بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 6 يونيو 2010

قصص

قصة:

قال عبد الله بن دينار: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة فعرّسنا في بعض الطريق، فانحدر عليه راعٍ من الجبل، فقال له: يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم، فقال: إني مملوك، فقال: قل لسيّدك: أكلها الذئب، قال: فأين الله ؟ قال: فبكى عمر، ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تُعتقك في الآخرة[1].

أبيات:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب

ولا تحسبن الله يغفل سـاعـةً ولا أن ما تُخفي عليه يغيب[2]

وقال ابن السّماك:

يا مدمن الذنب أما تستحي واللهُ في الخلـوة ثانيكـا

غـرك من ربـك إمهالـه وستره طول مساويكا[3]

وقال أبو محمد الأندلسي:

وإذا ما خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعيـةٌ إلى الطغيان

فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني[4]

محامد:

الحمد لله الرقيب الذي أحاط بكل شيء رحمةً وعلماً، وأتقن ما صنعه وأبدع ما شرعه إحكاماً وحُكماً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد المحسنين أجراً عظيماً، فقال: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31]. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه وجعله إماماً، أفضل داع إلى الإحسان وأعظمهم مقاماً، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً.

مراجع للتوسع:

· إحياء علوم الدين (4/398) للغزالي.

· مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة.

· مدارج السالكين لابن القيم (2/479).

· شعب الإيمان للقصري.

· الوصايا للمحاسبي.

· موعظة المؤمنين للقاسمي.

· أعمال القلوب وأثرها في الإيمان لمحمود دوكوري.


[1] انظر: إحياء علوم الدين (4/296)، والسير (3/216).

[2] تُنْسب لأبي نواس، ولأبي العتاهية، ولغيرهما، انظر الخلاف في ذلك في: حماسة الظرفاء (1/187) وديوان شعر الخوارج (ص260-261).

[3] انظر: جامع العلوم والحكم (1/440).

[4] نونية القحطاني (25).

من أقوال السلف

من أقوال السلف:

قال مسروق بن الأجدع: "من راقب الله في خطرات قلبه؛ عصمه الله في حركات جوارحه"[1].

قال ابن المبارك لرجل: "راقب الله تعالى"؛ فسأله عن تفسيرها، فقال: "كن أبداً كأنك ترى الله عز وجل"[2].

قال أبو حفص لأبي عثمان: "إذا جلست للناس فكن واعظاً لنفسك وقلبك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك"[3] .


[1] انظر: صفة الصفوة (4/129) وتنوير المقباس لابن رجب (55).

[2] انظر: إحياء علوم الدين (4/297).

[3] انظر: إحياء علوم الدين (4/297).

الطرق المعينة على المراقبة

الطرق المعينة على المراقبة:

أ- التعرف على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى والتعبد بمقتضاها:

قال ابن القيم: "والمراقبة التعبد باسمه الرقيب، الحفيظ، العليم، السميع، البصير، فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة"[1].

ب- قطع أشغال الدنيا عن القلب وتعاهده بالرعاية والعناية:

سئل المحاسبي: فما يوصله إلى هذه الحالة ـ أي المراقبة ـ؟

قال: "قطع علائق الأشغال، ولزوم العلم، والتعاهد بالعناية والرعاية"[2].

ج- تعظيم الله سبحانه وتعالى:

قال محمد بن نصر المروزي: "إذا ثبت تعظيم الله في قلب العبد أورثه الحياء من الله، والهيبة له، فغلب على قلبه ذكر اطلاع الله العظيم، ونظره بعظمته إلى ما في قلبه وجوارحه... فاستحى الله أن يطلع على قلبه وهو معتقد لشيء مما يكره، أو على جارحة من جوارحه، تتحرك بما يكره، فطهّر قلبه من كل معصية، ومنع جوارحه من جميع معاصيه"[3].

د- التفكر في أمور الآخرة:

قال القصري: "أما المقام الثاني من الإحسان في عالم الغيب ومقام الإيمان فإن العبد إذا فكر في مواطن الآخرة من موت، وقبر، وحشر،... وعلى أنه معروض على الله في ذلك العالم ومواطنه؛ تهيأ لذلك العرض" [4] .


[1] مدارج السالكين (2/68).

[2] الوصايا (314).

[3] تعظيم قدر الصلاة (2/826).

[4] انظر: شعب الإيمان (2/364).

كيف تراقب الله؟

كيف تراقب الله؟:

أ- أن تنظر إلى همّك وإرادتك قبل فعل الطاعات، فإن كان همّك وإرادتك لله أمضيتها، وإن كان لغيره فلا:

قال الحسن البصري: "رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر"[1].

وقال القاسمي: "ثم للمراقب في أعماله نظران: نظر قبل العمل، ونظر في العمل، أما قبل العمل فلينظر همه وحركته أهي لله خاصة أو لهوى النفس ومتابعة الشيطان؟ فيتوقف فيه ويتثبّت حتى ينكشف له ذلك بنور الحق، فإن كان لله تعالى أمضاه، وإن كان لغير الله استحيا من الله، وانكف عنه، ثم لام نفسه على رغبته فيه، وهمه به، وميله إليه، وعرّفها سوء فِعْلها، وأنها عدوّة نفسها"[2].

ب- أن تنظر إلى إرادتك عند الشروع في فعل الطاعات فتخلص نيتك لله سبحانه وتعالى:

قال ابن قدامة: "ومراقبة العبد في الطاعة وهو أن يكون مخلصاً فيها"[3].

وقال القاسمي: "وأما النظر الثاني للمراقبة عند الشروع في العمل، فذلك بتفقد كيفية العمل ليقضي حق الله فيه، ويحسن النية في إتمامه، ويتعاطاه على أكمل ما يمكنه"[4].

ج- أن تراقب الله قبل الهم بالمعصية، فتكفّ عنها:

قال القصري وهو يعدّد أنواع الإحسان: "فأما قسم المعاصي على اختلاف أنواعها؛ فإن العبد مأمور بأن يعلم أن الله يراه، فإذا هم بمعصية وعلم أن الله يراه، ويبصرُه على أي حالة كان، وأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور كفَّ عن المعصية ورجع عنها"[5].

د- أن تراقب الله بعد الوقوع في المعاصي بالتوبة:

وقال القصري: "فإن غلبه فعل المعاصي انقضَّ وزلّ عن مقام الإحسان، ووقع في شكلٍ يبطل العبادة سارع إلى الاستغفار، والرجوع إلى مقام الإحسان"[6].

قال ابن القيم: "ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع"[7].

هـ- أن تراقب الله في المباحات فتشكره على نعمه، ولا تسترسل بالكلية فيها:

وقال القصري: "وأما القسم الثالث من المباحات والكسبيات؛ فإن ذلك محل الغفلة، والسهو عن هذا المقام الإحساني، فإذا تذكّر العبد أن الله يراه في تصرّفه، وأنه أمره باتباعه والإقبال عليه، وقلّة الإعراض عنه استحيا أن يراه مكباً على الخسيس الفاني، مستغرقاً في الاشتغال به عن ذكره؛ فيقبضه ذلك عن الاستكثار الملهي، والاشتغال والاسترسال بالكلية في أمور الدنيا"[8].

قال ابن القيم: "ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعم، فإنه لا يخلو العبد من نعمة لا بد له من الشكر عليها"[9] .


[1] انظر: مختصر منهاج القاصدين (377).

[2] موعظة المؤمنين (451-452).

[3] مختصر منهاج القاصدين (373).

[4] موعظة المؤمنين (452).

[5] انظر: شعب الإيمان (2/363).

[6] انظر: شعب الإيمان (2/363).

[7] مدارج السالكين (2/68).

[8] انظر: شعب الإيمان (2/364).

[9] مدارج السالكين (2/68).

فضيلة المراقبة

فضيلة المراقبة:

أ- أن المراقبة سبب من أسباب دخول الجنة:

قال تعالى: {هَلْ جَزَاء ٱلإِحْسَـٰنِ إِلاَّ ٱلإِحْسَـٰنُ} [الرحمن:60].

قال ابن القيم مفسراً الآية: "الإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق، وهو أن تعبد الله كأنك تراه... وفي الحديث إشارة إلى كمال الحضور مع الله عز وجل، ومراقبته، ومحبته ومعرفته، والإنابة إليه، والإخلاص له، ولجميع مقامات الإيمان"[1].

وسئل ذو النون: بم ينال العبد الجنة؟ فقال: بخمس، وذكر منها: "ومراقبة الله في السر والعلانية"[2].

وقال عَزَّ من قائل: {بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112].

قال أبو السعود: "وحقيقة الإحسان الإتيان بالعمل على الوجه اللائق وهو حسنه الوصفي التابع لحُسْنِه الذاتي، وهو ما فسّره صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))؛ {فَلَهُ أَجْرُهُ} الذي وعده به على عمله، وهو عبارة عن دخول الجنة أو عما يدخل فيه دخولاً أولياً"[3].

ب- أن بها يكسب العبد رضا الله سبحانه وتعالى عنه:

قال تعالى: {رّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} [البينة:8].

قال أهل العلم: "ذلك لمن راقب ربه عز وجل، وحاسب نفسه وتزود لمعاده"[4].

ج- أنها من أعظم البواعث على المسارعة إلى الطاعات:

قال الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].

قال القصري: "إذا عرف العبد مقام الإحسان، سارع إلى طاعته قدر وسعه، فهذا حال المحب الذي يعبد الله كأنه يراه" [5].

د- أن بها يحصل العبد على معية الله وتأييده:

قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل:128].

قال ابن كثير: "أي معهم بتأييده ونصره ومعونته، وهذه معية خاصة"[6].

هـ- أنها تعينه على ترك المعاصي والمنكرات:

قال ابن الجوزي: "فقلوب الجهال تستشعر البُعْد؛ ولذلك تقع منهم المعاصي، إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الأكُفَّ عن الخطايا، والمتيقظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة، وكفتهم عن الانبساط"[7].

وقال ابن القيم: "فإن الإحسان إذا باشر القلب منعه من المعاصي، فإن من عبد الله كأنه يراه لم يكن ذلك إلا لاستيلاء ذِكره ومحبته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنه يشاهده، وذلك يحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلاً عن مواقعتها"[8].

وقال أيضاً: "فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته"[9].

و- أنها من أفضل الطاعات وأعلاها:

قال ابن عطاء: "أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات"[10].

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]: "ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات، ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء... في عطف بالأمر بالإحسان وهو أعلى مقامات الطاعة"[11].

ويقول حافظ الحكمي:

وثالـثٌ مرتبـة الإحسـان وتلك أغلاها لـدى الرحمن

وهي رسوخ القلب في العرفان حتى يكون الغيب كالعَيان[12].

ز- أنها من خصال الإيمان وثمراته:

قال القصري: "فأما كونه من الإيمان فبيّن؛ لأنه في نفسه تصديق بالنظر إلى الله في الحال، أو تصديق بأن الله ينظر إليه، إلا أنه ثمرة الإيمان، وأعلاه وخالصه"[13].

ح- أن بها يسعد العبد، وتصلح أحواله في الدارين:

قال ابن علان: "فينبغي ألا يشتغل إلا بما فيه صلاحه معاشاً ومعاداً، بتحصيل ما لا بد منه في قوام البدن، وبقاء النوع الإنساني، ثم بالسعي في الكمالات العلمية، والفضائل العلية التي هي وسيلة لنيل السعادة الأبدية... وذلك إنما يكون بالمراقبة، ومعرفة أن فيما يأتيه بمرأى ومسمع من الله سبحانه وتعالى وأنه لا يخفى عليه شيء من شأنه"[14] .



[1] مدارج السالكين (2/479).

[2] انظر: إحياء علوم الدين (4/398).

[3] تفسير أبي السعود (1/147).

[4] انظر: إحياء علوم الدين (4/398).

[5] انظر: شعب الإيمان (2/371-372) بتصرّف.

[6] تفسير ابن كثير (753).

[7] صيد الخاطر (236).

[8] الجواب الكافي (70).

[9] مدارج السالكين (2/96).

[10] انظر: إحياء علوم الدين (4/397).

[11] تفسير ابن كثير (152).

[12] معارج القبول (2/399).

[13] انظر: شعب الإيمان (2/359).

[14] دليل الفالحين (1/345).

درجات المراقبة

درجات المراقبة:

أ- الدرجة الأولى: استدامة السير إلى الله وتعظيمه، وحضور القلب معه والذهول عن غيره، والقرب إليه مع الأنس والسرور به:

قال ابن القيم في معرض شرحه لهذه الدرجة: "فإن الحضور يوجب أنساً ومحبة، وإن لم يقارنهما تعظيم أورثاه خروجاً عن حدود العبودية ورعونة، فكل حب لا يقارنه تعظيم المحبوب فهو سبب للبعد عنه، والسقوط من عينه... وأما السرور الباعث فهو الفرحة والتعظيم، واللذة التي يجدها في تلك المداناة؛ فإن سرور القلب بالله وفرحه به، وقُرّة العين به، لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا ألبتة... ولا ريب أن هذا السرور يبعثه على دوام السير إلى الله عز وجل، وبذل الجهد في طلبه وابتغاء مرضاته"[1].

ب- الدرجة الثانية: مراقبة الله بصيانة الباطن والظاهر:

قال ابن القيم شارحاً لهذه الدرجة: "هذه مراقبةٌ لمراقبة الله لك، فهي مراقبة لصفة خاصة معينة، وهي توجب صيانة الباطن والظاهر، فصيانة الظاهر بحفظ الحركات الظاهرة، وصيانة الباطن بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة"[2].

ج- الدرجة الثالثة: مراقبة الله بشهود انفراده سبحانه بأزليته وحده، وأنه كان ولم يكن شيء قبله، وكل ما سواه فكائن بعد عدمه بتكوينه:

قال ابن القيم مبينا معنى هذه الدرجة: "وهذا الشهود متعلّق بأسمائه وصفاته، وتقدُّم علمه بالأشياء ووقوعها في الأبد مطابقة لعلمه الأزلي، فهذا الشهود يُعْطي إيماناً ومعرفة، وإثباتا للعلم والقدرة، والفعل، والقضاء والقدر[3].


[1] مدارج السالكين (2/69-70) بتصرف.

[2] مدارج السالكين (2/71) بتصرف.

[3] مدارج السالكين (2/74-75) بتصرف.

الفرق بين المراقبة والإحسان

الفرق بين المراقبة والإحسان:

ـ أن المراقبة تشمل المراقبة في الطاعات وفي المعاصي وفي المباحات، والإحسان يشمل المراقبة في الطاعات والعبادات فقط .[1]

قال صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))[2].

قال ابن قدامة: "أراد بذلك ـ أي الإحسان ـ استحضار عظمة الله، ومراقبته في حال العبادة"[3].

وقال ابن الأثير: "أراد بالإحسان الإشارة إلى المراقبة، وحسن الطاعة"[4].

وقال النووي في شرحه للحديث: "فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه ـ تبارك وتعالى ـ في إتمام الخشوع والخضوع"[5].

وقال ابن حجر: "وإحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوع، وفراغ البال حال التلبّس بها، ومراقبة المعبود..."[6].

وقال حافظ الحكمي: "فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإحسان على مرتبتين متفاوتتين: أعلاهما: عبادة الله كأنك تراه، وهذا مقام المشاهدة، والثاني: مقام المراقبة"[7].

وقال ابن رجب: "والإحسان في ترك المحرمات الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها"[8].

ـ إن الإحسان أعم من المراقبة من جهة أخرى؛ فإن الإحسان يطلق على الإحسان إلى الخلق بالإنفاق ووجوه البر؛ قال تعالى: {وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]، وقال عز وجل: {وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ بِوٰلِدَيْهِ إِحْسَـٰناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وٰلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـٰلِحاً تَرْضَـٰهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].

قال ابن رجب: "وهذا الأمر بالإحسان تارة يكون للوجوب، كالإحسان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البر والصلة، والإحسان إلى الضيف بقدر ما يحصل به قراه"[9].

ـ وبعض العلماء لم يفرقوا بينهما في المعنى فأطلقوا الإحسان على الطاعات والمباحات أيضاً.

قال أبو محمد القصري: "والإحسان مقامه واحد، ولكن لما كانت العبادة ظاهراً وباطناً، انقسم الإحسان على حسب العوالم... فإن العبادة كما تقدم على ثلاثة: أوامر، ونواهي، ومباحات"[10].



[1] ينظر: أعمال القلوب وأثرها على الإيمان للدكوري (110).

[2] أخرجه البخاري: كتاب الإيمان (50)، مسلم: كتاب الإيمان (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[3] مختصر منهاج القاصدين (377).

[4] النهاية (1/387).

[5] شرح مسلم (1/158).

[6] فتح الباري (1/120).

[7] إعلام السنة المنشورة (72).

[8] جامع العلوم والحكم (1/382).

[9] جامع العلوم والحكم (1/388).

[10] شعب الإيمان (2/369).

مفهوم مراقبة الله

مفهوم مراقبة الله:

المراقبة لغة: مصدر مأخوذ من راقب يراقب مراقبة، وتدل على الانتصاب لمراعاة الشيء. والرقيب: الحافظ. وراقب الله في أمره: أي خافه[1].

وقال المحاسبي: "المراقبة دوام علم القلب بعلم الله عز وجل في السكون والحركة علماً لازماً مقترناً بصفاء اليقين"[2].

قال ابن القيم: "المراقبة دوام علم العبد، وتيقّنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه"[3].

وقال القاسمي: "المراقبة هي ملاحظة الرقيب، وانصراف الهم إليه"[4].



[1] ينظر: مقاييس اللغة (مادة رقب 2/47) ولسان العرب (مادة رقب 5/279-280).

[2] الوصايا (313).

[3] مدارج السالكين (2/67).

[4] موعظة المؤمنين (451).

سدّ الذرائع المفضية إلى الشرك

سدّ الذرائع المفضية إلى الشرك:

جاءت الشريعة الإسلامية الغراء بالتدابير الواقية من الوقوع في الشرك، فمن ذلك:

أ- التحذير من الوقوع في الشرك فيما يتعلق بذات الله سبحانه وأسمائه وصفاته:

1- التحذير من الوساوس والشكوك والأوهام:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولون: هذا الله خلَق الخلْق، فمن خلق الله؟))[1].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟)) [2].

فهذا الشكّ إذا تمكّن في القلب يحصل الشرك في ذاته سبحانه، فحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في ذلك، وبيّن للناس كيفية اتّقائه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينتَهِ))[3]، وفي رواية: ((فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله))[4]، زاد في رواية: ((ورسله))[5].

2- التحذير من الكبر الذي هو حق الله تعالى:

عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته))[6].

قال النووي: "ومعنى ((ينازعني)): يتخلّق بذلك فيصير بمعنى المشارك، وهذا وعيد شديد في الكبر"[7].

3- التحذير من التشبه بالله تعالى في الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((أخنع الأسماء عند الله رجل تسمَّى بملك الأملاك))[8]، وفي لفظ: ((أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك))[9].

قال النووي: "واعلم أن التسمي بهذا الاسم حرام، وكذلك التسمي بأسماء الله تعالى المختصة به كالرحمن والقدوس والمهيمن وخالق الخلق ونحوها"[10].

ب- التحذير من الوقوع في الشرك في عبادة الله تعالى:

1- الإخبار بوقوع الشرك في آخر الزمان:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة))، وكانت صنماً تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة[11].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبَد اللات والعزى))، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظنّ حين أنزل الله: {هُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] أنَّ ذلك تاماً!! قال: ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفّي كلّ من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم))[12].

وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فرجعت دوس وما حولها من القبائل لعبادة الخلصة وافتتنوا بها، حتى قامت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتجدّد ما اندرس من الدين وعاد الإسلام لجزيرة العرب، فهدمت ذي الخلصة وأزيلت آثارها ولله الحمد[13].

2- النهي عن الإطراء في مدحه صلى الله عليه وسلم:

عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله))[14].

إذ الغلو في تعظيمه يؤدّي إلى استشعار القلب بالخوف والرهبة منه والرجاء فيه، فيصرف إليه عندئذٍ شيئاً من حقوق الله تعالى[15].

3- النهي عن البناء على القبور، وعن اتخاذها عيداً ومساجد:

عن عائشة أن أم سلمة رضي الله عنهما ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله))[16].

وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، يحذر ما صنعوا[17].

قال الحافظ: "وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظّم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذمّ من يفعل فعلهم"[18].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه[19].

4- النهي عن الصلاة إلى القبور:

عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها))[20].

قال النووي: "فيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى قبر"[21].

قال ابن القيم: "فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواء"[22].

5- الأمر بتسوية القبور وهدم ما بني عليها:

عن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها[23].

وعن أبي الهيّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالاً إلا طمستَه، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته[24].

قال سليمان آل الشيخ: "وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه، ولا فرق في ذلك بين البناء في مقبرة مسبّلة أو مملوكة إلا أنه في المملوكة أشدّ"[25].

6- التحذير من زيارة القبور للصلاة في المساجد المبنية عليها أو الدعاء عندها وشدّ الرحال إليها:

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى))[26].

قال ابن تيمية: "فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة"[27].

وقال أيضاً: "وهذا النهي يعم السفر إلى المساجد والمشاهد، وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب"[28].

7- النهي عن الحلف بغير الله:

عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت))[29].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله))[30].

قال ابن تيمية: "وهو صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله، وعن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وعن اتخاذ القبور مساجد، واتخاذ قبره عيداً، ونهى عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وأمثال ذلك لتحقيق إخلاص الدين لله، وعبادة الله وحده لا شريك له، فهذا كله محافظة على توحيد الله عز وجل وأن يكون الدين كله لله، فلا يعبد غيره، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يدعى إلا هو، ولا يتَّقى إلا هو، ولا يصلى ولا يصام إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يحج إلا إلى بيته"[31].

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،



[1] أخرجه مسلم في الإيمان (136).

[2] أخرجه مسلم في الإيمان (135).

[3] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده (3276)، ومسلم في الإيمان (134).

[4] وهي رواية لمسلم (134).

[5] وهي رواية لمسلم (134).

[6] أخرجه مسلم في البر والصلة (2620).

[7] شرح صحيح مسلم (16/173).

[8] أخرجه البخاري في الأدب، باب: أبغض الأسماء إلى الله (6206).

[9] هذا اللفظ عند مسلم في الآداب (2143).

[10] شرح صحيح مسلم (14/122).

[11] أخرجه البخاري في الفتن، باب: تغيير الزمان حتى تعبد الأوثان (7116)، ومسلم في الفتن (2906).

[12] أخرجه مسلم في الفتن (2907).

[13] الشرك في القديم والحديث (1/600).

[14] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: قول الله: {واذكر في الكتاب مريم} (3445).

[15] الشرك في القديم والحديث (1/612).

[16] أخرجه البخاري في الصلاة، باب: الصلاة في البيعة (434).

[17] أخرجه البخاري في الصلاة، باب: حدثنا أبو اليمان (435).

[18] فتح الباري (1/634).

[19] أخرجه مسلم في الجنائز (970).

[20] أخرجه مسلم في الجنائز (972).

[21] شرح صحيح مسلم (7/38).

[22] إغاثة اللهفان (1/189).

[23] أخرجه مسلم في الجنائز (968).

[24] أخرجه مسلم في الجنائز (969).

[25] تيسير العزيز الحميد (332).

[26] أخرجه البخاري في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1189). ومسلم في الحج (511).

[27] اقتضاء الصراط المستقيم (2/153).

[28] اقتضاء الصراط المستقيم (2/182).

[29] أخرجه البخاري في الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً (6108)، ومسلم في الأيمان (1646).

[30] أخرجه البخاري في الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً (6107)، ومسلم في الأيمان (1647).

[31] مجموع الفتاوى (27/350-351).

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"