بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 30 سبتمبر 2010

الأدب العربي في العصر العباسي

الأدب العربي في العصر العباسي

لم يكن هيناً على الأمويين أن يحتفظوا بملكهم طويلاً بعد عصر الراشدين، بسبب الثورات المتلاحقة التي كانت تنشب في وجههم وتنازعهم الحكم، ولاسيما ثورات الخوارج والشيعة والزبيريين.. ثم كانت ثورة العباسيين سنة 132هـ/750م آخر حلقة في سلسلة تلك الثورات، التي أنهكت دولة بني أمية وآلت إلى القضاء عليها.
كان في مقدمة ماتطلع إليه بنو العباس التمركز في حاضرة جديدة بعيداً عن دمشق موطن الأمويين، وفي منأى عن الكوفة معقل الشيعة، وقد آثر الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور لذلك موقع قرية على دجلة تدعى بغداد على مقربة من مدينة بابل القديمة، واتخذها عاصمة لملكه وأطلق عليها لقب دار السلام مقتبساً ذلك من القرآن الكريم. وانصرف المنصور إلى إعمار حاضرته على خير وجه، فابتنى فيها القلاع والجسور، وأقام حولها الأرباض والسدود، ونشر في ربوعها الشوارع والأسواق. ثم ما لبثت المدينة أن عمِّرت بمئات المساجد والمكتبات، والأسواق والمنتزهات، فأمها العلماء والأدباء، والمهندسون والصناع. ثم تعاظم شأن بغداد حتى بلغت في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، أوج ازدهارها، وغدت أهم مركز حضاري في العالم، وأصبحت موئل الحركة الفكرية والعلمية والأدبية بلا منازع.
وقد ظلت البادية حتى ضحى هذا العهد ترفد المدن والحواضر بمواد اللغة والأخبار، والخطب والأشعار، بوصفها موطن الأصالة ومنبع الإبداع. ثم أخذ الرواة واللغويون ينتشرون في حواضر العراق ويتجمعون في مدنها، حتى اكتظت بهم الكوفة والبصرة فضلاً عن بغداد. وفي هذه المراكز العلمية والأوساط الأدبية قامت حركة تدوين رائدة لم يكن لمثلها نظير. فنشط الرواة وكثر المؤلفون وراجت سوق الوراقين. وقد واكب ذلك على صعيد الأدب نبوغ عدد من الشعراء والكتَّاب الذين احتضنتهم هذه المدن، واتسم نتاجهم المنظوم والمنثور بكثير من ملامح الجدة والطرافة.
وما من ريب في أن الاستقرار السياسي، ولاسيما بعد انقضاء طور الفتوح والقضاء على الفتن، قد ساعد على الالتفات إلى شؤون الأدب والعلم وقضايا الفلسفة والفكر، وجعل الظروف ملائمة لتدفق العطاء وتفجر الإبداع. وكان من المعهود أن يولي الخلفاء كل ذلك اهتمامهم ويحرصوا على تشجيع ذوي المواهب، يعينهم على ذلك ثراء كبير تجمع في خزائنهم من موارد البلاد الواسعة. بل إن من الخلفاء أنفسهم من كان معروفاً بميله إلى الأدب وحبه للعلم مثل المهدي والرشيد، والأمين والمأمون، والمعتصم والمتوكل. كذلك سار أمراء بني العباس وولاتهم ووزراؤهم على غرار خلفائهم، فكان لكل منهم بلاط يقارب بلاط الخليفة أو يضارعه، من مثل ما كان لآل برمك، وطاهر بن الحسين، وعبد الله بن طاهر، ثم الصاحب بن عبّاد وابن العميد وعضد الدولة والمهلبي و
سيف الدولة الحمداني.
ويعد العصر العباسي أزهى العصور العربية حضارة ورقياً، كما أنه أطولها زمناً، إذ امتد حتى سنة 656هـ/1258م، حين تمكن هولاكو المغولي بجحافله اللجبة من اجتياح بلاد العراق والشام والقضاء على الدولة العباسية في بغداد التي دامت ما يزيد على خمسة قرون.
وبوسع الباحث أن يتبين عهدين كبيرين في هذه الحقبة العباسية المديدة: عهد قوة ومنعة عاش فيه الخليفة عزيز السلطان مهيب الجانب، ويعرف بالعهد الذهبي الذي يصادف القرن الثاني وبعض القرن الثالث الهجري (القرنين الثامن والتاسع للميلاد)، وعهد انحلال سياسي، تخاذل فيه الخلفاء وضعفت في أيامهم هيبة الحكم. فما أطل القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، حتى غدت بلاد فارس في حوزة بني بويه، والموصل وديار بكر وديار ربيعة ومضر في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في قبضة محمد بن طغج ثم الفاطميين.
على أن التفكك السياسي لم يصحبه بالضرورة تقهقر حضاري ولا تخلف علمي، بل إن الفكر العربي الإسلامي، بما أوتي من قوة دافعة أكسبته إياها القرون الأولى الوطيدة، استطاع أن يمضي في طريق النضج والازدهار ويغمر الأرض بنور المعرفة وألق الإبداع. فقد تعددت مراكز الإشعاع الحضاري، إضافة إلى مدن العراق، فكانت مكة والمدينة في الحجاز، و
الفسطاط والقاهرة في مصر، وحلب ودمشق في الشام، والري وهمذان في فارس ثم بخارى وسمرقند في ما وراء النهر،وغزنة في أفغانستان وجرجان في خرسان.
وكان طبيعياً في غمار هذا الوضع السياسي والاجتماعي أن ينطوي ذلك المجتمع الجديد على تمازج في العادات والثقافات، وأن يفرز هذا العصر أصنافاً من العلوم وألواناً من الآداب، وأن يعكس ذلك على كل صعيد في الحياة العامة وفي جملتها الحياة الأدبية.
الشعر
شهدت بواكير العصر العباسي نبوغ عدد وفير من الشعراء المبدعين الذين اتسمت أشعارهم بملامح الجدة وانطوت على رواء الحداثة، وبدا جلياً أن الغلبة لم تعد لمنازع القديم ونماذجه الموروثة، وهكذا أخذت الأنظار تتجه إلى بشار بن برد [ر] وأبي نواس [ر] وأبي العتاهية [ر] ومسلم بن الوليد [ر ] والحسين ابن الضحاك [ر] وعلي بن الجهم [ر] وأمثالهم ممن فاضت قرائحهم بشعر جديد بات مهوى أفئدة الجيل. وقد تجلى هذا الانعطاف على لسان أبي عمرو بن العلاء (ت154هـ/770م) وطبقته المحافظة من الرواة واللغويين الذين كانوا قيمين على حركة النقد والتأليف حين قال: «قد حسن هذا الشعر وكثر، حتى لقد هممت بروايته».
ثم توالى ظهور الشعراء النوابغ في العصر العباسي المديد، ومنهم أبو تمام [ر] والبحتري [ر] وابن الرومي [ر] وابن المعتز [ر] ودعبل [ر].. ومن بعدهم أبو الطيب المتنبي [ر] وأبو فراس الحمداني [ر] و
الشريف الرضي [ر] وأبو العلاء المعري [ر]، وسواهم، وكان أن اتسع مجال القول، وارتقت أساليب التعبير وعرف الشعر العربي أزهى عهوده.
أغراض الشعر: حرص شعراء العصر العباسي ونقاده بوجه عام على أن يدور شعرهم في فلك الأغراض الموروثة، وأن تنتسج أغراضه على منوال الفحول المتقدمين. فحافظ المديح على منزلته السالفة تبعاً لارتباطه الوثيق ببلاط الخلفاء والملوك، ومجالس الأمراء والولاة، ولكونه السبيل الأول للحظوة عند أولي الأمر، والطريق الأقصر لبلوغ الشهرة المنشودة.
المديح: وكما اقترن شعر المديح بالموقف السياسي في العصر الأموي، حين كان للخليفة شعراؤه الذين يمدحونه وينالون عطاياه، بقي الحال على هذا الغرار في ظل الحكم العباسي، فاصطنع خلفاؤه شعراء موالين لهم لزموهم في حلهم وترحالهم، وخصوهم بمدائحهم وذادوا عن حقهم في حكم المسلمين. وقد ظهر في عهد الخلفاء الأوائل عدد وفير من هؤلاء الشعراء مثل بشار وأبي العتاهية والسيد الحميري وأبي نواس والفضل الرقاشي وسلم الخاسر وأبي دلامة ومروان بن أبي حفصة ومطيع بن إياس وأشجع السلمي ومنصور النمري. وقد فاق الخليفة المهدي سلفيه في تقريب الشعراء وإكرامهم، فأكثروا فيه القول وغالوا في الثناء.
ومضى الخليفة هارون الرشيد بعد ذلك إلى مدى أبعد في رعاية الشعر وتقريب الشعراء طوال حكم قوي زاهر دام اثنتين وعشرين سنة. ويقول الرواة إنه لم يجتمع بباب أحد ما اجتمع ببابه من الشعراء، ومن مداحه ابن مناذر وأبو الشيص ومروان بن أبي حفصة والعماني ومسلم ابن الوليد وربيعة الرقي.. فضلاً عن أبي العتاهية وأبي نواس وسلم الخاسر، وأصبح لإطراء الممدوح حيز أكبر لدى شعراء هذا العصر.
وقد غاص عدد من الشعراء عهدئذ في حمأة السياسة وخاضوا بشعرهم معركة ولاية العهد بني الأمين والمأمون، فانتصر بعضهم لهذا وبعضهم لذاك في قصائد تداخلت فيها المعاني المدحية والآراء السياسية.
كذلك ظل الشاعر في العصر العباسي حريصاً على رسم الخصال الرفيعة والقيم المثلى في شخصية الممدوح، إذ ما زالت سجايا الكرم والشجاعة، والحلم والحزم، والنجدة والمروءة، والعفة والشهامة، موضع إجلال المجتمع العربي الإسلامي. ومضى الشعراء يبدون أضرب البراعة والفن ضمن هذا الإطار الرحيب من الصفات الأصيلة المثلى. وكان ما قام به خلفاء بني العباس وقادتهم وولاتهم من جلائل الأعمال، وتصديهم لخصوم الدولة المتمردين عليها في الداخل، ولأعدائها المتربصين بها في الخارج، خير ما أثار قرائح الشعراء وأذكى مدائحهم بعناصر البطولة والبأس. وقد تجلى ذلك لدى الشاعر أبي تمام (ت231هـ/846م) الذي ارتفع ببعض قصائده إلى مستوى يقارب الملاحم، وآخى فيها بين شعر المديح وشعر الحرب، مقدماً بذلك للأدب العربي نموذجاً جديداً متطوراً من الشعر الحماسي الأصيل.
وعلى هذا الغرار مضى أبو الطيب المتنبي (ت354هـ/965م) بعد قرون من الزمان، مشيداً بانتصارات سيف الدولة الحاسمة ومعاركه المظفرة في قتال دولة الروم المتاخمة.
غير أن موضوع المديح لم يبرأ من بعض العيوب التي شابتها في هذا العصر، وفي مقدمتها المبالغة والتهويل، فلم يعد ما قاله الأوائل مثلاً في صدد شعر زهير بن أبي سلمى من أنه «لم يكن يمدح الرجل إلا بما فيه» منحى مطلقاً، بل أسرف الشعراء على أنفسهم في ذلك، وغالوا أحياناً في إسباغ الصفات الخارقة على ممدوحيهم.
ومن هذا القبيل قول أبي نواس في الخليفة الأمين:
وأخفـت أهــل الشــرك حتى إنــه

لتخافــك النطـف التي لــم تخلق
الهجاء: أما الهجاء، وهو الغرض الذي يقابل عادة غرض المديح، فقد انعطف في مساره عما كان عليه في العصر الأموي، فخفتت فيه نزعة تحقير الخصم بسبب وضاعة أصله ونسبه، أو خمول مكانة أبيه وجده، أو ضآلة شأن عشيرته وقبيلته. إذ لم تعد للأنساب تلك الأهمية البالغة التي كانت لها في سالف العهد، بعد همود حدة العصبيات القبلية وانصهار أكثر القبائل في بوتقة المجتمع المتحضر الحديث. فتركز الهجاء أو كاد، في إبراز المعايب الشخصية اللاصقة بذات المهجو وما تنطوي عليه نفسه من مثالب. وهذا المنحى أدخل في رحاب التصوير والفن، وأبعد عن مجال القذف والشتم.
وكثيراً ما كانت المهاجاة تستعر بين الشعراء أنفسهم فيكثر في قصائدهم ذكر المثالب والمعايب، وقد يتجاوزون الحدود إلى التحقير والتسفيه. وقد عرف بذلك بشار بن برد وأبو نواس وأبو عيينة المهلبي وابن الرومي ودعبل الخزاعي وعبد الصمد بن المعذل، حتى إن الأمر بلغ ببعضهم حد التعرض للخلفاء أنفسهم، شأن الشاعر الهجاء دعبل (ت246هـ/860م) الذي لم يتورع عن هجاء الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق. وقد قرن الخليفتين الأخيرين معاً في قوله:
خليفة مــات لــم يحزن له أحــد

وآخر قام لم يفرح به أحـــد
كذلك تنوعت أنماط الهجاء تبعاً لتعدد أوجه الحياة في هذا المجتمع العباسي المتحضر. فابن الرومي (ت283هـ/896م) الذي عاش في عصر اكتظ بالجواري والقيان مثل جلنار وبستاق وبدعة وشاجي ودريرة وغناء وظلوم ووحيد وغيرهن من مطربات مجالس الولاة والوزراء، تعرض في شعره لهؤلاء وغيرهن كما تعرض معاصره البحتري وسواه، وكان طبيعياً أن يقرظ بعضهن إعجاباً بأصواتهن وأن يهجو أخريات لم يجد في غنائهن ما يروقه.
الرثاء: أما غرض الرثاء فمن الطبيعي أن تظل له منزلته السامية في النفوس لانبثاقه من عاطفة الحزن الواري في كل زمان ومكان. غير أن فن الرثاء ارتقى في هذا العصر، واكتسب غنى وعمقاً، بفضل شعراء كبار أبدعوا فيه وفي سائر أغراض الشعر، وفي طليعة شعراء الرثاء أبو تمام الذي قيل عنه «مداحة نواحة»، ومن بعده ابن الرومي الذي عرف برثاء أولاده.
كذلك افتن الشعراء في هذا الغرض تبعاً لتشابك العلاقات الاجتماعية في ذلك العصر، وتوطد صلاتهم مع أولي الأمر. إذ لم يمت خليفة ولا وزير، ولا قائد ولا عظيم، إلا رثوه رثاء حاراً وأبَّنوه تأبيناً رائعاً، مبرزين في قصائدهم كل ما كان يتحلى به الفقيد في حياته من مناقب وما كان له من فضل.
وكم ألمت بهذا العصر العباسي المديد أحداث جائحة وفتن طاغية وجدت لها في النفوس صدى أليماً وتجلت على ألسنة الشعراء مراثي دامعة. وحدث أن اجتاح الزنج البصرة في فتنة هوجاء حين زحفوا إليها من ظاهر المدينة، فاستباحوها وأعملوا فيها يد التخريب والتنكيل. وراع هذا النبأ الفاجع ابن الرومي فقال في رثاء المدينة المنكوبة قصيدة تعد من أروع الشعر مطلعها:
ذاد عــن مقلتي لذيــذ المنـــام

شـــغلها عنه بالدموع الســـجام
ولم يكن هذا النمط من رثاء المدن معهوداً في الشعر العربي،ولكن أحوال ذلك العصر المتفجر اقتضت مواكبة الشعر لها. ولعل هذه القصيدة باكورة رثاء الممالك الذي أخذ في الظهور فيما بعد ولاسيما إثر سقوط بغداد بيد التتار القساة، وإثر تساقط دويلات المسلمين في
الأندلس بيد الفرنجة.
وقد تستدعي حقيقة الموت من الشاعر أن يتأمل في طبيعة الحياة وحال الدنيا،فيكون له من ذلك نظرات وآراء،ولاسيما بعد أن تشبع الشعراء بأفكار ثقافات أغنت معارفهم وعقولهم، ومن هذا القبيل كثير من شعر أبي العتاهية في الوجود والعدم، والحياة والموت، والبقاء والفناء.
ولأبي العلاء المعري (ت449هـ/1058م) فلسفة أعمق في هذا الصدد تبعاً لغنى فكره ونفاذ بصيرته، حين عمد إلى رثاء صديقه الأثير أبي حمزة الفقيه في قصيدته المشهورة التي مطلعها:
غير مجــد فـي ملتي واعتقـادي

نـــوح بــاك ولا ترنـــم شـــــاد
فقد استطاع أبو العلاء أن يحلق في أجواء علوية سامية وينظر من خلالها إلى الكون والحياة نظرة كلية شاملة وبذلك ارتفع في رثائه من نطاق الحادثة الفردية المحدودة إلى رحاب الإنسانية الشاملة.
كل ذلك يعني أن هذه المراثي تغاير في كثير من ملامحها معهود شعر الرثاء الذي يغلب عليه النواح وتبلل قوافيه الدموع.
الغزل: وقد اكتسب الغزل في العصر العباسي غنى ومضاء لارتباطه بعاطفة الحب الغلابة في النفس الإنسانية. وأقبل الشعراء إقبالاً كبيراً علىالنظم فيه، فكثر كثرة بالغة وازدهر ازدهاراً واسعاً. غير أن الاتجاهين اللذين غلبا في العصر الأموي وهما الغزل العفيف والغزل الصريح لم يسيرا في العصر العباسي على ذلك النحو المتوازن. فقد أخذ الغزل العفيف في التضاؤل، في عصر تكاثرت فيه النحل والآراء، واحتدمت المنازع والأهواء، وقلما عرف المجتمع العباسي طائفة من شعراء الحب النقي الطاهر كالذين عرفتهم من قبل بوادي الجزيرة وربوع الحجاز، مثل قيس بن ذريح وجميل بن معمر وعروة بن أذينة. ولعل العباس بن الأحنف وقلة من أمثاله الشعراء الذين تعذبوا في عشقهم يمثلون بقية ذلك المنحى، وإن لم يبلغوا فيه شأو العذريين قبلهم. فالعباس بن الأحنف (ت192هـ/808م) قصر شعره، أو كاد، على التغني بعاطفته ومشاعره.
ولعلي بن الجهم غزل كثير أجاد فيه تصوير لواعج حبه. وقد برع في مقدماته الغزلية الرقيقة ولاسيما ما كان يستهل به مدائحه للخلفاء. ومن ذائع غزله في صدد مديحه للمتوكل:
عيون المها بين الرصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
واشتهر البحتري بالغزل، لما اتسمت به ألفاظه من سهولة ورقة وعباراته من عذوبة وسلاسة، وقد أحب علوة الحلبية، وقال فيها جل غزله.
وغزل
الشريف الرضي (ت406هـ/1016م) على تأخر عهده من أبرز الشواهد على نبل الشعور وعفة اللسان، فضلاً عن سمو مكانة ورفعة نسب، وقصائده الجميلة التي اشتهرت بالحجازيات نفثات شجية أثارت كوامن نفسه المضطربة.
أغراض أخرى: ولعل أبرز انعطاف طرأ على الشعر العربي في العصر العباسي هو انبثاق غرضين آخرين أضيفا إلى سائر الأغراض المعهودة في الشعر العربي، وهما غرض المجون والزندقة، وغرض الزهد والتصوّف.ومع أن لهذين الغرضين جذوراً في الشعر العربي القديم، إلا أنهما بلغا في هذا العصر المدى من التطرف. لقد انطوى المجتمع الإسلامي في العصر العباسي على كثير من التعقيد، وعرض له كثير من الاختلال. وكان ذلك كله بسبب التبدل الشديد الذي أصاب الحياة الاجتماعية والفكرية والدينية. إذ التفت الناس إلى حياة الدعة واللهو نتيجة انقضاء مرحلة الجهاد والفتح، فازدهرت التجارة وحركة القوافل، وتكاثر المتمولون وتركزت الثروة في جيوب فئة من الأغنياء. ونشطت تبعاً لذلك حركة المتاجرة بالرقيق، وانتشرت أسواق النخاسة، وشاع اقتناء الجواري والغلمان، بعد أن انصبت عناصر أعجمية كثيرة على الحياة العربية من فرس وروم وترك، حاملة معها نزعاتها ونزواتها، وعاداتها وأهواءها، فكثرت عناصر الموالي، وتزعزعت القيم،وضعفت الأعراف والتقاليد. وهكذا برزت
الزندقة لتغدو مظهراً من مظاهر المروق من الدين وفساد العقيدة، كما برز المجون مظهراً آخر من مظاهر التحلل في الأخلاق والسلوك، والاستهتار بالقيم والأعراف. وقد تطرّف الشعراء في ذلك،من أمثال بشار وأبي نواس ومطيع بن إياس، حين أطلقوا لأنفسهم عنان القول، وخرجوا عن نطاق الحشمة والوقار. ولم يفتقد الأدب ذلك الحب العذري أو العفيف، وما اتسمت به من ملامح الطهر والنقاء، بل ابتلي بنمط شاذ مستحدث من الشعر الهابط في مضمونه لم يعهده العرب من قبل، وهو التغزل بالمذكر. كما لم يعد الكثيرون يجدون حرجاً في شرب الخمرة وارتكاب المعاصي متحللين من كل خلق ودين.
وثمة نزوات كثيرة اشتهر بها أبو نواس وتجلت في أقواله وأفعاله، إنه يخاطب ساقية في الحانة بكلمات طافحة بالاستهتار والتحدي:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر

ولا تســقني سراً إذا أمــكن الجهر
حتى إن بعضهم جهر ب
الزندقة ومنهم بشار ابن برد وحماد عجرد والحسين بن الضحاك وصالح بن عبد القدوس وسواهم، وقد عرف أكثرهم بالمجون والتهتك. والملاحظ أن هذه النزعات المتطرفة قد برزت في مدن العراق كالبصرة والكوفة وبغداد نتيجة انصباب فئات كبيرة من الأعاجم على سكان تلك الحواضر، حاملة معها نحلها الغريبة، من بوذية وزرادشتية ومانوية وغير ذلك.
وطبيعي داخل ذلك المجتمع الحافل الذي كان يضطرب بتيارات شتى أن تتعدد النزعات، وتتعارض الاتجاهات. ولم يكن بوسع مجتمع عميق الجذور ورث القيم العربية وتشبع بالروح الإسلامية أن يتقبل الزيغ والانحراف، ويرتضي الطيش والمروق. لقد هال الأتقياء وذوي الغيرة على الدين والأخلاق ما تعرض له ذلك الجيل من غزو لأفكاره ومعتقداته، وفساد في قيمه وسجاياه. ورأوا أن خير سبيل إلى النجاة من تلك الشرور العودة إلى جوهر الدين والتمسك بحبل الله. وهكذا اشتد تيار الزهد والتقشف في مقابل نزوع الآخرين إلى المجون والتحلل. وقد غلا بعض هؤلاء في التضييق على أنفسهم غلو أولئك في تحللهم واستهتارهم. فدأبوا على الوعظ والتعبد، وحضوا على حياة النسك ونبذ حطام الدنيا.
ويعد الشاعر أبو العتاهية الذي عاش في صدر العصر العباسي ممثل تيار الزهد في الشعر العربي، حين أكثر من نظم قصائده الزهديات وبرع فيها، حتى إنه جعل من ذلك الشعر غرضاً جديداً انضم إلى سائر الأغراض المعهودة.
وقد نظم في غرض الزهد شعراء كثيرون، منهم سفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك ومحمود الوراق ومالك بن دينار، إضافة إلى أبي نواس في أواخر حياته.
ثم أخذ تيار الزهد يخرج عن بساطته ويزداد اتساعاً وتعقيداً، فلم يعد أعلامه يكتفون بالوعظ والتذكير بالموت، والإكثار من ذكر القيامة والنار، بل راحوا يرتكزون إلى أصول فكرية وفلسفية، انبثق منها في نهاية الأمر مذهب التصوف. وقد تجلى مفهوم الحب الإلهي في عصر مبكر لدى
رابعة العدوية (ت135هـ أو 185هـ) الزاهدة العابدة، التي يقال إنها استعملت لأول مرة لفظة الحب للتعبير عن إقبالها على الله، وإعراضها عن كل ما سواه.
وهذا الحب الإلهي هو المحور الذي دار حوله اهتمام المتصوفة لأنه الحب الأمثل الذي يفنون فيه فناء يحقق لهم السعادة والاطمئنان.
ثم أخذ الفكر الصوفي ينطوي على كثير من التعقيد بفعل مؤثرات دخيلة على
الإسلام من بوذية وإغريقية ومسيحية. وكان أن ظهر في السنين العباسية المتأخرة عدد من الشعراء الأعلام في التصوف مثل الحسين بن منصور الحلاج (ت309هـ/921م) الذي تم فيه تنفيذ حكم القتل، وكان يعتقد باتحاد الناسوت، أي الروح الإنساني، باللاهوت، أي الروح الإلهي. كما ظهر في أواخر العصر العباسي عدد من كبار المتصوفة الذين نظموا أشعاراً كثيرة عرضوا فيها مذهبهم بأسلوب رامز يعتمد تعابير العشاق وألفاظ المحبين، مثل ابن الفارض (ت632هـ/1234م) الذي يقول في إحدى قصائد ديوانه الصغير الشهير متغنياً فيها بخمرة الوحدة الإلهية:
شــربنا على ذكر الحبيب مدامــة

سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
وقد أفاض في عرض مذهبه في المجاهدة ونظرته في وحدة الوجود ضمن مطولة شعرية بلغت سبعمئة وستين بيتاً، وتعرف بنظم السلوك.
خصائص الشعر: اتسع مجال القول على صعيد الشعر والنثر في أدب العصر العباسي، تبعاً لاتساع مناحي الحياة وتشعبها في هذا الطور المتألق من حضارة
العرب. فتكاثرت الموضوعات التي تناولها الشعراء فضلاً عن الأغراض الشعرية التي نظموا فيها. من ذلك توسعهم في وصف مشاهد الطبيعة المختلفة، مثل وصف الربيع لأبي تمام وللبحتري وكذلك ما وصف به أبو الطيب المتنبي شعب بوان في بلاد الفرس.
وأوغل شعراء هذا العصر في وصف الأيك والحمائم، والرياض والحياض، والأزهار والثمار،حتى حفلت دواوين البحتري وابن الرومي وأبي بكر الصنوبري وأمثالهم بهذه الأوصاف الجميلة التي انطوت على التشبيهات الطريفة والألوان البهيجة.
وقد عني أبو بكر الصنوبري (ت334هـ/945م) بوصف الحدائق والبساتين، والورود والرياحين، حتى اشتهر بأشعاره (الروضيات)، وهو يشير إلى هذا المنحى الأثير لديه في قوله:
وصف الرياض كفاني أن أقيم على

وصف الطلول، فهل في ذاك من باس
وكان لوصف المدن والمنشآت العمرانية حيز آخر في قصائد الشعراء الذين عاش معظمهم في الحواضر، وعرفوا حياة البلاط ومجالس الأمراء، فوصفوا القصور والرياض وكثيراً من مظاهر الحضارة الجديدة ومناحي الحياة المستحدثة. فوصف البحتري قصر الجعفري الممرد، كما وصف بركة المتوكل التي كانت آية في الحسن بفضل إبداع هندستها.
وفي الوقت نفسه التفت شعراء العصر العباسي في أحوال قليلة إلى شؤون تتصل بحياة عامة الناس بعيداً عن بلاط الخلفاء وقصور الأمراء.
ومن الموضوعات الجديدة على هذا الصعيد الشعبي وصف ابن الرومي لبسطاء الناس وكادحيهم، وما كان يمتاز به بعضهم من براعة في مهنتهم، كوصفه للخباز وللحمال وقالي الزلابية.. في مقطعات شعرية حافلة بالصور الطريفة.
ولعل في طليعة ما طرأ على معاني الشعر العباسي من تطور، على صعيد آخر، أنها جنحت للرقة والعذوبة، بفضل غلبة الحضارة وانصقال الأذواق، كما اتسمت في جانب منها بالابتكار والعمق، تبعاً لنضج العقل العربي وتوسع آفاقه. كذلك امتازت معاني الشعر بالجدة والطرافة بعد أن قيض لها شعراء أفذاذ عرفوا بقوة فنهم وشدة براعتهم وسعة ثقافتهم. وكان لشعر الغزل وشعر الوصف نصيب واف من ملامح الحداثة التي أغنت الشعر العربي وزادته رونقاً وبهاء.
وتجلى الإبداع الشعري في هذا العصر من خلال اختراع المعاني وابتكار الصور ونفاذ الرؤية.
وغلب على جانب من الشعر فكر الفلاسفة وعلماء الكلام، واقتحمته ألفاظهم واصطلاحاتهم، كالجوهر والعرض والشك واليقين، مثل شعر أبي العتاهية الذي ينم على آثار المانوية الفارسية وعقيدتها الثنائية:
لكــــل إنســـــان طبيعتـــان

خير وشـر وهمــا ضــدان
وكل شيء لاحق بجوهره

أصــغره متصــل بــأكبــره
أو مثل شعر بشار الذي تظهر فيه أصداء مذاهب العصر وأفكاره مثل قضية الجبر والاختيار:
طبعــت علــى ما فيَّ غيـــر مخير

هواي ولو خيرت كنت المهذَّبا
أريد فلا أعطى، وأعطى ولم أرد

وقصــر علمـي أن أنال المغيبا
على أن هذا المنحى في التحديث لم يرق المحافظين الذين تمسكوا بعمود الشعر التقليدي، ونهج القصيدة الموروث، إذ الشعر في رأيهم لا يحتمل وطأة الحقائق الذهنية المجردة،والاصطلاحات الفلسفية المعقدة، والمنطق الذهني الصارم. ورأى البحتري في مثل ذلك بدعة في الأدب لم يعرفها فحول المتقدمين،ولم يجنح إليها امرؤ القيس إمام الشعراء:
كلفتمـــونا حـــــدود منطقكــم

والشعر يغني عن صدقه كذبه
أما المبنى الشعري فقد تعرض لتغير ملموس في بعض نماذجه، سواء على صعيد الأوزان أو صعيد الأسلوب. فقد مالت القصائد إلى القصر وسارت المقطعات على الألسنة ولاسيما في مجال الغزل والهجاء والزهد والحكم... كذلك آثر الشعراء البحور القصيرة مثل بحر الهزج والمجتث والمقتضب، كما جنحوا للأوزان المجزوءة في بحور الوافر والكامل والبسيط والخفيف.
كذلك جددوا في القوافي تخفيفاً من وطأة القافية الواحدة الغالبة، فأحدثوا نوعاً من النظم سموه «المزدوج»، وهو في الغالب من بحر الرجز يختص فيه كل شطرين في البيت بقافية واحدة، وتليها قافية مغايرة في البيت التالي وهكذا. وقد استعاره الفرس وسموه «المثنوي». وشاع المزدوج لدى أبي العتاهية الذي نظم مطولة بالغة الطول عرفت بذات الأمثال، وقد ضاع معظمها.
وقد ساغ هذا النمط العروضي الميسر للنحاة والفقهاء وسائر العلماء، فأكثروا فيه المنظومات التعليمية، كما آثره
أبان اللاحقي فيما نظمه من أقاصيص كليلة ودمنة، وسواه ممن نظموا في شؤون العلم والدين والتاريخ. ولا ريب في أن شيوع الغناء والرغبة في تلحين الأشعار في المحافل والأسمار من أهم ما أسهم في رواج هذه الأنماط الجديدة التي تعد من خفائف النظم.
واستتبع هذا المنحى إيثار الألفاظ السهلة المأنوسة، حتى كادت تنحصر الغرابة اللفظية لدى فئة الرجاز البداة أول الأمر ثم آل أمرهم إلى الانزواء.
ومن جهة أخرى على هذا الصعيد الأسلوبي غلبت الصنعة على مبنى الشعر، وأوغلت فيه أضرب التزويق والتزيين، فكثرت فيه الزخارف اللفظية والمحسنات البديعية، ويعد أبو تمام وابن المعتز في طليعة أصحاب هذا المذهب الفني، إذ جدا في طلبه وأكثرا منه حتى عرفا به.
وازداد الشعراء إيغالاً في الصنعة مع مضي الزمن، وغدا الشعر لديهم معرضاً للتزيين والتلوين كقول الوأواء الدمشقي (385هـ/994م):
فأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقيت

ورداً، وعضت على العُنّاب بالبرد
كذلك اكتسب الخيال غنى ومضاء، فغدت الصور الشعرية متسمة بالتلوين والتعقيد، وخرج التشبيه عن بساطته المعهودة وأطرافه الواضحة المحددة.
فحين يود أبو تمام وصف الطبيعة يستخدم نوافر الأضداد، وعندما يتعاورها الصحو والمطر يكون لذلك في مرأى الشاعر منظر معجب:
مطر يــذوب الصحــو منه وبعده

صحو يكاد من النضارة يمطر
وبالإجمال اكتسب الشعر العباسي تبعاً لمواكبته هذا العصر الحضاري كثيراً من ملامح الجدة والطرافة. حتى ليمكن القول إنه بفضل ما انطوى عليه من جمال التعبير، وطرافة التصوير، وسمو الخيال، وجدة المعنى، وسعة الثقافة وغنى الفكر...، غدا فناً مزدهراً وعاش عصره الذهبي.
ملامح البيئة: من الطبيعي أن تكون شخصية الأديب جماع عوامل ومؤثرات تسهم في تكوينه وتتجلى في نتاجه، في طليعتها جملة معارفه وموروثه الأدبي ومعطيات بيئته وعصره. إن انتشار
العرب في الأمصار من بلاد خراسان والسند إلى أقصى المغرب والأندلس، نتيجة للفتوح الإسلامية، أدى إلى ظهور بعض الملامح القطرية في الشعر العربي، كما أن اختلاف البيئات المحلية أدى إلى خلق بعض الألوان والطعوم المتمايزة لدى بعض الشعراء. غير أن هذه الملامح لم تبلغ المدى الذي يفضي إلى إبداع أدب إقليمي. فقد ظلت عناصر التوحيد أقوى من عناصر التباين، وذلك لأسباب كثيرة، لعل أهمها طبيعة العرب المحافظة التي تتجلى في نزعتها السلفية وحرصها على سماتها القبلية وموروثها الشعري، ومنها سلطان اللغة العربية الذي ينطوي على معطيات ركينة من التفكير وأنماط خاصة من مناحي التصوير وأساليب التعبير، فضلاً عن الافتتان بالقرآن الكريم وهالته المقدسة في نفوس العرب على اختلاف جموعهم وتباعد بلدانهم، ثم ما يتصل بذلك من تعلق روحي بالحجاز، معقل الفصحى ومهبط الوحي وموئل الرسول. وهذا ما يفسر تحدث الشاعر العربي وهو في أقصى الأندلس عن الجمل والسراب وذكره البان والعلم.. وكثير من شعراء العصر العباسي كانت حياتهم قسمة بين دمشق وبغداد وحلب، أو بين الشام والعراق ومصر، أو بين أقطار المشرق وبلاد المغرب. وإن من أرّخوا للأدب العربي على أساس من التقسيم الإقليمي، وأسبقهم أبو منصور الثعالبي في كتابه المشهور «يتيمة الدهر»، ثم العماد الأصفهاني الذي مضى على غراره في كتابه «خريدة القصر» لم يلزموا أنفسهم بهذا الفصل الجغرافي بين هذه البلدان والأقاليم، فبدت لدى شعرائهم ملامح التشابه أوضح من ملامح التباين، وأكثر ما وصفت به أقاليم العرب لا يتعدى الافتتان بمواطن الحسن والجمال في كل منها ونحو ذلك مما يكاد يكون قاسماً مشتركاً بين كثير من البلدان.
كما آثر الأندلسيون بلادهم الجميلة بحبهم ومحضوها إعجابهم، بل إن بعضهم كابن خفاجة وجد في ربوعها جنة أخرى:
يــا أهــل أنـدلس لله دركـــم

ماء وظل وأنهار وأشــجار
ما جنة الخلد إلا في دياركم

ولو تخيرت هذه كنت أختار
من هذا القبيل شعر يبرز جمال ضفاف بردى ودجلة والنيل، ومفاتن غوطة دمشق وشعب بوان، ومحاسن
قرطبة والزهراء... إذ قلّما يتعدى الأمر هذه الرؤى الجمالية لتلك الأقاليم. وذلك يفضي إلى القول إنه قلما يلمس لدى شعراء العصر العباسي - على اختلاف أقاليمهم وتباعدها - سمات فنية تلفهم وتميزهم على صعيد الصنعة والمعاني والصور وسائر العناصر الأسلوبية، إلا ما كان لديهم من مقومات شخصية ومعطيات ذاتية، أو من ملامح حضرية أو بدوية. وهكذا كان أبو تمام، الشامي المنبت، هو رائد الصنعة البديعية في الشعر العربي، ويشاركه في هذه الريادة أيضاً ابن المعتز العراقي أحد رؤوس مذهب البديع. كما أن البحتري صوّر الطبيعة في المشرق أو صنوه الصنوبري يقابله ابن خفاجة في الأندلس، ومثل هذا التشارك تجده أيضاً على صعيد سائر أغراض الشعر من مديح وغزل ورثاء، وعلى صعيد الأساليب وسائر الظواهر الفنية لدى شعراء كل إقليم من الأقاليم العربية.
أعلام الشعر: حفل العصر العباسي بعدد وفر من الشعراء الأعلام لم يحظ بمثلهم أي عصر آخر ومنهم:
بشار بن برد، وأبو نواس، وأبو العتاهية، ومسلم بن الوليد، وأبو تمام، ودعبل الخزاعي، والبحتري، وابن الرومي، وابن المعتز، وأبو فراس الحمداني، والمتنبي، والشريف الرضي، وأبو العلاء المعري، وابن الفارض.
النثر
ضروب النثر:
الخطابة: نشطت الخطابة السياسية في مطلع هذا العصر، إذ اتخذتها الثورة العباسية أداتها في بيان حق بني العباس في
الخلافة. وكان من خطباء هذا العصر خلفاؤه الأوائل مثل أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور والمهدي والرشيد، وآل بيتهم ومنهم داوود بن علي وأخوته عبد الله وسليمان وصالح وأبناؤهم. وقد وصفهم الجاحظ بأنهم «لم يكن لهم نظراء في أصالة الرأي وفي الكمال والجلالة... مع البيان العجيب والغور البعيد. وكانوا فوق الخطباء وفوق أصحاب الأخبار».
وخطبهم، لا تكاد تختلف من حيث شكلها ومضمونها عن الخطابة في صدر
الإسلام والعصر الأموي، إذ غدا من مقتضيات الحياة السياسية العربية أن يشهر اللسان في مثل هذه الأحوال إلى جانب السلاح.
ولما تم الأمر لبني العباس وقضوا على أعدائهم الأمويين، ثم على شركائهم الشيعة، خفتت حدة القول، ولم يعد ثمة ما يحفز الخطباء على التصدي للناس، واصطناع الترهيب والترغيب.
كذلك ضؤلت الخطابة في الجيوش بعد أن انقضى عهد الفتوح. وصار الكثير من الجنود من الجيش الإسلامي نفسه من الأعاجم، فرساً أو تركاً، لا يفقهون العربية ولا يتأثرون ببلاغتها. ولم يعد للخطابة في النفوس بوجه عام ما كان لها من منزلة في عصر الراشدين والأمويين، حين كانت الفن العربي الأصيل الذي كان قوامه البديهية والارتجال. وهكذا انحسرت الخطابة في ضحى العصر العباسي، وكاد شأنها يقتصر على فئة الوعاظ وأئمة المساجد، ولم تعد تتجاوز في غالب الأحوال نمط الخطابة الدينية.
الكتابة: وكان من الطبيعي تبعاً لذلك، ولاسيما في هذا الطور المتحضر، أن تحل الكتابة، مع توالي الأيام محل الخطابة، وأن يقوم كتاب
الدواوين ومدبجو الرسائل بتحبير القراطيس وإعداد التقارير. ثم تشعبت أشكال التعبير، لتغدو أقدر على استيعاب مناحي الفكر المتعددة ومنازع الحياة المتجددة.
كانت الترجمة إحدى ضرورات الحركة العلمية التي نشطت بفضل فئة نابهة من الأعاجم يتألف معظمها من السريان والفرس. وبذلك انصبت في بحيرة الثقافة العربية جداول شتى، مختلفة المذاق من تلك الثقافات الوافدة. وعادت حركة النقل بالخير على لغة
العرب الأصيلة وأدت إلى ازدهار أنماط من النثر، كالنثر الفني والأدبي،والنثر العلمي، والنثر الفلسفي. وغدت الكتابة وعاء لعلوم العصر الكثيرة ومعارفه الغزيرة، بعد أن دخل العرب عوالم التدوين والتأليف والترجمة من أوسع الأبواب. وليس الغرض هنا التوقف عند الكتابة الديوانية التي شاع أمرها في الأوساط الرسمية والإدارية، مما يتصل بشؤون البلاغات والبيانات، والمواثيق والصكوك، والتولية والغزل.
غير أن ما يعني الباحث منها هو نمط معين لعله أدخل في فن الأدب وهو المعروف بالتوقيعات، أي العبارات الوجيزة التي كان يعلق بها خلفاء بني العباس الأوائل على موضوع رفع إليهم، أو قضية في أيديهم، فيذيلون ذلك بقلمهم ويمهرونه بتوقيعهم. وكان طبيعياً في هذا الصدد أن تقصر الجملة وتختصر العبارة، تبعاً لضيق وقت الخليفة وغزارة المعروض عليه. من هذا القبيل ما وقع به الخليفة أبو جعفر لأهل الكوفة في ذيل رسالة تظلم تجاه واليهم: «كما تكونوا يولَّ عليكم». وما وقع به هارون الرشيد إلى عامله في
خراسان وقد شكا إليه سوء الأحوال: «داو جرحك لا يتسع»، وما وقع به المأمون لوال فاسد: «قد كثر شاكوك، وقل شاكروك. فإما اعتدلت، وإما اعتزلت...».
ومثل هذه العبارات المقتضبة أشبه ما تكون بجوامع الكلم التي امتاز بها فصحاء
العرب الأوائل الذين اتسموا بالحرص على الإيجاز، وهي على أية حال منسوجة على منوال أنقى عبارات البلغاء.
أما النثر الأدبي الحقيقي فلم يتوطد إلا بفضل الكاتب المنشئ عبد الله بن المقفع (ت142هـ/759م) بعد أن تسلم شعلة هذا الفن من صديقه الناثر الرائد عبد الحميد الكاتب، الذي لقي مصرعه في إثر الثورة العباسية، ولم يقيض له المضي إلى شوط أبعد في هذا المضمار. فقد تجلى فن النثر في أدب الرسائل أول الأمر في نهايات العصر الأموي وبدايات العصر العباسي، فكتب ابن المقفع رسائله على غرار رسائل عبد الحميد، وهي مقالات طوال تتناول موضوعاً معيناً، لعل أشهرها «رسالة الصحابة» أي في آداب الصحبة والمعاشرة والسلوك، ولاسيما مصاحبة السلطان والولاة، والحكام والقادة، والأعوان والبطانة. ثم ما للرعية والجند من حقوق يجب عطاؤها، وما عليهم من واجبات ينبغي أداؤها، فرسالة الصحابة، وهي بمنزلة خطاب مفتوح إلى الخليفة، ذات صبغة سياسية - إدارية، تهتم بشؤون الحكم وسياسة الدولة.
إن فن الرسالة لا يختلف في جوهره عن فن الخطابة إلا من حيث الحجم، فللخطبة حيز محدود من الزمان على حين قد تطول الرسالة لتقرأ بأناة وتمعن. فهما نمطان أو لونان من النثر الأدبي، فقد درج
العرب على أن يكتبوا الرسالة في المقصد الكبير، ويلقوا الخطبة في الحدث الجليل. ويمكن القول مع ذلك أن الكتابة انتسجت على منوال الخطابة، وإنه على طريق الخطباء مشى الكتاب، حتى غدت الكتابة آخر الأمر الوريث الشرعي للخطابة.
وما لبث ابن المقفع أن خطا خطوة أخرى في مضمار النثر الأدبي الوليد حين دبج كتابيه الصغيرين «الأدب الصغير»، و«الأدب الكبير»، وهما في واقع الأمر أشبه برسالتين مطولتين، أو هما بتعبير آخر بمنزلة جسر بين الرسالة المحدودة والكتاب النثري الشامل.
أما كتاب «كليلة ودمنة» الذي نقله ابن المقفع إلى العربية من لغة قومه البهلوية، فيعد لبنة أساسية وكبيرة في صرح النثر العربي الزاهر. وهو مثال بارز على ظاهرة تمازج الثقافات ولاسيما بين الآداب الهندية والفارسية والعربية. ومع أن الكتاب أعجمي الأصول وليس من إبداع
العرب في معظمه، فقد انتزع إعجاب الأدباء والنقاد، برغم انتمائه إلى وثنية الهنود ومانوية الفرس. فأقاصيص كليلة ودمنة تضع قارئها في جو محبب، تتعانق فيه الحقيقة والخيال، في تآلف معجب شائق،حافل بالطرافة والغرابة، حيث الحيوانات الناطقة تملأ ربوعه وجنباته، بالحركة والحياة. ومن خلال الحديث بين كليلة وأخيه دمنة ينعقد الحوار المعهود، وتتوالى الأقاصيص واحدة في إثر واحدة، آخذاً بعضها برقاب بعض: فالحيوانات هي وحدها الشخصيات التي تدور من حولها الأحداث، ولكن هذه الحيوانات في الوقت نفسه كائنات تمثل البشر، وهو نماذج من الناس تحس وتفكر، وتحب وتبغض، وتنجح وتخفق.. إنها في حقيقة الأمر رموز للناس في خيرهم وشرهم، وقوتهم وضعفهم، وفطنتهم وغبائهم، وسعادتهم وشقائهم.
وإزاء فيض العلوم وازدهار المعارف في ضحى العصر العباسي حفل المجتمع الإسلامي بأعداد وفيرة من العلماء والكتاب والقصاصين والوعاظ والمؤرخين والفقهاء وعلماء الكلام والفلسفة والمفسرين والمشرعين وأعلام الفكر وأنباه التأليف... واتسعت لذلك كله مناحي القول، ونشط الحوار، وحمي الجدال.
وكان الجاحظ (ت255هـ/868م) أبرز ممثل لهذا الخضم الزاخر على صعيد الفكر الأدبي، وفي مجال الترسل والتأليف. وكتابه «البيان والتبيين» مرآه جلية وأمينة للحياة الأدبية الحافلة عند العرب، بما انطوت عليه من روائع الشعر وبدائع النثر وطرائف الأخبار. وكتابه «البخلاء» صورة متألقة لنماذج بشرية انطوت نفوسها على سمات وملامح برع الجاحظ في سبر أغوارها ورسم معالمها، وتصوير منازعها. وكتابه «الحيوان» نمط طريف بين موضوعات لم تكن معهودة لدى المؤلفين، فعالم الحيوان عالم واسع فسيح الأرجاء اقتحمه الجاحظ مزوداً بثقافة موسوعية عريضة، ونظر فاحص ثاقب، وفكر نقدي ناضج.
وغدا طبيعياً في هذا العصر أن تكون الطوابع الذهنية غالبة في أكثر أنماط الكتابة ومضامينها، لأن النثر أصلاً وعاء العقل، والشعر ترجمان الشعور. فنشطت كتابات العلماء والفلاسفة والفقهاء وكذلك رؤوس الفرق من معتزلة ومرجئة وشيعة، وأيضاً المجوس والزنادقة والملاحدة. وفي غمار هذه الحياة الفكرية الموارة والبيئة الحضارية الحافلة، اشتد الحوار وحمي التناظر واحتدم الجدال، ولاسيما ما دار بصدد قضايا مهمة ك
الشعوبية والزندقة ومسائل خلق القرآن والجبر والاختيار... وقد اكتسب بعض هذه المناظرات شهرة واسعة وطابعاً حاسماً، كالذي احتدم في أواخر القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي بين الخوارزمي وبديع الزمان.
كذلك امتد هذا المنحى إلى الأدباء والنقاد فظهرت كتب جمة اتخذت من الموازنة بين الشعراء محوراً لها، ككتاب الحسن بن بشر الآمدي (ت371هـ/981م) في «الموازنة بين الطائيين»: أبي تمام والبحتري، وكتاب القاضي الجرجاني (ت392هـ/1001م) في «الوساطة بين المتنبي وخصومه».
واتخذت ظاهرة الموازنة بين أمرين أشكالاً كثيرة وتناولت موضوعات متنوعة،ومنها اهتمام المتكلمين بالموازنة بين مساوئ الديك ومحاسنه، وبين منافع الكلب ومضاره، أو المفاضلة بين الديك والطاووس. وفي خضم هذه الحياة الفكرية بدا أن الحقيقة غدت نسبية وأنه يمكن أن يكون لكل قضية وجهان، وفي كل مسألة قولان، وشاع لدى بعضهم أن يؤيد موضوعاً ويثبته، وأن يدحضه في الوقت نفسه وينقضه، وذلك فيما يشبه المنحى السفسطائي. من ذلك ما ترويه بعض كتب الأدب من أن الخليفة في مجلسه طلب مرة من أحدهم أن يصف له كأساً كانت في يده، فما كان منه إلا أن قال: «أبمدح أو بذم؟»، فقال الخليفة: «صفها بمدح» قال: «تريك القذى وتقيك الأذى» ومضى على هذا الغرار من ذكر محاسنها، وحين طلب إليه أن يصفها بذم، وصفها بقوله: «سريع كسرها، بطيء جبرها» مصوّراً على التو معايبها.
وكان لمثقفي الولاة والوزراء تأثيرهم في إذكاء هذه الروح من تشجيع التباري والتنافس، فالوزير أبو عبد الله العارض يقول للكاتب أبي حيان التوحيدي (ب410هـ/1019م): «أحب أن أسمع كلاماً في مراتب النظم والنثر، وإلى أي حد ينتهيان، وعلى أي شكل يتفقان. وأيهما أجمع للفائدة، وأرجع بالعائدة، وأدخل في الصناعة، وأولى بالبراعة». وقد أورد أبو حيان في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» صورة من هذه المفاضلة المسهبة. ولا ريب في أن هذه الحركة الفكرية الدائبة التي اتخذت عهدئذ من النثر وعاء رحيباً لها كانت مبعث اهتمام المناطقة والمتكلمين ومهوى أفئدة الناشئة والمتأدبين.
على أن ارتقاء أساليب النثر في ظل ازدهار الحياة العقلية استتبع تكاثر المصطلحات المستحدثة كالهيولى والصورة والجوهر والعرض والحد والعنصر، والألفاظ الدخيلة مثل الترياق والآيين والاسطقس.. وكان متوقعاً إزاء فيض الأفكار الجديدة والألفاظ الدخيلة والأسماء الغريبة ألا تنطوي بعض النصوص والكتابات على اليسر المعهود، وأن يستغلق فهمها أحياناً على مدارك الكثيرين من أوساط الناس، حين كانت تصدمهم مظاهر التعقيد وملامح الغموض فيما يسمعون ويقرؤون. وكما ضاق البحتري ذرعاً في هذا العصر مزج حدود المنطق وقضايا الذهن في فن الشعر، واستنكر أحد الأعراب ما سمعه في مجلس بعض النحاة فقال ساخراً متعجباً: «أراكم تتكلمون بكلامنا، في كلامنا، بما ليس في كلامنا».
وفي الوقت نفسه إبَّان القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي انبثق في الحياة الأدبية نمط نثري مستحدث عرف بالمقامات، وهو نثر قصصي يغلب عليه التأنق اللفظي والتزيين البديعي ويجنح أحياناً في مضمونه إلى السخرية والدعابة، ويمكن القول إن هذا الفن ولد كاملاً بفضل موهبة الناثر القدير بديع الزمان الهمذاني (ت398هـ/1007م)، فهو في مقامته المسماة «البغدادية» يسوق الحكاية على لسان الراوية الموهوم الذي اخترع شخصيته وأطلق عليه اسم عيسى بن هشام وقد يسند إليه أحياناً دور البطل بالإضافة إلى ذلك كما في مقامته البغدادية: «اشتهيت الازاد وأنا ببغداد، وليس معي عقد على نقد. فخرجت أنتهز محاله، حتى أحلني الكرخ. فإذا أنا بسوادي يسوق بالجهد حماره، ويطرز بالعقد إزاره. فقلت: ظفرنا والله بصيد. وحياك الله أبا زيد...».
ومثل هذا النمط الشائق من فنون القول استهوى شباب ذلك الجيل، إذ وجدوا فيه مذاقاً طريفاً ينطوي على المرح والهزل، ويبتعد عن الرصانة والجهد. كما وجدوا في أسلوبه صياغة جميلة ترضي نزوعهم إلى التأنق اللفظي والزخرفة الأسلوبية. وهذا ما حفز ناثراً بارزاً آخر بعد ذلك على المضي قدماً في ممارسة هذا الفن النثري وهو القاسم بني علي الحريري (ت516هـ/1222م) ولكنه تمادى في اصطياد السجع وسائر المحسنات البديعية إلى حد التصنع والتكلف. كما أن مقاماته قصرت عن المقامات السالفة، لأن منشئها لم يكن يضارع بديع الزمان في موهبته، فأتت مقاماته قليلة الرونق أشبه بمتون لغوية مسجوعة.
خصائص النثر الفنية: وعلى صعيد الأسلوب في نثر العصر العباسي فقد اغتنت ملامحه وتنوعت أنماطه. فقوام التعبير عند ابن المقفع مشاكلة اللفظ للمعنى، مع توخي الاقتصاد في الألفاظ والوضوح في المعاني إذ البلاغة عنده «هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها»، فكان همه جلاء الفكرة وإيصال المعنى، ولهذا لم يكن يلوي على صنعة أو تنمق ولا وشي أو تزيين. غير أن السنين التي أعقبت ذلك حملت مع التعقيد الحضاري ما يوازيه من التعقيد الأسلوبي، على غرار ما كان أيضاً من حال الشعر، فطالت العبارة لتكون أقدر على استيعاب الفكرة، وحل الإطناب في القول محل الإيجاز المعهود. وحرص الكتاب على أن تتسربل جملهم فيما بينها بإيقاع الازدواج أو التوازن، من مثل ما جنح إليه
سهل بن هارون (ت215هـ/830م) والجاحظ، أول الأمر، ثم ما زاد فيه أبو حيان التوحيدي، وما استكثر منه ابن العميد (ت360هـ/830م)، والصاحب ابن عباد (ت385هـ/995م).
ثم مضى الناثرون على هذا الصعيد من تدبيج كتاباتهم والتأنق في عباراتهم إلى المدى الأقصى، وذلك في أواخر القرن الرابع الهجري، وما تلاه من قرون. فجدّوا في طلب الزخرفة والتنميق. ولم يقتصر طلب السجع والزخرف على أصحاب المقامات بل كاد يشمل ذلك معظم الأدباء والناثرين. وقلما نأى كاتب منشيء في العهود العباسية المتأخرة عن هذه المظاهر التزيينية في النثر العربي. فأبو العلاء المعري في كتابه «الفصول والغايات» الذي كاد يقصره على مناجاة الخالق بعبارات طافحة بالغرابة اللفظية ومثقلة بالسجع الممجوج: «أقسم بخالق الخيل، والعيس الواجفة بالرحيل، تطلب بموطن جليل، والريح لهابة بليل، بين السوط ومطامع سهيل، إن الكافر لطويل الويل، وإن القمر لمكفوف الذيل، شعر النابغة وهذيل، وغناء الطير على الغيل...».
ولم يحل القرن السادس الهجري حتى غلب التصنع على النثر العربي وبسط طابعه على معظم النتاج الأدبي في ذلك العصر. ولعل ما يبعث على الرضى أن بعض أنماط الكتابة النثرية لم تنجرف مع هذا المد التعبيري المتكلف، بل ظلت بريئة إلى حد بعيد من معظم هذه القيود اللفظية والزخارف البديعية، إلا قليلاًَ من السجع بين الألفاظ وبعضاً من التوازن بين الجمل فحافظت كتب المؤلفين ومصنفات العلماء بالإجمال على الأسلوب المرسل ولاسيما مؤلفات النقد الأدبي والتراجم والتاريخ وتقويم البلدان ونحوها. وخير مثال على هذا الترسل ما كتبه أبو الفرج الأصفهاني وعبد القاهر الجرجاني... وامتد هذا المنحى النثري المطلق إلى ما بعد العصر العباسي، وتجلى في نثر ابن خلدون وأمثاله من أصحاب الأسلوب المرسل.
أعلام النثر: ظهر في هذا العصر عدد جم من الكتاب والمؤلفين منهم ابن المقفع والجاحظ وابن قتيبة وأبو الفرج الأصفهاني وابن العميد وأبو حيان التوحيدي وبديع الزمان الهمذاني والحريري.

تعريف الفكاهة والظرف

عرف العرب الفكاهة، كما عرفتها الأمم الأخرى، وبخاصة بعد فتحهم العراق وفارس والشام ومصر، حيث تأثروا بما لدى تلك الأمم من حياة اجتماعية وثقافية جديدة، جعلتهم يصيرون إلى شيء من حياة الترف والبذخ، قادتهم إلى الاهتمام بألوان الفكاهة والترويح المختلفة، وقد شغف الخاصة والعامة على حدٍّ سواء بمجالس القصص والحكايات والهزل والنوادر.
وقد ظهرت في التراث العربي كثير من الشخصيات الفكاهية، وقد اشتهر منها أشعب وأبودلامة وأبو العِبَر. وتناول كثير من الأدباء العرب الفكاهة، لما لها من مزايا، واتخذ التأليف في هذا الباب صورتين: فريق من الكتاب عرض للفكاهة في ثنايا كتبه، كما فعل الجاحظ في كتاب الحيوان، وأبوحيان التوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة، وأبو الفرج الأصفهاني في كتابه: الأغاني، وغيرهم.
وهناك فريق آخر من الكُتَّاب، أفردوا الفكاهة بكتب خاصة، منهم: الجاحظ في كتابه: البخلاء وأبو الطيب محمد بن إسحاق الوشاء، في كتابه: الموشى أو الظَّرف والظُّرفاء. وأبو منصور الثعالبي في كتابه: لطائف اللطف. وأبو الفرج عبدالرحمن بن علي ابن الجوزي في كتابيه: أخبار الحمقى والمُغفلين، وأخبار الظُّراف والمُتماجنين، والخطيب البغدادي في كتابه: التطفيل وحكايات الطُّفيليين وأخبارهم ونوادر كلامهم وأشعارهم.
هي لون هزليٌ أدبيٌ موجه، يقوم على النقض المضحك أو التجريح الهازئ، معتمداً على أساليب ووسائط فنية مختلفة). والأساليب والوسائط التي يمكن أن توظف لصنع الوجه الساخر في الكلام كثيرة، ومنها: الصورة، والمبالغة الفنية، والتصوير الكاريكاتوري، والحوار، والحكاية، والمفردة ونحو ذلك. فالسخرية بهذا قد تكون في الشعر وقد تكون في النثر، وقد تكون لوناً أدبياً مميزاً في أدب أديب أو أمة، وقد تكون مجرد اتجاه يطبع الأسلوب بطابعه عند هذا الأديب أو ذاك.وبالنسبة للتداخل بين السخرية والفكاهة فإنه لا يقف هذا على بعض الصحفيين أو المهتمين بالأدب فحسب، بل يتعدّاهم إلى كثير من الأدباء والأكاديميين ممن عنوا بالفكاهة والسخرية في الأدب؛و من الادباء من يذهب الى ان دراسة التناقض الفكاهي و الدباعة و المزاح و الهزل و التهكم و السخرية على ان جميعها فكاهة , لان كاتبها يريد بها الفكاهة مهما اختلف الاسم. لكن الفكاهة شيء والسخرية شيء آخر. ويبدو أن منشأ الخلط بينهما يعود إلى النظر إلى «الضحك» بصفته الغاية الكبرى والأساسية من الفكاهة والسخرية على حد سواء. وهذا التصور أدى بطبيعة الحال إلى تجاهل الفروق اللغوية والنفسية والدلالية الدَّقيقة الأخرى، ولهذا فإنه لا ينبغي أن يُذهب إلى إنكار الصلة الوثيقة بين السخرية والفكاهة وبين الإضحاك؛ فصاحب السخرية كصاحب الفكاهة محتاج إلى شيء من خفّة الروح، ولكن هذه الخفة في «الفكاهة» بريئة من المعنى الخفي، وغايتها المرح والانشراح. أما السخرية فإنها غير بريئة منه سواء أكان ذلك ظاهراً جليًّا، أم خفيًّا لا يدرك إلا بمزيد عناية وتأمل.إن الضحك المنبعث من الفكاهة ضحك سارٌ ومبهج، لكن السخرية مؤلمة موجعة، كئيبة ولو انبعث منها أو معها الضحك فإنما هو ضحك حارٌ كالبكاء ـ كما يقول الشاعر المتنبي ـ. والسخرية بعد ذلك شعور عميق لاصق بطباع الإنسان؛ ينبعث من أعماق نفسه، ومن ثمّ فهي موقف فكريٌ فردي تجاه الأشياء والموجودات؛ لذا يندر أن تعمّ السخرية فتصبح شعوراً ينتظم الجماعة برمتها، بل إن الجماعة تحتوي السخرية ولا تستطيبها.أمّا الفكاهة والمضاحكة فشيء سطحيٌ وعارض، وإن رفدهما حسٌ مرهف ونفس مرحة طروب، والضحك سلوك اجتماعي لا يمارسه الإنسان إلا مع الجماعة، والفكاهة ظاهرة تستطيبها الجماعات وتفسح لها مجالسها، وتختفي بها وتهمشُّ لأصحابها مهما بلغت من الجدّ والوقار.كما أن السخرية شيء غير الهجاء برغم الصلة الكبيرة بينهما، وكثيراً ما يستخدم الهجاء أدوات السخرية وينهج نهجها، ولكن يبقى بينهما خلافٌ بين وإن اتفقا في الدوافع والبواعث؛ فالأديب حين يسخر «يتناول بعد ما بيّن الأشياء والطبيعة، ويركض في حلبة يتقابل عند طرفيها الواقع من ناحية ومُثل الكمال من ناحية أخرى. وقد يفعل ذلك جاداً أو متفاكهاً مداعباً، أي أنه قد يستوحي إرادته ومشاعره أو يستملي عقله؛ فإن كانت الأولى فهو هاجٍ منتقم، وإن كانت الثانية فهو ساخر...2-أنواع الفكاهةتأخذ الفكاهة الكلامية عدة أشكال، فقد تكون هذه الفكاهة لطيفة ورقيقة أو قد تكون فظّة ولاذعة ولايوجد فرق واضح بين مختلف أنواع الفكاهة هذه.
1-الظرف. يختلف هذا النوع عن معظم الفكاهة في كونه يعتمد على خلفية ذهنية ورصيد من الخبرة في الحياة اليومية أكثر من اعتماده على أوجه التضارب التي تنشأ بطبيعة الحال في كثير من المواقف، ومعظم الفكاهة تجلب الابتسامة ولكن الظّرف ما يجعل الناسينخرطون في ضحك فجائي.
2-التهكّم. يُظْهِر التهكُّم الضعف الإنساني ويجعل منه موقفاً مضحكًا. ويحاول التهكّم عادة أن يعالج الحماقة بأن يجعل الناس يضحكون عليها.
3-السخرية. وهي أكثر قسوة من التهكم إذ إنها غالبا ما تأخذ شكل خطاب لاذع.
4-الفكاهة التهكّمية. وتحمل في طيّاتها عكس ما يبدو منها ظاهريا. فقد تبدأ هذه السخرية مديحًا أو حديثًا عاديًا، ولكنها تخفي وراء ذلك نقدا لاذعاً. ويتم التعبير عن التورية التهكّمية عادة بوساطة نبرة صوتية معيّنة، كما أنها غالبا ما تكون تعبيرا عن واقع الأمر بصورة تخفف من وطأة تأثيره.
5-المحاكاة التهكّمية والساخرة. وهي تغيير كلمات الشخصية و اخذها على غير معناها لخلق نتائج كوميدية.
6-المحاكاة. وهي تقليد لعادات شخص آخر أو حركاته أو حديثه من أجل خلق أثر كوميدي.

منهج البحث العلمي/1

منهج البحث العلمي : تعريف، وهدف، وأهمية


1ـ مقدمة:
أصبح منهج البحث العلمي والتمرس على تقنياته علماً قائماً بذاته وقد كتبت في هذا الفن العشرات من الكتب والرسائل والأبحاث وأغلب الباحثين يظنون أن هذا العلم جاءنا من الغرب، والواقع أن أجدادنا العرب قد سبقوا الغرب إلى انتهاج طرق علمية في البحث ولا سيما في فترة الازدهار العلمي والفكري وقد أصبح الهدف من تدريس هذه المادة لطلاب المراحل الجامعية ـ الإجازة (ليسانس)، والدراسات العليا ـ هو إعداد الطلاب إعداداً تربوياً علمياً يؤهلهم ليصبحوا أساتذة وباحثين منهجيين. وتوجيههم التوجيه الصحيح ليتفرغوا للبحوث والدراسات العلمية الأكاديمية لأن الهدف الأساسي للتعليم الجامعي ليس هو تخريج المدرسين أوالمهنيين وحسب، وإنما هو تخريج باحثين أكاديميين يمتلكون الوسائل العلمية لإثراء المعرفة الإنسانية، بما يقدمونه من مشاركات جادة في مجالات تخصصهم، ويتحلون بالأخلاق السامية التي هي عدة الباحث في هذا الميدان مثل: الصبر، والمثابرة، والأمانة، والصدق، والإخلاص لطلب العلم وحده.
2ـ قيمة العلم:
ما دام الإنسان يؤدي رسالة الخلافة على الأرض التي أرادها الله له يسعى حثيثاً لكشف المخبوء من قوانين الكون، وأسرار الحياة، طلباً للعلم والمعرفة إن البحث العلمي، والسعي وراء اكتساب المعارف من أعظم الوسائل للرقي الفكري والمادي، كما انه المؤكد للكرامة والفضل اللذين منحهما الله عز وجل للإنسان من بين مخلوقاته، ولأجل أن يتحقق هذا الهدف سخر الله للإنسان كل ما في الوجود، يسعى في مناكب الأرض، ويسبح في أجواء الفضاء، ويغوص في أعماق البحار وقد صدق رب العالمين إذ قال في القرآن الكريم:" هلْ يستوِي الذينَ يعلمُونَ والذينَ لا يعلمُون" (الزمر آية 9).
ويقول سبحانه وتعالى:" يرفعِ اللهُ الذينَ آمنوا مِنكمْ والذينَ أوتُوا العلمَ دَرَجاتً" (المجادلة آية 11 ).
ويقول جل شأنه:" إِنمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ" (فاطر آية 28 ).
كما يقول الرسول العربي (ص ) : "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة" وما دام الإنسان يسعى وراء المعارف يتسع أفقه وتنمو مداركه، وتتعاظم خبراته، فإذا ظن الإنسان أنه قد وصل إلى درجة كافية من العلم والبحث، فمن هنا يبدأ مرحلة جديدة يتورط فيها في ظلمات الجهالة وقد أصبحت الحكمة القديمة التي تقول:" إن المرء ليعلم ما دام يطلب العلم فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل".
وقد جاء في كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي ..... :" تعلموا العلم:
فإن كنتم سادة فقتم،
وإن كنتم وسطاً سدتم،
وإن كنتم سوقة عشتم ".
وقد أحسن من قال:" من أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو علم حصله، فقد عق يومه، وظلم نفسه ".
وفيما يلي بعض قلائد الحكم في العلم:
· من كان ذا عِلمٍ سعى بِيَومه لِغَدِه. ومَن كان ذا عقلٍ حصَّل خاتَم المُلك في يده.
· من صاحَبَ العُلماءَ وُقِّر، ومن عاشَرَ السفهاءَ حُقِّر.
· من لم يتعلَّم في صِغرِه لم يتعلَّم في كِبَره.
· أصل العلم الرغبةُ وثمرتُه العبادةُ.
· العالم يعتمد على عمله، والجاهل يعتمد على أمله.
· الجاهلُ يطلب المالَ، والعالم يطلب الكمالَ.
· العلمُ كَنْـزٌ لا يَفْنى، والعقلُ ثوبٌ لا يَبْلى.
· العالِمُ من تركَ الذُّنوبَ وانتفى منَ العيوبِ.
· لا يُدرِكُ العلمَ إلا من يُطيلُ دَرسَهُ ويُكِدُّ نَفسَهُ.
· لا يستخِفُّ بالعِلم وأهلِهِ إلا رقيعٌ جاهلٌ، أو وضيعٌ خاملٌ.
· العلمُ شرفٌ لا قدرَ له، والأدبُ مالٌ لا فوقَ عليه.
· الجهلُ أضرُّ الأصحابِ، واللُّؤمُ أقبحُ الأَثوابِ.
· أفضلُ ما منَّ اللهُ به على عبادِه عِلمٌ وعقلٌ ومُلكٌ وعدلٌ.
· العلمُ عِصمةُ الملوكِ، لأنَّه يردَعُهم عن الظُّلم ويردَّهم إلى الحِلم، ويصدُّهم عن الأذيَّة ويُعطِّفُهم على الرَّعيَّة، فمن حقِّهِم أن يعرفوا فضلَه ويستبطِنوا أهلَه.
3ـ وسائل العلم:
لكي يعطي العلم ثماره فإنه لابد من أن يكون منصباً على وسيلتين هما:
أ ـ الوسيلة النظرية:
وهي الإطلاع الكافي على ما يقدمه المختصون والمجربون من نظريات ونصائح في هذا الميدان، حتى إذا بدأ الطالب خطواته العملية في ميدان البحث العلمي بدأها بثبات ويقين، وقطع مراحل البحث وهو يمتلك التصور الكامل للمراحل التي سيقطعها في هذا السبيل الشاق، من لحظة التفكير في إشكالية البحث إلى ساعة التتويج بنيل الشهادة العليا بحول الله.
ب ـ الوسيلة التطبيقية:
إن الفائدة المرجوة من دراسة هذه المادة لا تتم بغير العناية الكاملة بالجانب التطبيقي، إذ لا يكفي إن نملأ أدمغتنا بالنظريات ونحن نمارس العمل في ميادين البحث المباشرة مع المصادر والمراجع والمواقع الأثرية و...
لذا فإننا نوجه العناية إلى هذا الجانب المهم، وهو تعويد الطلاب على التعامل مع المصادر والنصوص وبث روح التفكير والنقد فيهم، وزرع أخلاق الباحثين النزهاء منذ الخطوات الأولى، فإن البحث العلمي أخلاق فاضلة قبل كل شيء.
على أن الإطلاع على مناهج البحث العلمي ودراسة تقنيات البحث، لا يكون وحده استعدادات نفسية، وعلمية، وذهنية، إنها أشبه ما تكون بالماء الذي يسقي الأرض الصالحة للزراعة، فإن لم يكن الباحث مؤهلاً بالفطرة للبحث فإن دراسته للمناهج، ومعرفته تقنيات البحث لا تجدي نفعاً.
4ـ الحاجة إلى معرفة منهج البحث:
كل باحث بحاجة إلى معرفة الأصول العامة في كتابة الأبحاث (منهج البحث) وذلك للأسباب التالية:
أ ـ لأن إتباع الطرق البحثية التي خلُص إليها العلماء يزيد من جمال البحث، ويظهر حسن عرضه.
ب ـ يساعد القارئ على تصور أبعاد البحث وتفريعاته، وبذلك يسهل عليه فهمه.
ت ـ يساعد الباحثين المبتدئين على الارتقاء بأبحاثهم.
ث ـ يوحد خطوات البحث بين الباحثين، دون المساس بالمضامين العلمية أو النتائج التي يتوصلون إليها.
5ـ أهمية البحث:
البحث العلمي هو الذي يقدم للإنسانية شيئاً جديداً، ويُساهم في تطوير المجتمعات ونشر الثقافة والوعي والأخلاق القويمة فيها باستمرار.
وتزداد البحث كلما ارتبط بالواقع أكثر فأكثر، فيدرس مشكلاته، ويقدم الحلول المناسبة لها، فموضوع علم الآثار الذي ندرسه يحتل أهمية كبيرة بالنسبة لنا جميعاً، لأنه دائماً تظهر إلينا المزيد من المعلومات التي تكشف عن جوانب متعددة من حضارتنا عبر التاريخ.
وعلى العكس من ذلك تلك المواضيع الخيالية التي لا تفيد الناس بشيء اليوم، وتكون بعيدة عن واقعهم، فإنها تفقد أهميتها، فيجب على الباحث أن يختار موضوعاً يهم المجتمع ككل، ويفيد الناس، ويقدم لهم خدمة، فالمريض الذي يشكو الآلام بحاجة إلى طبيب يكفكف آلامه وأوجاعه، ويخفف عنه ما يشعر به، ويقدم له العلاج النافع.
ومما لا شك فيه أن الدراسات والأبحاث التي يكتبها المتخصصون في كل فن، تقدم للإنسانية خدمات كبيرة فهي:
أ ـ تُسجل آخر ما توصل إليه الفكر الإنساني في موضوع ما.
ب ـ تُقدم للناس فائدة عظيمة وتنشر الوعي فيما بينهم.
ت ـ تُثرِي المجتمع بالمعلومات، فتزيد في تطويره ونموه، ومواكبة السباق الحضاري بين الأمم.
6ـ أهداف البحث:
يميل البحث العلمي اليوم للتخصص ومعالجة أدق الجزئيات بالتفصيل، ويسلط الضوء على أسبابها وكيفية عملها ونتاجها، ويوازن بين الأمور ليبين صحيحها، ويهدف إلى إبراز حقيقة ما، أو يضع حلاً لمشكلة ما: ثقافية، أو علمية، أو اجتماعية، أو أدبية، أو يتوصل إلى اكتشاف جديد، أو يطور آلةً، أو نظرية معينة، أو يصحح خطأ شائعاً، أو يرد على أفكار معينة.
ومجاله رَحبٌ واسع لا حدود له، لأنه صادرٌ عن أفراد المجتمعات الإنسانية، ويسعى لتطورها ونشر العلم والثقافة والوعي فيها، وهذا أمر لا حدود له، يستمر باستمرار الإنسانية، لذلك يجب أن لا يَحْتار الباحثون في اختيار مواضيع بحثهم، فالمجال أمامهم واسع ومفتوح ما دام العقل البشري يعمل ويفكر، وما على الباحث إلا الانطلاق من حيث توقف الآخرون، لذلك يجب معرفة، واستيعاب أبحاث السابقين، حتى لا يقع الباحث في التكرار، وضياع الجهود وتبعثرها.
ولابد من أن يحقق البحث أهدافاً، ولابد من وضوح هذه الأهداف في ذهن الباحث، لأن معالجة الموضع تختلف لاختلاف الهدف، فمن كان هدفه من بحثه تعريف الناس، أو شريحة من الناس، بالمشكلة، يسلك طريقاً في بحثه غير الطريق الذي يسلكه من كان هدفه حل المشكلة.
ومن الأهداف المعتبرة للبحث الآتي:
1- الوصول إلى حكم لحادثة جديدة لم يبحثها غيره، أو التنبيه على أمر لم يسبق لأحد أن نبَّه إليه.
2. اختراع معدوم: ( الاختراعات، والاكتشافات ).
3. إتمام بحث لم يتمه منْ بحثه سابقاً.
4. تفصيل مجمل: الشروح، والحواشي، والتحليلات، والتفسيرات، والبيان لما هو غامض.
5. اختصار أو تهذيب ما هو مطوّل : إذ يستبعد من البحوث ما عسى أن يكون حشو وفضول، ومعارف يمكن أن يستغنى عنها في تعليم المبتدئين، وقد شاع هذا قديماً، ولم يعد اليوم مقبولاً كبحث.
6. جمع متفرق: ( النصوص، والوثائق، والأحداث، والمعلومات ..) قد تكون هناك مسائل علمية متفرقة في بطون الكتب موزعة في مصادر ومراجع مختلفة، وتحتاج إلى بحث واستقراء دقيقين ليصل الباحث إلى تصور شامل لما تفرق في صورة قضية واحدة متكاملة الأطراف والعناصر، وهذا لون من البحث وإن لم يأت بجديد لكنه جهد مفيد، مثمر، ييسر للأجيال التالية أن تخطو على أساسه خطوات واسعة.
7. تكميل ناقص: بحث جانب وإهمال آخر، أو اهتمام بقضية وإغفال أخرى.
8. إفراز مختلط: كاستقراء تراجم للأعلام، واستخراج تراجم منْ مات في أماكن ومناطق مختلفة.
9. إعادة عرض موضوع قديم بأسلوب جديد.
10. التعقيبات والنقائض: هذا لون من البحث يعتمد على التعقيب على بحوث سابقة، أو نقض ما فيها من قضايا، أوإصلاح أخطاء وقع فيها مؤلفون سابقون، وكشف ما فيها من زيف، أو تخطئة ما ورد فيها من آراء واجتهادات.
7ـ أنواع البحوث:
تتنوع البحوث من حيث الكمّ والكيّف:
1. من حيث الكم:هناك الأبحاث الصغيرة، ويكون هدفها تدريب الطلاب على كتابة الأبحاث، وتوسيع آفاق ثقافاتهم، واحتكاكهم بالمكتبات، وحُسن استخدام المصادر والمراجع، ويكون حجم البحث بمقدار يتراوح بين (10ـ50) صفحة.
وقد يكون كاتبُ البحث إنساناً من غير الطلبة (المدارس، والمرحلة الجامعية الأولى)، كأن يكون طالب في مرحلة الدراسات العليا ( الدبلوم، أو الماجستير، أو الدكتوراه )، أو عالماً، أو مفكراً، أو دارساً، أو باحثاً، أو متخصصاً في فنٍ ما، .. فيُساهم في أبحاثه بإثراء الفكر والمكتبة.
2. من حيث الكيف: فقد يكون البحث دراسةً جديدة يُعِدُها الباحث، ويقدم بها نفعاً للناس، وقد يكون له أهمية كبيرة في موضوعه، ويكون في إبرازه للناس فوائد عظيمة، فيعمل الباحث على خدمته بكل طاقته، لكي يوفره بين أيدي الناس بشكل علمي واضح ومُيَسر.
8ـ مواضيع البحوث:
تتنوع الأبحاث بتنوع مواضيع العلوم الكثيرة والمتشعبة، ويمكن تقسيم العلوم إلى فرعين عظيمين:
· العلوم النقلية: وهي علوم الدين التي جاء بها الوحي.
· العلوم العقلية: وهي العلوم التي أنتجته العقول البشرية:
من العلوم التطبيقية والأساسية: كالهندسة، والطب، والفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والحاسوب، ..
ومن العلوم الإنسانية: كعلم التربية، والاجتماع، والسياسة، والآداب، والإدارة، والمحاسبة، والآثار، والفلسفة، ..
ويمكن للطالب أن يختار أي موضوع من هذه الموضوعات حسب اختصاصه وميوله ورغبته.
9ـ التعريف قبل التأليف:
لابد قبل دراسة أي موضوع أن يتم تعريفه، ومن هذا القبيل يجب توضيح بعض المفاهيم، منها:
أ ـ البحث:
إن البحث واحد من أوجه النشاط المعقدة المحيرة, التي تظل عادة غير واضحة المعالم تماماً في أذهان من يمارسونها.
ولعل هذا هو سبب اعتقاد أغلب العلماء أنه ليس بالإمكان إعطاء أية دراسات منهجية في كيفية إجراء البحث.
والبحث هو تتبع موضوع ما في مظانه، وجمع معلوماته ثم سبرها بغية الوصول إلى غاية ما.
وإنني أسلم بأن التدرب على البحث ينبغي أن يكون ذاتياً إلى حد بعيد, ويفضل الاسترشاد بعالم أو باحث متمرس عند معالجة المراحل الفعلية في البحث, إلا أنني أعتقد أنه من الممكن أن نستمد بعض العبر والقواعد العامة من تجارب الآخرين.
وكما يقول المثل: ( الحكيم يتعلم من تجارب الآخرين، والأحمق لا يتعلم إلا من تجاربه).
ولا شك أن أي تدريب يتضمن أكثر من مجرد معرفة طريقة العمل، فالباحث بحاجة إلى مران ليتعلم كيف يضع القواعد موضع التنفيذ وحتى يصبح استخدامها عنده عادة. ولكن مما يفيده أيضاً أن يعرف المهارات التي ينبغي عليه اكتسابها.
إن العبقري النادر الذي يتألق بموهبة فذة في البحث لن يستفيد من التدرب على طرائق البحث.
غير أن معظم المقبلين على الاشتغال بالأبحاث ليسوا عباقرة, وهؤلاء لو أرشدوا إلى طريقة القيام بالأبحاث لكان في هذا ما يساعدهم على التبكير في الإنتاج أكثر مما لو تركوا لمعرفة ذلك بأنفسهم عن طريق التجربة الشخصية المضيعة للوقت.
ب ـ المنهج:
المنهج: هو البرنامج الذي يحدد لنا السبيل للوصول إلى الحقيقة, أوهو مجموعة قواعد يتبعها الباحث في إعداد بحثه، أو الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم. ولجميع الدراسات على اختلاف مناهجها, فهناك:منهج للتعلم، ومنهج للقراءة، ومنهج للتربية، ومنهج للآثار، ومنهج للعلوم التطبيقية، ومنهج في الطب (علاجي ـ وقائي), ...
ت ـ منهج البحث العلمي:
يتكون هذا الاصطلاح من ثلاث كلمات هي:
كلمة منهج, وكلمة بحث, وكلمة العلمي.
- أما كلمة منهج: فهي مصدر بمعنى طريق, سلوك. وهي مشتقة من الفعل نهج بمعنى طرق، أو سلك، أو اتبع.
- أما كلمة البحث: فهي مصدر بمعنى الطلب, التقصي..، وهي مشتقة من الفعل: بحث بمعنى طلب، أو تقصى، أو فتش، أو تتبع، أو تمرس، أو سأل، أو حاول، أو اكتشف..
ومن هنا فكلمة منهج البحث تعني: القانون أو المبدأ أو القاعدة التي تحكم أي محاولة للدراسة العلمية وفي أي مجال.
ومناهج البحث متعددة, ومتجددة طبقاً لتعدد أنواع العلوم, و تجددها. وهي تشترك جميعها بخطوات وقواعد عامة تشكل الإطار الذي يسلكه الباحث في بحثه, أو دراسته العلمية, أو تقييمه العلمي لأي حقيقة علمية.
- أما كلمة العلمي لغة: فهي كلمة منسوبة إلى العلم, وهي بمعنى المعرفة, والدراية، وإدراك الحقائق. والعلم يعني الإحاطة والإلمام بالأشياء، والمعرفة بكل ما يتصل بها, بقصد إذاعتها بين الناس وقد عرض الباحثون تعريفات شتى للبحث العلمي، وهم في كل تعريف يصدر الواحد منهم عن منظور خاص، وتصور شخصي يصعب معه الشمول، كما نرى بعضهم حدد معنى البحث على أساس ميدانه:
ـ فالبحث في العلوم التجريبية له تعريف محدد.
ـ والبحث الأدبي له منحى معين.
ـ والبحث الديني قد يكون له مفهوم يختلف عنها جميعاً.
وعلى ضوء ذلك يمكننا تعريف منهج البحث العلمي بشكل عام بأنه:
ـ" التقصي المنظم بإتباع أساليب ومناهج علمية تحدد الحقائق العلمية بقصد التأكد من صحتها أو تعديلها أو إضافة الجديد إليها ".
ـ أو هو:" الطريق أو الأسلوب الذي يسلكه الباحث العلمي في تقصيه للحقائق العلمية في أي فرع من فروع المعرفة, و في أي ميدان من ميادين العلوم النظرية و العملية ".
ـ وبتعبير آخر هو: " سبيل تقصي الحقائق العلمية، وإذاعتها بين الناس " فالبحث العلمي يستند أصلاً إلى منهج ثابت ومحدد، تحكمه خطوات، تشكل قواعد, وأصولاً يجب التقيد بها من قبل الباحث ويعتمد البحث العلمي على المناهج المختلفة تبعاً لموضوع البحث، والمنهج العلمي هو الدراية الفكرية الواعية التي تطبق في مختلف العلوم تبعاً لاختلاف موضوعات هذه العلوم، وهو قسم من أقسام المنطق وليس المنهج سوى خطوات منظمة يتبعها الباحث في معالجة الموضوعات التي يقوم بدراستها إلى أن يصل إلى نتيجة معينة، وبهذا يكون في مأمن من اعتقاد الخطأ صواباً أو الصواب خطأ.
ومن هنا تنحصر مهمة الباحث الأولى:
ـ في التعرف على المناهج العلمية المتخصصة.
ـ ثم يقول بتحديدها، وتجميعها ضمن مجموعة القواعد المبادئ التي تحكمها.
ـ ثم يحاول التنسيق بينها ليستطيع الوقوف على المناهج والطرق المطلوبة واللازمة في البحث, والتقصي لسبيل المعرفة, وأنواع الحقائق العلمية.
ولنا أن نتساءل في نهاية هذا التعريف:
متى يمكننا اعتبار دراسة معينة ملتزمة بطرق البحث العلمي ومواصفاته ؟
يحدد المنهجيون ذلك بتوفير العوامل المحددة الآتية:
ـ أن تكون هناك مشكلة تستدعي الحل.
ـ وجود الدليل الذي يحتوي عادة على الحقائق التي تم إثباتها بخصوص هذه المشكلة وقد يحتوي على رأي أصحاب الاختصاص.
ـ التحليل الدقيق للدليل وتصنيفه، حيث يمكن أن يرتب الدليل في إطار منطقي أو في إطار شرعي علمي، وذلك لاختياره وتطبيقه على المشكلة.
ـ استخدام العقل والمنطق لترتيب الدليل في حجج وإثباتات حقيقية علمية دون اللجوء إلى الانفعال والعواطف والأغراض الشخصية.

المصطلحات/1

أنواع التفكير

أنواع التفكير المركب :
1 ـ التفكير الناقد .
2 ـ التفكير الإبداعي .
3 ـالتفكير العلمي
4 ـ التفكير المنطقي
5 ـ التفكير المعرفي
6 ـ التفكير فوق المعرفي .
7 ـ التفكير الخرافي .
8 ـ التفكير التسلطي .
9 ـ التفكير التوفيقي أو المساير .
ويشمل كل نوع من أنواع التفكير السابقة عدة مهارات تميزه عن غيره .

طبيعته وتعريفاته وخصائصه ومهاراته .
أولاً ـ التفكير الناقد :
يعد التفكير الناقد من أكثر أشكال التفكير المركب استحواذاً على اهتمام الباحثين والمفكرين التربويين ، وهو في عالم الواقع يستخدم للدلالة على مهام كثيرة منها :
الكشف عن العيوب والأخطاء ، والشك في كل شيء ، والتفكير التحليلي ، والتفكير التأملي ، ويشمل كل مهارات التفكير العليا في تصنيف بلوم .
* تعريفه : عرفه بعضهم بأنه فحص وتقييم الحلول المعروضة .
وهو حل المشكلات ، أو التحقق من الشيء وتقييمه بالاستناد إلى معايير متفق عليها مسبقاً .
وهو تفكير تأملي ومعقول ، مركَّز على اتخاذ قرار بشأن ما نصدقه ونؤمن به أو ما نفعله .
والتفكير الناقد هو التفكير الذي يتطلب استخدام المستويات المعرفية العليا الثلاث في تصنيف بلوم ( التحليل ـ التركيب ـ التقويم ) .

مهارات التفكير الناقد :
لخص بعض الباحثين مهارات التفكير الناقد في الآتي :
1 ـ التمييز بين الحقائق التي يمكن إثباتها .
2 ـ التمييز بين المعلومات والادعاءات .
3 ـ تحديد مستوى دقة العبارة .
4 ـ تحديد مصداقية مصدر المعلومات .
5 ـ التعرف على الادعاءات والحجج .
6 ـ التعرف على الافتراضات غير المصرح بها .
7 ـ تحديد قوة البرهان .
8 ـ التنبؤ بمترتبات القرار أو الحل .

معايير التفكير الناقد :
يقصد بمعايير التفكير الناقد تلك المواصفات العامة المتفق عليها لدى الباحثين في مجال التفكير ، والتي تتخذ أساساً في الحكم على نوعية التفكير الاستدلالي أو التقويمي الذي يمارسه الفرد في معالجة الموضوع ويمكن تلخيص هذه المعايير في التالي :
1 ـ الوضوح : وهو من أهم معايير التفكير الناقد باعتباره المدخل الرئيس لباقي المعايير الأخرى ، فإذا لم تكن العبارة واضحة فلن نستطيع فهمها ، ولن نستطيع معرفة مقاصد المتكلم ، وعليه فلن يكون بمقدورنا الحكم عليه .
2 ـ الصحة : وهو أن تكون العبارة صحيحة وموثقة ، وقد تكون العبارة واضحة ولكنها ليست صحيحة .
3 ـ الدقة : الدقة في التفكير تعني استيفاء الموضوع صفة من المعالجة ، والتعبير عنه بلا زيادة أو نقصان .
4 ـ الربط : ويقصد به مدى العلاقة بين السؤال أو المداخلة بموضوع النقاش .
5 ـ العمق : ويقصد به ألا تكون المعالجة الفكرية للموضوع أو المشكلة في كثير من الأحوال مفتقرة إلى العمق المطلوب الذي يتناسب مع تعقيدات المشكلة ، وألا يلجأ في حلها إلى السطحية .
6 ـ الاتساع : ويعني الأخذ بجميع جوانب الموضوع .
7 ـ المنطق : ويعني أن يكون الاستدلال على حل المشكلة منطقياً ، لأنه المعيار الذي استند إليه الحكم على نوعية التفكير ، والتفكير المنطقي هو تنظيم الأفكار وتسلسلها وترابطها بطريقة تؤدي إلى معنى واضح ، أو نتيجة مترتبة على حجج معقولة .

التفكير الإبداعي :
تعريفه : هو نشاط عقلي مركب وهادف توجهه رغبة قوية في البحث عن حلول ، أو التوصل إلى نتائج أصيلة لم تكن معروفة سابقاً .
يتميز التفكير الإبداعي بالشمول والتعقيد ، لأنه ينطوي على عناصر معرفية وانفعالية وأخلاقية متداخلة تشكل حالة ذهنية فريدة .

مهارات التفكير الإبداعي :
أولاً ـ الطلاقة : وهي القدرة على توليد عدد كبير من البدائل أو الأفكار عند الاستجابة لمثير معين ، والسرعة والسهولة في توليدها ، وهي في جوهرها عملية تذكر واستدعاء لمعلومات أو خبرات أو مفاهيم سبق تعلمها .
وتشتمل الطلاقة على الأنواع التالية :
1 ـ الطلاقة اللفظية .
2 ـ طلاقة المعاني .
3 ـ طلاقة الأشكال .
ثانياً ـ المرونة : وتعني القدرة على توليد الأفكار المتنوعة التي ليست من نوع الأفكار المتوقعة عادة ، وتوجيه أو تحويل مسار التفكير مع تغير المثير أو متطلبات الموقف ، وهي عكس الجمود الذهني الذي يعني تبني أنماط ذهنية محددة سلفاً وغير قابلة للتغير حسب ما تستدعي الحاجة .

ثالثاً ـ الأصالة : وتعني الخبرة والتفرد ، وهي العامل المشترك بين معظم التعريفات التي تركز على النواتج الإبداعية كمحل للحكم على مستوى الإبداع .

رابعاً ـ الإفاضة : وهي القدرة على إضافة تفاصيل جديدة ومتنوعة لفكرة أو حل المشكلة .

خامساً ـ الحساسية للمشكلات : ويقصد بها الوعي بوجود مشكلات أو حاجات أو عناصر ضعف في البيئة أو الموقف .
الفرق بين التفكير الناقد والتفكير الإبداعي :
التفكير الناقد التفكير الإبداعي
1 ـ تفكير متقارب . 1 ـ تفكير متشعب .
2 ـ يعمل على تقييم مصداقية أمور موجودة . 2 ـ يتصف بالأصالة .
3 ـ يقبل المبادئ الموجودة ولا 3 ـ عادة ما ينتهك مبادئ موجودة
يعمل على تغييرها . ومقبولة .
4 ـ يتحدد بالقواعد المنطقية ، 4 ـ لا يتحدد بالقواعد المنطقية ، ولا
ويمكن التنبؤ بنتائجه . يمكن التنبؤ بنتائجه .
يتطلبان وجود مجموعة من الميول والاستعدادات لدى الفرد .
يستخدمان أنواع التفكير العليا كحل المشكلات واتخاذ القرارات وصياغة المفاهيم .

التفكير المعرفي :
مهاراته :
1 ـ مهارات التركيز :
* توضيح ظروف المشكلة . * تحديد الأهداف .
2 ـ مهارات جمع المعلومات :
* الملاحظة : وتعني الحصول على المعلومات عن طرق أحد الحواس أو أكثر .
* التساؤل : وهو البحث عن معلومات جديدة عن طريق إثارة الأسئلة .
3 ـ التذكر :
* الترميز : ويشمل ترميز وتخزين المعلومات في الذاكرة طويلة الأمد .
* الاستدعاء : استرجاع المعلومات من الذاكرة طويلة الأمد .

4 ـ مهارات تنظيم المعلومات :
* المقارنة : وتعني ملاحظة أوجه الشبه والاختلاف بين شيئين أو أكثر .
* التصنيف : وضع الأشياء في مجموعات وفق خصائص مشتركة .
* الترتيب : وضع الأشياء أو المفردات في منظومة أو سياق وفق أسس معينة .

5 ـ مهارات التحليل :
* تحديد الخصائص والمكونات والتمييز بين الأشياء .
* تحديد العلاقات والأنماط ، والتعرف على الطرائق الرابطة بين المكونات .

6 ـ المهارات الإنتاجية / التوليدية :
* الاستنتاج : التفكير فيما هو أبعد من المعلومات المتوافرة لسد الثغرات فيها .
* التنبؤ : استخدام المعرفة السابقة لإضافة معنى للمعلومات الجديدة ، وربطها بالأبنية المعرفية القائمة .
* الإسهاب : تطوير الأفكار الأساسية ، والمعلومات المعطاة ، وإغناؤها بتفصيلات مهمة ، وإضافات قد تؤدي إلى نتاجات جديدة .
* التمثيل : إضافة معنى جديد للمعلومات بتغيير صورتها ( تمثيلها برموز ، أو مخططات ، أو رسوم بيانية ) .
7 ـ مهارات التكامل والدمج :
* التلخيص : تقصير الموضوع وتجديده من غير الأفكار الرئيسة بطريقة فعالة .
* إعادة البناء : تعديل الأبنية المعرفية القائمة لإدماج معلومات جديدة .
8 ـ مهارات التقويم :
* وضع محكَّات : وتعني اتخاذ معايير لإصدار الأحكام والقرارات .
* الإثبات : تقديم البرهان على صحة ، أو دقة الادعاء .
* التعرف على الأخطاء : وهو الكشف عن المغالطات ، أو الوهن في الاستدلالات المنطقية ، والتفريق بين الآراء والحقائق .

التفكير فوق المعرفي :
ظهر هذا النوع من أنواع التفكير في بداية السبعينات ليضيف بعدا جديدا في مجال علم النفس المعرفي ، وفتح آفاق واسعة للدراسات التجريبية ، والمناقشات النظرية في موضوعات الذكاء والتفكير والذاكرة والاستيعاب ومهارات التعلم .
تعريفه :
اختلف المتخصصون في دراسة تعليم التفكير في وضع مفهوم محدد للتفكير فوق المعرفي ، ورغم اختلاف هذه التعريفات إلا أننا نجد تقاربا واضحا في المضمون ، ومن أهم التعريفات ، وأكثرها شيوعا الآتي :
التفكير فوق المعرفي : عبارة عن عمليات تحكم عليا ، وظيفتها التخطيط والمراقبة والتقييم لأداء الفرد في حل المشكلة ، أو الموضوع .
* هو قدرة على التفكير في مجريات التفكير ، أو حوله .
* هو أعلى مستويات النشاط العقلي الذي يبقي على وعي الفرد لذاته

دراسات في التفكير العلمي/2

التفكير العلمي هو التفكير المنسوب الى العلم، و لكي يصح نسب تفكير ما الى العلم بحيث يوصف بانه علمي لابد ان يكون تفكيرا مستهديا و متسما بروح العلم و ملتزما بمنهجه و أسسه و مقولاته المعتمدة . و لكن ما هو العلم؟
العلم بمعناه اللغوي الواسع هو نقيض الجهل . و هو بهذا المعنى يشمل الخطأ و الصواب و الظني و اليقيني و الجزئي و الكلي مما يتحقق به او يتحصل منه معرفة ايا كان موضوعها. على ان العلم بمعناه اللغوي الخاص يقتصر عادة على ما تبين صوابه و يقينيته و سلامته.
اما اصطلاحا، فلا يبدو ان هناك تعريف اصطلاحي متفق عليه للعلم، حيث تتبنى اتجاهات متباينة مفاهيم متباينة بل متناقضة للعلم. بيد ان الشائع في الثقافة الغربية الحديثة هو حصر معنى العلم على ما شاعت تسميته بالعلم الطبيعي او التجريبي أي ما يدرك او يثبت، او يمكن اثباته، عن طريق المنهج التجريبي القائم أساسا على الملاحظة الحسية و الاستقراء المبني على قانوني العلية والاطراد . و بينما يتسع لما يعرف بالعلوم الاساسية كالفيزياء و الكيمياء و التطبيقية كالطب فان العلم بهذا المعنى الاصطلاحي التجريبي يضيق عن ليس فقط الوحى أي المعرفة المتلقاة عن الله عن طريق رسله و انما ايضا عن سائر ما يعرف بالعلوم الانسانية و التي ما زالت مستعصية على محاولات بنائها على ذات اسس و متطلبات العلم التجريبي . وقد أثار ما عرف بالعلوم الصورية ،و خاصة علما الرياضيات و المنطق، و التي تعذر حتى الان اخضاعها لمتطلبات العلم بمعناه الاصطلاحي التجريبي السائد في الغرب بينما- في نفس الوقت- من الصعب انكار علميتها حرجا للقائلين بالمفهوم الاصطلاحي التجريبي للعلم مما اضطر البعض الى الدعوة الى توسيع هذا المفهوم ليتسع لعلمي الرياضيات و المنطق. و يلاحظ انه بينما يصر هذا المفهوم على ان معيار العلم هو فقط المنهج التجريبي المشار اليه فان من الواضح انه- أي المفهوم نفسه- لا يستوفي ذات المعيار الذي يصر عليه. و عموما ينطوي هذا المفهوم على عيوب عدة جعلته عرضة للنقد
و الظاهر ان نفس المفهوم الاصطلاحي التجريبي للعلم و السائد في الغرب هو ما يتبادر – عند سماع كلمة العلم- الى ذهن القطاع الاوسع من خريجى التعليم النظامي العربي و القائم حتى الان على التشعيب الى قسمين تعكس و تكرس تسميتهما بــ "القسم العلمي و القسم الادبي" ذات المفهوم الاصطلاحي التجريبي للعلم و الذي ينفي علمية الاداب او العلوم الادبية.
و الى جانب هذا المفهوم الاصطلاحي التجريبي الذي- احسبه - يحظى بالسيادة والغلبة يمكن تمييز مفاهيم اصطلاحية ثلاثة اخرى في العالم العربي و هي:
المفهوم الأصولي: و هو مفهوم يوسع معنى العلم ليتسع، بالاضافة الى المعنى الاصطلاحي التجريبي للعلم، لكل معرفة مصدرها الوحى او تثبت عن طريق المنهج العقلي. و يتمثل هذا المفهوم اساسا في المفهوم الذي تكرسه تعريفات العلم السائدة في علم اصول الفقه الاسلامي و الذي اعتنى كثيرا بتعريف العلم و تمييزه عن المفاهيم المشابهة او المتقاطعة مثل الظن و الوهم و الفكر و المعرفة و..الخ كما اعتنى بتعريف المفاهيم ذات الصلة كالدليل و البرهان و الحجة و الامارة و..الخ . وعلى سبيل المثال فقط نجد الامام الشوكاني في محاولته لتعريف العلم يستعرض، مناقشا و منتقدا، عشر تعريفات اصولية للعلم قبل ان يدلي بتعريفه او اختياره القائل ان العلم " صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما"
[14] بينما يعرف اصولي اخر العلم بانه " اعتقاد الشئ على ما هو به ، مع سكون النفس اليه، اذا وقع عن ضرورة او دليل"[15] . و لغرض التمييز فقط يمكن تسمية هذا المفهوم بالمفهوم الاصولي او البياني او أي اسم اخر انسب.
المفهوم العرفاني: و هو مفهوم يضيق معنى العلم و يكاد يحصره في المعرفة المكتسبة اساسا بغير طريقة إعمال العقل كطريقة الرياضة النفسية الموصلة الى ما يسميه القائلين به كشف الحجاب. و يغلب على هذا المفهوم انه – مع وجود استثناءات تحاول الجمع بين العرفاني و العقلاني و العلمي- يحتقر و قد ينفي تماما علمية المعرفة العقلية و التجريبية الحسية و كثيرا ما يقلل من مصداقية العلم الفقهي باعتباره علما ظاهريا. و السائد هو تسمية هذا المفهوم بالعلم العرفاني و قد يسمى العلم الباطني او علم الاسرار او العلم اللدني و احيانا العلم الاشراقي وان كانت هنالك بعض الفروق بين دلالات هذه التسميات.
المفهوم الحديثي: وهو مفهوم يكاد يحصر معنى العلم،عند التحري، في نصوص الوحي أي – في اطار الدين الاسلامي- القرآن و السنة النبوية و، الى حد ما، العلوم المساعدة او الضرورية لفهم الوحي. و ربما امكن تسمية هذا المفهوم بـــالمفهوم الحديثي للعلم او المفهوم الفروعي( = غير الاصولي) للعلم.
و اذا كان التفكير العلمي هو ، كما تقدم، التفكير الذي يتصف بصفة العلم ويستوفي معاييره فان مما يتبادر للذهن في ضوء ما سبق عن تعدد مفاهيم العلم السؤال حول أي تلك المفاهيم، او غيرها، ينبغي الاعتماد عليه في تحديد معنى العلم/التفكير العلمي الذي يتعين البحث عن معوقاته في التراث الثقافي العربي؟
من الواضح ان تحديد ما اذا كانت هناك معوقات للتفكير العلمي في التراث الثقافي العربي و ما هي هذه المعوقات سيختلف باختلاف ما قد يتبناه المرء من مفهوم للعلم. و على سبيل المثال فان معوقات العلم بمفهومه الحديثي في العالم العربي يختلف كثيرا ، كما و نوعا، عن معوقات العلم بمفهومه التجريبي في العالم العربي.
و إذا كان مما قد يكون محل اتفاق أوسع انه لابد للعلم الذي يمكن اثبات علميته للاخر من دليل يسنده و يتيح مرجعا او معيارا مشتركا للاتفاق او الاختلاف عليه لان من المتعذر اثبات علمية معرفة لا تقوم على دليل يمكن التحقق منه فقد يكون مقبولا على نطاق واسع فهم العلم بانه ما قام على دليل يمكن التحقق منه وبالتالي يمكن فهم التفكير العلمي بانه تفكير يقوم على دليل.
على ان هذا الحديث عن المعوقات الموروثة للتفكير العلمي سينبني أساسا ليس على المفهوم الوارد آنفا و انما على نفس المفهوم الاصطلاحي التجريبي للعلم و التفكير العلمي الوارد سابقا ليس اقتناعا بانه المفهوم الاصح او الامثل و ليس لانه يمثل المفهوم المتبادر للذهن و خاصة في اوساط جمهور التعليم الرسمي و الاعلام الجماهيري في العالم العربي و انما نظرا لــ - اولا- كونه يبدو انه هو ما يمثل صلب مفهوم هذه الندوة للتفكير العلمي او الثقافة العلمية و – ثانيا- انه هو المفهوم السائد للتفكير العلمي في ادبيات نقد العقل/ التراث العربي و التي يتأسس عليها هذا الحديث و لن تجدي الا قليلا محاولة مناقشة تلك الادبيات بمفهوم اخر غير مشترك للعلم.
و لعل في ما سبق توضيحه من اطار عام للتراث و مفهوم اصطلاحي تجريبي للتفكير العلمي ما يتيح اساسا مشتركا لإمكان الحوار او الحديث المشترك عن العلاقة بين التراث و الفكر او التفكير العلمي.
تأثير التراث على الفكر:
لعل من الواضح ان ما ذهبت اليه أدبيات نقد العقل العربي من وجود عناصر ثقافية سلبية( معوقات) في التراث الثقافي العربي تعيق او تؤثر سلبا على التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر مبني على مقدمة ضمنية مفادها ان للتراث تأثير على الفكر لأنه ما لم تصح هذه المقدمة الضمنية لا يعد هناك اساس منطقي لاحتمال وجود عناصر في التراث الثقافي العربي تعيق التفكير العلمي. فما حقيقة و طبيعة و قوة علاقة التراث بالفكر؟
ان تأثير التراث على تفكير الورثة أمر تدعمه الملاحظة، و ربما تسنى التثبت من بعض هذا التأثير، كالتأثير الذي مصدره التراث الجيني، من خلال التجارب او البحوث العلمية. و الملاحظ في سائر المجتمعات ان عناصر التراث الثقافي، بما فيها طرق و انماط التفكير، تظل تنتقل من جيل الى جيل و ان كانت درجة ثبات او تغير هذه العناصر على مدار الزمن تختلف من مجتمع الى اخر و من جيل او عصر الى اخر. و لعل من اوضح حالات استمرار التراث و ما يتضمنه من افكار و انماط تفكير في فكر الورثة ما هو ملحوظ من استمرار الاجيال( الورثة) في الالتزام بذات التفكير الديني الذي كان سائدا لدى الاجيال التي ورثت عنها تراثها. و هو ما يعكسه بوضوح ما يلاحظ من انه رغم اختلاف او تماثل الظروف يظل ورثة التراث الاسلامي في الغالب مسلمين و ، الى حد ما، إسلاميي التفكير كما يظل ورثة التراث المسيحي في الغالب مسيحيين و مسيحيي التفكير وورثة التراث البوذي بوذيين و بوذيي التفكير. و بالاضافة الى الملاحظة هناك بعض النصوص الدينية ، و في مقدمتها بعض ايات القران الكريم، التي تدعم القول بان التراث الفكري الديني يؤثر على التفكير الديني للورثة .
و الارجح ان تأثير التراث الثقافي/الفكري على تفكير الورثة لا يقتصر على التفكير الديني بل يمتد، و ان بدرجات متفاوتة، الى سائر مناحي التفكير بما فيها التفكير الاجتماعي و التفكير المهني و التفكير العلمي بل و التفكير المنطقي حيث مثلا تشير بعض الدراسات
[16] الى ان ورثة التراث الطاوي / الصيني تظل طريقة تفكيرهم متميزة عن طريقة تفكير ورثة التراث الارسطي/ الغربي.
على ان التسليم بان التراث الثقافي يؤثر على تفكير الورثة لا يعني ابدا ان هذا التأثير تأثير حتمي او انه تأثير مطلق او كلي اذ لو كان الامر كذلك لما كان ما هو مشاهد من التغير التدريجي و احيانا التحول الكبير و المفاجئ في فكر الاجيال المتتالية ضمن نفس المجموعة الثقافية. و لو لم يكن مثل هذا التغير او التحول الفكري الذي يتنافى مع حتمية و كلية تأثير التراث على الفكر امرا ممكنا لبدت التدابير الالهية و الرسالات السماوية التي تتالت طلبا للتغيير عبثا يتعذر تعقله و لما كان هنالك معنى لدعوات و حركات التغيير الثقافي التي شهدها و يشهدها المجتمع البشري.
و العلاقة بين التراث و الفكر ليس علاقة احادية الاتجاه، اذ كما يؤثر التراث في الفكر كذلك يؤثر الفكر في التراث. و لعل من اوضح شواهد تأثير الفكر على التراث ما نشاهده في مختلف المجتمعات من احلال متواصل للفكر و الثقافة المكتسبين ( من ثقافة العصر) محل الفكر و الثقافة الموروثين و ما يترتب على مثل هذا الإحلال من اشكاليات او صراعات من قبيل ما انشغل المجتمع العربي طويلا في القرن الماضي ببعضها كصراع او اشكالية الاصالة- المعاصرة و اشكالية الجديد- القديم او من قبيل ما يؤرق اليوم المجتمع الدولي عموما كاشكالية زوال بعض الثقافات الموروثة باكملها.
و أمر آخر، لا يقل اهمية عما تقدم،هو ان التأثير المتبادل بين التراث و الفكر لا يعد، من المنظور القيمي او التقييمي، سلبيا بالضرورة و لا ايجابيا بالضرورة في أي اتجاه كان التأثير. و رغم ان هذه الحقيقة من الوضوح بحيث يغني عن ضرب الامثلة الا انها كثيرا ما يطويها النسيان او التناسي/ التجاهل في غمرة البحث عن، او الرغبة في دعم، مقولات او نظريات عامة تنحو الى تصوير التأثير احادي الاتجاه و احادي القيمة.
و اذا ترجح ان العلاقة بين الفكر و التراث الثقافي علاقة ثنائية الاتجاه ثنائية القيمة و ان هذا التأثير المتبادل هو، في كلتا الحالتين، ليس تأثيرا مطلقا بل هو تأثير يتفاوت شدة و ضعفا و سعة و ضيقا و سلبا و ايجابا و وجودا و عدما، ترجح ايضا انه لابد ان هذا التأثير يرتبط بعوامل او ظروف ما تملي ذلك التفاوت. فما هي تلك العوامل التي ترتبط بتأثير التراث الثقافي على الفكر او التفكير العلمي؟
العوامل الثقافية المتصلة بتأثير التراث على الفكر:
الارجح، كما سبقت الاشارة، ان التراث الثقافي انما يؤثر في فكر الورثة في وجود عوامل عديدة منها الثقافية و غير الثقافية و التراثية و غير التراثية . و تتفاوت هذ العوامل من حيث قوة و طبيعة علاقتها بتأثير التراث على الفكر اذ منها ما يعد عوامل ثانوية (مساعدة او معيقة) لا يتوقف عليها تحقق علاقة التراث بالفكر و منها ما يعد عوامل اساسية حيث ان توفرها ضروري لتحقق( او انتفاء) تأثير التراث على الفكر بينما عدم توفرها لتراث ما او لبعض عناصره يترتب عليه ضعف و، ربما، انتفاء تأثير ذلك التراث او العنصر المعني على فكر الورثة. و ليس من اليسير التحديد الدقيق و الشامل للعوامل الاساسية التي ترتبط او تقترن بتأثير التراث الثقافي على فكر الورثة سلبا و ايجابا. و اذا ما صرفنا الحديث الى التأثير السلبي فقط للتراث على الفكر، و ذلك التزاما بالموضوع المحدد، و اكتفينا بذكر بعض العوامل دون محاولة الاستدلال لها ليس قط لان المقام ليس مقام تفصيل و انما ايضا لان المقصود الاساسي هنا هو بيان ارتبط تأثير التراث على الفكر بعوامل معينة ايا كانت هذه العوامل، يمكن القول ان العوامل الثقافية التي ترتبط بالتأثير السلبي لعناصر تراثية ثقافية على تفكير الورثة تتضمن:
ان تكون تلك العناصر عناصر سلبية لان الأرجح في العناصر الايجابية ان يكون تأثيرها ايجابيا و إن كان من المتصور إمكان تحويل او تحول تأثير عنصر سلبي او ايجابي في حد ذاته الى نقيضه.
حضور تلك العناصر السلبية في وعي/لاوعي الورثة ، ذلك انه ليس كل العناصر السلبية في التراث تنتقل الى ورثته و ما لم ينتقل الى الورثة لا يتوقع منه ان يؤثر على تفكيرها. و كلما كان حضور العنصر السلبي مقترنا بالاعتقاد في مضامينه و خلفياته الثقافية و الرمزية و العقدية السلبية كلما كان تأثيره السلبي على الفكر اكبر اما اذا كان الحضور يفتقر لمثل ذلك الاعتقاد فان تأثيره على الفكر يقل وقد ينتفي، و لعل ذلك هو حال الكثير من العادات السلوكية المتوارثة التي تجردت من او انقطعت عن ابعادها الاعتقادية و الرمزية السلبية و كذا حال بعض الحكايات التراثية و المواد الخرافية التي تستذكر او تستعاد احيانا من قبل الورثة لمجرد التسلية او الدراسة العلمية. و ليس من المستبعد تماما في مثل هذه الحالة ان يتحول تأثير العنصر المعني من تأثي سلبي محتمل الى تأثير ايجابي محتمل.
غياب و عي فاعل يؤمن نجاح الو رثة في مقاومة التأثر بالعنصر السلبي المعني لسبب او آخر كالاعتقاد في ضرره او الايمان بعدم صحته او تعارضه مع عنصر اخر مرغوب و قوي الحضور.
ذلك عن تأثير العنصر التراثي السلبي على مطلق، او أي جانب من جوانب، التفكير عند الورثة كالتأثير على، مثلا، مدى الاقبال على التفكير و حجم الانتاج الفكري او نوعه. اما التأثير السلبي على ، تحديدا، الجانب او البعد العلمي للتفكير فيرجح انه يرتبط بعوامل اضافية لعل اهمها:
1. وجود تناقض او تنافر إقصائي بين العنصر المعني و مبدأ التفكير القائم على الدليل او دليل معين أي التفكير العلمي . و الغالب ان تناقض العنصر السلبي مع التفكير القائم على الدليل يكون مقتصرا على التفكير القائم على دليل او ادلة معينة دون دليل او ادلة اخرى كأن يتناقض العنصر السلبي مثلا مع الدليل المنطقي الارسطي بينما لا يتناقض مع الدليل التجريبي او العكس. و قد لا يكون التناقض من العمق و الوسع بحيث يكون على مستوى الدليل بل قد يكون تناقضا محصورا على حقيقة او حقائق علمية معينة.
2. وعي الوارث، سواء على المستوى الجماعي او الفردي، بوجود تناقض اقصائي بين العنصر السلبي و دليل ما او حقيقة علمية معينة و انحيازه، أي الوارث، الى العنصر السلبي في محل التناقض.
إذن، الظاهر ان اشتمال تراث على عناصر ثقافية سلبية مظن اعاقة التفكير العلمي لا يعني بالضرورة ان تلك العناصر فعلا اعاقت او تعيق التفكير العلمي لدى المجتمع الوارث بل يظل تأثير كل عنصر ثقافي سلبي رهنا بعوامل قد و قد لا تتوافر له. و اذا كان ذلك كذلك، فهل ان العناصر التي سبق ذكرها مما اوردته ادبيات نقد العقل العربي كمعوقات ثقافية للعلم و التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر توافرت لها العوامل المطلوبة؟ و هل انها فعلا أعاقت و تعيق ، و الى أي مدى، التفكير العلمي لدى المجتمع العربي المعاصر؟
الاجابة على السؤال المذكور تمثل مناقشة لجانب مهم، و ان كان فرعيا، من تصور ادبيات نقد العقل العربي للمعوقات الثقافية الموروثة للتفكير العلمي في المجتمع العربي. و لكن يستحسن ان نبدأ الاجابة بنظرة اكثر شمولية.

مراجعة تصور ادبيات نقد العقل لمعوقات التفكير العلمي

المتأمل في تصور ادبيات نقد العقل العربي للمعوقات الثقافية للتفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر، في ضوء مجمل ما تقدم من حديث، يجد ان هناك حاجة ماسة الى :

1. على المستوى المفهومي: مراجعة تلك العناصر المحددة كمعوقات ثقافية للتفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر من حيث مفاهيمها و دلالاتها لانه بدون بلورة توافق عام على مفاهيم اكثر وضوحا و دقة لتلك العناصر يصعب بل يتعذر قيام خطاب مشترك و حوار متبادل حولها .
2. على المستوى العلائقي/ التفاعلي: التحقق اكثر من طبيعة و اتجاه و قوة ما تفترضها ضمنيا او تصرح بها تلك الادبيات من علاقات بين تلك العناصر/ المعوقات و كل من التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر و التراث الثقافي العربي وكذلك علاقة تلك العناصر مع بعضها البعض.
3. على المستوى الاحصائي: التحقق- في ضوء (2) اعلاه – مما اذا كانت المعوقات التي اوردتها تلك الادبيات تشمل كل المعوقات الثقافية المهمة او، على الاقل، المعوقات الثقافية الاولى بالتركيز عليها، وهل ان المعوقات الثقافية عموما اكبر تأثيرا و اكثر اهمية في المجتمع العربي المعاصر من – ان كانت هناك- المعوقات غير الثقافية .
من ينظر في العناصر التي اوردتها الادبيات كمعوقات، على المستوى المفهومي يجد، مثلا، ان مفهومي اكثر عنصرين يترددان فيها كمعوقين اساسين للتفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر و هما الخرافة و اللاعقلانية ( المنهج اللاعقلاني) يكتنفهما الكثير من الضبابية و الهلامية. فمفهوم الخرافة يتسع عند البعض لكل ما لم يؤكد العلم التجريبي ثبوته او نفيه أي ان كل ما يقع خارج نطاق المعرفة البشرية التجريبية، بما فيه مثلا وجود الخالق ووجود كائنات كالملائكة، يعتبر من الخرافة او مدلولاتها؛ ثم يضيق المفهوم قليل عند البعض ليعني كل ما انتفى فقط ثبوته بمعنى ان كل خبر او فكرة ثبت كذبها او خطأها يعتبر خرافة، ثم يضيق اكثر ليعني ليس كل ما انتفي ثبوته و انما فقط ما انتفى ثبوته مما يشتمل على خيال او مبالغة او تهويل كبعض الحكايات الشعبية؛ ثم يضيق اكثر فاكثر ليعني ليس كل ما انتفي ثبوته مما فيه خيال و مبالغة و انما فقط ما يتعلق منه بما وراء الطبيعة كقصص الالهة. و لان مفهوم الخرافة يعوزه تحديد دقيق متفق عليه فان العلاقة بينها وبين المفاهيم المشابهة او ذات الصلة كالاسطورة و الغيبيات و ...الخ ظلت تتفاوت بين مستويات او علاقات التطابق و الاشتمال و التقاطع و التمايز.
كذلك مفهوم اللاعقلاني، في ادبيات نقد العقل عموما، يتعدد بقدر تعدد مفاهيم العقلاني/ العقلانية. و اذا كان من الشائع في ادبيات نقد العقل اعتبار الدين، كل دين، خرافة او لا عقلانية فانه حتى العلوم التجريبية لم تسلم من اعتبارها علوما لا تستوفي شرط العقلانية وفقا لبعض مفاهيم العقلانية بينما- في المقابل- ذهب بعض العقلانيين الى انه لا فرق بين المعرفة الدينية و المعرفة العقلانية. و من اشكاليات هذا المفهوم، اي اللاعقلاني، بالاضافة الى التعدد المربك تقريبا، انه كثيرا ما يستخدم للإيحاء بان الموصوف به يعد امرا خطأ مع انه– في اصطلاح البعض- ليس كل لاعقلاني خطأ و ليس كل عقلاني صواب. كذلك كثيرا ما يطلق وصف اللاعقلاني، و الى حد ما وصف الخرافة، بناء على معايير ذاتية / نفعية او ايديولوجية و ليس معايير موضوعية ، و مما قد يذكر بهذا الخصوص ما يقال من ان مجموعة من العلماء، من بينهم 52 من حملة جائزة نوبل، نشرت في حزيران 1993 بيانا تحذر فيه من علم البيئة بوصفه " ايديولوجيا غير عقلانية"
[17]
و كما مفهوما الخرافة و اللاعقلاني، كذالك مفهوم الدين يثير خلافا إذ يوسعه البعض بحيث لا يعد هناك انسان ، مؤمن او ملحد، الا وله دين بينما يضيقه البعض ليشير فقط الى الاديان المعروفة بشعائر تعبدية معينة. و لا يخفى ما للمفهومين و للمفاهيم المندرجة بينهما من تبعات متباينة. و بالمثل يتضح مما سبق ان مفهوم التفكير العلمي ايضا يحتاج الى اعادة نظر وتحديد . و الواقع ان من اهم مصادر الخلل/ الاختلاف في تحديد مفهومي الخرافة و اللاعقلاني هو الخلل/ الاختلاف في تحديد مفهومي العلمي و العقلاني اذ انها مفاهيم مترابطة مع بعضها البعض. واذا كان السائد في ادبيات نقد التراث العربي ان معيار التفكير العلمي هو معيار المنهج التجريبي فقد سبقت الاشارة الى بعض الاوجه التي تقدح في سلامة هذا المعيار. و معلوم ان من شأن اعتلال المعيار ان يضع كل ما بني عليه موضع الشك حتى يثبت العكس. و مع ان البعض قد يختار معيارا اوسع نسبيا مثل معيار البرهان العقلي الا انه كثيرا ما يتم تضييق مفهوم العقل بحيث لا يعد يتسع لأكثر من العقل الوضعي او الديكارتي.
و هكذا، يبدو انه لابد من تمحيص و تحقيق دلالات و مفاهيم العناصر التي تساق كمعوقات ثقافية للتفكير العلمي، و الذي يحتاج هو الاخر الى تحديد مفهومه، قبل ان يتسنى اجراء حوار او حديث مشترك علمي او عقلاني فعال.
و من شأن عدم و ضوح او عدم دقة او اختلاف المفاهيم ان ينعكس سلبا على تصور او تحديد العلاقة بين تلك المفاهيم بينما من شأن التوافق على دلالات و مفاهيم اكثر دقة و ادعى للتوافق عليها ان يساعد على حسن فهم و تحديد مختلف جوانب العلاقات بينها. و مع ذلك فان اشكالية المفاهيم ليس الا مصدرا واحدا من مصادر اشكالية تصور ادبيات نقد العقل العربي للعلاقة بين التفكير العلمي و العناصر التراثية التي اوردتها كمعوقات لها.
فبينما يبدو انه كما ان تاثير التراث على الفكر لا يبدو تأثيرا كليا مطلقا فكذلك العناصر التراثية التي اوردتها الادبيات كمعوقات للتفكير العلمي ليست علاقتها بالتفكير العلمي علاقة بالضرورة علية مطلقا، اكتفت أدبيات نقد العقل العربي عموما بالوجود المتزامن او الاقتران الظاهري بين ما لاحظته في المجتمع العربي من ضعف او تعثر التفكير العلمي و انتشار تلك العناصر التراثية التي هي مظن التأثير السلبي على التفكير العلمي فيه كمقدمة كافية للاستنتاج بان العناصر المذكورة هي السبب الاساسي او سبب ضعف او تعثر التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر و ، بالتالي، صنفتهاعلى انها المعوقات الثقافية للتفكير العلمي في المجتمع العربي. و بغض النظر عن صحة او عدم صحة هذه العلاقة العلية( المستنتجة) فان منهج الادبيات لتقريرها منهج معيب لان مجرد التزامن او الاقتران لا يكفي للحكم بالعلية و ان كان ذلك هو ما كان سائدا في الفكر الانساني في مراحله البدائية. و من الواضح ان الادبيات قد بنت تصوراتها على الحكم بان ما لاحظته من علاقة التزامن و الاقتران هي علاقة عليه تفيد اعاقة تلك العناصر للتفكير العلمي من دون ايراد ما يكفي من الادلة لاثبات تلك العلية و دون- مثلا- ان تولي اهتماما يذكر للتحقق من توافر او عدم توافر العوامل المطلوبة- ربما بما فيها المذكورة سابقا- لتمكن تلك العناصر من التأثير السلبي على التفكير العلمي بل و دون- للمفارقة- اخضاع هذا الحكم او الاستنتاج لمعيار المنهج التجريبي الذي حددته اكثرها كمعيار أوحد للعلم و التفكير العلمي و الحقيقة العلمية.
و نحسب ان تركيز الادبيات على علية تلك العلاقة جعلها تغفل او تهمل الجوانب الاخرى المحتملة لتلك العلاقة مما جعلها، او بعضها، احيانا تسئ التقدير او الحكم . و، على سبيل المثال، ربما ما كان لبعض أدبيات نقد العقل العربي ان تضخم كثيرا دور الخرافة/ اللاعقلاني في إعاقة العلم/ التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر لو انها أخذت في الاعتبار ان تلك العلاقة قد لا تكون، على الاقل احيانا او في بعض الحالات،علية و ان هنالك جوانب تتضمن احتمالات اخرى للعلاقة بين الخرافة/ اللاعقلاني و بين العلم/ التفكير العلمي، و من تلك الجوانب- مثلا :
1- ظاهرة تعايش الخرافة/ اللاعقلاني مع العلم ليس فقط على مستوى المجتمع او العقل الجماعي و انما حتى على مستوى الفرد. و هذا التعايش ما انفك ملحوظا حتى في سائر الحضارات الاكثر عطاء علميا بما فيها اقدم الحضارات المعروفة كالبابلية و الإغريقية أو أوسطها كالإسلامية أو أحدثها ممثلة في الحضارة الغربية المعاصرة. فمجتمع الحضارة البابلية الذي- من جانب- بلغ ، وفقا لبعض المراجع، شأوا كبيرا في علوم الرياضيات و الفلك و الطب و التقويم حتى ان بعض نظمهم التقويمية ما زالت متبعة في التقويم المعاصر كان – في الجانب الآخر- مجتمعا غارقا في الخرافة و اللاعقلاني بما فيها العرافة و السحر و الشعوذة حتى قيل ان البابليين كانوا " حقا ارباب العلم المقدس او علم الهيئة و العرافة حيث يمتزج الدين بالسحر"
[18] . و يبدو ان المجتمع البابلي لم يكن يمانع و لا يرى تناقضا في الجمع بين هذين الجانبين حتى انه يقال ان الطبيب و المعزم[19] كانا يرافقان بعضهما و يذهبان سويا الى المريض للتعاون في معالجته. و مجتمع الحضارة الاغريقية بقدر ما عرف بعلم المنطق و الفلسفة و الاهتمام بالعلم الطبيعي عرف ايضا بأشهر الاساطير. و حتى على المستوى الفردي نجد اشهر فلاسفة مجتمع الحضارة الاغريقية و علمائه يجمعون بين العلم و الخرافة و العقلاني و اللاعقلاني، فالفيلسوف ارسطو، اب المنطق، يقدس الكواكب و الفيلسوف افلاطون يستعين بالاساطير بينما- في الحضارة الرومانية- جالينوس الذي اشتهر بطبه حتى ضرب به المثل لم يكن يرى تناقضا في ان تجمع وصفاته الطبية بين العقاقير العلمية و التعاويذ السحرية. و مجتمع الحضارة الاسلامية الذي يقر له الكثير بالفضل في تأسيس او تطوير المنهج التجريبي لم يصنه لا تفكيره العلمي و لا توحيده العقدي من تغلغل مختلف اشكال و صور الخرافة و اللاعقلانية – التي نشكوا من امتداداتها اليوم- فيه غالبا، و هنا المفارقة، تحت مسمى العلم و مباركة التأويل الديني!. اما مجتمع الحضارة الغربية المعاصرة فلا شيء فيه يبدو اغرب مما لوحظ بشكل اوضح مؤخرا من اقتران التقدم المذهل للعلم و فتوحاته المتسارعة بالصعود المتنامي للاعقلانية و الخرافة و التين يبدو ان المجتمع الغربي يشهد بمختلف فئاته و شرائحه ردة جامحة اليهما. و اذا جاز ان نقارن الاحصائيات المتاحة – رغم تسليمنا بضعف وثوقيتها- كمؤشرات تقريبية لا يبدو ان المجتمع الغربي المشهور بعلمه احسن حالا كثيرا في هذا الجانب من المجتمع العربي / الشرقي المشهور بخرافيته و لاعقلانيته. فاذا كان المجتمع المصري يصرف على العرافة و التنجيم عشرة مليار جنيه سنويا[20] فان المجتمع الفرنسي يصرف لنفس الغرض سبعة مليار فرنك فرنسي سنويا[21] بينما يقال ان المجتمع الايطالي صرف على السحرة عام 1988مليار دولارا[22]. اما المجتمع الامريكي الاوفر حظا من الاختراعات العلمية فلا يبدو انه اقل حظا من غرائب الخرافة و الدجل و اللاعقلاني حيث يقال مثلا ان دخل مركز ميتافيزيقي واحد يبيع و يؤجر المراجع الروحية و التعاويذ و الابخرة يزيد على مائتى الف دولارا في الشهر الواحد[23]. و اذا ما كان الحكام في الحضارات القديمة و بعض حكام الشرق المعاصرين اتخذوا من العراف او المنجم معاونا رسميا او مستشارا سريا فكذلك فعل و يفعل بعض حكام الغرب المعاصرين. تلك بعض الامثلة/ الوقائع عن ظاهرة تعايش العلم / التفكير العلمي مع الخرافة/ اللاعقلاني سواء على مستوى المجتمع او الفرد.
2- لا تقف العلاقة بين العلم/ التفكير العلمي و الخرافة/ اللاعقلاني عند حد امكان التعايش على المستوي الجماعي و الفردي بل بينهما علاقة مباشرة و تداخل ملحوظ و امتدادات متشابكة و تبادل للمواد. و اذا كان من المألوف بهذا الصدد تحول بعض ما بدت حقائق بل اكتشافات علمية، كإكتشاف اشعة أن ( n ) ، الى مجرد اوهام يصدق عليها مفهوم البعض للخرافة فان – في المقابل- بعض ما كانت توصم بالخرافة و الغيبيات من مثل التنويم المغناطيسي و ظاهرة التليباثي بدأ العلم يعيد النظر في الحكم بخرافيتها و غيبيتها تماما كما اعاد النظر في بعض ما كان قد سلم بها لقرون عديدة كحقائق علمية مطلقة مثل مبدأ السببية و قانون الجاذبية . و اذا كانت الاساطير الخرافية لا تخلوا من بعض الحقائق- او انها كما يزعم البعض كانت في الاصل حقائق ثم حرفت و شوهت الى اساطير- فان بعض النظريات المقبولة علميا على نطاق واسع تشتمل او مبنية على اجزاء او أسس تصدق عليها بعض مفاهيم الخرافة او الاسطورة. و ليس بخاف، مثلا، ان نظرية فرويد الشهيرة في الاوساط العلمية تتبنى عقدة اوديب التي لا تقل عنها شهرة في الاوساط المعنية بالاساطير . و ربما مثل هذا التداخل المربك احيانا و النقد المتواصل الذي تتعرض له اسس العلم الطبيعي و منهج المعرفة التجريبية هما مما جعل البعض يتحدث عن "خرافة العلم" بينما تنبأ البعض الاخر بـ "نهاية او موت العلم" في الوقت الذي بدأ فيه البعض يدعو الى رد الاعتبار الى العلوم الغيبية و العرفانية و الروحية. و الواقع- في ما نقدر- ان الصعوبة التي تواجهها المعرفة البشرية في التمييز الفوري و النهائي بين ما هو علم و ما هو غير علم من الخرافات و الاساطير و غيرها لا يعنى بالضرورة عدم وجود حد او فاصل موضوعي بينهما بيد انه يبدو ان هذا الحد ليس حدا مستقيما ونهائيا و ثابتا بل سيظل، في نطاق المعرفة البشرية الحالية، حدا متمعجا و متحركا مع تذبذب و تحرك المعرفة البشرية.
3- رغم الاختلاف و التباين بينهما فان الخرافة/ اللاعقلاني، كما العلم/ التفكير العلمي، مصدره العقل- العقل كعملية- أي ان المصدر واحد. كذلك فان الخرافة/ اللاعقلاني، كما العلم/ التفكير العلمي، الدافع اليه هو حب الانسان للمعرفة و شغفه بالتفسير أي ان الدافع اليهما واحد.
و اذا ما بدا ان العلاقة بين العلم/ التفكير العلمي و الخرافة/ اللاعقلاني علاقة تعايش و تداخل و اشتراك في المصدر و الدافع، فهل لابد ان تكون هذه العلاقة دائما علاقة علية احادية الاتجاه سلبية التأثير؟
نظريا يمكن القول ان التعايش يمكن ان يكون تعايشا سلبيا يضر بأحد او كلا الطرفين، او ايجابيا يفيد احد او كلا الطرفين، او سلبيا- ايجابيا ينطوي على ضرر و نفع لاحد او كلا الطرفين، و لكنه يمكن ان يكون ايضا تعايشا منقطعا لا يضر و لا ينفع ايا من الطرفين. و بالمثل يمكن ان يكون التداخل عنيفا او رفيقا او خليطا منهما. ويمكن ان يصح هذا القول ليس فقط على مستوى البشر و مؤسساتهم او على مستوى الكائنات الحية عموما و انما ايضا – الى حد ما- على مستوى المفاهيم المجردة حتى ما كانت، او بدت، منها متقابلة كالحق و الباطل و القديم و الجديد. و اذا كان ذلك كذلك أي ان الاصل هو تعدد صور و احتمالات التعايش و التداخل عموما ليس من الموضوعية ان نفترض كون التعايش و التداخل بين العلم/ التفكير العلمي و الخرافة/ اللاعقلاني هما بالضرورة على صورة واحدة او احتمال واحد دون ايراد ما يكفي من الادلة التي تنفي او تستبعد الصور و الاحتمالات الاخرى.
و لعله لا خلاف في ما تؤكد عليه ادبيات نقد العقل العربي من الانتشار الواسع لظاهرة الخرافة/ اللاعقلاني في المجتمع العربي المعاصر و اقتران او تزامن هذه الظاهرة مع ظاهرة تعثر و ضعف العلم / التفكير العلمي التجريبي في المجتمع العربي المعاصر فكلتاهما ظاهرتان واقعيتان ربما لا يشك فيهما احد. و لكن ما يتطلب المزيد من التحقيق و الدراسة هو ما يفهم غالبا من تلك الادبيات من ان العلاقة بين الظاهرتين المذكورتين علاقة تتخذ صورة واحدة هي الصورة العلية و قيمة واحدة هي القيمة السلبية و اتجاها احاديا هو اتجاه الخرافة/ اللاعقلاني ← العلم / التفكير العلمي بمعنى ان العلاقة هي فقط علاقة علية سلبية تؤدي الى اضرار الخرافة / اللاعقلاني بالعلم/ التفكير العلمي و هو اضرار يتم التعبير عنه غالبا بالإعاقة او مفاهيم مماثلة. و مما يستدعي مثل هذا التحقيق او الدراسة:
1. منطقيا، ليس هناك، مبلغ فهمنا، ما يستلزم ان تكون العلاقة بين العناصر التراثية التي اوردتها الادبيات كمعوقات و التفكير العلمي التجريبي حتما علاقة علية. فليس الخرافة او اللاعقلاني او الدين مانعا كافيا من التفكير العلمي التجريبي في كل الحالات كما انه ليس انتفاء الخرافة و اللاعقلاني و الدين سببا كافيا لقيام و ازدهار التفكير العلمي التجريبي. و لعل من الملاحظات الاولية ( =غير الثابتة علميا) التي ربما امكن الاستئناس بها لمثل هذا النفي انه لا يبدو، في الواقع، ان المجتمع او الفرد الاكثر خرافة او لاعقلانية او تدينا هو بالضرورة اقل ابداعا او انتاجا علميا ( العلم التجريبي/ الطبيعي) من المجتمع او الفرد الاقل خرافة و لاعقلانية و تدينا او – افتراضا- يخلو منها و منه تماما، بسبب العبء الزائد من الخرافة/ اللاعقلاني/ التدين( أي بافتراض ثوابت العوامل الاخرى). و لا اعلم بهذا الخصوص عن أي دراسة ميدانية اثبتت ان- مثلا- المجتمع او الفرد الملحد( و بالتالي الخالي، وفقا لبعض المفاهيم، من خرافة الدين و الغيبيات) اكثر إبداعا او انتاجا علميا من المجتمع او الفرد المؤمن ( وبالتالي المكبل بخرافة الدين و الغيبيات). و لا ادري ان كانت هنالك دراسات اثبت ان- مثلا- الجماعات الشيوعية/ الملحدة ( التي لا تؤمن بخرافة الدين و الغيبيات) اكثر او احسن ابداعا علميا من الجماعات المؤمنة او ان العالم الملحد الغربي او الشرقي اكثر انتاجا علميا من نظيره المؤمن. على ان عدم ثبوت علاقة علية حتمية او ضرورية و كلية بين متغيرين او اكثر لا يعني عدم وجود علاقة علية احتمالية بينهما. و لذلك يبقى وجود علاقة علية احتمالية بين العناصر المذكورة و التفكير العلمي وارد منطقيا، و لعل الملاحظات الاولية العامة ذات الصلة ترجح وجود هذه العلاقة
2. نظريا، قد تكون وقد لا تكون العلاقة بين الخرافة/ اللاعقلي و العلم/ التفكير العلمي( بالمفهوم التجريبي) في واقع المجتمع العربي المعاصر كما حددتها ادبيات نقد العقل العربي بيد انه لا يمكن التأكد من مصداقية وواقعية ذلك التحديد دون البحث الموضوعي في الاحتمالات الاخرى( المشار اليها آنفا) للعلاقة و التأكد من انتفائها او عدم اهميتها واقعيا وهو ما لم اقف عليه في تلك الادبيات. و ربما امكن التغاضي عن عدم اهتمام ادبيات نقد العقل العربي بدراسة و التأكد من انتفاء او عدم اهمية الاحتمالات الاخرى للعلاقة بين الخرافة/ اللاعقلي و العلم/ التفكير العلمي في واقع المجتمع العربي لو ان هناك دراسات او ادبيات اخرى تحققت عمليا من انتفاء او عدم اهمية مثل تلك الاحتمالات في المجتمعات الاخرى و خاصة الشبيهة بالمجتمع العربي.
3. ان التأكد من انتفاء او عدم اهمية الاحتمالات الاخرى للعلاقة بين الخرافة/ اللاعقلي و العلم/ التفكير العلمي و ان كان ضروريا الا انه لا يكفي علميا لإثبات الاحتمال غير المنفي والمتمثل في هذه الحالة- وفقا لأدبيات نقد العقل العربي- في تعويق الخرافة/ اللاعقلاني للعلم/ التفكير العلمي. اذ مما يتطلبه التثبت من تعويق الخرافة/ اللاعقلاني للعلم و التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر التأكد من توافر الثقافة/ المجتمع العربي المعاصر او – تحديدا- العناصر التي هي مظن اعاقة التفكير العلمي على ما يلزم لتحقق مثل هذه الاعاقة من متطلبات او عوامل ذات صلة سبق لنا ان ذكرنا بعضها. و الحال، كما سبقت الاشارة، ان ادبيات نقد العقل العربي لا تتوافر على مناقشة كافية لمثل تلك المتطلبات والعوامل.
4. تضخيم ادبيات نقد العقل العربي لدور اللاعقلاني و الخرافة في اعاقة العلم و التفكير العلمي التجريبي في المجتمع العربي المعاصر بثير بعض الملاحظات التي تبدو غير منسجمة مع مثل ذلك التضخيم . و من تلك الملاحظات التي لفتت نظري انه بناء على ما تؤكده ذات الادبيات من تغلغل وانتشار اللاعقلاني و الخرافة في مجتمع الحضارة الاسلامية و تتبعها لمدى حضور ذلك اللاعقلاني و الخرافة في اذهان و آثار مختلف شخصيات الحضارة الاسلامية نجد ان اكثر من نبغوا في العلم التجريبي بما فيه علوم الطب و الفلك و الرياضيات و الكيمياء وكذا المنطق و الفلسفة لم يكونوا هم العلماء الابعد او الاقل حظا من اللاعقلاني مثل- وفقا لتصنيفات بعض تلك الادبيات- الفقهاء و انما هم العلماء الاكثر حظا و اقوى تأثرا باللاعقلاني مثل- وفقا لتصنيفات تلك الادبيات ايضا- العرفانيينّّ و بعض الفلاسفة !!. و لعل ظاهر مثل هذه الملاحظة يغرى باستنتاج يناهض بل يناقض ما ذهبت اليه تلك الادبيات من تضخيم لدور اللاعقلاني و الخرافة في اعاقة العلم/التفكير العلمي في المجتمع العربي و– في المقابل- قد يذكّر بما يراه البعض من ان للاساطير الخرافية دور ايجابي في نشوء/ تقدم الفلسفة التي تسمى احيانا ام العلوم في اشارة الى ما يقال بان العلوم الاخرى تفرعت عنها كما يذكر بدور محتمل لبعض الخرافات، كخرافة تحويل المعادن الى ذهب،في تطوير بعض العلوم التجريبية كعلم الكيمياء.
و اذا بدا ما يوحي به ذلك من احتمال وجود علاقة ايجابية بين العلم / التفكير العلمي و اللاعقلاني/ الخرافة في مجتمع الحضارة الاسلامية أمرا غريبا و ربما- عند البعض- لاعقلانيا و خرافيا يبقى هنالك ايحاء اخر هو احتمال ان العلاقة كانت علاقة انقطاعية على مستوى اولئك العلماء بمعنى ان وجود اللاعقلاني و الخرافة عند نبغاء العلم ( التجريبي) في الحضارة الاسلامية لم يكن له أي تأثير على علمهم وانما تواجد فقط لملء الفراغ المعرفي الذي عجز تفكيرهم العلمي عن ملئه باجابات و افكار علمية.
بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"