بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 8 أبريل 2010

نبذ من "اعلام الموقعين"/7

فصل ميراث الجد مع الإخوة
المسألة السادسة ميراث الجد مع الإخوة والقرآن يدل لقول الصديق ومن معه من الصحابة كأبي موسى وابن عباس وابن الزبير وأربعة عشر منهم
رضي الله عنهم ووجه دلالة القرآن على هذا القول قوله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد إلى آخر الآية فلم يجعل للإخوة ميراثا إلا في الكلالة
وقد اختلف الناس في الكلالة والكتاب يدل على قول الصديق أنها ما عدا الوالد والولد فإنه سبحانه قال في ميراث ولد الأم وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فسوى بين ميراث الإخوة في الكلالة وإن فرق بينهم في جهة الإرث ومقداره فإذا كان وجود الجد مع الإخوة للأم لا يدخلهم في الكلالة بل يمنعهم من صدق اسم الكلالة على الميت أو عليهم أو على القرابة فكيف أدخل ولد الأب في الكلالة ولم يمنعهم وجوده صدق اسمها وهل هذا إلا تفريق محض بين ما جمع الله بينه
يوضحه الوجه الثاني وهو أن ولد الولد يمنع الإخوة من الميراث ويخرج المسألة عن كونها كلالة لدخوله في قوله ليس له ولد ونسبة أب الأب إلى الميت كنسبة ولد ولده إليه فكما أن الولد وإن نزل يخرج المسألة عن الكلالة فكذلك أبو الأب وإن علا ولا فرق بينهما البتة
يوضحه الوجه الثالث وهو أن نسبة الإخوة إلى الجد كنسبة الأعمام إلى أبي الجد فإن الأخ ابن الأب والعم ابن الجد فإذا خلف عمه وأبا جده فهو كما لو خلف أخاه وجده سواء وقد أجمع المسلمون على تقديم أب الجد على العم فكذلك يجب تقديم الجد على الأخ وهذا من أبين القياس وإن لم يكن هذا قياسا جليا فليس في الدنيا قياس جلي

يوضحه الوجه الرابع وهو أن نسبة ابن الأخ إلى الأخ كنسبة أب الجد إلى الجد فإذا قال الأخ أنا أرث مع الجد لأني ابن أب الميت والجد أبو أبيه فكلانا في القرب إليه سواء صاح ابن الأخ مع أب الجد وقال أنا ابن ابن أب الميت فكيف حرمتموني مع أبي أبي أبيه ودرجتنا واحدة وكيف سمعتم قول أبي مع الجد ولم تسمعوا قولي مع أبي الجد
فإن قيل أبو الجد جد وإن علا وليس ابن الأخ أخا
قيل فهذا حجة عليكم لأنه إذا كان أبو الأب أبا وأبو الجد جدا فما للإخوة ميراث مع الأب بحال
فإن قلتم نحن نجعل أب الجد جدا ولا نجعل أبا الأب أبا
قيل هكذا فعلتم وفرقتم بين المتماثلين وتناقضتم أبين تناقض وجعلتموه أبا في موضع وأخرجتموه عن الأبوة في موضع
يوضحه الوجه الخامس وهو أن نسبة الجد إلى الأب في العمود الأعلى كنسبة ابن الأب إلى الابن في العمود الأسفل فهذا أبو أبيه وهذا ابن ابنه فهذا يدلي إلى الميت بأب الميت وهذا يدلى إليه بابنه فكما كان ابن الابن ابنا فكذلك يجب أن يكون أب الأب أبا فهذا هو الاعتبار الصحيح من كل وجه وهذا معنى قول ابن عباس ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا
يوضحه الوجه السادس وهو أن الله سبحانه سمى الجد أبا في قوله ملة أبيكم إبراهيم وقوله كما أخرج أبويكم من الجنة وقوله أنتم وآباؤكم الأقدمون وقول يوسف واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب وفي حديث المعراج هذا أبوك آدم وهذا أبوك إبراهيم وقال النبي ص - لليهود من أبوكم قالوا فلان قال كذبتم بل أبوكم فلان قالوا صدقت وسمي ابن الابن ابنا كما في قوله يا بني آدم و يا بني إسرائيل وقول

النبي ص - ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا والأبوة والبنوة من الأمور المتلازمة المتضايفة يمتنع ثبوت أحدهما بدون الآخر فيمتنع ثبوت البنوة لابن الابن إلا مع ثبوت الأبوة لأب الأب
يوضحه الوجه السابع وهو أن الجد لو مات ورثه بنو بنيه دون إخوته باتفاق الناس فهكذا الأب إذا مات يرثه أبو أبيه دون إخوته وهذا معنى قول عمر لزيد كيف يرثني أولاد عبد الله دون إخوتي ولا أرثهم دون إخوتهم فهذا هو القياس الجلي والميزان الصحيح الذي لا مغمز فيه ولا تطفيف
يوضحه الوجه الثامن وهو أن قاعدة الفرائض وأصولها إذا كان قرابة المدلي من الواسطة من جنس قرابة الواسطة كان أقوى مما إذا اختلف جنس القرابتين مثال ذلك أن الميت يدلي إليه ابنه بقرابة البنوة وأبوه يدلي إليه بقرابة الأبوة فإذا أدلى إليه واحد ببنوة البنوة وإن بعدت كان أقوى ممن يدلي إليه بقرابة بنوة الأبوة وإن قربت فكذلك قرابة أبوة الأبوة وإن علت أقوى من قرابة بنوة الأب وإن قربت وقد ظهر اعتبار هذا في تقديم جد الجد وإن علا على ابن الأخ وإن قرب وعلا العم لأن القرابة التي يدلي بها الجد من جنس واحد وهي الأبوة والقرابة التي يدلي بها الأخ وبنوه من جنسين وهي بنوة الأبوة ولهذا قدمت قرابة ابن الأخ على قرابة ابن الجد لأنها قرابة بنوة أب وتلك قرابة بنوة أبي أب فبين ابن الأخ فيها وبين الميت جنس واحد وهي الأخوة فبواسطتها وصل إليه بخلاف العم فإن بينه وبينه جنسين أحدهما الأبوة والثاني بنوتها وعلى هذه القاعدة بناء باب العصبات
يوضحه الوجه التاسع وهو أن كل بني أب أدنى وإن بعدوا عن الميت يقدمون في التعصيب على بني الأب الأعلى وإن كانوا أقرب إلى الميت فابن ابن ابن الأخ يقدم على العم القريب وابن ابن ابن العم وأن نزل

يقدم على عم الأب وهذا مما يبين أن الجنس الواحد يقوم أقصاه مقام أدناه ويقدم الأقصى على من يقدم عليه الأدنى فيقدم ابن ابن الابن على من يقدم عليه الابن وابن ابن الأخ على من يقدم عليه الأخ وابن ابن العم على من يقدم عليه العم فما بال أب الأب وحده خرج من هذه القاعدة ولم يقدم على من يقدم عليه الأب
وبهذا يظهر بطلان تمثيل الأخ والجد بالشجرة التي خرج منها غصنان والنهر الذي خرج منه ساقيتان فإن القرابة التي من جنس واحد أقوى من القرابة المركبة من جنسين وهذه القرابة البسيطة مقدمة على تلك المركبة بالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار الصحيح ثم قياس القرابة على القرابة والأحكام الشرعية على مثلها أولى من قياس قرابة الآدميين على الأشجار والأنهار مما ليس في الأصل حكم شرعي ثم نقول بل النهر الأعلى أولى بالجدول من الجدول التي اشتق منه وأصل الشجرة أولى بغصنها من الغصن الآخر فإن هذا صنوة ونظيره الذي لا يحتاج إليه وذلك أصله وحامله الذي يحتاج إليه واحتياج الشيء إلى أصله أقوى من احتياجه إلى نظيره فأصله أولى به من نظيره
يوضحه الوجه العاشر وهو أن هذا القياس لو كان صحيحا لوجب طرده ولما انتقض فإن طرده تقديم الإخوة على الجد فلما اتفق المسلمون على بطلان طرده علم أنه فاسد في نفسه
يوضحه الوجه الحادي عشر وهو أن الجد يقوم مقام الأب في التعصيب في كل صورة من صوره ويقدم على كل عصبة يقدم عليه الأب فما الذي أوجب استثناء الإخوة خاصة من هذه القاعدة
يوضحه الوجه الثاني عشر وهو أنه إن كان الموجب لاستثنائهم قوتهم وجب تقديمهم عليه وإن كان مساواتهم له في القرب وجب اعتبارها في بنيهم

وآبائه لاشتراكهم في السبب الذي اشترك فيه هو والإخوة وهذا مما لا جواب لهم عنه
يوضحه الوجه الثالث عشر وهو أنه قد اتفق الناس على أن الأخ لا يساوي الجد فإن لهم قولين أحدهما تقديمه عليه والثاني توريثه معه والمورثون لا يجعلونه كأخ مطلقا بل منهم من يقاسم به الإخوة إلى الثلث ومنهم من يقاسمهم به إلى السدس فإن نقصته المقاسمة عن ذلك أعطوه إياه فرضا وأدخلوا النقص عليهم أو حرموهم كزوج وأم وجد وأخ فلو كان الأخ مساويا للجد وأولى منه كما ادعى المورثون أنه القياس لساواه في هذا السدس وقدم عليه فعلم أن الجد أقوى وحينئذ فد اجتمع عصبتان وأحدهما أقوى من الآخر فيقدم عليه
يوضحه الوجه الرابع عشر وهو أن المورثين للإخوة لم يقولوا في التوريث قولا يدل عليه نص ولا إجماع ولا قياس مع تناقضهم وأما المقدمون له على الإخوة فهم أسعد الناس بالنص والإجماع والقياس وعدم التناقض فإن من المورثين من يزاحم به إلى الثلث ومنهم من يزاحم به إلى السدس وليس في الشريعة من يكون عصبة يقاسم عصبة نظيره إلى حد ثم يفرض له بعد ذلك الحد فلم يجعلوه معهم عصبة مطلقا ولا ذا فرض مطلق ولا قدموه عليهم مطلقا ولا ساووه بهم مطلقا ثم فرضوا له سدسا أو ثلثا بغير نص ولا إجماع ولا قياس ثم حسبوا عليه الإخوة من الأب ولم يعطوهم شيئا ثم إذا كان هناك إخوة لأبوين ثم جعلوا الأخوات معه عصبة إلا في صورة واحدة فرضوا فيها للأخت ثم لم يهينوها بما فرضوا لها بل عادوا عليها بالإبطال فأخذوه وأخذوا ما أصابه فقسموه بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ثم أعالوا هذه المسألة خاصة من مسائل الجد والإخوة ولم يعيلوا غيرها ثم ردوها بعد العول إلى التعصيب وسلم المقدمون له على الإخوة من هذا كله مع فوزهم بدلالة الكتاب والسنة والقياس ودخولهم في حزب الصديق

يوضحه الوجه الخامس عشر وهو أن الصديق لم يختلف عليه أحد من الصحابة في عهده إنه مقدم على الإخوة قال البخاري في صحيحه في باب ميراث الجد مع الإخوة وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير الجد أب وقرأ ابن عباس يا بني آدم واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولم يذكر أن أحدا خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون وقال ابن عباس يرثني ابن ابني دون إخوتي ولا أرث أنا ابن ابني ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أقاويل مختلفة انتنهى
وقال عبد الرزاق ثنا ابن جريج قال سمعت ابن أبي مليكة يحدث أن ابن الزبير كتب إلى أهل العراق إن الذي قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كنت متخذا خليلا حتى ألقى الله سوى الله لاتخذت أبا بكر خليلا كان يجعل الجد أبا وقال الدارمي في صحيحه ثنا سالم بن إبراهيم ثنا وهيب ثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال جعله الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له لو كنت متخذا خليلا لاتخذته خليلا ولكن أخوة الإسلام أفضل يعني أبا بكر جعله أبا ثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة قال لقيت مروان بن الحكم بالمدينة فقال يا ابن أبي موسى ألم أخبر أن الجد لا ينزل فيكم منزلة الأب وأنت لا تنكر قال قلت لو كنت أنت لم تنكر قال مروان فأنا أشهد على عثمان بن عفان أنه شهد على أبي بكر أنه جعل الجد أبا إذا لم يكن دونه أب ثنا يزيد بن هارون ثنا أشعث عن عروة عن الحسن قال إن الجد قد مضت فيه سنة وإن أبا بكر جعل الجد أبا ولكن الناس تحيروا وقال حماد بن سلمة ثنا هشام بن عروة عن عروة عن مروان قال قال لي عثمان بن عفان إن عمر قال لي إني قد رأيت في الجد رأيا فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه فقال عثمان إن نتبع رأيك فإنه رشد وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعم ذو الرأي كان قال وكان أبو بكر يجعله أبا والمورثون للإخوة بعدهم عمر وعثمان وعلي وزيد وابن مسعود

فأما عمر فإن أقواله اضطربت فيه وكان قد كتب كتابا في ميراثه فلما طعن دعى به فمحاه وقال الخشني عن محمد بن يسار عن محمد بن أبي عدي عن شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال قال عمر حين طعن إني لم أقض في الجد شيئا وقال وكيع عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال مات ابن لابن عمر ابن الخطاب فدعى زيد بن ثابت فقال شعب ما كنت تشعب لأني أعلم أني أولى به منهم وأما علي كرم الله وجهه فقال عبد الرزاق عن معمر ثنى أيوب عن سعيد بن جبير عن رجل من مراد قال سمعت عليا يقول من سره أن يتقحم جراثم جهنم فاليقضي بين الجد والإخوة وأما عثمان وابن مسعود فقال البغوي ثنى حجاج بن المنهال ثنى حماد بن سلمة أخبرنا الليث بن أبي سليم عن طاوس أن عثمان وعبد الله بن مسعود قالا الجد بمنزلة الأب
فهذه أقوال المورثين كما ترى قد اختلفت في أصل توريثهم معه واضربت في كيفية التوريث وخالفة دلالة الكتاب والسنة والقياس الصحيح بخلاف قول الصديق ومن معه
يوضحه الوجه السادس عشر وهو أن الناس اليوم قائلان قائل بقول أبي بكر وقائل بقول زيد ولكن قول الصديق هو الصواب وقول زيد بخلافه فإنه يتضمن تعصيب الجد للإخوات وهو تعصيب الرجل جنسا آخر ليسوا من جنسه وهذا لا أصل له في الشريعة إنما يعرف في الشريعة تعصيب الرجال للنساء إذا كانوا من جنس واحد كالبنين والبنات والإخوة والأخوات ولا ينتقض هذا بالأخوات مع البنات فإن الرجال لم يعصبوهن وإنما عصبهن البنات ولما كان تعصيب البنين أقوى كان الميراث لهم دون الأخوات بخلاف قول من عصب الأخوات بالجد فإنه عصبهن بجنس آخر أقوى تعصيبا منهن وهذا لا عهد به في الشريعة
يوضحه الوجه السابع عشر وهو أن الجد والإخوة لو اجتمعوا في التعصيب

لكانوا إما من جنس واحد أو من جنسين وكلاهما باطل أما الأول فظاهر البطلان لوجهين أحدهما اختلاف جهة التعصيب والثاني أنهم لو كانوا من جنس واحد لاستووا في الميراث والحرمان كالإخوة والأعمام وبنيهم إذا انفردوا وهذا هو التعصيب المعقول في الشريعة وأما الثاني فبطلانه أظهر إذ قاعدة الفرائض أن العصبة لا يرثون في المسألة إلا إذا كانوا من جنس واحد وليس لنا عصيبة من جنسين يرثان مجتمعين قط بل هذا محال فإن العصبة حكما أن يأخذ ما بقي بعد الفروض فإذا كان هذا حكم هذا الجنس وجب أن يأخذ دون الآخر وكذلك الجنس الآخر فيفضي أحدهما إلى حرمانهما واشتراكهما ممتنع لاختلاف الجنس وهذا ظاهر جدا
يوضحه الوجه الثامن عشر وهو أن الجد أب في باب الشهادة وفي باب سقوط القصاص وأب في باب المنع من دفع الزكاة إليه وأب في باب وجوب إعتاقه على ولد ولده وأب في باب سقوط القطع في السرقة وأب عند الشافعي في باب الإجبار في النكاح وفي باب الرجوع في الهبة وفي باب العتق بالملك وفي باب الإجبار على النفقة وفي باب إسلام ابن ابنه تبعا لإسلامه وأب عند الجميع في باب الميراث عند عدم الأب فرضا وتعصيبا في غير محل النزاع فما الذي أخرجه عن أبوته في باب الجد والإخوة فإن اعتبرنا تلك الأبواب فالأمر في أبوته في محل النزاع ظاهر وإن اعتبرنا باب الميراث فالأمر أظهر وأظهر
يوضحه الوجه التاسع عشر وهو أن الذين ورثوا الإخوة معه إنما ورثوهم المساواة تعصيبه لتعصيبهم ثم نقضوا الأصل فقدموا تعصيبهم على تعصيبه في باب الولاء وأسقطوه بالإخوة لقوة تعصيبهم عندهم ثم نقضوا ذلك أيضا فقدموا الجد عليهم في باب ولاية النكاح وأسقطوا تعصيبهم بتعصيبه وهذا غاية التناقض والخروج عن القياس لا بنص ولا إجماع
يوضحه الوجه العشرون وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألحقوا

الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر فإذا خلفت المرأة زوجها وأمها وأخاها وجدها فإن كان الأخ أولى رجل ذكر فهو أحق بالباقي وإن كانا سواء في بالأولوية وجب اشتراكهما فيه وإن كان الجد أولى وهو الحق الذي لا ريب فيه فهو أولى به وإذا كان الجد أولى رجل ذكر وجب أن ينفرد بالباقي بالنص وهذا الوجه وحده كاف وبالله التوفيق
وليس القصد هذه المسألة بعينها بل بيان دلالة النص والاكتفاء به عما عداه وأن القياس شاهد وتابع لا أنه مستقل في إثبات حكم من الأحكام لم تدل عليه النصوص
ومن ذلك الاكتفاء بقوله كل مسكر خمر عن إثبات التحريم بالقياس في الاسم أو في الحكم كما فعله من لم يحسن الاستدلال بالنص
ومن ذلك الاكتفاء بقوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما عن إثبات قطع النباش بالقياس اسما أو حكما إذا السارق يعم في لغة العرب وعرف الشارع سارق ثياب الأحياء والأموات
ومن ذلك الاكتفاء بقوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم في تناوله لكل يمين منعقدة يحلف بها المسلمون من غير تخصيص إلا بنص أو إجماع وقد بين ذلك سبحانه في قوله لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة فهذا كفارتها وقد أدخلت الصحابة في هذا النص الحلف بالتزام الواجبات والحلف بأحب القربات المالية إلى الله وهو العتق كما ثبت ذلك عن ستة منهم ولا مخالف لهم من بقيتهم وأدخلت فيه الحلف بالبغيض إلى الله وهو الطلاق كما ثبت ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة ولا مخالف له منهم فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل بعمومه حتى يثبت إجماع الأمة إجماعا متيقنا على خلافه فالأمة لا تجمع على خطأ البتة

ومن ذلك الاكتفاء بقوله ص - من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد في إبطال كل عقد نهى الله ورسوله عنه وحرمه وأنه لغو لا يعتد به نكاحا كان أو طلاقا أو غيرهما إلا أن تجمع الأمة إجماعا معلوما على أن بعض ما نهى الله ورسوله عنه وحرمه من العقود صحيح لازم معتد به غير مردود فهي لا تجمع على خطأ وبالله التوفيق
ومن ذلك الاكتفاء بقوله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم مع قوله ص - وما سكت عنه فهو مما عفا عنه فكل ما لم يبين الله ولا رسوله ص - تحريمه من المطاعم والمشارب والملابس والعقود والشروط فلا يجوز تحريمها فإن الله سبحانه قد فصل لنا ما حرم علينا فما كان من هذه الأشياء حراما فلا بد أن يكون تحريمه مفصلا وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرمه الله فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرمه وبالله التوفيق
قد تم بحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات الجزء الأول من كتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين
تأليف الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية ويليه إن شاء الله الجزء الثاني وأوله
فصل في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس
نسأل الله جلت قدرته أن يعنينا بفيض منه وأن يساعدنا على إتمامه إنه على ما يشاء قدير
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم

فصل في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد إما أن يكون القياس فاسدا أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع
وسألت شيخنا قدس الله روحه عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم هذا خلاف القياس لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم وربما كان مجمعا عليه كقولهم طهارة الماء إذا وقعت فيه نجاسة على خلاف القياس وتطهير النجاسة على خلاف القياس والوضوء من لحوم الإبل والفطر بالحجامة والسلم والإجارة والحوالة والكتابة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والقرض وصحة صوم الآكل الناسي والمضي في الحج الفاسد كل ذلك على خلاف القياس فهل ذلك صواب أم لا
فقال ليس في الشريعة ما يخالف القياس وأنا أذكر ما حصلته من جوابه بخطه ولفظه وما فتح الله سبحانه لي بيمن إرشاده وبركة تعليمه وحسن بيانه وتفهيمه
لفظ القياس مجمل
أصل هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل يدخل فيه القياس الصحيح والفاسد والصحيح هو الذي وردت به الشريعة وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين فالأول قياس الطرد والثاني قياس العكس وهو من العدل الذي بعث الله به نبيه ص - فالقياس الصحيح مثل أن تكون

العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط وكذلك القياس بإلغاء الفارق وهو أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع فمثل هذا القياس أيضا لا تأتي الشريعة بخلافه وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكم يفارق به نظائره فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره لكن الوصف الذي اختص به ذلك النوع قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر وليس من شرط القياس الصحيح أن يعلم صحته كل أحد فمن رأى شيئا من الشريعة مخالفا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر وحيث علمنا أن النص ورد بخلاف قياس علمنا قطعا أنه قياس فاسد بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم فليس في الشريعة ما يخالف قياسا صحيحا ولكن يخالف القياس الفاسد وإن كان بعض الناس لا يعلم فساده ونحن نبين ذلك فيما ذكر في السؤال
المشاركة غير المعارضة
فالذين قالوا المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة لأنها عمل بعوض والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض فلما رأوا العمل والربح في هذه العقود غير معلومين قالوا هي على خلاف القياس وهذا من غلطهم فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض والمشاركات جنس غير جنس المعوضات وإن كان فيها شوب المعاوضة وكذلك المقاسمة جنس غير جنس المعاوضة المحضة وإن كان فيها شوب المعاوضة حتى ظن بعض الفقهاء أنها بيع يشترط فيها شروط البيع الخاص

العمل الذي يقصد به المال أنواع ثلاثة
وإيضاح هذا أن العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع
النوع الأول
أحدها أن يكون العمل مقصودا معلوما مقدورا على تسليمه فهذه الإجارة اللازمة
النوع الثاني
الثاني أن يكون العمل مقصودا لكنه مجهول أو غرر فهذه الجعالة وهي عقد جائز ليس بلازم فإذا قال من رد عبدي الآبق فله مائة فقد يقدر على رده وقد لا يقدر وقد يرده من مكان قريب أو بعيد فلهذا لم تكن لازمة لكن هي جائزة فإن عمل العمل استحق الجعل وإلا فلا ويجوز أن يكون الجعل فيها إذا حصل بالعمل جزءا شائعا ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم كقول أمير الغزو من دل على حصن فله ثلث ما فيه أو يقول للسرية التي يسير بها لكم خمس ما تغنمون أو ربعه وتنازعوا في السلب هل هو مستحق بالشرع كقول الشافعي أو بالشرط كقول أبي حنيفة ومالك على قولين وهما روايتان عن أحمد فمن جعله مستحقا بالشرط جعله من هذا الباب ومن ذلك إذا جعل للطبيب جعلا على الشفاء جاز كما أخذ أصحاب النبي ص - القطيع من الشاء الذي جعله لهم سيد الحي فرقاه أحدهم حتى برىء والجعل كان على الشفاء لا على القراءة ولو استأجر طبيبا إجارة لازمة على الشفاء لم يصح لأن الشفاء غير مقدور له فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الإجارة اللازمة

فصل النوع الثالث
وأما النوع الثالث فهو مالا يقصد فيه العمل بل المقصود فيه المال وهو المضاربة فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل كالمجاعل والمستأجر له قصد في عمل العامل ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئا لم يكن له شيء وإن سمى هذه جعالة بجزء مما يحصل من العمل كان نزاعا لفظيا بل هذه مشاركة هذا بنفع ماله وهذا بنفع بدنه وما قسم الله من ربح كان بينهما على الإشاعة ولهذا لا يجوز أن يختص أحدهما بربح مقدر لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة وهذا هو الذي نهى عنه النبي ص - من المزارعة فإنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها وهو ما ثبت على الماذيانات وأقبال الجداول ونحو ذلك فنهى النبي ص - عنه ولهذا قال الليث بن سعد وغيره إن الذي نهى عنه النبي ص - أمر لو نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز فتبين أن النهي عن ذلك موجب القياس فإن هذا لو شرط في المضاربة لم يجز فإن مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم يكن ذلك عدلا بخلاف ما إذا كان لكل منهما جزء شائع فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم فإن حصل ربح اشتركا فيه وإن لم يحصل شيء اشتركا في المغرم وذهب نفع بدن هذا كما ذهب نفع مال هذا ولهذا كانت الوضيعة على المال لأن ذلك في مقابلة ذهاب نفع المال ولهذا كان الصواب أنه يجب في المضاربة الفاسدة بربح المثل فيعطى العامل ما جرت العادة أن يعطاه مثله إما نصفه أو ثلثه فأما أن يعطى شيئا مقدرا مضمونا في ذمة المالك كما يعطى في الإجارة والجعالة فهذا غلط ممن قاله وسبب غلطه ظنه أن هذه إجارة فأعطاه في فاسدها عوض المثل كما يعطيه في الصحيح المسمى
ومما يبين غلط هذا القول أن العامل قد يعمل عشر سنين أو أكثر فلو

أعطى أجرة المثل أعطى أضعاف رأس المال وهو في الصحيحة لا يستحق إلا جزءا من الربح إن كان هناك ربح فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف ما يستحقه في الصحيحة وكذلك الذين أبطلوا المزارعة والمساقاة ظنوا أنهما إجارة بعوض مجهول فأبطلوها وبعضهم صحح منهما ما تدعو إليه الحاجة كالمساقاة على الشجر لعدم إمكان إجارتها بخلاف الأرض فإنه يمكن إجارتها وجوزوا من المزارعة ما يكون تبعا للمساقاة إما مطلقا وإما إذا كان البياض الثلث وهذا كله بناء على أن مقتضى الدليل بطلان المزارعة وإنما جوزت للحاجة ومن أعطى النظر حقه علم أن المزارعة أبعد عن الظلم والغرر من الإجارة بأجرة مسماة مضمونة في الذمة فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض فإذا لزمته الأجرة ومقصوده من الزرع قد يحصل وقد لا يحصل كان في هذا حصول أحد المعاوضين على مقصوده دون الآخر فأحدهما غانم ولا بد والآخر متردد بين المغنم والمغرم وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم والغرر من الإجارة
العدل هو الأصل في كل العقود
والأصل في العقود كلها إنما هو العدل الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب قال تعالى ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم وعن الميسر لما فيه من الظلم والقرآن جاء بتحريم هذا وهذا وكلاهما أكل المال بالباطل وما نهى عنه النبي ص - من المعاملات كبيع الغرر وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع السنين وبيع حبل الحبلة وبيع المزابنة والمحاقلة وبيع الحصاة وبيع الملاقيح والمضامين ونحو ذلك هي داخلة إما في الربا وإما في الميسر فالإجارة بالأجرة المجهولة مثل أن يكريه الدار بما يكسبه المكتري في حانوته من المال هو من الميسر وأما المضاربة والمساقاة والمزارعة

فليس فيها شيء من الميسر بل هي من أقوم العدل وهو مما يبين لك أن المزارعة التي يكون فيها البذر من العامل أولى بالجواز من المزارعة التي يكون فيها البذر من رب الأرض ولهذا كان أصحاب النبي ص - يزارعون على هذا الوجه وكذلك عامل النبي ص - أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعملوها من أموالهم والذين اشترطوا أن يكون البذر من رب الأرض قاسوا ذلك على المضاربة فقالوا المضاربة فيها المال من واحد والعمل من آخر فكذلك المزارعة ينبغي أن يكون البذر فيها من مالك الأرض وهذا القياس مع أنه مخالف للسنة الصحيحة ولأقوال الصحابة فهو من أفسد القياس فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح فهذا نظير الأرض في المزارعة وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه بل يذهب كما يذهب نفع الأرض فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي فالعامل إذا أخرج البذر ذهب عمله وبذره ورب الأرض يذهب نفع أرضه وبدن هذا كأرض هذا فمن جعل البذر كالمال في المضاربة كان ينبغي له أن يعيد مثل هذا البذر إلى صاحبه كما قال مثل ذلك في المضاربة فكيف ولو اشترط رب البذر عود نظيره لم يجوزوا ذلك
فصل الحوالة توافق القياس
وأما الحوالة فالذين قالوا إنها على خلاف القياس قالوا هي بيع دين بدين والقياس يأباه وهذا غلط من وجهين
أحدهما أن بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام ولا إجماع وإنما ورد النهي عن بيع الكالىء بالكالىء والكالىء هو المؤخر الذي لم يقبض كما لو أسلم شيئا في شيء في الذمة وكلاهما مؤخر فهذا لا يجوز بالاتفاق وهو بيع كالىء بكالىء وأما بيع الدين بالدين فينقسم إلى بيع واجب بواجب

كما ذكرنا وهو ممتنع وينقسم إلى بيع ساقط بساقط وساقط بواجب وواجب بساقط وهذا فيه نزاع
قلت الساقط بالساقط في صورة المقاصة والساقط بالواجب كما لو باعه دينا له في ذمته بدين آخر من غير جنسه فسقط الدين المبيع ووجب عوضه وهي بيع الدين ممن هو ذمته وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم إليه في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته فقد وجب له عليه دين وسقط له عنه دين غيره وقد حكى الإجماع على امتناع هذا ولا إجماع فيه قاله شيخنا واختار جوازه وهو الصواب إذ لا محذور فيه وليس بيع كالىء بكالىء فيتناوله النهي بلفظه ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله وينتفع صاحب المؤخر بربحه بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة وأما ما عداه من الصور الثلاث فلكل منهما غرض صحيح ومنفعة مطلوبة وذلك ظاهر في مسألة التقاص فإن ذمتهما تبرأ من أسرها وبراءة الذمة مطلوب لهما وللشارع فأما في الصورتين الأخيرتين فأحدهما يعجل براءة ذمته والآخر ينتفع بما يربحه وإذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته والآخر يحصل على الربح وذلك في بيع العين بالدين جاز أن يفرغها من دين ويشغلها بغيره وكأنه شغلها به ابتداء إما بقرض أو بمعاوضة فكانت ذمته مشغولة بشيء فانتقلت من شاغل إلى شاغل وليس هناك بيع كالىء بكالىء وإن كان بيع دين بدين فلم ينه الشارع عن ذلك لا بلفظه ولا بمعنى لفظه بل قواعد الشارع تقتضي جوازه فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه فقد عاوض المحيل المحتال من دينه بدين آخر في ذمة ثالث فإذا عاوضه من دينه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز وبالله التوفيق
رجعنا إلى كلام شيخ الإسلام قال الوجه الثاني يعني مما يبين أن

الحوالة على وفق القياس أن الحوالة من جنس إيفاء الحق لا من جنس البيع فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي في ذمة المحيل ولهذا ذكر النبي ص - الحوالة في معرض الوفاء فقال في الحديث الصحيح مطل الغنى ظلم وإذا أتبع أحدكم على ملىء فليتبع فأمر المدين بالوفاء ونهاه عن المطل وبين أنه ظالم إذا مطل وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على ملىء وهذا كقوله تعالى فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان أمر المستحق أن يطالب بالمعروف وأمر المدين أن يؤدي بإحسان ووفاء الدين ليس هو البيع الخاص وإن كان فيه شوب المعاوضة وقد ظن بعض الفقهاء أن الوفاء إنما يحصل باستيفاء الدين بسبب أن الغريم إذا قبض الوفاء صار في ذمة المدين مثله ثم إنه يقاص ما عليه بماله وهذا تكلف أنكره جمهور الفقهاء وقالوا بل نفس المال الذي قبضه يحصل به الوفاء ولا حاجة أن يقدر في ذمة المستوفي دينا وأولئك قصدوا أن يكون وفاء دين بدين مطلق وهذا لا حاجة إليه فإن الدين من جنس المطلق الكلي والمعين من جنس المعين فمن ثبت في ذمته دين مطلق كلي فالمقصود منه هو الأعيان الموجودة وأي معين استوفاه حصل به المقصود من ذلك الدين المطلق
فصل القرض يوافق القياس
وأما القرض فمن قال إنه على خلاف القياس فشبهته أنه بيع ربوي بجنسه مع تأخر القبض وهذا غلط فإن القرض من جنس التبرع بالمنافع كالعارية ولهذا سماه النبي ص - منيحة فقال أو منيحة ذهب أو منيحة ورق وهذا من باب الإرفاق لا من باب المعاوضات فإن باب المعاوضات يعطي كل منهما أصل المال على وجه لا يعود إليه وباب القرض من جنس باب العارية والمنيحة وإفقار الظهر مما يعطى فيه أصل المال لينتفع بما يستخلف منه ثم يعيده

إليه بعينه إن أمكن وإلا فنظيره ومثله فتارة ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار وتارة يمنحه ماشية ليشرب لبنها ثم يعيدها أو شجرة ليأكل ثمرها ثم يعيدها وتسمى العرية فإنهم يقولون أعاره الشجرة وأعاره المتاع ومنحه الشاة وأفقره الظهر وأقرضه الدراهم واللبن والثمر لما كان يستخلف شيئا بعد شيء كان بمنزلة المنافع ولهذا كان في الوقف يجري مجرى المنافع وليس هذا من باب البيع في شيء بل هو من باب الإرفاق والتبرع والصدقة وإن كان المقرض قد ينتفع أيضا بالقرض كما في مسألة السفتجة ولهذا كرهها من كرهها والصحيح أنها لا تكره لأن المنفعة لا تخص المقرض بل ينتفعان بها جميعا
فصل إزالة النجاسة توافق القياس
وأما إزالة النجاسة فمن قال إنها على خلاف القياس فقوله من أبطل الأقوال وأفسدها وشبهته أن الماء إذا لاقى نجاسة تنجس بها ثم لاقى الثاني والثالث كذلك وهلم جرا والنجس لا يزيل نجاسة وهذا غلط فإنه يقال فلم قلتم إن القياس يقتضي أن الماء إذ لاقى نجاسة نجس فإن قلتم الحكم في بعض الصور كذلك قيل هذا ممنوع عند من يقول إن الماء لا ينجس إلا بالتغير
فإن قيل فيقاس ما لم يتغير على ما تغير
قيل هذا من أبطل القياس حسا وشرعا وليس جعل الإزالة مخالفة للقياس بأولى من جعل تنجيس الماء مخالفا للقياس بل يقال إن القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسة لا ينجس كما أنه إذا لاقاها حال الإزالة لا ينجس فهذا القياس أصح من ذلك القياس لأن النجاسة تزول بالماء حسا وشرعا وذلك معلوم بالضرورة من الدين بالنص والإجماع وأما تنجيس الماء بالملاقاة فمورد نزاع فكيف يجعل مورد النزاع حجة على مواقع الإجماع والقياس يقتضي رد

موارد النزاع إلى موارد الإجماع وأيضا فالذي تقتضيه العقول أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس فإنه باق على أصل خلقته وهو طيب فيدخل في قوله يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة فاستحالت بحيث لم يظهر لها لون ولا طعم ولا ريح
وقد تنازع الفقهاء هل القياس يقتضي نجاسة الماء بملاقاة النجاسة إلا ما استثناه الدليل أو القياس يقتضي أنه لا ينجس إذ لم يتغير على قولين الأول قول أهل العراق والثاني قول أهل الحجاز وفقهاء الحديث منهم من يختار هذا ومنهم من يختار هذا
وقول أهل الحجاز هو الصواب الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول فإن الله سبحانه أباح الطيبات وحرم الخبائث والطيب والخبيث يثبت للمحل باعتبار صفات قائمة به فما دامت تلك الصفة فالحكم تابع لها فإذا زالت وخلفتها الصفة الأخرى زال الحكم وخلفه ضده فهذا هو محض القياس والمعقول فهذا الماء والطعام كان طيبا لقيام الصفة الموجبة لطيبه فإذا زالت تلك الصفة وخلفتها صفة الخبث عاد خبيثا فإذا زالت صفة الخبث عاد إلى ما كان عليه وهذا كالعصير الطيب إذا تخمر صار خبيثا فإذا عاد إلى ما كان عليه عاد طيبا والماء الكثير إذا تغير بالنجاسة صار خبيثا فإذا زال التغير عاد طيبا والرجل المسلم إذا ارتد صار خبيثا فإذا عاد إلى الإسلام عاد طيبا والدليل على أنه طيب الحس والشرع أما الحس فلأن الخبث لم يظهر له فيه أثر بوجه ما لا في لون ولا طعم ولا رائحة ومحال صدق المشتق بدون المشتق منه وأما الشرع فمن وجوه أحدها
أنه كان طيبا قبل ملاقاته لما يتأثر به والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت رفعه وهذا يتضمن أنواع الاستصحاب الثلاثة المتقدمة استصحاب براءة الذمة من الإثم بتناوله شربا أو طبخا أو عجنا وملابسة استصحاب الحكم الثابت وهو الطهارة واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع

الثاني أنه لو شرب هذا الماء الذي قطرت فيه قطرة من خمر مثل رأس الذبابة لم يحد اتفاقا ولو شربه صبي وقد قطرت فيه قطرة من لبن لم تنشر الحرمة فلا وجه للحكم بنجاسته لا من كتاب ولا من سنة ولا قياس
والذين قالوا إن الأصل نجاسة الماء بالملاقاة تناقضوا أعظم تناقض ولم يمكنهم طرد هذا الأصل فمنهم من استثنى مقدار القلتين على خلافهم فيها ومنهم من استثنى ما لا يمكن نزحه ومنهم من استثنى ما إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر ومنهم من استثنى الجاري خاصة وفرقوا بين ملاقاة الماء في الإزالة إذا ورد على النجاسة وملاقاتها له إذا وردت عليه بفروق منها أنه وارد على النجاسة فهو فاعل وإذا وردت عليه فهو مورود منفعل وهو أضعف ومنها أنه إذا كان واردا فهو جار والجاري له قوة ومنها أنه إذا كان واردا فهو في محل التطهير وما دام في محل التطهير فله عمل وقوة والصواب أن مقتضى القياس أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وأنه إذا تغير في محل التطهير فهو نجس أيضا وهو في حال تغيره لم يزلها وإنما خففها ولا تحصل الإزالة المطلوبة إلا إذا كان غير متغير وهذا هو القياس في المائعات كلها أن يسير النجاسة إذا استحالت في الماء ولم يظهر لها فيه لون ولا طعم ولا رائحة فهي من الطيبات لا من الخبائث وقد صح عن النبي ص - أنه قال الماء لا ينجس وصح عنه أنه قال إن الماء لا يجنب وهما نصان صريحان في أن الماء لا ينجس بالملاقاة ولا يسلبه طهوريته استعماله في إزالة الحدث ومن نجسه بالملاقاة أو سلب طهوريته بالاستعمال فقد جعله ينجس ويجنب والنبي ص - ثبت عنه في صحيح البخاري أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال ألقوها وما حولها وكلوه ولم يفصل بين أن يكون جامدا أو مائعا قليلا أو كثيرا فالماء بطريق الأولى يكون هذا حكمه وحديث التفريق بين الجامد والمائع حديث معلول وهو غلط من معمر من عدة وجوه بينها البخاري في صحيحه والترمذي في جامعه وغيرهما ويكفي أن الزهري الذي روى عنه معمر حديث التفصيل قد روى عنه الناس كلهم خلاف ما روى عنه معمر

وسئل عن هذه المسألة فأفتى بأنها تلقى وما حولها ويؤكل الباقي في الجامد والمائع والقليل والكثير واستدل بالحديث فهذه فتياه وهذا استدلاله وهذه رواية الأئمة عنه فقد اتفق على ذلك النص والقياس ولا يصلح للناس سواه وما عداه من الأقوال فمتناقض لا يمكن صاحبه طرده كما تقدم فظهر أن مخالفة القياس فيما خالف النص لا فيما جاء به النص
فصل طهارة الخمر باستحالتها توافق القياس
وعلى هذا الأصل فطهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس فإنها نجسة لوصف الخبث فإذا زال الموجب زال الموجب وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها بل وأصل الثواب والعقاب وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت وقد نبش النبي ص - قبور المشركين من موضع مسجده ولم ينقل التراب وقد أخبر الله سبحانه عن اللبن أنه يخرج من بين فرث ودم وقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا علفت بالنجاسة ثم حبست وعلفت بالطاهرات حل لبنها ولحمها وكذلك الزرع والثمار إذا سقيت بالماء النجس ثم سقيت بالطاهر حلت لاستحالة وصف الخبث وتبدله بالطيب وعكس هذا أن الطيب إذا استحال خبيثا صار نجسا كالماء والطعام إذا استحال بولا وعذرة فكيف أثرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثا ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيبا والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب ولا عبرة بالأصل بل بوصف الشيء نفسه ومن الممتنع بقاء حكم الخبث وقد زال اسمه ووصفه والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجودا وعدما فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر لا تتناول الزرع والثمار والرماد والملح والتراب والخل لا لفظا ولا معنى ولا نصا ولا قياسا والمفرقون بين استحالة الخمر وغيرها قالوا الخمر نجست

بالاستحالة فطهرت بالاستحالة فيقال لهم وهكذا الدم والبول والعذرة وإنما نجست بالاستحالة فتطهر بالاستحالة فظهر أن القياس مع النصوص وأن مخالفة القياس في الأقوال التي تخالف النصوص
فصل الوضوء من لحوم الإبل يوافق القياس
وأما قولهم إن الوضوء من لحوم الإبل على خلاف القياس لأنها لحم واللحم لا يتوضأ منه فجوابه أن الشارع فرق بين اللحمين كما فرق بين المكانين وكما فرق بين الراعيين رعاة الإبل ورعاة الغنم فأمر بالصلاة في مرابض الغنم دون أعطان الإبل وأمر بالتوضؤ من لحوم الإبل دون الغنم كما فرق بين الربا والبيع والمذكي والميتة فالقياس الذي يتضمن التسوية بين ما فرق الله بينه من أبطل القياس وأفسده ونحن لا ننكر أن في الشريعة ما يخالف القياس الباطل هذا مع أن الفرق بينهما ثابت في نفس الأمر كما فرق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم فقال الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل والسكينة في أصحاب الغنم وقد جاء أن على ذروة كل بعير شيطان وجاء أنها جن خلقت من جن ففيها قوة شيطانية والغاذى شبيه بالمغتذى ولهذا حرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير لأنها دواب عادية فالاغتذاء بها يجعل في طبيعة المغتذى من العدوان ما يضره في دينه فإذا اغتذى من لحوم الإبل وفيها تلك القوة الشيطانية والشيطان خلق من نار والنار تطفأ بالماء هكذا جاء الحديث ونظيره الحديث الآخر إن الغضب من الشيطان فإذا غضب أحدكم فليتوضأ فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في وضوئه ما يطفىء تلك القوة الشيطانية فتزول تلك المفسدة ولهذا أمرنا بالوضوء مما مست النار إما إيجابا منسوخا وإما استحبابا غير منسوخ وهذا الثاني أظهر لوجوه منها أن النسخ لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع بين الحديثين ومنها أن رواة أحاديث الوضوء بعضهم متأخر الإسلام كأبي هريرة ومنها أن المعنى الذي أمرنا بالوضوء لأجله منها هو

اكتسابها من القوة النارية وهي مادة الشيطان التي خلق منها والنار تطفأ بالماء وهذا المعنى موجود فيها وقد ظهر اعتبار نظيره في الأمر بالوضوء من الغضب ومنها أن أكثر ما مع من ادعى النسخ أنه ثبت في أحاديث صحيحة كثيرة أنه ص - أكل مما مست النار ولم يتوضأ وهذا إنما يدل على عدم وجوب الوضوء لا على عدم استحبابه فلا تنافي بين أمره وفعله وبالجملة فالنسخ إنما يصار إليه عند التنافي وتحقق التاريخ وكلاهما منتف وقد يكون الوضوء من مس الذكر ومس النساء من هذا الباب لما في ذلك من تحريك الشهوة فالأمر بالوضوء منهما على وفق القياس ولما كانت القوة الشيطانية في لحوم الإبل لازمة كان الأمر بالوضوء منها لا معارض له من فعل ولا قول ولما كان في ممسوس النار عارضة صح فيها الأمر والترك ويدل على هذا أنه فرق بينها وبين لحوم الغنم في الوضوء وفرق بينها وبين الغنم في مواضع الصلاة فنهى عن الصلاة في أعطان الإبل وأذن في الصلاة في مرابض الغنم وهذا يدل على أنه ليس ذلك لأجل الطهارة والنجاسة كما أنه لما أمر بالوضوء من لحوم الإبل دون لحوم الغنم علم أنه ليس ذلك لكونها مما مسته النار ولما كانت أعطان الإبل مأوى الشيطان لم تكن مواضع للصلاة كالحشوش بخلاف مباركها في السفر فإن الصلاة فيها جائزة لأن الشيطان هناك عارض وطرد هذا المنع من الصلاة في الحمام لأنه بيت الشيطان وفي الوضوء من اللحوم الخبيثة كلحوم السباع إذا أبيحت للضرورة روايتان والوضوء منها أبلغ من الوضوء من لحوم الإبل فإذا عقل المعنى لم يكن بد من تعديته ما لم يمنع منه مانع والله أعلم
فصل الفطر بالحجامة يوافق القياس
أما الفطر بالحجامة فإنما اعتقد من قال إنه على خلاف القياس ذلك بناء على أن القياس الفطر بما دخل لا بما خرج وليس كما ظنوه بل الفطر

بها محض القياس وهذا إنما يتبين بذكر قاعدة وهي أن الشارع الحكيم شرع الصوم على أكمل الوجوه وأقومها بالعدل وأمر فيه بغاية الاعتدال حتى نهى عن الوصال وأمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور وجعل أعدل الصيام وأفضله صيام داود فكان من تمام الاعتدال في الصوم أن لا يدخل الإنسان ما به قوامه كالطعام والشراب ولا يخرج ما به قوامه كالقيء والاستمناء وفرق بين ما يمكن الاحتراز منه من ذلك وبين ما لا يمكن فلم يفطر بالاحتلام ولا بالقيء الذارع كما لا يفطر بغبار الطحين وما يسبق من الماء إلى الجوف عند الوضوء والغسل وجعل الحيض منافيا للصوم دون الجنابة لطول زمانه وكثرة خروج الدم وعدم التمكن من التطهير قبل وقته بخلاف الجنابة وفرق بين دم الحجامة ودم الجرح فجعل الحجامة من جنس القيء والاستمناء والحيض وخروج الدم من الجرح والرعاف من جنس الاستحاضة والاحتلام وذرع القيء فتناسبت الشريعة وتشابهت تأصيلا وتفصيلا وظهر أنها على وفق القياس الصحيح والميزان العادل ولله الحمد
فصل التيمم يوافق القياس
ومما يظن أنه على خلاف القياس باب التيمم قالوا إنه على خلاف القياس من وجهين أحدهما أن التراب ملوث لا يزيل درنا ولا وسخا ولا يطهر البدن كما لا يطهر الثوب والثاني أنه شرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها وهذا خروج عن القياس الصحيح
ولعمر الله أنه خروج عن القياس الباطل المضاد للدين وهو على وفق القياس الصحيح فإن الله سبحانه جعل من الماء كل شيء حي وخلقنا من التراب فلنا مادتان الماء والتراب فجعل منهما نشأتنا وأقواتنا وبهما تطهرنا وتعبدنا فالتراب أصل ما خلق منه الناس والماء حياة كل شيء وهما الأصل في الطبائع التي ركب الله عليهما هذا العالم وجعل قوامه بهما وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار هو الماء في الأمر المعتاد فلم يجز العدول

عنه إلا في حال العدم والعذر بمرض أو نحوه وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره وإن لوث ظاهرا فإنه يطهر باطنا ثم يقوي طهارة الباطن فيزيل دنس الظاهر أو يخففه وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقيقة الأعمال وارتباط الظاهر بالباطن وتأثر كل منهما بالآخر وانفعاله عنه
فصل التيمم في عضوين بوافق القياس
وأما كونه في عضوين ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة فإن وضع التراب على الرءوس مكروه في العادات وإنما يفعل عند المصائب والنوائب والرجلان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم لله والذل له والانكسار لله ما هو أحب العبادات إليه وأنفعها للعبد ولذلك يستحب للساجد أن يترب وجهه لله وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد وجعل بينه وبين التراب وقاية فقال ترب وجهك وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين وأيضا فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر وهو أن التيمم جعل في العضوين المغسولين وسقط عن العضوين الممسوحين فإن الرجلين تمسحان في الخف والرأس في العمامة فلما خفف عن المغسولين بالمسح خفف عن الممسوحين بالعفو إذ لو مسحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب فظهر أن الذي جاءت به الشريعة هو أعدل الأمور وأكملها وهو الميزان الصحيح
أما كون تيمم الجنب كتيمم المحدث فلما سقط مسح الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث سقط مسح البدن كله بالتراب عنه بطريق الأولى إذ في ذلك من المشقة والحرج والعسر مما يناقض رخصة التيمم ويدخل أكرم المخلوقات على الله في شبه البهائم إذا تمرغ في التراب فالذي جاءت به الشريعة لا مزيد في الحسن والحكمة والعدل عليه ولله الحمد

فصل السلم يوافق القياس
وأما السلم فمن ظن أنه على خلاف القياس توهم دخوله تحت قول النبي ص - لا تبع ما ليس عندك فإنه بيع معدوم والقياس يمنع منه والصواب أنه على وفق القياس فإنه بيع مضمون في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبا وهو كالمعارضة على المنافع في الإجارة وقد تقدم أنه على وفق القياس وقياس السلم على بيع العين المعدومة التي لا يدري أيقدر على تحصيلها أم لا والبائع والمشتري منها على غرر من أفسد القياس صورة ومعنى وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان مالا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى والربا والبيع
وأما قول النبي ص - لحكيم بن حزام لا تبع ما ليس عندك فيحمل على معنيين أحدهما أن يبيع عينا معينة وهي ليست عنده بل ملك للغير فيبيعها ثم يسعى في تحصيلها وتسليمها إلى المشتري والثاني أن يريد بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة وهذا أشبه فليس عنده حسا ولا معنى فيكون قد باعه شيئا لا يدري هل يحصل له أم لا وهذا يتناول أمورا أحدها بيع عين معينة ليست عنده الثاني السلم الحال في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه الثالث السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته عادة فأما إذا كان على ثقة من توفيته عادة فهو دين من الديون وهو كالابتياع بثمن مؤجل فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة وبين الآخر فهذا محض القياس والمصلحة وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وهذا يعم الثمن والمثمن وهذا هو الذي فهمه

ترجمان القرآن من القرآن عبد الله بن عباس فقال أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله وقرأ هذه الآية
فثبت أن إباحة السلم على وفق القياس والمصلحة وشرع على أكمل الوجوه وأعدلها فشرط فيه قبض الثمن في الحال إذ لو تأخر لحصل شغل الذمتين بغير فائدة ولهذا سمي سلما لتسليم الثمن فإذا أخر الثمن دخل في حكم الكالىء بالكالىء بل هو نفسه وكثرت المخاطرة ودخلت المعاملة في حد الغرر ولذلك منع الشارع أن يشترط فيه كونه من حائط معين لأنه قد يتخلف فيمتنع التسليم
والذين شرطوا أن يكون دائم الجنس غير منقطع قصدوا به إبعاده من الغرر بإمكان التسليم لكن ضيقوا ما وسع الله وشرطوا ما لم يشرطه وخرجوا عن موجب القياس والمصلحة أما القياس فإنه أحد العوضين فلم يشترط دوامه ووجوده كالثمن وأما المصلحة فإن في اشتراط ذلك تعطيل مصالح الناس إذ الحاجة التي لأجلها شرع الله ورسوله السلم الارتفاق من الجانبين هذا يرتفق بتعجيل الثمن وهذا يرتفق برخص المثمن وهذا قد يكون في منقطع الجنس كما قد يكون في متصله فالذي جاءت به الشريعة أكمل شيء وأقومه بمصالح العباد
فصل الكتابة توافق القياس
وأما الكتابة فمن قال هي على خلاف القياس قال هي بيع السيد ماله بماله وهذا غلط وإنما باع العبد نفسه بمال في ذمته والسيد لا حق له في ذمة العبد وإنما حقه في بدنه فإن السيد حقه في مالية العبد لا في إنسانيته وإنما يطالب العبد بما في ذمته بعد عتقه وحينئذ فلا ملك للسيد عليه وإذا عرف هذا فالكتابة بيعه نفسه بمال في ذمته ثم إذا اشترى نفسه كان كسبه له ونفعه له

وهو حادث على ملكه الذي استحقه بعقد الكتابة ومن تمام حكمة الشارع أنه أخر فيها العتق إلى حين الأداء لأن السيد لم يرض بخروجه عن ملكه إلا بأن يسلم له العوض فمتى لم يسلم له العوض وعجز العبد عنه كان له الرجوع في البيع فلو وقع العتق لم يمكن رفعه بعد ذلك فيحصل السيد على الحرمان فراعى الشارع مصلحة السيد ومصلحة العبد وشرع الكتابة على أكمل الوجوه وأشدها مطابقة للقياس الصحيح وهذا هو القياس في سائر المعاوضات وبه جاءت السنة الصحيحة الصريحة الذي لا معارض لها أن المشتري إذا عجز عن الثمن كان للبائع الرجوع في عين ماله وسواء حكم الحاكم بفلسه أم لا والنبي ص - لم يشترط حكم الحاكم ولا أشار إليه ولا دل عليه بوجه ما فلا وجه لاشتراطه وإنما المعنى الموجب للرجوع هو الفلس الذي حال بين البائع وبين الثمن وهذا المعنى موجود بدون حكم الحاكم فيجب ترتيب أثره عليه وهو محض العدل وموجب القياس فإن المشتري لو اطلع على عيب في السلعة كان له الفسخ بدون حكم حاكم ومعلوم أن الأعسار عيب في الذمة لو علم به البائع لم يرض بكون ماله في ذمة مفلس فهذا محض القياس الموافق للنص ومصالح العباد وبالله التوفيق
وطرد هذا القياس عجز الزوج عن الصداق أو عجزه عن الوطء وعجزه عن النفقة والكسوة وطرده عجز المرأة عن العوض في الخلع أن للزوج الرجعة وهذا هو الصواب بلا ريب فإنه لم يخرج البضع عن ملكه إلا بشرط سلامة العوض وطرده الصلح عن القصاص إذا لم يحصل له ما يصالح عليه فله العود إلى طلب القصاص فهذا موجب العدل ومقتضى قواعد الشريعة وأصولها وبالله التوفيق

فصل الإجارة توافق القياس
وأما الإجارة فالذين قالوا هي على خلاف القياس قالوا هي بيع معدوم لأن المنافع معدومة حين العقد ثم لما رأوا الكتاب قد دل على جواز إجارة الظئر للرضاع بقوله فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن قالوا إنها على خلاف القياس من وجهين أحدهما كونها إجارة والثاني أن الإجارة عقد على المنافع وهذه عقد على الأعيان ومن العجب أنه ليس في القرآن ذكر إجارة جائزة إلا هذه وقالوا هي على خلاف القياس والحكم إنما يكون على خلاف القياس إذا كان النص قد جاء في موضع يشابهه بنقيض ذلك الحكم فيقال هذا خلاف قياس ذلك النص وليس في القرآن ولا في السنة ذكر فساد إجارة شبه هذه الإجارة ومنشأ وهمهم ظنهم أن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منافع هي أعراض قائمة بغيرها لا أعيان قائمة بنفسها ثم افترق هؤلاء فرقتين فقالت فرقة إنما احتملناها على خلاف القياس لورود النص فلا نتعدى محله وقالت فرقة بل نخرجها على ما يوافق القياس وهو كون المعقود عليه أمرا غير اللبن بل هو إلقام الصبي الثدي ووضعه في حجر المرضعة ونحو ذلك من المنافع التي هي مقدمات الرضاع واللبن يدخل تبعا غير مقصود بالعقد ثم طردوا ذلك في مثل ماء البئر والعيون التي في الأرض المستأجرة وقالوا يدخل ضمنا وتبعا فإذا وقعت الإجارة على نفس العين والبئر لسقي الزرع والبستان قالوا إنما وردت الإجارة على مجرد إدلاء الدلو في البئر وإخراجه وعلى مجرد إجراء العين في أرضه مما هو قلب الحقائق وجعل المقصود وسيلة والوسيلة مقصودة إذ من المعلوم أن هذه الأعمال إنما هي وسيلة إلى المقصود بعقد الإجارة وإلا فهي بمجردها ليست مقصودة ولا معقودا عليها ولا قيمة لها أصلا وإنما هي كفتح الباب وكقود الدابة لمن اكترى دارا أو دابة

الرد على من جعل الإجارة على خلاف القياس
ونحن نتكلم على هذين الأصلين الباطلين على أصل من جعل الإجارة على خلاف القياس وعلى أصل من جعل إجارة الظئر ونحوها على خلاف القياس فنقول وبالله التوفيق
أما الأصل الأول فقولهم إن الإجارة بيع معدوم وبيع المعدوم باطل دليل مبني على مقدمتين مجملتين غير مفصلتين قد اختلط في كل منهما الخطأ بالصواب فأما المقدمة الأولى وهي كون الإجارة بيعا إن أردتم به البيع الخاص الذي يكون العقد فيه على الأعيان لا على المنافع فهو باطل وإن أردتم به البيع العام الذي هو معاوضة إما على عين وإما على منفعة فالمقدمة الثانية باطلة فإن بيع المعدوم ينقسم إلى بيع الأعيان وبيع المنافع ومن سلم بطلان بيع المعدوم فإما يسلمه في الأعيان ولما كان لفظ البيع يحتمل هذا وهذا تنازع الفقهاء في الإجارة هل تنعقد بلفظ البيع على وجهين والتحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأي لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما وهذا حكم شامل لجميع العقود فإن الشارع لم يحد لألفاظ العقود حدا بل ذكرها مطلقة فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية والتركية فانعقادها بما يدل عليها من الألفاظ العربية أولى وأحرى ولا فرق بين النكاح وغيره وهذا قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وهو أحد القولين في مذهب أحمد قال شيخنا بل نصوص أحمد لا تدل إلا على هذا القول وأما كونه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج فإنما هو قول ابن حامد والقاضي وأتباعه وأما قدماء أصحاب أحمد فلم يشترط أحد منهم ذلك وقد نص أحمد على أنه إذا قال أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها أنه ينعقد النكاح قال ابن عقيل وهذا يدل على أنه لا يختص النكاح بلفظ وأما ابن حامد فطرد أصله وقال لا ينعقد حتى يقول مع ذلك تزوجتها وأما القاضي فجعل هذا موضع استحسان خارجا عن القياس فجوز النكاح في هذه الصورة خاصة بدون لفظ الإنكاح والتزويج

وأصول الإمام أحمد ونصوصه تخالف هذا فإن من أصوله أن العقود تنعقد بما يدل على مقصودها من قول أو فعل ولا يرى اختصاصها بالصيغ ومن أصوله أن الكناية مع دلالة الحال كالصريح كما قاله في الطلاق والقذف وغيرهما والذين اشترطوا لفظ الإنكاح والتزويج قالوا ما عداهما كناية فلا يثبت حكمها إلا بالنية وهي أمر باطن لا اطلاع للشاهد عليه إذ الشهادة إنما تقع على المسموع لا على المقاصد والنيات وهذا إنما يستقيم إذا كانت ألفاظ الصريح والكناية ثابتة بعرف الشرع وفي عرف المتعاقدين والمقدمتان غير معلومتين
أما الأولى فإن الشارع استعمل لفظ التمليك في النكاح فقال ملكتكها بما معك من القرآن وأعتق صفية وجعل عتقها صداقها ولم يأت معه بلفظ إنكاح ولا تزويج وأباح الله ورسوله النكاح ورد فيه الأمة إلى ما تتعارفه نكاحا بأي لفظ كان ومعلوم أن تقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية تقسيم شرعي فإن لم يقم عليه دليل شرعي كان باطلا فما هو الضابط لذلك
وأما المقدمة الثانية فكون اللفظ صريحا أو كناية أمر يختلف باختلاف عرف المتكلم والمخاطب والزمان والمكان فكم من لفظ صريح عند قوم وليس بصريح عند آخرين وفي مكان دون مكان وزمان دون زمان فلا يلزم من كونه صريحا في خطاب الشارع أن يكون صريحا عند كل متكلم وهذا ظاهر
اختلاف بيع المنافع عن بيع الأعيان
والمقصود أن قوله إن الإجارة نوع من البيع إن أراد به البيع الخاص فباطل وإن أراد به البيع العام فصحيح ولكن قوله إن هذا البيع لا يرد على معدوم دعوى باطلة فإن الشارع جوز المعاوضة العامة على المعدوم فإن قستم بيع المنافع على بيع الأعيان فهذا قياس في غاية الفساد فإن المنافع لا يمكن أن يعقد عليها في حال وجودها البتة بخلاف الأعيان وقد فرق بينهما الحس والشرع فإن النبي ص - أمر أن يؤخر العقد على الأعيان التي

لم تخلق إلى أن تخلق كما نهى عن بيع السنين وحبل الحبلة والثمر قبل أن يبدو صلاحه والحب حتى يشتد ونهى عن الملاقيح والمضامين ونحو ذلك وهذا يمتنع مثله في المنافع فإنه لا يمكن أن تباع إلا في حال عدمها فههنا أمران أحدهما يمكن إيراد العقد عليه في حال وجوده وحال عدمه فنهى الشارع عن بيعه حتى يوجد وجوز منه بيع ما لم يوجد تبعا لما وجد إذا دعت الحاجة إليه وبدون الحاجة لم يجوزه والثاني ما لا يمكن إيراد العقد عليه إلا في حال عدمه كالمنافع فهذا جوز العقد عليه ولم يمنع منه
فإن قلت أنا أقيس أحد النوعين على الآخر وأجعل العلة مجرد كونه معدوما
قيل هذا قياس فاسد لأنه يتضمن التسوية بين المختلفين وقولك إن العلة مجرد كونه معدوما دعوى بغير دليل بل دعوى باطلة فلم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل كونه معدوما يمكن تأخير بيعه إلى زمن وجوده وعلى هذا التقدير فالعلة مقيدة بعدم خاص وأنت لم تبين أن العلة في الأصل مجرد كونه معدوما فقياسك فاسد وهذا كاف في بيان فساده بالمطالبة ونحن نبين بطلانه في نفسه فنقول ما ذكرناه علة مطردة وما ذكرته علة منتقضة فإنك إذا عللت بمجرد العدم ورد عليك النقص بالمنافع كلها وبكثير من الأعيان وما عللنا به لا ينتقض وأيضا فالقياس المحض وقواعد الشريعة وأصولها ومناسباتها تشهد لهذه العلة فإنه إذا كان له حال وجود وعدم كان في بيعه حال العدم مخاطرة وقمار وبذلك علل النبي ص - المنع حيث قال أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق وأما ما ليس له إلا حال واحد والغالب فيه السلامة فليس العقد عليه مخاطرة ولا قمارا وإن كان فيه مخاطرة يسيرة فالحاجة داعية إليه ومن أصول

الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما والغرر إنما نهي عنه لما فيه من الضرر بهما أو بأحدهما وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضرر أعظم من ضرر المخاطرة فلا يزيل أدنى الضررين بأعلاهما بل قاعدة الشريعة ضد ذلك وهو دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما ولهذا لما نهاهم عن المزابنة لما فيها من ربا أو مخاطرة أباحها لهم في العرايا للحاجة لأن ضرر المنع من ذلك أشد من ضرر المزابنة ولما حرم عليهم الميتة لما فيها من خبث التغذية أباحها لهم للضرورة ولما حرم عليهم النظر إلى الأجنبية أباح منه ما تدعو إليه الحاجة للخاطب والمعامل والشاهد والطبيب
فإن قلت فهذا كله على خلاف القياس
قيل إن أردت أن الفرع اختص بوصف يوجب الفرق بينه وبين الأصل فكل حكم استند إلى هذا الفرق الصحيح فهو على خلاف القياس الفاسد وإن أردت أن الأصل والفرع استويا في المقتضى والمانع واختلف حكمهما فهذا باطل قطعا ليس في الشريعة منه مسألة واحدة والشيء إذا شابه غيره في وصف وفارقه في وصف كان اختلافهما في الحكم باعتبار الفارق مخالفا لاستوائهما باعتبار الجامع وهذا هو القياس الصحيح طردا وعكسا وهو التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين
وأما التسوية بينهما في الحكم مع افتراقهما فيما يقتضي الحكم أو يمنعه فهذا هو القياس الفاسد الذي جاء الشرع دائما بإبطاله كما أبطل قياس الربا على البيع وقياس الميتة على المذكى وقياس المسيح عيسى E على الأصنام وبين الفارق بأنه عبد أنعم عليه بعبوديته ورسالته فكيف يعذبه بعبادة غيره له مع نهيه عن ذلك وعدم رضاه به بخلاف الأصنام فمن قال إن الشريعة تأتي بخلاف القياس الذي هو من هذا الجنس فقد أصاب وهو من كمالها واشتمالها على العدل والمصلحة والحكمة ومن سوى بين الشيئين

لاشتراكهما في أمر من الأمور يلزمه أن يسوي بين كل موجودين لاشتراكهما في مسمى الوجود وهذا من أعظم الغلط والقياس الفاسد الذي ذمه السلف وقالوا أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس وهو القياس الذي اعترف أهل النار في النار ببطلانه حيث قالوا تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وذم الله أهله بقوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي يقيسونه على غيره ويسوون بينه وبين غيره في الإلهية والعبودية وكل بدعة ومقالة فاسدة في أديان الرسل فأصلها من القياس الفاسد فما أنكرت الجهمية صفات الرب وأفعاله وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وكلامه وتكليمه لعباده ورؤيته في الدار الآخرة إلا من القياس الفاسد وما أنكرت القدرية عموم قدرته ومشيئته وجعلت في ملكه ما لا يشاء وأنه يشاء ما لا يكون إلا بالقياس الفاسد وما ضلت الرافضة وعادوا خيار الخلق وكفروا أصحاب محمد ص - وسبوهم إلا بالقياس الفاسد وما أنكرت الزنادقة والدهرية معاد الأجسام وانشقاق السموات وطي الدنيا وقالت بقدم العالم إلا بالقياس الفاسد وما فسد ما فسد من أمر العالم وخرب ما خرب منه إلا بالقياس الفاسد وأول ذنب عصي الله به القياس الفاسد وهو الذي جر على آدم وذريته من صاحب هذا القياس ما جر فأصل شر الدنيا والآخرة جميعه من هذا القياس الفاسد وهذه حكمة لا يدريها إلا من له اطلاع على الواجب والواقع وله فقه في الشرع والقدر
فصل خطأ من أطلق أن بيع المعدوم لا يجوز
وأما المقدمة الثانية وهي أن بيع المعدوم لا يجوز فالكلام عليها من وجهين

أحدهما منع صحة هذه المقدمة إذ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ص - ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام ولا بمعنى عام وإنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر وهو ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودا أو معدوما كبيع العبد الآبق والبعير الشارد وإن كان موجودا إذ موجب البيع تسليم المبيع فإذا كان البائع عاجزا عن تسليمه فهو غرر ومخاطرة وقمار فإنه لا يباع إلا بوكس فإن أمكن المشتري تسلمه كان قد قمر البائع وإن لم يمكنه ذلك قمره البائع وهكذا المعدوم الذي هو غرر نهي عنه للغرر لا للعدم كما إذا باعه ما تحمل هذه الأمة أو هذه الشجرة فالمبيع لا يعرف وجوده ولا قدره ولا صفته وهذا من الميسر الذي حرمه الله ورسوله ونظير هذا في الإجارة أن يكريه دابة لا يقدر على تسليمها سواء كانت موجودة أو معدومه وكذلك في النكاح إذا زوجه أمة لا يملكها أو ابنة لم تولد له وكذلك سائر عقود المعاوضات بخلاف الوصية فإنها تبرع محض فلا غرر في تعلقها بالموجود والمعدوم وما يقدر على تسليمه إليه وما لا يقدر وطرده الهبة إذ لا محذور في ذلك فيها وقد صح عن النبي ص - هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كبة الشعر حين أخذها من المغنم وسأله أن يهبها له فقال أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك
الوجه الثاني أن نقول بل الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه والحب بعد اشتداده ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد والنبي ص - نهى عن بيعه قبل بدو صلاحه وأباحه بعد بدو الصلاح ومعلوم أنه إذا اشتراه قبل الصلاح بشرط القطع كالحصرم جاز فإنما نهى عن بيعه إذا كان قصده التبقية

إلى الصلاح ومن جوز بيعه قبل الصلاح وبعده بشرط القطع أو مطلقا وجعل موجب العقد القطع وحرم بيعه بشرط التبقية أو مطلقا لم يكن عنده لظهور الصلاح فائدة ولم يكن فرق بين ما نهى عنه من ذلك وما أذن فيه فإنه يقول موجب العقد التسليم في الحال فلا يجوز شرط تأخيره سواء بدا صلاحه أو لم يبد والصواب قول الجمهور الذي دلت عليه سنة رسول الله ص - والقياس الصحيح وقوله إن موجب العقد التسليم في الحال جوابه أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد أو ما أوجبه المتعاقدان مما يسوغ لهما أن يوجباه وكلاهما منتف في هذه الدعوى فلا الشارع أوجب أن يكون كل مبيع مستحق التسليم عقيب العقد ولا العاقدان التزاما ذلك بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه وتارة يشترطان التأخير إما في الثمن وإما في المثمن وقد يكون للبائع غرض صحيح ومصلحة في تأخير التسليم للمبيع كما كان لجابر رضي الله عنه غرض صحيح في تأخير تسليم بعيره إلى المدينة فكيف يمنعه الشارع ما فيه مصلحة له ولا ضرر على الآخر فيها إذ قد رضى بها كما رضى ص - على جابر بتأخير تسليم البعير ولو لم ترد السنة بهذا لكان محض القياس يقتضي جوازه ويجوز لكل بائع أن يستثني من منفعة المبيع ما له فيه غرض صحيح كما إذا باع عقارا واستثنى سكناه مدة أو دابة واستثنى ظهرها ولا يختص ذلك بالبيع بل لو وهبه واستثنى نفعه مدة أو أعتق عبده واستثنى خدمته مدة أو وقف عينا واستثنى غلتها لنفسه مدة حياته أو كاتب أمة واستثنى وطأها مدة الكتابة ونحوه وهذا كله منصوص أحمد وبعض أصحابه يقول إذا استثنى منفعة المبيع فلا بد أن يسلم العين إلى المشتري ثم يأخذها ليستوفي المنفعة بناء على هذا الأصل الذي قد تبين فساده وهو أنه لا بد من استحقاق القبض عقيب العقد وعن هذا الأصل قالوا لا تصح الإجارة إلا على مدة تلي العقد وعلى هذا بنوا ما إذا باع العين المؤجرة

فمنهم من أبطل البيع لكون المنفعة لا تدخل في البيع فلا يحصل التسليم ومنهم من قال هذا مستثنى بالشرع بخلاف المستثنى بالشرط وقد اتفق الأئمة على صحة بيع الأمة المزوجة وإن كانت منفعة البضع للزوج ولم تدخل في البيع واتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما إذا باع مخزنا له فيه متاع كثير لا ينقل في يوم ولا أيام فلا يجب عليه جمع دواب البلد ونقله في ساعة واحدة بل قالوا هذا مستثنى بالعرف فيقال وهذا من أقوى الحجج عليكم فإن المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف كما أنه أوسع من المستثنى بالشرع فإنه يثبت بالشرط مالا يثبت بالشرع كما أن الواجب بالنذر أوسع من الواجب بالشرع
الفرق بين المطلق ومطلق العقد
وأيضا فقولكم إن موجب العقد استحقاق التسليم عقيبه أتعنون أن هذا موجب العقد المطلق أو مطلق العقد فإن أردتم الأول فصحيح وإن أردتم الثاني فممنوع فإن مطلق العقد ينقسم إلى المطلق والمقيد وموجب العقد المقيد ما قيد به كما أن موجب العقد المقيد بتأجيل الثمن وثبوت خيار الشرط والرهن والضمين هو ما قيد به وإن كان موجبه عند إطلاقه خلاف ذلك فموجب العقد المطلق شيء وموجب العقد المقيد شيء والقبض في الأعيان والمنافع كالقبض في الدين والنبي ص - جوز بيع الثمرة بعد بدو الصلاح مستحقة الإبقاء إلى كمال الصلاح ولم يجعل موجب العقد القبض في الحال بل القبض المعتاد عند انتهاء صلاحها ودخل فيما أذن فيه بيع ما هو معدوم لم يخلق بعد وقبض ذلك بمنزلة قبض العين المؤجرة وهو قبض يبيح التصرف في أصح القولين وإن كان قبضا لا يوجب انتقال الضمان بل إذا تلف المبيع قبل قبضه المعتاد كان من ضمان البائع كما هو مذهب أهل المدينة وأهل الحديث أهل بلدته وأهل سنته وهو مذهب الشافعي قطعا فإنه علق القول به على صحة الحديث وقد صح صحة لا ريب فيها من غير الطريق التي توقف الشافعي فيها فلا يسوغ

أن يقال مذهبه عدم وضع الجوائح وقد قال إن صح الحديث قلت به ورواه من طريق توقف في صحتها ولم تبلغه الطريق الأخرى التي لا علة لها ولا مطعن فيها وليس مع المنازع دليل شرعي يدل على أن كل قبض جوز التصرف ينقل الضمان وما لم يجوز التصرف لا ينقل الضمان فقبض العين المؤجرة يجوز التصرف ولا ينقل الضمان وقبض العين المستامة والمستعارة والمغصوبة يوجب الضمان ولا يجوز التصرف
فصل بيع مزارع القثاء والبطيخ وما شاكلها
ومن هذا الباب بيع المقاثي والمباطخ والباذنجان فمن منع بيعه إلا لقطة لقطة قال لأنه معدوم فهو كبيع الثمرة قبل ظهورها ومن جوزه كأهل المدينة وبعض أصحاب أحمد فقولهم أصح فإنه لا يمكن بيعها إلا على هذا الوجه ولا تتميز اللقطة المبيعة عن غيرها ولا تقوم المصلحة ببيعها كذلك ولو كلف الناس به لكان أشق شيء عليهم وأعظمه ضررا والشريعة لا تأتي به وقد تقدم أن ما لا يباع إلا على وجه واحد لا ينهى الشارع عن بيعه وإنما نهى الشارع عن بيع الثمار قبل بدو الصلاح لإمكان تأخير بيعها إلى وقت بدو الصلاح ونظير ما نهى عنه وأذن فيه سوى بيع المقاثي إذا بدا الصلاح فيها ودخول الأجزاء والأعيان التي لم تخلق بعد كدخول أجزاء الثمار وما يتلاحق في الشجر منها ولا فرق بينهما البتة

فصل صحة ضمان الحدائق والبساتين
وبنوا على هذا الأصل الذي لم يدل عليه دليل شرعي بل دل على خلافه وهو بيع المعدوم ضمان الحدائق والبساتين وقالوا هو بيع للثمر قبل ظهوره أو قبل بدو صلاحه ثم منهم من حكى الإجماع على بطلانه وليس مع المانعين كما ظنوه فلا النص يتناوله ولا معناه ولم تجمع الأمة على بطلانه فلا نص مع المانعين ولا قياس ولا إجماع ونحن نبين انتفاء هذه الأمور الثلاثة
أما الإجماع فقد صح عن عمر بن الخطاب أنه ضمن حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين وتسلف الضمان فقضى به دينا كان على أسيد وهذا بمشهد من الصحابة ولم ينكره منهم رجل واحد ومن جعل مثل هذا إجماعا فقد أجمع الصحابة على جواز ذلك وأقل درجاته أن يكون قول صحابي بل قول الخليفة الراشد ولم ينكره منهم منكر وهذا حجة عند جمهور العلماء وقد جوز بعض أصحاب أحمد ضمان البساتين مع الأرض المؤجرة إذ لا يمكن إفراد إحداهما عن الأخرى واختاره ابن عقيل وجوز بعضهم ضمان الأشجار مطلقا مع الأرض وبدونها واختاره شيخنا وأفرد فيه مصنفا ففي مذهب أحمد ثلاثة أقوال وجوز مالك ذلك تبعا للأرض في قدر الثلث
قال شيخنا والصواب ما فعله عمر
رضي الله عنه فإن الفرق بين البيع والضمان هو الفرق بين البيع والإجارة والنبي ص - نهى عن بيع الحب حتى يشتد ولم ينه عن إجارة الأرض للزراعة مع أن المستأجر مقصوده الحب بعمله فيخدم الأرض ويحرثها ويسقيها ويقوم عليها وهو نظير مستأجر

البستان ليخدم شجره ويسقيه ويقوم عليه والحب نظير الثمر والشجر نظير الأرض والعمل نظير العمل فما الذي حرم هذا وأحل هذا وهذا بخلاف المشتري فإنه يشتري ثمرا وعلى البائع مؤونة الخدمة والسقي والقيام على الشجر فهو بمنزلة الذي يشتري الحب وعلى البائع مؤونة الزرع والقيام عليه فقد ظهر انتفاء القياس والنص كما ظهر انتفاء الإجماع بل القياس الصحيح مع المجوزين كما معهم الإجماع القديم
فإن قيل فالثمر أعيان وعقد الإجارة إنما يكون على المنافع
قيل الأعيان هنا حصلت بعمله في الأصل المستأجر كما حصل الحب بعمله في الأرض المستأجرة
فإن قيل الفرق أن الحب حصل من بذره والثمر حصل من شجر المؤجر
قيل لا أثر لهذا الفرق في الشرع بل قد ألغاه الشارع في المساقاة والمزارعة فسوى بينهما والمساقي يستحق جزءا من الثمرة الناشئة من أصل الملك والمزارع يستحق جزءا من الزرع النابت في أرض المالك وإن كان البذر منه كما ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة وإجماع الصحابة فإذا لم يؤثر هذا الفرق في المساقاة والمزارعة التي يكون النماء فيها مشتركا لم يؤثر في الإجارة بطريق الأولى لأن إجارة الأرض لم يختلف فيها كالاختلاف في المزارعة فإذا كانت إجارتها عندكم أجوز من المزارعة فإجارة الشجر أولى بالجواز من المساقاة عليها فهذا محض القياس وعمل الصحابة ومصلحة الأمة وبالله التوفيق
والذين منعوا ذلك وحرموه توصلوا إلى جوازه بالحيلة الباطلة شرعا وعقلا فإنهم يؤجرونه الأرض وليست مقصودة له البتة ويساقونه على الشجر من ألف جزء على جزء مساقاة غير مقصودة وإجارة غير مقصودة فجعلوا ما لم يقصد مقصودا وما قصد غير مقصود وحابوا في المساقاة أعظم محاباة وذلك حرام باطل في الوقف وبستان المولى عليه من يتيم أو سفيه أو مجنون ومحاباتهم إياه في إجارة الأرض لا تسوغ لهم محاباة المستأجر في المساقاة ولا يسوغ اشتراط أحد

العقدين في الآخر بل كل عقد مستقل بحكمه فأين هذا من فعل أمير المؤمنين وفقهه وأين القياس من القياس والفقه من الفقه فبينهما في الصحة بعد ما بين المشرقين
فصل إجارة الظئر توافق القياس
فهذا الكلام على المقام الأول وهو كون الإجارة على خلاف القياس وقد تبين بطلانه
وأما المقام الثاني وهو أن الإجارة التي أذن الله فيها في كتابه وهي إجارة الظئر على خلاف القياس فبناء منهم على هذا الأصل الفاسد وهو أن المستحق بعقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان وهذا الأصل لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح بل الذي دلت عليه الأصول أن الأعيان التي تحدث شيئا فشيئا مع بقاء أصلها حكمها حكم المنافع كالثمر في الشجر واللبن في الحيوان والماء في البئر ولهذا سوى بين النوعين في الوقف فإن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل الفائدة فكما يجوز أن تكون فائدة الوقف منفعة كالسكنى وأن تكون ثمرة وأن تكون لبنا كوقف الماشية للانتفاع بلبنها وكذلك في باب التبرعات كالعارية لمن ينتفع بالمتاع ثم يرده والعرية لمن يأكل ثمر الشجرة ثم يردها والمنيحة لمن يشرب لبن الشاة ثم يردها والقرض لمن ينتفع بالدراهم ثم يرد بدلها القائم مقام عينها فكذلك في الإجارة تارة يكريه العين للمنفعة التي ليست أعيانا وتارة للعين التي تحدث شيئا من بعد شيء مع بقاء الأصل كلبن الظئر ونفع البئر فإن هذه الأعيان لما كانت تحدث شيئا بعد شيء مع بقاء الأصل كانت كالمنفعة والمسوغ هو ما بينهما من القدر المشترك وهو حدوث المقصود بالعقد شيئا فشيئا سواء كان الحادث عينا أو منفعة وكونه جسما

أو معنى قائما بالجسم لا أثر له في الجواز والمنع مع اشتراكهما في المقتضى للجواز بل هذا النوع من الأعيان الحادثة شيئا فشيئا أحق بالجواز فإن الأجسام أكمل من صفاتها وطرد هذا القياس جواز إجازة الحيوان غير الآدمي لرضاعه فإن الحاجة تدعو إليه كما تدعو إليه في الظئر من الآدميين بطعامها وكسوتها ويجوز استئجار الظئر من البهائم بعلفها والماشية إذا عاوض على لبنها فهو نوعان أحدهما أن يشترى اللبن مدة ويكون العلف والخدمة على البائع فهذا بيع محض والثاني أن يسلمها ويكون علفها وخدمتها عليه ولبنها له مدة الإجارة فهذا إجارة وهو كضمان البستان سواء وكالظئر فإن اللبن يستوفي شيئا فشيئا مع بقاء الأصل فهو كاستئجار العين ليسقي بها أرضه وقد نص مالك على جواز إجارة الحيوان مدة للبنه ثم من أصحابه من جوز ذلك تبعا لنصه ومنهم من منعه ومنهم من شرط فيه شروطا ضيقوا بها مورد النص ولم يدل عليها نصه والصواب الجواز وهو موجب القياس المحض فالمجوزون أسعد بالنص من المانعين وبالله التوفيق
فصل حمل العاقلة الدية يوافق القياس
ومن هذا الباب قول القائل حمل العاقلة الدية عن الجاني على خلاف القياس ولهذا لا تحمل العمد ولا العبد ولا الصلح ولا الاعتراف ولا ما دون الثلث ولا تحمل جناية الأموال ولو كانت على وفق القياس لحملت ذلك كله
والجواب أن يقال لا ريب أن من أتلف مضمونا كان ضمانه عليه ولا تزر وازرة وزر أخرى ولا تؤخذ نفس بجريرة غيرها وبهذا جاء شرع الله سبحانه وجزاؤه وحمل العاقلة الدية غير مناقض لشيء من هذا كما سنبينه والناس متنازعون في العقل هل تحمله العاقلة ابتداء أو تحملا على قولين كما تنازعوا في صدقة الفطر

التي يجب أداؤها عن الغير كالزوجة والولد هل تجب ابتداء أو تحملا على قولين وعلى ذلك ينبني ما لو أخرجها من تحملت عنه عن نفسه بغير إذن المتحمل لها فمن قال هي واجبة على الغير تحملا قال تجزىء في هذه الصورة ومن قال هي واجبة عليه ابتداء قال لا تجزىء بل هي كأداء الزكاة عن الغير وكذلك القاتل إذا لم تكن له عاقلة هل تجب الدية في ذمة القاتل أو لا على قولين بناء على هذا الأصل والعقل فارق غيره من الحقوق في أسباب اقتضت اختصاصه بالحكم وذلك أن دية المقتول مال كثير والعاقلة إنما تحمل الخطأ ولا تحمل العمد بالاتفاق ولا شبهة على الصحيح والخطأ يعذر فيه الإنسان فإيجاب الدية في ماله ضرر عظيم عليه من غير ذنب تعمده وإهدار دم المقتول من غير ضمان بالكلية فيه إضرار بأولاده وورثته فلا بد من إيجاب بدله فكان من محاسن الشريعة وقيامها بمصالح العباد أن أوجب بدله على من عليه موالاة القاتل ونصرته فأوجب عليهم إعانته على ذلك وهذا كإيجاب النفقات على الأقارب وكسوتهم وكذا مسكنهم وإعفافهم إذا طلبوا النكاح وكإيجاب فكاك الأسير من بلد العدو فإن هذا أسيف بالدية التي لم يتعمد سبب وجوبها ولا وجبت باختيار مستحقها كالقرض والبيع وليست قليلة فالقاتل في الغالب لا يقدر على حملها وهذا بخلاف العمد فإن الجاني ظالم مستحق للعقوبة ليس أهلا أن يحمل عنه بدل القتل وبخلاف شبه العمد لأنه قاصد للجناية متعمد لها فهو آثم معتد وبخلاف بدل المتلف من الأموال فإنه قليل في الغالب لا يكاد المتلف يعجز عن حمله وشأن النفوس غير شأن الأموال ولهذا لا تحمل العاقلة ما دون الثلث عند الإمام أحمد ومالك لقتله واحتمال الجاني حمله وعند أبي حنيفة لا تحمل ما دون أقل المقدر كأرش الموضحة وتحمل ما فوقه وعند الشافعي تحمل القليل والكثير طردا للقياس وظهر بهذا كونها لا تحمل العبد فإنه سلعة من السلع ومال من الأموال فلو حملت بدله لحملت بدل الحيوان

والمتاع وأما الصلح والاعتراف فعارض هذه الحكمة فيهما معنى آخر وهو أن المدعي والمدعى عليه قد يتواطآن على الإقرار بالجناية ويشتركان فيما تحمله العاقلة ويتصالحان على تغريم العاقلة فلا يسري إقراره ولا صلحه فلا يجوز إقراره في حق العاقلة ولا يقبل قوله فيما يجب عليها من الغرامة وهذا هو القياس الصحيح فإن الصلح والاعتراف يتضمن إقراره ودعواه على العاقلة بوجوب المال عليهم فلا يقبل ذلك في حقهم ويقبل بالنسبة إلى المعترف كنظائره فتبين أن إيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجبه الشارع من الإحسان إلى المحتاجين كأبناء السبيل والفقراء والمساكين
وهذا من تمام الحكمة التي بها قيام مصلحة العالم فإن الله سبحانه قسم خلقه إلى غني وفقير ولا تتم مصالحهم إلا بسد خلة الفقير فأوجب سبحانه في فضول أموال الأغنياء ما يسد به خلة الفقراء وحرم الربا الذي يضر بالمحتاج فكان أمره بالصدقة ونهيه عن الربا أخوين شقيقين ولهذا جمع الله بينهما في قوله يمحق الله الربا ويربى الصدقات وقوله وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون وذكر الله سبحانه أحكام الناس في الأموال في آخر سورة البقرة وهي ثلاثة عدل وظلم وفضل فالعدل البيع والظلم الربا والفضل الصدقة فمدح المتصدقين وذكر ثوابهم وذم المرابين وذكر عقابهم وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى
والمقصود أن حمل الدية من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض العباد على بعض كحق المملوك والزوجة والأقارب والضيف ليست من باب عقوبة الإنسان بجناية غيره فهذا لون وذاك لون والله الموفق

فصل حديث المصراة يوافق القياس
ومما قيل فيه إنه على خلاف القياس حديث المصراة قالوا وهو يخالف القياس من وجوه منها أنه تضمن رد البيع بلا عيب ولا خلف في صفة ومنها أن الخراج بالضمان فاللبن الذي يحدث عند المشتري غير مضمون عليه وقد ضمنه إياه ومنها أن اللبن من ذوات الأمثال وقد ضمنه إياه بغير مثله ومنها أنه إذا انتقل من التضمين بالمثل فإنما ينتقل إلى القيمة والتمر لا قيمة ولا مثل ومنها أن المال المضمون إنما يضمن بقدره في القلة والكثرة وقد قدر ههنا الضمان بصاع
قال أنصار الحديث كل ما ذكرتموه خطأ والحديث موافق لأصول الشريعة وقواعدها ولو خالفها لكان أصلا بنفسه كما أن غيره أصل بنفسه وأصول الشرع لا يضرب بعضها ببعض كما نهى رسول الله ص - عن أن يضرب كتاب الله بعضه ببعض بل يجب اتباعها كلها ويقر كل منها على أصله وموضعه فإنها كلها من عند الله الذي أتقن شرعه وخلقه وما عدا هذا فهو الخطأ الصريح
فاسمعوا الآن هدم الأصول الفاسدة التي يعترض بها على النصوص الصحيحة أما قولكم إنه تضمن الرد من غير عيب ولا فوات صفة فأين في أصول الشريعة المتلقاة عن صاحب الشرع ما يدل على انحصار الرد بهذين الأمرين وتكفينا هذه المطالبة ولن تجدوا إلى إقامة الدليل على الحصر سبيلا ثم نقول بل أصول الشريعة توجب الرد بغير ما ذكرتم وهو الرد بالتدليس والغش فإنه هو والخلف في الصفة من باب واحد بل الرد بالتدليس أولى من الرد بالعيب فإن البائع يظهر صفة المبيع تارة بقوله وتارة بفعله فإذا أظهر للمشتري أنه على صفة فبان بخلافها كان قد غشه ودلس عليه فكان له الخيار بين الإمساك والفسخ ولو لم تأت الشريعة بذلك لكان هو محض القياس وموجب العدل فإن المشتري إنما بذل ماله في المبيع بناء على الصفة التي أظهرها له البائع ولو علم أنه على

خلافها لم يبذل له فيها ما بذل فإلزامه للبيع مع التدليس والغش من أعظم الظلم الذي تتنزه الشريعة عنه وقد أثبت النبي ص - الخيار للركبان إذا تلقوا واشترى منهم قبل أن يهبطوا السوق ويعلموا السعر وليس ههنا عيب ولا خلف في صفة ولكن فيه نوع تدليس وغش
فصل الخراج بالضمان
وأما قولكم الخراج بالضمان فهذا الحديث وإن كان قد روي فحديث المصراة أصح منه باتفاق أهل الحديث قاطبة فكيف يعارض به مع أنه لا تعارض بينهما بحمد الله فإن الخراج اسم للغلة مثل كسب العبد وأجرة الدابة ونحو ذلك وأما الولد واللبن فلا يسمى خراجا وغاية ما في الباب قياسه عليه بجامع كونهما من الفوائد وهو من أفسد القياس فإن الكسب الحادث والغلة لم يكن موجودا حال البيع وإنما حدث بعد القبض وأما اللبن ههنا فإنه كان موجودا حال العقد فهو جزء من المعقود عليه والشارع لم يجعل الصاع عوضا عن اللبن الحادث وإنما هو عوض عن اللبن الموجود وقت العقد في الضرع فضمانه هو محض العدل والقياس
وأما تضمينه بغير جنسه ففي غاية العدل فإنه لا يمكن تضمينه بمثله البتة فإن اللبن في الضرع محفوظ غير معرض للفساد فإذا حلب صار عرضة لحمضه وفساده فلو ضمن اللبن الذي كان في الضرع بلبن محلوب في الإناء كان ظلما تتنزه الشريعة عنه
وأيضا فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري وقد يكون أقل منه أو أكثر فيفضي إلى الربا لأن أقل الأقسام أن تجهل المساواة
وأيضا فلو وكلناه إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لكثر النزاع والخصام بينهما

ففصل الشارع الحكيم صلاة الله وسلامه عليه وعلى آله النزاع وقدره بحد لا يتعديانه قطعا للخصومة وفصلا للمنازعة وكان تقديره بالتمر أقرب الأشياء إلى اللبن فإنه قوت أهل المدينة كما كان اللبن قوتا لهم وهو مكيل كما أن اللبن مكيل فكلاهما مطعوم مقتات مكيل وأيضا فكلاهما يقتات به بلا صنعة ولا علاج بخلاف الحنطة والشعير والأرز فالتمر أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن
فإن قيل فأنتم توجبون صاع التمر في كل مكان سواء كان قوتا لهم أو لم يكن
قيل هذا من مسائل النزاع وموارد الاجتهاد فمن الناس من يوجب ذلك ومنهم من يوجب في كل بلد صاعا من قوتهم ونظير هذا تعيينه ص - الأصناف الخمسة في زكاة الفطر وأن كل بلد يخرجون من قوتهم مقدار الصاع وهذا أرجح وأقرب إلى قواعد الشرع وإلا فكيف يكلف من قوتهم السمك مثلا أو الأرز أو الدخن إلى التمر وليس هذا بأول تخصيص قام الدليل عليه وبالله التوفيق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"