بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 9 أبريل 2010

نبذ من "اعلام الموقعين"/24لابن القيم

قالوا وأما الاثران اللذان ذكرتموهما عن الصحابة فما احسنهما لو ثبتا ولكن كيف بثبوتهما وعطية ضعف وجميع بن عبد الحميد مجهول وخالد بن يزيد ضعيف قال ابن عدي احاديثه لا يتابع عليها وأثر ابن عباس لا يعلم حال إسناده حتى يقبل أويرد
على أن هذه الآثار مقابلة بآثار اخر لا تثبت أيضا فمنها ما رواه البيهقي في سننه من حديث اسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك عن مكحول عن معاذ ابن جبل قال قال لي رسول الله ص - يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الارض ابغض اليه من الطلاق وما خلق الله شيئا على وجه الارض أحب اليه من العتاق فإذا قال الرجل لمملوكه انت حر إن شاء الله فهو حر ولا استثناء له وإذا قال لامرأته انت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه ثم ساقه من طريق محمد بن مصفى ثنا معاوية بن حفص عن حميد عن مالك اللخمي حدثني مكحول عن معاذ بن جبل رضى الله عنه أنه سأل رسول الله ص - عن رجل قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله فقال له استثناؤه فقال رجل يا رسول الله وإن قال لغلامه أنت حر إن شاء الله تعالى قال يعتق لان الله يشاء العتق ولا يشاء الطلاق ثم ساق من طريق إسحاق بن ابي نجيح عن عبدالعزيز بن ابي رواد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ان رسول الله ص - قال من قال لامرأته انت طالق إن شاء

الله أولغلامه أنت حر إن شاء الله أوعليه المشي إلى بيت الله الحرام إن شاء الله فلا شئ عليه ثم ساق من طريق الجارود بن يزيد عن بهز بنه حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا في الطلاق وحده انه لا يقع
ولو كنا ممن يفرح بالباطل ككثير من المصنفين الذين يفرح أحدهم بما وجده مؤيدا لقوله لفرحنا بهذه الاثار ولكن ليس فيها غنية فإنها كلها آثار باطلة موضوعة على رسول الله ص -
أما الحديث الاول ففيه عدة بلايا إحداها حميد بن مالك ضعفه أبو زرعة وغيره الثانية ان مكحولا لم يلق معاذا قال ابو زرعة مكحول عن معاذ منقطع الثالثة أنه قد أضطرب فيه حميد هذا الضعيف فمره يقول عن مكحول عن معاذ ومرة يقول عن مكحول عن خالد بن معدان عن معاذ وهو منقطع أيضا وقيل مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ قال البيهقي ولم يصح الرابعة ان اسماعيل بن عياش ليس ممن يقبل تفرده بمثل هذا ولهذا لم يذهب احد من الفقهاء الى هذا الحديث وما حكاه ابو حامد الاسفرائيني عن احمد من القول به فباطل عنه لا يصح البتة وكل من حكاه عن احمد فمستنده حكاية ابي حامد الإسفرائيني أومن تلقاها عنه
وأما الاثر الثاني فإسناده ظلمات بعضها فوق بعض حتى انتهى أمره الى الكذاب إسحاق بن نجيح الملطي
وأما الاثر الثالث فالجارود بن يزيد قد ارتقى من حد الضعف الى حد الترك
والمقصود أن الاثار من الطرفين لا مستراح فيها
فصل ردود اخرى على من لا يجوزون الاستثناء
وأما قولكم إنه استثناء يرفع جملة الطلاق فلم يصح كقوله انت طالق

ثلاثا إلا ثلاثا فما أبردها من حجة فإن الاستثناء لم يرفع حكم الطلاق بعد وقوعه وإنما منع من انعقاده منجزا بل انعقد معلقا كقوله انت طالق إن شاء فلان فلم يشأ فلان فإنها لا تطلق ولا يقال إن هذا الاستثناء رفع جملة الطلاق
وأما قولكم إنه إنشاء حكم في محل فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح فأبرد من الحجدة التي قبلها فإن البيع والنكاح لا يصح تعليقهما بالشرط بخلاف الطلاق
وأما قولكم إزالة ملك فلا يصح تعليقه على مشيئة الله كالإبراء فكذلك ايضا فإن الابراء لا يصح تعليقه على الشرط مطلقا عندكم سواء كان الشرط مشيئة الله أوغيرها فلو قال ابرأتك إن شاء زيد لم يصح ولو قال انت طالق إن شاء زيد صح
وأما قولكم إنه تعليق على ما لا سبيل الى العلم به فليس كذلك بل هو تعليق على ما لنا سبيل الى علمه فإنه إذا اوقعه في المستقبل علمنا وجود الشرط قطعا وأن الله قد شاءه
وأما قولكم إن الله قد شاءه بتكلم المطلق به فالذي شاءه الله إنما هو طلاق معلق والطلاق المنجز لم يشأه الله إذ لو شاءه لوقع ولا بد فما شاءه الله لا يوجب وقوع الطلاق في الحال وما يوجب وقوعه في الحال لم يشأه الله
وأما قولكم إن الله تعالى وضع لإيقاع الطلاق هذه اللفظة شرعا وقدرا فنعم وضع تعالى المنجز لإيقاع المنجز والمعلق لوقوعه لوقوعه عند وقوع ما علق به
وأما قولكم لو لم يشأ الطلاق لم يأذن للمكلف في التكلم به فنعم شاء المعلق وأذن فيه والكلام في غيره

وقولكم إن هذا نظير قوله وهو متلبس بالفعل انا أفعل إن شاء الله فهذا فصل النزاع في المسالة فإذا اراد بقوله انت طالق إن شاء الله هذا التطليق الذي صدر مني لزمه الطلاق قطعا لوجود الشرط وليس كلامنا فيه وإنما كلامنا فيما إذا اراد ان شاء الله طلاقا مستقبلا أواطلق ولم يكن له نية ف ينبغي النزاع في القسم الاول ولا يظن أن احدا من الائمة ينازع فيه فإنه تعليق على شرط مستقبل ممكن فلا يجوز إلغاؤه كما لو صرح به فقال إن شاء الله ان اطلقك غدا فأنت طالق إلا ان يستروح الى ذلك المسلك الوخيم انه علق الطلاق بالمستحيل فلغا التعليق كمشيئة الحجر والميت وأما إذا اطلق ولم يكن له نية فيحمل مطلق كلامه على مقتضى الشرط لغة وشرعا وعرفا وهو اقتضاؤه للوقوع في المستقبل
واما استدلالكم بقول يوسف لأبيه واخوته ادخولا مصر إن شاء الله آمنين فلا حجة فيه فإن الاستثناء إن عاد الى الامر المطلوب دوامه واستمراره فظاهر وإن عاد الى الدخول المقيد به فمن اين لكم أنه قال لهم هذه المقالة حال الدخول أوبعده ولعله إنما قالها عند تلقيه لهم ويكون دخولهم عليه في منزل اللقاء فقال لهم حيئنذ ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين فهذا محتمل وإن كان إنما قال لهم ذلك بعدد دخولهم عليه في دار مملكته فالمعنى ادخلوها دخول استيطان واستقرار آمنين إن شاء الله
وأما قولكم إنه لو اتى بالشهادتين ثم قال إن شاء الله أوقال انا مسلم إن شاء الله صح إسلامه في الحال فنعم إذا فإن الاسلام لا يقبل التعليق بالشرط فإذا علقه بالشرط تنجز كما لو علق الردة بالشرط فإنها تنجز وأما الطلاق فإنه يصح تعليقه بالشرط
وأما قولكم إنه من المعلوم قطعا ان الله قد شاء تكلمه بالطلاق فقوله بعد ذلك إن شاء الله تحقيق لما لعم ان الله قد شاءه فقد تقدم جوابه وهو

أن الله إنما شاء الطلاق المعلق فمن أين لكم انه شاء المنجز ولم تذكروا عليه دليلا
وقولكم إنه بمنزلة قوله انت طالق إن كان الله اذن في الطلاق أواباحه ولا فرق بينهما فما أعظم الفرق بينهما وأبينه حقيقة ولغة وذلك ظاهر عن تكلف بيانه فإن بيان الواضحات نوع من العي بل نظير ذلك ان يقول أنت طالق إن كان الله قد شاء تلفظي بهذا اللفظ فهذا يقع قطعا
وأما قولكم إن الكفارة اقوى من الاستثناء لانها ترفع حكم اليمين والاستثناء يمنع عقدها وإذا لم تدخل الكفارة في الطلاق والعتاق فالاستثناء أولى فما أوهنها من شبهة وهي عند التحقيق لا شئ فإن الطلاق والعتاق إذا وقعا لم تؤثر فيهما الكفارة شيئا ولا يمكن حلهما بالكفارة بخلاف الايمان فإن حلها بالكفارة ممكن وهذا تشريع شرعه شارع الاحكام هكذا فلا يمكن تغييره فالطلاق والعتاق لا يقبل الكفارة لم تقبلها سائر العقود كالوقف والبيع والهبة والاجارة والخلع فالكفارة مختصة بالايمان وهي من أحكامها التي لا تكون لغيرها وأما الاستثناء فيشرع في اعم من اليمين كالوعد والوعيد والخبر عن المستقبل كقول النبي ص - وإنا إن شاء الله بكم لا حقون وقوله عن أميه بن خلف بل أنا أقتله إن شاء الله وكذا الخبر عن الحال نحو أنا مؤمن إن شاء الله ولا تدخل الكفارة في شئ من ذلك فليس بين الاستثناء والتكفير تلازم بل تكون الكفارة حيث لا استثناء والاستثناء حيث لا كفارة والكفارة شرعت تحلة لليمين بعد عقدها والاستثناء شرع لمعنى آخر وهو تأكيد التوحيد وتعليق الامور بمشيئة من لا يكون شئ إلا بمشيئته فشرع للعبد ان يفوض الامر الذي عزم عليه وحلف على فعله أوتركه الى مشيئة الله ويعقد نطقه بذلك فهذا شئ والكفارة شئ آخر

وأما قولكم إن الاستثناء إن كان رافعا فهو رافع لجملة المستثنى منه فلا يرتفع فهذا عار عن التحقيق فإن هذا ليس باستثناء بأداة إلا وأخواتها التي يخرج بها بعض المذكور ويبقى بعضه حى يلزم ما ذكرتم وانما هو شرط ينتفى الشروط عند انتفائه كسائر الشروط ثم كيف يقول هذا القائل في قوله انت طالق إن شاء زيد اليوم ولم يشأ فموجب دليله ان هذا لا يصح
فإن قيل فلو أخرجه بأداه إلا فقال انت طالق إلا ان يشاء الله كان رفعا لجملة المستثنى منه
قيل هذه مغلطة ظاهرة فإن الاستثناء ههنا ليس إخراج جملة ما تناوله المذكور ليلزم ما ذكرت وإنما هو تقييد لمطلق الكلام الاول بجملة اخرى مخصصه لبعض احوالها أي انت طالق في كل حالة إلا حالة واحدة واحجدة وهي حالة لا يشاء الله فيها الطلاق فإذا لم يقع منه طلاق بعد هذا علمنا بعدم وقوعه ان الله تعالى لم يشأ الطلاق إذ لو شاءه لوقع ثم ينتقض هذا بقوله إلا أن يشاء زيد وإلا ان تقومي ونحو ذلك فإن الطلاق لا يقع إذا لم يشأه زيد وإذا لم تقم وسمى هذا التعليق بمشيئة الله تعالى استثناء في لغة الشارع كقوله تعالى إذ اقسموا ليصر منها مصبحين ولا يستثنون أي لم يقولوا إن شاء الله فمن حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى فإن الاستثناء استفعال من ثنيت الشئ كأن المستثنى بإلا قد عاد على كلامه فثنى آخره على أوله بإخراج ما أدخله أولا في لفظه وهكذا التقيد بالشرط سواء فإن المتكلم به قد ثنى آخر كلامه على اوله فقيد به ما أطلقه أولا واما تخصيص الاستثناء بإلا وأخواتها فعرف خاص للنحاة
وقولكم إن كان شرطا ويراد به إن كان الله قد شاء طلاقك في المستقبل فينفذ لمشيئة الله له بمشيئتة لسببه وهو الطلاق المذكور وإن اراد به إن شاء الله ان أطلقك في المستقبل فقد علقه بمالا سبيل الى العلم به فيلغوا التعليق ويبقى اصل الطلاق فهذا هو اكبر عمدة الموقعين ولا ريب أنه إن اراد

بقوله انت طالق إن كان الله قد شاء تكلمي بهذا اللفظ أوشاء طلاقك بهذا اللفظ طلقت ولكن المستثنى لم يرد هذا بل ولا خطر على باله فبقى القسم الاخر وهو أن يريد إن شاء الله وقوع الطلاق عليك فيما يأتى فهذا تعليق صحيح معقول يمكن العلم بوجود ما علق عليه بوجود سببه كما تقدم بيانه
وأما قولكم إنه علق الطلاق بما لا يخرج عنه كائن فوجب نفوذه كما لو قال انت طالق إن علم الله أوإن قدر الله أوسمع الله الى آخره فما أبطلها من حجة فإنها لو صحت لبطل حكم الاستثناء في الايمان لما ذكرتموه بعينه ولا نفع الاستثنناء في موضع واحد ومعلوم ان المستثنى لم يخطر هذا على باله وإنما اراد تفويض الامر الى مشيئة الله وتعليقه به وأنه إن شاءه نفذ وإن لم يشأه لم يقع ولذلك كان مستثنيا أي وإن كنت قد التزمت اليمين أوالطلاق أوالعتاق فإنما التزمه بعد مشيئة الله وتبعا لها فإن شاءه فهو تعالى ينفذه بما يحدثه من الاسباب ولم يرد المستثنى إن كان لله مشيئة أوعلم سمع أوبصر فأنت طالق ولم يخطر ذلك بباله البته
يوضحه أن هذا مما لا يقبل التعليق ولاسيما بأداة إن التي للجائز الوجود والعدم ولو شك في هذا لكان ضالا بخلاف المشيئة الخاصة فإنها يمكن أن تتعلق بالطلاق وان لا تتعلق به وهو شاك فيها كما يشك العبد فيما يمكن أن يفعله الله به وأن لا يفعله هل شاءه ام لا فهذا هو المعقول الذي في فطر الحالفين والمستثنين وحذف مفعول المشيئة لم يكن لما ذكرتم وهو عدم إرادة مفعول معين بل للعلم به ودلالة الكلام عليه وتعين إرادته إذ المعنى إن شاء الله طلاقك فأنت طالق كما لو قال والله لأسافرن إن شاء الله أي إن شاء الله سفري وليس مراده إن كان لله صفة هي المشيئة فالذي قدرتموه من المشيئة المطلقه هو

الذي لم يخطر ببال الحالف والمطلق وإنما الذي لم يخطر بباله سواه هو المشيئة المعينة الخاصة
وقولكم إن المستثنى لو سئل عما أراد لم يفصح بالمشيئة الخاصة بل تكلم بلفظ الاستثناء بناء على ما اعتاده الناس من التكلم بهذا اللفظ كلام غير سديد فإنه لو صح لما نفع الاستثناء في يمين قط ولهذا نقول إن قصد التحقيق والتأكيد بذكر المشيئة ينجز الطلاق ولم يكن ذلك استثناء
وأما قولكم إن الاستثناء بابه الايمان إن اردتم به اختصاص الايمان به فلم تذكروا على ذلك دليلا وقوله ص - من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى وفي لفظ اخر من حلف فقال إن شاء الله فهو بالخيار فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فحديث حسن ولكن لا يوجب اختصاص الاستثناء بالمشيئة باليمين وقد قال الله تعالى ولا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غدا إلا ان يشاء الله وهذا ليس بيمين ويشرع الاستثناء في الوعد والوعيد والخبر عن المستقبل كقوله غدا افعل إن شاء الله وقد عتب الله على رسوله ص - حيث قال لمن سأله من أهل الكتاب عن أشياء غدا اخبركم ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه شهرا ثم نزل عليه ولا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت أي اذا نسيت ذلك الاستثناء عقيب كلامك فاذكره به اذا ذكرت هذا معنى الاية وهو الذي اراده ابن عباس بصحة الاستثناء المتراخي ولم يقل ابن عباس قط ولا من هو دونه إن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق أولعبده انت حر ثم قال بعد سنة إن شاء الله إنها لا تطلق ولا يعتق العبد وأخطأ من نقل ذلك عن ابن عباس أوعن احد من أهل العلم البتة ولم يفهموا مراد ابن عباس والمقصود ان الاستثناء لا يختص باليمين لا شرعا ولا عرفا ولا لغة وإن أردتم بكون بابه الايمان كثرته فيها فهذا لا ينفى دخوله في غيرها

وقولكم إنه لا يدخل في الاخبارات ولا في الانشاءات فلا يقال قام زيد إن شاء الله ولا قم إن شاء الله ولا بعت إن شاء الله فكذا لا يدخل في قوله انت طالق إن شاء الله فليس هذا بتمثيل صحيح والفرق بين البابين أن الامور الماضية قد علم انها وقعت بمشيئتة الله والشرط إنما يؤثر في الاستقبال فلا يصح ان يقول قمت امس إن شاء الله فلو اراد الاخبار عن وقوعها بمشيئة الله لأأتى بغير صيغة الشرط فيقول فعلت كذا بمشيئة الله وعونه وتأييده ونحو ذلك بخلاف قوله غدا أفعل إن شاء الله واما قوله قم إن شاء الله ولا تقم إن شاء الله فلا فائدة في هذا الكلام إذ قد علم أنه لا يفعل إلا بمشيئة الله فأي معنى لقوله إن شاء الله لك القيام فقم وإن لم يشأه فلا تقم نعم لو أراد بقوله قم أولا تقم الخبر وأخرجه مخرج الطلب تأكيدا أي تقوم إن شاء الله صح ذلك كما إذا قال مت على الاسلام إن شاء الله ولا تمت إلا على توبة إن شاء الله ونحو ذلك وكذا إن اراد بقوله قم ان شاء الله رد المشيئة الى معنى خبري أي ولا تقوم إلا أن يشاء الله فهذا صحيح مستقيم لفظا ومعنى واما بعت ان شاء الله واشتريت ان شاء الله فإن اراد به التحقيق صح وانعقد العقد وان اراد به التعليق لم يكن المذكور انشاء وتنافي الانشاء والتعليق إذ زمن الإنشاء يقارن ا وجود معناه وزمن وقوع لمعلق يتاخر عن التعليق فتنافيا
واما قولكم ان هذا الطلاق المعلق على المشيئة اما ان يريد طلاقا ماضيا أومقارنا أومستقبلا الى اخره فجوابه ما قد تقدم مرارا انه ان اراد به المشيئة الى هذا اللفظ المذكور وان الله ان كان قد شاءه فأنت طالق طلقت ولا ريب ان المستثني لم يرد هذا وانما اراد الا يقع الطلاق فرده الى مشيئة الله وان الله ان شاءه بعد هذا وقع فكأنه قال لا اريد طلاقك ولا ارب لي فيه إلا ان يشاء الله فينفذ رضيت أم سخطت كما قال نبي الله شعيب عليه

السلام وما يكون لنا أن نعود فيها إلا ان يشاء الله ربنا أي نحن لا نعود في ملتكم ولا نختار ذلك إلا ان يشاء الله ربنا شيئا فينفذ ما شاءه وكذلك قال ابراهيم ولا اخاف ما تشركون به إلا ان يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أي لا يقع بي مخوف من جهة آلهتكم أبدا إلا أن يشاء ربي شيئا فينفذ ما شاءه فرد الانبياء ما أخبروا ألا يكون إلى مشيئة الرب تعالى والى علمه استدراكا واستثناء أي لا يكون ذلك ابدا ولكن إن شاءه الله تعالى كان فإنه تعالى عالم بما نعلمه نحن من الامور التي تقتضيها حكمته وحده
فصل القول الفصل في موضوع الاستثناء
فالتحقيق في المسألة ان المستثنى إما أن يقصد بقوله إن شاء الله التحقيق أوالتعليق فإن قصد به التحقيق والتأكيد وقع الطلاق وإن قصد به التعليق وعدم الوقوع في الحال لم تطلق هذا هو الصواب في المسالة وهو اختيار شيخنا وغيره من الاصحاب وقال ابو عبد الله بن حمدان في رعايته قلت إن قصد التأكيد والتبرك وقع وإن قصد التعليق وجهل استحالة العلم بالمشيئة فلا وهذا قول آخر غير الاقوال الاربعة المحكية في المسألة وهو انه إنما ينفعه الاستثناء إذا قصد التعليق وكان جاهلا باستحالة العلم بمشيئة الله تعالى فلو علم استحالة العلم بمشيئته تعالى لم ينعقد الاستثناء والفرق بين علمه بالاستحالة وجهلة بها انه إذا جهل استحالة العلم بالمشيئة فقد علق الطلاق بما هو ممكن في ظنه فيصح تعليقه وإذا لم يجهل استحالة العلم بالمشيئة فقد علقه على محال يعلم استحالته فلا يصح التعليق وهذا احد الاقوال في تعليقه بالمحال
قلت وقولهم إن العلم بمشيئة الرب محال خطأ محض فإن مشيئة الرب تعلم بوقوع الاسباب التي تقتضى مسبباتها فإن مشيئة المسبب مشيئة لحكمه فإذا أوقع عليها بعد ذلك طلاقا علمنا ان الله قد شاء طلاقها

فهذا تقرير الاحتجاج من الجانبين ولا يخفى ما تضمنه من رجحان احد القولين والله أعلم
فصل نية الاستثناء وزمنها
وقد قدمنا اختلاف الفقهاء في اشتراط نية الاستثناء وزمنها وان أضيق الاقوال قول من يشترط النية من اول الكلام وأوسع منه قول من يشترطها قبل فراغه واوسع منه قول من يجوز إنشاءها بعد الفراغ من الكلام كما يقوله اصحاب احمد وغيرهم واوسع منه قول من يجوزه بالقرب ولا يشترط اتصاله بالكلام كما نص عليه احمد في رواية المروزي فقال حديث ابن عباس أن النبي ص - قال والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال إن شاء الله إذ هو استثناء بالقرب ولم يخلط كلامه بغيره وقال اسماعيل بن سعيد الشالنجي سألت احمد بن حنبل عن الاستثناء في اليمين فقال من استثنى بعد اليمين فهو جائز على مثل فعل النبي ص - إذ قال والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال إن شاء الله ولم يبطل ذلك قال ولا اقول فيه بقول هؤلاء يعنى من لم ير ذلك إلا متصلا هذا لفظ الشالنجي في مسائلة وأوسع من ذلك قول من قال ينفعه الاستثناء ويصح ما دام في المجلس نص عليه الامام احمد في احدى الروايات عنه وهو قول الاوزاعي كما سنذكره واوسع منه من وجه قول من لا يشترط النية بحال كما صرح به أصحاب ابي حنيفة وقال صاحب الذخيرة في كتاب الطلاق في الفصل السادس عشر منه ولو قال لها انت طالق إن شاء الله ولا يدري أي شئ شاء الله لا يقع الطلاق لان الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع فعلمه وجهله يكون سواء ولو قال لها انت طالق فجرى على لسانه من غير قصد إن شاء الله

وكان قصده إيقاع الطلاق لا يقع الطلاق لان الاستثناء قد وجد حقيقة والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعا وقال الجوزجاني في مترجمه حدثني صفوان ثنا عمر قال سئل الاوزاعي رحمه الله عن رجل حلف والله لأفعلن كذا وكذا ثم سكت ساعة لا يتكلم ولا يحدث نفسه بالاستثناء فيقول له إنسان الى جانبه قل إن شاء الله فقال إن شاء الله ايكفر عن يمينه فقال اراه قد استثنى
وبهذا الاسناد عن الاوزاعي انه سئل عن رجل وصله قريبه بدراهم فقال والله لا آخذها فقال قريبه والله لتأخذنها فلما سمعه قال والله لتأخذنها استثنى في نفسه فقال إن شاء الله وليس بين قوله والله لا آخذها وبين قوله إن شاء الله كلام إلا انتظاره ما يقول قريبه ايكفر عن يمينه إن هو أخذها فقال لم يحنث لانه قد استثنى
ولا ريب أن هذا افقه واصح من قول من اشتراط نيته مع الشروع في اليمين فإن هذا القول موافق للسنة الصحيحة فعلا عن النبي ص - وحكاية عن أخيه سليمان انه لو قال إن شاء الله بعد ما حلف وذكره الملك كان نافعا له موافقا للقياس ومصالح العباد ومقتضى الحنيفية السمحة ولو اعتبر ما ذكر من اشتراط النية في اول الكلام والاتصال الشديد لزالت رخصة الاستثناء وقل من انتفع بها إلا من قد درس على هذا القول وجعله منه على بال
وقد ضيق بعض المالكية في ذلك فقال لا يكون الاستثناء نافعا إلا وقد أراده صاحبه قبل أن يتمم اليمين كما قال بعض الشافعية وقال ابن المواز شرط نفعه ان يكون مقارنا ولو لآخر حرف من حروف اليمين ولم يشترط مالك شيئا من ذلك بل قال في موطئه وهذا لفظ روايتة قال عبد الله بن يوسف احسن ما سمعت في الثنيا في اليمين انها لصاحبها ما لم يقطع كلامه وما كان نسقا يتبع

بعضه بعضا قبل ان يسكت فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له انتهى ولم ار عن أحد من الائمة قط اشتراط النية مع الشروع ولا قبل الفراغ وإنما هذا من تصرف الاتباع
فصل هل يصح الاستثناء في القلب
وهل من شرط الاستثناء ان يتكلم به أوينفع اذا كان في قلبه وإن لم يتلفظ به فالمشهور من مذاهب الفقهاء انه لا ينفعه حتى يتلفظ به ونص عليه احمد فقال في رواية ابن منصور لا يجوز له ان يستثنى في نفسه حتى يتكلم به وقد قال أصحاب احمد وغيرهم لو قال نسائي طوالق واستثنى بقلبه إلا فلانه صح استثناؤه ولم تطلق ولو قال نسائي الاربع طوالق واستثنى بقلبه إلا فلانه لم ينفعه وفرقوا بينهما بأن الاول ليس نصا في الاربع فجاز تخصيصه بالنية بخلاف الثاني ويلزمهم على هذا الفرق ان يصح تقييده بالشرط بالنية لأن غايته انه تقييد مطلق فعمل النية فيه اولى فيه أولى من عملها في تخصيص العام لان العام متناول للأفراد وضعا والمطلق لا يتناول جميع الاحوال بالوضع فتقييده بالنية اولى من تخصيص العام بالنية وقد قال صاحب المغنى وغيره إذا قال انت طالق ونوى بقلبه من غير نطق إن دخلت الدار أوبعد شهر أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى وهل يقبل في الحكم على روايتين وقد قال الامام احمد في رواية اسحاق بن ابراهيم فيمن حلف لا يدخل الدار وقال نويت شهرا قبل منه أوقال إذا دخلت دار فلان فأنت طالق ونوى تلك الساعة أوذلك اليوم قبلت نيته قال والرواية الاخرى لا تقبل فإنه قال إذا قال لامرأته أنت طالق ونوى في نفسه الى سنة تطلق ليس ينظر الى نيته وقال إذا قال أنت طالق وقال نويت إن دخلت الدار لا يصدق قال الشيخ ويمكن ان يجمع بين هاتين الروايتين بأن يحمل قوله في القبول على أنه يدين وقوله في عدم القبول

على الحكم فلا يكون بينهما اختلاف قال والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها يعنى مسألة نسائي طوالق واراد بعضهن أن إرادة الخاص بالعام شائع كثير وإرادة الشرط من غير ذكره غير شائع وهو قريب من الاستثناء ويمكن ان يقال هذه كلمه من جملة التخصيص انتهى كلامه وقد تضمن ان الحالف إذا أراد الشرط دين وقبل في الحكم في إحدى الروايتين ولا يفرق فقيه ولا محصل بين الشرط بمشيئة الله حيث يصح وينفع وبين غيره من الشروط وقد قال الامام احمد في رواية حرب إن كان مظلوما فاستثنى في نفسه رجوت أنه يجوز إذا خاف على نفسه ولم ينص على خلاف هذا في المظلوم وإنما اطلق القول وخاص كلامه ومقيده يقضى عل مطلق وعامه فهذا مذهبه
فصل هل يصح الاستثناء بتحريك اللسان
وهل يشترط أن يسمع نفسه أويكفي تحرك لسانه بالاستثناء إن كان بحيث لا يسمعه فاشتراط أصحاب احمد وغيرهم انه لا بد وان يكون بحيث يسمعه هو أوغيره ولا دليل على هذا من لغة ولا عرف ولا شرع وليس في المسألة إجماع قال اصحاب ابي حنيفة واللفظ لصاحب الذخيرة وشرط الاستثناء ان يتكلم بالحروف سواء كان مسموعا أولم يكن عند الشيخ ابي الحسن الكرخي وكان الفقيه ابو جعفر يقول لا بد وان يسمع نفسه وبه كان يفتى الشيخ ابو بكر محمد بن الفضل وكان شيخ الاسلام ابن تيمية يميل الى هذا القول وبالله التوفيق وهذا بعض ما يتعلق بمخرج الاستثناء ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب
فصل فعل المحلوف عليه ناسيا ونحو ذلك
المخرج الخامس ان يفعل المحلوف عليه ذاهلا أوناسيا أومخطئا أوجاهلا

أومكرها أومنأولا أومعتقدا انه لا يحنث به تقليدا لمن أفتاه بذلك أومغلوبا على عقله أوظنا منه ان امرأته طلقت فيفعل المحلوف عليه بناء على ان المرأة أجنبية فلا يؤثر فعل المحلوف عليه في طلاقها شيئا
الفرق بين الناسي وبين الذاهل والغافل واللاهي
فمثال الذهول أن يحلف انه لا يفعل شيئا هو معتاد لفعله فيغلب عليه الذهول والغفلة فيفعله والفرق بين هذا وبين الناسي ان الناسي يكون قد غاب عنه اليمين بالكلية فيفعل المحلوف عليه ذاكرا له عامدا لفعله ثم يتذكر أنه كان قد حلف على تركه وأما الغافل والذاهل فليس بناس ليمينه ولكنه لها عنها أوذهل كما يذهل الرجل عن الشئ في يده أوحجره بحديث أونظر الى شئ أونحوه كما قال تعالى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى يقال لهى عن الشئ يلهى كغشى يغشى إذا غفل ولها به يلهو إذا لعب وفي الحديث فلها رسول الله ص - بشئ كان في يديه أي اشتغل به ومنه الحديث الآخر إذا استأثر الله بشئ فاله عنه وسئل الحسن عما يجده الرجل من البلة بعد الوضوء والاستنجاء فقال اله عنه وكان ابن الزبير اذا سمع صوت الرعد لها عن حديثه وقال عمر رضى الله عنه لرجل بعثه بمال إلى أبي عبيده ثم قال للرسول تله عنه ثم انظر ماذا يصنع به ومنه قول كعب بن زهير ... وقال كل صديق كنت آمله ... لا ألهينك إنى عنك مشغول ...
أي لا اشغلك عن شأنك وأمرك وفي المسند سألت ربي ان لا يعذب اللاهين من أمتي وهم البلة الغافلون الذين لم يتعمدوا الذنوب وقيل هم الاطفال الذين لم يقترفوا ذنبا
فصل النسيان نوعان
واما الناسي فهو ضربان ناس لليمين وناس للمحلوف عليه فالأول ظاهر

والثاني كما إذا حلف على شئ وفعله وهو ذاكر ليمينه لكن نسى ان هذا هو المحلوف عليه بعينه وهذا كما لو حلف لا يأكل طعام كذا وكذا فنسيه ثم أكله وهو ذاكر ليمينه ثم ذكر ان هذا هو الذي حلف عليه فهذا اذا كان يعتقد انه غير المحلوف عليه ثم بان انه هو فهو خطأ فإن لم يخطر بباله كونه المحلوف عليه ولا غيره فهو نسيان والفرق بين الجاهل بالمحلوف عله والمخطئ ان الجاهل قصد الفعل ولم يظنه المحلوف عليه والمخطئ لم يقصده كما لو رمى طائرا فأصاب إنسانا
الاكراه نوعان
والمكره نوعان احدهما له فعل اختياري لكن محمول عليه والثاني ملجأ لا فعل له بل هو آلة محضة
المتأول
والمتأول كمن يحلف انه لا يكلم زيدا وكاتبه يعتقد ان مكاتبته ليست تكليما وكمن حلف انه لا يشرب خمرا فشرب نبيذا مختلفا فيه متأولا وكمن حلف لايرابي فباع بالعينة أولا يطأ فرجا حراما فوطئ في نكاح تحليل مختلف فيه ونحو ذلك
درجات التأويل
والتأويل ثلاث درجات قريب وبعيد ومتوسط ولا تنحصر افراده والمعتقد انه لا يحنث بفعله تقليدا سواء كان المفتى مصيبا أومخطئا كمن قال لامرأته إن خرجت من بيتي فأنت طالق أوالطلاق يلزمني لا تخرجين من بيتي فأفتاه مفت بأن هذه اليمين لا يلزم بها الطلاق بناء على ان الطلاق المعلق لغو كما يقوله بعض اصحاب الشافعي كابي عبد الرحمن الشافعي وبعض اهل الظاهر كما صرح به صاحب المحلى فقال والطلاق بالصفة عندنا كالطلاق باليمين كل ذلك لا يلزم

المغلوب على عقله
والمغلوب على عقله كمن يفعل المحلوف عليه في حال سكر أوجنون أوزوال عقل بشرب دواء أوبنج أوغضب شديد ونحو ذلك
من يظن طلاق امرأته
والذي يظن ان امرأته طلقت فيفعل المحلوف عليه بناء على انه لا يؤثر في الحنث كما إذا قال إن كلمت فلانا فأنت طالق ثلاثا ثم قال إن فعلت كذا فامرأتي طالق ثلاثا فقيل له إن امرأتك قد كلمت فلانا فاعتقد صدق القائل وانها قد بانت منه ففعل المحلوف عليه بناء على ان العصمة قد انقطعت ثم بان له ان المخبر كاذب
وكذلك لو قيل له قد كلمت فلانا فقال طلقت منى ثلاثا ثم بان له انها لم تكلمه ومثل ذلك لو قيل له إن امرأتك قد مسكت تشرب الخمر مع فلان فقال هي طالق ثلاثا ثم ظهركذب المخبر وأن ذلك لم يكن منه شيء
فاختلف الفقهاء في ذلك اختلافا لا ينضبط فنذكر أقوال من أفتى بعدم الحنث في ذلك إذ هو الصواب بلا ريب وعليه تدل الادلة الشرعية ألفاظها وأقيستها واعتبارها وهو مقتضى قواعد الشريعة فإن البر والحنث في اليمين نظير الطاعة والمعصية في الامر والنهي وإن فعل المكلف ذلك في أمر الشارع ونهيه لم يكن عاصيا فأولى في باب اليمين ان لا يكون حانثا
ويوضحه انه إنما عقد يمينه على فعل ما يملكه والنسيان والجهل والخطأ والاكراه غير داخل تحت قدرته فما فعله في تلك الاحوال لم يتناوله يمينه ولم يقصد منع نفسه منه
يوضحه ان الله تعالى قد رفع المؤاخذة عن المخطئ والناسي والمكره فإلزامه بالحنث اعظم مؤاخذة لما تجاوز عن المؤاخذة به كما انه تعالى لما تجاوز للامة عما حدثت به أنفسها لم تتعلق به المؤاخذة في الاحكام

يوضحه ان فعل الناسي والمخطئ بمنزلة فعل النائم في عدم التكليف به ولهذا هو عفو لا يكون به مطيعا ولا عاصيا
يوضحه ان الله تعالى إنما رتب الاحكام على الالفاظ لدلالتها على قصد المتكلم بها وإرادته فإذا تيقنا انه قصد كلامها ولم يقصد معانيها ولم يقصد مخالفة ما التزمه ولا الحنث فإن الشارع لا يلزمه بما لم يقصده بل قد رفع المؤاخذة عنه بما لم يقصده من ذلك
يوضحه ان اللفظ دليل على القصد فاعتبر لدلالته عليه فإذا علمنا يقينا خلاف المدلول لم يجز ان نجعله دليلا على ما تيقنا خلافه وقد رفع الله المؤاخذة عن قتل المسلم المعصوم بيده مباشرة إذا لم يقصد قتله بل قتله خطأ ولم يلزمه شيئا من ديته بل حملها غيره فكيف يؤاخذه بالخطأ والنسيان في باب الايمان هذا من الممتنع على الشارع
وقد رفع النبي ص - المؤاخذة عمن أكل وشرب في نهار رمضان ناسيا لصومه مع ان اكله وشربه فعل لا يمكن تداركه فكيف يؤاخذه بفعل المحلوف عليه ناسيا ويطلق عليه امرأته ويخرب بيته ويشتت شمله وشمل اولاده وأهله وقد عفاله عن الاكل والشرب في نهار الصوم ناسيا
وقد عفا عمن اكل أوشرب في نهار الصوم عمدا غير ناس لما تأول الخيط الابيض والخيط الاسود بالحبلين المعروفين فجعل يأكل حتى تبينا له وقد طلع النهار وعفا له عن ذلك ولم يأمره بالقضاء لتأويله فما بال الحالف المتأول لا يعفى له عن الحنث بل يخرب بيته ويفرق بينه وبين حبيبته ويشتت شمله كل مشتت
وقد عفا عن المتكلم في صلاته عمدا ولم يأمره بالاعادة لما كان جاهلا بالتحريم لم يتعمد مخالفة حكمه فألغى كلامه ولم يجعله مبطلا للصلاة فكيف لا يقتدى به ويلغى قول الجاهل وفعله في باب الايمان ولا يحنثه كما لم يؤثمه الشارع
وإذا كان قد عفا عمن قدم شيئا أواخره من أعمال المناسك من الحلق والرمي

والنحر نسيانا أوجهلا فلم يؤاخذه بترك ترتيبها نسيانا فكيف يحنث من قدم ما حلف على تأخيره أواخر ما حلف على تقديمه ناسيا أوجاهلا
وإذا كان قد عفا عمن حمل القذر في الصلاة ناسيا أوجاهلا به فكيف يؤاخذ الحالف ويحنث به وكيف تكون أوامر الرب تعالى ونواهيه دون ما التزمه الحالف بالطلاق والعتاق وكيف يحنث من لم يتعمد الحنث 2وهل هذا إلا بمنزلة تأثيمه من لم يتعمد الاثم وتكفيره من لم يتعمد الكفر وكيف يطلق أويعتق على من لم يتعمد الطلاق والعتاق ولم يطلق على الهازل إلا لتعمده فإنه تعمد الهزل ولم يرد حكمه وذلك ليس اليه بل الى الشارع فليس الهازل معذورا بخلاف الجاهل والمخطئ والناسي
وبالجملة فقواعد الشريعة واصولها تقتضي الا يحنث الحالف جميع ما ذكرنا ولا يطرد على القياس ويسلم من التناقض إلا هذا القول
وأما تحنيثه في جميع ذلك فإن صاحبه وان سلم من التناقض لكن قوله مخالف لآصول الشريعة وقواعدها وأدلتها ومن حنث في بعض ذلك دون بعض تناقض ولم يطرد له قول ولم يسلم له دليل عن المعارضه
وقد اختلفت الرواية عن الامام احمد في ذلك ففيه ثلاث روايات إحداها انه لا يحنث في شئ من الايمان بالنسيان ولا الجهل بفعل المحلوف عليه مع النسيان سواء كانت من الايمان المكفرة أوغيرها وعلى هذه الرواية فيمينه باقيه لم تنحل بفعل المحلوف عليه مع النسيان والجهل لان اليمين كما لم يتناول حالة الجهل والنسيان بالنسبة الى الحنث لم يتناولها بالنسبة الى البر اذا لو كان فاعلا للمحلوف عليه بالنسبة الى البر لكان فاعلا له بالنسبة الى الحنث وهذه الرواية اختيار شيخ الاسلام وغيره وهي اصح قولى الشافعي اختاره جماعة من أصحابه والثانيه يحنث في الجميع وهي مذهب ابي حنيفة ومالك والثالثة يحنث في اليمين التي لا تكفر كالطلاق والعتاق ولا يحنث في اليمين المكفرة وهي

اختيار القاضي واصحابه والذين حنثوه مطلقا نظروا الى صورة الفعل وقالوا قد وجدت المخالفة والذين فرقوا قالوا الحلف بالطلاق والعتاق من باب التعليق على الشرط فإذا وجد الشرط وجد المشروط سواء كان مختارا لوجوده أولم يكن كما لو قال إن قدم زيد فأنت طالق ففعل المحلوف عليه في حال جنونه فهل هو كالنائم فلا يحنث أوكالناسي فيجرى فيه الخلاف على وجهين في مذهب الامام احمد والشافعي واصحهما انه كالنائم لانه غير مكلف
ولو حلف على من يقصد منعه كعبده وزوجته وولده وأجيره ففعل المحلوف عليه ناسيا أوجاهلا فهو كما لو حلف على فعل نفسه ففعله ناسيا أوجاهلا هو على الروايات الثلاث وكذلك هو على القولين في مذهب الشافعي فإن منعه لمن يمتنع بيمينه كمنعه لنفسه فلو حلف لا يسلم على زيد فسلم على جماعة هو فيهم ولم يعلم فإن لم نحنث الناسى فهذا اولى بعدم الحنث لأنه لم يقصده والناسى قد قصد التسليم عليه وإن حنثنا الناسي هل يحنث هذا على روايتين إحداهما يحنث لانه بمنزلة الناسي إذ هو جاهل بكونه معهم والثانية وهي أصح انه لا يحنث قاله أبوالبركات وغيره وهذا يدل على ان الجاهل اعذر من الناسي واولى بعدم الحنث وصرح به اصحاب الشافعي في الايمان ولكن تناقضوا كلهم في جعل الناسي في الصوم أولى بالعذر من الجاهل ففطروا الجاهل دون الناسي وسوى شيخنا بينهما وقال الجاهل أولى بعدم الفطر من الناسي فسلم من التناقض وقد سووا بين الجاهل والناسي فيمن حمل النجاسة في الصلاة ناسيا أوجاهلا ولم يعلم حتى فرغ منها فجعلوا الروايتين والقولين في الصورتين سواء وقد سوى الله تعالى بين المخطئ والناسي في عدم المؤاخذة وسوى بينهما النبي ص - في قوله إن الله تجاوز لي عن امتي الخطأ والنسيان فالصواب التسوية بينهما

فصل الإكراه على فعل المحلوف عليه
وأما إذا فعل المحلوف عليه مكرها فعن احمد روايتان منصوحتات إحداهما يحنث في الجميع والثانية لا يحنث في الجميع وهما قولان للشافعي وخرج ابو البركات رواية ثالثة انه يحنث باليمين بالطلاق والعتاق دون غيرهما من الايمان من نصه على الفرق في صورة الجاهل والناسي فإن ألجئ أوحمل أوفتح فمه وأوجز ما حلف انه لا يشربه فإن لم يقدر على الامتناع لم يحنث وإن قدر على الامتناع فوجهان وإذا لم يحنث فاستدام ما الجئ عليه كما لو الجئ الى دخول دار حلف انه لا يدخلها فهل يحنث فيه وجهان ولو حلف على غيره ممن يقصد منعه على ترك فعل ففعله مكرها أوملجأ فهو على هذا الخلاف سواء
فصل حكم المتأول
اما المتأول فالصواب انه لا يحنث كما لم ياثم في الامر والنهي وقد صرح به الاصحاب فيما لو حلف انه لا يفارق غريمه حتى يقبض حقه فأحاله به ففارقه يظن ان ذلك قبض وانه بر في يمينه فحكوا فيه الروايات الثلاث وطرد هذا كل متأول ظن انه لا يحنث بما فعله فإن غايته ان يكون جاهلا بالحنث وفي الجاهل الروايات الثلاث
وإذا ثبت هذا في حق المتأول فكذلك في حق المقلد اولى فإذا حلف بالطلاق ألا يكلم فلانا أولا يدخل داره فأفتاه مفت بعدم وقوع الطلاق في هذه اليمين اعتقادا لقول على بن ابي طالب كرم الله وجهه وطاوس وشريح أواعتقادا لقول ابي حنيفة والقفال في صيغة الالتزام دون صيغة الشرط أواعتقاد لقول اشهب وهو اجل اصحاب مالك أنه إذا علق الطلاق بفعل الزوجة انه لم

يحنث بفعلها أواعتقادا لقول ابي عبد الرحمن الشافعي اجل اصحاب الشافعي ان الطلاق المعلق لا يصح كما لا يصح النكاح والبيع والوقف المعلق وهو مذهب جماعة من أهل الظاهر لم يحنث في ذلك كله ولم يقع الطلاق ولو فرض فساد هذه الاقوال كلها فإنه إنما فعل المحلوف عليه متأولا مقلدا ظانا انه لا يحنث به فهو أولى بعدم الحنث من الجاهل والناسي وغاية ما يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم يستقص ولم يسأل غير من أفتاه وهذا بعينه يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم يبحث ولم يسأل عن المحلوف عليه فلو صح هذا الفرق لبطل عذر الجاهل ألبتة فكيف والمتأول مطيع لله مأجور إما أجرا واحدا أوأجرين
والنبي ص - لم يؤاخذ خالدا في تأويله حين قتل بني جذيمة بعد إسلامهم ولم يؤاخذ أسامة حين قتل من قال لا إله إلا الله لأجل التأويل ولم يؤاخذ من أكل نهارا في الصوم عمدا لأجل التأويل ولم يؤاخذ اصحابه حين قتلوا من سلم عليهم وأخذوا غنيمته لاجل التاويل ولم يؤاخذ المستحاضة بتركها الصوم والصلاه لاجل التأويل ولم يؤاخذ عمر رضى الله عنه حين ترك الصلاة لما اجنب في السفر ولم يجد ماء ولم يؤاخذ من تمعك في التراب كتمعك الدابة وصلى لأجل التأويل وهذا اكثر من ان يستقصى
واجمع اصحاب رسول الله ص - على ان كل مال أودم اصيب بتاويل القران فهو هدر في قتالهم في الفتنه قال الزهري وقعت الفتنة واصحاب رسول الله ص - كلهم متوافرون فأجمعوا على ان كل مال أودم اصيب بتأويل القرآن فهو هدر انزلوهم منزلة الجاهلية ولم يؤاخذ النبي ص - عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين رمى حاطب بن ابي بلتعة المؤمن البدري بالنقاق لاجل التأويل ولم يؤاخذ أسيد بن حضير بقوله لسعد سيد الخزرج إنك منافق تجادل عن المنافقين لاجل التأويل ولم يؤاخذ من قال عن مالك بن الدخشم ذلك المنافق نرى وجهه وحديثه الى المنافقين لاجل التأويل ولم يؤاخذ عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين ضرب

صدر ابي هريرة حتى وقع على الارض وقد ذهب للتبليغ عن رسول الله ص - بأمره فمنعه عمر وضربه وقال ارجع وأقره رسول الله ص - على فعله ولم يؤاخذه لأجل التأويل
وكما رفع مؤاخذة التأثيم في هذه الامور وغيرها رفع مؤاخذة الضمان في الاموال والقضاء في العبادات فلا يحل لأحد أن يفرق بين رجل وامرأته لأمر يخالف مذهبه وقوله الذي قلد فيه بغير حجة فإذا كان الرجل قد تأول وقلد من أفتاه بعدم الحنث فلا يحل له أن يحكم عليه بأنه حانث في حكم الله ورسوله ولم يتعمد الحنث بل هذه فرية على الله ورسوله وعلى الحالف وإذا وصل الهوى إلى هذا الحد فصاحبه تحت الدرك وله مقام وأي مقام بين يدي الله يوم لا ينفعه شيخه ولا مذهبه ومن قلده والله المستعان
إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا لأجل كلامك لزيد وخروجك من بيتي فبان أنها لم تكلمه ولم تخرج من بيته لم تطلق صرح به الأصحاب قال ابن أبى موسى في الإرشاد فإن قال أنت طالق أن دخلت الدار بنصب الألف والحالف من أهل اللسان فإن كان تقدم لها دخول إلى تلك الدار قبل اليمين طلقت في الحال لأن ذلك للماضي من الفعل دون المستقبل وإن كانت لم تدخلها قبل اليمين بحال لم تطلق وإن دخلت الدار بعد اليمين إذا كان الحالف قصد بيمينه الفعل الماضي دون المستقبل لأن معنى ذلك إن كنت دخلت الدار فأنت طالق وإن كان الحالف جاهلا باللسان وإنما أراد باليمين الدخول المستقبل فمتى دخلت الدار بعد اليمين طلقت بما حلف به قولا واحدا وإن كان تقدم لها دخول الدار قبل اليمين فهل يحدث بالدخول الماضي أم لا على وجهين أصحهما لا يحنث
والمقصود انه إذا علل الطلاق بعلة ثم تبين انتفاؤها فمذهب احمد انه لا يقع بها الطلاق وعند شيخنا لا يشترط ذكر التعليل بلفظه ولا فرق عنده بين أن

يطلقها لعلة مذكورة في اللفظ أوغير مذكورة فإذا تبين انتفاؤها لم يقع الطلاق وهذا هو الذي لا يليق بالمذهب غيره ولا تقتضى قواعد الأئمة غيره فإذا قيل له امرأتك قد شربت مع فلان أوباتت عنده فقال اشهدوا على أنها طالق ثلاثا ثم علم أنها كانت تلك الليلة في بيتها قائمة تصلي فإن هذا الطلاق لا يقع به قطعا وليس بين هذا وبين قوله إن كان الأمر كذلك فهي طالق ثلاثا فرق ألبته لا عند الحالف ولا في العرف ولا في الشرع فإيقاع الطلاق بهذا وهم محض إذ يقطع بأنه لم يرد طلاق من ليست كذلك وإنما أراد طلاق من فعلت ذلك
وقد أفتى جماعة من الفقهاء من أصحاب الإمام احمد والشافعي منهم الغزالي والقفال وغيرهما الرجل يمر على المكاس برقيق فيطالبه بمكسهم فيقول هم أحرار ليتخلص من ظلمه ولا غرض له في عتقهم انهم لا يعتقون وبهذا أفتينا نحن تجار اليمن لما قدموا منها ومروا على المكاسين فقالوا لهم ذلك وقد صرح به أصحاب الشافعي في باب الكتابة بما إذا دفع إليه العوض فقال اذهب فأنت حر بناء على أنه قد سلم له العوض فظهر العوض مستحقا ورجع به على صاحبه انه لا يعتق وهذا هو الفقه بعينه وصرحوا أن الرجل لو علق طلاق امرأته بشرط فظن أن الشرط قد وقع فقال اذهبي فأنت طالق وهو يظن أن الطلاق قد وقع بوجود الشرط فبان أن الشرط لم يوجد لم يقع الطلاق ونص على ذلك شيخنا قدس الله روحه ومن هذا القبيل ما لو قال حلفت بطلاق امرأتي ثلاثا ألا أفعل كذا وكان كاذبا ثم فعله لم يحنث ولم تطلق عليه امرأته قال الشيخ في المغنى إذا قال حلفت ولم يكن حلف فقال الإمام احمد هي كذبة ليس عليه يمين وعنه عليه الكفارة لأنه أقر على نفسه والأول هو المذهب لأنه حكم فيما بينه وبين الله تعالى فإنه كذب في الخبر به كما لو قال ما صليت وقد صلى
قلت قال أبو بكر عبد العزيز باب القول في إخبار الإنسان بالطلاق

واليمين كاذبا قال في رواية الميموني إذا قال حلفت بيمين ولم يكن حلفه فعليه كفارة يمين فإن قال قد حلفت بالطلاق ولم يكن حلف بها يلزمه الطلاق ويرجع إلى نيته في الواحدة والثلاث وقال في رواية محمد بن الحكم في الرجل يقول قد حلفت ولم يكن حلف فهى كذبة ليس عليه يمين فاختلف أصحابنا على ثلاث طرق إحداها أن المسألة على روايتين والثانية هي طريقة أبي بكر قال عقيب حكاية الروايتين قال عبد العزيز في الطلاق يلزمه وفيما لا يكون من الإيمان لا يلزمه والطريقة الثالثة انه حيث ألزمه أراد به في الحكم وحيث لم يلزمه بقى فيما بينه وبين الله وهذه الطريقة افقه واطرد على أصول مذهبه والله اعلم
فصل مذهب مالك في التفريق بين النسيان والجهل وما إلى ذلك
وأما مذهب مالك في هذا الفصل فالمشهور فيه التفريق بين النسيان والجهل والخطأ وبين الإكراه والعجز ونحن نذكر كلام أصحابه في ذلك
قالوا من حلف ألا يفعل حنث بحصول الفعل عمدا أوسهوا أوخطأ واختار أبو القاسم السيوري ومن تبعه من محققي الأشياخ انه لا يحنث إذا نسى اليمين وهذا اختيار القاضي أبى بكر بن العربي قالوا ولو اكره لم يحنث
فصل في تعذر فعل المحلوف عليه وعجز الحالف عنه
قال أصحاب مالك من حلف على شئ ليفعلنه فحيل بينه وبين فعله فإن أجل أجلا فامتنع الفعل لعدم المحل وذهابه كموت العبد المحلوف على ضربه أوالحمامة المحلوف على ذبحها فلا حنث عليه بلا خلاف منصوص وإن امتنع الفعل لسبب منع الشرع كمن حلف ليطأن زوجته أوأمته فوجدها حائضا فقيل لا شئ عليه

قلت وهذا هو الصواب لأنه إنما حلف على وطء يملكه ولم يقصد الوطء الذي لم يملكه الشارع إياه فإن قصده حنث وهذا هو الصواب لأنه إنما حلف على وطء يملكه وهكذا في صورة العجز الصواب انه لا يحنث فإنه إنما حلف على شئ يدخل تحت قدرته ولم يلتزم فعل ما لا يقدر عليه فلا تدخل حالة العجز تحت يمينه وهذا بعينه قد قالوه في المكره والناسي والمخطئ والتفريق تناقض ظاهر فالذي يليق بقواعد احمد وأصوله انه لا يحنث في صورة العجز سواء كان العجز لمنع شرعي أومنع كوني قدرى كما هو قوله فيما لو كان العجز لإكراه مكره ونصه على خلاف ذلك لا يمنع أن يكون عنده رواية مخرجة من أصوله المذكورة وهذا من أظهر التخريج فلو وطئ مع الحيض وعصى فهل يتخلص من الحنث فيه وجهان في مذهب مالك واحمد أحدهما يتخلص وإن أثم بالوطء كما لو حلف بالطلاق ليشربن هذه الخمر فشربها فإنه لا تطلق عليه زوجته والثاني لا يبر لأنه إنما حلف على فعل وطء مباح فلا تتناول يمينه المحرم فيقال إذا كان إنما حلف على وطء مأذون فيه شرعا لم تتناول يمينه المحرم فلا يحنث بتركه بعين ما ذكرتم من الدليل وهذا ظاهر
وحرف المسألة أن يمينه لم تتناول المعجوز عنه لا شرعا ولا قدرا فلا يحنث بتركه وإن كان الامتناع بمنع ظالم كالغاصب والسارق أوغير ظالم كالمستحق فهل يحنث أم لا قال أشهب لا يحنث وهو الصواب لما ذكر وقال غيره من أصحاب مالك يحنث لأن المحل باق وإنما حيل بينه وبين الفعل فيه وللشافعي في هذا الأصل قولان قال أبو محمد الجويني ولو حلف ليشربن ما في هذه الاداوة غدا فأريق قبل الغد بغير اختياره فعلى قولي الإكراه قال والأولى أن لا يحنث وإن حنثنا المكره لعجزه عن الشرب وقدرة المكره على الامتناع فجعل الشيخ أبو محمد العاجز أولى بالعذر من المكره وسوى غيره بينهما ولا ريب أن قواعد الشريعة وأصولها تشهد بهذا القول فإن الأمر والنهي من الشارع

نظير الحض والمنع في اليمين وكما أن أمره ونهيه منوط بالقدرة فلا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة فكذلك الحض والمنع في اليمين إنما هو مقيد بالقدرة
يوضحه أن الحالف يعلم أن سر نفسه انه لم يلتزم فعل المحلوف عليه مع العجز عنه وإنما التزمه مع قدرته عليه ولهذا لم يحنث المغلوب على الفعل بنسيان أوإكراه ولا من لا قصد له إليه كالمغمى عليه وزائل العقل وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية وهو مقتضى أصول الإمام احمد وإن كان المنصوص عنه خلافه فإنه قال في رواية ابنه صالح إذا حلف أن يشرب هذا الماء الذي في هذا الإناء فانصب فقد حنث ولو حلف أن يأكل رغيفا فجاء كلب فأكله فقد حنث لأن هذا لا يقدر عليه وقال في رواية جعفر بن محمد إذا حلف الرجل على غريمه أن لا يفارقه حتى يستوفى منه ماله فهرب منه مخاتلة فإنه يحنث وهذا وأمثاله من نصوصه مبنى على قوله في المكرة والناسي والجاهل إنه يحنث كما نص عليه فإنه قال في رواية أبي الحارث إذا حلف أن لا يدخل الدار فحمل كرها فأدخل فإنه لا يحنث وكذلك نص على حنث الناسي والجاهل فقد جعل الناس الجاهل والمكره والعاجز بمنزلة ونص في رواية أبي طالب إذا حلف أن لا يدخل الدار فحمل كرها فأدخل فلا شئ عليه وقد قال في رواية أحمد بن القاسم والذباب يدخل حلق الصائم والرجل يرمي بالشيء فيدخل حلق الآخر وكل أمر غلب عليه فليس عليه قضاء ولا غيره وتواترت نصوصه فيمن أكل في رمضان أوشرب ناسيا فلا قضاء عليه فقد سوى بين الناسي والمغلوب وهذا محض القياس والفقه ومقتضى ذلك التسوية بينهما في باب الإيمان كما نص عليه في المكره فتخرج مسألة العاجز والمغلوب على الروايتين بل المغلوب والعاجز أولى بعدم الحنث من الناسي والجاهل كما تقدم بيانه وبالله التوفيق

فصل التزام الطلاق
المخرج السادس أخذه بقول من يقول إن التزام الطلاق لا يلزم ولا يقع به طلاق ولا حنث وهذا إذا أخرجه بصيغة الالتزام كقوله الطلاق يلزمني أولازم إلى أوثابت على أوحق على أوواجب على أومتعين على إن فعلت أوأن لم أفعله وهذا مذهب أبى حنيفة وبه أفتى جماعة من مشايخ مذهبه وبه أفتى القفال في قوله الطلاق يلزمني ونحن نذكر كلامهم بحروفه
أقوال الحنفية في التزام الطلاق
قال صاحب الذخيرة من الحنفية لو قال لها طلاقك على واجب أولازم أوفرض أوثابت ذكر أبو الليث خلافا بين المتأخرين فمنهم من قال يقع واحدة رجعية نوى أولم ينو ومنهم من قال لا يقع نوى أولم ينو ومنهم من قال في قوله واجب يقع بدون النية وفي قوله لازم لا يقع وإن نوى وعلى هذا الخلاف إذا قال إن فعلت كذا فظلاقك على واجب أوقال لازم أوثابت ففعلت وذكر القدوري في شرحه أن على قول أبى حنيفة لا يقع الطلاق في الكل وعند أبى يوسف أن نوى الطلاق يقع في الكل وعن محمد انه يقع في قوله لازم ولا يقع في قوله واجب ثم ذكر من اختار من المشايخ الوقوع ومن اختار عدمه فقال وكان الإمام ظهير الدين المرغيناني يفتى بعدم الوقوع في الكل
وقال القفال في فتاويه إذا قال الطلاق يلزمني فليس بصريح ولا كناية حتى لا يقع به وإن نواه ولهذا القول مأخذان أحدهما أن الطلاق لا بد فيه من الإضافة إلى المرأة ولم تتحقق الإضافة ههنا ولهذا لو قال أنا منك طالق لم تطلق ولو قال لها طلقي نفسك فقالت أنت طالق لم تطلق والمأخذ الثاني وهو مأخذ أصحاب أبى حنيفة أنه التزام لحكم الطلاق

وحكمه لا يلزمه إلا بعد وقوعه وكأنه قال فعلى أن أطلقك وهو لو صرح بهذا لم تطلق بغير خلاف فهكذا المصدر وسر المسألة أن ذلك التزام لأن يطلق أوالتزام لطلاق واقع فإن كان التزاما لأن يطلق لم تطلق وإن كان التزاما لطلاق واقع فكأنه قال إن فعلت كذا فأنت طالق طلاقا يلزمني طلقت إذا وجد الشرط ولمن رجح هذا أن يحيل فيه على العرف فان الحالف لا يقصد إلا هذا ولا يقصد التزام التطليق وعلى هذا فيظهر أن يقال إن نوى بذلك التزام التطليق لم تطلق وإن نوى وقوع الطلاق طلقت وهذا قول أبى يوسف وقول جمهور أصحاب الشافعي ومن جعله صريحا في وقوع الطلاق حكم فيه بالعرف وغلبه استعمال هذا اللفظ في وقوع الطلاق وهذا قول أبى المحاسن الروياني والوجوه الثلاثة في مذهب الشافعي حكاها شارح التنبيه وغيره
وفي المسألة قولان آخران وهما للحنفية
أحدهما انه إن قال فالطلاق على واجب يقع نواه أولم ينوه وإن قال فالطلاق إلى لازم لا يقع نواه أولم ينوه ووجه هذا الفرق أن قوله لازم التزام لان يطلق فلا تطلق بذلك وقوله واجب إخبار عن وجوبه عليه ولا يكون واجبا إلا وقد وقع ولمن سوى بينهما أن يقول هو إيجاب للتطليق وإخبار عن وقوع الطلاق ولا ريب أن اللفظ محتمل لهما كاحتمال قوله الطلاق يلزمني سواء وهذا هو الصواب والفرق تحكم
والثاني قول محمد بن الحسن وهو عكس هذا القول أن الطلاق يقع بقوله الطلاق لي لازم أويلزمني ولا يقع بقوله هو على واجب وعلى هذا الخلاف قوله إن فعلت كذا فالعتق يلزمني أوفعلى العتق أوفالعتق لازم لي أواجب علي

فصل هل ينفذ الطلاق المعلق الذي يقصد به الترهيب
المخرج السابع أخذه بقول أشهب من أصحاب مالك بل هو أفقههم على الإطلاق فإنه قال إذا قال الرجل لامرأته إن كلمت زيدا أوخرجت من بيتي بغير إذني ونحو ذلك مما يكون من فعلها فأنت طالق وكلمت زيدا أوخرجت من بيته تقصد أن يقع علها الطلاق لم تطلق حكاه أبو الوليد ابن رشد في كتاب الطلاق من كتاب المقدمات له وهذا القول هو الفقه بعينه ولا سيما على أصول مالك واحمد في مقابلة العبد بنقيض قصده كحرمان القاتل ميراثه من المقتول وحرمان الموصى له وصية من قتله بعد الوصيه وتوريث امرأة من طلقها في مرض موته فرارا من ميراثها وكما يقوله مالك واحمد في إحدى الروايتين عنهما وقبلهما عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيمن تزوج في العدة وهو يعلم يفرق بينهما ولا تحل له أبدا ونظائر ذلك كثيرة فمعاقبة المرأة ههنا بنقيض قصدها هو محض القياس والفقه ولا ينتقض هذا على أشهب بمسألة المخيرة ومن جعل طلاقها بيدها لأن الزوج قد ملكها ذلك وجعله بيدها بخلاف الحالف فإنه لم يقصد طلاقها بنفسه ولا جعله بيدها باليمين حتى لو قصد ذلك فقال إن أعطيتني ألفا فأنت طالق أوإن أبرأتني من جميع حقوقك فأنت طالق فأعطته أوأبرأته طلقت
ولا ريب أن هذا الذي قال أشهب افقه من القول بوقوع الطلاق فإن الزوج إنما قصد حضها ومنعها ولم يقصد تفويض الطلاق إليها ولا خطر ذلك بقلبه ولا قصد وقوع الطلاق عند المخالفة ومكان أشهب من العلم والإمامة غير مجهول فذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الانتقاء عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال أشهب أفقه من ابن القاسم مائة مرة وأنكر ابن كنانة ذلك قال ليس عندنا كما قال محمد وإنما قاله لان أشهب شيخه

ومعلمة قال أبو عمر أشهب شيخه ومعلمه وابن القاسم شيخه وهو أعلم بهما لكثرة مجالسته لهما وأخذه عنهما
فصل هل الحلف بالطلاق يلزم
المخرج الثامن أخذه بقول من يقول إن الحلف بالطلاق لا يلزم ولا يقع على الحانث به طلاق ولا يلزمه كفارة ولا غيرها وهذا مذهب خلق من السلف والخلف صح ذلك عن أمير المؤمنين علي ابن أبى طالب كرم الله وجهه
قال بعض الفقهاء المالكية و أهل الظاهر ولا يعرف لعلى في ذلك مخالف من الصحابة هذا لفظ أبى القاسم التيمي في شرح أحكام عبد الحق وقاله قبله أبو محمد بن حزم وصح ذلك عن طاوس اجل أصحاب ابن عباس رضى الله عنه وأفقههم على الإطلاق قال عبد الرزاق في مصنفة أنبأنا ابن جريج قال أخبرني ابن طاوس عن أبيه انه كان يقول الحلف بالطلاق ليس شيئا قلت أكان يراه يمينا قال لا أدري وهذا أصح إسناد عمن هو من أجل التابعين وأفقههم وقد وافقه اكثر من أربعمائة عالم ممن بنى فقهه على نصوص الكتاب والسنة دون القياس ومن آخرهم أبو محمد بن حزم قال في كتابه المحلى مسألة اليمين بالطلاق لا يلزم سواء بر أوحنث لا يقع به طلاق ولا طلاق إلا كما أمر الله تعالى ولا يمين إلا كما شرع الله تعالى على لسان رسوله ثم قرر ذلك وساق اختلاف الناس في ذلك ثم قال فهؤلاء على بن أبى طالب كرم الله وجهه وشريح وطاوس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث ولا يعرف في ذلك لعلى كرم الله وجهة مخالف من الصحابة رضى الله عنهم
قلت أما اثر على رضى الله عنه فرواه حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن رجلا تزوج امرأة وأراد سفرا فأخذه أهل امرأته فجعلها طالقا إن لم يبعث

بنفقتها إلى شهر فجاء الأجل ولم يبعث إليها بشيء فلما قدم خاصموه إلى على فقال علي كرم الله وجهه اضطهدتموه حتى جعلها طالقا فردها عليه ولا متعلق لهم بقوله اضطهدتموه لأنه لم يكن هناك إكراه فإنهم إنما طالبوه بحق نفقتها فقط ومعلوم أن ذلك ليس بإكراه على الطلاق ولا على اليمين وليس في القصة انهم اكرهوه بالقتل أوبالضرب أوالحبس أواخذ المال على اليمين حتى يكون يمين مكره والسائلون لم يقولوا لعلي شيئا من ذلك ألبته وإنما خاصموه في حكم اليمين فقط فنزل على كرم الله وجهه ذلك منزلة المضطهد حيث لم يرد طلاق امرأته وإنما أراد التخلص إلى سفره فالحلف والمضطهد كل منهما لم يرد طلاق امرأته فالمضطهد محمول على الطلاق تكلم به ليتخلص من ضرر الإكراه والحالف حلف به ليتوصل إلى غرضه من الحض أوالمنع أوالتصديق أوالتكذيب ولو اختلف حال الحالف بين أن يكون مكرها أومختارا لسأله علي كرم الله وجهه عن الإكراه وشروطه وحقيقته وبأي شئ أكره وهذا ظاهر بحمد الله فارض للمقلد بما رضى لنفسه
وأما أثر شريح ففي مصنف عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن شريح انه خوصم إليه في رجل طلق امرأته إن أحدث في الإسلام حدثا فاكترى بغلا إلى حمام أعين فتعدى به إصبهان فباعه واشترى به خمرا فقال شريح إن شئتم شهدتم عليه انه طلقها فجعلوا يرددون عليه القصة ويردد عليهم فلم يره حدثا ولا متعلق لقول الراوي إما محمد إما هشام فلم يره حدثا فإنما ذلك ظن منه قال أبو محمد وأي حدث أعظم ممن تعدى من حمام أعين وهو على مسيرة أميال يسيره من الكوفة إلى أصبهان ثم باع بغل مسلم ظلما واشترى به خمرا
قلت والظاهر أن شريحا لما ردت عليه المرأة ظن من شاهد القصة انه لم ير ذلك حدثا إذ لو رآه حدثا لأوقع عليها الطلاق وشريح إنما ردها لأنه علم انه لم

يقصد طلاق امرأته وإنما قصد اليمين فقط فلم يلزمه بالطلاق فقال الراوي فيهم فلم ير ذلك حدثا وشريح افقه في دين الله أن لا يرى مثل هذا حدثا
وممن روى عنه عدم وقوع الطلاق على الحالف إذا حنث عكرمة مولى ابن عباس كما ذكره سنيد بن داود في تفسيره في أول سورة النور عنه بإسناده أنه سئل عن رجل حلف بالطلاق انه لا يكلم أخاه فكلمه فلم ير ذلك طلاقا ثم قرأ ولا تتبعوا خطوات الشيطان
ومن تأمل المنقول عن السلف في ذلك وجده أربعة أنواع صريح في عدم الوقوع وصريح في الوقوع وظاهر في عدم الوقوع وتوقف عن الطرفين
فالمنقول عن طاوس وعكرمة صريح في عدم الوقوع وعن علي عليه السلام وشريح ظاهر في ذلك وعن ابن عيينه صريح في التوقف وأما التصريح بالوقوع فلا يؤثر عن صحابي إلا فيما هو محتمل لإرادة الوقوع عند الشرط كالمنقول عن ابي ذر بل الثابت عن الصحابة عدم الوقوع في صورة العتق الذي هو أولى بالنفوذ من الطلاق ولهذا ذهب إليه أبو ثور وقال القياس أن الطلاق مثله إلا أن تجميع الأمة عليه فتوقف في الطلاق لتوهم الإجماع وهذا عذر أكثر الموقعين للطلاق وهو ظنهم أن الإجماع على الوقوع مع اعترافهم انه ليس في الكتاب والسنة والقياس الصحيح ما يقتضى الوقوع وإذا تبين انه ليس في المسألة إجماع تبين أن لا دليل أصلا يدل على الوقوع والأدلة الدالة على عدم الوقوع في غاية القوة والكثرة وكثير منها لا سبيل إلى دفعه فكيف يجوز معارضتها بدعوى إجماع قد علم بطلانه قطعا فليس بأيدي الموقعين آية من كتاب أوسنة ولا أثر عن رسول الله ص - ولا عن أصحابه ولا قياس صحيح والقائلون بعدم الوقوع لو لم يكن معهم إلا الاستصحاب الذي لا يجوز الانتقال عنه إلا لما هو أقوى منه لكان كافيا فكيف ومعهم الاقيسة التي أكثرها من باب قياس الأولى والباقي من القياس المساوي وهو قياس النظير على نظيره والآثار

والعمومات والمعاني الصحيحة والحكم والمناسبات التي شهد لها الشرع بالاعتبار ما لم يدفعهم منازعوهم عنهم بحجة أصلا وقولهم وسط بين قولين متباينين غاية التباين أحدهما قول من يعتبر التعليق فيوقع به الطلاق على كل حال سواء كان تعليقا قسميا يقصد به الحالف منع الشرط والجزاء أوتعليقا شرطيا يقصد به حصول الجزاء عند حصول الشرط والثاني قول من يقول إن هذا التعليق كله لغو لا يصح بوجه ما ولا يقع الطلاق به ألبته كما سنذكره في المخرج الذي بعد هذا إن شاء الله فهؤلاء توسطوا بين الفريقين وقالوا يقع الطلاق في صورة التعليق المقصود به وقوع الجزاء ولا يقع صورة التعليق القسمى وحجتهم قائمة على الفريقين وليس لأحد منهما حجة صحيحة عليهم بل كل حجة صحيحة احتج بها الموقعون فإنما تدل على الوقوع في صورة التعليق المقصود وكل حجة احتج بها المانعون صحيحة فإنما تدل على عدم الوقوع في صورة التعليق القسمي فهم قائلون بمجموع حجج الطائفتين وجامعون للحق الذي مع الفريقين ومعارضون قول كل من الفريقين وحججهم بقول الفريق الآخر وحججهم
فصل الطلاق المعلق بالشرط
المخرج التاسع أخذه بقول من يقول إن الطلاق المعلق بالشرط لا يقع ولا يصح تعليق الطلاق كما لا يصح تعليق النكاح وهذا اختيار أبى عبد الرحمن احمد ابن يحيى بن عبد العزيز الشافعي أحد أصحاب الشافعي الاجلة أوأجلهم وكان الشافعي يجله ويكرمه ويكنيه ويعظمه وأبو ثور وكانا يكرمانه وكان بصره ضعيفا فكان الشافعي يقول لا تدفعوا إلى أبى عبد الرحمن الكتاب يعارض به فإنه يخطئ وذكره أبو إسحاق الشيرازي في طبقات أصحاب الشافعي ومحل الرجل من العلم والتضلع منه لا يدفع وهو في العلم بمنزلة ابي ثور وتلك الطبقة وكان رفيق ابي ثور وهو أجل من جميع اصحاب الوجوه من المنتسبين

الى الشافعي فإذا نزل بطبقته الى طبقة اصحاب الوجوه كان قوله وجها وهو أقل درجاته
وهذا مذهب لم ينفرد به بل قد قال به غيره من أهل العلم قال ابو محمد ابن حزم في المحلى والطلاق بالصفة عندنا كما هو الطلاق باليمين كل ذلك لا يلزم وبالله التوفيق ولا يكون طلاقا إلا كما امر الله تعالى وعلمه وما عداه فباطل وتعد لحدود الله تعالى
وهذا القول وإن لم يكن قويا في النظر فإن الموقعين للطلاق لا يمكنهم إبطاله ألبته لتناقضهم وكان أصحابه يقولون لهم قولنا في تعليق الطلاق بالشرط كقولكم في تعليق الابراء أوالهبة والوقف والبيع والنكاح سواء فلا يمكنكم ألبته ان تفرقوا بين ما صح تعليقه من عقود التبرعات والمعاوضات والاسقاطات بالشروط ومالا يصح تعليقه فلا تبطلوا قول منازعيكم في صحة تعليق الطلاق بالشرط بشئ إلا كان هو بعينه حجة عليكم في إبطال قولكم في منع صحة تعليق الابراء والهبة والوقف والنكاح فما الذي اوجب إلغاء هذا التعليق وصحة ذلك التعليق فإن فرقتم بالمعارضة وقلتم إن عقود المعارضات لا تقبل التعليق بخلاف غيرها انتقض عليكم طردا بالجعالة وعكسا بالهبة والوقف فانتقض عليكم الفرق طردا وعكسا وإن فرقتم بالتمليك والاسقاط فقلتم عقود التمليك لا تقبل التعليق بخلاف عقود الاسقاط انتقض ايضا طرده بالوصية وعكسه بالابراء فلا طرد ولا عكس وإن فرقتم بالادخال في ملكه والاخراج عن ملكه فصححتم التعليق في الثاني دون الاول انتقض ايضا فرقكم فإن الهبة والابراء إخراج عن ملكه ولا يصح تعليقها عندكم وإن فرقتم بما يحتمل الغرر ومالا يحتمله فما يحتمل الغرر والاخطار يصح تعليقه بالشرط كالطلاق والعتق والوصية ومالا يحتمله لا يصح تعليقه كالبيع والنكاح والاجارة انتقض عليكم بالوكالة فإنها لا تقبل التعليق عندكم وتحتمل الخطر ولهذا يصح

أن يوكله في شراء عبد ولا يذكر قدره ولا وصفه ولا سنه ولا ثمنه بل يكفى ذكر جنسه فقط أوأن يوكله في شراء دار ويكتفى بذكر محلها وسكنها فقط وأن يوكله في التزوج بامرأة فقط ولا يزيد على كونها امرأة ولا يذكر له جنس مهرها ولا قدره ولا وصفه وأي خطر فوق هذا ومع ذلك منعتم من تعليقها بالشرط وطرد هذا الفرق يوجب عليكم صحة تعليق النكاح بالشرط فإنه يحتمل من الخطر ما لا يحتمل غيره من العقود فلا يشترط فيه رؤية الزوجة ولا صفتها ولا تعيين العوض جنسا ولا قدرا ولا وصفا ويصح مع جهالته وجهالة المرأة ولا يعلم عقد يحتمل من الخطر ما يحتمله فهو أولى بصحة التعليق من الطلاق والعتاق إن صح هذا الفرق
وقد نص الشافعي على صحة تعليقه فيما لو قال إن كانت جاريتي ولدت بنتا فقد زوجتكها وهذا وإن لم يكن تعليقا على شرط مستقبل فليس بمنزلة قوله متى ولدت جارية فقد زوجتكها لان هذا فيه خطر ليس في صورة النص وهذا فرق صحيح ولكن لم يوفوه حقه ولم يطرد فقهه فلو قال إن كان ابي مات وورثت منه هذا المتاع فقد بعتكه ابطلتموه وقلتم هو بيع معلق على شرط والبطلان ههنا في غاية العبد من الفقه ولا معنى تحته ولا خطر هناك ولا غرر ألبته وقد نص الامام احمد على صحة تعليق النكاح على الشرط
قال صاحب المستوعب وأما اذا علق انعقاد النكاح على شرط مثل ان يقول زوجتك إذا جاء رأس الشهر أوإذا رضيت أمها ففيه روايتان أحداهما يبطل النكاح من أصله والاخرى يصح وذكر في الفصل انه إذا تزوجها بشرط الخيار وان جاءها بالمهر الى وقت كذاوإلا فلا نكاح بينهما ففيه روايتان إحدهما يبطل النكاح من أصله والثانية يبطل الشرط ويصح العقد ونص عليه في رواية الاثرم وقد ذكر القاضي رواية عنه انه إذا تزوجها بشرط الخيار يصح العقد والشرط جميعا فصار عنه ثلاث روايات صحة العقد والشرط

وبطلانهما وصحة العقد وفساد الشرط لكن هذا فيما اذا شرط الخيار أوان جاءها بالمهر الى وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما وأما إذا قال زوجتك إن رضيت أمها فنص على صحة العقد إذا رضيت امها وقال هو نكاح وقال في رواية عبد الله وصالح وحنبل نكاح المتعة حرام وكل نكاح فيه وقت أوشرط فاسد
والمقصود ان المفرقين بين ما يقبل التعليق بالشرط وما لا يقبل الى الآن لم يستقر لهم ضابط في الفرق فمن قال من أهل الظاهر وغيرهم إن الطلاق لا يصح تعليقه بالشرط لم يتمكن من الرد عليه من قوله مضطرب فيما يعلق وما لا يعلق ولا يرد عليه بشئ إلا تمكن من رده عليهم بمثله أوأقوى منه وإن ردوا عليه بمخالفته لآثار الصحابة رد عليهم بمخالفة النصوص المرفوعة في صور عديدة قد تقدم ذكر بعضها وإن فرقوا طالبهم بضابط ذلك أولا وبتأثير الفرق شرعا ثانيا فإن الوصف الفارق لا بد ان يكون مؤثرا كالوصف الجامع فإنه لا يصح تعليق الاحكام جمعا وفرقا بالاوصاف التي لا يعلم ان الشارع اعتبرها فإنه وضع شرع لم يأذن به الله وبالجملة فليس بطلان هذا القول اظهر في الشريعة من بطلان التحليل بل العلم بفساد نكاح التحليل أظهر من العلم بفساد هذا القول فإذا جاز التقرير على التحليل وترك إنكاره مع ما فيه من النصوص والآثار التي اتفق عليها اصحاب رسول الله ص - على المنع منه ولعن فاعله وذمه فالتقرير على هذا القول أجود وأجوز
هذا ما لا يستريب فيه عالم منصف وإن كان الصواب في خلاف القولين جميعا ولكن احدهما أقل خطأ وأقرب الى الصواب والله اعلم
فصل زاول سبب اليمين
المخرج العاشر مخرج زوال السبب وقد كان الأولى تقديمه على هذا

المخرج لقوته وصحته فإن الحكم يدور مع علته وسببه وجودا وعدما ولهذا إذا علق الشارع حكما بسبب أوعلة زال ذلك الحكم بزوالهما كالخمر علق بها حكم التنجيس ووجوب الحد لوصف الإسكار فإذا زال عنها وصارت خلا زال الحكم وكذلك وصف الفسق علق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه وكذلك السفه والصغر والجنون والاغماء تزول الاحكام المعلقة عليها بزوالها والشريعة مبنية على هذه القاعدة فهكذا الحالف إذا حلف على أمر لا يفعله لسبب فزال السبب لم يحنث بفعله لأن يمينه تعلقت به لذلك الوصف فإذا زال الوصف زال تعلق اليمين فإذا دعى الى شراب مسكر ليشربه فحلف ان لا يشربه فانقلب خلا فشربه لم يحنث فإن منع نفسه منه نظير منع الشارع فإذا زال منع الشارع بانقلابه خلا وجب ان يزول منع نفسه بذلك والتفريق بين الامرين تحكم محض لا وجه له فإذا كان التحريم والتنجيس ووجوب الاراقة ووجوب الحد وثبوت الفسق قد زال بزوال سببه فما الموجب لبقاء المنع في صورة اليمين وقد زال سببه وهل يقتضى محض الفقه إلا زوال حكم اليمين
يوضحه أن الحالف يعلم من نفسه انه لم يمنعها من شرب غير المسكر ولم يخطر بباله فإلزامه ببقاء حكم اليمين وقد زال سببها إلزام بما لم يلتزمه هو ولا الزمه به الشارع وكذلك لو حلف على رجل أن لا يقبل له قولا ولا شهادة لما يعلم من فسقه ثم تاب وصار من خيار الناس فإنه يزول حكم المنع باليمين كما يزول حكم المنع من ذلك بالشرع وكذلك اذا حلف ان لا يأكل هذا الطعام أولا يلبس هذا الثوب أولا يكلم هذه المرأة ولا يطأها لكونه لا يحل له ذلك فملك الطعام والثوب وتزوج المرأة فأكل الطعام ولبس الثوب ووطئ المرأة لم يحنث لأن المنع بيمينه كالمنع بمنع الشارع ومنع الشارع يزول بزوال الاسباب التي ترتب عليها المنع فذلك منع الحالف وكذلك إذا حلف

لا دخلت هذه الدار وكان سبب يمينه انها تعمل فيها المعاصي وتشرب الخمر فزال ذلك وعادت مجمعا للصالحين وقراءة القرآن والحديث أوقال لا أدخل هذا المكان لأجل ما رأى فيه من المنكر فصار بيتا من بيوت الله تقام فيه الصلوات لم يحنث بدخوله وكذلك إذا حلف لا يأكل لفلان طعاما وكان سبب اليمين أنه يأكل الربا ويأكل أموال الناس بالباطل فتاب وخرج من المظالم وصار طعامه من كسب يده أوتجارة مباحة لم يحنث بأكل طعامه ويزول حكم منع اليمين كما يزول حكم منع الشارع وكذلك لو حلف لا بايعت فلانا وسبب يمينه كونه مفلسا أوسفيها فزال الافلاس والسفه فبايعه لم يحنث وأضعاف أضعاف هذه المسأئل كما إذا اتهم بصحبة مريب فحلف لا أصاحبه فزالت الريبة وخلفها ضدها فصاحبه لم يحنث وكذلك لو حلف المريض لا يأكل لحما أوطعاما وسبب يمينه كونه يزيد في مرضه فصح وصار الطعام نافعا له لم يحنث بأكله
وقد صرح الفقهاء بمسائل من هذا الجنس فمنها لو حلف لوال ان لا أفارق البلد إلا بإذنك فعزل ففارق البلد بغير إذنه لم يحنث ومنها لو حلف على زوجته لا تخرجين من بيتي إلا بإذنى أوعلى عبده لا يخرج إلا بإذنه ثم طلق الزوجة واعتق العبد فخرجا بغير إذنه لم يحنث ذكره أصحاب الامام احمد قال صاحب المغنى لان قرينة الحال تنقل حكم الكلام الى نفسها وهو يملك منع الزوجة والعبد مع ولايته عليهما فكأنه قال ما دمتما في ملكى ولأن السبب يدل على النية في الخصوص كدلالته عليها في العموم وكذلك لو حلف لقاض ان لا أرى منكرا إلا رفعته اليك فعزل لم يحنث بعدم الرفع اليه بعد العزل وكذلك إذا حلف لامرأته ألا أبيت خارج هذه الدار فماتت أوطلقها لم يحنث إذا بات خارجها وكذلك إذا حلف على ابنه ألا يبيت خارج البيت لخوفه عليه من الفساق لكونه أمرد فالتحى وصار شيخا لم يحنث بمبيته

خارج الدار وهذا كله مذهب مالك واحمد فإنهما يعتبران النية في الايمان 8وبساط اليمين وسببها وما هيجها فيحملان اليمين على ذلك
وقال ابوعمر بن عبد البر في كتاب الايمان من كتابة الكافي في مذهب مالك والاصل في هذا الباب مراعاة ما نواه الحالف فإن لم تكن له نية نظر الى بساط قصته وما أثاره على الحلف ثم حكم عليه بالأغلب من ذلك في نفوس أهل وقته
وقال صاحب الجواهر المقتضيات للبر والحنث امور الاول النية اذا كانت مما يصلح ان يراد اللفظ بها سواء كانت مطابقة له أوزائدة فيه أوناقصة عنه بتقييد مطلقه وتخصيص عامه الثاني السبب المثير لليمين يتعرف منه ويعبر عنه بالبساط أيضا وذلك ان القاصد لليمين لا بد ان تكون له نية وإنما يذكرها في بعض الاوقات وينساها في بعضها فيكون المحرك على اليمين وهو البساط دليلا عليها لكن قد يظهر مقتضى المحرك ظهورا لا إشكال فيه وقد يخفى في بعض الحالات وقد يكون ظهوره وخفاؤه بالاضافة
وكذلك اصحاب الامام احمد صرحوا باعتبار النية وحمل اليمين على مقتضاها فإن عدمت رجع الى سبب اليمين وما هيجها فحمل اللفظ عليه لانه دليل على النية حتى صرح أصحاب مالك فيمن دفن مالا ونسى مكانه فبحث عنه فلم يجده فحلف على زوجته انها هي التي اخذته ثم وجده لم يحنث قالوا لان قصده ونيته إنما هو إن كان المال قد ذهب فأنت التي أخذته فتأمل كيف جعلوا القصد والنية في قوة الشرط وهذا هو محض الفقه
ونظير هذا ما لو دعى الى طعام فظنه حراما فحلف لا أطعمه ثم ظهر أنه حلال لا شبهة فيه فإنه لا يحنث بأكله لان يمينه إنما تعلقت به إن كان حراما وذلك قصده

ومثله لو مر به رجل فسلم عليه فحلف لا يرد عليه السلام لظنه انه مبتدع أوظالم أو فاجر فظهر انه غير ذلك الذي ظنه لم يحنث بالرد عليه
ومثله لو قدمت له دابة ليركبها فظنها قطوفا أوموحا أومتعسرة الركوب فحلف لا يركبها فظهرت له بخلاف ذلك لم يحنث بركوبها
وقال ابو القاسم الخرقي في مختصره ويرجع في الايمان الى النية فإن لم ينو شيئا رجع الى سبب اليمين وماهيجها وقال أصحاب الامام احمد اذا دعى الى غداء فحلف ان لا يتغدى أوقيل له اقعد فحلف ان لا يقعد اختصت يمينه بذلك الغداء وبالعقود في ذلك الوقت لان عاقلا لا يقصد ان لا يتغدى أبدا ولا يقعد أبدا
ثم قال صاحب المغنى إن كان له نية فيمينه على ما نوى وإن لم تكن له نية فكلام احمد يقتضى روايتين إحداهما ان اليمين محمولة على العموم لان احمد سئل عن رجل حلف ان لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم قال احمد النذر يوفى به يعنى لا يدخله ووجه ذلك ان لفظ الشارع إذا كان عاما لسبب خاص وجب الاخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب وكذلك يمين الحالف ونازعه في ذلك شيخنا فقال إنما منعه احمد من دخول البلد بعد زوال الظلم لأنه نذر لله ألا يدخلها وأكد نذره باليمين والنذر قربة فقد نذر التقرب الى الله بهجران ذلك البلد فلزمه الوفاء بما نذره هذا هو الذي فهمه الامام احمد وأجاب به السائل حيث قال النذر يوفى به ولهذا منع النبي ص - المهاجرين من الاقامة بمكة بعد قضاء نسكهم فوق ثلاثة أيام لأنهم تركوا ديارهم لله فلم يكن لهم العود فيها وإن زال السبب الذي تركوها لأجله وذلك نظير مسألة ترك البلد للظلم والفواحش التي فيه إذا نذره الناذر فهذا سر جوابه وإلا فمذهبه الذي عليه نصوصه وأصوله اعتبار

النية والسبب في اليمين وحمل كلام الحالفين على ذلك وهذا في نصوصه أكثر من أن يذكر فلينظر فيها
وأما مذهب أصحاب أبى حنيفة فقال في كتاب الدخائر في كتاب الايمان الفصل السادس في تقييد الايمان المطلقة بالدلالة اذا أرادت المرأة الخروج من الدار فقال الزوج إن خرجت من الدار فأنت طالق فجلست ساعة ثم خرجت لا تطلق وكذلك لو أراد رجل ان يضربه فحلف آخر أن لا يضربه فهذا على تلك الضربة حتى لو مكث ساعة ثم ضربه لا يحنث ويسمى هذا يمين الفور وهذا الخرجة التي قصد والضربة التي قصد هي المقصود بالمنع منها عرفا وعادة فيتعين ذلك بالعرف والعادة وإذا دخل الرجل على الرجل فقال تعال تغد معي فقال والله لا اتغدى فذهب الى بيته وتغدى مع أهله لا يحنث وكذلك اذا قال الرجل لغيره كل مع فلان فقال والله لا آكل ثم ذكر تقرير ذلك بأنه جواب لقول الآمر له والجواب كالمعاد في السؤال فإنه يتضمن ما فيه قال وليس كابتداء اليمين لان كلامه لم يخرج جوابا بالتقييد بل خرج ابتداء وهو مطلق عن القيد فينصرف الى كل غداء قال وإذا قال لغيره كلم لي زيدا اليوم في كذا فقال والله لا أكلمه فهذا يختص باليوم لانه خرج جوابا عن الكلام السابق وعلى هذا إذا قال له إيتنى اليوم فقال امرأته طالق إن أتاك وقد صرح أصحاب ابي حنيفة بأن النية تعمل في اللفظ لتعيين ما احتمله اللفظ فإذا تعين باللفظ ولم يكن اللفظ محتملا لما نوى لم تؤثر النية فيه فإن حينئذ يكون الاعتبار بمجرد النية ومجرد النية لا أثر لها في إثبات الحكم فإذا احتملها اللفظ فعينت بعض محتملاته أثرت حينئذ قالوا ولهذا لو قال إن لبست ثوبا أوأكلت طعاما أوشربت شرابا أوكلمت امرأة فامرأته طالق ونوى ثوبا أوطعاما أوشرابا أوامرأه معينا دين فيما بينه وبين الله وقبلت نيته بغير خلاف ولو حذف المفعول

واقتصر على الفعل فكذلك عند ابي يوسف في رواية عنه والخصاف وهو قول الشافعي واحمد ومالك
والمقصود ان النية تؤثر في اليمين تخصيصا وتعميما وإطلاقا وتقييدا والسبب يقوم مقامها عند عدمها ويدل عليها فيؤثر ما يؤثره وهذا هو الذي يتعين الافتاء به ولا يحمل الناس على ما يقطع انهم لم يريدوه بأيمانهم فكيف اذا علم قطعا انهم أرادوا خلافه والله أعلم
والتعليل يجري مجرى الشرط فإذا قال أنت طالق لأجل خروجك من الدار فبان انها لم تخرج لم تطلق قطعا صرح به صاحب الارشاد فقال وان قال انت طالق أن دخلت الدار بنصف الألف والحالف من أهل اللسان ولم يتقدم لها دخول قبل اليمين بحال لم تطلق ولم يذكر فيه خلافا وقد قال الأصحاب وغيرهم إنه إذا قال انت طالق وقال أردت الشرط دين فكذلك إذا قال لأجل كلامك زيدا أوخروجك من داري بغير إذني فإنه يدين ثم إن تبين انها لم تفعل لم يقع الطلاق ومن افتى بغير هذا فقد وهم على المذهب والله اعلم
فصل خلع اليمين
المخرج الحادي عشر خلع اليمين عند من يجوزه كأصحاب الشافعي وغيرهم وهذا وإن كان غير جائز على قول أهل المدينة وقول الامام احمد وأصحابه كلهم فإذا دعت الحاجة اليه أوالى التحليل كان اواى من التحليل من وجوه عديده
أحدها ان الله تعالى شرع الخلع رفعا لمفسدة المشاقة الواقعةبين الزوجين وتخلص كل منهما من صاحبه فإذا شرع الخلع رفعا لهذه المفسدة التي هي بالنسبة الى مفسدة التحليل كتفلة في بحر فتسويغه لدفع مفسدة التحليل أولى

يوضحه الوجه الثانى ان الحيل المحرمة انما منع منها لما تتضمنه من الفساد الذى اشتملت عليه تلك المحرمات التى يتحيل عليها بهذه الحيل و اما حيلة ترفع مفسدة هي من أعظم المفاسد فإن الشارع لا يحرمها
يوضحه الوجه الثالث ان هذه الحيلة تتضمن مصلحة بقاء النكاح المطلوب للشارع بقاؤه ودفع مفسدة التحليل التي بالغ الشارع كل المبالغة في دفعه والمنع منه ولعن اصحابه فحيلة تحصل المصلحة المطلوب ايجادها وتدفع المفسدة المطاوب اعدامها لا يكون ممنوعا منها
الوجه الرابع ان ما حرمه الشارع فإنما حرمه لما يتضمنه من المفسدة الخالصة أوالراجحة فإذا كانت مصلحة خالصة أوراجحة لم يحرمه البتة وهذا الخلع مصلحته ارجح من مفسدته
الوجه الخامس ان غاية ما في هذا الخلع اتفاق الزوجين ورضاهما بفسخ النكاح بغير شقاق واقع بينهما واذا وقع الخلع من غير شقاق صح وكان غايته الكراهية لما فيه من مفسدة المفارقة وهذا الخلع اريد به لم شعث النكاح بحصول عقد بعده يتمكن الزوجان فيه من المعاشرة بالمعروف وبدونه لا يتمكنان من ذلك بل اما خراب البيت وفراق الأهل وإما التعرض للعنة من لا يقوم للعنته شيء وإما التزام ما حلف عليه وان كان فيه فساد دنياه واخراه لايقوم للعنته شيء كما اذا حلف ليقتلن ولده اليوم أوليشربن هذا الخمر أوليطأن هذا الفرج الحرام أوحلف انه لا يأكل ولا يشرب ولايستظل بسقف ولا يعطى فلانا حقه ونحو ذلك فإذا دار الامر بين مفسدة التزام المحلوف عليه أومفسدة الطلاق وخراب البيت وشتات الشمل أومفسسدة التزام لعنة الله بارتكاب التحليل وبين ارتكاب الخلع المخلص من ذلك جميعه لم يخف على العاقل أي ذلك اولى
الوجه السادس انهما لو اتفقا على ان يطلقها من غير شقاق بينهما بل ليأخذ

غيرها لم يمنع من ذلك فإذا اتفقا على الخلع ليكون سببا إلى دوام 2اتصالهما كان أولى وأحرى
ويوضحه الوجه السابع ان الخلع إن قيل إنه طلاق فقد اتفقا على الطلاق بعوض لمصلحة لهما في ذلك فما الذي يحرمه وإن قيل إنه فسخ فلا ريب أن النكاح من العقود اللازمة والعقد اللازم إذا اتفق المتعاقدان على فسخه ورفعه لم يمنعا من ذلك إلا أن يكون العقد حقا لله والنكاح محض حقهما فلا يمنعان من الاتفاق على فسخه
الوجه الثامن ان الآية اقتضت جواز الخلع إذا خاف الزوجان ألا يقيما حدود الله فكان الخلع طريقا الى تمكنهما من إقامة حدود الله وهي حقوقه الواجبة عليهما في النكاح فإذا كان الخلع مع استقامة الحال طريقا الى تمكنهما من إقامة حدوده التي تعطل ولا بد بدون الخلع تعين الخلع حينئذ طريقا الى إقامتها
فإن قيل لا يتعين الخلع طريقا بل ههنا طريقان آخران احدهما مفارقتهما والثاني عدم إلزام الطلاق بالحنث إذا أخرجه مخرج اليمين إما بكفارة أوبدونها كما هي ثلاثة أقوال للسلف معروفة صرح بها ابو محمد ابن حزم وغيره
قيل نعم هذان طريقان ولكن إذا أحكم سدهما غاية الاحكام ولم يمكنه سلوك أحدهما وأيهما سلك ترتب عليه غاية الضرر في دينه ودنياه لم يحرم عليه والحالة هذه سلوك طريق الخلع وتعين في حقه طريقان إما طريق الخلع واما سلوك طريق أرباب اللعنة
وهذه المواضيع وأمثالها لا تحتملها إلا العقول الواسعة التي لها إشراف على أسرار الشريعة ومقاصدها وحكمها وأما عقل لا يتسع لغير تقليد من اتفق له تقليده وترك جميع أقوال أهل العلم لقوله فليس الكلام معه

الوجه التاسع أن غاية ما منع المانعون من صحة هذا الخلع انه حيلة والحيل باطلة ومنازعوهم ينازعوهم ينازعونهم في كلتا المقدمتين فيقولون الاعتبار في العقود بصورها دون نياتها ومقاصدها فليس لنا ان نسأل الزوج إذا اراد خلع امرأته ما أردت بالخلع وما السبب الذي حملك عليه هل هو المشاقة أوالتخلص من اليمين بل نجري حكم التخالع على ظاهره ونكل سرائر الزوجين الى الله قالوا ولو ظهر لنا قصد الحيلة فالشأن في المقدمة الثانية فليس كل حيلة باطلة محرمة وهل هذا الفصل الطويل الذي نحن فيه إلا في أقسام الحيل والحيلة المحرمة الباطلة هي التي تتضمن تحليل ما حرمه الله أوتحريم ما أحله الله أوإسقاط ما أوجبه وأما حيلة تتضمن الخلاص من الآصار والاغلال والتخلص من لعنه الكبير المتعال فاهلا بها من حيلة وبأمثالها والله يعلم المفسد من المصلح والمقصود تنفيذ امر الله ورسوله بحسب الامكان والله المستعان
الوجه العاشر أنه ليس القول ببطلان خلع اليمين أولى من القول بلزوم الطلاق للحالف به غير القاصد له فهلم نحاكمكم الى كتاب الله وسنة رسوله واقوال الصحابة رضى الله عنهم وقواعد الشريعة المطهرة وإذا وقع التحاكم تبين أن القول بعدم لزوم الطلاق للحالف به أقوى ادلة وأصح أصولا وأطرد قياسا وأوفق لقواعد الشرع وأنتم معترفون بهذا شئتم ام أبيتم فإذا ساغ لكم العدول عنه الى القول المتناقض المخالف للقياس ولما أفتى به الصحابة ولما تقتضيه قواعد الشريعة وأصولها فلأن يسوغ لنا العدول عن قولكم ببطلان خلع اليمين الى ضده تحصيلا لمصلحة الزوجين ولما لشعث النكاح وتعطيلا لمفسدة التحليل وتخلصا لامرأين مسلمين من لعنة الله ورسوله أولى وأحرى والله أعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"