بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 11 ديسمبر 2015


قال أبو جعفر الرازي: عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: الإيمان: التصديق، وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: يؤمنون: يصدّقون. وقال معمر عن الزهري: الإيمان: العمل، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: يؤمنون: يخشون.

قال ابن جرير: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً، وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعة للإيمان بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل (قلت): أما الإيمان في اللغة، فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك؛ كما قال تعالى:
{ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ }
[التوبة: 61] وكما قال إخوة يوسف لأبيهم:
{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَـٰدِقِينَ }
[يوسف: 17] وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال كقوله تعالى:
{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }
[العصر: 3] فأما إذا استعمل مطلقاً، فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً. هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعاً: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث، أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنَّة. ومنهم من فسره بالخشية؛ كقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ }
[الملك: 12] وقوله:
{ مَّنْ خَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ }
[ق: 33] والخشية: خلاصة الإيمان والعلم؛ كما قال تعالى:
{ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ }
[فاطر: 28] وقال بعضهم يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين:
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوۤا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }
[البقرة: 14] وقال:
{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }
[المنافقون: 1] فعلى هذا يكون قوله بالغيب حالاً أي في حال كونهم غيباً عن الناس.

وأما الغيب المراد ههنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد؛ قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قوله تعالى: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قال يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث؛ فهذا غيب كله. وكذا قال قتادة بن دعامة وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن؛ وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بالغيب قال: بما جاء منه - يعني من الله تعالى - وقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر قال: الغيب القرآن وقال عطاء بن أبي رباح: من آمن بالله فقد آمن بالغيب وقال إسماعيل بن أبي خالد يؤمنون بالغيب، قال: بغيب الإسلام وقال زيد بن أسلم: الذين يؤمنون بالغيب قال: بالقدر.
فكل هذه متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به.

وقال سعيد بن منصور: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً، فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيّناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: { الۤمۤ ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن الأعمش به. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا الأوزاعي حدّثني أسد بن عبد الرحمن عن خالد بن دريك عن ابن محيريز قال: قلت لأبي جمعة: حدّثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، أحدّثك حديثاً جيّداً: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، قال: يا رسول الله هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك. قال: " نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني " طريق أخرى: قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدّثنا عبد الله بن جعفر حدّثنا إسماعيل عن عبد الله ابن مسعود. حدّثنا عبد الله بن صالح حدّثنا معاوية بن صالح عن صالح بن جبير قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه، ومعنا يؤمئذٍ رجاء ابن حيوة رضي الله عنه، فلما انصرف، خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقاً، أحدّثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: هات رحمك الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً؟ آمنا بالله واتبعناك، قال:
" ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم، يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم بعدكم، يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً " مرتين. ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة عن مرزوق بن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة بنحوه. وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث؛ كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك، وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية، لا مطلقاً. وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي: حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي الخلق أعجب إليكم إيماناً؟ " قالوا: الملائكة، قال: " وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟ " قالوا: فالنبيون، قال: " وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ " قالوا: فنحن، قال: " وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ " قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إن أعجب الخلق إليّ إيماناً لقوم يكونون من بعدكم، يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيها " قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث (قلت): ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن حميد - وفيه ضعف - عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو نحوه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعاً، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن محمد المسندي حدثنا إسحاق بن إدريس أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري أخبرني جعفر بن محمود عن جدته نُوَيلة بنت أسلم قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء، فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام. قال إبراهيم: فحدثني رجال من بني حارثة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال: " أولئك قوم آمنوا بالغيب " هذا حديث غريب من هذا الوجه.

قال ابن عباس ويقيمون الصلاة، أي: يقيمون الصلاة بفروضها. وقال الضحاك عن ابن عباس: إقامة الصلاة: إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها، وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها. وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور بها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهذا إقامتها.
وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } قال: زكاة أموالهم، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } قال: نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة. وقال جويبر عن الضحاك: كانت النفقات قرباناً يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهنّ الصدقات هن الناسخات المثبتات. وقال قتادة: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوار وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها.

واختار ابن جرير أنّ الآية عامة في الزكاة والنفقات؛ فإنه قال: وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين زكاة كانت ذلك، أو نفقة من لزمته نفقته من أهل أو عيال وغيرهم ممن يجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه. قلت: كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال؛ فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعائه والتوكل عليه، والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت " والأحاديث في هذا كثيرة، وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء. قال الأعشى:
لها حارِسٌ لا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَها
   
وإنْ ذَبَحَتْ صَلَّى عَلَيْها وزَمْزَما
وقال أيضاً:
وقابَلَها الريحُ في دَنها
   
وصَلّى على دَنها وارْتَسَمْ
أنشدهما ابن جرير مستشهداً على ذلك. وقال الآخر، وهو الأعشى أيضاً:
تقولُ بِنْتي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحِلاً
   
يارب جَنبْ أَبِي الأَوْصابَ والوَجَعا
عَلَيْكِ مِثْلُ الذي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضي
   
نَوْماً فَإِنَّ لِجَنْبِ المرْءِ مُضْطَجَعا
يقول: عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي، وهذا ظاهر. ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة، في الأوقات المخصوصة، بشروطها المعروفة، وصفاتها وأنواعها المشهورة. قال ابن جرير: وأرى أن الصلاة سميت صلاة؛ لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعلمه مع ما يسأل ربه من حاجاته. وقيل: هي مشتقة من الصلوين إذا تحركا في الصلاة عند الركوع والسجود، وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عجب الذنب، ومنه سمي المصلي، وهو التالي للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر. وقيل: هي مشتقة من الصلي، وهو الملازمة للشيء، من قوله تعالى:
{ لاَ يَصْلَـٰهَآ }
[الليل: 15] أي لا يلزمها ويدوم فيها
{ إِلاَّ ٱلأَشْقَى }
[الليل: 15] وقيل: مشتقة من تصلية الخشبة في النار؛ لتقوم؛ كما أن المصلي يقوم عوجه بالصلاة
{ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ }
[العنكبوت: 45] واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر، والله أعلم.

وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه إن شاء الله تعالى.




قال ابن جريج: قال ابن عباس: ذلك الكتاب، أي: هذا الكتاب. وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج أن ذلك بمعنى هذا، والعرب تعارض بين هذين الاسمين من أسماء الإشارة، فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم، وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة. وقال الزمخشري: ذلك إشارة إلى
{ الۤمۤ }
[البقرة: 1] كما قال تعالى:
{ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ }
[البقرة: 68] وقال تعالى:
{ ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ }
[الممتحنة: 10] وقال:
{ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ }
[يونس: 3] وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدم ذكره، والله أعلم. وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبي وغيره أن ذلك إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بإنزاله عليه، أو التوراة، أو الإنجيل، أو نحو ذلك، في أقوال عشرة. وقد ضعف هذا المذهب كثيرون والله أعلم.

والكتاب: القرآن. ومن قال: إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما حكاه ابن جرير وغيره، فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وتكلف ما لا علم له به. والريب: الشك. قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { لاَ رَيْبَ فِيهِ }: لا شك فيه. وقال أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد. وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذه خلافاً. وقد يستعمل الريب في التهمة، قال جميل:
بُثَيْنَةُ قالَتْ يا جميلُ أَرَبْتَنِي
   
فقلْتُ كِلانا يا بُثَيْنَ مُرِيبُ
واستعمل أيضاً في الحاجة كما قال بعضهم:
قَضَيْنا مِنْ تِهامَةَ كُلَّ رَيْبٍ
   
وخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمعْنا السُّيوفا
ومعنى الكلام هنا أن هذا الكتاب هو القرآن لا شك فيه أنه نزل من عند الله؛ كما قال تعالى في السجدة [1-2]:
{ الۤـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }
وقال بعضهم هذا خبر ومعناه النهي أي لا ترتابوا فيه. ومن القراء من يقف على قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ } ويبتدىء بقوله تعالى: { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } والوقف على قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أولى للآية التي ذكرناها ولأنه يصير قوله تعالى: { هُدىً } صفة للقرآن وذلك أبلغ من كونه فيه هدى. وهدى يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعاً على النعت ومنصوباً على الحال وخصت الهداية للمتقين كما قال:
{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِىۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }

[فصلت: 44]
{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّـٰلِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا }
[الإسراء: 82] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار؛ كما قال تعالى:
{ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }
[يونس: 57] وقد قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } يعني: نوراً للمتقين. وقال أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: هدى للمتقين، قال: هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي، ويعملون بطاعتي. وقال محمد بن إسحاق: عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: { لِلْمُتَّقِينَ } قال: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به. وقال سفيان الثوري عن رجل عن الحسن البصري: قوله تعالى: للمتقين، قال: اتقوا ما حرم الله عليهم، وأدّوا ما افترض عليهم. وقال أبو بكر بن عياش: سألني الأعمش عن المتقين، قال: فأجبته، فقال لي: سل عنها الكلبي، فسألته، فقال: الذين يجتنبون كبائر الإثم. قال: فرجعت إلى الأعمش، فقال: يرى أنه كذلك، ولم ينكره. وقال قتادة: للمتقين، هم الذين نعتهم الله بقوله:
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ }
[البقرة: 3] الآية والتي بعدها، واختيار ابن جرير أن الآية تعم ذلك كله، وهو كما قال. وقد روى الترمذي وابن ماجه من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل عن عبد الله بن يزيد عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس " ثم قال الترمذي: حسن غريب. وقال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبي حدّثنا عبد الله بن عمران عن إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم عن ميمون أبي حمزة قال: كنت جالساً عند أبي وائل، فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ، فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف ألا تحدّثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى، سمعته يقول: يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن، لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله العبادة، فيمرون إلى الجنة. ويطلق الهدى ويراد به ما يقرّ في القلب من الإيمان، وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل، قال الله تعالى:

{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ }
[القصص: 56] وقال
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ }
[البقرة: 272] وقال:
{ مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ }
[الأعراف: 186] وقال:
{ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا }
[الكهف: 17] إلى غير ذلك من الآيات. ويطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه، والدلالة عليه والإرشاد إليه، قال الله تعالى:
{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِىۤ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
[الشورى: 52] وقال:
{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }
[الرعد: 7] وقال تعالى:
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }
[فصلت: 17] وقال:
{ وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ }
[البلد: 10] على تفسير من قال: المراد بهما الخير والشر، وهو الأرجح، والله أعلم. وأصل التقوى: التوقي مما يكره؛ لأن أصلها وقوى من الوقاية. قال النابغة:
سَقَطَ النَّصِيفُ ولَمْ تُرِدْ إِسْقاطَهُ
   
فَتَناوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنا بِاليَدِ
وقال الآخر:
فَأَلْقَتْ قِناعاً دونَهُ الشَّمْسُ واتَّقَتْ
   
بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفَ وَمِعْصَمِ
وقد قيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمرت، واجتهدت، قال: فذلك التقوى. وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:
خَل الذُّنُوبَ صَغِيْرها
   
وكَبِيْرَها ذاك التُّقَى
واصْنَعْ كَماشٍ فَوْقَ أر
   
ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ ما يَرَى
لا تَحْقِرَنَّ صغيرةً
   
إِنّ الجِبالَ مِنَ الحَصَى
وأنشد أبو الدرداء يوماً:
يريدُ المرءُ أَنْ يُؤْتَى مُناهُ
   
ويَأْبى اللّهُ إِلاَّ ما أَرادا
يقولُ المَرْءُ فائِدَتي ومَالِي
   
وتَقْوَى اللّهِ أَفْضَلُ ما اسْتَفادا
وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيراً من زوجة صالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله ".




بسم الله الرحمن الرحيم


تفسير سورة البقرة
أعلى النموذج

قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال: هي مما استأثر الله بعلمه فردّوا علمها إلى الله، ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم، واختاره أبو حاتم بن حبان. ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها، فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور. قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقله عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة آلم السجدة وهل أتى على الإنسان وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: الم، وحم، والمص، وص. فواتح افتتح الله بها القرآن، وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال: الم اسم من أسماء القرآن وهكذا قال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السور؛ فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون { الۤمۤصۤ } اسماً للقرآن كله؛ لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول: قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف، لا لمجموع القرآن، والله أعلم.

وقيل: هي اسم من أسماء الله تعالى. فقال الشعبي: فواتح السور من أسماء الله تعالى. وكذلك قال سالم ابن عبد الله وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير. وقال شعبة عن السدي: بلغني أن ابن عباس قال: { الۤمۤ } اسم من أسماء الله الأعظم. هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة. ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال: سألت السدي عن { حـمۤ } و { الۤمۤ } فقال ابن عباس: هي اسم الله الأعظم. وقال ابن جرير: وحدثنا محمد بن المثنى حدّثنا أبو النعمان حدّثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن مرة الهمداني قال: قال عبد الله، فذكر نحوه. وحكى مثله عن علي وابن عباس. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله تعالى. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال: { الۤمۤ } قسم. ورويا أيضاً من حديث شريك بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس، الم قال أنا الله أعلم، وكذا قال سعيد بن جبير.
أعلى النموذج


وقال السدي عن أبي مالك.

وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { الۤمۤ } قال: أما { الۤمۤ } فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: { الۤمۤ } قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة، والعشرين حرفاً دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه، وبلألائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى بن مريم عليه السلام وعجب، فقال: أعجب أنهم ينطقون بأسمائه، ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون به؟ فالألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، فالألف آلاء الله، واللام لطف الله، والميم مجد الله، والألف سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة.

هذا لفظ ابن أبي حاتم. ونحوه رواه ابن جرير، ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال، ويوفق بينها، وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر، وأن الجمع ممكن، فهي أسماء للسور، ومن أسماء الله تعالى؛ يفتتح بها السور، فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته؛ كما افتتح سوراً كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه، قال: ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله، وعلى صفة من صفاته، وعلى مدة، وغير ذلك؛ كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية؛ لأن الكلمة الواحدة تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة؛ فإنها تطلق ويراد بها الدين؛ كقوله تعالى:
{ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ }
[الزخرف: 23] وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله؛ كقوله تعالى:
{ إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـٰنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }
[النحل: 120] وتطلق ويراد بها الجماعة؛ كقوله تعالى:
{ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ }
[القصص: 23] وقوله تعالى:
{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً }
[النحل: 36] وتطلق ويراد بها الحين من الدهر؛ كقوله تعالى:
{ وَقَالَ ٱلَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ }
[يوسف: 45] أي: بعد حين، على أصح القولين، قال: فكذلك هذا.

هذا حاصل كلامه موجهاً، ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية؛ فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا معاً، ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام، فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن، فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول، ليس هذا موضع البحث فيها، والله أعلم. ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع، فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره، فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف، والمسألة مختلف فيها، وليس فيها إجماع حتى يحكم به، وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة، فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا؛ كما قال الشاعر:
أعلى النموذج

قُلْنا قِفِي لنا فقالَتْ قافْ
   
لا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِيْنا الإيجافْ
تعني: وقفت. وقال الآخر:
ما للظليمِ عال كيفَ لا يا
   
يَنْقَدُّ عنهُ جِلْدُهُ إذا يا
فقال ابن جرير: كأنه أراد أن يقول: إذا يفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من يفعل. وقال الآخر:
بالخَيْر خيراتٍ وإن شَرّاً فا
   
ولا أريدُ الشَّرَّ إلا أَنْ تا
يقول: وإن شراً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما، ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام، والله أعلم.

قال القرطبي: وفي الحديث " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة " الحديث. قال سفيان: هو أن يقول في اقتل: «اق». وقال خصيف عن مجاهد أنه قال: فواتح السور كلها (ق وص وحم وطسم والر) وغير ذلك هجاء موضوع. وقال بعض أهل العربية: هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفاً كما يقول القائل: ابني يكتب في - ا ب ت ث - أي: في حروف المعجم الثمانية والعشرين، فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها، حكاه ابن جرير.

قلت: مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفاً، وهي - ا ل م ص ر ك هـ ي ع ط س ح ق ن - يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عدداً، والمذكور منها أشرف من المتروك، وبيان ذلك من صناعة التصريف. قال الزمخشري: وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف، يعني: من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة، ومن المستعلية والمنخفضة، ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة، ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله، ومن ههنا لحظ بعضهم في هذا المقام كلاماً فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثاً ولا سدى، ومن قال من الجهلة: إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية، فقد أخطأ خطأً كبيراً، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر، فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به، وإلا وقفنا حيث وقفنا، وقلناأعلى النموذج


{ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا }
[آل عمران: 7] ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين، وإنما اختلفوا، فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين. هذا مقام.

المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها، فقال بعضهم: إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور. حكاه ابن جرير، وهذا ضعيف؛ لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه، وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة. وقال آخرون: بل ابتدىء بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين؛ إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن، حتى إذا استمعوا له، تلا عليهم المؤلف منه. حكاه ابن جرير أيضاً، وهو ضعيف؛ لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور، لا يكون في بعضها، بل غالبها، وليس كذلك، ولو كان كذلك أيضاً لانبغىٰ الابتداء بها في أوائل الكلام معهم، سواء كان افتتاح سورة، أو غير ذلك. ثم إن هذه السورة والتي تليها، أعني: البقرة وآل عمران، مدنيتان، ليستا خطاباً للمشركين، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه. وقال آخرون: بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرره الزمخشري في كشافه، ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية.

قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت؛ كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن. قال: وجاء منها على حرف واحد كقوله - ص ن ق - وحرفين مثل { حم } وثلاثة مثل { الۤمۤ } وأربعة مثل { الۤمۤر } و { الۤمۤصۤ } وخمسة مثل { كۤهيعۤصۤ } و { حـمۤ عۤسۤقۤ } لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك (قلت) ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: { الۤمۤ ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }
{ الۤمۤ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْه }
[آل عمران: 1 - 3]
{ الۤمۤصۤ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ }
[الأعراف: 1 ـ 2]
{ الۤر كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ }
[إبراهيم:1]
{ الۤـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }
أعلى النموذج

أسفل النموذج
أعلى النموذج
أسفل النموذج

[السجدة: 1 - 2]
{ حـمۤ تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }
[فصلت: 1 - 2]
{ حـمۤ عۤسۤقۤ كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }
[الشورى: 1 - 3] وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله أعلم.

وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له؛ وطار في غير مطاره؛ وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته، وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رباب قال: مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } فأتى أخاه حيــــي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } فقال أنت سمعته قال نعم قال فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك: { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بلى " فقالوا: جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: " نعم " قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بيّن لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حيي بن أخطب، وأقبل على من كان معه، فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ فقال: " نعم " ، قال: ما ذاك؟ قال: " المص " قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد سبعون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: " نعم " ، قال: ما ذاك؟ قال: " الــر " قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: " نعم " قال: ماذا؟ قال: " المر " قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتان. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً؟ ثم قال: قوموا عنه، ثم قال أبو ياسر لأخيه حيــــي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين؟ فقالوا: لقد تشابه علينا أمره.
فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم:
{ هُوَ ٱلَّذِىۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ }
[آل عمران: 7] فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحاً أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم، والله أعلم.

          ومع درس قادم في التفسير ان شاء الله

                      من سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"