بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 8 أبريل 2010

نبذ من "اعلام الموقعين"/21

فصل حيلة باطلة لتجويز بيع أم الولد
ومن الحيل الباطلة على ان يطأ أمته وإذا حبلت منه لم تصر أم ولد فله بيعها أن يملكها لولده الصغير ثم يتزوجها ويطؤها فإذا ولدت منه عتق الاولاد على الولد لانهم إخوته ومن ملك أخاه عتق عليه
قالوا فإن خاف ان لا تتمشى هذه الحيلة على قول الجمهور الذين لا يجوزون للرجل ان يتزوج بجارية ابنه وهو قول الامام احمد ومالك والشافعي فالحيلة ان يملكها لذي رحم محرم منه ثم يزوجه إياها فإذا ولدت عتق الولد على ملك ذي الرحم فإذا أراد بيع الجارية فليهبها له فينفسخ النكاح وإن لم يكن له ذو رحم محرم فليملكها أجنبيا ثم يزوجها به فإن خاف من رق الولد فليعلق الاجنبي عتقهم بشرط الولادة فيقول كل ولد تلدينه فهو حر فيكون الاولاد كلهم أحرارا فاذا اراد بيعها بعد ذلك فليتهبها من الاجنبي ثم يبيعها
وهذه الحيلة ايضا باطلة فإن حقيقة التمليك لم توجد إذ حقيقته نقل الملك الى المملك يتصرف فيه كما أحب هذا هو الملك المشروع المعقول المتعارف فأما تمليك لا يتمكن فيه المملك من التصرف إلا بالتزويج وحده فهو تلبيس لا تمليك فإن المملك لو أراد وطأها او الخلوة بها او النظر إليها بشهوة او التصرف فيها كما يتصرف المالك في مملوكه لما امكنه ذلك فإن هذا تمليك تلبيس وخداع ومكر لا تمليك حقيقة بل قد علم الله والمملك والمملك ان الجارية لسيدها ظاهرا وباطنا وأنه لم يطلب قلبه بإخراجها عن ملكة بوجه من الوجوه وهذا التمليك بمنزلة تمليك الاجنبي ماله كله ليسقط عنه زكاته ثم يسترده منه ومعلوم قطعا انه لا حقيقة لهذا التمليك عرفا ولا شرعا ولا يعد

المملك له على هذا الوجه غنيا به ولا يجب عليه به الحج والزكاة والنفقة وأداء الديون ولا يكون به واجدا للطول معدودا في جملة الاغنياء فهذا هو الحقيقة لا التمليك الباطل الذي هو مكر وخداع وتلبيس
فصل حيلة باطلة لرجعة البائن دون علمها
ومن الحيل الباطلة التحيل على رد امرأته بعد ان بانت منه وهي لا تشعر بذلك وقد ذكر ارباب الحيل وجوها كلها باطله فمنها ان يقول لها حلفت يمينا واستفتيت فقيل لي جدد نكاحك فإن كان الطلاق قد وقع وإلا لم يضرك فإذا أجابته قال اجعلى الامر الى في تزويجك ثم يحضر الولى والشهود ويتزوجها فتصير امرأته بعد البينونة وهي لا تشعر فإن لم يتمكن من هذا الوجه فلينتقل الى وجه ثان وهو ان يظهر انه يريد سفرا ويقول لا آمن الموت وانا اريد ان اكتب لك هذه الدار واجعل لك هذا المتاع صداقا بحيث لا يمكن إبطاله وأريد ان اشهد على ذلك فاجعلى أمرك الى حتى اجعله صداقا فإذا فعلت عقد نكاحها على ذلك وتم الامر فإن لم يرد السفر فليظهر انه مريض ثم يقول لها اريد ان اجعل لك ذلك وأخاف ان اقر لك به فلا يقبل فاجعلى امرك الى حتى اجعله صداقا فإذا فعلت احضر وليها وتزوجها فإن حذرت المرأة من ذلك كله ولم يتمكن منه لم يبق له إلا حيلة واحدة وهي ان يحلف بطلاقها او يقول قد حلفت بطلاقك اني اتزوج عليك في هذا اليوم او هذا الاسبوع او اسافر بك وانا اريد ان اتمسك بك ولا ادخل عليك ضرة ولا تسافرين فأجعلى امرك الى حتى اخالعك وأردك بعد انقضاء اليوم وتتخلص من الضرة والسفر فإذا فعلت احضر الشهود والولى ثم يردها
وهذه الحيلة باطلة فإن المرأة إذا بانت صارت اجنبية منه فلا يجوز

نكاحها إلا بإذنها ورضاها وهي لم تأذن في هذا النكاح الثاني ولا رضيت به ولو علمت انها قد ملكت نفسها وبانت منه فلعلها لا ترغب في نكاحه فليس له ان يخدعها على نفسها ويجعلها له زوجة بغير رضاها
فإن قيل إن النبي ص - قد جعل جد النكاح كهزله وغاية هذا انه هازل
قيل هذا ليس بصحيح وليس هذا كالهازل فإن الهازل لم يظهر امرا يريد خلافه بل تكلم باللفظ قاصدا انه لا يلزمه موجبه وذلك ليس اليه بل الى الشارع وأما هذا فماكر مخادع للمرأة على نفسها مظهر انها زوجته وان الزوجية بينهما باقية وهي اجنبية محضة فهو يمكر بها ويخادعها بإظهار انها زوجته وهي في الباطن اجنبية فهو كمن يمكر برجل ويخادعه على أخذ ماله بإظهار انه يحفظه له ويصونه ممن يذهب به بل هذا أفحش لان حرمة البضع أعظم من حرمة المال والمخادعة عليه أعظم من المخادعة على المال والله أعلم
فصل حيلة باطلة لوطء مكاتبته
ومن الحيل الباطلة الحيلة على وطء مكاتبته بعد عقد الكتابة قال ارباب الحيل الحيلة في ذلك أن يهبها لولده الصغير ثم يتزوجها وهي على ملك ابنه ثم يكاتبها لابنه ثم يطؤها بحكم النكاح فإن اتت بولد كانوا احرارا إذ ولده قد ملكهم فإن عجزت عن الكتابة عادت قنا لولده والنكاح بحاله
وهذه الحيلة باطلة على قول الجمهور وهي باطلة في نفسها لأنه لم يملكها لولده تمليكا حقيقيا ولا كاتبها له حقيقة بل خداعا ومكرا وهو يعلم أنها امته ومكاتبته في الباطن وحقيقة الامر وإنما أظهر خلاف ذلك توصلا الى وطء

الفرج الذي حرم عليه بعقد الكتابة فأظهر تمليكا لا حقيقة له وكتابه عن غيره وفي الحقيقة انما هي عن نفسه والله يعلم ما تخفي الصدور
فصل إبطال حيلة العقارب
ومن الحيل المحرمة الباطلة الحيلة التي تسمى حيلة العقارب ولها صور منها ان يوقف داره او أرضه ويشهد على وقفها ويكتمه ثم يبيعها فإذا علم ان المشتري قد سكنها او استغلها بمقدار ثمنها أظهر كتاب الوقف وادعى على المشتري بأجره المنفعة فإذا قال له المشتري أنا وزنت الثمن قال وانتفعت بالدار والارض فلا تذهب المنفعة مجانا ومنها أن يملكها لولده او امرأته ويكتم ذلك ثم يبيعها ثم يدعى بعد ذلك من ملكها على المشتري ويعامله تلك المعاملة وضمنه المنافع تضمين الغاصب ومنها ان يؤجرها لولده او امرأته ويكتم ذلك ثم يؤجرها من شخص آخر فإن ارتفع الكرى اخرج الاجارة الاولى وفسخ إجارة الثاني وإن نقص الكرى أو استمر ابقاها ومنها أن يرهن داره او ارضه ثم يبيعها ويأخذ الثمن فينتفع به مدة فمتى اراد فسخ البيع واسترجاع المبيع أظهر كتاب الرهن
وأمثال هذه العقارب التي يأكل بها أشباه العقارب أموال الناس بالباطل ويمشيها لهم من رق علمه ودينه ولم يراقب الله ولم يخف مقامه تقليدا لمن قلد قوله في تضمن المقبوض بالعقد الفاسد تضمين الغاصب فيجعل قوله إعانة لهذا الظالم المعتدى على الاثم والعدوان ولا يجعل القول الذي قاله غيره إعانة للمظلوم على البر والتقوى وكأنه اخذ بشق الحديث وهو انصر أخاك ظالما أو مظلوما واكتفى بهذه الكلمة دون ما بعدها وقد أعاذ الله احدا من الائمة من تجويز الاعانة على الاثم والعدوان ونصر الظالم وإضاعة حق المظلوم جهارا وذلك الامام وان قال إن المقبوض بالعقد الفاسد يضمن ضمان المغصوب فإنه لم يقل

إن المقبوض به على هذا الوجه الذي هو حيلة ومكر وخداع وظلم محض للمشتري وغرور له يوجب تضمينه وضياع حقه وأخذ ماله كله وإيداعه في الحبس على ما بقى وإخراج الملك من يده فإن الرجل قد يشتري الارض او العقار وتبقى في يده مدة طويلة تزيد اجراتها على ثمنها اضعافا مضاعفة فيؤخذ منه العقار ويحسب عليه ثمنه من الاجرة ويبقى الباقي بقدر الثمن مرارا فربما أخذ ما فوقه وما تحته وفضلت عليه فضله فيجتاح الظالم الماكر ماله ويدعه على الارض الخالية
فحاشا إماما واحدا من أئمة الاسلام ان يكون عونا لهذا العقرب الخبيث على هذا الظلم والعدوان والواجب عقوبة مثل هذا العقوبة التي تردعه عن لدغ الناس والتحيل على استهلاك اموال الناس وان لا يمكن من طلب عوض المنفعة إما على أصل من لا يضمن منافع الغصب وهم الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أصحها دليلا فظاهر وأما من يضمن الغاصب كالشافعي وأحمد في الرواية الثانية فلا يتأتى تضمين هذا على قاعدته فإنه ليس بغاصب وإنما استوفى المنفعة بحكم العقد فإذا تبين ان القعد باطل وان البائع غره لم يجب عليه ضمان فإنه إنما دخل على ان ينتفع بلا عوض وان يضمن المبيع بثمنه لا بقيمته فإذا تلف المبيع بعد القبض تلف من ضمانه بثمنه فإذا انتفع به انتفع بلا عوض لأنه على ذلك دخل ولو قدر وجوب الضمان فإن الغار هو الذي يضمن لانه تسبب الى إتلاف مال الغير بغروره وكل من أتلف مال غيره بمباشرة أو سبب فإنه يضمنه ولا بد ولا يقال المشتري هو الذي باشر الإتلاف وقد وجد متسبب ومباشر فيحال الحكم على المباشر فإن هذا غلط محض ههنا فإن المضمون هو مال المشتري الذي تلف عليه بالتضمين وإنما تلف بتسبب الغار وليس ههنا مباشر يحال عليه الضمان
فإن قيل فهذا إنما يدل على أنا إذا ضمنا المغرور فهو يرجع على الغار ولا يدل على تضمين الغار ابتداء

قيل هذا فيه قولان للسلف والخلف وقد نص الامام احمد على ان من اشترى ارضا فبنى فيها أو غرس ثم استحقت فللمستحق قلع ذلك قلع ذلك ثم يرجع المشتري على البائع بما نقص ونص في موضع آخر انه ليس للمستحق قلعه إلا ان يضمن نقصه ثم يرجع به على البائع وهذا افقه النصين وأقربهما الى العدل فإن المشتري غرس وبنى غرسا وبناء مأذونا فيه وليس ظالما به فالعرق ليس بظالم فلا يجوز للمستحق قلعه حتى يضمن له نقصه والبائع هو الذي ظلم المستحق ببيعه ماله وغر المشتري ببنائه وغراسه فإذا أراد المستحق الرجوع في عين ماله ضمن للمغرور ما نقص بقلعه ثم يرجع به على الظالم وكان تضمينه له اولى من تضمين المغرور ثم تمكينه من الرجوع على الغار
ونظير هذه المسألة ما لو قبض مغصوبا من غاصبه ببيع او عارية او اتهاب أو إجارة وهو يظن انه مالك لذلك او مأذون له فيه ففيه قولان احدهما أن المالك مخير بين تضمين أيهما شاء وهذا المشهور عند أصحاب الشافعي واحمد ثم قال أصحاب الشافعي إن ضمن المشتري وكان عالما بالغصب لم يرجع بما ضمن على الغاصب وان لم يعلم نظرت فيما ضمن فإن التزام ضمانه بالعقد كبدل العين وما نقص منها لم يرجع به على الغاصب لان الغاصب لم يغره بل دخل معه على ان يضمنه وهذا التعليل يوجب ان يرجع بما زاد على ثمن المبيع إذا ضمنه لأنه إنما التزم ضمانه بالثمن لا بالقيمة فإذا ضمنه إياه بقيمته رجع بما بينهما من التفاوت قالوا وإن لم يلتزم ضمانه نظرت فإن لم يحصل له في مقابلته منفعة كقيمة الولد ونقصان الجارية بالولادة رجع به على الغاصب لانه غره ودخل معه على انه لا يضمنه وإن حصلت له به في مقابلته منفعة كالأجرة والمهر وأرش البكارة ففيه قولان احدهما يرجع به لانه غره ولم يدخل معه على أن يضمنه والثاني لا يرجع لانه حصل له في مقابلته منفعة وهذا التعليل ايضا يوجب على هذا القول ان يرجع بالتفاوت الذي بين المسمى ومهر المثل واجرة المثل اللذين ضمنهما فإنه إنما دخل على الضمان بالمسمى لا بعوض المثل والمنفعة التي حصلت

له إنما هي بما التزمه من المسمي ومذهب الامام احمد واصحابه نحو ذلك
وعقد الباب عندهم انه يرجع اذا غره على الغاصب بما لم يلتزم ضمانه خاصة فإذا غرم وهو مودع او متهب قيمة العين والمنفعة رجع بهما لأنه لم يلتزم ضمانا وان ضمن وهو مستأجر قيمة العين والمنفعة رجع بقيمة العين والقدر الزائد على ما بذله من عوض المنفعة وقال اصحابنا لا يرجع بما ضمنه من عوض المنفعة لأنه دخل على ضمانه فيقال لهم نعم دخل على ضمانه بالمسمى لا يعوض المثل وان كان مشتريا وضمن قيمة العين والمنفعة فقالوا يرجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين لانه التزم ضمان العين ودخل على استيفاء المنفعة بلا عوض والصحيح انه يرجع بما زاد من قيمة العين على الثمن الذي بذله وان كان مستعيرا وضمن قيمة العين والمنفعة رجع بما غرمه من ضمان المنفعة لأنه دخل على استيفائها مجانا ولم يرجع بما ضمنه من قيمة العين لأنه دخل على ضمانها بقيمتها
وعن الإمام أحمد رواية أخرى ان ما حصل له منفعة تقابل ما غرم كالمهر والاجرة في المبيع وفي الهبة وفي العارية وكقيمة الطعام اذا قدم له او وهب منه فأكله فإنه لا يرجع به لانه استوفى العوض فإذا غرم عوضه لم يرجع به والصحيح قوله الاول لانه لم يدخل على استيفائه بعوض ولو علم انه يستوفيه بعوضه لم يدخل على ذلك ولو علم الضيف ان صاحب البيت او غيره يغرمه الطعام لم يأكله ولو ضمن المالك ذلك كله للغاصب جاز ولم يرجع على القابض إلا بما يرجع به عليه فيرجع عليه اذا كان مستأجرا بما غرمه من الاجرة وعلى القول الذي اخترناه إنما يرجع عليه بما التزمه من الاجرة خاصة ويرجع عليه اذا كان مشتريا بما غرمه من قيمة العين وعلى القول الآخر انما يرجع عليه بما بذله من الثمن ويرجع عليه اذا كان مستعيرا بما غرمه من قيمة العين إذ لا مسمى هناك

وإذا كان متهبا او مودعا لم يرجع عليه بشيء فإن كان القابض من الغاصب هو المالك فلا شيء له بما استقر عليه لو كان أجنبيا وما سواه فعلى الغاصب لانه لا يجب له على نفسه شيء وأما مالا يستقر عليه لو كان اجنبيا بل يكون قراره على الغاصب فهو على الغاصب ايضا ههنا
والقول الثاني انه ليس للمالك مطالبة المغرور ابتداء كما ليس له مطالبته قرارا وهذا هو الصحيح ونص عليه الامام احمد في المودع اذا أودعها يعنى الوديعة عند غيره من غير حاجة فتلفت فإنه لا يضمن الثاني اذا لم يعلم وذلك لانه مغرور
وطرد هذا النص انه لا يطالب المغرور في جميع هذه الصور وهو الصحيح فإنه مغرور ولم يدخل على انه مطالب فلا هو التزم المطالبة ولا الشارع الزمه بها وكيف يطالب المظلوم المغرور ويترك الظالم الغار ولا سيما ان كان محسنا بأخذه الوديعة وما على المحسنين من سبيل انما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق وهذا شأن الغار الظالم
وقد قضى عمر بن الخطاب
رضي الله عنه ان المشتري المغرور بالامة اذا وطئها ثم خرجت مستحقة واخذ منه سيدها المهر رجع به على البائع لانه غره وقضى علي كرم الله وجهه انه لا يرجع به لانه استوفي عوضه
وهاتان الروايتان عن الصحابة هما قولان للشافعي وروايتان عن الامام احمد ومالك اخذ بقول عمر وابو حنيفة اخذ بقول على كرم الله وجهه وقول عمر افقه لانه لم يدخل على انه يستمتع بالمهر وانما دخل على الاستمتاع بالثمن وقد بذله وايضا فالبائع ضمن له بعقد البيع سلامة الوطء كما ضمن له سلامة الولد فكما يرجع عليه بقيمة الولد يرجع عليه بالمهر
فإن قيل فما تقولون في اجرة الاستخدام اذا ضمنه اياها المستحق هل يرجع بها على الغار

قلنا نعم يرجع بها وقد صرح بذلك القاضي واصحابه وقد قضى امير المؤمنين على كرم الله وجهه ايضا بأن الرجل اذا وجد امرأته برصاء او عمياء او مجنونة فدخل بها فلها الصداق ويرجع به على من غره وهذا محض القياس والميزان الصحيح لان الولى لما لم يعلمه وأتلف عليه المهر لزمه غرمه
فإن قيل هو الذي أتلفه على نفسه بالدخول
قيل لو علم أنها كذلك لم يدخل بها وإنما دخل بها بناء على السلامة التي غره بها الولى ولهذا لو علم العيب ورضى به ودخل بها لم يكن هناك فسخ ولا رجوع ولو كانت المرأة هي التي غرته سقط مهرها
ونكتة المسألة ان المغرور إما محسن وإما معذور وكلاهما لا سبيل عليه بل ما يلزم المغرور باستلزامه له لا يسقط عنه كالثمن في المبيع والاجرة في عقد الاجارة
فإن قيل فالمهر قد التزمه فكيف يرجع به
قيل إنما التزامه في محل سليم ولم يلتزمه في معيبة ولا أمة مستحقة فلا يجوز ان يلزم به
فإن قيل فهذا ينتقض عليكم بالنكاح الفاسد فإن النبي ص - ألزمه فيه بالصداق بما استحل من فرجها وهو لم يلتزمه إلا في نكاح صحيح
قيل لما أقدم على الباطل لم يكن هناك من غره بل كان هو الغار لنفسه فلا يذهب استيفاء المنفعة فيه مجانا وليس هناك من يرجع عليه بل لو فسد النكاح بغرور المرأة سقط مهرها أو بغرور الولى رجع عليه

فصل حيل باطلة لتجويز العينة
ومن الحيل المحرمة الباطلة التحيل على جواز مسألة العينة مع انها حيلة في نفسها على الربا وجمهور الائمة على تحريمها
وقد ذكر أرباب الحيل لاستباحتها عدة حيل منها ان يحدث المشتري في السلعة حدثا ما تنقص به او تتعيب فحينئذ يجوز لبائعها ان يشتريها بأقل مما باعها ومنها ان تكون السلعة قابلة للتجزيء فيمسك منها جزءا ما ويبيعه بقيتها ومنها ان يضم البائع الى السلعة سكينا او منديلا أو حلقة حديدا او نحو ذلك فيملكه المشتري ويبيعه السلعة بما يتفقان عليه من الثمن ومنها ان يهبها المشتري لولده او زوجته او من يثق به فيبيعها الموهوب له من بائعها فإذا قبض الثمن اعطاه للواهب ومنها ان يبيعه إياها نفسه من غير إحداث شيء ولا هبة لغيره لكن يضم الى ثمنها خاتما من حديد او منديلا او سكينا ونحو ذلك
ولا ريب ان العينة على وجهها أسهل من هذا التكلف واقل مفسدة وان كان الشارع قد حرم مسألة العينة لمفسدة فيها فإن المفسدة لا تزول بهذه الحيلة بل هي بحالها وانضم اليها مفسدة أخرى اعظم منها وهي مفسدة المكر والخداع واتخاذ أحكام الله هزوا وهي أعظم المفسدتين وكذلك سائر الحيل لا تزيل المفسدة التي حرم لاجلها وإنما يضم اليها مفسدة الخداع والمكر وإن كانت العينة لا مفسدة فيها فلا حاجة الى الاحتيال عليها ثم ان العينة في نفسها من ادنى الحيل الى الربا فإذا تحيل عليها المحتال صارت حيلا متضاعفة ومفاسد متنوعة والحقيقة والقصد معلومان لله وللملائكة وللمتعاقدين ولمن حضرهما من الناس فليصنع أرباب الحيل ما شاءوا وليسلكوا أية طريق سلكوا فإنهم لا يخرجون

بذلك عن بيع مائة بمائة وخمسين الى سنة فليدخلوا محلل الربا او يخرجوه فليس هو المقصود والمقصود معلوم والله لا يخادع ولا تروج عليه الحيل ولا تلبس عليه الامور
فصل حيلة باطلة في البيع
ومن الحيل المحرمة الباطلة إذا اراد ان يبيع سلعة بالبراءة من كل عيب ولم يأمن ان يردها عليه المشتري ويقول لم يعين لي عيب كذا وكذا أن يوكل رجلا غريبا لا يعرف في بيعها ويضمن للمشتري درك المبيع فإذا باعها قبض منه رب السلعة الثمن فلا يجد المشتري من يرد عليه السلعة
وهذا غش حرام وحيلة لا تسقط المأثم فإن علم المشتري بصورة الحال فله الرد وإن لم يعلم فهو المفرط حيث لم يضمن الدرك المعروف الذي يتمكن من مخاصمته فالتفريط من هذا والمكر والخداع من ذلك
فصل حيل باطلة لاسقاط الاستبراء
ومن الحيل المحرمة الباطلة ان يشتري جارية ويريد وطأها بملك اليمين في الحال من غير استبراء فله عدة حيل منها أن يزوجه إياها البائع قبل ان يبيعها منه فتصير زوجته ثم يبيعه إياها فينفسخ النكاح ولا يجب عليه استبراء لأنه ملك زوجته وقد كان وطؤها حلالا له بعقد النكاح فصار حلالا بملك اليمين ومنها أن يزوجها غيره ثم يبيعها من الرجل الذي يريد شراءها فيملكها مزوجة وفرجها عليه حرام فيؤمر الزوج بطلاقها فإذا فعل حلت للمشتري ومنها أن مشتريها لا يقبضها حتى يزوجها من عبده او غيره ثم يقبضها بعد التزويج فإذا قبضها طلقها الزوج فيطؤها سيده بلا استبراء

قالوا فإن خاف المشتري ان لا يطلقها الزوج استوثق بأن يجعل الزوج أمرها بيد السيد فإذا فعل طلقها هو ثم وطئها بلا استبراء
ولا يخفى نسبة هذه الحيل الى الشرع ومحلها منه وتضمنها ان بائعها يطؤها بكرة ويطؤها المشتري عشية وان هذا مناقض لما قصده الشارع من الاستبراء ومبطل لفائدة الاستبراء بالكلية
ثم إن هذه الحيل كما هي محرمة فهي باطلة قطعا فإن السيد لا يحل له ان يزوج موطوأته حتى يستبرئها وإلا فكيف يزوجها لمن يطؤها ورحمها مشغول بمائه وكذلك إن اراد بيعها وجب عليه استبراؤها على أصح القولين صيانة لمائه ولا سيما إن لم يأمن من وطء المشتري لها بلا استبراء فههنا يتعين عليه الاستبراء قطعا فإذا أراد زوجها حيلة على إسقاط حكم الله وتعطيل أمره كان نكاحا باطلا لإسقاط ما اوجبه الله من الاستبراء وإذا طلقها الزوج بناء على صحة هذا النكاح الذي هو مكر وخداع واتخاذ لآيات الله هزوا لم يحل للسيد أن يطأها بدون الاستبراء فإن الاستبراء وجب عليه بحكم الملك المتجدد والنكاح العارض حال بينه وبينه لانه لم يكن يحل له وطؤها فإذا زال المانع عمل المقتضى عمله وزوال المانع لا يزيل اقتضاء المقتضى مع قيام سبب الاقتضاء منه وأيضا فلا يجوز تعطيل الوصف عن موجبه ومقتضاه من غير فوات شرط او قيام مانع وبالجملة فالمفسدة التي منع الشارع المشتري لأجلها من الوطء بدون الاستبراء لم تزل بالتحيل والمكر بل انضم اليها مفاسد المكر والخداع والتحيل
فيالله العجب من شيء حرم لمفسدة فإذا انضم اليه مفسدة اخرى هي اكبر من مفسدته بكثير صار حالا فهو بمنزلة لحم الخنزير إذا ذبح كان حراما فإن مات حتف أنفه او خنق حتى يموت صار حلالا لأنه لم يذبح قال الامام احمد

هو حرام من وجهين وهكذا هذه المحرمات اذا احتيل عليها صارت حراما من وجهين وتأكد تحريمها
والذي يقضى منه العجب انهم يجمعون بين سقوط الاستبراء بهذة الحيل وبين وجوب استبراء الصغيرة التي لم توطأ ولا يوطأ مثلها وبين استبراء البكر التي لم يقرعها فحل واستبراء العجوز الهرمة التي قد أيست من الحبل والولادة واستبراء الامة التي يقطع ببراءة رحمها ثم يسقطون مع العلم بان رحمها مشغول فأوجبتموه حيث لم يوجبه الشارع وأسقطتموه حيث اوجبه
قالوا وليس هذا بعجيب من تناقضكم بل واعجب منه إنكار كون القرعة طريقا لإثبات الحكم مع ورود السنة الصحيحة عن النبي ص - وعن أصحابه بها وإثبات حل الوطء بشهادة شاهدي زور يعلم الزوج الواطيء انهما شهدا بالزور على طلاقها حتى يجوز لاحد الشاهدين ان يتزوجها فيثبت الحل بشهادتهما
واعجب من ذلك انه لو كان له امة هي سرية يطؤها كل وقت لم تكن فراشا له ولو ولدت لم يلحقه الولد ولو تزوج امرأة ثم قال بحضرة الحاكم والشهود في مجلس العقد هي طالق ثلاثا وكانت بأقصى المشرق وهو بأقصى المغرب صارت فراشا بالعقد فلو أتت بعد ذلك بولد لأكثر من ستة أشهر لحقه نسبه
واعجب من ذلك قولكم لو منع الذمى دينارا واحدا من الجزية وقال لا أؤديه انتقض عهده وحل ماله ودمه ولو سب الله ورسوله وكتابه على رؤوسنا أقبح سب وحرق أفضل المساجد على الاطلاق واستهان بالمصحف بين أيدينا أعظم استهانة وبذل ذلك الدينار فعهده باق ودمه معصوم
ومن العجيب تجويز قراءة القرآن بالفارسية ومنع رواية الحديث بالمعنى

ومن العجب إخراج الاعمال عن مسمى الايمان وإنه مجرد التصديق والناس فيه سواء وتكفير من يقول مسيجد او فقيه او يصلى بلا وضوء او يلتذ بآلات الملاهى ونحو ذلك
ومن العجب إسقاط الحد عمن استأجر امرأة للزنا او لكنس بيته فزنا بها وإيجابه على من وجد امرأة اجنبية على فراشه في الظلمة فجامعها يظنها امرأته
ومن العجب التشديد في المياه حتى تنجس القناطير المقنطرة منها بقطرة بول او قطرة دم وتجويز الصلاة في ثوب ربعه مضمخ بالنجاسة فإن كانت مغلظة فبقدر راحة الكف
ومن العجب انه لو شهد عليه اربعة بالزنا فكذب الشهود حد وإن صدقهم سقط عنه الحد
ومن العجب انه لا يصح استئجار دار لتتخذ مسجدا يعبد الله فيه ويصبح استئجارها لتجعل كنيسة يعبد فيها الصليب أو بيت نار تعبد فيها النار
ومن العجب انه لوضحك في صلاة فقهقه بطل وضوءه ولو غنى في صلاته او قذف المحصنات او شهد الزور ونحو ذلك فوضوءه بحاله
ومن العجب انه لو وقع في البئر نجاسة نزح منها أدلاء معدودة فإذا حصل الدلو في البئر تنجس وغرف الماء نجسا وما اصاب حيطان البئر من ذلك الماء نجسها وكذلك فما بعده من الدلاء الى ان تنتهي النوبة الى الدلو الاخير فإنه ينزل نجسا ثم يصعد طاهرا فيقشقش النجاسة كلها من قعر البئر الى رأسه قال بعض المتكلمين ما رأيت اكرم من هذا الدلو ولا أعقل
ومن العجب انه لو حلف انه لا يأكل فاكهة حنث بأكل الجوز واللوز

والفستق ولو كان يابسا قد أتت عليه السنون ولا يحنث بأكل الرطب والعنب والرمان وأعجب من ذلك تعليل هذا بأن هذه الثلاثة من خيار الفاكهة وأعلى أنواعها فلا تدخل في الاسم المطلق
ومن العجب انه لو حلف ان لا يشرب من النيل او الفرات او دجلة فشرب بكفه او بكوز او دلو من هذه الانهار لم يحنث فإذا شرب بفيه مثل البهائم حنث
ومن العجب انه لو نام في المسجد وأغلقت عليه الابواب ودعته الضرورة الى الخلاء فطاق القبلة ومحراب المسجد اولى بذلك من مؤخر المسجد
ومن العجب امر هذه الحيل التي لا يزداد بها المنهى عنه إلا فسادا مضاعفا كيف تباح مع تلك المفسدة الزائدة بالمكر والخداع وتحرم بدونها وكيف تنقلب مفاسدها بالحيل صلاحا وتصير خمرتها خلا وخبثها طيبا
قالوا فهذا فصل في الاشارة الى بيان فساد هذه الحيل على وجه التفصيل كما تقدم الاشارة الى فسادها وتحريمها على وجه الاجمال ولو تتبعناها حيلة حيلة لطال الكتاب ولكن هذه امثلة يحتذى عليها والله الموفق للصواب
فصل رأى لأصحاب الحيل والرد عليه
قال أرباب الحيل قال الله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا والحيل مخارج من المضائق
والجواب انما بذكر قاعدة في اقسام الحيل ومراتبها فنقول وبالله التوفيق هي أقسام
الطرق الخفية التي يتوصل بها الى المحرم
القسم الاول الطرق الخفية التي يتوصل بها الى ما هو محرم في نفسه بحيث لا يحل بمثل ذلك السبب بحال فمتى كان المقصود بها محرما في نفسه فهى حرام باتفاق المسلمين وذلك كالحيل على أخذ اموال الناس وظلمهم في نفوسهم وسفك دمائهم وابطال حقوقهم وإفساد ذات بينهم وهي من جنس حيل الشياطين

على إغواء بني آدم بكل طريق وهم يتحيلون عليهم ليوقعوهم في واحدة من ستة ولابد فيتحيلون عليهم بكل طريق أن يوقعوهم في الكفر والنفاق على اختلاف انواعه فإذا عملت حيلهم في ذلك قرت عيونهم فإن عجزت حيلهم عن من صحت فطرته وتلاها شاهد الايمان من ربه بالوحي الذي انزله على رسوله أعملوا الحيلة في إلقائه في البدعة على اختلاف انواعها وقبول القلب لها وتهيئته واستعداده فإن تمت حيلهم كان ذلك احب اليهم من المعصية وان كانت كبيرة ثم ينظرون في حال من استجاب لهم الى البدعة فإن كان مطاعا متبوعا في الناس أمروه بالزهد والتعبد ومحاسن الاخلاق والشيم ثم أطاروا له الثناء بين الناس ليصطادوا عليه الجهال ومن لا علم عنده بالسنة وإن لم يكن كذلك جعلوا بدعته عونا له على ظلمه اهل السنة وأذاهم والنيل منهم وزينوا له ان هذا انتصار لما هم عليه من الحق فإن أعجزتهم هذه الحيلة ومن الله على العبد بتحكيم السنة ومعرفتها والتمييز بينها وبين البدعة ألقوه في الكبائر وزينوا له فعلها بكل طريق وقالوا له انت على السنة وفساق اهل السنة اولياء الله وعباد أهل البدعة أعداء الله وقبور فساق أهل السنة روضة من رياض الجنة وقبور عباد أهل البدع حفرة من حفر النار والتمسك بالسنة يكفر الكبائر كما ان مخالفة السنة تحبط الحسنات واهل السنة إن قعدت بهم اعمالهم قامت بهم عقائدهم واهل البدع إذا قامت بهم أعمالهم قعدت بهم عقائدهم واهل السنة هم الذين احسنوا الظن بربهم إذ وصفوه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ووصفوه بكل كمال وجلال ونزهوه عن كل نقص والله تعالى عند ظن عبده به واهل البدع هم الذين يظنون بربهم ظن السوء إذ يعطلونه عن صفات كماله وينزهونه عنها وإذ عطلوه عنها لزم اتصافه باضدادها ضرورة ولهذا قال الله تعالى في حق من أنكر صفة واحدة من صفاته وهي صفة العمل ببعض الجزئيات وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين وأخبرهم عن الظانين بالله ظن السوء أن عليهم دائرة

السوء وغضب الله عليهم ولعنهم واعد لهم جهنم وساءت مصيرا فلم يتوعد بالعقاب أحدا أعظم ممن ظن به ظن السوء وأنت لاتظن به ظن السوء فمالك وللعقاب وأمثال هذا من الحق الذي يجعلونه وصلة لهم وحيلة إلى الاستهانة بالكبائر وأخذه الأمن لنفسه
وهذه حيلة لا ينجو منها إلا الراسخ في العلم العارف بأسماء الله وصفاته فإنه كلما كان بالله أعرف كان له أشد خشية وكلما كان به أجهل كان أشد غرورا به وأقل خشية
فإن أعجزتهم هذه الحيلة وعظم وقار الله في قلب العبد هونوا عليه الصغائر وقالوا له إنها تقع مكفرة باجتناب الكبائر حتى كأنها لم تكن وربما متوه انه إذا تاب منها كبائر كانت او صغائر كتب له مكان كل سيئة حسنة فيقولون له كثر منها ما استطعت ثم اربح مكان كل سيئة حسنة بالتوبة ولو قبل الموت بساعة فإن أعجزتهم هذه الحيلة وخلص الله عبده منها نقلوه الى الفضول من انواع المباحات والتوسع فيها وقالوا له قد كان لداود مائة امرأة إلا واحدة ثم أراد تكميلها بالمائة وكان لسليمان ابنه مائة امرأة وكان للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان من الاموال ما هو معروف وكان لعبد الله بن المبارك والليث بن سعد من الدنيا وسعة المال ما لا يجهل وينسوه ما كان لهؤلاء من الفضل وأنهم لم ينقطعوا عن الله بدنياهم بل ساروا بها اليه فكانت طريقا لهم الى الله فإن اعجزتهم هذه الحيلة بأن تفتح بصيرة قلب العبد حتى كأنه يشاهد بها الآخرة وما اعد الله فيها لاهل طاعته وأهل معصيته فأخذ حذره وتأهب للقاء ربه واستقصر مدة هذه الحياة الدنيا في جنب الحياة الباقية الدائمة نقلوه الى الطاعات المفضولة الصغيرة الثواب ليشغلوه بها عن الطاعات الفاضلة الكثيرة الثواب فيعمل حيلته في تركه كل طاعة كبيرة الى ما هو دونها فيعمل حيلته في تفويت الفضيلة عليه فإن أعجزتهم هذه الحيلة وهيهات لم يبق لهم إلا حيلة

واحدة وهي تسليط اهل الباطل والبدع والظلمة عليه يؤذونه وينفرون الناس عنه ويمنعونهم من الاقتداء به ليموتوا عليه مصلحة الدعوة الى الله وعليهم مصلحة الإجابة
فهذه مجامع انواع حيل الشيطان ولا يحصى افرادها إلا الله ومن له مسكة من العقل يعرف الحيلة التي تمت عليه من هذه الحيل فإن كانت له همة الى التخلص منها وإلا فيسأل من تمت عليه والله المستعان
وهذه الحيل من شياطين الجن نظير حيل شياطين الانس المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق ويتوصلوا به الى أغراضهم الفاسدة في الامور الدينية والدنيوية وذلك كحيل القرامطة الباطنية على إفساد الشرائع وحيل الرهبان على اشباه الحمير من عابدي الصليب بما يموهون به عليهم من المخاريق والحيل كالنور المصنوع وغيره مما هو معروف عند الناس وكحيل ارباب الاشارات من الاذن والتسيير والتغيير وإمساك الحيات ودخول النار في الدنيا قبل الاخرة وامثال ذلك من حيل اشباه النصارى التي تروج على أشباه الانعام وكحيل أرباب الدك وخفة اليد التي يخفى على الناظرين أسبابها ولا يتفطنون لها وكحيل السحرة على اختلاف أنواع السحر فإن سحر البيان هو من أنواع التحيل إما لكونه بلغ في اللطف والحسن الى حد استمالة القلوب فأشبه السحر من هذا الوجه وإما لكون القادر على البيان يكون قادرا على تحسين القبيح وتقبيح الحسن فهو أيضا يشبه السحر من هذا الوجه ايضا وكذلك سحر الوهم ايضا هو حيلة وهمية والواقع شاهد بتأثير الوهم والايهام الا ترى ان الخشبة التي يتمكن الانسان من المشيء عليها اذا كانت قريبة من الارض لا يمكن المشي عليها اذا كانت على مهواة بعيدة القعر والاطباء تنهى صاحب الرعاف عن النظر الى الشيء الاحمر وتنهى المصروع عن النظر الى الاشياء القوية اللمعان او الدوران فإن النفوس خلقت

مطيعة الاوهام والطبيعة فعالة والاحوال الجسمانية تابعة للاحوال النفسانيه وكذلك السحر بالاستعانة بالارواح الخبيثة إنما هو بالتحيل على استخدامها بالاشراك بها والاتصاف بهيآتها الخبيثة ولهذا لا يعمل السحر إلا مع الانفس الخبيثة المناسبة لتلك الارواح وكلما كانت النفس اخبث كان سحرها اقوى وكذلك سحر التمزيجات وهو أقوى ما يكون من السحر أن يمزج بين القوى النفسانية الخبيثة الفعالة والقوى الطبيعية المنفعلة والمقصود ان السحر من أعظم انواع الحيل التي ينال بها الساحر غرضه وحيل الساحر من أضعف الحيل وأقواها ولكن لا تؤثر تأثيرا مستقرا إلا في الانفس الباطلة المنفعلة للشهوات الضعيفة تعلقها بفاطر الارض والسموات المنقطعة عن التوجه اليه والاقبال عليه فهذه النفوس محل تأثير السحر وكحيل ارباب الملاهي والطرب على استمالة النفوس الى محبة الصور والوصول الى الالتذاذ بها فحيلة السماع الشيطاني على ذلك من أدنى الحيل عليه حتى قيل أول ما وقع الزنا في العالم فإنما كان بحيلة اليراع والغناء لما اراد الشيطان ذلك لم يجد عليه حيلة ادنى من الملاهي وكحيل اللصوص والسراق على اخذ اموال الناس وهم انواع لا تحصى فمنهم السراق بأيديهم ومنهم السراق بأقلامهم ومنهم السراق بأمانتهم ومنهم السراق بما يظهرونه من الدين والفقر والصلاح والزهد وهم في الباطن بخلافه ومنهم السراق بمكرهم وخداهم وغشهم وبالجملة فحيل هذا الضرب من الناس من اكثر الحيل وتليها حيل عشاق الصور على الوصول الى أغراضهم فإنها تقع في الغالب خفية وإنما تتم غالبا على النفوس القابلة المنفعلة الشهوانية وكحيل التتار التي ملكوا بها البلاد وقهروا بها العباد وسفكوا بها الدماء واستباحوا بها الاموال وكحيل اليهود وإخوانهم من الرافضة فإنهم بيت المكر والاحتيال ولهذا ضربت على الطائفتين الذلة وهذه سنة الله في كل مخادع محتال بالباطل

ارباب الحيل نوعان
ثم أرباب هذه الحيل نوعان نوع يقصد به حصول مقصوده ولا يظهر انه حلال كحيل اللصوص وعشاق الصور المحرمة ونحوهما ونوع يظهر صاحبه ان مقصوده خير وصلاح ويبطن خلافه
وأرباب النوع الاول أسلم عاقبة من هؤلاء فإنهم أتوا البيوت من أبوابها والامر من طريقه ووجهه وأما هؤلاء فقلبوا موضوع الشرع والدين ولما كان ارباب هذا النوع إنما يباشرون الاسباب الجائزة ولا يظهرون مقاصدهم أعضل امرهم وعظم الخطب بهم وصعب الاحتراز منهم وعز على العالم استنقاذ قتلاهم فاستبيحت بحيلهم الفروج واخذت بها الاموال من اربابها فأعطيت لغير اهلها وعطت بها الواجبات وضيعت بها الحقوق وعجت الفروج والاموال والحقوق الى ربها عجيجا وضجت مما حل بها اليه ضجيجا ولا يختلف المسلمون ان تعليم هذه الحيل حرام والافتاء بها حرام والشهادة على مضمونها حرام والحكم بها مع العلم بحالها حرام
والذين جوزوا منها ما جوزوا من الائمة لا يجوز ان يظن بهم انهم جوزوه على وجه الحيلة الى المحرم وإنما جوزوا صورة ذلك الفعل ثم إن المتحيل المخادع المكار اخذ صورة ما افتوا به فتوسل به الى ما منعوا منه وركب ذلك على اقوالهم وفتواهم وهذا فيه الكذب عليهم وعلى الشارع مثاله ان الشافعي
رحمه الله تعالى يجوز إقرار المريض لوارثه فيتخذه من يريد ان يوصى لوارثه وسيلة الى الوصية له بصورة الاقرار ويقول هذا جائز عند الشافعي وهذا كذب على الشافعي فإنه لا يجوز الوصية للوارث بالتحيل عليها بالاقرار فكذلك الشافعي يجوز للرجل اذا اشترى من غيره سلعة بثمن ان يبيعه إياها بأقل مما اشتراها منه بناء على ظاهر السلامة ولا يجوز ذلك حيلة على بيع مائة بمائة وخمسين الى سنة فالذي يسد الذرائع يمنع ذلك ويقول هو يتخذ حيلة الى ما حرمه الله ورسوله

فلا يقبل إقرار المريض لوارثه ولا يصح هذا البيع ولا سيما فإن إقرار المرء شهادة على نفسه فإذا تطرق اليها التهمة بطلب كالشهادة على غيره والشافعي يقول أقبل إقراره إحسانا للظن بالمقر وحملا لإقراره على السلامة ولا سيما عند الخاتمة
ومن هذا الباب احتيال المراة على فسخ نكاح الزوج بما يعلمه إياها أرباب المكر والاحتيال بأن تنكر ان تكون أذنت للولى او بان النكاح لم يصح لان الولى او الشهود جلسوا وقت العقد على فراش حرير او استندوا الى وسادة حرير وقد رأيت من يستعمل هذه الحيلة إذا طلق الزوج امرأته ثلاثا وأراد تخليصه من عار التحليل وشناره أرشده الى القدح في صحة النكاح بفسق الولى او الشهود فلا يصح الطلاق في النكاح الفاسد وقد كان النكاح صحيحا لما كان مقيما معها عدة سنين فلما اوقع الطلاق الثلاث فسد النكاح
ومن هذا احتيال البائع على فسخ البيع بدعواه انه لم يكن بالغا وقت العقد او لم يكن رشيدا او كان محجورا عليه او لم يكن المبيع ملكا له ولا مأذونا له في بيعه
أنواع الحيل المحرمة
فهذه الحيل وامثالها لا يستريب مسلم في أنها من كبائر الاثم واقبح المحرمات وهي من التلاعب بدين الله واتخاذ آياته هزوا وهي حرام من جهتها في نفسها لكونها كذبا وزورا وحرام من جهة المقصود بها وهو إبطال حق وإثبات باطل فهذه ثلاثة اقسام
أحدها ان تكون الحيلة محرمة ويقصد بها المحرم
الثاني أن تكون مباحة في نفسها ويقصد بها المحرم فيصير حراما تجريم ! الوسائل كالسفر لقطع الطريق وقتل النفس المعصومة
وهذان قسمان تكون الحيلة فيهما موضوعة للمقصود الباطل المحرم ومفضية اليه كما هي موضوعة للمقصود الصحيح الجائز ومفضية اليه فإن السفر طريق صالح لهذا وهذا

الثالث أن تكون الطريق لم توضع للإفضاء الى المحرم وإنما وضعت مفضية الى المشروع كالإقرار والبيع والنكاح والهبة ونحو ذلك فيتخذها المتحيل سلما وطريقا الى الحرام وهذا معترك الكلام في هذا الباب وهو الذي قصدنا الكلام فيه بالقصد الاول
القسم الرابع أن يقصد بالحيلة اخذ حق او دفع باطل وهذا القسم ينقسم الى ثلاثة اقسام ايضا
أحدها أن يكون الطريق محرما في نفسه وان كان المقصود بها حقا مثل ان يكون له على رجل حق فيجحده ولا بينة له فيقيم صاحبه شاهدي زور يشهدان به ولا يعلمان ثبوت هذا الحق ومثل ان يطلق الرجل امرأته ثلاثا ويجحد الطلاق ولا بينة لها فتقيم شاهدين يشهدان انه طلقها ولم يسمعا الطلاق منه ومثل ان يكون له على رجل دين وله عنده وديعة فيجحد الوديعة فيجحد هو الدين او بالعكس ويحلف ما له عندي حق او ما اودعني شيئا وان كان يجيز هذا من يجيز مسألة الظفر ومثل ان تدعى عليه المرأة كسوة او نفقة ماضية كذبا باطلا فينكر ان تكون مكنته من نفسها او سلمت نفسها اليه او يقيم شاهدي زور انها كانت ناشزا فلا نفقة لها ولا كسوة ومثل ان يقتل الرجل وليه فيقيم شاهدي زور ولم يشهدا القتل فيشهدا انه قتله ومثل ان يموت موروثه فيقيم شاهدي زور انه مات وانه وارثه وهما لا يعلمان ذلك ونظائره ممن له حق لا شاهد له به فيقيم شاهدي زور يشهدان له به فهذا يأثم على الوسيلة دون المقصود وفي مثل هذا جاء الحديث أد الامانة الى من ائتمنك ولا تخن من خانك
فصل انواع من الحيل المباحة
القسم الثاني ان يكون الطريق مشروعة وما يفضى اليه مشروع وهذه

هي الاسباب التي نصبها الشارع مفضية الى مسبباتها كالبيع والاجارة والمساقاة والمزارعة والوكالة بل الاسباب محل حكم الله ورسوله وهي في اقتضائها لمسبباتهم شرعا على وزان الاسباب الحسية في اقتضائها لمسبباتها قدرا فهذا شرع الرب تعالى وذلك قدره وهما خلقه وامره والله له الخلق والامر ولا تبديل لخلق الله ولا تغيير لحكمه فكما لا يخالف سبحانه بالاسباب القدرية احكامها بل يجريها على اسبابها وما خلقت له فهكذا الاسباب الشرعية لا يخرجها عن سببها وما شرعت له بل هذه سنته شرعا وامرا وتلك سنته قضاء وقدرا وسنته الأمرية قد تبدل وتتغير كما يعصى امره ويخالف واما سنته القدرية فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا كما لا يعصى امره الكوني القدري
ويدخل في هذا القسم التحيل على جلب المنافع وعلى دفع المضار وقد ألهم الله تعالى ذلك لكل حيوان فلأنواع الحيوانات من انواع الحيل والمكر ما لا يهتدى اليه بنو آدم
وليس كلامنا ولا كلام السلف في ذم الحيل متناولا لهذا القسم بل العاجز من عجز عنه والكيس من كان به أفطن وعليه أقدر ولا سيما في الحرب فإنها خدعة والعجز كل العجز ترك هذه الحيلة والانسان مندوب الى استعاذته بالله تعالى من العجز والكسل فالعجز عدم القدرة على الحيلة النافعة والكسل عدم الارادة لفعلها فالعاجز لا يستطيع الحيلة والكسلان لا يريدها ومن لم يحتل وقد امكنته هذه الحيلة أضاع فرصته وفرط في مصالحه كما قال ... إذا المرأ لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى امره وهو مدبر ...
وفي هذا قال بعض السلف الامر امران امر فيه حيلة فلا يعجز عنه وامر لا حيلة فيه فلا يجزع منه

فصل قسم آخر من أقسام الحيل المباحة
القسم الثالث ان يحتال على التوصل الى الحق او على دفع الظلم بطريق مباحة لم توضع موصلة الى ذلك بل وضعت لغيره فيتخذها هو طريقا الى هذا المقصود الصحيح او قد يكون قد وضعت له لكن تكون خفية ولا يفطن لها والفرق بين هذا القسم والذي قبله ان الطريق في الذي قبله نصبت مفضية الى مقصودها ظاهرا فسالكها سالك للطريق المعهود والطريق في هذا القسم نصبت مفضية الى غيره فيتوصل بها الى ما لم توضع له فهي في الفعال كالتعريض الجائز في المقال او تكون مفضية اليه لكن بخفاء ونذكر لذلك امثلة ينتفع بها في هذا الباب
المثال الاول اذا استأجر منه دارا مدة سنين بأجرة معلومة فخاف ان يغدر به المكرى في آخر المدة ويتسبب الى فسخ الاجارة بأن يظهر انه لم تكن له ولاية الايجار او ان المؤجر ملك لابنه او امرأته او انه كان مؤجرا قبل ايجاره ويتبين ان المقبوض اجرة المثل لما استوفاه من المدة وينتزع المؤجر له منه فالحيلة في التخلص من هذه الحيلة ان يضمنه المستأجر درك العين المؤجرة له او لغيره فإذا استحقت او ظهرت الاجارة فاسدة رجع عليه بما قبضه منه او يأخذ إقرار من يخاف منه بأنه لا حق له في العين وان كل دعوى يدعيها بسببها فهى باطلة او يستأجرها منه بمائة دينار مثلا ثم يصارفه كل دينار بعشرة دراهم فإذا طالبه بأجرة المثل طالبه هو بالدنانير التي وقع عليها العقد فإنه لم يخف من ذلك ولكن يخاف ان يغدر به في آخر المدة فليقسط مبلغ الاجرة على عدد السنين ويجعل معظمها للسنة التي يخشى غدره فيها وكذلك إذا خاف المؤجر ان يغدر المستأجر ويرحل في اخر المدة فليجعل معظم الاجرة على المدة التي يأمن فيها من رحيله والقدر اليسير منها لآخر المدة

المثال الثاني ان يخاف رب الدار غيبة المستأجر ويحتاج الى داره فلا يسلمها أهله اليه فالحيلة في التخلص من ذلك ان يؤجر هاربها من امرأة المستأجر ويضمن الزوج ان ترد اليه المرأة الدار وتفرغها متى انقضت المدة او تضمن المرأة ذلك إذا استأجرها الزوج فمتى استأجر احدهم وضمن الاخر الرد لم يتمكن احدهما من الامتناع وكذلك إن مات المستأجر فجحد ورثته الاجارة وادعوا ان الدار لهم نفع رب الدار كفالة الورثة وضمانهم رد الدار الى المؤجر فإن خاف المؤجر إفلاس المستأجر وعدم تمكنه من قبض الاجرة فالحيلة ان يأخذ منه كفيلا بأجره ما سكن ابدا ويسمى اجرة كل شهر للضمين ويشهد عليه بضمانه
المثال الثالث ان يأذن رب الدار للمستأجر ان يكون في الدار ما يحتاج اليه او يعلف الدابة بقدر حاجتها وخاف ان لا يحتسب له ذلك من الاجرة فالحيلة في اعتداده به عليه ان يقدر ما يحتاج اليه الدابة او الدار ويسمى له قدرا معلوما ويحسبه من الاجرة ويشهد على المؤجر انه قد وكله في صرف ذلك القدر فيما تحتاج اليه الدار او الدابة
فإن قيل فهل تجوزون لمن له دين على رجل ان يوكله في المضاربة به او الصدقة به او إبراء نفسه منه او ان يشتري له شيئا ويبرأ المدين إذا فعل ذلك
قيل هذا مما اختلف فيه وفي صورة المضاربة بالدين قولان في مذهب الامام احمد
احدهما انه لا يجوز ذلك وهو المشهور لانه يتضمن قبض الانسان من نفسه وابراءه لنفسه من دين الغريم بفعل نفسه لانه متى اخرج الدين وضارب به فقد صار المال أمانة وبريء منه وكذلك اذا اشترى به شيئا او تصدق به

والقول الثاني انه لا يجوز وهو الراجح في الدليل وليس في الادلة الشرعية ما يمنع من جواز ذلك ولا يقتضى تجويزه مخالفة قاعدة من قواعد الشرع ولا وقوعا في محظور من ربا ولا قمار ولا بيع غرر ولا مفسدة في ذلك بوجه ما فلا يليق بمحاسن الشريعة المنع منه وتجويزه من محاسنها ومقتضاها
وقولهم إنه يتضمن ابراء الانسان لنفسه بفعل نفسه كلام فيه إجمال يوهم انه هو المستقل بإبراء نفسه وبالفعل الذي به يبرأ وهذا إيهام فإنه إنما برء بما أذن له رب الدين من مباشرة الفعل الذي تضمن براءته من الدين فأي محذور في ان يفعل فعلا اذن له فيه رب الدين ومستحقه يتضمن براءته فكيف ينكر ان يقع في الاحكام الضمنية التبعية مالا يقع مثله في المتبوعات ونظائر ذلك اكثر من ان تذكر حتى لو وكله او أذن له ان يبريء نفسه من الدين جاز وملك ذلك كما لو وكل المرأة ان تطلق نفسها فأي فرق بين ان يقول طلقي نفسك إن شئت او يقول لغريمه ابرئ نفسك إن شئت وقد قالوا لو أذن لعبده في التكفير بالمال ملك ذلك على الصحيح فلو أذن له في الاعتاق ملكه فلو اعتق نفسه صح على احد القولين والقول الآخر لا يصح لمانع آخر وهو ان الولاء للمعتق والعبد ليس من اهل الولاء نعم المحذور ان يملك إبراء نفسه من الدين بغير رضا ربه وبغير إذنه فهذا هو المخالف لقواعد الشرع
فإن قيل فالدين لا يتعين بل هو مطلق كلى ثابت في الذمة فإذا اخرج مالا واشترى به او تصدق به لم يتعين ان يكون هوالدين ورب الدين لم يعينه فهو باق على إطلاقه
قيل هو في الذمة مطلق وكل فرد من أفراده طابقه صح ان يعين عنه ويجزئ وهذا كإيجاب الرب تعالى الرقبة المطلقة في الكفارة فإنها غير معينة ولكن أي رقبة عينها المكلف وكانت مطابقة لذلك المطلق تأدى بها الواجب ونظيره

ههنا ان أي فرد عينه وكان مطابقا لما في الذمة تعين وتأدى به الواجب وهذا كما يتعين عند الاداء الى ربه وكما يتعين عند التوكيل في قبضه فهكذا يتعين عند توكيله لمن هو في ذمته ان يعينه ثم يضارب به او يتصدق او يشتري به شيئا وهذا محض الفقه وموجب القياس وإلا فما الفرق بين تعيينه إذا وكل الغير في قبضه والشراء او التصدق به وبين تعيينه اذا وكل هو في ذمته ان يعينه ويضارب او يتصدق به فهل يوجب التفريق فقه او مصلحة لهما او لاحدهما او حكمة للشارع فيجب مراعاتها
فإن قيل تجوزوا على هذا ان يقول له اجعل الدين الذي عليك رأس مال السلم في كذا وكذا
قيل شرط صحة النقض امران احدهما ان تكون الصورة التي تنقض بها مساوية لسائر الصور في المعنى الموجب للحكم الثاني ان يكون الحكم فيها معلوما بنص او اجماع وكلا الامرين منتف ههنا فلا اجماع معلوم في المسألة وإن كان قد حكى وليس مما نحن فيه فإن المانع من جوازها رأى انها من باب بيع الدين بالدين بخلاف ما نحن فيه والمجوز له يقول ليس عن الشارع نص عام في المنع من بيع الدين بالدين وغاية ما ورد فيه حديث ما فيه انه نهى عن بيع الكاليء بالكاليء والكالئ هو المؤخر وهذا كما اذا كان رأس مال السلم دينا في ذمة المسلم فهذا هو الممنوع منه بالاتفاق لانه يتضمن شغل الذمتين بغير مصلحة لهما وأما إذا كان الدين في ذمة المسلم اليه فاشترى به شيئا في ذمته فقد سقط الدين من ذمته وخلفه دين آخر واجب فهذا من باب بيع الساقط بالواجب فيجوز كما يجوز بيع الساقط بالساقط في باب المقاصة فإن بنى المستأجر او انفق على الدابة وقال انفقت كذا وكذا وانكر المؤجر فالقول قول المؤجر لان المستأجر يدعى براءة نفسه من الحق الثابت عليه والقول قول المنكر

فإن قيل فهل ينفعه إشهاد رب الدار او الدابة على نفسه انه مصدق فيما يدعى إنفاقه
قيل لا ينفعه ذلك وليس بشيء ولا يصدق انه انفق شيئا إلا ببينة لان مقتضى العقد الا يقبل قوله في الانفاق ولكن ينتفع بعد الانفاق بإشهاد المؤجر انه صادق فيما يدعى انه انفقه والفرق بين الموضعين انه بعد الانفاق مدع فإذا صدقه المدعى عليه نفعه ذلك وقبل الانفاق ليس مدعيا ولا ينفعه اشهاد المؤجر بتصديقه فيما سوف يدعيه في المستقل فهذا شيء وذاك شيء آخر
فإن قيل فما الحيلة على ان يصدق المؤجر المستأجر فما يدعيه من النفقة
قيل الحيلة ان يسلف المستأجر رب الدار او الحيوان من الاجرة ما يعلم انه بقدر الحاجة ويشهد عليه بقبضه ثم يدفع رب الدار الى المستأجر ذلك الذي قبضه منه ويوكله في الانفاق على داره او دابته فيصير امينة فيصدق على ما يدعيه إذا كان ذلك نفقة مثله عرفا فإن خرج من العادة لم يصدق به وهذه حيلة لا يدفع بها حقا ولا يتوصل بها لمحرم ولا يقيم بها باطلا
المثال الرابع إذا خاف رب الدار او الدابة ان يعوقها عليه المستأجر بعد المدة فالحيلة في أمنه من ذلك ان يقول متى حبستها بعد انقضاء المدة فأجرتها كل يوم كذا وكذا فإنه يخاف من حبسها ان يلزمه بذلك
المثال الخامس لا يجوز استئجار الشمع ليشعله لذهاب عين المستأجر والحيلة في تجويز هذا العقد ان يبيعه من الشمعة أواقي معلومة ثم يؤجره إياها فإن كان الذي أشعل منها ذلك القدر وإلا احتسب له بما اذهبه منها واحسن من هذه الحيلة ان يقول بعتك من هذه الشمعة كل اوقية فيها بدرهم قل

المأخوذ منها او كثر وهذا جائز على احد القولين في مذهب الامام احمد واختاره شيخنا وهو الصواب المقطوع به وهو مخرج على نص الامام احمد في جواز إجارة الدار كل شهر بدرهم وقد اجر على كرم الله وجهه في الجنة نفسه كل دلو بتمرة ولا محذور في هذا اصلا ولا يفضى الى تنازع ولا تشاحن بل عمل الناس في اكثر بياعاتهم عليه ولا يضره جهالة كمية المعقود عليه عند البيع لان الجهالة المانعة من صحة العقد هي التي تؤدي الى القمار والغرر ولا يدري العاقد على أي شيء يدخل وهذه لا تؤدي الى شيء من ذلك بل إن أراد قليلا أخذ والبائع راض وإن اراد كثيرا أخذ والبائع راض والشريعة لا تحرم مثل هذا ولا تمنع مه بل هي اسمح من ذلك واحكم
فان قبل لكن في العقد على هذا الوجه محذوران احدهما تضمنه للجمع بين البيع والاجارة والثاني ان مورد عقد الاجارة يذهب عينه او بعضه بالإشعال
قيل لا محذور في الجمع بين عقدين كل منهما جائز بمفرده كما لو باعه سلعة وأجره داره شهرا بمائة درهم وأما ذهاب أجزاء المستأجر بالانتفاع فإنما لم يجز لانه لم يتعوض عنه المؤجر وعقد الاجارة يقتضي رد العين بعد الانتفاع واما هذا العقد فهو عقد بيع يقتضى ضمان المتلف بثمنه الذي قدر له وأجرة انتفاعه بالعين قبل الاتلاف فالاجرة في مقابلة انتفاعه بها مدة بقائها والثمن في مقابلة ما أذهب منها فدعونا من تقليد آراء الرجال ما الذي حرم هذا واين هو في كتاب الله وسنة رسوله او اقوال الصحابة او القياس الصحيح الذي يكون فيه الفرع مساويا للأصل ويكون حكم الاصل ثابتا بالكتاب او السنة او الاجماع وليس كلامنا في هذا الكتاب مع المقلد المتعصب المقر

على نفسه بما شهد عليه به جميع اهل العلم انه ليس من جملتهم فذاك وما اختار لنفسه وبالله التوفيق
المثال السادس ان تشترط المرأة دارها او بلدها او ان لا يتزوج عليها ولا يكون هناك حاكم يصحح هذا الشرط او تخاف ان يرفعها الى حاكم يبطله فالحيلة في تصحيحه ان تلزمه عند العقد بإن يقول إن تزوجت عليك امرأة فهى طالق وهذا الشرط يصح وان قلنا لا يصح تعليق الطلاق بالنكاح نص عليه احمد لان هذا الشرط لما وجب الوفاء به من منع التزويج بحيث لو تزوج فلها الخيار بين المقام معه ومفارقته جاز اشتراط طلاق من يتزوجها عليها كما جاز اشتراط عدم نكاحها
فإن لم تتم لها هذه الحيلة فلتأخذ شرطه انه ان تزوج عليها فأمرها بيدها او امر الضرة بيدها ويصح تعليق ذلك بالشرط لانه توكيل على الصحيح ويصح تعليق الوكالة على الشرط على الصحيح من قولى العلماء وهو قول الجمهور ومالك وأبي حنيفة واحمد كما يصح تعليق الولاية على الشرط بالسنة الصحيحة الصريحة ولو قيل لا يصح تعليق الوكالة بالشرط لصح تعليق هذا التوكيل الخاص لانه يتضمن الاسقاط فهو كتعليق الطلاق والعتق بالشرط ولا ينتقض هذا بالبراءة فإنه يصح تعليقها بالشرط وقد فعله الامام احمد واصوله تقتضي صحته وليس عنه نص بالمنع ولو سلم انه تمليك لم يمنع تعليقه بالشرط كا تعلق الوصية واولى بالجواز فإن الوصية تمليك مال وهذا ليس كذلك
فإن لم تتم لها هذه الحيلة فليتزوجها على مهر مسمى على انه ان اخرجها من دارها فلها مهر مثلها وهو اضعاف ذلك المسمى ويقر الزوج بأنه مهر مثلها وهذا الشرط صحيح لانها لم ترض بالمسمى إلا بناء على إقرارها في دارها فإذا لم يسلم لها ذلك وقد شرطت في مقابلته زيادة جاز وتكون تلك الزيادة في مقابلة ما فاتها من الغرض الذي إنما ارخصت المهر ليسلم لها فإذا لم يسلم لها انتقلت الى المهر

الزائد وقد صرح اصحاب ابي حنيفة بجواز مثل ذلك مع قولهم لا يصح اشتراط دارها ولا ان لا يتزوج عليها
وقد أغنى الله عن هذه الحيلة بوجوب الوفاء بهذا الشرط الذي هو احق الشروط ان يوفى به وهو مقتضى الشرع والعقل والقياس الصحيح فان المرأة لم ترض ببذل بضعها للزوج إلا على هذا الشرط ولو لم يجب الوفاء به لم يكن العقد عن تراض وكان إلزاما لها بما لم تلتزمه وبما لم يلزمها الله تعالى ورسوله به فلا نص ولا قياس والله الموفق
المثال السابع إذا خاصمته امرأته وقالت قل كل جارية اشتريها فهى حرة وكل امرأة أتزوجها فهى طالق فالحيلة في خلاصه ان يقول ذلك ويعنى بالجارية السفينة لقوله إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ويمسك بيده حصاة او خرقه ويقول فهى طالق فيرد الكناية اليها فإن تفقهت عليه الزوجة وقالت قل كل رقيقة او أمة فليقل ذلك وليعن فهى حرة الخصال غير فاجرة فإنه لو قال ذلك لم تعتق كما لو قال له رجل غلامك فاجر زان فقال ما أعرفه إلا حرا عفيفا ولم يرد العتق لم يعتق وإن تفقهت عليه وقالت قل فهى عتيقة فليقل ذلك ولينو ضد الجديدة أي عتيقة في الرق فإن تفقهت وقالت قل فهى معتوقة وقد أعتقتها إن ملكتها فليرد الكناية الى حصاة في يده او خرقة فإن لم تدعه ان يمسك شيئا فليردها الى نفسه ويعنى ان قد أعتقها من النار بالاسلام او فهى حرة ليست رقيقة لأحد ويجعل الكلام جملتين فإن حصرته وقالت قل فالجارية التي أشتريها معتوقة فليقيد ذلك بزمن معين او مكان معين في نيته ولا يحنث بغيره فإن حصرته وقالت من غير تورية ولا كناية ولا نية تخالف قولى وهذا آخر التشديد فلا يمنعه ذلك من التورية والكناية وان قال بلسانه لا أورى ولا أكنى والتورية والكناية في قلبه كما لو قال لا أستثنى بلسانه ومن نيته الاستثناء ثم

استثنى فإنه ينفعه حتى لو لم ينو الاستثناء ثم عزم عليه واستثنى نفعه ذلك بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بوجه في غير حديث كقول الملك لسليمان قل إن شاء الله وقول النبي ص - إلا الإذخر بعد ان ذكره به العباس وقوله إن شاء الله بعد ان قال لأغزون قريشا ثلاث مرات ثم قال بعد الثالثة وسكوته إن شاء الله والقرآن صريح في نفع الاستثناء إذا نسيه ولم ينوه في أول كلامه ولا أثناءه في قوله تعالى ولا تقولن لشيء إنى فاعل ذلك غدا إلا ان يشاء الله واذكر ربك اذا نسيت وهذا إما ان يختص بالاستثناء إذا نسيه كما فسره به جمهور المفسرين او يعمه ويعم غيره وهو الصواب فأما ان يخرج منه الاستثناء الذي سيق الكلام لاجله ويرد الى غيره فلا يجوز ولان الكلام الواحد لا يعتبر في صحته نية كل جملة من جملة وبعض من أبعاضه فالنص والقياس يقتضى نفع الاستثناء وان خطر له بعد انقضاء الكلام وهذا هو الصواب المقطوع به
المثال الثامن لا تصح إجارة الارض المشغولة بالزرع فإن اراد ذلك فله حيلتان جائزتان إحداهما ان يبيعه الزرع ثم يؤجره الارض فتكون الارض مشغولة بملك المستأجر فلا يقدح في صحة الاجارة فان لم يتمكن من هذه الحيلة لكون الزرع لم يشتد او كان زرعا للغير انتقل الى الحيلة الثانية وهي ان يؤجره إياها لمدة تكون بعد اخذ الزرع ويصح هذا بناء على صحة الاجارة المضافة
المثال التاسع لا تصح إجارة الارض على ان يقوم المستأجر بالخراج مع الاجرة او يكون قيامه به هو أجرتها ذكره القاضي لان الخراج مؤنة تلزم المالك بسبب تمكنه من الانتفاع فلا يجوز نقله الى المستأجر والحيلة في جوازه ان يسمى مقدار الخراج ويضيفه الى الاجرة قلت ولا يمنع ان يؤجره الارض بما عليها من الخراج اذا كان مقدارا معلوما لا جهالة فيه فيقول

أجرتكها بخراجها تقوم به عنى فلا محذور في ذلك ولا جهالة ولا غرر وأي فرق بين ان يقول آجرتك كل سنة بمائة او بالمائة التي عليها كل سنة خراجا
فإن قيل الاجرة تدفع الى المؤجر والخراج الى السلطان
قيل بل تدفع الاجرة الى المؤجر او الى من اذن له بالدفع اليه فيصير وكيله في الدفع
المثال العاشر لا يصح ان يستأجر الدابة بعلفها لانه مجهول والحيلة في جوازه ان يسمى ما يعلم انها تحتاج اليه من العلف فيجعله أجرة ثم يوكله في إنفاق ذلك عليها وهذه الحيلة غير محتاج اليها على أصلنا فإنا نجوز ان يستأجر الظئر بطعامها وكسوتها والاجير بطعامه وكسوته فكذلك إجارة الدابة بعلفها وسقيها
فإن قيل علف الدابة على مالكها فإذا شرطه على المستأجر فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد فأشبه ما لو شرط في عقد النكاح ان تكون نفقة الزوجة على نفسها
قيل هذا من أفسد القياس لان العلف قد جعل في مقابلة الانتفاع فهو نفسه أجرة مغتفرة جهالتها اليسيرة للحاجة بل الحاجة الى ذلك أعظم من حاجة استئجار الاجير بطعامه وكسوته إذ يمكن الاجير ان يشتري له بالاجرة ذلك فأما الدابة فإن كلف ربها ان يصحبها ليعلفها شق عليه ذلك فتدعو الحاجة الى قيام المستأجر عليها ولا يظن به تفريطه في علفها لحاجته الى ظهرها فهو يعلفها لحاجته وان لم يمكنها مخاصمته
المثال الحادي عشر إذا اراد ان يستأجر دارا او حانوتا ولا يدري مدة مقامه فإن استأجره سنة فقد يحتاج الى التحول قبلها فالحيلة ان يستأجر كل شهر بكذا وكذا فتصح الاجارة وتلزم في الشهر الاول وتصير جائزة فيما

بعده من الشهور فلكل واحد منهما الفسخ عقيب كل شهر الى تمام يوم وهذا قول ابي حنيفة وقال الشافعي الاجارة فاسدة وعن احمد نحوه والصحيح الاول فإذا خاف المستأجر ان يتحول قبل تمام الشهر الثاني فيلزمه اجرته فالحيلة ان يستأجرها كل اسبوع بكذا فإن خاف التحول قبل الاسبوع استأجرها كل يوم بكذا ويصح ويكون حكم اليوم كحكم الشهر المثال الثاني عشر لو وكله ان يشترى له جارية معينة فلما رآها الوكيل أعجبته واراد شراءها لنفسه من غير إثم يدخل عليه ولا غدر بالموكل جاز ذلك لان شراءه إياها لنفسه عزل لنفسه وإخراج لها من الوكالة والوكيل يملك عزل نفسه في حضور الموكل وغيبته وإذا عزل نفسه واشترى الجارية لنفسه بماله ملكها وليس في ذلك بيع على بيع اخيه او شراء على شراء اخيه إلا ان يكون سيدها قد ركن الى الموكل وعزم على إمضاء البيع له فيكون شراء الوكيل لنفسه حينئذ حراما لأنه شراء على شراء أخيه ولا يقال العقد لم يتم والشراء على شرائه هو ان يطلب من البائع فسخ العقد في مدة الخيار ويعقد معه هو لعدة أوجه أحدها ان هذا حمل للحديث على الصورة النادرة والاكثر خلافها الثاني ان النبي ص - قرن ذلك بخطبته على خطبة اخيه وذلك إنما يكون قبل عقد النكاح الثالث انه نهى ان يسوم على سوم اخيه وذلك ايضا قبل العقد
الرابع ان المعنى الذي حرم الشارع لأجله ذلك لا يختص بحالة الخيار بل هو قائم بعد الركون والتراضي وإن لم يعقداه كما هو قائم بعد العقد الخامس ان هذا تخصيص لعموم الحديث بلا موجب فيكون فاسدا فإن شراءه على شراء اخيه متناول لحال الشراء وما بعده والذي غر من خصه بحالة الخيار ظنه ان هذا اللفظ إنما يصدق على من اشترى بعد شراء اخيه وليس كذلك بل اللفظ صادق على القسمين السادس انه لو اختص اللفظ بما بعد الشراء لوجب تعديته بتعدية علته الى حالة السوم

أما على اصل أبي حنيفة فلا يتأتى ذلك لان الوكيل لا يملك عزل نفسه في غيبة الموكل فلو اشتراها لنفسه لكان عزلا لنفسه في غيبة موكله وهو لا يملكه
قالوا فالحيلة في شرائها لنفسه ان يشتريها بغير جنس الثمن الذي وكل ان يشتري به وحينئذ فيملكها لأن هذا العقد غير الذي وكل فيه فهو بمنزلة ما لو وكله في شراء شاة فاشترى فرسا فإن العقد يكون للوكيل دون الموكل فإن أراد الموكل الاحتراز من هذه الحيلة وان لا يمكن الوكيل من شرائها لنفسه فليشهد عليه انه متى اشتراها لنفسه فهى حرة فإن وكل الوكيل من يشتريها له انبنى ذلك على أصلين احدهما ان الوكيل هل له ان يوكل ام لا والثاني ان من حلف لا يفعل شيئا فوكل في فعله هل يحنث ام لا وفي الاصلين نزاع معروف
فإن وكله رجل في بيع جارية ووكله آخر في شرائها وأراد هو شراءها لنفسه فالحكم على ما تقدم غير ان ههنا اصلا آخر وهو ان الوكيل في بيع الشيء هل يملك بيعه لنفسه فيه روايتان عن الامام احمد إحداهما لا يملك ذلك سدا للذريعة لانه لا يستقصى في الثمن والثانية يجوز إذا زاد على ثمنها في النداء لتزول التهمة فعلى هذه الرواية يفعل ذلك من غير حاجة الى حيلة والثانية لا يجوز فعل هذا وهل يجوز له التحيل على ذلك فقيل له ان يتحيل عليه بأن يدفع الى غيره دراهم ويقول له اشترها لنفسك ثم يتملكها منه والذي تقتضيه قواعد المذهب ان هذا لا يجوز لانه تحيل على التوصل الى فعل محرم ولان ذلك ذريعة الى عدم استقصائه واحتياطه في البيع بل يسامح في ذلك لعلمه انها تصير اليه وانه هو الذي يزن الثمن ولانه يعرض نفسه للتهمة ولان الناس يرون ذلك نوع غدر ومكر فمحاسن الشريعة تأبى الجواز
فإن قيل فلو وكله أحدهما في بيعها والآخر في شرائها ولم يرد ان يشتريها لنفسه فهل يجوز ذلك

قيل هذا ينبنى على شراء الوكيل في البيع لنفسه فإن اجزناه هناك جاز ههنا بطريق الاولى وإن منعناه هناك فقال القاضي لا يجوز أيضا ههنا لتضاد الغرضين لان وكيل البيع يستقصى في زيادة الثمن ووكيل الشراء يستقصى في نقصانه فيتضادان ولم يذكر غير ذلك ويتخرج الجواز وإن منعنا الوكيل من الشراء لنفسه من نص احمد على جواز كون الوكيل في النكاح وكيلا من الطرفين وكونه ايضا وليا من الطرفين وانه يلي بذلك على إيجاب العقد وقبوله ولا ريب ان التهمة التي تلحقه في الشراء لنفسه اظهر من التهمة التي تلحقه في الشراء لموكله
والحيلة الصحيحة في ذلك كله ان يبيعها بيعا بتاتا ظاهرا لأجنبي يثق به ثم يشتريها منه شراء مستقلا فهذا لا بأس به والله أعلم
المثال الثالث عشر إذا قال الرجل لامرأته الطلاق يلزمني لا تقولين لي شيئا إلا قلت لك مثله فقالت له انت طالق ثلاثا فالحيلة في التخلص من ان يقول لها مثل ذلك ان يقول لها قلت لي انت طالق ثلاثا
قال اصحاب الشافعي وفي هذه الحيلة نظر لا يخفى لانه لم يقل لها مثل ما قالت له وانما حكى كلامها من غير ان يقول لها نظيره ولو ان رجلا سب رجلا فقال له المسبوب انت قلت لي كذا وكذا لم يكن قد رد عليه عند أحد لا لغة ولا عرفا فهذه الحيلة ليست بشيء
وقالت طائفة اخرى الحيلة ان يقول لها انت طالق ثلاثا بفتح التاء فلا تطلق وهذا نظير ما قالت له سواء وهذه إن كانت أقرب من الاولى فإن المفهوم المتعارف لغة وعقلا وعرفا من الرد على المرأة ان يخاطبها خطاب المؤنث فإذا خاطبها خطاب المذكر لم يكن ذلك ردا ولا جوابا ولو فرض أنه رد لم يمنع وقوع الطلاق بالمواجهة وإن فتح التاء كأنه قال ايها الشخص أو الانسان

وقال طائفة اخرى الحيلة في ذلك ان يقول انت طالق ثلاثا ان شاء الله او ان كلمت السلطان أو إن سافرت ونحو ذلك فيكون قد قال لها نظير ما قالت ولا يضره زيادة الشرط وهذه الحيلة اقرب من التي قبلها ولكن في كون المتكلم بها رادا او مجيبا نظر لا يخفى لان الشرط وان تضمن زيادة في الكلام لكنه يخرجه عن كونه نظيرا لكلامها ومثلا له وهو إنما حلف أن يقول لها مثل ما قالت له والجملة الشرطية ليست مثل الجملة الخبرية بل الشرط يدخل على الكلام التام فيصيره ناقصا يحتاج الى الجواب ويدخل على الخبر فيقلبه إنشاء ويغير صورة الجملة الخبرية ومعناها ولو قال رجل لغيره لعنك الله فقال له لعنك الله إن بدلت دينك او ارتددت عن الاسلام لم يكن سابا له ولو قال له يا زان فقال بل انت زان إن وطئت فرجا حراما لم يكن الثاني قاذفا له ولو بذلت له مالا على ان يطلقها فقال انت طالق إن كلمت السلطان لم يستحق المال ولم يكن مطلقا
وقالت طائفة اخرى لا حاجة الى شيء من ذلك والحالف لم تدخل هذه الصورة في عموم كلامه وان دخلت فهى من المخصوص بالعرف والعادة والعقل فإنه لم يرد هذه الصورة قطعا ولا خطرت بباله ولا تناولها لفظه فإنه انما تناول لفظه القول الذي يصح ان يقال له وقولها انت طالق ثلاثا ليس من القول الذي يصح ان يواجه به فهو لغو محض وباطل وهو بمنزلة قولها انت امرأتي وبمنزلة قول الأمة لسيدها انت امتي وجاريتي ونحو هذا من الكلام اللغو الذي لم يدخل تحت لفظ الحالف ولا إرادته اما عدم دخوله تحت إرادته فلا اشكال فيه واما عدم تناول لفظه له فان اللفظ العام انما يكون عاما فيما يصلح له وفيما سيق لأجله
وهذا اقوى من جميع ما تقدم وغايته تخصيص العام بالعرف والعادة وهذا اقرب لغة وعرفا وعقلا وشرعا من جعل ما تقدم مطابقا ومماثلا لكلامها مثله فتأمله والله الموفق

المثال الرابع عشر اذا خاف الرجل لضيق الوقت ان يحرم بالحج فيفوته فيلزمه القضاء ودم الفوات فالحيلة ان يحرم إحراما مطلقا ولا يعينه فإن اتسع له الوقت جعله حجا أو قرانا او تمتعا وإن ضاق عليه الوقت جعله عمرة ولا يلزمه غيرها
المثال الخامس عشر اذا جاوز الميقات غير محرم لزمه الاحرام ودم لمجاوزته للميقات غير محرم فالحيلة في سقوط الدم عنه ان لا يحرم من موضعه بل يرجع الى الميقات فيحرم منه فإن أحرم من موضعه لزمه الدم ولا يسقط برجوعه الى الميقات
المثال السادس عشر إذا سرق له متاع فقال لامرأته ان لم تخبريني من أخذه فأنت طالق ثلاثا والمرأة لا تعلم من أخذه فالحيلة في التخلص من هذه اليمين ان تذكر الاشخاص التي لا يخرج المأخوذ عنهم ثم تفرد كل واحد واحد وتقول هو اخذه فإنها تكون مخبرة عن الآخذ وعن غيره فيبر في يمينه ولا تطلق
المثال السابع عشر إذا ادعت المرأة النفقة والكسوة لمدة ماضية فقد اختلف في قبول دعواها فمالك وابو حنيفة لا يقبلان دعواها ثم اختلفا في مأخذ الرد فأبو حنيفة يسقطها بمضي الزمان كما يقوله منازعوه في نفقة القريب ومالك لا يسمع الدعوى التي يكذبها العرف والعادة ولا يحلف عنده فيها ولا يقبل فيها بينة كما لو كان رجل حائزا دارا متصرفا فيها مدة السنين الطويلة بالبناء والهدم والاجارة والعمارة وينسبها الى نفسه ويضيفها الى ملكه وانسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة ومع ذلك لا يعارضه فيها ولا يذكر ان له فيها حقا ولا مانع يمنعه من خوف او شركة في ميراث ونحو ذلك ثم جاء بعد تلك المدة فادعاها لنفسه فدعواه غير مسموعة فضلا

عن إقامة بينته قالوا وكذلك إذا كانت المرأة مع الزوج مدة سنين يشاهده الناس والجيران داخلا بيته بالطعام والفاكهة واللحم والخبز ثم ادعت بعد ذلك انه لم ينفق عليها في هذه المدة فدعواها غير مسموعة فضلا عن ان يحلف لها او يسمع لها بينة قالوا وكل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة
وهذا المذهب هو الذي ندين الله به ولا يليق بهذه الشريعة الكاملة سواه وكيف يليق بالشريعة ان تسمع مثل هذه الدعوى التي قد علم الله وملائكته والناس انها كذب وزور وكيف تدعى المرأة انها اقامت مع الزوج ستين سنة او اكثر لم ينفق عليها فيها يوما واحدا ولا كساها فيها ثوبا ويقبل قولها عليه ويلزم بذلك كله ويقال الاصل معها وكيف يعتمد على أصل يكذبه العرف والعادة والظاهر الذي بلغ في القوة الى حد القطع والمسائل التي يقدم فيها الظاهر القوى على الاصل اكثر من ان تحصى ومثل هذا المذهب في القوة مذهب ابي حنيفة وهو سقوطها بمضي الزمان فإن البينة قد قامت بدونها فهى كحق المبيت والوطء
ولا يعرف احد من اصحاب رسول الله ص - مع انهم ائمة الناس في الورع والتخلص من الحقوق والمظالم قضى لامرأة بنفقة ماضية او استحل امرأة منها ولا أخبر النبي ص - بذلك امرأة واحدة منهن ولا قال لها ما مضى من النفقة حق لك عند الزوج فإن شئت فطالبيه وإن شئت حللتيه وقد كان ص - يتعذر عليه نفقة اهله اياما حتى سألنه إياها ولم يقل لهن هي باقية في ذمتي حتى يوسع الله وأقضيكن ولما وسع الله عليه لم يقض لامرأة منهن ذلك ولا قال لها هذا عوض عما فاتك من الانفاق ولا سمع الصحابة لهذه المسألة خبرا وقول عمر رضي الله

عنه للغياب إما ان تطلقوا وإما ان تبعثوا بنفقة ما مضى في ثبوته نظر فإن قال ابن المنذر ثبت عن عمر فإن في إسناده ما يمنع ثبوته ولو قدر صحته فهو حجة عليهم ودليل على انهم اذا طلقوا لم يلزمهم بنفقة ما مضى
فإن قيل وحجة عليكم في الزامه لهم بها وانتم لا تقولون بذلك
قيل بل نقول به وان الازواج اذا امتنعوا من الواجب عليهم مع قدرتهم عليه لم يسقط بالامتناع ولزمهم ذلك وأما المعذور العاجز فلا يحفظ عن احد من الصحابة انه جعل النفقة دينا في ذمته أبدا وهذا التفصيل هو أحسن ما يقال في هذه المسألة
والمقصود ان على هذين المذهبين لا تسمع هذه الدعوى ويسمعها الشافعي واحمد بناء على قاعدة الدعاوي وان الحق قد ثبت ومستحقه ينكر قبضه يقبل قول الدافع عليه إلا ببينة فعلى قولهما يحتاج الزوج الى طريق تخلصه من هذه الدعوى ولا ينفعه دعوى النشوز فإن القول فيه قول المرأة ولا يخلصه دعوى عدم التسليم الموجب للانفاق لتمكن المرأة من إقامة البينة عليه فله حيلتان إحداهما أن يقيم البينة على نفقته وكسوته لتلك المدة وللبينة ان تشهد على ذلك بناء على ما علمته وتحققته بالاستفاضة والقرائن المفيدة للقطع فإن الشاهد يشهد بما علمه بأي طريق علمه وليس على الحاكم ان يسأل البينة عن مستند التحمل ولا يجب على الشاهد ان يبين مستنده في الشهادة والحيلة الثانية ان ينكر التمكين الموجب لثبوت المدعى به في ذمته ويكون صادقا في هذا الانكار فإن التمكين الماضي لا يوجب عليه ما ادعت به الزوجة اذا كان قد اداه اليها والتمكين الذي يوجب ما ادعت به لا حقيقة له فهو صادق في إنكاره
المثال الثامن عشر اذا اشترى ربويا بمثله فتعيب عنده ثم وجد به عيبا فإنه لا يمكنه رده للعيب الحادث ولا يمكنه اخذ الارش لدخول التفاضل فالحيلة في استدراك ظلامته ان يدفع الى البائع ربويا معيبا بنظير العيب الذي وجده

بالمبيع ثم يسترجع منه الذي دفعه اليه فإن استهلكه استرد منه نظيره وهذه الحيلة على اصل الشافعي واما على اصل ابي حنيفة فالحيلة في الاستدراك ان يأخذ عوض العيب من غير جنسه بناء على اصله في تجويز مسألة مد عجوة واما على اصل الإمام احمد فإن كان البائع علم بالبيع فكتمه لم يمنع العيب الحادث عند المشتري رده عليه بل لو تلف جميعه رجع عليه بالثمن عنده وان لم يكن من البائع تدليس فإنه يرد عليه المبيع ومعه أرش العيب الحادث عنده ويسترد العوض وليس في ذلك محذور فإنه يبطل العقد فالزيادة ليست زيادة في عوض فلا يكون ربا
المثال التاسع عشر إذا أبرأ الغريم من دينه في مرض موته ودينه يخرج من الثلث وهو غير وارث فخاف المبرأ ان تقول الورثة لم يخلف مالا سوى الدين ويطالبون بثلثيه فالحيلة ان يخرج المريض الى الغريم مالا بقدر دينه فيهبه إياه ثم يستوفيه منه من دينه فإن عجز عن ذلك ولم تغب عنه الورثة فالحيلة ان يقر بأنه شريكه بقدر الدين الذي عليه فإن عجز عن ذلك فالحيلة ان يقر بأنه كان قبضه منه او أبرأه منه في صحته فان خاف ان يتعذر عليه مطالبته به إذا توفى فالحيلة ان يشهد عليه انه ان ادعى عليه او أي وقت ادعى عليه او متى ادعى عليه بكذا وكذا فهو صادق في دعواه فان لم يدع عليه بذلك لم يلزمه وليس لوارثه بعده ان يدعى به فإنه انما صدق الموروث ان ادعى ولم تحصل دعواه وانما ينتقل الى الورثة ما ادعى به الموروث وصدقه المدعى عليه ولم يتحقق ذلك
المثال العشرون إذا اراد ان يعتق عبده وخاف ان يجحد الورثة المال ويرقوا ثلثيه فالحيلة ان يبيعه لاجنبي ويقبض ثمنه منه ثم يهب الثمن للمشتري ويسأله إعتاق العبد ولا ينفعه ان يأخذ إقرار الورثه ان العبد يخرج من الثلث لان الثلث انما يعتبر عند الموت لا قبله فان لم يرد تنجيز عتقه واحب تدبيره

وخاف عليه من ذلك فالحيلة ان يملكه لرجل يثق به ويعلق المشتري عتقه بموت السيد المملك فلا يجد الورثة اليه سبيلا
المثال الحادي والعشرون إذا كان لأحد الورثة دين على الموروث واحب ان يوفيه اياه ولا بينة له به فان اقر له به ابطلنا إقراره وان اعطاه عوضه كان تبرعا في الظاهر فلباقي الورثة رده فالحيلة في خلاصه من دينه ان يقبض الوارث ماله عليه في السر ثم يبيعه سلعة او دارا او عبدا بذلك الثمن فيسترد منه المال ويدفع اليه تلك السلعة التي هي بقدر دينه
فإن قيل وأي حاجة له الى ذلك اذا امكنه ان يعطيه ماله عليه في السر
قيل بل في ذلك خلاص الوارث من دعوى بقية الورثة واتهامهم له وشكواهم إياه انه استولى على مال موروثنا او صار اليه بغير الحق فإذا لم يخرج المال الذي عاينوه عند الموروث عن التركة سلم من تطرق التهمة والاذى والشكوى
المثال الثاني والعشرون اذا زوج عبده من ابنته صح فإن خاف من انفساخ النكاح بموته حيث تملكه او بعضه فالحيلة في ابقاء النكاح ان يبيعه من اجنبي ويقبض ثمنه او يهبه اياه فإن مات بعد ذلك هو او الاجنبي لم ينفسخ النكاح
المثال الثالث والعشرون اذا كان موليه سفيها إن زوجه طلق وإن سراه اعتق وإن اهمله فسق فالحيلة ان يشتري جارية من مال نفسه ويزوجه اياها فإن اعتقها لم ينفذ عتقه وان طلقها رجعت الى سيدها فلا يطالبه بمهرها
المثال الرابع والعشرون اذا طلب عبده منه ان يزوجه جاريته فحلف بالطلاق الا يزوجه إياها فالحيلة على جواز تزويجه بها ولا يحنث ان يبيعهما جميعا او يملكهما

لمن يثق به ثم يزوجها المشتري فإذا فعل ذلك استردهما ولا يحنث لانه لم يزوج احدهما الآخر وإنما فعل ذلك غيره وقال القاضي ابو يعلى وهذا غير ممتنع على أصلنا لان الصفة قد وجدت في حال وجدت في حال زوال ملكه فلا يتعلق به حنث ولا يتعلق الحنث باستدامة العقد بعد ان ملكهما لان التزويج عبارة عن العقد وقد تقضى وإنما بقى حكمه فلم يحنث باستدامته قال ويفارق هذا اذا حلف على عبده لا ادخل هذه الدار فباعه ودخلها ثم ملكه ودخلها بعد ذلك فإنه يحنث لان الدخول عبارة عن الكون وذلك موجود بعد الملك كما كان موجودا في الملك الاول قال وقد علق احمد القول في رواية مهنا في رجل قال لامرأته انت طالق إن رهنت كذا وكذا فإذا هي قد رهنته قبل اليمين فقال اخاف ان يكون قد حنث قال وهذا محمول على انه قال إن كنت رهنتيه فيحنث لانه حلف على ماض
ولا يخفى ما في هذا الحمل من مخالفة ظاهر كلام السائل وكلام الامام احمد اما كلام السائل فظاهر في انه انما اراد رهنا تنشئه بعد اليمين فإن أداة الشرط تخلص الفعل الماضي للاستقبال فهذا الفعل مستقبل بوضع اللغة والعرف والاستعمال وأما كلام الامام احمد فإنه لو فهم من السائل ما حمله عليه القاضي لجزم بالحنث ولم يقل اخاف فهو انما يطلق هذه اللفظة فيما عنده فيه نوع توقف واستقراء اجوبته يدل على ذلك وانما وجه هذا انه جعل استدامة الرهن رهنا كاستدامة اللبس والركوب والسكنى والجماع والاكل والشرب ونحو ذلك ولما كان لها شبه بهذا وشبه باستدامة النكاح والطيب ونحوهما لم يجزم بالحنث بل قال أخاف ان يكون قد حنث والله أعلم
المثال الخامس والعشرون هل تصح الشركة بالعروض والفلوس إن قلنا هي عروض والنقود المغشوشة على قولين هما روايتان عن الامام احمد فإن جوزنا الشركة بها لم يحتج الى حيلة بل يكون رأس المال قيمتها وقت العقد وان لم

نجوز الشركة بها فالحيلة على ان يصيرا شريكين فيها ان يبيع كل واحد منها صاحبه نصف عرضه بنصف عرضه مشاعا فيصير كل منهما شريكا لصاحبه في عرضه ويصير عرض كل واحد منهما بينهما نصفين ثم يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف هذا إذا كان قيمة العرضين سواء فإذا كانا متفاوتين بأن يساوي أحدهما مائة والاخر مائتين فالحيلة ان يبيع صاحب العرض الادنى ثلثي عرضه بثلث عرض صاحبه كما تقدم فيكون العرضان بينهما اثلاثا والربح على قدر الملكين عند الشافعي وعند احمد على ما شرطاه ولا تمتنع هذه الحيلة على أصلنا فإنها لا تبطل حقا ولا تثبت باطلا ولا توقع في محرم
المثال السادس والعشرون اذا كان له عليه الف درهم فأراد ان يصالحه على بعضها فلها ثمان صور فإنه إما يكون مقرا او منكرا وعلى التقديرين فإما ان تكون حالة او مؤجلة ثم الحلول والتأجيل إما ان يقع في المصالح عنه او في المصالح به وانما تتبين احكام هذه المسائل بذكر صورها وأصولها
الصورة الاولى ان يصالحه عن الف حالة قد اقر بها على خمسمائة حالة فهذا صلح على الاقرار وهو صحيح على احد القولين باطل على القول الاخر فإن الشافعي لا يصحح الصلح إلا على الاقرار والخرقى ومن وافقه من اصحاب الامام احمد لا يصححه إلا على الانكار وابن ابي موسى وغيره يصححونه على الاقرار والانكار وهو ظاهر النص وهو الصحيح فالمبطلون له مع الاقرار يقولون هو هضم للحق لانه إذا اقر له فقد لزمه ما اقر به فإذا بذل له دونه فقد هضمه حقه بخلاف المنكر فإنه يقول إنما افتديت يمينى والدعوى على بما بذلته والآخذ يقول اخذت بعض حقى والمصححون له يقولون إنما يمكن الصلح مع الاقرار لثبوت الحق به فتمكن المصالحة على بعضه أما مع الانكار فأي شيء ثبت حتى يصالح عليه فإن قلتم صالحه عن الدعوى واليمين

وتوابعهما فإن هذا لا تجوز المعاوضة عليه ولا هو مما يقابل بالاعواض فهذا اصل والصواب جواز الامرين للنص والقياس والمصلحة فإن الله تعالى امرنا بالوفاء بالعقود ومراعاة العهود واخبر النبي ص - ان المسلمين على شروطهم وأخبر ان الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحا احل حراما او حرم حلالا وقول من منع الصلح على الاقرار انه هضم للحق ليس كذلك وانما الهضم ان يقول لا اقر لك حتى تهب لي كذا وتضع عنى كذا واما اذا اقر له ثم صالحه ببعض ما اقر به فأي هضم هناك وقول من منع الصلح على الانكار انه يتضمن المعاوضة عما لا تصح المعاوضة عليه فجوابه انه افتداء لنفسه من الدعوى واليمين وتكليف اقامة البينة كما تفتدى المرأة نفسها من الزوج بما تبذله له وليس هذا بمخالف لقواعد الشرع بل حكمة الشرع واصوله وقواعده ومصالح المكلفين تقتضي ذلك
فهاتان صورتان صلح عن الدين الحال ببعضه حالا مع الاقرار ومع الانكار
الصورة الثالثة ان يصالح عنه ببعضه مؤجلا مع الاقرار والانكار فهاتان صورتان ايضا فإن كان مع الانكار ثبت التأجيل ولم تكن له المطالبة به قبل الاجل لانه لم يثبت له قبله دين حال فيقال لا يقبل التأجيل وان كان مع الاقرار ففيه ثلاثة اقوال للعلماء وهي في مذهب الامام احمد
أحدها لا يصح الاسقاط ولا التأجيل بناء على ان الصلح لا يصح مع الاقرار وعلى ان الحال لا يتأجل
والثاني انه يصح الاسقاط دون التأجيل بناء على صحة الصلح مع الاقرار
والثالث انه يصح الاسقاط والتأجيل وهو الصواب بناء على تأجيل القرض والعارية وهو مذهب اهل المدينة واختيار شيخنا
وإن كان الدين مؤجلا فتارة يصالحه على بعضه مؤجلا مع الاقرار والانكار فحكمه ما تقدم وتارة يصالحه ببعضه حالا مع الاقرار والانكار فهذا للناس فيه ثلاثة اقوال ايضا

احدها انه لا يصح مطلقا وهو المشهور عن مالك لانه يتضمن بيع المؤجل ببعضه حالا وهو عين الربا وفي الانكار المدعى يقول هذه المائة الحالة عوض عن مائتين مؤجل وذلك لا يجوز وهذا قول ابن عمر
والقول الثاني انه يجوز وهو قول ابن عباس واحدى الروايتين عن الامام احمد حكاها ابن ابي موسى وغيره واختار شيخنا لان هذا عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في احد العوضين في مقابلة الاجل وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الاجل فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الاجل فانتفع به كل واحد منهما ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفا فإن الربا الزيادة وهي منتفية ههنا والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله إما أن تربي وإما أن تقضي وبين قوله عجل لي وأهب لك مائة فأين احدهما من الاخر فلا نص في تحريم ذلك ولا اجماع ولا قياس صحيح
والقول الثالث يجوز ذلك في دين الكتابة ولا يجوز في غيره وهو قول الشافعي وابي حنيفة قالوا لان ذلك يتضمن تعجيل العتق المحبوب الى الله والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولا ربا بين العبد وبين سيده فالمكاتب وكسبه للسيد فكأنه اخذ بعض كسبه وترك له بعضه ثم تناقضوا فقالوا لا يجوز ان يبيعه درهما بدرهمين لانه في المعاملات معه كالاجنبي سواء
فيالله العجب ما الذي جعله معه كالاجنبي في هذا الباب من ابواب الربا وجعله معه بمنزلة العبد القن في الباب الآخر
فهذه صورة هذه المسائل واصولها ومذاهب العلماء فيها وقد تبين ان الصواب جوازها كلها فالحيلة على التوصل اليها حيلة على امر جائز ليست على حرام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"