بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 21 يونيو 2010

معنى المعية والقيام

معنى المعية والقيام

من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم زاده الله من العمل والإيمان آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتابكم الكريم المؤرخ 9/4/1374هـ وصل وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق وكذا كتابكم الثاني وصل، وقد أخرنا الجواب رجاء أن يتيسر لنا فرصة نبسط لكم فيها الجواب ولكن بسبب تزاحم الشغل وضيق الوقت بالدروس المتعلقة بالمعهد وغيره لم يتيسر بسط الجواب في هذه الرسالة عما تضمنه كتابكم الأول من المسائل الأربع وهاأنذا أذكر لكم جواب بعضها وأرجئ الباقي إلى وقت العطلة وأرجو إشعارنا بمحلكم بعد انتهاء الدراسة لإرسال بقية الجواب وفقني الله وإياك لمعرفة الحق واتباعه وأعاذنا وسائر المسلمين من مضلات الفتن إنه سميع قريب.
أما سؤالكم عن معنى المعية فالجواب أن الله سبحانه ذكر في كتابه معيتين: عامة، وخاصة. الأولى في قوله سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ
}[1]، والثانية في قوله سبحانه: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}،[2] {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[3]. وما أشبههما من الآيات والذي عليه أهل السنة في ذلك أن الله سبحانه موصوف بالمعية على الوجه الذي يليق بجلاله مع إثبات استوائه على عرشه وعلوه فوق جميع خلقه وتنزيهه عن مخالطته للخلق فهو سبحانه عليٌّ في دنوه قريب في علوِّه فوصفه بالمعية لا ينافي وصفه بالعلو على الوجه الذي يليق به من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته ولما كانت الجهمية والمعتزلة يحتجون بآيات المعية على إنكار العلو ويزعمون أنه سبحانه بكل مكان أنكر عليهم السلف ذلك وقالوا: إن هذه المعية تقتضي علمه بأحوال عباده واطلاعه عليهم مع كونه فوق العرش، ولهذا بدأ آيات المعية العامة بالعلم وختمها بالعلم ؛ تنبيهاً لعباده على أن مراده سبحانه من إخباره بالمعية إشعار عباده بأنه يعلم أحوالهم ويطلع عليهم، ولهذا فسر أكثر السلف آيات المعية بالعلم، وحكى بعض أهل العلم إجماع أهل السنة على تفسير آيات المعية بالعلم وإبطال رأي الجهمية والمعتزلة في تفسيرها بأنه في كل مكان، وإنكارهم العلو والاستواء - قاتلهم الله أنى يؤفكون - وبهذا تعلم أن تفسير المعية بالعلم ليس هو قول الشيخ تقي الدين وحده بل هو قول أهل السنة، وقد ذكر رحمه الله في الواسطية ما يدل على وجوب الإيمان بأن وصف الله سبحانه بالعلو والمعية حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة إلى آخره فراجعه إن شئت، ومراده رحمه الله أنه يجب إثبات المعية والعلو فوق العرش على وجه يليق بالله لا يشابه فيه خلقه.
قال الحافظ بن كثير في تفسير قوله تعالى:
{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}[4] الآية ما نصه: (حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ولا شك في إرادة ذلك) انتهى.
ولا ينافي ذلك تفسير المعية بالعلم؛ لأن ذلك هو مقتضاها ولازمها فهي حق ومقتضاها: علم الله بأحوال عباده واطلاعه عليهم، وأما كيفيتها فلا يعلمها إلا الله كسائر الصفات، فإن أهل السنة يؤمنون بأسماء الله وصفاته ويعلمون معانيها، ولكن لا يعلمون كيفيتها بل لا يعلم كيفية صفاته إلا هو، كما لا يعلم كيفية ذاته إلا هو تعالى وتقدس عما يقوله النفاة والمشبهون علوا كبيرا، ولهذا قال مالك رحمه الله وغيره من أهل السنة: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب. وهكذا يقال في سائر الصفات والله أعلم
وأما القيام عند دخول الأستاذ فظاهر الأحاديث الصحيحة يدل على كراهته أو تحريمه، كحديث أنس رضي الله عنه قال: (لم يكن أحد أحب إليهم - يعني الصحابة - من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا لا يقومون إذا رأوه لما يعلمون من كراهيته لذلك) رواه أحمد والترمذي، وقال حسن صحيح غريب. ولا ينبغي للأستاذ أن يرضى من الطلبة بذلك، لحديث معاوية رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: ((من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد جيد وقد حسنه الترمذي، وأخرج أبو داود بإسناد فيه ضعف، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا إليه فقال:
((لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا)) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه، وذكر هذه الأحاديث الحافظ محمد بن مفلح في (الآداب الشرعية) صفحة: (464و465) المجلد الأول، وقد استثنى بعض أهل العلم من هذه الأحاديث القيام للقادم من السفر للسلام عليه ومصافحته أو معانقته، وكذا من طالت غيبته، واستثنى بعضهم قيام الولد لأبيه لإكرامه والأخذ بيده، وقيام الوالد لولده إذا كان أهلا لذلك، والمراد القيام للسلام والمصافحة، وهذا الاستثناء صحيح، وقد دلت عليه السنة الصحيحة، منها ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للصحابة لما قدم سعد بن معاذ للحكم في بني قريظة: ((قوموا إلى سيدكم)) والمراد: القيام للسلام عليه وإنزاله عن دابته، وفي الصحيحين أيضا عن كعب بن مالك (أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والناس حوله لما أنزل الله توبته، قام إليه طلحة بن عبيد الله يهرول فصافحه وهناه بتوبة الله عليه، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم) وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد جيد عن عائشة رضي الله عنها: (كانت فاطمة رضي الله عنها إذا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قامت إليه فأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها، وإذا دخلت عليه قام إليها النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه) فهذه الأحاديث صريحة في جواز مثل هذا وأنه لا يدخل في القيام المكروه، وأما ما يفعله بعض الناس اليوم من القيام للأستاذ ونحوه كلما دخل عليهم لتعظيمه لا للمصافحة ونحوها، وإنما يقفون ثم يجلسون تعظيما له واحتراما، فلا شك في كراهة ذلك وإنكاره، وأنه لا يجوز للأستاذ ونحوه أن يرضى بذلك لما تقدم في حديث معاوية وغيره، وأحق الناس بامتثال السنة والتأدب بآدابها هم العلماء والمعلمون وطلاب العلم ورؤساء الناس وأعيانهم؛ لأن الناس يقتدون بهم، فإذا عظموا السنة عظمها الناس، وإذا تهاونوا بها تهاون بها الناس، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو خير الناس وأفضلهم وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام وكان لا يرضى أن يقام له بل كره ذلك ونهى الصحابة عنه خوفا عليهم من الغلو ومشابهة الأعاجم في القيام لرؤسائهم وعظمائهم، والله سبحانه يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[5]، وفقنا الله وإياك للعلم النافع، والعمل به والدعوة إليه.
وباقي الجواب يأتيك إن شاء الله في العطلة، والله يتولانا وإياك والسلام.


[1] سورة الحديد الاية 4.
[2] سورة التوبة الآية 40
[3] سورة طه الآية 46.
[4] سورة المجادلة الآية 7
[5] سورة الأحزاب، الآية 21.

معية الله

أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أنه معنا في أكثر من آية فقال : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) وقال : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) وقال : ( وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ) وقال : ( إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) وقال: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا " ويقول : " قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى )

فكل هذه الآيات دالة على معيته تعالى لخلقه معية حقيقية تليق بجلاله وعظمته ، مع إثبات علوه تعالى واستوائه على عرشه ولا تستلزم معنى باطلاً كحلوله تعالى في مخلوقاته أو مخالطته لهم ، ومماسته إياهم قال شيخ الإسلام في الحموية ص 456 : " فالله مع خلقه حقيقة ، وهو فوق عرشه حقيقة "
وقد درج كثير من السلف على تفسير آيات المعية بأنها كناية عن العلم قال حافظ الحكمي رحمه الله في سلم الوصول :

كذا له العلو والفوقية *** على عباده بلا كيفية
ومع ذا مُطلعٌ إليهم *** بعلمه مهمين عليهم
وذكره للقرب والمعية *** لم ينف للعلو والفوقية
فإنّه العلي في دنوه *** وهو القريب جلّ في علوه

وهو تفسير وجيه ومسلك لا بأس به لكنّ إقرار صفة المعية على ظاهرها واعتقاد حقيقتها مع تنزيه الله تعالى عن الاعتقادات الباطلة والمفهوم الخاطئة هو الأسلم والأولى .

أقسام المعية :

1/ معية عامة :
وهي معيته تعالى لجميع خلقه بالعلم والإحاطة والسمع والبصر . ويدل عليها قوله تعالى : ( وهو معكم أين ما كنتم ) وهي معية شاملة للمؤمن والكافر ، والبّر والفاجر .
كما إنها صفة ذاتية لا تنفك عنه تعالى لأنه سبحانه لا تغيب عنه غائبة في السموات ولا في الأرض ، ولا يزال محيطاً بخلقه عالماً بهم مطلعاًً على كل أحوالهم وخبايا نفوسهم لا يخرج أحد عن قبضته ، ولا ينفك عن حضرته فسبحانه ما أعلمه وما أحلمه !

2/ المعية الخاصة :
وهي معية زائدة على مجرد العلم والإحاطة فهي دالة على النصرة والتأييد ودليلها ( إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) فمعيته سبحانه للمتقين والمحسنين معية خاصة تقتضي النصرة والتأييد ، والعون والتوفيق فضلاً عن العلم والإحاطة والسمع والبصر .
وبعبارة أخرى فمع كونه تعالى عالماً محيطاً سميعاً بصيراً بالمتقين والمحسنين إلاّ أنه كذلك ناصر لهم ومؤيد وظهير ، فاللهم لا تحرمنا فضلك ولا تمنعنا شكرك .

ثمرات الإيمان بهذه الصفة:

إن للإيمان بهذه الصفة ثمرات مهمة منها:
1/ دوام مراقبة المؤمن لربه تعالى ممّا يجعله جاداً في المبادرة إلى العمل الصالح واجتناب أسباب غضبه سبحانه .
2/ إضفاء الطمأنينة على قلب المؤمن ممّا يجعله رابط الجأش ثابت القدمين أمام ما يعتريه من الابتلاءات والفتن .
3/ تقوية جانب التوكل في قلب المؤمن حين يستصحب معية الله وتأييده لا سيما عند ملاقة الأعداء في ساحات الجهاد .


تعظيم الله تعالى وشعائره

تعظيم الله تعالى وشعائره

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستـغـفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:

فإن تعظيم الله تعالى ـ وتعظيم ما يستلزم ذلــك من شعائر الله تعالى وحدوده ـ من أجلّ العبادات القلبية وأهم أعمال القلوب، التي يتـعـيـن تحقـيقـها والقيام بها، وتربية الناس عليها، وبالذات في هذا الزمان الذي ظهر فيه ما يخالف تعـظـيـم الله تعالى : من الاستخفاف والاستهزاء بشعائر الله تعالى ،والتسفيه والازدراء لدين الله تعالى وأهله.

إنّ الإيمان بالله تعالى مبني على التعظيم والإجلال لـه عزّ وجل (1)، قال الله تعالى : ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ)) [مريم:90].

قال الضحاك بن مزاحم ـ في تفسير هذه الآية : يتشققن من عظمة الله عز وجل (2).

ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية أهمية تعظيم الله سبحانه وإجلاله فيقول: (فمن اعتقد الوحدانية فـي الألوهية لله سبحانه وتعالى، والرسالة لعبده ورسوله، ثم لم يُتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام، الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح، بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل، كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجباً لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلاً لما فيه من المنفعة والصلاح).(3)

ومما قاله ابن القيّم عن منزلة التعظيم: (هذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الربّ تعالى في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمّاً وإجلالاً، وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، قال تعالى : ((مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً)) [نوح:13]، قال ابن عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته.

وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت.. ) (4).

وتعظيم الله وإجلاله لا يتحقق إلا بإثبات الصفات لله تعالى ، كما يليق به سبحانه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، والذين ينكرون بعض صفاته تعالى ما قدروا الله عز وجل حق قدره، وما عرفوه حق معرفته (5)، ولما كان من أسماء الله تعالى الحسنى: (المجيد) و (الكبير) و (العظيم) فإن معنى هذه الأسماء: أن الله عز وجل هو الموصوف بصفات المجد والكبرياء والعظمة والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجلّ وأعلى، وله التعظيم والإجلال، في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد ملئت قلوبهم من تعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لكبريائه (6).

ويقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي في هذا المقام :(إن الإنسان إذا سمع وصفاً وصف به خالق السموات والأرض نفسه، أو وصفه به رسوله، فليملأ صدره من التعظيم، ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والجلال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون القلب منزهاً معظماً له (جلّ وعلا)، غير متنجّس بأقذار التشبيه...) (7).

ومما يوجب تعظيم الله تعالى وإجلاله: أن نتعّرف على نعم الله تعالى ، ونتذكرّ آلاء الله عزّ وجلّ، ومما قاله أبو الوفاء ابن عقيل في ذلك: لقد عظم الله سبحانه الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه وخوف الضرر على نفسه، فقال: ((إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ)) [النحل:106]: مـن قـدّم حـرمــة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى وتحامى عن نفسك بذكره، بما لا ينبغي لـه سبحانـه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتوقر أوامره وزواجره، وعصم عرضك بإيجاب الحدّ بقـذفـك، وعَصَم مالك بقطع مسلم في سرقته، وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأباحك الميتة سدّاً لرمقك، وحفظاً لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل، ووعيد آجل، وخَرقَ العوائد لأجلك، وأنزل الكتب إليك، أيحسن بك مع هذا الإكرام أن تُرى على ما نهاك منهمـكـاً، وعـما أمرك متنكبّاً، وعن داعيه معرضاً، ولسنته هاجراً، ولداعي عدوك فيه مطيعاً؟.

يعظمك وهُوَ هُوَ، وتهمل أمره وأنت أنت، هو حطّ رتب عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجُدها لك.

ما أوحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان بينا يكون بحضرة الحق، وملائكة السماء سجود له، تترامى به الأحوال والجهالات بالمبدأ والمآل، إلى أن يوجد ساجداً لصورة في حجر، أو لشمس أو لقمر، أو لشجرة من الشجر، ما أوحش زوال النعم، وتغيّر الأحوال، والحور بعد الكور).(8)

ولقد كان نبينا محمد يربي أمته على وجوب تعظيم الله تعالى ، ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد، إنّا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي-صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ...)) [الزمر: 67].

وما في الآية يدل على أن عظمة الله تعالى أعظم مما وصف ذلك الحبر، ففي الآية الكريمة تقرير لعظمة الله تعالى نفسه، وما يستحقه من الصفات، وأن لله عز وجل قدراً عظيماً، فيجب على كل مؤمن أن يقدر الله حق قدره (9).

يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عند هذه الآية الكريمة:

ما ذكر الله تبارك وتعالى من عظمته وجلاله أنه يوم القيامة يفعل هذا، وهذا قَدْر ما تحتمله العقول، وإلا فعظمة الله وجلاله أجل من أن يحيط بها عقل... فَمَن هذا بعض عظمته وجلاله كيف يُجعل في رتبته مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا؟) (10).

ولما قال الأعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم- : (فإنا نستشفع بالله عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان الله، سبحان الله! فما زال يسبّح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه) (11).

وقد اقتفى الصحابة (رضي الله عنهم) ومن تبعهم بإحسان هذا المسلك، فعظّموا الله حق تعظيمه، وعُمرت قلوبهم بإجلال الله تعالى وتوقيره: فهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول لبعض أصحاب المراء والجدل: (أما علمتم أن لله عباداً أصمتهم خشية الله تعالى من غير عيّ ولا بكم، وإنهم لَهُمُ العلماء العصماء النبلاء الطلقاء، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله تعالى انكسرت قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك، تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية، فأين أنتم منهم؟).(12)

وكان أهل العلم يعظمون ربهم، ويقدرونه عزّ وجل حق قدره، حتى قال عون بن عبد الله: (ليعظم أحدكم ربه، أن يذكر اسمه في كل شيء حتى يقول: أخزى الله الكلب، وفعل الله به كذا) (13).

ويقول الخطابي: (وكان بعض من أدركنا من مشايخنا قلّ ما يذكر اسم الله تعالى إلا فيما يتصل بطاعة) (14).

وكان أبو بكر الشاشي يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم في الله تعالى ، إجلالاً لاسمه تعالى ، ويقول: هؤلاء يتمندلون (15) بالله عزّ وجلّ (16).

ومن أروع الأمثلة التي دوّنها التاريخ عن سلفنا الصالح، وتعظيمهم لله عزّ وجلّ، ما وقع لإمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى، لما سأله أحدهم عن قوله تعالى : ((الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] كيف استوى؟.

فما كان موقـف الإمام مالك إزاء هذا السؤال؟ يقول الرواي فما رأيته وجد غضب من شيء كوجده من مقالته، وعلاه الرحضاء العرق، وأطرق القوم، فجعلوا ينتظرون الأمر به فيه، ثم سُرّي عن مالك، فقال: الكيف غير معلوم، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإنى لأخاف أن تكون ضالاًّ، ثم أُمر به فأُخرج . (17)

فتأمّل رحمك الله ما أصاب الإمام مالك رحمه الله من شدة الغضب وتصبب العرق إجلالاً وتعظيماً لله تعالى وإنكاراً لهذا السؤال عن كيفية استواء الربّ تعالى .

ومن الأمثلة في هذا الباب ما جرى للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، لما مر مع ابنه عبد الله على قاص يقص حديث النزول فيقول: إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله عزّ وجلّ إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال، يقول عبد الله: فارتعد أبي، واصفر لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخرص، فلما حاذاه قال: يا هذا رسول الله أغير على ربه عزّ وجلّ منك، قل كما قال رسول الله (18).

ومن تعظيم الله تعالى : تعظيم كلامه، وتحقيق النصيحة لكتابه تلاوة وتدبراً وعملاً، وقد حقق سلفنا الصالح الواجب نحو كتاب الله تعالى من التعظيم والإجلال، حتى إن بعض السلف كانوا يكرهون أن يصغروا المصحف. (19) .

وقال بعضهم: والله ما نمت في بيت فيه كتاب الله، أو حديث رسول الله احتراماً لهما(20).

ومما يجب تعظيمه وتوقيره: تعظيم رسول الله وتوقيره، وتعظيم سنته وحديثه، يقول (ابن تيمية) في تقرير وجوب توقيره وإجلاله: (إن الله أمر بتعزيره وتوقيره، فقال: ((وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ)) [الفتح:9] والتعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار.

ومن ذلك: أنه خصّه في المخاطبة بما يليق به، فقال: ((لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً)) [النور:63]، فنهى أن يقولوا: يا محمد، أو يا أحمد، أو يا أبا القاسم، ولكن يقولوا: يا رسول الله، يانبي الله، وكيف لا يخاطبونه بذلك والله (سبحانه وتعالى) أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحداً من الأنبياء، فلم يَدْعُه باسمه في القرآن قط ...

ومن ذلك: أنه حرّم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذَن، وحرم رفع الصوت فوق صوته، وأن يُجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل...

ومن ذلك: أن الله رفع له ذكره، فلا يُذكر الله سبحانه إلا ذكر معه، وأوجب ذكره في الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام، وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين...).(21)

ومما يجدر التنبيه عليه: أن التعظيم المشروع لرسول الله هو تعظيمه بما يحبه المعظّم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله، وأما تعظيمه بما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم، بل هو غلو منافٍ للتعظيم.(22)

وعقد الدرامي ـ في سننه ـ باباً بعنوان: باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي حديث فلم يعظمه، ولم يوقره (23)، وأورد الدرامي جملة من الآثار التي تضمنت عقوبات ومثلات في حق من لم يعظّم حديث رسول الله.

وقد عني السلف الصالح بتعظيم السنة النبوية وإجلال رسول الله، ومن ذلك: ما قاله عبد الله بن المبارك عن الإمام مالك بن أنس: (كنت عند مالك وهو يحدثنا حديث رسول الله فلدغته عقرب ست عشرة مرة، ومالك يتغير لونه ويصفر، ولا يقطع حديث رسول الله، فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس، قلت: يا أبا عبدالله، لقد رأيت منك عجباً! فقال: (نعم إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول اللهصلى الله عليه وسلم) (24).

وقال الشافعي رحمه الله تعالى: (يكره للرجل أن يقول: قال رسول الله، ولكن يقول: رسول الله؛ تعظيماً لرسول الله).(25)

وممن يجب تعظيمهم وإجلالهم: صحابة رسول الله، فيتعين احترامهم وتوقيرهم، وتقديرهم حق قدرهم، والقيام بحقوقهم رضي الله عنهم .

وقد خرج جرير بن عبد الله البجلي، وعدي بن حاتم، وحنظلة الكاتب رضي الله عنهم من الكوفة حتى نزلوا قرقيساء وقالوا لا نقيم ببلدة يشتم فيها عثمان بن عفان.(26)

وباعد محمد عبد العزيز التيمي داره وقال: لا أقيم ببلدة يشتم فيها أصحاب رسول الله.(27)

ولما أظهر ابن الصاحُب الرفضَ ببغداد (سنة 583هـ) جاء الطالقاني إلى صديق فودّعه، وذكر أنه متوجه إلى بلاد قزوين.

فقال صديقه: إنك ههنا طيّب، وتنفع الناس.

فقال الطالقاني: معاذ الله أن أقيم ببلدة يجهر فيها بسبّ أصحاب رسول الله، ثم خرج من بغداد إلى قزوين، وأقام بها إلى أن توفي بها.(28)

وبالجملة يجب تعـظـيـم شـعـائـر الله تعالى جميعها، كما قال تعالى : ((ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ)) [الحج: 32].

ويلحظ الناظر في حال المسلمين أن ثمة مخالفات تنافي تعظيم الله تعالى وشعائره كالاستهزاء، أو الاستخفاف،أوالازدراء، أوالانتقاص لدين الله تعالى وشعائره.

وتظهر هذه المخالفات عبر وسائل الإعلام المختلفة، ومن خلال منابر ثقافية ومؤسسات علمية مشبوهة وغيرها.

ويمكن أن نشير في خاتمة هذه المقالة إلى أهم أسباب وقوع تلك المخالفات المنافية للتعظيم، ومنها:

الجهل بدين الله تعالى ، وقلة العلم الشرعي، وضعف التفقه في هذا الأصل الكبير، ومنها: غلبة نزعة الإرجاء في هذا الزمان، فمرجئة هــذا الزمان الذين يقررون أن الإيمان تصديق فقط، ويهملون العبادات القلبية، كانوا سبباً رئيساً في ظهور وجود هذه المخالفات... فيمكن أن يكون الرجل ـ عندهم ـ مؤمناً ما دام مصدقاً، وإن استخف بالله تعالى ، أو استهزأ برسوله أو دينه!! ومن أسباب هذه الظاهرة: وجود علم الكلام قديماً، الذي لا يزال أثره باقياً إلى هذا العصر، فأهل الكلام يخوضون في الله تعالى وصفاته، مما أورثهم سوء أدب مع الله.

وأخيراً: فإن من أسباب ذلك: كثرة الترخص والمداهنات والتنازلات من علماء السوء الذين أُشربوا حب الدنيا والرياسة، فجعلوا الدين ألعوبة يأخذون منه ويدعون.

ورحم الله ابن القيّم حيث يقول:(كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه؛ لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس...). (29) .

الهوامش :

1) انظر تفسير السعدي : 3/259.

2) العظمة لأبي الشيخ : 1/341.

3) الصارم المسلوم

4) مدارج السالكين : 2/495.

5) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية : 13/60.

6) تفسير السعدي : 5/622.

7) منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات : ص36.

8) الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب : 1/153.

9) انظر : فتاوى ابن تيمية، مجلد 13/160162.

10) مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب : 4/346.

11) سنن أبي داود : كتاب السنة، ح/4726.

12) أخرجه الهروي في ذم الكلام ص184.

13) شأن الدعاء للخطابي ص18، ووردت هذه المقالة عن مطرف بن عبدالله بن الشخير، كما في الحلية لأبي نعيم 2/209، وذم الكلام للهروي ص190.

14) شأن الدعاء ص 18، 19.

15) من المنديل، يريد الامتهان والابتذال.

16) الشفا للقاضي عياض 2/1096.

17) أخرجه الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث ص17، 18.

18) (أورد هذه القصة عبدالغني المقدسي في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) ص 110.

19) انظر الحلية لأبي نعيم 4/230.

20) انظر طبقات السبكي 6/82.

21) الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول ص422- 424 باختصار.

22) انظر تفصيل ذلك في الصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبدالهادي ص385.

23) انظر سنن الدارمي 1/116 فما بعدها.

24) الديباج المذهب لابن فرحون 1/104.

25) أخرجه الهروي في ذم الكلام ص225.

26-27) انظر الإبانة الصغرى لابن بطة ص164.

28) طبقات السبكي 6/11

29) الفوائد ص93.

الاعتصام بالله

يا آمتي بالله فاعتصمي
بقلم : الرئيس العام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
الاعتصام بالله هو اللجوء إليه والاحتماء به والامتناع به والتوكل عليه، وهو سبيل المؤمنين ومنهاج حياتهم، وثمرة الاعتصام بالله أن يدافع الله عن عباده المؤمنين: إن الله يدافع عن الذين آمنوا {الحج}، وأن ينصرهم على عدوهم: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وقد أمر الله عباده المؤمنين بالاعتصام به سبحانه في مواضع عديدة من كتابه الكريم، فقال سبحانه:

يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير {الحج}.
فأمر الله سبحانه عباده المؤمنين بعبادته وحده لا شريك له وبالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وألسنتهم، والاعتصام به سبحانه فهو ناصرهم والمدافع عنهم.
فيا خير أمة أخرجت للناس اعبدوا الله ما لكم من إله غيره واركعوا واسجدوا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وافعلوا الخير الذي يأمركم به سبحانه لتكونوا من المفلحين الفائزين وجاهدوا في الله حق جهاده بالقيام التام بأمر الله سبحانه، ودعوة الخلق إلى سبيله بكل وسيلة من دعوة ونصح وتعليم ووعظ وزجر وقتال للمعاندين الذين يصدون عن سبيل الله، واعلموا أنكم خير أمة أخرجت للناس بتفضيل الله إياكم، فهو سبحانه اجتباكم واختاركم من بين العالمين وخصكم بخير كتاب أنزل وبخير رسول أرسل، وما جعل عليكم في الدين من حرج، ولكن بعث محمدًا خاتم النبيين بالحنيفية السمحة، ورفع عنكم الآصار والأغلال التي كانت على الأمم قبلكم، وجعلكم شهداء على الأمم وعلى جميع الناس: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا {البقرة}.
فقوموا بواجبكم في عبادة الله عز وجل والدعوة إلى سبيله وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم واعتصموا بالله واستعينوا به وتأيدوا به هو مولاكم وحافظكم وناصركم وهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير.
وقال سبحانه: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما {النساء: 174- 175}.
فبالإيمان بالله والاعتصام به يدخل المؤمنون في رحمة الله تعالى وفضله وهدايته إلى صراط الله المستقيم الموصل إلى جنات النعيم.
والمنافقون أبعد الناس عن منهج الإيمان وإن زعموا أنهم من المؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم، فهم في الدرك الأسفل من النار، إلا إذا تابوا من النفاق، واخلصوا دينهم لله، واعتصموا بالله، فإنهم يكونون مع المؤمنين في الدنيا والآخرة بإيمانهم وإخلاصهم واعتصامهم بالله: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما {النساء: 145، 146}.
ولقد نعى الله سبحانه على المؤمنين المفرطين المتبعين سنن أهل الكتاب والسائرين على طريقتهم، وحذر أمة الإيمان من سلوك هذا السبيل، فكيف تكون طاعتهم للمخالفين من أهل الكتاب، وقد كفاهم الله بكتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفيها الهداية لمن اعتصم بها، فقال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100) وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.
كيف نحقق الاعتصام بالله؟
ينبغي أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: إذا كان الاعتصام بالله هو سبيل الهداية والنجاة في الدنيا والآخرة، فكيف نحقق هذا الاعتصام؟
نقول: الاعتصام بالله يكون بالترقي عن شهود غير الله في نفعه وخيره، وتأثيره وعطائه ومنعه، فالملك كله لله، هو مالك الملك، مدبر الأمر، وما يفعله العباد إنما هو بتقدير الله عز وجل ليبلو ويختبر، فيضل من يشاء ويهدي من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع فضله عمن يشاء، وهذا يكون بمعرفة الله عز وجل بربوبيته وألوهيته وأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، ولا يحقق العبد هذا إلا إذا اعتصم بخبر الله عز وجل- أي بالوحي- قرآنًا وسنة استسلامًا، بتعظيم الأمر والنهي وأحكام الشرع لأن ذلك من تعظيم الآمر الناهي سبحانه وتعالى، وبالتصديق بالوعد والوعيد بالرغبة والرهبة والرجاء والخوف، بالطمع في الجنة والخوف من النار، وتحقيق الخشية من الله التي هي من سيما العلماء العاملين: إنما يخشى الله من عباده العلماء، وبتأسيس المعاملة مع الله عز وجل على اليقين والإنصاف أما تأسيس المعاملة مع الله عز وجل على اليقين الذي لا شك معه ولا تردد وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيهما إلا دخل الجنة" مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: "من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة" رواه مسلم.
وقال ابن مسعود في اليقين الإيمان كله. علقه البخاري ووصله الطبراني بسند صحيح وإخرج أحمد عن ابن مسعود "اللهم زدنا إيمانا ويقينًا وفقها".
فإذا أيقن القلب انبعثت الجوارح للقاء الله عز وجل بالأعمال الصالحة قال سفيان الثوري: لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي، لطار اشتياقًا إلى الجنة وهربًا من النار.
أما الإنصاف في معاملة الله عز وجل فيكون بأن تعطي العبودية حقها وأن لا تنازع ربك في صفات إلهيته من العظمة والكبرياء والجبروت بل تعلم أنك عبد فتذل لربك وخالقك ومولاك، وأن تعرف نعم الله عليك فتشكره، ولا تشكر سواه على نعمه وتنساه، كحال الذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وأن لا تحمد على رزقه غيره، وأن لا تستعين بنعمه على معاصيه.
وأما الإنصاف مع عباد الله فأن تعاملهم بمثل ما تحب أن يعاملوك به وأن تنصفهم من نفسك بسلوك مسلك العدل فيهم، فيسلم المسلمون من لسانك ويدك، ويأمنوك على أموالهم وأنفسهم والمعصوم من عصمة الله تعالى.
الاعتصام بحبل الله
قال تعالى: {آل عمران:105103}.

الاعتصام بالله

الاعتصام بالله عصمة للقلب، وملاذ للنفس، وطمأنينة للفؤاد، إذا كثرت بك الهموم، وحلّت عليك الغموم، فاعتصم بالحي القيوم، إذا اشتدت بك الكروب، وأظلمت أمامك الدروب فاعتصم بعلام الغيوب، إذا كثرت البدع، وظهر الشقاق، وانتفش النفاق، فاعتصم بحبل الخلاق، فليس لك من دونه من واق.

الاعتصام بالله عصمة للقلب، وملاذ للنفس، وطمأنينة للفؤاد، إذا كثرت بك الهموم، وحلّت عليك الغموم، فاعتصم بالحي القيوم، إذا اشتدت بك الكروب، وأظلمت أمامك الدروب فاعتصم بعلام الغيوب، إذا كثرت البدع، وظهر الشقاق، وانتفش النفاق، فاعتصم بحبل الخلاق، فليس لك من دونه من واق.

الاعتصام: الاستمساك بالشيء، وأصل العصمة: الحبل، وكل ما أمسك شيئًا فقد عصمه، وأعصم الرجل بصحابه إعصامًا إذا لزمه ولاذبه.

ولا أجمل ولا أكمل ولا أفضل ولا أحفظ ولا أسلم للمؤمن من الاعتصام بالواحد الأحد جل وعلا، فهل يُهُزم من اعتصم بجنابه؟ وهل يخاف من لجأ إلى محرابه؟ وهل يحرم من انطرح على أعتابه؟.
إن الاعتصام به جل وعلا حفظ للمرء، وصيانة للنفس، وحماية للدين، وأمن من المخاوف، وضمان من المخاطر، ونجاة من المهالك، ونصرة على الأعداء، وحرز من الألداء.

الاعتصام بالله تعالى نوعان: اعتصام بالله، واعتصام بحبل الله.
قال تعالى: ﴿
وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ ...
[الحج: 78].
وقال تعالى: ﴿
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُو ﴾ ...
[آل عمران: 103].

ومدار السعادة وآية الفلاح وطريق النجاة في الدنيا والآخرة هو في الاعتصام بالله والاعتصام بحبله.
والاعتصام بحبله يعصم من الضلال، ويحفظ من الهلاك، وحبل الله هو كتابه الكريم، ودينه القويم، وعهده المتين.

والاعتصام بالله تعالى هو: التوكل عليه والامتناع به والاحتماء به واللجوء إليه، فيورث ذلك حفظ العبد ودخوله في رحمة الله وحماية الله له من أسباب الشر، وكيد الأعداء، ومكر الشيطان، وشهوات النفس، ومضلات الفتن.
﴿
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ ...
[النساء: 175].
بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"