بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 20 أغسطس 2010

مفطرات الصائم في ضوء المستجدات الطبية

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن بهداهم اقتدى إلى يوم الدين.

وبعد؛

فهذه محاولة لبيان حكم بعض ما استجد في مجال العلاج الطبي وأثره على صحة الصيام، دفعني إلى خوض غمارها ما لمسته من كثرة السؤال عنها، وتباين الفتاوى بشأنها، وتكرار ذلك مع مقدم رمضان في كل عام، ولا أزعم أنني أتيت بما لم يستطعه من سبقني، أو اكتشفت حقيقة غابت عن غيري، وإنما أقول: إنني بذلت في هذه المحاولة قصارى جهدي باتباع منهج صارم ألزمت به نفسي، أرجو أن ينتج أحكامًا يتوافق عليها العقل والنقل، وعندها أردد بخشوع: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } [ يوسف: 108]

منهجية البحث:

لا خلاف بين الأوائل والأواخر في أن ماهية الصيام لا تتحقق إلا بالإمساك عن المطعوم والمشروب والجماع؛ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بناء على الدليل القطعي من الكتاب والسنة، وإنما يجري الخلاف في مسائل مسكوت عنها، وفي مسائل أخر تعارضت الآثار التي أوردت حكمها.

فأما المستجدات - المسكوت عنها - في مجال العلاج الطبي، فسوف نبين حكمها على ضوء ما توصل إليه العلم الحديث، وما أمكن الاطمئنان إليه من مقاصد الشريعة الكلية.

وأما المسائل التي تعارضت بشأن حكمها الآثار، فنختار لها الحكم الذي قوي سنده، وإلا فما يدل عليه القياس إذا لم يصادم حقيقة علمية، وفي نطاق المقاصد الشرعية الكلية.

ولأنني من بين المنادين بضرورة الاجتهاد الجماعي، فقد ألزمت نفسي هذا المنهج: فجمعت كل ما أمكن الحصول عليه من كتابات الفقهاء، وفتاوى المجتهدين، وآراء أساتذتي وزملائي المستنيرين، ثم تتبعت ما قاله أو كتبه النابهون من ذوي الاختصاص في الصيدلة والطب، ممن أثق بأنه جمع مع العلم خشية الله، وكانت لي مع بعضهم لقاءات مثمرة.

خطة البحث:

المستجدات الطبية التي قد تؤثر على صحة الصيام، منها ما تعرض له العلماء بالبحث والإفتاء، فتباينت بشأنه آراؤهم، والأمر - بعد - يتطلب اتخاذ موقف موحد - ما أمكن - يلتزم به المفتون، ومنها ما لم يتعرض له أحد - على حد علمي - فصار لزاما علينا بيان حكمه.

وهذه المؤثرات، منها ما يدخل بدن الصائم عن طريق منفذ طبيعي، ومنها ما يدخل البدن عن طريق غير معتاد، ومنها ما يستخرج من البدن عن أي طريق.

وهكذا يمكن تقسيم البحث إلى مطالب ثلاثة:

في المطلب الأول: نتعرض لحكم ما يدخل البدن عن طريق المنافذ.

وفي المطلب الثاني: نبحث حكم ما يدخل البدن عن طريق غير معتاد.

وأما المطلب الثالث: فنخصصه لبيان حكم ما يستخرج من البدن.

والفرض في كل هذه الأمور أن الصائم متعمد ومختار فيما يقوم به منها أثناء فترة الصوم، وأنه - حتى لو كان من ذوي الأعذار - يريد أن يتم صومه على حد قوله: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }.[ البقرة: 184 ]

والله من وراء القصد.

المطلب الأول: ما يدخل البدن عن طريق المنافذ:

الفم - الأنف - العين - الأذن - الإحليل - الدبر - القبل

أولا - الفم:

اتفق الفقهاء على أن ما يدخل الفم ويكون في حد الظاهر منه، لا يفطر الصائم، لما ثبت من النصوص والآثار الدالة على ذلك، والتي تجيز المضمضة وذوق الطعام (2)، ونحوهما، وقد ضبط الفقهاء حد الظاهر من الفم بمخرج الحاء، وهو ما يطلق عليه "الحلقوم"، وبناء على هذا التحديد: نبين حكم بخاخ الربو، ومضغ العلك، والتدخين.

1 - بخاخ الربو (VENTOLIN):

تباينت الفتاوى بشأن البخاخ الذي يتعاطاه بعض المرضى عن طريق الفم، فذهب البعض إلى أنه لا يفسد الصوم، وذهب آخرون إلى أنه يفسد الصوم.

الرأي الأول: البخاخ لا يفسد الصوم: استظهرت اللجنة الدائمة عدم الفطر باستعمال هذا الدواء، لأنه ليس في حكم الأكل و الشرب، بوجه من الوجوه، وهو ما جاء في فتوى للشيخ ابن عثيمين، لأنه شيء يتطاير ويتبخر ويزول ولا يصل منه جزء إلى المعدة , ويستند بعض أصحاب هذه الفتوى إلى أن الرذاذ الذي تنفثه بخاخة الربو حدوده الرئتان ومهمته توسيع شرايينها التي تضيق بسبب الربو، وهذا الرذاذ لا يصل إلى المعدة، ولا يشكل غذاء ولا شرابا للمريض.

الرأي الثاني: البخاخ مما يفطر به الصائم , استظهر أصحاب هذا الرأي أن ما يعرف بالنشاق يكون فيه دواء سائل مضغوط في زجاجة، ويستنشقه الصائم من طريق فمه، يفطر الصائم ؛ لأنه دواء دخل من طريق الفم، وقيد بعضهم ذلك بما إذ وصل الدواء المستعمل بالبخاخة إلى الجوف، وإلا فالصوم صحيح.

الرأي الراجح: يحتوي بخاخ الربو على مستحضرات طبية + ماء + أوكسجين، وقد أكد لي عدد من الأطباء والصيادلة أن هذا المحتوى يدخل إلى المعدة بيقين، فالرأي: أن استعماله يفسد الصوم، والله أعلم.

2 - العلك:

تكلم الفقهاء في هذه المسألة عندما كان العلك مادة طبيعية لم تدخلها الصنعة، وقالوا: إن تفرق وتفتت بالمضغ فوصل منه شيء إلى الجوف، بطل الصوم، وإن كان قويًّا - كالمطاط الرخو - فإنه يكره ولا يبطل الصوم، وعلى الكراهة حمل قول أم حبيبة رضي الله عنها: " لا يمضغ العلك الصائم " وقول عطاء: " ولا يمضغ العلك، فإن ازدرد ريق العلك لا أقول إنه يفطر، ولكن ينهى عنه ".

ومعظم العلك الموجود في هذه الأيام من النوع الصناعي، فهو يحتوي على مواد سكرية وطعم الفواكه أو النباتات، وصبغات طبيعية أو مصنعة كيميائيا، وكل هذا يتحلل داخل الفم عندما يختلط باللعاب الذي يتكون من أكثر من 99 % من الماء + أملاح غير عضوية (مثل البيكربونات والفوسفات وكربونات الكالسيوم) + مواد عضوية (مثل أنزيم الأميليز اللعابي والتيالين)، ويصل مع اللعاب إلى الجوف.

فيا حبذا لو أدرك المفتون هذه الحقيقة، وشددوا في النهي عن العلك للصائم سدا للذريعة، وخاصة إذا لاحظنا أن التجارب الطبية أثبتت أن مضغ العلك يمكن أن ينهي إفراز المعدة، وبذلك يعرقل عملية الهضم، وخصوصًا بالنسبة إلى البروتينات، كما أن العلك ينهك الغدد اللعابية، ويستنفد بعض طاقات الصائم، ولذلك ينصح الأطباء الصائم بالابتعاد عن استعمال العلك.

3 -التدخين:

يشفق بعض من يتصدون للفتيا على مدمني الدخان والتبغ والمخدرات، ويظنون أن الرفق بهؤلاء وتصحيح صيامهم قد يؤدي بهم إلى الإقلاع عن هذه العادات، لما عرف طبيًا من أن الصوم بالنسبة إلى المدمنين على التبغ هو أفضل علاج، فهو يسهل لهم الانقطاع عن هذه العادة، وفي أغلب الحالات يورثهم كرهًا لطعم التبغ

ولا يجد بعض من يتصدون للفتيا دليلًا على أن الدخان بأنواعه يفسد الصوم، بناء على أصلهم في أن ما ليس له جرم، ويدخل مع مخرج النفس لا مخرج الطعام والشراب ليس من المفطرات.

أما الذين دونت فتاواهم فإنهم متفقون على أن التدخين ونحوه مفسد للصوم، وقد وجه بعضهم فتواه توجيهًا عاطفيًا، حين نصح المدخن بالإقلاع عن التدخين ليحفظ صحته وأسنانه وماله وأولاده ونشاطه مع أهله، وحين ذكر أن الدخان نوع من الشراب بلا شك، ولكنه شراب ضار محرم بدليل قولهم: فلان يشرب الدخان، وشرب كل شيء بحسبه.، واستند بعضهم إلى ما نص عليه الحنفية من أن الدخان عامة إذا دخل حلق الصائم بدون صنع منه لا يفسد صومه لعدم إمكان التحرز عنه، وأما إذا أدخله

حلقه بصنعه وإرادته - أيًّا كان الدخان - وبأي صورة كان إدخاله، وهو متذكر صومه؛ فإن صومه يفسد شرعا لإمكان التحرز عنه، وهو مما يميل إليه الطبع، وتنقضي به شهوة البطن.

والواقع أن الدخان بجميع أنواعه الفائف التبغ " سجائر وسيجار "، وما يحرق في الأنبوب " pipe "، وما يوضع في النارجيل) من المواد العضوية التي تحتوي على القطران والنيكوتين، ولها جرم يظهر في " الفلتر " وعلى الرئتين، وتصبغ الطبقة المخاطية التي تغطي جدار البلعوم بلون داكن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإن التدخين يلبي شهوة المدخن (الكيف والمزاج) فيؤثر على أعصابه تأثيرا لا يقل عن تأثير الخمور والمخدرات، ولهذا نجد المدخن يصبر عن الطعام والشراب، ولكنه لا يصبر عن الدخان، فتناول الدخان - إذن - ينتفي مع معنى الصوم الذي ذكره الحديث القدسي: " يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ".

من أجل ذلك: نرى ضرورة تقيد المفتين - شفهيًّا وتحريريًا - باعتبار التدخين في كل صوره من مفسدات الصوم دون أي تردد أو أدنى خشية، والله أعلم.

ثانيا - الأنف:

يختلف الفقهاء في اعتبار ما يدخل من الأنف مفسدا للصوم، نتيجة اختلافهم في قبول حديث لقيط بن صبرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما"، واختلافهم في مدى دلالته، وفي جواز القياس عليه.

وبناء على ذلك: أفتى البعض بأن ما يدخل من الأنف إلى بدن الصائم يفسد صومه، يستوي في ذلك أن يكون بخاخ زكام، أو سعوط أو مسحوق عطر، أو ماء الاستنشاق المبالغ فيه.

وأفتى بعض آخر بأن كل ما يدخل من الأنف إلى بدن الصائم لا يفسد صيامه مطلقا.

وهناك من ميز في فتواه بين ما كان له جرم - كالماء والسعوط والعطر المسحوق - فعده من المفطرات إذا وصل إلى الحلق، وما ليس له جرم - كالبخاخ ونحوه - فلا يفسد الصوم.

والذي ينبغي الالتفات إليه في هذا الشأن:

1 - أن الأنف منفذ يشترك مع الفم في الاتصال بالحلق، وأن جهاز الشم به يستقبل المواد الطيارة، فيذيبها في طبقة المخاط، ثم ينقلها عن طريق العصب الشمي إلى مركز الشم بالمخ، ولعل هذا هو الذي جعل السلف يقول إن ما يؤخذ عن طريق الأنف يصل إلى الدماغ.

2 - قد يستعمل الأنف طريقًا للتغذية في بعض الأحيان، فيكون هو والفم سواء في الحكم.

3 - أثبتت التحاليل الطبية أن بعض المواد العالقة في الهواء تدخل من الأنف، ويكون لها تأثير كبير على الدورة الدموية، ولهذا يطالب المدافعون عن حماية البيئة باستعمال الغاز الطبيعي أو البنزين الخالي من الرصاص في تشغيل الآلات والمركبات، ومنعت بعض الدول التدخين في الأماكن العامة حماية لغير المدخنين من تأثير الدخان على صحتهم.

وبناء على ذلك نقول وبالله التوفيق:

ا - إذا استعمل الأنف طريقا للتغذية - في بعض الحالات - فما يصل منه إلى الحلق يفسد الصيام.

2 - إذا تعمد الصائم التقطير في الأنف، أو استنشاق بخاخ الزكام أو الاستعاط، أو شم ما يشبع رغبة الكيف أو المزاج (كالسموم البيضاء، أو الغراء، أو القطنة المبللة بالبنزين)، أو تعمد البقاء في أماكن التدخين، وما أشبه ذلك: بطل صومه.

3 - إذا احتاج الصائم لاستعمال قناع الأوكسجين لضيق في تنفسه، أو لوجوده تحت الماء، أو لانخفاض الضغط الجوي في الطائرة، أو نحو ذلك: فلا يبطل صومه، كما لو تنفس الهواء الطبيعي. والله أعلم.

ثالثا - العين:

يبدو أن الفتاوى الحديثة في مسألة الكحل والدهن والقطرة في العين

قد تابعت الخلاف الذي جرى بين الفقهاء، وهذا الخلاف بني على أصلين؛ أولهما: مدى صحة وحجية أحاديث الاكتحال، والثاني: مدى اعتبار العين منفذا إلى الجوف.

فقد رأينا أن غالبية الفتاوى في هذا الشأن لا تبطل صيام المكتحل، لمجموع الأحاديث التي يقوي بعضها بعضا، ولأن العين ليست بمنفذ إلى الجوف، وعدى هذا الحكم إلى كل ما يوضع في العين من دواء وقطرة ومراهم ونحوها.

ومع ذلك أفتى البعض بفساد صوم المكتحل وقاس على الكحل كل ما يوضع في العين من قطرة ودهون، إذا وصل إلى الحلق.

ونلاحظ في هذا المقام أن الدموع التي تفرزها الغدة الدمعية لتنظف وترطب قرنية العين تصب في تجويف الأنف عن طريق القناة الدمعية، لذا عندما يبكي الإنسان طويلا يتمخط كثيرًا.

فالرأي - عندي - أن الصائم إذا اكتحل أو وضع في عينه الدهن أو الدواء أو قطر فيها، وأحس بأثر ذلك في أنفه فتمخط، فإن صيامه يكون صحيحًا، أما إذا أحس بأثر ذلك وعيَّنه في مخاطه فاقتلعه بنفسه وابتلعه، فإن صيامه يفسد، والله أعلم.

رابعا - الأذن:

اختلف الفقهاء في حكم الصوم إذا صب الصائم في أذنه ماءً أو قطر فيها دواء، فمن قال منهم بفساد الصوم أجرى قياس الأذن على الأنف بجامع أن كلا منهما منفذ، ومن ثم عدَّى الحكم الوارد في حديث لقيط بن صبرة المتقدم، ومن قال منهم بصحة الصوم طبق الأصل المعتمد لديه؛ والقاضي بأن ما أدخل في الأذن لا يفطر إلا أن يصل إلى حلق الصائم.

وبناء على هذا الاختلاف: اختلفت الفتاوى الحديثة، فأفتى البعض بفساد صوم من يصب الماء في أذنه أو يقطر فيها الدواء.، وأفتى آخرون بصحة الصوم في هذه الحالة.

ويبدو لنا أن قياس الأذن على العين أولى من قياسها على الأنف؛ ذلك أن الأنف - كالفم - منفذ طبيعي إلى الحلق والجوف، أما الأذن فالأمر فيها مختلف، لوجود الغشاء الطبلي (طبلة الأذن) الذي يفصل الأذن الخارجية عن الأذن الوسطى، وتقف عنده السوائل فلا تنفذ إلى ما وراءه، فإذا أزيل هذا الغشاء الطبلي أو السمعي - وأصيب الإنسان بالصمم - صارت الأذن منفذا إلى الجوف، لاتصالها بالبلعوم عن طريق قناة أستاكيوس، وحينئذ فقط يكون قياس الأذن على الأنف صحيحا، لاشتراكهما فيما يسمى " البلعوم - أنفي ".

فمناط الفتوى - إذن - يرجع إلى سلامة الغشاء السمعي، فإن كان سليمًا محكمًا لا يسمح بمرور السوائل إلى الأذن الوسطى، فالصوم صحيح، أما إن تمزق لمرض أو حادث، ودخلت السوائل إلى البلعوم - أنفي، فالصوم يبطل. والله أعلم.

خامسا - الإحليل:

قد يستدعي فحص المسالك البولية لشخص تقطير مواد سائلة أو ملونة عن طريق مجرى البول، تستقر في المثانة، لتوضح الصور التي تلتقطها الأشعة، وقد بحث الفقهاء من قديم حكم الصوم مع إدخال مثل هذه السوائل في الإحليل، فرأى البعض أن ذلك يفطر الصائم، ولو لم يصل إلى المثانة قياسا على حكم الحقنة الشرجية، ورأى آخرون أن التقطير في الإحليل لا يفطر الصائم إلا إذا وصل إلى المثانة، لأنه أدخل شيئًا إلى جوف، والرأي الغالب أن الصيام صحيح إذا قطر في إحليله؛ لأن هناك فرقا بين الإحليل وبين فتحة الشرج، من حيث ضيق الأول واتساع الثانية.

والفتاوى الحديثة: بعضها يكتفي بعرض آراء الفقهاء، ومنها ما يفتي بعدم فساد الصوم: "لأننا لا نجد علة واضحة نستطيع بواسطتها أن نحكم على فساده وبطلانه، ثم إن هذه من الأمور التي لم يرد فيها نص عن الشارع".

ونحن مع الرأي الأخير، ونرى علة واضحة لكون الصوم صحيحًا مع التقطير في الإحليل - حتى لو وصل إلى المثانة - وهي أن المثانة عضو طارد، عندما يمتلئ تتمدد ثنيات الطبقة المخاطية به، فتدفع الطبقة العضلية السوائل إلى الخارج.

سادسًا - الدبر:

تناول الفقهاء حكم إدخال شيء في دبر الصائم، وخاصة " الحقنة الشرجية " فعند جمهورهم أن استعمالها يفطر الصائم، لأنه أدخل مائعا إلى جوفه باختياره، وهم يستندون إلى ما رواه البيهقي من أن ((الفطر مما دخل))، وقياسًا على ما يصل إلى الدماغ، مثل ما ورد في حديث لقيط بن صبرة المتقدم، ولأن ما في الحقنة من مائع دخل إلى الجوف من طريق معتادة، كما لو دخل من الفم أو الأنف.، وذهب البعض إلى أن الحقنة الشرجية لا تفسد الصوم، وهو رأي ابن تيمية وابن حزم، لأنها لا تغذي بوجه من الوجوه، بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شم شيئًا من المسهلات، كما أنها لا تصل إلى المعدة.

وعلى هذا الأساس تنوعت الفتاوى المعاصرة - فيما يتعلق بحكم استعمال الصائم الحقنة الشرجية - إلى ثلاثة اتجاهات:

1 - يرى الاتجاه الأول أن الحقنة الشرجية تفسد الصوم، سواء كانت للتداوي أو للتغذي أو لغير ذلك ؛ لأنها تدخل من منفذ طبيعي، وتصل إلى الجوف.

2 - ويرى اتجاه آخر أن الحقنة الشرجية لا تبطل الصوم مطلقا ؛ لأنها لا تصل إلى المعدة.

3 - أما الاتجاه الثالث فإنه يميز بين الحقنة الشرجية التي تدخل مادة غذائية في الجسم، ويعتبرها مفسدة للصوم، وبين الحقنة الشرجية التي تحمل مادة ملينة للأمعاء، كالماء والصابون أو الأشياح، وهذه لا تفسد الصوم، لأنها قد لا تمتص، والهدف منها إخراج الفضلات من الجسم.ونشير إلى أمرين ينبغي الالتفات إليهما قبل الفتوى في موضوع الحقن الشرجية:

1 - أن امتصاص المواد المهضومة، يعني عملية مرور المواد الغذائية البسيطة التركيب الناتجة من الهضم، خلال بطانة القناة الهضمية إلى الدم، وليس للمعدة وظيفة تذكر في عملية الامتصاص، إنما يحدث معظم الامتصاص في الأمعاء الدقيقة، أما الأمعاء الغليظة فإنها تمتص الماء وقليلا من الأملاح والغلوكوز، وقد تمتص الأدوية المختلفة.

2- من الطرق المتبعة في تغذية المريض إعطاؤه مواد غذائية مهضومة جزئيًّا عن طريق الشرج، ولو أن القدرة على امتصاصها تكون ضعيفة جدًا ؛ لأن دور القولون الأساسي هو الإطراح وليس الامتصاص.

وبناء على ذلك: فإننا نوصي الصائم بتأخير استعمال الحقنة الشرجية إلى ما بعد الإفطار احتياطا للعبادة , سواء كانت تحمل مواد غذائية أو سوائل أخرى، ما دام العلم قد أثبت أن الأمعاء الغليظة لها قدرة على امتصاص السوائل، وأن الأمعاء الدقيقة هي التي يحدث فيها معظم الامتصاص، ولا نظن أن هناك ضرورة ملحة تقضي باستعمال الحقنة الشرجية أثناء فترة الصوم، لا سيما وأن كثيرا من أساتذة الطب ينصحون بعدم إجراء الحقن الشرجية أثناء الصوم، لأنها تسبب ضعفا في عضلات الأمعاء وغشائها، وتخرش القولون، وتنهك المريض وتستهلك قواه. , والله أعلم.

ومما يلحق بالحقنة الشرجية، ما يستعمله البعض مما يسمى بالتحاميل أو اللبوس أو أقماع البواسير أو المراهم، ونحو ذلك مما يستعمل لتخفيف آلام البواسير، أو خفض درجة الحرارة، أو التقليل من مضاعفات الزكام والبرد، عن طريق إدخالها في دبر الصائم.

ويرى بعض المعاصرين أن ذلك يفسد الصوم.، بينما يرى آخرون أن لا أثر لذلك على صحة الصوم

ونحن نميل إلى القول بعدم تأثير هذه المواد على صحة الصوم، لأنها تمتص من مكانها بواسطة شبكة كبيرة من الأوردة الدموية للدم مباشرة، ولا تستغرق هذه العملية وقتًا طويلًا، فهي كامتصاص الجلد الخارجي للماء والدواء والدهون، والله أعلم.

سابعًا - القبل:

قد تحتاج المرأة إلى إدخال شيء في قبلها، وذلك لمرض يتطلب إدخال مراهم أو أدوية، أو لعمليات التنظيف المهبلي، أو لإجراء فحص عن طريق إدخال أدوات وأجهزة طبية، أو مس المهبل بنترات الفضة، ونحو ذلك.

وقد ذهبت بعض الفتاوى المعاصرة إلى فساد الصوم بذلك؛ لأن المهبل هو القناة التي تبتدئ بالفتحة المعروفة، وتنتهي بفم الرحم، والسائل الذي يمر بهذه القناة يصل إلى الداخل، فالواجب قضاء ما أفطرته المرأة لهذا السبب.

وذهبت فتاوى أخر إلى أن كل هذه الممارسات لا تؤثر على الصوم؛ لأن الصوم لا يفسده إلا ما يصل إلى المعدة، وما ذكر ليس على صورة الطعام والشراب ولا في معناه، وهو لا يصل إلى المعدة محل الطعام والشراب.

ويميز البعض بين الفحص النسائي، ويرى أنه لا يفسد به الصوم، قياسا على إدخال الإصبع في الفم، ولعدم ورود نص في الشرع أو عن الصحابة أو التابعين في مثل هذه الأمور، وبين عمليات التنظيف، ويرى أنها من الأعذار التي تبيح للمرأة الفطر، لأنها تحتاج إلى مخدر، وقد تكون سببا في نزول الدم.

ونحن نفرق بين ثلاث حالات بالنسبة للمرأة:

1 - مخرج البول: وهو يتصل بالمثانة - مثل إحليل الرجل - وهذا يأخذ الحكم الذي سبق أن أعطيناه للإحليل، وهو صحة الصوم مع إدخال شيء في هذا المكان، لما سبق أن قلناه من أن المثانة عضو طارد وليس مستقبلًا.

2 - مهبل البكر: ويسده غشاء البكارة، الذي يسمح بخروج دم الحيض، ولا يسهل أن يمر منه شيء إلى الداخل، ونرى أن يأخذ نفس الحكم الذي أثبتناه لما يرد مخرج البول.

3 - مهبل الثيب: وهو عبارة عن قناة عضلية لها فتحة خارجية، وتمتد نحو عنق الرحم، وما يصب فيه يمكن أن يصل إلى أعلى الرحم.، ونرى أن الأدوات والأجهزة الطبية التي تدخل فيه تؤدي إلى إفطار الصائمة؛ لأنها أدخلت إلى مكان مجوف في بدن المرأة، وقد يؤدي ذلك إلى نزول الدم، وكذلك الحكم - بل هو أولى - في حالة ما إذا صب فيه شيء من الماء أو الدواء أو غير ذلك، ونوصي بعدم الفتوى بصحة الصيام في مثل هذه الحالات؛ والله أعلم.

المطلب الثاني: ما يدخل البدن عن طريق غير معتاد

الإبر - الجلد - منطقة ما تحت اللسان - الأوكسجين - الأشعة - التخدير

أولا - الإبر:

الإبرة تشبه المخيط أو الخياط، إلا أنها مجوفة، تدفع عبرها السوائل إلى البدن، أو تستخرج بواسطتها السوائل من البدن، وهي من الأمور المستحدثة، ولذلك تضاربت الفتاوى بشأنها:

فمن قائل بأنها تفطر الصائم مطلقا (في الشريان - في الوريد - في العضل - تحمل غذاء - أو دواء - أو غير ذلك).

ومن قائل بأنها لا تبطل الصوم مطلقا ؛ لأن هذه الحقنة لا يصل منها شيء إلى الجوف من المنافذ المعتادة أصلًا، وعلى فرض الوصول فإنما تصل من المسام فقط، وما تصل إليه ليس جوفا، ولا في حكم الجوف.

ومن قائل بالتمييز بين حقن للتغذية، وهذه تبطل الصوم لمنافاتها للحكمة منه، وبين حقن للتداوي ونحوه، وهي لا تبطل الصوم، لعدم دخولها من منفذ معتاد.

ونحن نستعين الله ونقدم بين يدي رأينا عدة أمور:

1 - يوجد في كل عضو من الأعضاء وداخل كل خلية من خلايا الجسم المدخرات الخاصة بها من الغذاء والفيتامين والمعادن، تعتمد عليها أثناء الصوم، ولهذا فإن الذي يتوقف أثناء فترة الصوم إنما هو عمليات الهضم، وليس عمليات التغذية، ولقد كتب أحد المختصين قائلا: إنه حين لا يكون هناك عمل هضمي ينشغل به الجسم، فإن هذا الجسم يستخدم الوقت المخصص للهضم في عملية تنظيف وتطهير عام، أي أن الصوم يدرب الجسم على استعمال مدخراته بشكل اقتصادي إلى حد بعيد.

2 - هناك فرق بين " الجوع " و " شهوة البطن ": فالجوع الحقيقي هو الحاجة الملحة للغذاء، ومن مظاهره تقلصات المعدة والشعور بالضعف، وقد يسبب آلامًا في الرأس، ويرافق ذلك سيلان اللعاب لدى مشاهدة الأطعمة، وهذه كلها تظاهرة فيزيولوجية لمتطلبات غذائية للجسم، أما شهوة البطن أو ما يطلق عليه " الجوع الاعتيادي " فإنها عبارة عن مسألة عادة، أي التعبير عن عادة تناول الطعام في ساعات معينة، ولا علاقة لها بالجوع الطبيعي.

3 - ذكرنا فيما سبق أن عملية الامتصاص هي مرور المواد الغذائية البسيطة التركيب الناتجة من الهضم خلال بطانة القناة الهضمية إلى الدم، وليس للمعدة وظيفة تذكر في عملية الامتصاص، وإنما يحدث معظم الامتصاص في الأمعاء الدقيقة، وتمتص الأمعاء الغليظة الماء وقليلا من الأملاح والغلوكوز، ثم تنتقل نواتج المواد الغذائية بعد امتصاصها من القناة الهضمية بواسطة الدم إلى أنسجة الجسم المختلفة التي تقوم بدورها في عملية التمثيل الغذائي.

ومجمل القول: أن الدم هو الذي يحمل المواد الغذائية المهضومة من الأمعاء وينقلها إلى خلايا الجسم، لإمدادها بالمواد اللازمة لها، وتعرف الأوعية التي تخرج من القلب بالشرايين، بينما تعرف الأوعية التي تعود بالدم إلى القلب بالأوردة.

4 - اعتمد كثير من الفقهاء والمحدثين - منهم ابن تيمية - المعنى المادي الظاهر للحديث الشريف: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" فضيقوا مجاريه بالجوع بالصوم "، وتابعهم على ذلك عدد من العلماء المعاصرين

وبعد ذلك نرى:

أولا: أن الإبر التي توصل أدوية أو مواد مغذية أو مقوية، وتدخلها إلى بدن الصائم عن غير طريق الأوردة والشرايين (كالاحتقان في العضدين أو الفخذين أو رأس الأليتين أو ما شابه ذلك) لا تفسد الصيام، لأنها تصل إلى البدن عن طريق المسام، مثلها في ذلك مثل الاغتسال بالماء البارد، فعلى الأصول المعتمدة في سائر المذاهب الفقهية لا أثر لها على صحة الصوم، وقد نص بعضهم على أن الصائم لو أوصل الدواء إلى داخل لحم الساق، أو غرز فيه سكينا أو غيرها، فوصلت مخه لم يفطر بلا خلاف، لأنه لا يعد عضوا مجوفا.

وثانيا: أن الإبر التي توصل أدوية أو أغذية أو مقويات إلى الدم مباشرة عن طريق الأوردة أو الشرايين، تفسد الصوم، لأنها صارت منفذا - عرفًا - لإمداد الجسم بالغليكوز والصوديوم وأنواع الأحماض المختلفة، مما يؤدي إلى اكتفاء البدن واستغنائه عن المواد المألوفة من أنواع الطعام والشراب، يضاف إلى ذلك أن السوائل التي تصل إلى الأوردة والشرايين توسع مجاري الدم، فتمكن للشيطان من ابن آدم، وقد أمرنا بتضييق هذه المجاري، وغني عن القول إن تناول الأغذية والمقويات عن طريق الدم يتنافى مع الحكمة من الصيام التي تتمثل في أنه حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع.

وثالثًا: أن الفتوى ببطلان صوم من يستعمل الحقن التي تصب في الدم، عن طريق الأوردة أو الشرايين، هي السبيل الأمثل لسد ذريعة المدمنين على الخمر أو المخدرات، فهؤلاء يتناولون عن طريق الإبر خلاصات الكحول أو المواد المخدرة، لتسري في الدم مباشرة، فتشبع لديهم شهوة الكيف أو المزاج، من أجل تهدئة أعصابهم، وقد نص عدد من الأطباء البشريين والنفسيين وبعض الفيزيائيين على أن الصوم هو العلاج الأمثل والأرخص والأيسر للمدمن، وبواسطته يتخلص الجسم من سمومه المتراكمة، وتكون الجملة العصبية قد لبست رداء الصحة، ولذلك فإن الحاجة الملحة لتعاطي الكحول والمخدرات تكون قد اختفت تمامًا، وكتب " ماك فاون " في الموسوعة العامة الفيزيائية: " ليس هناك طريقة نقدمها كنصيحة لمريض الإدمان أفضل من أن ننصحه بالصوم ".، وإن العلاج الأمثل لحالات الهياج والهذيان والغضب والحمق، التي تعقب الانقطاع عن تناول الكحول أو المخدرات، هو تغطيس جسم المريض بكامله في ماء دافئ لمدة تتراوح بين ساعتين أو ثلاث ساعات حتى يهدأ جهازه العصبي، وفي الوقت ذاته توضع فوق رأسه قطعة من القماش مبللة بماء بارد، وهذه الحركات سوف تتوقف تقريبا كلما تقدم المريض بالصوم، حتى يصل إلى الشفاء، ويتوقف عما كان يدمن عليه من السموم

ثانيا - الجلد:

سألني سائل عن حبة تسمى "Nitrates " من مجموعة: "salycitatesASPIRIN" توضع على إبهام الرِجل، أو على أي موضع من الجسم، فيمتصها الجلد، وتقوم بوظيفة علاجية.

وبعد البحث والتدبر ظهر لي: أن هذا النوع من الدواء لا أثر له على صحة الصوم، وذلك لسببين:

1 - أن الجلد لا يمتص الغذاء، وحتى لو امتص شيئا منه، فإن الأعضاء لا يمكنها الاستفادة منه.

2 - أن ما يصل إلى البدن عن طريق المسام لا يفسد الصوم، لعدم منافاته حكمة الصوم، وقياسا على الاغتسال بالماء البارد، ولو وجد أثره بداخله، والله أعلم.

ثالثا - منطقة ما تحت اللسان:

أسرع علاج مؤثر لبعض الأزمات القلبية: حبة تسمى: Nitrates isordil يضعها الصائم تحت اللسان، فتمتص بطريقة مباشرة، ويحملها الدم إلى القلب فتوقف أزماته المفاجئة، وبعد البحث والتقصي: عرفت أن هذا النوع من الدواء لا يدخل إلى الجوف، لسرعة امتصاصه، وأنه يقاس على معجون الأسنان، بحيث إن الصائم إذا لم يزدرد ريقه، بأن تمضمض بعد ذوبان الحبة، كان صيامه صحيحا، والله أعلم.

رابعا - الأوكسجين:

يصر بعض الصائمين على إتمام صيامهم، رغم ما يتعرضون له أحيانا من ضيق في التنفس، بسبب مرض في الجهاز التنفسي، أو وجودهم لمدة من النهار على ارتفاع شاهق أو انخفاض سحيق، حيث يقل الهواء الطبيعي أو ينعدم، وحينئذ يلجؤون إلى تنفس الأوكسجين الصناعي.

وقد أفتى بعض المعاصرين بأن تنفس الطيار للأوكسجين لا يبطل صيامه ؛ لأن الأوكسجين ليس بطعام أو شراب، وهذه الفتوى صحيحة، فاستنشاق الهواء الصناعي لا يفسد الصوم ؛ لأنه من جنس الهواء الطبيعي، ولا تضاف إليه مواد أخرى عند تحضيره، وقد أجمع الأولون والآخرون على أن استنشاق الهواء لا أثر له على صحة الصوم.

خامسا - الأشعة:

يتعرض بعض الصائمين لأشعة تدخل بدنه، إما لتصوير بعض الأجهزة الداخلية، وإما لعلاج موضعي، كتفتيت حصوة في الكلية أو الحالب أو المثانة أو المرارة، وإما لرتق فتق داخلي أو خارجي (كشبكة العين).

في عام 1986: أمكن تصنيع ليزر الأشعة السينية، وكلمة " Laser " تمثل الحروف الأولى للجملة الآتية:

(Light Amplification by Stimulated Emission of Radiation ) أي: تضخيم شدة الضوء بواسطة الانبعاث الإشعاعي المستحدث، ونرى أن إدخال هذه الأشعة إلى بدن الصائم لا أثر له على صحة الصوم، لأنها في جميع الحالات عبارة عن تصويب حزمة رفيعة من الضوء موحدة الاتجاه إلى المكان المراد علاجه، كإتمام عملية التحام الشبكية المصابة بالانفصال أو التمزق، أو التحام الأوعية الدموية في الجراحة، أو تفتيت الحصوات داخل البدن...، ونحو ذلك. , والله أعلم.

سادسًا - التخدير:

وجهت إلى بعض المفتين أسئلة تطلب حكم الحقن التي تستعمل للتخدير (كالمورفين ونحوه) وأثر ذلك على الصيام، وجاء الجواب متباينًا: فذهب البعض إلى أن جميع أنواع الحقن، بما فيها الحقن المخدرة، وفي أي موضع من البدن - تحت الجلد أو في العروق أو في الشرايين - لا تفطر الصائم، لأنها لا تصل إلى الجوف، وإن وصلت إليه فإنما تصل من منفذ عارض غير خِلقي.

وذهب بعض آخر إلى أن الحقن التي تعطى لغرض التخدير لا تجوز، مع عدم الإفطار، وذلك لما روي عن أم سلمة - رضي الله عنها -: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن كل مسكر ومفتر "، هذا كله إذا لم يحصل قيء عقب الحقن، فإن حصل تقيؤ بسبب الحقنة، وكان ما قاءه طعاما أو ماء أو مُرَّة، وقد ملأ الفم، فسد صومه، وإن لم يملأ الفم، أو كان ما قاءه بلغمًا، فلا يفسد صومه.

ولنا أن نقول بعد عدة لقاءات مع أطباء التخدير: إنه ينبغي التمييز بين عدة وسائل تتبع لتخدير المرضى:

أولا: التخدير عن طريق الأنف: وفي هذه الحال يشم المريض مادة غازية - كالهواء - تؤثر في أعصابه، فيحدث التخدير، فإن كان التخدير موضعيًّا بحيث لا يؤثر على المخ ولا يفقد الصائم وعيه، فيكون صومه صحيحا، لطبيعة المادة التي دخلت عن طريق الأنف، وإن كان التخدير كليا أفقد الصائم وعيه، بطل الصوم بسبب خروجه عن الوعي، لا بسبب طبيعة المادة الغازية.

ثانيا: التخدير الجاف: وهو نوع من العلاج الصيني، يعتمد على إدخال إبر مصمتة جافة إلى مراكز الإحساس تحت الجلد، فتستحث نوعا معينا من الغدد داخل البدن على إفراز المورفين الطبيعي الذي يحتوي عليه الجسم، وبذلك يفقد المريض القدرة على الإحساس في الموضع المحدد، وهذا النوع من التخدير لا يؤثر على صحة الصيام ؛ لأن الغالب فيه القيام بالتخدير الموضعي الذي لا يغطي العقل، ولأنه لم يدخل معه شيء إلى البدن، بل حدث تفاعل فيزيائي داخلي أدى إلى هذه النتيجة.

ثالثا: التخدير بالحقن: وفي هذه الطريقة يقوم الطبيب بإدخال مادة سائلة مخدرة يحقنها في موضع معين من بدن الصائم:

أ - فإن كان الحقن في مكان آخر غير الأوردة والشرايين (كالحقن في اللثة أو في العضلة أو في رأس الألية أو نحو ذلك) فلا يفسد الصوم ؛ لأن السائل يصل إلى البدن عن طريق المسام أو الشعيرات، ولأن التخدير الموضعي يقتصر على المكان المحدد، دون أن يفقد الصائم الوعي.

ب - أما إذا تمَّ الحقن في الأوردة أو الشرايين بالمادة المخدرة، فإن الصوم يبطل لسببين؛ أولهما: أن مائعا أدخل إلى البدن من مكان صار منفذًا عرفًا، والآخر: أن الصائم يفقد الوعي ؛ لأن المادة المخدرة التي صبت في الدم قد توزعت على جميع البدن بواسطة الدورة الدموية، واتصلت بالمخ ومراكز الإحساس، وفقدان الوعي سبب لبطلان الصوم, والله أعلم.

المطلب الثالث: ما يستخرج من بدن الصائم

الحجامة - سحب الدم - القيء

أولًا - الحجامة:

الفتاوى المعاصرة في حكم تأثير الحجامة على الصوم تأسست على الخلاف في حكمها عند الفقهاء، نتيجة لمدى صحة وحجية الأحاديث والآثار التي وردت في مسألة الحجامة، فمن هذه الفتاوى ما أبطل الصوم بالحجامة، وأكثرها لم يجعل للحجامة أثرا على صحة الصوم، ونحن نؤيد صحة الصوم مع الحجامة ؛ لأن أحاديث الترخيص فيها للصائم أصح وأقوى، ولأنها تتوافق مع القياس.

ويقاس على الحجامة الفصد والرعاف والجرح لإزالة غدة أو ورم أو استخراج شوكة أو قلع ضرس، ووضع العلق على الورم في اليد أو الرجل أو غيرهما لامتصاص الدم، ونحو ذلك، ففي هذه الحالات نرى أن الصيام صحيح، والله أعلم.

ثانيا - سحب الدم:

تباينت الفتاوى الحديثة في حكم سحب الدم من الصائم لفحصه أو للتبرع به، فذهب البعض إلى عدم تأثير سحب الدم - قليلًا أو كثيرا - على صحة الصوم، بينما ذهب البعض الآخر إلى صحة الصوم مع سحب الدم القليل (البرواز)، وفساده مع سحب الدم الكثير، قياسا على فساده بالحجامة

ولا نرى سببا للتفرقة بين القليل والكثير، كما لا نرى وجها للقياس على الحجامة، لعدم وجود علة ظاهرة، خاصة بالنسبة للحاجم , وقد رجحنا عدم تأثيرها وما ألحق بها على صحة الصوم.

وأخيرا: فإن سحب الدم يضيق من مجاريه التي يسري فيها الشيطان، وقد جاء الحديث يحث على تضييق مجاري الدم، ومع ذلك فإنه يكره إذا أدى إلى الضعف، ولكن الصوم معه صحيح، والله أعلم.

ثالثا - القيء:

انفرد الحسن البصري - في إحدى الروايتين عنه - بالقول: " إن من ذرعه القيء فقد أفطر ووجب عليه القضاء ".، وجمهور أهل العلم من القدامى والمحدثين على أن من غلبه القيء لا يفطر ولا قضاء عليه، وأن من تعمد القيء يبطل صومه، لما أخرجه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه".، ومع ذلك: فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن من تعمد القيء وهو صائم فلا شيء عليه وصيامه صحيح، لعدم أخذه بالأحاديث الواردة في القيء.

ومعظم الفتاوى الحديثة تعتمد رأي الجمهور، فتعتبر أن الصائم لا يفطر إذ غلبه القيء وليس عليه قضاء، وأنه يفطر وعليه القضاء إن تعمد القيء بأية وسيلة (وضع الإصبع في الفم، شم رائحة تسبب القيء).

ويفتي البعض بصحة الصوم مع القيء، سواء كلب القيء الصائم أو تعمد الاستقاءة.

ونحن نميل إلى عدم صحة الصوم إذا تعمد الصائم القيء، لمجموع الأحاديث والآثار التي يقوي بعضها بعضا، ولعدم مخالفة رأي الأكثرية من الفقهاء، ولأن الاستقاءة مظنة رجوع شيء من الخارج إلى الجوف مع التعمد, والله أعلم.

ويقاس على الاستقاءة إدخال آلة في فم الصائم أو أنفه لاستخراج عينة من الصديد أو الإفرازات في اللوزتين، أو من البلغم العالق في البلعوم أو الحلق، أو من المخاط أو إفرازات الجيوب الأنفية، أو نحو ذلك، فالأفضل تأخير ذلك إلى وقت الإفطار، والله أعلم بالصواب.

خاتمة

في ختام هذا البحث الذي حاولنا فيه بيان حكم بعض المستجدات في مجال (المفطرات) على ضوء التحليل الفقهي والواقع العلمي، نلخص ما تم عرضه في العناصر الآتية:

ا - بخاخ الربو: يفسد الصوم.

2 - العلك: ينصح بعدم تناوله أثناء الصيام.

3 - التدخين: حرام، ويبطل الصوم.

4 - التغذية عن طريق الفم: تفسد الصوم.

5 - التقطير في الأنف، و استنشاق بخاخ الزكام، والاستعاط، وشم المخدرات والمكيفات: تبطل الصوم.

6 - الاكتحال والتقطير في العين: إذا تجمع بسببه مخاط، وابتلعه الصائم أفطر.

7 - التقطير في الأذن السليمة: لا يفطر الصائم، بعكس منزوعة الطبلة.

8 - التقطير في الإحليل: لا يفسد الصوم.

9 - الحقن الشرجية: يوصى بتأخير استعمالها إلى ما بعد الإفطار.

10 - التحاميل وأقماع البواسير: لا تؤثر على الصوم.

11 - إدخال أجهزة أو أدوية في فرج الثيب يفسد الصوم.

12 - الإبر التي تحقن في العضل ونحوه لا تبطل الصوم.

13 - الإبر التي تحقن في الأوردة والشرايين تفسد الصوم.

14 - الحبوب التي يمتصها الجلد لا تفطر.

15 - الحبة التي توضع تحت اللسان لا تفطر.

16 - استنشاق الأوكسجين لا يفسد الصوم.

17 - التعرض للأشعة لا يبطل الصيام.

18 - التخدير الموضعي لا يفطر الصائم.

19 - التخدير الكلي يفسد الصوم.

20 - الحجامة وما يلحق بها لا تؤثر على صحة الصوم.

21 - سحب الدم الصوم معه صحيح، ويكره إذا أضعف الصائم.

22 - القيء: إن تعمده الصائم بطل صومه، وإن غلبه فلا شيء عليه، ويلحق به استخراج العينات من الفم أو الأنف.

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"