بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 9 أبريل 2010

نبذ من" اعلام الموقعين"/27

فصل فوائد تتعلق بالفتوى
ولنختم الكتاب بفوائد تتعلق بالفتوى
اربعة انواع للأسئلة
الفائدة الاولى أسئلة السائلين لاتخرج عن أربعة أنواع لا خامس لها الأول أن يسأل عن الحكم فيقول ما حكم كذا وكذا الثاني أن يسأل عن دليل الحكم الثالث أن يسأل عن وجه دلالته الرابع أن يسأل عن الجواب عن معارضيه
فإن سأل الحكم فللمسئول حالتان إحداهما أن يكون عالما به والثانية أن يكون جاهلا به حرم عليه الإفتاء بلا علم فإن فعل فعليه إثمة وإثم المستفتى فإن كان يعرف في المسألة ما قاله الناس ولم يتبين له الصواب من أقوالهم فله أن يذكر له ذلك فيقول فيها اختلاف بين العلماء ويحكيه إن أمكنه للسائل وإن كان عالما بالحكم فللسائل حالتان إجداهما أن يكون قد حضره وقت العمل احتاج إلى السؤال فيجب على المفتى المبادرة على الفور إلى جوابه فلا يجوز له تأخير بيان الحكم له عن وقت الحاجة والحالة الثانية ان يكون قد سأل عن الحادثة قبل وقوعها فهذا لا يجب على المفتى أن يجيبه عنها وقد كان السلف الطيب إذا سئل أحدهم عن مسألة يقول للسائل هل كانت أووقعت فإن قال لا لم يجبه وقال دعنا في عافية وهذا لأن الفتوى بالرأي لا تجوز إلاعند الضرورة تبيحه كما تبيح الميتة عند الاضطرار وهذا إنما هو في مسألة لا نص فيها ولا إجماع فإن كان فيها نص أواجماع فعليه تبلغيه بحسب الإمكان فمن سئل عن علم فكتمه ألجمة الله يوم القيامة بلجام من نار هذا إذا أمن المفتى غائله الفتوى فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها امسك عنها ترجيحا لدفع أعلى المفسدتين

باحتمال أدناهما وقد أمسك النبي ص - عن نقص الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم لأجل حدثان عهد قريش بالإسلام وأن ذلك ربما نفرهم عنه بعد الدخول فيه وكذلك إن كان عقل السائل لا يحتمل الجواب عما سأل عنه وخاف المسئول إن يكون فتنة له أمسك عن جوابه قال ابن عباس رضى الله عنه لرجل سأله عن تفسير آية وما يؤمنك أني لو أخبرتك يتفسيرها كفرت به أي جحدته وأنكرته وكفرت به ولم يرد أنك تكفر بالله ورسوله
يجوز للمفتي أن يعدل عن السؤال إلى ما هو أنفع
الفائدة الثانية يجوز للمفتي أن يعدل عن جواب المستفتي عما سأله عنه إلى ما هو انفع له منه ولا سيما إذا تضمن ذلك بيان ما سأل عنه وذلك من كمال علم المفتى وفقهه ونصحه وقد قال تعالى يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم فسألوه عن المنفق فأجابهم بذكر المصرف إذ هو أهم مما سألوه عنه ونبههم عليه بالسياق مع ذكره لهم في موضع آخر وهو قوله تعالى قل العفو وهو ما سهل عليهم إنفاقه ولا يضرهم إخراجه وقد ظن بعضهم ان من ذلك قوله تعالى يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج فسألوه عن سبب ظهور الهلال خفيا ثم لا يزال يتزايد فيه النور على التدريج حتى يكمل ثم يأخذ في النقصان فأجابهم عن حكمة ذلك من ظهور مواقيت الناس التي بها تمام مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم ومواقيت اكبر عبادتهم وهو الحج وإن كانوا قد سألوا عن السبب فقد اجيبوا بما هو أنفع لهم مما سألوا عنه وإن كانوا إنما سألوا عن حكمة ذلك فقد اجيبوا عن عين ما سالوا عنه ولفظ سؤالهم محتمل فإنهم قالوا ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم ياخذ في الزيادة حتى يتم ثم يأخذ في النقص
يجوز للمفتى أن يجيب بأكثر مما سئل
الفائدة الثالثة يجوز للمفتى ان يجيب السائل بأكثر مما سأله عنه وهو من كمال نصحه وعلمه وإرشاده ومن عاب ذلك فلقلة علمه وضيق عطنه وضعف

نصحه وقد ترجم البخاري لذلك في صحيحه فقال باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه ثم ذكر حديث ابن عمر رضى الله عنهما ما يلبس المحرم فقال رسول الله ص - لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا الخفاف إلا ان لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين
فسئل رسول الله ص - عما يلبس المحرم فأجاب عما لا يلبس وتضمن ذلك الجواب عم يلبس فإن مالا يلبس محصور وما يلبسه غير محصور فذكر لهم النوعين وبين لهم حكم لبس الخف عند عدم النعل وقد سألوه عن الوضوء بماء البحر فقال لهم
هو الطهور ماؤه الحل ميتته
إذا منع المفتى المستفتى من محظور وجهه الى بديل مباح
الفائدة الرابعة من فقه المفتى ونصحه إذا سأله المستفتى عن شئ فمنعه منه وكانت حاجته تدعوه اليه ان يدله على ما هو عوض له منه فيسد عليه باب المحظور ويفتح له باب المباح وهذا لا يتأتى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر الله وعامله بعلمه فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الاطباء يحمي العليل عما يضره ويصف له ما ينفعه فهذا شأن أطباء الاديان والابدان وفي الصحيح عن النبي ص - انه قال ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه ان يدل امته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمة لهم وهذا شأن خلق الرسل وورثتهم من بعدهم ورأيت شيخنا قدس الله روحه يتحرى ذلك في فتاويه مهما أمكنه ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرا فيها وقد منع النبي ص - بلالا ان يشتري صاعا من التمر الجيد بصاعين من الردئ ثم دله على الطريق المباح فقال بع الجميع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا فمنعه من الطريق المحرم وأرشده الى الطريق المباح ولما سأله عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث والفضل بن عباس ان يستعملهما في جباية الزكاة ليصيبا ما يتزوجان

به منعهما من ذلك وامر محمية بن جزو وكان على الخمس ان يعطيهما ما ينكحان به فمنعهما من الطريق المحرم وفتح لهما الطريق المباح وهذا اقتداء منه بربه تبارك وتعالى فإنه يساله عبده الحاجة فيمنعه إياها ويعطيه ما أصلح له وانفع منها وهذا غاية الكرم والحكمة
تنبيه السائل الى ما يرفع الوهم
الفائدة الخامسة إذا أفتى المفتى للسائل بشئ ينبغي له ان ينبهه على وجه الاحتراز مما قد يذهب اليه الوهم منه من خلاف الصواب وهذا باب لطيف من أبواب العلم والنصح والارشاد ومثال هذا قوله ص - لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده فتأمل كيف أتبع الجملة الاولى بالثانية رفعا لتوهم إهدار دماء الكفار مطلقا وإن كانوا في عهدهم فإنه لما قال لا يقتل مؤمن بكافر فربما ذهب الوهم الى ان دماءهم هدر ولهذا لو قتل احدهم مسلم لم يقتل به فرفع هذا التوهم بقوله ولا ذو عهد في عهده ولقد خفيت هذه اللطيفة الحسنة على من قال يقتل المسلم بالكافر المعاهد وقدر في الحديث ولا ذو عهد في عهده بكافر ومنه قوله ص - لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا اليها فلما كان نهيه عن الجلوس عليها نوع تعظيم لها عقبه بالنهي عن المبالغة في تعظيمها حتى تجعل قبلة وهذا بعينه مشتق من القرآن كقوله تعالى لنساء نبيه يا نساء النبي لستن كاحد من النساء أن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا فنهاهن عن الخضوع بالقول فربما ذهب الوهم الى الاذن في الاغلاظ في القول والتجاوز فرفع هذا التوهم بقوله وقلن قولا معروفا ومن ذلك قوله تعالى والذين أمنو واتبعتهم ذريتهم بإيمان الحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ لما أخبر سبحانه بإلحاق الذرية ولا عمل لهم بآبائهم في الدرجة فربما توهم متوهم ان يحط الآباء الى درجة الذرية فرفع هذا التوهم بقوله وما ألتناهم من عملهم من شئ أي ما نقصنا من الاباء شيئا من أجور اعمالهم بل رفعنا ذريتهم الى

درجتهم ولم نحطهم الى درجتهم بنقص اجورهم ولما كان الوهم قد يذهب الى انه يفعل ذلك بأهل النار كما يفعله بأهل الجنة قطع هذا الوهم بقوله تعالى كل امرئ بما كسب رهين ومن هذا قوله تعالى إنما أمرت ان اعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ فلما كان ذكر ربوبيته البلدة الحرام قد يوهم الاختصاص عقبه بقوله وله كل شئ ومن ذلك قوله تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ امره قد جعل الله لكل شئ قدرا فلما ذكر كفايته للمتوكل عليه فربما اوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل فعقبه بقوله قد جعل الله لكل شئ قدرا أي وقتا لا يتعداه فهو يسوقه الى وقته الذي قدره له فلا يستعجل المتوكل ويقول قد توكلت ودعوت فلم ار شيئا ولم تحصل لي الكفاة فالله بالغ أمره في وقته الذي قدره له وهذا كثي جدا في القرآن والسنة وهو باب لطيف من ابواب فهم النصوص
يجب على المفتى ان يذكر دليل الحكم
الفائدة السادسة ينبغي للمفتى ان يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه من ذلك ولا يلقيه الى المستفتى ساذجا مجردا عن دليله ومأخذه فهذا لضيق عطنه وقلة بضاعته من العلم ومن تأمل فتاوي النبي ص - الذي قوله حجة بنفسه رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره ووجه مشروعيته وهذا كما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال اينقص الرطب إذا جف قالوا نعم فزجر عنه ومن المعلوم انه كان يعلم نقصانه بالجفاف ولكن نبههم على علة التحريم وسببه ومن هذا قوله لعمر وقد سأله عن قبلة امرأته وهو صائم فقال أرأيت لو تمضمضت ثم مججته أكان يضر شيئا قال لا فنبه على أن مقدمة المحظور لا يلزم ان تكون محظورة فإن غاية القبة أنها مقدمة الجماع فلا يلزم من تحريمه تحريم مقدمته كما أن وضع الماء في الفم مقدمة شربه وليست المقدمة محرمة ومن هذا قوله ص - لا تنكح

المرأة على عمتها ولا على خالتها فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم فذكر لهم الحكم ونبههم على علة التحريم ومن ذلك قوله لابي النعمان بن بشير وقد خص بعض ولده بغلام نحله إياه فقال ايسرك ان يكونوا لك في البر سواء قال نعم قال فاتقوا الله واعدلوا بين اولادكم وفي لفظ إن هذا لا يصلح وفي لفظ إنى لا أشهد على جور وفي لفظ أشهد على هذا غيري تهديدا لا إذنا فإنه لا يأذن في الجور قطعا وفي لفظ رده والمقصود انه نبهه على علة الحكم ومن هذا قوله ص - لرافع بن خديج وقد قال له إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى افنذبح بالقصب فقال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك عن ذلك اما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة فنبه على علة المنع من التذكية بهما بكون احدهما عظماء وهذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام إما لنجاسة بعضها وإما لتنجيسه على مؤمني الجن ولكون الاخر مدى الحبشه ففي التذكية بها تشبه بالكفار ومن ذلك قوله إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الانسية فإنها رجس ومن ذلك قوله في الثمرة تصيبها الجائحة أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأكل احدكم مال اخيه بغير حق وهذا التعليل بعينه ينطبق على من استأجر أرضا للزراعة فأصاب الزرع آفة سماوية لفظا ومعنى فيقال للمؤجر ارأيت إن منع الله الزرع فبم تأكل مال اخيك بغير حق وهذا هو الصواب الذي ندين الله به في المسألة وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية
والمقصود أن الشارع مع كون قوله حجة بنفسه يرشد الامة الى علل الاحكام ومداركها وحكمها فورثته من بعده كذلك
ومن ذلك نهيه عن الخذف وقال إنه يفقأ العين ويكسر السن ومن ذلك إفتاؤه للعاض يد غيره بإهدار دية ثنيته لما سقطت بانتزاع المعضوض يده

من فيه ونيه على العلة بقوله ايدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل وهذا من أحسن التعليل وابينه فإن العاض لما صال على المعضوض جاز له ان يرد صياله عنه بانتزاع يده من فمه فإذا ادى ذلك الى اسقاط ثناياه كان سقوطها بفعل مأذون فيه من الشارع فلا يقابل بالدية وهذا كثير جدا في السنة فينبغي للفتى ان ينبه السائل على علة الحكم ومأخذه ان عرف ذلك والا حرم عليه ان يفتي بلا علم
وكذلك احكام القران يرشد سبحانه فيها الى مداركها وعللها كقوله ويسالونك عن المحيض قل هو اذى فاعتزلوا النساء في المحيض فأمر سبحانه نبيه ان يذكر لهم علة الحكم قبل الحكم وكذلك قوله ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وكذلك قوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم وقال في جزاء الصيد ليذوق وبال أمره
التمهيد للحكم المستغرب
الفائدة السابعة إذا كان الحكم مستغربا جدا مما لم تألفه النفوس وإنما الفت خلافه فينبغي للمفتي ان يوطئ قبله ما يكون مؤذنا به كالدليل عليه والمقدمة بين يديه فتأمل ذكره سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشبيبة وبلوغه السن الذي لا يولد فيه لمثله في العادة فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة المسيح وولادته من غير اب فإن النفوس لما آنست بولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب وكذلك ذكر سبحانه قبل قصة المسيح موافاة مريم رزقها في غير وقته وغير إبانه وهذا الذي شجع نفس زكريا وحركها لطلب الولد وإن كان في غير إبانه وتأمل قصة نسخ القبلة لما كانت شديدة على النفوس جدا كيف

وطأ سبحانه قبلها عدة موطئات منها ذكر النسخ ومنها انه يأتى بخير من المنسوخ أومثله ومنها انه على كل شئ قدير وانه بكل شئ عليم فعموم قدرته وعلمه صالح لهذا الامر الثاني كما كان صالحا للأول ومنها تحذيرهم الاعتراض على رسوله كما اعترض من قبلهم على موسى بل امرهم بالتسليم والانقياد ومنها تحذيرهم بالاصغاء الى اليهود وان تستخفهم شبههم فإنهم يودون ان يردوهم كفارا من بعد ما تبين لهم الحق ومنها إخباره ان دخول الجنة ليس بالتهود ولا بالتنصر وإنما هو بإسلام الوجه والقصد والعمل والنية لله مع متابعة امره ومنها إخباره سبحانه عن سعته وانه حيث ولى المصلى وجهه فثم وجهه تعالى فإنه واسع عليم نذكر الإحاطتين الذاتية والعلمية فلا يتوهمون انهم في القبلة الاولى لم يكونوا مستقبلين وجهه تبارك وتعالى ولا في الثانية بل حيثما توجهوا فثم وجه تعلى ومنها انه سبحانه وتعالى حذر نبيه ص - عن اتباع أهواء الكفار من أهل الكتاب وغيرهم بل أمر أن يتبع هو وأمته ما أوحى اليه فيستقبلونه بقلوبهم وحده ومنها انه ذكر عظمة بيته الحرام وعظمية بانيه وملته وسفه من يرغب عنها وامر باتباعها فنوه بالبيت وبانيه وملته وكل هذا توطئة بين يدي التحويل مع ما في ضمنه من المقاصد الجليلة والمطالب السنية ثم ذكر فضل هذه الامة وانهم الامة الوسط العدل الخيار فاقتضى ذلك ان يكون نبيهم ص - اوسط الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم وخيارهم وكتابهم كذلك ودينهم كذلك وقبلتهم التي يستقبلونها كذلك فظهرت المناسبة شرعا وقدرا في أحكامه تعالى الامرية والقدرية وظهرت حكمته الباهرة وتجلت للعقول الزكية المستنيرة بنور ربها تبارك وتعالى
والمقصود ان المفتي جدير ان يذكر بين يدي الحكم الغريب الذي لم يؤلف مقدمات تؤنس به وتدل عليه وتكون توطئة بين يديه وبالله التوفيق

يجوز للمفتي والمناظر ان يحلف على ثبوت الحكم عنده
الفائدة الثامنة يجوز للمفتي والمناظر ان يحلف على ثبوت الحكم عنده وإن لم يكن حلفه موجبا لثبوته عند السائل والمنازع ليشعر السائل والمنازع له انه على ثقة ويقين مما قال له وانه غير شاك فيه فقد تناظر رجلان في مسألة فحلف أحدهما على ما يعتقده فقال له منازعه لا يثبت الحكم بحلفك فقال إنى لم أحلف ليثبت الحكم عندك ولكن لأعلمك انى على يقين وبصيره من قولى وأن شبهتك لا تغير عندي في وجه يقينى بما انا جازم به
وقد امر الله نبيه ص - ان يحلف على ثبوت الحق الذي جاء به في ثلاثة مواضع من كتابه احدها قوله تعالى ويستنبئونك احق هو قل إي وربي إنه لحق والثاني قوله تعالى وقال الذين كفروا لا تاتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالمذ الغيب والثالث قوله تعالى زعم الذين كفروا ان لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن وقد اقسم النبي ص - على ما أخبر به من الحق في اكثر من ثمانين موضعا وهي موجودة في الصحاح والمسانيد
وقد كان الصحابة رضى الله عنهم يحلفون على الفتاوي والرواية فقال علي بن ابي طالب كرم الله وجه لابن عباس في متعة النساء إنك امرؤ تائه فانظر ما تفتي به في متعة النساء فوالله واشهد بالله لقد نهى عنها رسول الله ص - ولما ولى عمر رضى الله عنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أيها الناس إن رسول الله ص - احل المتعة ثلاثا ثم حرمها ثلاثا فأنا اقسم بالله قسما لا أجد احدا من المسلمين متمتعا إلا رجمته إلا ان يأتي بأربعة من المسلمين يشهدون أن رسول اله ص - احلها بعد ان حرمها
وقد حلف الشافعي في بعض أجوبته فقال محمد بن الحكم سالت الشافعي رضى الله عنه عن المتعة كان يكون فيها طلاق أوميراث أونفقة أوشهادة فقال لا والله ما أدرى وقال يزيد بن هارون من قال القرآن مخلوق أوشئ منه فهو والله عندي زنديق وسئل عن حديث جرير في الرؤية فقال والله الذي لا إله إلا هو من كذب به ما هم إلا زنادقة

وأما الامام احمد رحمة الله عليه ورضوانه فإنه حلف على عدة مسائل من فتاويه قيل ايزيد الرجل في الوضوء على ثلاث مرات فقال لا والله إلا رجل مبتلى يعنى بالوسواس وسئل عن تخلل الرجل لحيته إذا توضأ فقال إي والله وسئل يكون الرجل في الجهاد بين الصفين يبارز علجا بغير إذن الامام فقال لا والله وقيل له اتكره الصلاة في المقصورة فقال إي والله قلت وهذا لما كانت المقصورة تحمي للامراء وأتباعهم وسئل أيؤجر الرجل على بغض من خالف حديث رسول الله ص - فقال إي والله وسئل من قال القرآن مخلوق كافر فقال إي والله وسئل هل صح عندك في النبيذ حديث فقال والله ما صح عندي حديث واحد إلا على التحريم وسئل أيكره الخضاب بالسوادفقال إي والله وسئل عن الرجل يؤم أباه ويصلي الأب خلفه فقال إي والله وسئل هل يكره النفخ في الصلاة فقال إي والله وسئل عن تزوج الرجل المسلم الأمة من أهل الكتاب فقال لا والله وسئل عن المرأة تستلقي على قفاها وتنام يكره ذلك فقال إي والله وسئل عن الرجل يرهن جاريته فيطؤها وهي مرهونة فقال لا والله وسئل عن حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قضى في رجل استسقى قوما وهو عطشان فلم يسقوه فمات فأغرمهم عمر الدية تقول أنت كذا قال إي والله وسئل عن الرجل إذا حد في القذف ثم قذف زوجته يلاعنها فقال إي والله وسئل أيضرب الرجل رقيقة فقال إي والله ذكر هذه المسائل القاضي أبو علي الشريف
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ولوددت أني أنجو من هذا الأمر كفافا لا على ولالى وقال في روايته أيضا والله لقد تمنيت الموت في الأمر الذي كان وإني لأتمنى الموت في هذا وهذا فتنة الدنيا

وقال إسحاق بن منصور لأحمد يكره الخاتم من ذهب أوحديد فقال إي والله
وقال إسحاق أيضا قلت لأحمد يؤجر الرجل يأتي أهله وليس له شهوة في النساء فقال إي والله يحتسب الولد وإن لم يرد الولد إلا أنه يقول هذه امرأة شابة وقال له محمد بن عون يا أبا عبد الله يقولون إنك وقفت على عثمان فقال كذبوا والله على وإنما حدثتهم بحديث ابن عمر كنا نفاضل بين اصحاب رسول الله ص - نقول ابو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي فيبلغ ذلك النبي ص - فلم ينكره ولم يقل النبي ص - لا تخايروا بعد هؤلاء فمن وقف على عثمان ولم يربع بعلى عليه السلام فهو على غير السنة
وسئل احمد هل المقام بالثغر افضل من المقام بمكة فقال إى والله
وذكر ابو احمد بن عدي في الكامل ان ايوب بن إسحاق بن سافري قال سألت احمد بن حنبل فقلت يا أبا عبد الله ابن اسحاق إذا انفرد بحديث تقبله فقال لا والله إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا
وقال صالح بن احمد قلت لأبي تقتل الحية والعقرب في الصلاة فقال إى والله وقال ايضا قلت لأبي تجهر بآمين فقال إى والله الامام وغير الامام وقال ايضا قلت لابي يفتح على الامام قال إى والله
وقال الميموني قلت لاحمد ونحن نحتاج في رمضان ان نبيت الصوم من الليل فقال إى والله وقال الميموني أيضا تباع الفرس الحبيس إذا عطبت وإذا فسدت فقال إى والله وقال الميموني ايضا قلت لاحمد هل ثبت عن النبي ص - في العقيقة شئ فأملى على أبي إى والله وفي غير حديث عن النبي ص - عن الغلام شاتان مكافيتان وعن الجارية شاة

وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد التسبيح للرجال والتصفيق للنساء قال إى والله
وقال الكوسج ايضا قلت لأحمد قال سفيان تجزئه تكبيرة إذا نوى بها افتتاح الصلاة قال احمد إى والله تجزئه إذا نوى ابن عمر وزيد وقال أيضا قلت لأحمد المؤذن يجعل أصبعيه في أذنيه قال إى والله وقال ايضا قلت لأحمد سئل سفيان عن امرأة ماتت وفي بطنها ولد يتحرك ما أرى باسا ان يشق بطنها قال احمد بئس والله ما قال يردد ذلك سبحان الله بئس ما قال وقال ايضا قلت لاحمد تجوز شهادة رجل وامراتين في الطلاق قال لا والله وقال ايضا قلت لأحمد المرجئ إذا كان داعيا قال إى والله يجفى ويقصى
وقال ابو طالب قلت لاحمد رجل قال القرآن كلام الله ليس بمخلوق ولكن لفظي هذا به مخلوق قال من قال هذا فقد جاء بالامر كله إنما هو كلام الله على كل حال والحجة فيه حديث ابي بكر الم غلبت الروم فقيل له هذا مما جاء به صاحبك فقال لا والله ولكنه كلام الله هذا وغيره وإنما هو كلام الله قلت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون هذا الذي قرأت الساعة كلام الله قال إى والله هو كلام الله ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فقد جاء بالامر كله
وقال الفضل بن زياد سالت ابا عبد الله عن حديث ابن شبرمة عن الشعبي في رجل نذر ان يطلق امراته فقال له الشعبي اوف بنذرك اترى ذلك فقال لا والله وقال الفضل ايضا سمعت ابا عبد الله وذكر يحيى بن سعيد القطان فقال لا والله ما أدركنا مثله

وذكر احمد في رسالته الى مسدد ولا عين نظرت بعد النبي ص - خيرا من ابي بكر ولا بعد ابي بكر عين نظرت خيرا من عمر ولا بعد عمر عين نظرت خيرا من عثمان ولا بعد عثمان عين نظرت خيرا من علي بن ابي طالب رضى الله عنهم ثم قال احمد هم والله الخلفاء الراشدون المهديون
وقال الميوني قلت لأحمد جابر الجعفي قال كان يرى التشيع قلت قد يتهم في حديثه بالكذب قال إى والله قال القاضي فإن قيل كيف استجاز الامام احمد ان يحلف في مسائل مختلف فيها قيل اما مسائل الاصول فلا يسوغ فيها اختلاف فهى إجماع وأما مسائل الفروع فإنه لما غلب على ظنه صحة ذلك حلف عليه كما لو وجد في دفتر ابيه ان له على فلان دينا جاز له ان يدعيه لغلبة الظن بصدقه قلت ويحلف عليه قال فإن قيل اليس قد امتنع من اليمين على إسقاط الشفعة بالجوار قيل لأن اليمين هناك عند الحاكم والنية فيه للخصم قلت ولم يمنع احمد اليمين لهذا بل شفعه الجوار عنده مما يسوغ القول بها وفيها احاديث صحاح لا ترد ولهذا اختلف قوله فيها فمرة نفاها ومرة اثبتها ومرة فصل بين أن يشتركا في حقوق الملك كالطريق والماء وغيره وبين ألا يشتركا في شئ من ذلك فلا يثبت
وهذا هوالصواب الذي لا ريب فيه وبه تجتمع الاحاديث وهو اختيار شيخ الاسلام ومذهب فقهاء البصرة ولا يختار غيره وقد روى احمد عن جماعة من الصحابة والتابعين انهم حلفوا في الرواية والفتوى وغيرها تحقيقا وتأكيدا للخبر لا إثباتا له باليمين وقد قال تعالى فورب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون وقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجربينهم الاية وقال تعالى فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون وكذلك اقسم بكلامه كقوله تعالى يس والقرآن الحكيم ق والقرآن المجيد ص والقرآن ذي الذكر وأما إقسامه بمخلوقاته التي هي آيات دالة عليه فكثير جدا

تستحسن الفتوى بلفظ النص
الفائدة التاسعة ينبغي للمفتي ان يفتي بلفظ النص مهما امكنه فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام فهو حكم مضمون له الصواب متضمن للدليل عليه في احسن بيان وقول الفقيه المعين ليس كذلك وقد كان الصحابة والتابعون والائمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص واشتقوا لهم ألفاظا غير الفاظ النصوص فأوجب ذلك هجر النصوص ومعلوم ان تلك الالفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان فتولد من هجران الفاظ النصوص والاقبال على الالفاظ الحادئة وتعليق الاحكام بها على الامة من الفساد مالا يعلمه إلا الله فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب ولما كانت هي عصمة عهدة الصحابة واصولهم التي اليها يرجعون كانت علومهم اصح من علوم من بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم ثم التابعون بالنسبة الى من بعدهم كذلك وهلم جرا
ولما استحكم هجران النصوص عند اكثر اهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وادلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض
وقد كان اصحاب رسول الله ص - اذا سئلوا عن مسالة يقولون قال الله كذا قال رسول الله ص - كذا أوفعل رسول الله كذا ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا اليه سبيلا قط فمن تامل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور فلما طال العهد وبعد الناس من نور النبوة صار هذا عيبا عند المتأخرين ان يذكروا في اصول دينهم وفروعه قال الله وقال رسول الله أما اصول دينهم فصرحوا في كتبهم ان قول الله ورسوله لا يفيد اليقين في مسائل اصول الدين وإنما يحتج بكلام الله ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة واما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن الله ولا عن رسول الله ص - ولا عن الامام

الذي زعموا انهم قلدوه دينهم بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والاموال على قول ذلك المصنف واجلهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ الكتاب ويقول هكذا قال وهذا لفظه فالحلال ما احله ذلك الكتاب والحرام ما حرمه والواجب ما اوجبه والباطل ما ابطله والصحيح ما صححه هذا وانى لنا بهؤلاء في مثل هذه الازمان فقد دفعنا إلى امر تضج منه الحقوق الى الله ضجيجا وتعج الفروج والاموال والدماء الى ربها عجيجا تبدل فيه الاحكام ويقلب فيه الحلال بالحرام ويجعل المعروف فيه اعلى مراتب المنكرات والذي لم يشرعه الله ورسوله من افضل القربات الحق فيه غريب وأغرب منه من يعرفه وأغرب منهما من يدعو اليه وينصح به نفسه والناس قد فلق بهم فالق الاصباح صبحه عن غياهب الظلمات وابان طريقة المستقيم من بين تلك الطرق الجائرات واراه بعين قلبه ما كان عليه رسول الله ص - واصحابه مع ما عليه اكثر الخلق من البدع المضلات رفع له علم الهداية فشمر اليه ووضح له الصراط المستقيم فقام واستقام عليه وطوبي له من وحيد على كثرة السكان غريب على كثرة الجيران بين اقوام رؤيتهم قذى العيون وشجى الحلوق وكرب النفوس وحمى الارواح وغم الصدور ومرض القلوب وإن انصفتهم لم تقبل طبيعتهم الانصاف وان طلبته منهم فأين الثريا من يد الملتمس قد انتكست قلوبهم وعمى عليهم مطلوبهم رضوا بالاماني وابتلوا بالحظوظ وحصلوا على الحرمان وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوي الباطلة وشقاشق الهذيان ولا والله ما ابتلت من وشله اقدامهم ولا زكت به عقولهم واحلامهم ولا ابيضت به لياليهم واشرقت بنوره ايامهم ولا ضحكت بالهدى والحق منه وجوه الدفاتر إذ بلت بمداده أقلامهم انفقوا في غير شئ نفائس الانفاس واتعبوا انفسهم وحيروا من خلفهم من الناس

ضيعوا الاصول فحرموا الوصول وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في مهامه الحيرة وبيداء الضلالة
والمقصود ان العصمة مضمونه في الفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان واحسن تفسير ومن رام إدراك الهدى ودين الحق من غير مشكاتها فهو عليه عسير غير يسير
فصل توجه المفتى الى الله
الفائدة العاشرة ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة ان ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد الى ملهم الصواب ومعلم الخير وهادي القلوب ان يلهمه الصواب ويفتح له طريق السداد ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق وما اجدر من امل فضل ربه ان لا يحرمه إياه فإذا وجد من قلبه هذه الهمة فهي طلائع بشرى التوفيق فعليه ان يوجه وجهه ويحدق نظره الى منبع الهدى ومعدن الصواب ومطلع الرشد وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها فان ظفر بذلك اخبر به وان اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والاكثار من ذكر الله فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النور أوتكاد ولا بد ان تضعفه
وشهدت شيخ الاسلام قدس الله روحه اذا اعيته المسائل واستصعبت عليه فر منها الى التوبة والاستغفار والاستغاثة بالله واللجأ اليه واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته فقلما يلبث المدد الالهي ان يتتابع عليه مدا وتزدلف الفتوحات الالهية اليه بايتهن يبدأ ولا ريب ان من وفق لهذا الافتقار

علما وحالا وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد فقد أعطى حظه من التوقيق ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق فمتى اعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
العلم بالحق مقدمة للحكم والفتيا
الفائدة الحادية عشرة اذا نزلت بالحاكم أوالمفتى النازلة فإما ان يكون عالما بالحق فيها أوغالبا على ظنه بحيث قد استفرغ وسعه في طلبه ومعرفته أولا فان لم يكن عالما بالحق فيها ولا غلب على ظنه لم يحل له ان يفتى ولا يقضى بما لا يعلم ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة الله ودخل تحت قوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله مالا تعلمون فجعل القول عليه بلا علم اعظم المحرمات الاربع التي لا تباح بحال ولهذا حصر التحريم فيها بصيغة الحصر ودخل تحت قوله تعالى ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين انما يأمركم بالسوء والفحشاء وان تقولوا على الله مالا تعلمون ودخل في قول النبي ص - من افتى بغير علم فانما إثمة على من أفتاه وكان احد القضاة الثلاثة الذين ثلثاهم في النار وان كان قد عرف الحق في المسألة علما أوظنا غالبا لم يحل له ان يفتى ولا يقضى بغيره بالاجماع المعلوم بالضرورة من دين الاسلام وهو احد القضاة الثلاثة والمفتين الثلاثة والشهود الثلاثة وإذا كان من افتى أوحكم أوشهد بغير علم مرتكبا لأعظم الكبائر فكيف من أفتى أوحكم أوشهد بما يعلم خلافه فالحاكم والمفتي والشاهد كل منهم مخبر عن حكم الله فالحاكم مخبر منفذ والمفتي مخبر غير منفذ والشاهد مخبر عن الحكم الكوني القدري المطابق للحكم الديني الامري فمن اخبر منهم عما يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمدا ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ولا اظلم ممن

كذب على الله وعلى دينه وإن أخبروا بمالم يعلموا فقد كذبوا على الله جهلا وإن أصابوا في الباطن واخبروا بما لم يأذن الله لهم في الاخبار به وهم أسوأ حالا من القاذف اذا راى الفاحشة وحده فأخبر بها فإنه كاذب عند الله وإن أخبر بالواقع فإن الله لم يأذن له في الاخبار بها إلا اذا كان رابع أربعة فإن كان كاذبا عند الله في خبر مطابق لمخبره حيث لم يأذن له في الاخبار به فكيف بمن اخبر عن حكمة بما لم يعلم ان الله حكم به ولم يأذن له في الاخبار به قال الله تعالى ولا تقولوالما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم وقال تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه والكذب على الله يستلزم التكذيب بالحق والصدق وقال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين وهؤلاء الايات وإن كانت في حق المشركين والكفار فإنها متناولة لمن كذب على الله في توحيده ودينه وأسمائه وصفاته وأفعاله ولا تتناول المخطئ المأجور إذا بذل جهده واستفرغ وسعه في إصابة حكم الله وشرعه فإن هذا هو الذي فرضه الله عليه فلا يتناول المطيع لله إن أخطأ وبالله التوفيق
ما يجب على الراوي والمفتي والحاكم والشاهد
الفائدة الثانية عشرة حكم الله ورسوله يظهرعلى اربعة ألسنة لسان الراوي ولسان المفتي ولسان الحاكم ولسان الشاهد فالرواي يظهر على لسانه لفظ حكم الله ورسوله والمفتي يظهر على لسانه معناه وما استنبطه من لفظه والحاكم يظهر على لسانه الاخبار بحكم الله وتنفيذه والشاهد يظهر على لسانه الاخبار بالسبب الذي يثبت حكم الشارع والواجب على هؤلاء الاربعة ان يخبروا بالصدق المستند الى العلم فيكونون عالمين بما يخبرون به صادقين في الاخبار

به وآفة احدهم الكذب والكتمان فمتى كتم الحق أوالكذب فيه فقد حاد الله في شرعه ودينه وقد أجرى الله سنته ان يمحق عليه بركة علمه ودينه ودنياه اذا فعل ذلك كما أجرى عادته سبحانه في المتبايعين إذا كتما وكذبا أن يمحق بركة بيعهما ومن التزم الصدق والبيان منهم في مرتبته بورك له في علمه ووقته ودينه ودنياه وكان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما فبالكتمان يعزل الحق عن سلطانه وبالكذب يقلبه عن وجهه والجزاء من جنس العمل فجزاء أحدهم ان يعزله الله عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم الذي يلبسه اهل الصدق والبيان ويلبسه ثوب الهوان والمقت والخزي بين عباده فإذا كان يوم القيامة جازى الله سبحانه من يشاء من الكاذبين الكاتمين بطمس الوجوه وردها على أدبارها كما طمسوا وجه الحق وقلبوه عن وجهه جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد
على المفتي ألا ينسب الحكم الى الله ولا الى رسوله إلا بنص قاطع
الفائدة الثالثة عشرة لا يجوز للمفتي ان يشهد على الله ورسوله بأنه احل كذا أوحرمه أواوجبه أوكرهه إلا لما يعلم ان الامر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على اباحته أوتحريمه أوإيجابه أوكراهته وأما ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده دينه فليس له ان يشهد على الله ورسوله به ويغر الناس بذلك ولا علم له بحكم الله ورسوله
قال غير واحد من السلف ليحذر احدكم ان يقول احل الله كذا أوحرم الله كذا فيقول الله له كذبت لم احل كذا ولم احرمه
وثبت في صحيح مسلم من حديث بريده بن الحصيب ان رسول الله ص - قال وإذا حاصرت حصنا فسألوك ان تنزلهم على حكم الله ورسوله فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله فإنك لا تدري اتصيب حكم الله فيهم ام لا ولكن انزلهم على حكمك وحكم اصحابك

وسمعت شيخ الاسلام يقول حضرت مجلسا فيه القضاة وغيرهم فجرت حكومة حكم فيها احدهم بقول زفر فقلت له ما هذه الحكومة فقال هذا حكم الله فقلت له صار قول زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الامة هل هذا حكم زفر ولا تقل هذا حكم الله أونحو هذا من الكلام
الاحوال التي ترد على المفتي من المستفتى
الفائدة الرابعة عشرة المفتي اذا سئل عن مسالة فإما ان يكون قصد السائل فيها معرفة حكم الله ورسوله ليس إلا وإما ان يكون قصده معرفة ما قاله الامام الذي شهر المفتي نفسه باتباعه وتقليده دون غيره من الائمة واما ان يكون مقصوده معرفة ما ترجح عند ذلك المفتي وما يعتقده فيها لاعتقاده علمه ودينه وأمانته فهو يرضى تقليده هو وليس له غرض في قول إمام بعينه فهذه اجناس الفتيا التي ترد على المفتين
ففرض المفتي في القسم الاول ان يجيب بحكم الله ورسوله اذا عرفه وتيقنه لا يسعه غير ذلك
وأما القسم الثاني فاذا عرف اقول الامام نفسه وسعه ان يخبر به ولا يحل له ان ينسب اليه القول ويطلق عليه انه قوله بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أوطالعها من كلام المنتسبين اليه فانه قد اختلطت اقوال الائمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين اليهم واختياراتهم فليس كل ما في كتبهم منصوصا عن الائمة بل كثير منه يخالف نصوصهم وكثير منه لا نص لهم فيه وكثير منه يخرج على فتاويهم وكثير منه أفتوا به بلفظه أوبمعناه فلا يحل لاحد ان يقول هذا قول فلان ومذهبه إلا ان يعلم يقينا انه قوله ومذهبه فما أعظم خطر المفتي وأصعب مقامه بين يدى الله تعالى

واما القسم الثالث فانه يسعه ان يخبر المستفتى بما عنده في ذلك يغلب على ظنه انه الصواب بعد بذل جهده واستفراغ وسعه ومع هذا فلا يلزم المستفتى الاخذ بقوله وغايته انه يسوغ له الاخذ به
فلينزل المفتي نفسه في منزلة من هذه المنازل الثلاث وليقم بواجبها فإن الدين دين الله والله سبحانه ولا بد سائله عن كل ما افتى به وهو موقره عليه ومحاسب ولا بد والله المستعان
على المفتي ان يفتي بالصواب ولو كان خلافا لمذهبه
الفائدة الخامسة عشرة ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه ان يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده وهو يعلم ان مذهب غيره في تلك المسألة ارجح من مذهبه واصح دليلا فتحمله الرياسة على ان يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه ان الصواب في خلافه فيكون خائنا لله ورسوله وللسائل وغاشا له والله لا يهدي كيد الخائنين وحرم الجنة على من لقيه وهو غاش للاسلام واهله والدين النصيحة والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق وكثيرا ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا ان نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب الراجح ونرجحه ونقول هذا هو الصواب وهو اولى ان يؤخذ به وبالله التوفيق
على المفتي الا يبهم على السائل
الفائدة السادسة عشرة لا يجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل وإلقاؤه في الاشكال والحيرة بل عليه ان يبين بيانا مزيلا للإشكال متضمنا لفصل الخطاب كافيا في حصول المقصود لا يحتاج معه الى غيره ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال يقسم بين الورثة على فرائض الله عزوجل وكتبه فلان وسئل اخر عن صلاة الكسوف فقال تصلي على حديث عائشة وان كان هذا اعلم من الاول وسئل اخر عن مسألة من الزكاة فقال اما اهل الايثار فيخرجون المال كله واما غيرهم فيخرج القدر الواجب عليه أوكما قال وسئل اخر عن مسالة فقال فيها قولان ولم يزد

قال ابو محمد بن جزم وكان عندنا مفت إذا سئل عن مسألة لا يفتى فيها حتى يتقدمه من يكتب فيكتب هو جوابي فيها مثل جواب الشيخ فقدر ان مفتيين اختلفا في جواب فكتب تحت جوابهما جوابي مثل جواب الشيخين فقيل له انهما قد تناقضا فقال وانا أتناقض كما تناقضا وكان في زماننا رجل مشار اليه بالفتوى وهو مقدم في مذهبه وكان نائب السلطان يرسل اليه في الفتاوي فيكتب يجوز كذا أويصح كذا أوينعقد بشرطه فارسل اليه يقول له تأتينا فتاوي منك فيها يجوز أوينعقد أويصح بشرطه ونحن لا نعلم شرطه فإما ان تبين شرطه وإما ان لا تكتب ذلك
وسمعت شيخنا يقول كل احد يحسن ان يفتى بهذا الشرط فإن أي مسألة وردت عليه يكتب فيها يجوز بشرطه أويصح بشرطه أويقبل بشرطه ونحو ذلك وهذا ليس بعلم ولا يفيد فائدة اصلا سوى حيرة السائل وتبلده وكذلك قول بعضهم في فتاويه يرجع في ذلك الى رأي الحاكم فيا سبحان الله والله لو كان الحاكم شريحا واشباهه لما كان مرد احكام الله ورسوله الى رأيه فضلا عن حكام زماننا فالله المستعان وسئل بعضهم 8عن مسالة فقال فيها خلاف فقيل له كيف يعمل المفتي فقال يختار له القاضي احد المذهبين قال ابو عمرو بن الصلاح كنت عند ابي السعادات ابن الاثير الجزري فحكى عن بعض المفتين انه سئل عن مسألة فقال فيها قولان فأخذ يزرى عليه وقال هذا حيد عن الفتوى ولم يخلص السائل من عمايته ولم يأت بالمطلوب
قلت وهذا فيه تفصيل فإن المفتي المتمكن من العلم المضطلع به قد يتوقف في الصواب في المسألة المتنازع فيها فلا يقدم على الجزم بغير علم وغاية ما يمكنه ان يذكر الخلاف فيها للسائل وكثيرا ما يسأل الامام احمد رضى الله عليه وغيره من الائمة عن مسالة فيقول فيها قولان أوقد اختلفوا فيها وهذا كثير في اجوبة الامام احمد لسعه علمه وورعه وهو كثير في كلام الامام الشافعي رضى الله عنه يذكر المسالة ثم يقول فيها قولان وقد اختلف اصحابه هل يضاف القولان اللذان

يحكيهما الى مذهبه وينسبان اليه ام لا على طريقين واذا اختلف علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وزيد وابي وغيرهم من الصحابة رضى الله عنهم ولم يتبين للمفتي القول الراجح من أقوالهم فقال هذه مسألة اختلف فيها فلان وفلان من الصحابة فقد انتهى الى ما يقدر عليه من العلم قال ابو اسحاق الشيرازي سمعت شيخنا ابا الطيب الطبري يقول سمعت ابا العباس الحضرمي يقول كنت جالسا عند ابي بكر بن داود الظاهري فجاءته امرأة فقالت ما تقول في رجل له زوجة لا هو ممسكها ولا هو مطلقها فقال لها اختلف في ذلك اهل العلم فقال قائلون تؤمر بالصبر والاحتساب ويبعث على التطلب والاكتساب وقال قائلون يؤمر بالانفاق ولا يحمل على الطلاق فلم تفهم المرأة قوله فأعادت المسألة فقال يا هذه اجبتك عن مسألتك وأرشدتك الى طلبتك ولست بسلطان فأمضى ولاقاض فأقضى ولا زوج فارضى فانصرفى
لا يصح للمفتي ان يعتبر شرط الواقف إذا خالف الشارع
الفائدة السابعة عشرة اذا سئل عن مسألة فيها شرط واقف لم يحل له ان يلزم بالعمل به بل ولا يسوغه على الاطلاق حتى ينظر في ذلك الشرط فإن كان يخالف حكم الله ورسوله فلا حرمة له ولا يحل له تنفيذه ولا يسوغ تنفيذه وإن لم يخالف حكم الله ورسوله فلينظر هل فيه قربة أورجحان عند الشارع ام لا فان لم يكن فيه قربة ولا رجحان لم يجب التزامه ولم يحرم فلا تضر مخالفته وان كان فيه قربة وهو راجح على خلافه فلينظر هل يفوت بالتزامه والتقييد به ما هو احب الى الله ورسوله وارضى له وانفع للمكلف واعظم تحصيلا لمقصود الواقف من الاجر فإن فات ذلك بالتزامه لم يجب التزامه ولا التقييد به قطعا وجاز العدول بل يستحب الى ما هو احب الى الله ورسوله وانفع للمكلف واكثر تحصيلا لمقصود الواقف وفي جواز التزام شرط الواقف في هذه الصورة تفصيل سنذكره إن شاء الله وإن كان فيه قربة وطاعة ولم يفت بالتزامه ما هو احب الى الله ورسوله منه وتساوي هو وغيره في تلك القربة

ويحصل غرض الواقف بحيث يكون هو وغيره طريقين موصلين الى مقصوده ومقصود الشارع من كل وجه لم يتعين عليه التزام الشرط بل له العدول عنه الى ما هو اسهل عليه وارفق به وان ترجح موجب الشرط وكان قصد القربة والطاعة فيه أظهر وجب التزامه
فهذا هو القول الكلى في شروط الواقفين وما يجب التزامه منها وما يسوغ وما لا يجب
ومن سلك غير هذا المسلك تناقض اظهر تناقض ولم يثبت له قدم يعتمد عليه
شروط الواقفين المخالفة للشرع
فإذا شرط الواقف ان يصلي الموقوف عليه في هذا المكان المعين الصلوات الخمس ولو كان وحده الى جانبه المسجد الاعظم وجماعة المسلمين لم يجب عليه الوفاء بهذا الشرط بل ولا يحل له التزامه اذا فاتته الجماعة فإن الجماعة اما شرط لا تصح الصلاة بدونها واما واجبة يستحق تاركها العقوبة وإن صحت صلاته وإما سنة مؤكدة يقاتل تاركها وعلى كل تقدير فلا يصح التزام شرط يخل بها
وكذلك اذا شرط الواقف العزوبية وترك التأهل لم يجب الوفاء بهذا الشرط بل ولا التزامه بل من التزمه رغبة عن السنة فليس من الله ورسوله في شئ فإن النكاح عندالحاجة اليه إما فرض يعصي تاركه وإما سنة الاشتغال بها أفضل من صيام النهار وقيام الليل وسائر اوراد التطوعات واما سنة يثاب فاعلها كما يثاب فاعل السنن والمندوبات وعلى كل تقدير فلا يجوز اشتراط تعطيله أوتركه إذ يصير مضمون هذا الشرط انه لا يستحق تناول الوقف إلا من عطل ما فرض الله عليه وخالف سنة رسول الله ص - ومن فعل ما فرضه الله عليه وقام بالسنة لم يحل له ان يتناول من هذا الوقف شيئا ولا يخفى ما في التزام هذا الشرط والالزام به من مضادة الله ورسوله وهو اقبح من اشتراطه

ترك الوتر والسنن الراتبة وصيام الخميس والاثنين والتطوع بالليل بل اقبح من اشتراطه ترك ذكر الله بكرة وعشيا ونحو ذلك
ومن هذا اشتراطه ان يصلي الصلوات في التربة المدفون بها ويدع المسجد وهذا ايضا مضاد لدين الاسلام اعظم مضادة فإن رسول الله ص - لعن المتخذين قبور أنبيائهم مساجد فالصلاة في المقبرة معصية لله ورسوله باطلة عند كثير من اهل العلم لا يقبلها الله ولا تبرأ الذمة بفعلها فكيف يجوز التزام شرط الواقف لها وتعطيل شرط الله ورسوله فهذا تغيير الدين لولا ان الله سبحانه يقيم له من يبين اعلامه ويدعو اليه
ومن ذلك اشتراط إيقاد سراج أوقنديل على القبر فلا يحل للواقف اشتراط ذلك ولا للحاكم تنفيذه ولا للمفتي تسويغه ولا للموقوف عليه فعله والتزامه فقد لعن رسول الله ص - المتخذين السرج على القبور فكيف يحل للمسلم ان يلزم أويسوغ فعل ما لعن رسول الله ص - فاعله وحضرت بعض قضاة الاسلام يوما وقد جاءه كتاب وقف على تربة ليثبته وفيه وانه يوقد على القبر كل ليلة قنديل فقلت له كيف يحل لك ان تثبت هذا الكتاب وتحكم بصحته مع علمك بلعنة رسول الله ص - للمتخذين السرج على القبور فأمسك عن إثباته وقال الامر كما قلت أوكما قال
ومن ذلك ان يشترط القراءة عند قبره دون البيوت التي اذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال والناس لهم قولان احدهما ان القراءة لا تصل الى الميت فلا فرق بين ان يقرأ عند القبر أوبعيدا منه عند هؤلاء والثاني انها تصل ووصولها فرع حصول الثواب للقارئ ثم ينتقل منه الى الميت فإذا كانت قراءة القارئ ومجيئه الى القبر إنما هو لأجل الجعل ولم يقصد به التقرب الى الله لم يحصل له ثواب فكيف ينقل عنه الى الميت وهو فرعه فما زاد بمجيئه الى التربة الا العناء والتعب بخلاف ما اذا

قرأ الله في المسجد أوغيره في مكان يكون اسهل عليه واعظم لإخلاصه ثم جعل ثواب ذلك للميت وصل اليه
وذاكرت مرة بهذا المعنى بعض الفضلاء فاعترف به وقال لكن بقى شئ آخر وهو ان الواقف قد يكون قصد انتفاعه بسماع القرآن على قبره ووصول بركة ذلك اليه فقلت له انتفاعه بسماع القرآن مشروط بحياته فلما مات انقطع عمله كله واستماع القران من افضل الاعمال الصالحة وقد انقطع بموته ولو كان ذلك ممكنا لكان السلف الطيب من الصحابة والتابعين ومن بعدهم اولى بهذا الحظ العظيم لمسارعتهم الى الخير وحرصهم عليه ولو كان خيرا لسبقونا اليه فالذي لا شك فيه انه لا يجب حضور التربة ولا تتعين القراءة عند القبر
ونظير هذا ما لو وقف وقفا يتصدق به عند القبر كما يفعل كثير من الجهال فإن في ذلك من تعنية الفقير وإتعابه وإزعاجه من موضعه الى الجبانة في حال الحر والبرد والضعف حتى يأخذ لك الصدقة عند القبر مما لعله ان يحبط اجرها ويمنع انعقاده بالكلية
ومن هذا لو شرط واقف الخانقاه وغيرها على أهلها ان لا يشتغلوا بكتابة العلم وسماع الحديث والاشتغال بالفقه فإن هذا شرط باطل مضاد لدين الاسلام لا يحل تنفيذه ولا التزامه ولا يستحق من قام به شيئا من هذا الوقف فإن مضمون هذا الشرط ان الوقف المعين انما يستحقه من ترك ما يجب عليه من العلم النافع وجهل امر الله ورسوله ودينه وجهل اسماءه وصفاته وسنة نبيه ص - وأحكام الثواب والعقاب ولا ريب ان هذا الصنف من شرار خلق الله وأمقتهم عند الله ورسوله وهم خاصة الشيطان واولياؤه وحزبه الا ان حزب الشيطان هم الخاسرون
ومن ذلك ان يشترط الواقف ان لا يقرأ في ذلك المكان شئ من آيات

الاصفات واحاديث الصفات كما امر به بعض اعداء الله من الجهمية لبعض الملوك وقد وقف مسجدا لله تعالى ومضمون هذا الشرط المضاد لما بعث الله به رسوله ان يعطل اكثر ايات القران عن التلاوة والتدبر والتفهم وكثير من السنة أواكثرها عن ان تذكر أوتروى أوتسمع أويهتدي بها ويقام سوق التجهم والكلام المبتدع المذموم الذي هو كفيل بالبدع والضلالة والشك والحيرة
ومن ذلك ايضا ان يقف مكانا أومسجدا أومدرسة أورباطا على طائفة معينة من الناس دون غيرهم كالعجم مثلا أوالروم أوالترك أوغيرهم وهذا من أبطل الشروط فإن مضمونه ان اقارب رسول الله ص - وذرية المهاجرين والانصار لا يحل لهم ان يصلوا في هذا المسجد ولا ينزلوا في هذا الرباط أوالمدرسة أوالخانقاه بل لو امكن ان يكون ابو بكر وعمر واهل بدر واهل بيعة الرضوان رضى الله عنهم بين اظهرنا حرم عليهم النزول بهذا المكان الموقوف
وهذه ال شروط والاشتغال بها والاعتداد بها من اسمج الهذيان ولا تصدر من قلب طاهر لا ينفذها من شم روائح العلم الذي بعث الله به رسوله ص -
وكذلك لو شرط ان يكون المقيمون بهذه الامكنة طائفة من اهل البدع كالشيعة والخوارج والمعتزلة والجهمية والمبتدعين في اعمالهم كأصحاب الاشارات واللاذن والشير والعنبر وأكل الحيات واصحاب النار واشباه الذئاب المشتغلين بالاكل والشرب والرقص لم يصح هذا الشرط وكان غيرهم احق بالمكان منهم وشروط الله احق
فهذه الشروط واضعافها واضعاف أضعافها من باب التعاون على الاثم

والعدوان والله تعالى انما امر بالتعاون على البر والتقوى وهو ما شرعه لسان رسول الله ص - دون ما لم يشرعه فكيف بما شرع خلافه والوقف إنما يصح على القرب والطاعات ولا فرق في ذلك بين مصرفه وجهته وشرطه فإن الشرط صفة وحال في الجهة والمصرف فإذا اشترط انا يكون المصرف قربة وطاعة فالشرط كذلك ولا يقتضي الفقه إلا هذا ولا يمكن احدا ان ينقل عن ائمة الاسلام الذين لهم في الامة لسان صدق ما يخالف ذلك البتة بل نشهد بالله والله ان الائمة لا تخالف ما ذكرناه وان هذا نفس قولهم وقد اعاذهم الله من غيره وانما يقع الغلط من كثير من المنتسبين اليهم في فهم اقوالهم كما وقع لبعض من نصب نفسه للفتوى من اهل عصرنا ما تقول السادة الفقهاء في رجل وقف على اهل الذمة هل يصح ويتقيد 2الاستحقاق بكونه منهم فأجاب بصحة الوقف وتقييد الاستحقاق بذلك الوصف وقال هكذا قال اصحابنا ويصح الوقف على اهل الذمة فأنكر ذلك شيخنا عليه غاية الانكار وقال مقصود الفقهاء بذلك ان كونه من اهل الذمة ليس مانعا من صحة الوقف عليه بالقرابة أوبالتعيين وليس مقصودهم ان الكفر بالله ورسوله أوعبادة الصليب وقولهم إن المسيح ابن الله شرط لاستحقاق الوقف حتى إن من آمن بالله ورسوله واتبع دين الاسلام لم يحل له ان يتناول بعد ذلك من الوقف فيكون حل تناوله مشروطا بتكذيب الله ورسوله والكفر بدين الاسلام ففرق بين كون وصف الذمة مانعا من صحة الوقف وبين كونه مقتضيا فغلظ طبع هذا المفتي وكثف فهمه وغلظ حجابه عن ذلك ولم يميز
ونظير هذا ان يقف على الاغنياء فهذا يصح اذا كان الموقوف عليه غنيا أوذا قرابة فلا يكون الغني مانعا ولا يصح ان يكون جهة الاستحقاق هو الغني فيستحق ما دام غنيا فإذا افتقر واضطر الى ما يقيم اوده حرم عليه تناول

الوقف فهذا لا يقوله الا من حرم التوفيق وصحبة الخذلان ولو رأى رسول الله ص - من الائمة يفعل ذلك لاشتد انكاره وغضبه عليه ولما اقره البتة وكذلك لو رأى رجلا من امته قد وقف على من يكون من الرجال عزبا غير متأهل فإذا تأهل حرم عليه تناول الوقف لاشتد غضبه ونكيره عليه بل دينه يخالف هذا فإنه كان إذا جاءه مال أعطى العزب حظا واعطى الاهل حظين واخبر ان ثلاثة حق على الله عونهم فذكر منهم الناكح يريد العفاف وملزم هذا الشرط حق عليه عدم اعانة الناكح
ومن هذا ان يشترط انه لا يستحق الوقف إلا من ترك الواجب عليه من طلب النصوص ومعرفتها والتفقه في متونها والتمسك بها إلى الاخذ بقول فقيه معين يترك لقوله قول من سواه بل يترك النصوص لقوله فهذا شرط من ابطل الشروط وقد صرح اصحاب الشافعي واحمد رحمهما الله تعالى بأن الامام اذا شرط على القاضي ان لا يقضى إلا بمذهب معين بطل الشرط ولم يجز له التزامه وفي بطلان التولية قولان مبنيان على بطلان العقود بالشروط الفاسدة وطرد هذا ان المفتي متى شرط عليه ألا يفتى الا بمذهب معين بطل الشرط وطرده أيضا ان الواقف متى شرط على الفقيه ان لا ينظر ولا يشتغل إلا بمذهب معين بحيث يهجر له كتاب الله وسنة رسوله ص - وفتاوي الصحابة ومذاهب العلماء لم يصح هذا الشرط قطعا ولا يجب إلتزامه بل ولا يسوغ
وعقد هذا الباب وضابطه ان المقصود إنما هو التعاون على البر والتقوى وان يطاع الله ورسوله بحسب الامكان وان يقدم من قدمه الله ورسوله ويؤخر من اخره الله ورسوله ويعتبر ما اعتبره الله ورسوله ويلغي ما الغاه الله ورسوله وشروط الواقفين لا تزيد على نذر الناذرين فكما انه لا يوفى من النذور إلا بما كان طاعة لله ورسوله فلا يلزم من شروط الواقفين إلا ما كان طاعة لله ورسوله

فإن قيل الواقف انما نقل ماله لمن قام بهذه الصفة فهو الذي رضى بنقل ما له اليه ولم يرض بنقله الى غيره وإن كان افضل منه فالوقف يجري مجرى الجعالة فإذا بذل الجاعل ماله لمن يعمل عملا لم يستحقه من عمل غيره وان كان بينهما في الفضل كما بين السماء والارض
قيل هذا منشأ الوهم والايهام في هذه المسألة وهو الذي قام بقلوب ضعفةالمتفقهين فالتزموا والزموا من الشروط بما غيره احب الى الله وارضى له منه بإجماع الامة بالضرورة المعلومة من الدين
وجواب هذا الوهم ان الجاعل يبذل ماله في غرضه الذي يريده إما محرما أومكروها أومباحا أومستحبا أوواجبا لينال غرضه الذي بدل فيه ماله واما الواقف فإنما يبذل ماله فيما يقربه الى الله وثوابه فهو لما علم انه لم يبق له تمكن من بذل ماله في اغراضه احب ان يبذله فيما يقربه الى الله وما هو انفع له في الدار الاخرة ولا يشك عاقل ان هذا غرض الواقفين بل ولا يشك واقف ان هذا غرضه والله سبحانه وتعالى ملكة المال لينتفع به في حياته وأذن له ان يحبسه لينتفع به بعد وفاته فلم يملكه ان يفعل به بعد موته ما كان يفعل به في حياته بل حجر عليه فيه وملكه ثلثه يوصى به بما يجوز ويسوغ ان يوصى به حتى إن حاف أوجار أوأثم في وصيته جاز بل وجب على الوصي والورثة رد ذلك الجور والحيف والاثم ورفع سبحانه الاثم عمن يرد ذلك الحيف والاثم من الورثة والاوصياء فهو سبحانه لم يملكه ان يتصرف في تحبيس ماله بعده إلا على وجه يقربه اليه ويدنيه من رضاه لا على أي وجه أراد ولم يأذن ولا رسوله للمكلف ان يتصرف في تحبيس ماله بعده على أي وجه اراده ابدا فأين في كلام الله ورسوله أواحد من الصحابة ما يدل على ان لصاحب المال ان يقف ما اراد على من اراد ويشرط ما اراد ويجب على الحكام والمفتين ان ينفذوا وقفه ويلزموا بشروطه واما ما قد لهج به بعضهم من قوله شروط الواقف كنصوص الشارع فهذا يران به معنى صحيح ومعنى

باطل فإن اريد انها كنصوص الشارع في الفهم والدلالة وتقييد مطلقها بمقيدها وتقديم خاصها على عامها والاخذ فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فهذا حق من حيث الجملة وان اريد انها كنصوص الشارع في وجوب مراعاتها والتزامها وتنفيذها فهذا من ابطل الباطل بل يبطل منها ما لم يكن طاعة لله ورسوله وما غيره احب الى الله وارضى له ولرسوله منه وينفذ منها ما كان قربة وطاعة كما تقدم
ولما نذر ابو اسرائيل ان يصوم ويقوم في الشمس ولا يجلس ولا يتكلم امره النبي ص - ان يجلس في الظل ويتكلم ويتم صومه فألزمه بالوفاء بالطاعة ونهاه عن الوفاء بما ليس بطاعة
وهكذا اخت عقبة بن عامر لما نذرت الحج ماشيه مكشوفة الرأس امرها ان تختمر وتركب وتحج وتهدى بدنة
فهكذا الواجب على اتباع الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أن يعتمدوا في شروط الواقفين وبالله التوفيق
لا يجوز للمفتي إطلاق الفتوى في مسألة فيها تفصيل
الفائدة الثامنة عشرة ليس للمفتي ان يطلق الجواب في مسالة فيها تفصيل إلا اذا علم ان السائل انما سأل عن احد تلك الانواع بل اذا كانت المسالة تحتاج الى التفصيل استفصله كما استفصل النبي ص - ماعزا لما أقر بالزنا هل وجد منه مقدماتهأوحقيقته فلما أجابه عن الحقيقة استفصله هب به جنون فيكون إقراره غير معتبر ام هو عاقل فلما علم عقله استفصله بأن امر باستنكاهه ليعلم هل هو سكران ام صاح فلما علم انه صاح استفصله هل احصن ام لا فلما علم انه قد أحصن اقام عليه الحد
ومن هذا قوله لمن سالته هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال نعم إذا رأت الماء فتضمن هذا الجواب الاستفصال بأنها يجب عليها الغسل في حال ولا يجب عليها في حال

ومن ذلك أن ابا النعمان بن بشير سأل رسول الله ص - ان يشهد على غلام نحله ابنه فاستفصله وقال أكل ولدك نحلته كذلك فقال لا فأبى ان يشهد وتحت هذا الاستفصال ان ولدك إن كانوا اشتركوا في النحل صح ذلك وإلا لم يصح
ومن ذلك ان ابن ام مكتوم استفتاه هل يجد له رخصة ان يصلي في بيته فقال هل تسمع النداء قال نعم قال فأوجب فاستفصله بين ان يسمع النداء أولا يسمعه
ومن ذلك انه لما استفتى عن رجل وقع على جارية امراته فقال إن كان استكرهها فهى حرة وعليه مثلها وإن كانت طاوعته فهى له وعليه لسيدتها مثلها وهذا كثير في فتاويه ص -
فإذا سئل المفتي عن رجل دفع ثوبه الى قصار يقصره فانكر القصار الثوب ثم اقر به هل يستحق الاجرة على القصارة ام لا فالجواب بالاطلاق خطا نفيا وإثباتا والصواب التفصيل فإن كان قصره قبل الجحود فله أجرة القصارة لانه قصره لصاحبه وإن كان قصره بعد جحوده فلا اجره له لانه قصره لنفسه
وكذلك اذا سئل عن رجل حلف لا يفعل كذا وكذا ففعله لم يجز له ان يفتى بحنثه حتى يستفصله هل كان ثابت العقل وقت فعله ام لا واذا كان ثابت العقل فهل كان مختارا في يمينه ام لا واذا كان مختارا فهل استثنى عقيبه يمينه ام لا واذا لم يستثن فهل فعل المحلوف عليه عالما ذاكرا مختارا ام كان ناسيا أوجاهلا أومكرها واذا كان عالما مختارا فهل كان المحلوف عليه داخلا في قصده ونيته أوقصد عدم دخوله فخصصه بنيته أولم يقصد دخوله ولا نوى تخصيصه فإن الحنث يختلف باختلاف ذلك كله
وراينا من مفتى العصر من بادر الى التحنيث فاستفصلناه فوجده غير

حانث في مذهب من افتاه وقع ذلك مرارا فخطر المفتى عظيم فإنه موقع عن الله ورسوله زاعم ان الله امر بكذا وحرم كذا أواوجب كذا
ومن ذلك ان يستفتيه عن الجمع بين الظهر والعصر مثلا هل يجوز له ان يفرق بينهما فجوابه بتفصيل المسألتين وان الجمع إن كان في وقت الاولى لم يجز التفريق وإن كان في وقت الثانية جاز
ومن ذلك انه لو قال له إن لم تحرق هذا المتاع أوتهدم هذه الدار أوتتلف هذا المال وإلا قتلتك ففعل هل يضمن ام لا جوابه بالتفصيل فإن كان المال المكره على إتلافه للمكره لم يضمن وإن كان لغيره ضمنه
وكذلك لو ساله المظاهر إذا وطئ في اثناء الكفارة هل يلزمه الاستئناف أويبنى فجوابه بالتفصيل انه إن كان كفر بالصيام فوطئ في اثنائه لزمه الاستثناف وإن كفر بالاطعام لم يلزمه الاستئناف وله البناء فإن حكم تتابع الصوم وكونه قبل المسيس قد انقطع بخلاف الإطعام
وكذلك لو ساله عن المكفر بالعتق اذا اعتق عبدا مقطوعه اصبعه فجوابه بالتفصيل إن كان إبهاما لم يجزه وإلا اجزأه فلو قال له مقطوع الاصبعين وهما الخنصر والبنصر فجوابه بالتفصيل ايضا إن كانا من يد واحجدة واحدة لم يجزه وإن كانت كل اصبع من يد أجزأه
وكذلك لو ساله عن فاسق التقط لقطه أولقيطا هل يقر في يده فجوابه بالتفصيل تقر اللقطة دون اللقيط لانها كسب فلا يمنع منه الملتقط وثبوت يده على اللقيط ولاية وليس من أهلها
ولو قال له اشتريت سمكة فوجدت في جوفها مالا ما اصنع به فجوابه ان كان لؤلؤة أوجوهرة فهو للصياد لانه ملكه بالاصطياد ولم تطلب نفسه لك به وإن كان خاتما أودينارأ فهو لقطة يجب تعريفها كغيرها
وكذلك لو قال له اشتريت حيوانا فوجدت في جوفه جوهرة فجوابه

إن كانت شاة فهي لقطة للمشتري يلزمه تعريفها حولا ثم هي له بعده إن كان سمكة أوغيرها من دواب البحر فهي ملك للصياد والفرق واضح
ومن ذلك لو ساله عن عبد التقط لقطة فأنفقها هل تتعلق بذمته أوبرقبته فجوابه انه إن انفقها قبل التعريف حولا فهى في رقبته وإن انفقها بعد حول التعريف فهي في ذمته يتبع بها بعد العتق نص عليها الامام احمد مفرقا بينهما لانه قبل الحول ممنوع منها فإنفاقه لها جناية منه عليها وبعد الحول غير ممنوع منها بالنسبة الى مالكها فإذا انفقها في هذه الحال فكأنه أنفقها بإذن مالكها فتتعلق بذمته كديونه
ومن ذلك لو ساله عن رجل جعل جعلا لمن رد عليه لقطته فهل يستحقه من ردها فجوابه إن التقطها قبل بلوغ قول الجاعل لم يستحقه لانه لم يلتقطها لاجل الجعل وقد وجب عليه ردها بظهور مالكها وإن التقطها بعد ان بلغه الجعل استحقه
ومن ذلك ان يسال فيقول هل يجوز للوالدين ان يتملكا مال ولدهما أويرجعان فيما وهباه فالجواب ان ذلك للاب دون الام
وكذلك اذ شهد له اثنان من روثته غر الاب والابن بالجرح فالجواب فيه تفصيل فإن شهدا قبل الاندمال لم يقبلا للتهمة وإن شهدا بعده قلت لعدم التهمة
ومن ذلك إذا سئل عن رجل ادعى نكاح امرأة فأقرت له هل يقبل إقرارها ام لا جوابه بالتفصيل إن ادعى زوجيتها وحده قبل اقرارها وان ادعاها معه اخر لم يقبل
ومن ذلك لو سئل عن رجل مات فادعى ورثته شيئا من تركته وأقاموا شاهدوا حلف كل منهم يمينا مع الشاهد فإن حلف بعضهم استحق قدر نصيبه من المدعي وهل يشاركه من لم يحلف في قدر حصته التي انتزعها بيمينه أولا يشاركه فالجواب فيه تفصيل إن كان المدعى دينار لم يشاركه وينفرد

الحالف بقدر حصته وإن كان عينا شاركه من لم يحلف لان الدين غير متعين فمن حلف فإنما ثبت بيمنه مقدار حصته من الدين لا غيره ومن لم يحلف لم يثبت له حق واما العين فكل واحد من الورثة يقر ان كل جزء منها مشترك بين جماعتهم وحقوقهم متعلقة بعينه فالمخلص مشترك بين جماعتهم والباقي غصب على جماعتهم
ومن ذلك إذا سئل عن رجل استعدى على خصمه ولم يحرر الدعوى هل يحضره الحاكم الجواب بالتفصيل إن استعدى على حاضر في البلد احضره لعدم المشقة وإن كان غائبا لم يحضره حتى يحررها
ومن ذلك لو سئل عن رجل قطع عضوا من صيد وأفلت هل يحل اكل العضو الجواب بالتفصيل إن كان صيدا بحريا حل أكله وإن كان بريا لم يحل
ومن ذلك لو سئل عن تاجر اهل الذمة هل يؤخذ منه العشر فالجواب بالتفصيل إن كان رجلا اخذ منه العشر وإن كانت امرأة ففيها تفصيل إن اتجرت الى ارض الحجاز اخذ منها العشر وإن اتجرت الى غيرها لم يؤخد منها شئ لانها تقر في غير ارض الحجاز بلا جزية
ومن ذلك لو سئل عن ميت مات فطلب الاب ميرائه ولم يعلم من الورثة غيره كم يعطي الاب فالجواب بالتفصيل إن كان الميت ذكرا اعطى الاب اربعة من سبعة وعشرين سهما لان غاية ما يمكن ان يقدر معه زوجة وام وابنتان فله اربعة بلا شك من سبعة وعشرين وإن كان الميت أنثى فله سهمان من خمسة عشر قطعا لان اكثر ما يمكن ان يقدر زوج وام وابنتان فله سهمان من خمسة عشر قطعا
فإن قال السائل مات ميت وترك ثلاث بنات ابن بعضهن اسفل من بعض مع العليا جدها قال المفتي إن كان الميت ذكرا فالمسألة محال لأن جد

العليا نفس الميت وإن على الميت انثى فجد العليا إما أن يكون زوج الميت أولا يكون كذلك فإن كان زوجها فله الربع وللعليا النصف وللوسطى السدس تكملة الثلثين والباقي للعصبة
فلو قال السائل ميت خلف ابنتين وابوين ولم تقسم التركة حتى ماتت احداهما وخلفت من خلفت قال المفتي ان كان الميت ذكر فمسألته من ستة للأبوين سهمان ولكل بنت سهمان فلما ماتت احداهما خلفت جدة وجدا واختا لأب فمسألتها من سنة وتصح من ثمانية عشر وتركتها سهمان توافق مسألتها بالنصف فترد الى تسعة ثم تضربها في ستة تكون اربعه وخمسين ومنها تصح وإن كان الميت أنثى ففريضتها أيضا ستة ثم ماتت احدا البنتين عن سهمين وخلفت جدة وجدا من ام واختا لاب فلا شيء للجد وللجدة السدس وللأخت النصف والباقي للعصبة فمسألتها من ستة وسهامها اثنان فاضرب ثلاثة في السمألة الاولى تكن ثمانية عشر
والمقصود التنبيه على وجوب التفصيل اذا كان يجد السؤال محتملا وبالله التوفيق فكثيرا ما يقع غلط المفتي في هذا القسم فالمفتي ترد اليه المسائل في قوالب متنوعة جدا فإن لم يتفطن لحقيقة السؤال والا هلك وأهلك فتارة تورد عليه المسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلف فصورةالصحيح والجائز صورة الباطل والمحرم ويختلفان بالحقيقة فيذهل بالصورة عن الحقيقة فيجمع بين ما فرق الله ورسوله بينه وتارة تورد عليه المسالتان صورتهما مختلفة وحقيقتهما واحدة وحكمهما واحد فيذهل باختلاف الصورة عن تساويهما في الحقيقة فيفرق بين ما جمع الله بينة وتارة تورد عليه المسالة مجملة تحتها عدة انواع فيذهل وهمه الى واحد منها ويذهل عن المسئول عنه منها فيجيب بغير الصواب وتارة تورد عليه المسالة الباطلة في دين الله في قالب مزخرف ولفظ حسن فيتبادر الى تسويغها وهي من ابطل الباطل وتارة بالعكس فلا اله الا الله كم ههنا عن مزلة اقدام ومجال اوهام وما دعا محق الى حق

الا اخرجه الشيطان على لسان أخيه ووليه من الانس في قالب تنفر عنه خفافيش البصائر وضعفاءالعقول وهم اكثر الناس و ما حذر احد من باطل الا اخرجه الشيطان على لسان و ليه من الانس فى قالب مزخرف يستخف به عقول ذلك الضرب من الناس فيستجيبون له و اكثر الناس نظرهم قاصر على الصور لا يتجاوزونها الى الحقائق فهم محبوسون فى سجن الالفاظ مقيدون بقيود لعبارات كما قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الانس و الجن يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا و لو شاء ربك ما فعلوه فذرهم و ما يفترون و لتصغى اليه افئدة الذين لا يؤمنون بالاخرة و ليرضوه و ليقترفوا ما هم مقترفون
وأذكر لك من هذا مثالا وقع في زماننا وهو ان السلطان امر أن يلزم أهل الذمة بتغيير عمائمهم وأن تكون خلاف الوان عمائم المسلمين فقامت لذلك قيامتهم وعظم عليهم وكان في ذلك من المصالح وإعزاز الاسلام و إذلال الكفرة ما قرت به عيون المسلمين فألقى الشيطان على ألسنة أوليائه وإخوانه ان صوروا فتيا يتوصلون بها الى إزالة هذا الغبار وهي ما تقول السادة العلماء في قوم من أهل الذمة ألزموا بلباس غير لباسهم المعتاد وزى غير زيهم المالوف فحصل لهم بذلك ضرر عظم في الطرقات والفلوات وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاة وآذوهم غاية الاذى فطمع بذلك في إهانتهم والتعدي عليهم فهل يسوغ للامام ردهم الى زيهم الاول وإعادتهم الى ما كانوا عليه مع حصول التميز بعلامة يعرفون بها وهل في ذلك مخالفة للشرع ام لا فاجابهم من مسع التوفيق وصد عن الطريق بجواز ذلك وأن للامام إعادتهم الى ما كانوا عليه قال شيخنا فجاءتني الفتوى فقلت لا تجوز إعادتهم ويجب إبقاؤهم على الزي الذي يتميزون به عن المسلمين فذهبوا ثم غيروا الفتوى ثم جاءوا بها في قالب آخر فقلت لا تجوز إعادتهم فذهبوا ثم أتوا بها في قالب آخر فقلت هي

المسألة المعينة وان خرجت في عدة قوالب ثم ذهب الى السلطان وتكلم عنده بكلام عجب منه الحاضرون فاطبق القوم على ابقائهم ولله الحمد
ونظائر هذه الحادئة اكثر من ان تحصى فقد القى الشيطان على ألسنة أوليائه ان صوروا فتوى فيما يحدث ليلة النصف في الجامع وأخرجوها في قالب حسن حتى استخفوا عقل بعض المفتين فأفتاهم بجوازه وسبحان الله كم توصل بهذه الطرق الى إبطال حق وإثبات باطل واكثر الناس إنما هم اهل ظواهر في الكلام واللباس والافعال واهل النقد منهم الذين يعبرون من الظاهر الى حقيقته وباطنه لا يبلغون عشر معشار غيرهم ولا قريبا من ذلك فالله المستعان
لا يفصل المفتي إلا إذا دعت الحاجة
الفائدة التاسعة عشرة اذا سئل عن مسالة من الفرائض لم يجب عليه ان يذكر موانع الارث فيقول بشرط الا يكون كافرا ولا رقيقا ولا قاتلا وإذا سئل عن فريضه فيها اخ وجب عليه ان يقول إن كان لاب فله كذا وإن كان لام فله كذا وكذلك إذا سئل عن الاعمام وبنيهم وبني الاخوة وعن الجد والجدة فلا بد من التفصيل والفرق بين الموضعين ان السؤال المطلق في الصورة الاولى يدل على الوارث الذي لم يقم به مانع من الميراث كما لو سئل عن رجل باع أوآجر أوتزوج أوأقر لم يجب عليه ان يذكر موانع الصحه من الجنون والاكراه ونحوهما إلا حيث يكون الاحتمال متساويا
ومن تأمل اجوبة النبي ص - رآه يستفصل حيث تدعو الحاجة الى الاستفصال ويتركه حيث لا يحتاج اليه ويحيل فيه مرة على ما علم من شرعه ودينه من شروط الحكم وتوابعه بل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى واحل لكم ما وراء ذلك وقوله فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره وقوله تعالى والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم

ولا يجب على المتكم والمفتى ان يستوعب شرائط الحكم وموانعه كلها عند ذكر حكم المسألة ولا ينفع السائل والمتكلم والمتعلم قوله بسرطه وعدم موانعه ونحو ذلك فلا بيان اتم من بيان الله ورسوله ولا هدى اكمل من هدى الصحابة والتابعين وبالله التوفيق
الاختلاف في فتوى المقلد
الفائدة العشرون لا يجوز للمقلد ان يفتي في دين الله بما هو مقلد فيه وليس على بصيرة فيه سوى انه قول من قلده دينه هذا إجماع من السلف كلهم وصرح به الامام احمد والشافعي رضى الله عنهما وغيرهما
قال ابو عمرو بن الصلاح قطع ابو عبد الله الحليم إمام الشافعيين بما وراء النهر والقاضي ابو المحاسن الروياني صاحب بحر المذهب وغيرها بانه لا يجوز للمقلد ان يفتى بما هو مقلد فيه
وقال وذكر الشيخ ابو محمد الجويني في شرحه لرسالة الشافعي عن شيخه ابي بكر القفال المروزي انه يجوز لمن حفظ كلام صاحب مذهب ونصوصه ان يفتى به وان لم يكن عارفا بغوامضه وحقائقه وخالفه الشيخ ابو محمد وقال لا يجوز ان يفتى بمذهب غيره اذا لم يكن متبحرا فيه عالما بغوامضه وحقائقه كما لا يجوز للعامي الذي جمع فتاوي المفتين ان يفتى بها واذا كان متبحرا فيه جاز ان يفتى به
وقال ابو عمرو من قال لا يجوز له ان يفتى بذلك معناه لا يذكره في صورة ما يقوله من عند نفسه بل يضيفه الى غيره ويحكيه عن إمامه الذي قلده فعلى هذا من عددناه في اصناف المفتين المقلدين ليسوا على الحقيقة من المفتين ولكنهم قاموا مقام المفتين وادعوا عنهم فعدوا منهم وسبيلهم في ذلك ان يقولوا مثلا مذهب الشافعي كذا وكذا ومقتضى مذهبه كذا وكذا وما أشبه ذلك ومن ترك منهم إضافة ذلك الى إمامه فإن كان ذلك اكتفاء منه بالمعلوم عن الصريح فلا بأس

قلت ما ذكره ابو عمرو حسن إلا ان صاحب هذه المرتبة يحرم عليه ان يقول مذهب الشافعي لما لا يعلم انه نصه الذي افتى به أويكون شهرته بين اهل المذهب شهرة لا يحتاج معها الى الوقوف على نصه كشهرة مذهبه في الجهر بالبسملة والقنوت في الفجر ووجوب تبييت النية للصوم في الفرض من الليل ونحو ذلك فأما مجرد ما يجد في كتب من انتسب الى مذهبه من الفروع فلا يسعه ان يضيفها الى نصه ومذهبه بمجرد وجودها في كتبهم فكم فيها من مسألة لا نص له فيها البتة ولا ما يدل عليه وكم فيها من مسألة نصه على خلافها وكم فيها من مسألة اختلف المنتسبون اليه في إضافتها الى مقتضى نصه ومذهبه فهذا يضيف الى مذهبه إثباتها وهذا يضيف اليه نفيها فلا ندري كيف يسع المفتي عندالله ان يقول هذا مذهب الشافعي وهذا مذهب مالك واحمد وابي حنيفة واما قول الشيخ ابي عمرو إن لهذا المفتي ان يقول هذا مقتضى مذهب الشافعي مثلا فلعمرالله لا يقبل ذلك من كل من نصب نفسه للفتيا حتى يكون عالما بمأخذ صاحب المذهب ومداركه وقواعده جمعا وفرقا ويعلم ان ذلك الحكم مطابق لأصوله وقواعده بعد استفراغ وسعه في معرفة ذلك فيها اذا اخبر ان هذا مقتضى مذهبه كان له حكم أمثاله ممن قال بمبلغ علمه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها
وبالجملة فالمفتي مخبر عن الحكم الشرعي وهو اما مخبر عما فهمه عن الله ورسوله واما عما فهمه من كتاب أونصوص من قلده دينه وهذا لون فكما لا يسع الاول ان يخبر عن الله ورسوله إلا بما علمه فكذا لا يسع الثاني ان يخبر عن إمامة الذي قلده دينه إلا بما يعلمه وبالله التوفيق
الاختلاف في تولية الفقيه القاصر عن معرفة الكتاب والسنة الافتاء
الفائدة الحادية والعشرون إذا تفقه الرجل وقرأ كتابا من كتب الفقه أوأكثر وهو مع ذلك قاصر في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف والاستنباط والترجيح فهل يسوغ تقليده في الفتوى فيه للناس أربعة أقوال الجواز

مطلقا والمنع مطلقا والجواز عند عدم المجتهد ولا يجوز مع وجوده والجواز إن كان مطلعا على ما اخذ من يفتي بقولهم والمنع إن لم يكن مطلعا
والصواب فيه التفصيل وهو انه ان كان السائل يمكنه التوصل الى عالم يهديه السبيل لم يحل له استفتاء مثل هذا ولا يحل لهذا ان ينسب نفسه للفتوى مع و4جود هذا العالم وإن لم يكن في بلده أوناحيته غيره بحيث لا يجد المستفتي من يسأله سواه فلا ريب ان رجوعه اليه اولى من ان يقدم على العمل بلا علم أويبقى مرتبكا في حيرته مترددا في عماه وجهالته بل هذا هو المستطاع من تقواه المامور بها
ونظير هذه المسالة اذا لم يجد السلطان من يوليه إلا قاضيا عاريا من شروط القضاء لم يعطل البلد عن قاض وولي الامثل فالامثل
ونظير هذا لو كان الفسق هو الغالب على اهل تلك البلد وان لم تقبل شهادة بعضهم على بعض وشهادته له تعطلت الحقوق وضاعت قبل شهاده الامثل فالامثل
ونظيرها لو غلب الحرام المحض أوالشبهة حتى لم يجد الحلال المحض فإنه يتناول الامثل فالامثل
ونظير هذا لو شهد بعض النساء على بعض بحق في بدن أوعرض أومال وهن منفردات بحيث لا رجل معهن كالحمامات والأعراس قبلت شهادة فالأمثل منهن قطعا ولا يضيع الله ورسوله حق المظلوم ولا يعطل إقامة دينه في مثل هذه الصورة أبدا بل قد نبه الله تعالى على القبول في مثل هذه الصورة بقبول شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية في آخر سورة أنزلت في القرآن ولم ينسخها شيء ألبتة ولا نسخ هذا الحكم كتاب ولا سنة ولا أجمعت الأمة على خلافة ولا يليق بالشريعة سواه فالشريعة شرعت

لتحصيل مصالح العباد بحسب الإمكان وأي مصلحة لهم في تعطيل حقوقهم إذالم يحضر أسباب تلك الحقوق شاهدان حران ذكران عدلان بل إذا قلتم تقبل شهادة الفساق حيث لاعدل وينفذ حكم الجاهل والفاسق إذا خلا الزمان عن قاض عالم عادل فكيف لا تقبل شهادة النساء إذا خلا جمعهن عن رجل أوشهادة العبيد إذا خلا جمعهم عن حر أوشهادة الكفار بعضهم على بعض إذا خلا جمعهم عن مسلم وقد قبل ابن الزبير شهادة الصبيان بعضهم على بعض في تجارحهم ولم ينكره عليه أحد من الصحابة وقد قال به مالك والإمام أحمد رحمهما الله تعالى في إحدى الروايتين عنه حيث يغلب على الظن صدقهم بأن يجتنبوا أويتفرقوا إلى بيوتهم وهذا هو الصواب وبالله التوفيق
وكلام أصحاب أحمد في ذلك يخرج على وجهين فقد منع كثير منهم الفتوى والحكم بالتقليد وجوزه بعضهم لكن على وجه الحكاية لقول المجتهد كما قال أبو إسحاق بن شاقلا وقد جلس في جامع المنصور فذكر قول أحمد أن المفتي بنبغي له أن يحفظ أربعمائة ألف حديث ثم يفتي فقال له رجل أنت تحفظ هذا فقال إن لم أحفظ هذا فأنا أفتي بقول من كان يحفظه وقال أبو الحسن ابن بشار من كبار أصحابنا ماضر رجلا عنده ثلاث مسائل أوأربع من فتاوي الإمام أحمد يستند إلى هذه السارية ويقول قال أحمد بن حنبل
الاختلاف في إفتاء العامي في حادثة عرف دليلها
الفائدة الثانية والعشرين اذا عرف العامى حكم حادثة بدليلها فهل له ان يفتي به ويسوغ لغيره تقليده فيه ففيه ثلاثة اوجه للشافعية وغيرهم احدهما الجواز لانه قد حصل له العلم بحكم تلك الحادثة عن دليلها كما حصل للعالم وان تميز العالم عنه بقوة يتمكن بها من تقرير الدليل ودفع المعارض له فهذا قدر زائد على معرفة الحق بدليله والثاني لا يجوز له ذلك مطلقا لعدم اهليته للاستدلال

وعدم علمه بشرطه وما يعارضه ولعله يظن دليلا ما ليس بدليل والثالث ان كان الدليل كتابا أوسنة جاز له الافتاء وان كان غيرهما لم يجز لان القران والسنة خطاب لجميع المكلفين فيجب على المكلف ان يعمل بما وصل اليه من كتاب ربه تعالى وسنة نبيه ص - ويجوز له ان يرشد غيره اليه ويدله عليه
الخصال التي يجب ان يتصف بها المفتي
الفائدة الثالثة والعشرين ذكر ابو عبد الله بن بطة في كتابه في الخلع عن الامام احمد انه قال لا ينبغي للرجل ان ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال اولها ان تكون له نية فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور والثانية ان يكون له علم وحلم ووقار وسكينة الثالثة ان يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفتة الرابعة الكفاية والا مضغه الناس الخامسة معرفة الناس
وهذا مما يدل على جلالة احمد ومحله من العلم والمعرفة فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى واي شئ نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه
منزلة النية
فأما النية فهى رأس الامر وعموده واساسه واصله الذي عليه يبنى فإنها روح العمل وقائده وسائقه والعمل تابع لها يبنى عليها يصح بصحتها ويفسد بفسادها وبها يستجلب التوفيق وبعدمها يحصل الخذلان وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والاخرة فكم بين مريد الفتوى وجه الله ورضاه والقرب منه وما عنده ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته وما يناله منه تخويفا أوظمعات فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة وبينهما في الفضل والثواب اعظم مما بين المشرق والمغرب هذا يفتى لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر ورسوله هو المطاع وهذا يفتي ليكون قوله هو المسموع وهو المشار اليه وجاهه هو القائم سواء وافق الكتاب والسنة أو خلفهما فالله المستعان

وقد جرت عادة الله التي لا تبدل وسنته التي لا تحول ان يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم اليه ما هو بحسب اصلاصه ونيته ومعاملته لربه ويلبس المرائي اللابس ثوبى الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به فالمخلص له المهابة والمحبة وللآخر المقت والبغضاء
من الصفات التي يتصف بها المفتي الحلم الوقار والسكينة
وأما قوله ان يكون له حلم ووقار وسكينة فليس صاحب العلم والفتيا الى شئ احوج منه الى الحلم والسكينة والوقار فإنها كسوة علمه وجماله وإذا فقدها كان علمه كالبدن العاري من اللباس وقال بعض السلف ما قرن شئ الى شئ احسن من علم الى حلم والناس ههنا أربعة اقسام فخيارهم من اوتى الحلم والعلم وشرارهم من عدمهما الثالث من أوتى علما بلا حلم الرابع عكسه فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات فالحليم لا يستفزه البدوات ولا يستخفه الذين لا يعلمون ولا يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل بل هو وقور ثابت ذو أناة يملك نفسه عند ورود أوائل الامور عليه ولا تملكه اوائلها وملاحظته للعواقب تمنعه من ان تستخفه دواعي الغضب والشهوة فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير فيؤثره ويصبر عليه وعند الشر فيصبر عنه فالعلم يعرفة رشده والحلم يثبته عليه وإذا شئت ان ترى بصيرا بالخير والشر لا صبر له على هذا ولا عن هذا رأيته إذا شئت ان ترى صابرا على المشاق لا بصيرة له رأيته وإذا شئت ان ترى من لا صبر له ولابصيره رأيته وإذا شئت ان ترى بصيرا صابرا لم تكد فإذا رأيته فقد رايت إمام هدى حقا فاستمسك بغرزه والوقار والسكينة ثمرة الحلم ونتيجته
ولشدة الحاجة الى السكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير الى ذلك بحسب

علومنا القاصرة وأذهاننا الجامدة وعباراتنا الناقصة ولكن نحن ابناء الزمان والناس بزمانهم اشبه منهم بآبائهم ولكل زمان دولة ورجال
معنى السكينة
فالسكينة فعيلة من السكون وهو طمأنينة القلب واستقراره واصلها في القلب ويظهر اثرها على الجوارح وهي عامة وخاصة
سكينة الانبياء
فسكينة الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم اخص مراتبها وعلى اقسامه كالسكينة التي حصلت لابراهيم الخليل وقد القى في المنجنيق مسافرا الى ما اضرم له اعداء الله من النار فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد غشيه فرعون وجنوده من ورائهم والبحر أمامهم وقد استغاث بنو اسرائيل يا موسى الى اين تذهب بنا هذا البحر امامنا وهذا فرعون خلفنا وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكليم الله له نداء ونجاء كلاما حقيقة سمعه حقيقة بأذنه وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعبانا مبينا وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد راى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة وكذلك السكينة التي حصلت لنبينا ص - وقد اشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار فلو نظر احدهم الى تحت قدميه لرآهما وكذلك السكينة التي نزلت عليه في موافقة العظيمة واعداء الله قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره فهذه السكينة امر فوق عقول البشر وهي من اعظم معجزاته عند ارباب البصائر فان الكذاب ولا سيما على الله املق ما يكون واخوف ما يكون واشده اضطرابا في مثل هذه المواطن فلوا لم يكن للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم
سكينة اتباع الرسل
وأما الخاصة فتكون لاتباع الرسل بحسب متابعتهم وهي سكينة الايمان وهي سكينة تسكن القلوب عن الريب والشك ولهذا انزلها الله على المؤمنين في اصعب المواطن احوج ما كانوا اليها هو الذي انزل السكينة في قلوب المؤمنين

ليزدادوا إيمانا مع ايمانهم ولله جنود السموات والارض وكان الله عليما حكيما فذكر نعمته عليهم بالجنود الخارجة عنهم والجنود الداخلة فيهم وهي السكينة عند القلق والاضطراب الذي لم يصبر عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه وذلك يوم الحديبية قال الله سبحانه وتعالى يذكر نعمته عليهم بإنزالها أحوج ما كانوا اليها لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا لما علم الله سبحانه وتعالى ما في قلوبهم من القلق والاضطراب لما منعهم كفار قريش من دخول بيت الله وحبسوا الهدى عن محله واشترطوا عليهم تلك الشروط الجائرة الظالمة فاضطربت قلوبهم وقلقت ولم تطق الصبر فعلم تعالى ما فيها فثبتها بالسكينة رحمة منه ورافة ولطفا وهو اللطيف الخبير وتحتمل الاية وجها آخر وهو انه سبحانه علم ما في قلوبهم من الايمان والخير ومحبته ومحبة رسوله فثبتها بالسكينة وقت قلقها واضطرابها والظاهر ان الاية تعم الامرين وهو انه علم ما في قلوبهم مما يحتاجون معه الى إنزال السكينة وما في قلوبهم من الخير الذي هو سبب انزالها ثم قال بعد ذلك إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا احق بها واهلها وكان الله بكل شئ عليما لما كانت حمية الجاهلية توجب من الاقوال والاعمال ما يناسبها جعل الله في قلوب اوليائه سكينة تقابل حمية الجاهلية وفي السنتهم كلمة التقوى مقابلة لما توجبه حمية الجاهلية من كلمة الفجور فكان حظ المؤمنين السكينة في قلوبهم وكلمة التقوى على السنتهم وحظ اعدائهم حمية الجاهلية في قلوبهم وكلمة الفجور والعدوان على ألسنتهم فكانت هذه السكينة وهذه الكلمة جند من جند الله ايد بها الله رسوله والمؤمنين في مقابلة جند الشيطان الذي في قلوب اوليائه والسنتهم وثمرة هذه السكينة الطمأنينة للخير تصديقا وإيقانا وللامر تسليما وإذعانا فلا تدع شبهة تعارض الخير ولا إرادة تعارض الامر فلا تمر معارضات السوء بالقلب إلا وهي مجتازة من مرور الوساوس الشيطانية التي يبتلى بها العبد ليقوى إيمانه ويعلو عند الله ميزانه بمدافعتها وردها وعدم السكون اليها فلا يظن المؤمن انها لنقص درجته عند الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"