والعمرة لابن تيمية 1/182] .• لكن اختلف العلماء هل يجب على من لم تجد محرم أن تنيب من يحج عنها ويعتمر ؟ أو لا يجب ؟على قولين لأهل العلم بناء على أن وجود المحرم هل هو شرط لوجوب الأداء ؟ أو هو شرط للوجوب من أصله ؟ والمشهور عند الحنابلة رحمهم الله تعالى- أن المحرم شرط للوجوب وأن المرأة التي لا تجد محرماً لا يلزمها حج ولا يلزمها أن تقيم من يحج عنها .المبحث الرابع : فضل الحج والعمرة1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه ] البخاري مع الفتح 4/20 – مسلم 2/984 . وفي لفظ مسلم : [ من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه ] مسلم 2/983 وفي الترمذي " غفر له ما تقدم من ذنبه " صحيح الترمذي 1/345 .2- وعنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ] البخاري مع الفتح 3/597 ومسلم 2/983 .الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ، ولم يخالطه إثم ولا يعقبه معصية وهو الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعاً كما طُلب من المكلف على الوجه الأكمل ، وهو الحج المبرور ومن علامات القبول أن يرجع خيراً مما كان و لا يعاود المعاصي .

درس الجمعة :فقه الحج

1) عرّف الحج؟الحج: هو قصد مكة لأداء عبادة ذات إحرام، ووقوف، وطواف، وسعي وغير ذلك· أو هو: عبادة يلزمها الوقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة·2) ما دليل مشروعية الحج؟ دليل المشروعية: قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) آل عمران .98وحديث الصحيحين: ''بني الإسلام على خمس·· وفيه: ''حج البيت من استطاع إليه سبيلا''·3- ما حكم الحج؟الحج فرض واجب على مستطيعه من أحرار المكلفين، والنساء، مرة في العمر·4- ما شروط وجوب الحج؟شروط وجوبه: الحرية، البلوغ، العقل، الاستطاعة·5- ما حد الاستطاعة؟الاستطاعة: هي إمكان الوصول بلا مشقة عظيمة، ويدخل في الاستطاعة، أمن الطريق على النفس والمال من الهلاك·6- ما شروط أداء الحج؟شروط أدائه شيئان: الإسلام، وإمكان المسير والوصول إلى مكان الحج·7-- ما الشروط الخاصة بالمرأة؟يزاد للمرأة من الشروط: الزوج أو المحرم مطلقا أو رفقة مأمونة في حجة الفرض خاصة·8- هل يشترط في الرفقة المأمونة أن تكون نساء؟تشترط الرفقة المأمونة سواء أكانت رجالا أو نساء، أو تجمع بينهما·9- ما دليل ما قيل؟أصله: ما جاء في الموطأ والصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ''لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوما وليلة إلا مع ذي محرم منها''·01- هل وجوب الحج على الفور، أو على التراخي؟فرض الحج على الفور، فلا يجوز للقادر عليه أن يؤخره·11- ما دليل وجوب الحج على الفور؟دليله: حديث: ''تعجّلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له'' أخرجه أحمد، وحديث: ''من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة'' أخرجه أحمد وأبو داود·12- ما أركان الحج التي لا يصح إلا بها؟أركانه:أ) الإحرام·ب) الحضور بعرفة في أي وقت من ليلة عيد النحر·ج) السعي بين الصفا والمروة·13- ما ميقات الحج؟للحج ميقاتان: زماني، ومكاني·14- متى يبدأ الميقات الزماني؟يبدأ الميقات الزماني من أول شوال، وآخره بالنسبة للإحرام، ويمتد إلى ما قبل طلوع الفجر يوم النحر بما يسع النية والوقوف جزءا، وأما آخره بالنسبة لتمام النسك فيمتد إلى آخر شهر ذي الحجة·15- ما الدليل على الحكم السابق؟دليله قوله تعالى: ''الحج أشهر معلومات'' البقرة.197

محمد :صلى الله عليه وسلم :القدوة الحسنة/2

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :فنحن ننتمي إلى الإسلام، وهذا الانتماء هو الذي شرفنا الله - تبارك وتعالى- به وسمانا به . ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - هو إمام الدعاة، وهو القدوة والأسوة والداعية المعلم الذي أمر الله تبارك وتعالى باقتفاء نهجه، وأن نقتدي به في عبادتنا ودعوتنا وخلقنا ومعاملاتنا وجميع أمور حياتنا، قال تعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [يوسف:108]، وقال تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب:21] أولا : أهمية الموضوع : وتتضح أهمية موضوع الرسول – صلى الله عليه وسلم- القدوة في النقاط الآتية :1- إن الناظر في الأوساط التربوية اليوم ليلحظ قلة القدوة الصالحة المؤثرة في المجتمعات الإسلامية، رغم كثرة أهل العلم والتقوى والصلاح .2- إن المتأمل في خضم الحياة المعاصرة يجد الأمور قد اختلطت، والشرور قد سادت، وأصبح النشء والشباب يُرددون : (نحن لا نجد القدوة الصالحة.. فلماذا؟) .3- إن كثيراً من الناس اليوم بدلاً من أن يتخذوا سيرة نبيهم وقدوتهم محمد – صلى الله عليه وسلم -، تراهم قد انشغلوا بالمشاهير من الممثلين أو اللاعبين، وما تراهم إلا استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .ثانيا : وجوب الاقتداء بالرسول – صلى الله عليه وسلم-: يجب على كل مسلم ومسلمة الاقتداء والتأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -; فالاقتداء أساس الاهتداء، قال تعالى : "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب:21] قال ابن كثير : "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله – صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أُمِرَ الناسُ بالتأسي بالنبي – صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه –عز وجل-" (1).فمنهج الإسلام يحتاج إلى بشر يحمله ويترجمه بسلوكه وتصرفاته، فيحوِّله إلى واقع عملي محسوس وملموس، ولذلك بعثه – صلى الله عليه وسلم- بعد أن وضع في شخصيته الصورة الكاملة للمنهج- ليترجم هذا المنهج ويكون خير قدوة للبشرية جمعاء .لقد كان الصالحون إذا ذكر اسم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -; يبكون شوقا وإجلالا ومحبة لَهُ، وكيف لا يبكون؟ وقد بكى جذع النخلة شوقا وحنينا لما تحوَّل النبي - صلى الله عليه وسلم -; عنه إلى المنبر، وكان الحسنُ إذا ذَكَرَ حديث حَنينَ الجذع وبكاءه، يقول : "يا معشر المسلمين، الخشبة تحن إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- شوقا إلى لقائه؛ فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه" (2).يقول ابن تيمية -رحمه الله- : "وإنما ينفع العبد الحب لله لما يحبه الله من خلقه كالأنبياء والصالحين؛ لكون حبهم يقرب إلى الله ومحبته، وهؤلاء هم الذين يستحقون محبة الله لهم" (3).ولا بد من تحقيق المحبة الحقيقية لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -; وتقديم محبته وأقواله وأوامره على من سواه (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون اللهُ ورسولُهُ أَحَبَّ إليه مما سواهما..) الحديث (4).إن واجبنا الاقتداء بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -; وجعلها المثل الأعلى للإنسان الكامل في جميع جوانب الحياة، واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -; دليل على محبة العبد ربه، وسينال محبة الله تعالى لَهُ، وفي هذا يقول الله –عز وجل- " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [آل عمران:31]. فسيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم- كانت سيرة حية أمام أصحابه في حياته وأمام أتباعه بعد وفاته، وكانت نموذجاً بشرياً متكاملاً في جميع المراحل وفي جميع جوانب الحياة العملية، ونموذجاً عملياً في صياغة الإسلام إلى واقع مشاهدٍ يعرفُ من خلال أقوالِهِ وأفعالِهِِ فيتبع رسولَهُ محمداً – صلى الله عليه وسلم-، ويجعل اتِّبَاعَه دليلا على صدق محبته-سبحانه-.كما أن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم- أصل من أصول الإيمان الذي لا يتم إلا به، عن عمر –رضي الله عنه- قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : ((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين)) (5).ولقد كان الصحابة جميعا-رضي الله عنهم- يحبون النبي – صلى الله عليه وسلم- حبا صادقا حملهم على التأسي به والاقتداء واتباع أمره واجتناب نهيه؛ رغبة في صحبته ومرافقته في الجنة، قال تعالى : "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً" [النساء:69] وفي الحديث "المرء مع من أحب" (6).وجاء في حديث أنس –رضي الله عنه-; بلفظ قال:"شهدت يوم دخل النبي – صلى الله عليه وسلم- المدينة فلم أَرَ يوماً أحسنَ ولا أضوأََ منه" (7)، وفي رواية :"فشهدتُه يومَ دخلَ المدينةَ فما رأيت يوماً قَط كان أحسنَ ولا أضوأَ من يوم دخل علينا فيه، وشهدته يوم مات فما رأيت يوماً كان أقبحَ ولا أظلمَ من يوم مات فيه –صلى الله عليه وسلم-" (8).ثالثا : أمور مهمة في الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم- : - ومن الجوانب المهمة في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ أن سيرته - صلى الله عليه وسلم- في إيمانه وعبادته وخلقه وتعامله مع غيره، وفي جميع أحواله كانت سيرة مثالية في الواقع، ومؤثرة في النفوس؛ فقد اجتمعت فيها صفات الكمال وإيحاءات التأثير البشري، واقترن فيها القول بالعمل؛ ولا ريب أن الإيحاء العملي أقوى تأثيراً في النفوس من الاقتصار على الإيحاء النظري؛ لهذه العلة أرسل الله تعالى الرسل ليخالطهم الناسُ ويقتدوا بهداهم، وأرسل الله سبحانه الرسولَ – صلى الله عليه وسلم- ليكون للناس أسوة حسنة يقتدون به، ويتأسون بسيرته، قال المولى – عز وجل- " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب:21]، وقد أمرهم -صلى الله عليه وسلم- بالتأسي به فقال :"صلوا كما رأيتموني أصلي" (9)، وقال – صلى الله عليه وسلم- :"لتأخُذُوا مناسِكَكُم" (10).وقال بعضهم في الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم- والتأسي به :
إذا نحن أدلجنا وأنت إمَامُنـا *** كفى بالمطايا طِيبُ ذِكراكَ حادياوإن نحن أضلَلْنَا الطريقَ ولم نجدْ*** دليلا كفَانَا نُورُ وَجْهِكَ هَاديـا (11)
ومن الأمور التي يجدر التنبيه عليها أيضا في الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم والتأسي به:- العمل بسنته باطنا وظاهرا: مثل سنن الاعتقاد ومجانبة البدعة وأهلها. والسنن المؤكدة : مثل سنن الأكل واللباس والوتر وركعتي الضحى، وسنن المناسك في الحج والعمرة ..- تطبيق السنن المكانية : الذهاب إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصلاة في مسجده، والصلاة في مسجد قباء، والصلاة في الروضة الشريفة، وهي من رياض الجنة التي ينبغي التنعم فيها والاعتناء بها، قال – صلى الله عليه وسلم- : ((ما بين بيتى ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)) (12).- الإكثار من الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -; كما في قوله : ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا)) (13).رابعا : حاجة الأمة إلى القدوات دوما بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم- : إن الاقتداء بالرسول – صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله تعالى ليس بالموضوع الهين، فإنه أمر جلل، والأمة الإسلامية اليوم، وهي تشهد صحوة وتوبة وأوبة إلى الله تعالى، وتشهد -في الوقت نفسه- مناهج وطرقاً مختلفة في الدعوة إلى الله.. هي أحوج ما تكون إلى معرفة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهج الأنبياء الكرام في الدعوة إلى الله؛ فليس هناك منهج يقتدى به في الدعوة والعلم والعمل إلا منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تبعه من الصحابة الكرام والسلف الصالح .فمنذ عهد الصحابة –رضوان الله عنهم- ومن تبعهم من الصالحين والعلماء والدعاة وأهل الفضل والتقى على مر العصور خلفوا سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم- في عطائها وإيحائها وتأثيرها؛ لأنهم ورثة الأنبياء، يقتدي بهم الناس في اتباع هدي الرسول – صلى الله عليه وسلم- والعمل بسنته، وبقيت سيرهم بعد وفاتهم نبراساً يضيء طريق محبيهم إلى الخير، ويرغبهم في السير على منهج الحق والهدى .وعلى الرغم من اختفاء تلكم الشخصيات عن العيون إلا أن سيرها العطرة المدونة لا تزال بقراءتها تفوح مسكاً وطيباً، وتؤثر في صياغة النفوس واستقامتها على الهدى والصلاح، قال بشر بن الحارث : "بحسبك أقوام تحي القلوب بذكرهم، وبحسبك أقوام تموت القلوب بذكرهم" .ذلك أن القدوة لا تزال مؤثرة وستبقى مؤثرة في النفس الإنسانية، وهي من أقوى الوسائل التربوية تأثيراً في النفس الإنسانية، لشغفها بالإعجاب بمن هو أعلى منها كمالاً، ومهيأة للتأثر بشخصيته ومحاولة محاكاته، ولا شك أن الدعوة بالقدوة أنجح أسلوب لبث القيم والمبادئ التي يعتنقها الداعية.وفي التأكيد على أهمية القدوة الحسنة في الداعية أو الأستاذ وأثر ذلك في تلاميذه، نقل الذهبي : "كان يجتمع في مجلس أحمد زُهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مئة يكتبون، والباقون يتعلّمون منه حُسْنَ الأدب والسَّمت" (14).وقبل أن نختم موضوعنا يجدر بنا أن نطرح تساؤلا مهما كثيرا ما يرد : ما السبب في قلة القدوة المؤثرة إيجابياً في الوسط التربوي ؟وتكون الإجابة على هذا السؤال بالأمور التالية (15):1- عدم توافر جميع الصفات التالية في كثير من الأشخاص الذين هم محل للاقتداء :أ- الاستعداد الذاتي المتمثل في طهارة القلب وسلامة العقل واستقامة الجوارح .ب- التكامل في الشخصية أو في جانب منها بحيث يكون الشخص محلاً للإعجاب وتقدير الآخرين ورضاهم، مع سلامة في الدِّين وحسن الخلق .ت- حب الخير للآخرين والشفقة عليهم والحرص على بذل المعروف وفعله والدعوة إليه، فمن كان على هذه الصفة أحبه الناس وقدروه وتأسوا به، ومن فقد هذه الصفة لم يلتفتوا إليه .2- عدم تسديد النقص أو القصور الذي قد يعتري من هم محل للاقتداء كالآباء والمعلمين وأهل العلم في صفة من تلك الصفات مما يصرف الناس عن التأسي بهم، وهذا يرجع إلى عدم إدراك هؤلاء للواجب، أو عدم تصورهم لأثر القدوة في التربية والإصلاح، أو لضعف شخصي ناتج عن استجابة لضغط المجتمع ، أو لسلبية عندهم نحو المشاركة في تربية الناشئة وإصلاح أفراد المجتمع .3- مزاحمة القدوات المزيفة المصطنعة للتلبيس على الناس وإضلالهم عن الهدى وتزيين السوء في أعينهم، وصرفهم عن أهل الخير وخاصة الله، فقد أسهم الإعلام المنحرف والمشوب في صناعة قدوات فاسدة أو تافهة، وسلط عليها الأضواء ومنحها من الألقاب والصفات والمكانة الاجتماعية ما جعلها تستهوي البسطاء من الناس أو ضعاف النفوس والذين في قلوبهم مرض، وتوحي بزخرف القول الذي يزين لهؤلاء تقليدهم ومحاكاتهم .4- "العناصر الخيرة قليلة في سائر المجتمعات، فما يكاد العامة يرون نموذجا جيداً حتى يسارعوا إلى الالتفاف حوله والتعلق به" (16).ومن هنا تأتي الحاجة ملحة لأن نعيد إلى الناس بيان حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- القدوة والأسوة الحسنة للناس جميعا، ونعنى بتربية الأبناء والشباب، وإعطائهم الصورة الصحيحة للقدوة الصالحة، وإبرازهم الشخصية المستحقة للاتباع والاحتذاء .ونختم موضوعنا؛ في الرسول – صلى الله عليه وسلم- القدوة، بأن المسلم إذا راقب الله تعالى في عباداته ومعاملاته ودعوته وأَجْرَاها وَفْقَ ما أمر الله عز وجل; وما أمر رسوله – صلى الله عليه وسلم- كان مقتديا برسول الله – صلى الله عليه وسلم- .اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد .--------------------------------------------------(1) تفسير القرآن العظيم، تحقيق : سامي السلامة (6/391).(2) سير أعلام النبلاء (4/570)، وفتح الباري (6/602).(3) مجموع الفتاوى (10/610).(4) البخاري ح16، ومسلم ح3.(5) البخاري ج14 و15 ، ومسلم 69 و70.(6) رواه البخاري (6168).(7) رواه الحاكم في كتاب الهجرة، رقم (4338)، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجه.(8) رواه أحمد (3/287). (9) البخاري (631) ، ومسلم (674). (10) مسلم (1297).(11) الفوائد لابن القيم ، (ص:56).(12) البخاري ح (1196)، ومسلم ح (1391).(13) مسلم ح (284).(14) سير أعلام النبلاء (11/316).(15) النقاط 1-3 يراجع : إجابة سؤال (قلة القدوة المؤثرة)، فضيلة شيخنا الدكتور أحمد بن عبد العزيز الحليبي ، موقع الإسلام اليوم – على الإنترنت ، تاريخ 17/6/1423هـ(16) الدعوة الإسلامية لمحمد يوسف، ص: 73.

محمد صلى الله عليه وسلم :القدوة الحسنة/1

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن وجود القدوة الحسنة في الحياة ضرورة لا بد منها، ليحتذى بها الإنسان ويكتسب منها ال
معالم الإيجابية لحركته في الحياة، سواء مع الله تعالى في أداء العبادات والفرائض، أو مع النفس وتزكيتها وتدريبها على الأخلاق الفاضلة، أو مع الأهل والأبناء داخل الأسرة من أجل بناء أسرة متماسكة، أو مع المجتمع من حوله في أمور الدين والدينا، وهكذا.
ومن أجل ذلك جعل الله تعالى
الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة ونموذجًا يجسد الدين الذي أرسل به، حتى يعيش الناس مع هذا الدين ورسوله واقعًا حقيقيًا بعيدًا عن الأفكار المجردة، فكان هذا الرسول عليه الصلاة والسلام خير قدوة للأمة في تطبيق هذا الدين ليكون منارًا لها إلى يوم القيامة، يقول تبارك وتعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)(1).

و
الرسول عليه الصلاة والسلام كان قدوة حسنة في مجالات الحياة المختلفة، ومن أهمها:
1 – أخلاقه في بيته:
لقد وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خلق النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت: (كان خلقه القرآن)، فانبثق سائر أعماله عليه الصلاة والسلام من هذا الخلق العظيم الذي أشار إليه القرآن الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وكان إظهار هذا الخلق واضحًا في بيته
مع زوجاته وبناته، حيث كان يحدثهم بأطيب الكلمات وأرق التعابير، وكان يلاعبهم ويلاطفهم، ويدخل السرور إلى قلوبهم، ويعدل بينهم، قالت عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه)(2).
وتقول عنه أيضًا: (كان بشرًا من البشر: يفلي ثوبه ويحلب شاته، ويخدم نفسه)(3). يفعل هذا وهو نبي الأمة وقائدها، يريد أن يعلم أمته من بعده أن الإنسان مهما علا شأنه واسمه يجب عليه أن لا يتكبر ولا يتجبر، بل يحافظ على تواضعه وحلمه.
وكتب السيرة حافلة بمثل هذه الصفات الحميدة التي تميزت بها شخصية
الرسول عليه الصلاة والسلام في بيته بين أهله.

2 – أخلاقه
مع الناس:
حيث كان عليه الصلاة والسلام على درجة رفيع من الخلق العظيم
مع صحابته رضوان الله عليهم، فلم يكن يستعلى على أحد منهم، يقابلهم بالوجه الحسن المبتسم، ويكلمهم بأسلوب هادئ رزين، ويشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، وكان يعامل الصحابة جميعًا معاملة واحدة، حتى يظن أحدهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعامل أحدًا بمثل ما يعامله من الرفق واللطف.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام على يشاورهم في أمور الدعوة وفي الحروب، دون تمييز أو تفريق بينهم، عربًا كانوا أم عجمًا، فقد أخذ برأي سلمان الفارسي بحفر الخندق في غزوة الأحزاب، وجعل بلالاً مؤذنه الخاص وهو حبشي.
ويجب أن يلتفت الزعماء والمسؤولون والتجار والعلماء والموظفون وسائر الناس إلى هذا الخلق النبيل الذي اتصف به
الرسول عليه الصلاة والسلام، ويجعلوه صفة دائمة في حياتهم مع الناس، فلا يتكبرون على عباد الله ولا يظلموهم ولا يغشوهم ولا يصعبوا أمورهم، فإن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الاقتداء بأعماله كلها، حتى يطمئن الناس إلى بعضهم البعض، وتزداد ثقتهم ببعض، فيزول من المجتمع البغض والكراهية، ويحل الوئام والمودة.

3 – أخلاقه
مع الصغار:
تروي لنا السيرة النبوية نماذج من أخلاقه
مع الصغار والأطفال وعطفه وحنانه عليهم، فكان عليه الصلاة والسلام يلاعبهم ويمازحهم، وكان لا يغضب عليهم ولا يضربهم، حتى أحبه جميع الصبيان والأطفال، قالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتي بالصبيان فيدعو لهم فأُتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ولم يغسله)(4)، وكان عليه الصلاة والسلام يلاعب زينب بنت أم سلمة وهو يقول: (يا زوينب..).
وإذا أصاب أحد هؤلاء الصغار مكروه، تجد
الرسول عليه الصلاة والسلام يبكي عليهم ويحزن لمصابهم، فقد رآه مرة سعد بن عبادة رضي الله عنه وعيناه تفيض دموعًا، فقال رضي الله عنه: يا رسول الله، ما هذا؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: (هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)(5).

4 – أخلاقه
مع أعدائه:
لقد أدهشت العالمَ
معاملة رسول الله صلى الله عليه مع أعدائه وهو متمكّن منهم، فلم يظهر في التاريخ أرحم منه مع أعدائه رغم ما كان يلاقيه منهم من الأذى والعذاب والتشريد، فعندما فتحت مكة، ودانت للدين الجديد القبائل والوفود، وصار جميع الأعداء الذين كانوا يحاربونه بالأمس ويحاربون دعوته تحت يده وتصرفه، نادى فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)(6).
وعندما ذهب إلى الطائف لعله يجد من ينصره هناك، استقبله بنو ثقيف بالطرد ولحقه صبيانهم بالحجارة والشتائم، حتى أدميت قدماه، جاءه ملك الجبال وقال له: إن إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)(7).
وما أحوج الناس إلى هذا الخُلق العظيم، في هذا العصر المتلاطم الأمواج، حيث حلّت الوحشية محل الرحمة، والرذيلة محل الفضيلة، والنفاق محل الصدق والإخلاص، وجميعها
معاول هدم ودمار على العالم، والمشاهد المأساوية التي نعاينها على مدار الساعة، ما بين القتل والتشريد والحرمان والفقر في العالم هي من نتائج غياب هذه الأخلاق والقيم التي جاء بها رسول هذه الأمة عليه الصلاة والسلام.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أج
معين.

1) سورة الأحزاب، الآية 21.
(2) صحيح مسلم7020، رقم، ص1205.
(3) مسند الإمام أحمد، باقي مسند الأنصار.
(4) صحيح البخاري، رقم6355، ص1104.
(5) صحيح البخاري، رقم1284، ص205.
(6) السيرة النبوية لابن هشام، علق عليها وأخرج أحاديثها عمر عبدالسلام تدمري، 4/54-55. .
(7) صحيح البخاري، رقم 3231، ص539.

ردا على الأخت "عهد"

بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:بخصوص "الخط في نص المدونة الرابعة عشرة" أقترح عليك"ارسال عنوانك الألكتروني.وسأوافيك بالنص واضحا.بعد أن أحوله على الوورد
تفضلى يا أخت عهد فائق الاحترام والتقدير على اهتمامك بمدونتا
أخوك في الله الأستاذ هشام لطيف
بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"