بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 5 أبريل 2010

نبذ من "روضة المحبين" لابن القيم/3

الباب الخامس في دواعي المحبة ومتعلقها الداعي قد يراد به الشعور الذي
تتبعه الإرادة والميل فذلك قائم بالمحب وقد يراد به السبب الذي لأجله وجدت المحبة وتعلقت به وذلك قائم بالمحبوب ونحن نريد بالداعي مجموع الأمرين وهو ما قام بالمحبوب من الصفات التي تدعو إلى محبته وما قام بالمحب من الشعور بها والموافقة التي بين المحب والمحبوب وهي الرابطة بينهما وتسمى بين المخلوق والمخلوق مناسبة وملاءمة
فها هنا أمور وصف المحبوب وجماله وشعور المحب به والمناسبة وهي العلاقة والملاءمة التي بين المحب والمحبوب فمتى قويت الثلاثة وكملت قويت المحبة واستحكمت ونقصان المحبة وضفعها بحسب ضعف هذه الثلاثة أو نقصها فمتى كان المحبوب في غاية الجمال وشعور المحب بجماله أتم شعور والمناسبة التي بين الروحين قوية فذلك الحب اللازم الدائم وقد يكون الجمال في نفسه ناقصا لكن هو في عين المحب كامل فتكون قوة محبته بحسب ذلك الجمال عنده فإن حبك للشيء يعمي ويصم فلا يرى المحب أحدا أحسن من محبوبه كما يحكى أن عزة دخلت على الحجاج فقال لها يا عزة والله ما أنت كما قال فيك كثير فقالت أيها الأمير إنه لم يرني بالعين التي رأيتني بها ولا ريب أن المحبوب أحلى في عين محبه وأكبر في صدره من غيره وقد أفصح بهذا القائل في قوله
فوالله ما أدري أزيدت ملاحة ... وحسنا على النسوان أم ليس لي عقل

وقد يكون الجمال موفرا لكنه ناقص الشعور به فتضعف محبته لذلك فلو كشف له عن حقيقته لأسر قلبه ولهذا أمر النساء بستر وجوههن عن الرجال فإن ظهور الوجه يسفر عن كمال المحاسن فيقع الافتتان ولهذا شرع للخاطب أن ينظر إلى المخطوبة فإنه إذا شاهد حسنها وجمالها كان ذلك أدعى إلى حصول المحبة والألفة بينهما كما أشار إليه النبي في قوله إذا أراد أحدكم خطبة امرأة فلينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما أي يلأم ويوافق ويصلح ومنه الأدام الذي يصلح به الخبز وإذا وجد ذلك كله وانتفت المناسبة والعلاقة التي بينهما لم تستحكم المحبة وربما لم تقع البتة فإن التناسب الذي بين الأرواح من أقوى أسباب المحبة فكل امرىء يصبو إلى ما يناسبه
وهذه المناسبة نوعان أصلية من أصل الخلقة وعارضة بسبب المجاورة أو الاشتراك في أمر من الأمور فإن من ناسب قصدك قصده حصل التوافق بين روحك وروحه فإذا اختلف القصد زال التوافق فأما التناسب الأصلي فهو اتفاق أخلاق وتشاكل أرواح وشوق كل نفس إلى مشاكلها فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة فتنجذب إليه بالطبع فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة فتنجذب كل منهما إلى الأخرى بالطبع وقد يقع الانجذاب والميل

بالخاصية وهذا لا يعلل ولا يعرف سببه كانجذاب الحديد إلى الحجر المغناطيس ولا ريب أن وقوع هذا القدر بين الأرواح أعظم من وقوعه بين الجمادات كما قيل
محاسنها هيولى كل حسن ... ومغناطيس أفئدة الرجال
وهذا الذي حمل بعض الناس على أن قال إن العشق لا يقف على الحسن والجمال ولا يلزم من عدمه عدمه وإنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة كما قيل
وما الحب من حسن ولا من ملاحة ... ولكنه شيء به الروح تكلف
قال هذا القائل فحقيقته انه مرآة يبصر فيها المحب طباعة ورقته في صورة محبوبة ففي الحقيقة لم يحب إلا نفسه وطباعه ومشاكله
قال بعضهم لمحبوبه صادفت فيك جوهر نفسي ومشاكلتها في كل أحوالها فانبعثت نفسي نحوك وانقادت إليك وإنما هويت نفسي وهذا صحيح من وجه فإن المناسبة علة الضم شرعا وقدرا وشاهد هذا بالاعتبار أن أحب الأغذية إلى الحيوان ما كان أشبه بجوهر بدنه وأكثر مناسبة له وكلما قويت المناسبة بين الغاذي والغذاء كان ميل النفس إليه أكثر وكلما بعدت المناسبة حصلت النفرة عنه ولا ريب أن هذا قدر زائد على مجرد الحسن

والجمال ولهذا كانت النفوس الشريفة الزكية العلوية تعشق صفات الكمال بالذات فأحب شيء إليها العلم والشجاعة والعفة والجود والإحسان والصبر والثبات لمناسبة هذه الأوصاف لجوهرها بخلاف النفوس اللئيمة الدنية فإنها بمعزل عن محبة هذه الصفات وكثير من الناس يحمله على الجود والإحسان فرط عشقه ومحبته له واللذة التي يجدها في بذله كما قال المأمون لقد حبب إلي العفو حتى خشيت أن لا أؤجر عليه وقيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى تعلمت هذا العلم لله فقال أما لله فعزيز ولكن شيء حبب إلي ففعلته وقال آخر إني لأفرح بالعطاء وألتذ به أكثر وأعظم مما يفرح الآخذ بما يأخذه مني وفي هذا قيل في مدح بعض الكرماء من أبيات
وتأخذه عند المكارم هزة ... كما اهتز عند البارح الغصن الرطب
وقال شاعر الحماسة
تراه إذا ماجئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وكثير من الأجواد يعشق الجود أعظم عشق فلا يصبر عنه مع حاجته إلى ما يجود به ولا يقبل فيه عذل عاذل ولا تأخذه فيه لومة لائم وأما عشاق العلم فأعظم شغفا به وعشقا له من كل عاشق بمعشوقه وكثير منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر وقيل لامرأة الزبير بن بكار أو غيره هنيئا لك إذ ليست لك ضرة فقالت والله لهذه الكتب أضر علي من عدة ضرائر

وحدثني أخو شيخنا عبدالرحمن بن تيمية عن أبيه قال كان الجد إذا دخل الخلاء يقول لي اقرأ في هذا الكتاب وارفع صوتك حتى اسمع وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمى وكان الكتاب عند رأسه فإذا وجد إفاقة قرأ فيه فإذا غلب وضعه فدخل عليه الطبيب يوما وهو كذلك فقال إن هذا لا يحل لك فإنك تعين على نفسك وتكون سببا لفوات مطلوبك وحدثني شيخنا قال ابتدأني مرض فقال لي الطبيب إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض فقلت له لا أصبر على ذلك وأنا أحاكمك إلى علمك أليست النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة فدفعت المرض فقال بلى فقلت له فإن نفسي تسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة فقال هذا خارج عن علاجنا أو كما قال
فعشق صفات الكمال من أنفع العشق وأعلاه وإنما يكون بالمناسبة التي بين الروح وتلك الصفات ولهذا كان أعلى الأرواح وأشرفها أعلاها وأشرفها معشوقا كما قيل
أنت القتيل بكل من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
فإذا كانت المحبة بالمشاكلة والمناسبة ثبتت وتمكنت ولم يزلها إلا مانع أقوى من السبب وإذا لم تكن بالمشاكلة فإنما هي محبة لغرض من الأغراض تزول عند انقضائه وتضمحل فمن أحبك لأمر ولى عند انقضائه فداعى المحبة وباعثها إن كان غرضا للمحب لم يكن لمحبته بقاء وإن كان أمرا قائما بالمحبوب سريع الزوال والانتقال زالت محبته بزواله وإن كان صفة لازمة فمحبته باقية ببقاء داعيها مالم يارضه يعارضه يوجب زوالها وهو إما تغير حال في المحب أو أذى من المحبوب فإن الأذى إما أن يضعف المحبة أو يزيلها

قال الشاعر
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
فإني رأيت الحب في القلب والأذى ... إذ اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
وهذا موضع انقسم المحبون فيه قسمين ففرقة قالت ليس بحب صحيح ما يزيله الأذى بل علامة الحب الصحيح أنه لا ينقص بالجفوة ولا يذهبه أذى قالوا بل المحب يلتذ بأذى محبوبه له كما قال أبو الشيص
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا ... ما من يهون عليك ممن يكرم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كن حظي منك حظي منهم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم
فهذا هو الحب على الحقيقة فإنه متضمن لغاية الموافقة بحيث قد اتخذ مراده ومراد محبوبه من نفسه فأهان نفسه موافقة لإهانة محبوبه له وأحب أعداءه لما أشبههم محبوبه في أذاه وهذا وإن كانت الطباع تأباه لكنه موجب الحب التام ومقتضاه وقالت فرقة بل الأذى مزيل للحب فإن الطباع مجبولة على كراهة من يؤذيها كما أن القلوب مجبولة على حب من يحسن إليها وما ذكره أولئك فدعوى منهم
والإنصاف أن يقال يجتمع في القلب بغض أذى الحبيب وكراهته ومحبته من وجه آخر فيحبه ويبغض أذاه وهذا هو الواقع والغالب منها يوارى

المغلوب ويبقى الحكم له وقد كشف عن بعض هذا المعنى الشاعر في قوله
ولو قلت طأ في النار أعلم أنه ... رضا لك أو مدن لنا من وصالك
لقدمت رجلى نحوها فوطئتها ... هدى منك لي أو ضلة من ضلالك
وإن ساءني أن نلتني بمساءة ... فقد سرني أني خطرت ببالك
فهذا قد أنصف حيث أخبر أنه يسوؤه أن يناله محبوبه بمساءة ويسره خطوره بباله لا كمن ادعى انه يلتذ بأذى محبوبه له فإن هذا خارج عن الطباع اللهم إلا أن يكون ذلك الأذى وسيلة إلى رضى المحبوب وقربه فإنه يلتذ به إذا لاحظ غايته وعاقبته فهذا يقع وقد أخبرني بعض الأطباء قال إني ألتذ بالدواءالكريه إذا علمت ما يحصل به من الشفاء وأضعه على لساني وأترشفه محبة له ومن هذا التذاذ المحبين بالمشاق التي توصلهم إلى وصال محبوبهم وقربه وكلما ذكروا روح الوصال وأن ما هم فيه طريق موصل إليه لذ لهم مقاساته وطاب لهم تحمله كما قال الشاعر
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ... ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا شكت من كلال السير أوعدها ... روح اللقاء فتقوى عند ميعاد
والمقصود أن المحبة تستدعي مشاكلة ومناسبة وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل
رحمه الله تعالى في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها أن امرأة

كانت تدخل على قريش فتضحكهم فقدمت المدينة فنزلت على امرأة تضحك الناس فقال النبي على من نزلت فلانة فالت على فلانة المضحكة فقال الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وأصل الحديث في الصحيح وذكر لبقراط رجل من أهل النقص يحبه فاغتم لذلك وقال ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه وأخذا المتنبي هذا المعنى فقلبه وأجاد فقال
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل
وقال بعض الأطباء العشق امتزاج الروح بالورح لما بينهما من التناسب والتشاكل فإذا امتزج الماء بالماء امتنع تخليص بعضه من بعض ولذلك تبلغ المحبة بين الشخصين حتى يتألم أحدهما بتألم الآخر ويسقم بسقمه وهو لا يشعر ويذكر أن رجلا كان يحب شخصا فمرض فدخل عليه أصحابه يعودونه فوجدوا به خفة فانبسط معهم وقال من أين جئتم قالوا من عند فلان عدناه فقال أو كان عليلا قالوا نعم وقد عوفي فقال والله لقد أنكرت علتي هذه ولم أعرف لها سببا غير أني توهمت أن ذلك لعلة نالت بعض من أحب ولقد وجدت في يومي هذا راحة ففرحت طمعا أن يكون الله سبحانه وتعالى شفاه ثم دعا بدواة فكتب إلى محبوبه

إني حممت ولم أشعر بحماك ... حتى تحدث عوادي بشكواك
فقلت ما كانت الحمى لتطرقني ... من غير ما سبب إلا لحماك
وخصلة كنت فيها غير متهم ... عافاني الله منها حين عافاك
حتى اتفقت نفسي ونفسك في هذا وذاك وفي هذا وفي ذاك
ويحكى أن رجلا مرض من يحبه فعاده المحب فمرض من وقته فعوفي محبوبه فجاء يعوده فلما رآه عوفي من وقته وأنشد
مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني ... فبرئت من نظري إليه
وأنت إذا تأملت الوجود لا تكاد تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلةأو اتفاق في فعل أو حال أو مقصد فإذا تباينت المقاصد والأوصاف والأفعال والطرائق لم يكن هناك إلا النفرة والبعد بين القلوب ويكفي في هذا الحديث الصحيح عن رسول الله مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر
فإنقيل فهذا الذي ذكرتم يقتضي أنه إذا أحب شخص شخصا أن يزن الآخر يحبه فيشتركان في المحبة والواقع يشهد بخلافه فكم من محب غير محبوب بل بسيف البغض مضروب قيل قد اختلف الناس في جواب هذا السؤال فأما أبو محمد بن حزم فإنه قال الذي أذهب إليه أن العشق اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخلقة في أصل عنصرها الرفيع لا على

ما حكاه محمد بن داود عن بعض أهل الفلسفة أن الأرواح أكر مقسومة لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي ومجاورتها في هيئة تركيبها وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال فالشكل إنما يستدعي شكله والمثل إلى مثله ساكن وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد والتنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تشابه موجود بيننا فكيف بالنفس وعالمها العالم الصافي الخفيف وجوهرها الجوهر الصعاد المعتدل وسنخها المهيأ لقبول الاتفاق والميل والتوق والانحراف والشهوة والنفار والله تعالى يقول هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فجعل علة السكون أنها منه ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب أن لا يستحسن الأنقص من الصور ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فلضل غيره ولا يجد محيدا لقلبه عنه ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه فعلمنا أنه شيء في ذات النفس وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب وتلك تفنى بفناء سببها
قال ومما يؤكد هذا القول أننا قد علمنا أن المحبة ضروب فأفضلها محبة المتحابين في الله
تعالى إما لاجتهاد في العمل وإما لاتفاق في أصل المذهب وإما لفضل علم يمنحه الإنسان ومحبة القرابة ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب ومحبة التصاحب والمعرفة ومحبة لبر يضعه المرء عند أخيه ومحبة لطمع في جاه المحبوب ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره

ومحبة لبلوغ اللذة وقضاء الوطر ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس وكل هذه الأجناس فمنقضية مع انقضاء عللها وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها متأكدة بدنوها فاترة ببعدها حاشا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس ثم أورد هذا السؤال قال والجواب أن نفس الذي لا يحب من يحبه مكتنفة الجهات ببعض الأعراض الساترة والحجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية فلم تحس بالجزء الذي كان متصلا بها قبل حلولها حيث هي ولو تخلصت لاستويا في الاتصال والمحبة ونفس المحب متخلصة عالمة بمكان ما كان يشركها في المجاورة طالبة له قاصدة إليه باحثة عنه مشتهية لملاقاته جاذبة له لو أمكنها كالمغناطيس والحديد وكالنار في الحجر
وأجابت طائفة أخرى أن الأرواح خلقت على هيئة الكرة ثم قسمت فأي روحين تلاقيتا هناك وتجاورتا تألفتا في هذا العالم وتحابتا وإن تنافرتا هناك تنافرتا هنا وإن تألفتا من وجه وتنافرتا من وجه كانتا كذلك ها هنا وهذا الجواب مبني على الأصل الفاسد الذي أصله هؤلاء أن الأرواح موجودة قبل الأجساد وأنها كانت متعارفة متجاورة هناك تتلاقى وتتعارف وهذا خطأ بل الصحيح الذي دل عليه الشرع والعقل أن الأرواح مخلوقة مع الأجساد وأن الملك الموكل بنفخ الروح في الجسد ينفخ فيه الروح إذا مضى

على النطفة أربعة أشهر ودخلت في الخامس وذلك أول حدوث الروح فيه ومن قال إنها مخلوقة قبل ذلك فقد غلط وأقبح منه قول من قال إنها قديمة أو توقف في ذلك بل الصواب في الجواب أن يقال إن المحبة كما تقدم قسمان محبة عرضية غرضية فهذه لا يجب الاشتراك فيها بل يقارنها مقت المحبوب وبغضه للمحب كثيرا إلا إذا كان له معه غرض نظير غرضه فإنه يحبه لغرضه منه كما يكون بين الرجل والمرأة اللذين لكل منهما غرض مع صاحبه والقسم الثاني محبة روحانية سببها المشاكلة والاتفاق بين الروحين فهذه لا تكون إلا من الجانبين ولا بد فلو فتش المحب المحبة الصادقة قلب المحبوب لوجد عنده من محبته نظير ما عنده أو دونه أو فوقه فصل
وإذا كانت المحبة من الجانبين استراح بها كل واحد من المحبين وسكن ذلك بعض ما به وعده نوعا من الوصال وقالت امرأة من العرب
حججت ولم أحجج لذنب عملته ... ولكن لتعديني على قاطع الحبل
ذهبت بعقلي في هواه صغيره ... وقد كبرت سني فرد به عقلي
وإلا فسو الحب بيني وبينه ... فإنك يا مولاي توصف بالعدل
وقال آخر
فيا رب أشغلها بحبي كما بها ... شغلت فؤادي كي يخف الذي بيا
وقالت امرأة تعاتب بعلها أسأل الذي قسم بين العباد معايشهم أن يقسم الحب بيني وبينك ثم أنشدت

أدعو الذي صرف الهوى ... مني إليك ومنك عني
أن يبتليك بما ابتلا ... ني أو يسل الحب مني
وقال آخر
فيا رب إن لم تقسم الحب بيننا ... بشطرين فاجعلني على هجرها جلدا
وأعقبني السلوان عنها ورد لي ... فؤادي من سلمى أثبك به حمدا
وقال أبو الهذيل العلاف لا يجوز في دور الفلك ولا في تركيب الطبائع ولا في الواجب ولا في الممكن أن يكون محب ليس لمحبوبه إليه ميل وإلى هذا المذهب ذهب أبو العباس الناشىء حيث يقول
عيناك شاهدتان أنك من ... حر الهوى تجدين ما أجد
بك ما بنا لكن على مضض ... تتجلدين وما بنا جلد
وقال أبو عيينه
تبيت بنا تهذي وأهذى بذكرها ... كلانا يقاسي الليل وهو مسهد
وما رقدت إلا رأتني ضجيعها ... كذاك أراها في الكرى حين أرقد
تقر بذنبي حين أغفو ونلتقي ... وأسألها يقظان عنه فتجحد
كلانا سواء في الهوى غير أنها ... تجلد أحيانا وما لي تجلد
وقال عروة بن أذينة
إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك الذي زعمت بها فكلاكما ... أبدى لصاحبه الصبابة كلها
فإذا تشاكلت النفوس وتمازجت الأرواح وتفاعلت تفاعلت عنها الأبدان وطلبت نظير الامتزاج والجوار الذي بين الأرواح فإن البدن آلة الروح ومركبه وبهذا ركب الله سبحانه شهوة الجماع بين الذكر والأنثى طلبا

للامتزاج والاختلاط بين البدنين كما هو بين الروحين ولهذا يسمى جماعا وخلاطا ونكاحا وإفضاء لأن كل واحد منهما يفضي إلى صاحبه فيزول الفضاء بينهما
فإن قيل فهذا يوجب تأكد الحب بالجماع وقوته به والواقع خلافه فإن الجماع يطفىء نار المحبة ويبرد حرارتها ويسكن نفس المحب قيل الناس مختلفون في هذا فمنهم من يكون بعد الجماع أقوى محبة وأمكن وأثبت مما قبله ويكون بمنزلة من وصف له شيء ملائم فأحبه فلما ذاقه كان له اشد محبة وإليه أشد اشتياقا وقد ثبت في الصحيح عن النبي في حديث عروج الملائكة إلى ربهم أنه سبحانه يسألهم عن عباده وهو أعلم بهم فيقولون إنهم يسبحونك ويحمدونك ويقدسونك فيقول وهل رأوني فيقولون لا فيقول فكيف لو رأوني تقول الملائكة لو رأوك لكانوا أشد تسبيحا وتقديسا وتمجيدا ثم يقولون ويسألونك الجنة فيقول وهل رأوها فيقولون لا فيقول فكيف لو رأوها فتقول الملائكة لو رأوها لكانوا أشد لها طالبا وذكر الحديث ومعلوم أن محبة من ذاق الشيء الملائم وعدم صبره عنه أقوى من محبة من لم يذقه بل نفسه مفطومة عنه والمودة التي بين الزوجين والمحبة بعد الجماع أعظم من التي كانت قبله والسبب الطبيعي أن شهوة القلب ممتزجة بلذة العين فإذا رأت العين اشتهى القلب فإذا باشر الجسم الجسم اجتمع شهوة القلب ولذة العين ولذة المباشرة فإذا فارق هذه الحال كان نزاع نفسه إليها أشد وشوقه إليها أعظم كما قيل
وأكثر ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار

ولذلك يتضاعف الألم والحسرة على من راى محبوبه أو باشره ثم حيل بينه وبينه فتضاعف ألمه وحسرته في مقابلة مضاعفة لذة من عاوده وهذا في جانب المرأة أقوى فإنها إذا ذاقت عسيلة الرجل ولا سيما أول عسيلة لم تكد تصبر عنه بعد ذلك قال أيمن بن خريم
يميت العتاب خلاط النساء ... ويحي اجتناب الخلاط العتابا
وتزوج زهير بن مسكين الفهري جارية ولم يكن عنده ما يرضيها به فلما أمكنته من نفسها لم تر عنده ما ترضى به فذهبت ولم تعد فقال في ذلك أشعارا كثيرة منها
تقول وقد قبلتها ألف قبلة ... كفاك أما شيء لديك سوى القبل
فقلت لها حب على القلب حفظه ... وطول بكاء تستفيض له المقل
فقالت لعمر الله ما لذة الفتى ... من الحب في قول يخالفه الفعل
وقال آخر
رأت حبي سعاد بلا جماع ... فقالت حبلنا حبل انقطاع
ولست أريد حبا ليس فيه ... متاع منك يدخل في متاعي
فلو قبلتني ألفا وألفا ... لما أرضيت إلا بالجماع
إذا ما الصب لم يك ذا جماع ... يرى المحبوب كالشيء المضاع
جماع الصب غاية كل أنثى ... وداعية لأهل العشق داعي
فقلت لها وقد ولت تعالي ... فإنك بعد هذا لن تراعي
وإنك لو سألت بقاء يوم ... خلي عن جماعك لن تطاعي

فقالت مرحبا بفتى كريم ... ولا أهلا بذي الخنع اليراع
إذا ما البعل لم يك ذا جماع ... يرى في البيت من سقط المتاع
وقال آخر
ولما شكوت الحب قالت كذبتني ... فكم زورة مني قصدتك خاليا
فما حل فيها من إزار للذة ... قعدت وحاجات الفؤاد كما هيا
وهل راحة للمرء في ورد منهل ... ويرجع بعد الورد ظمآن صاديا
وقال العباس بن الأحنف
لم يصف وصل لمعشوقين لم يذقا ... وصلا يجل على كل اللذاذات
وقال هدبة بن الخشرم
والله ما يشفي الفؤاد الهائما ... نفث الرقى وعقدك التمائما
ولا الحديث دون أن تلازما ... ولا اللزام دون أن تفاعما
ولا الفعام دون أن تفاقما ... وتعلو القوائم القوائما
وقال آخر
قولا لعاتكة التي ... في نظرة قضت الوطر

إني أريدك للنكاح ... ولا أريدك للنظر
لو كان هذا مقنعي ... لقنعت عنها بالقمر
وقال آخر
دواء الحب تقبيل وشم ... ووضع للبطون على البطون
ورهز تذرف العينان منه ... وأخذ بالمناكب والقرون
وقالت امرأة وقد طلبت منها المحادثة
ليس بهذا أمرتني أمي ... ولا بتقبيل ولا بشم
لكن جماعا قد يسلي همي ... يسقط منه خاتمي في كمي
وقد كشف الشاعر سبب ذلك حيث يقول
لو ضم صب إلفه ! ألفا لما ... أجدى وزادت لوعة وغرام
أرواحهم من قبل ذاك تألفت ... فتألفت من بعدها الأجسام
وقال المؤلف
سألت فقيه الحب عن علة الهوى ... وقلت له أشكو إلى الشيخ حاليا
فقال دواء الحب أن تلصق الحشا ... بأحشاء من تهوى إذا كنت خاليا
وتتحدا من بعد ذاك تعانقا ... وتلثمه حتى يرى لك ناهيا
فتقضي حاجات الفؤاد بأسرها على الأمن ما دام الحبيب مؤاتيا
إذا كان هذا في حلال فحبذا ... وصالبه الرحمن تلقاه راضيا
وإن كان هذا في حرام فإنه ... عذاب به تلقى العنا والمكاويا
قال هؤلاء ولا يستحكم الحب إلا بعد أن يشق الرجل رداءه وتشق المرأة المعشوقة برقعها كما قال الشاعر

إذا شق برد شق بالبرد برقع ... دواليك حتى كلنا غير لانس
فكم قد شققنا من رداء محبر ... ومن برقع عن طفلة غير عانس
ولما بلغ بعض الظرفاء قول المأمون ما الحب إلا قبلة الأبيات قال كذب المأمون ثم قال
وباض الحب في قلبي ... فوا ويلا إذا فرخ
وما ينفعني حبي ... إذا لم أكنس البربخ
وإن لم يضع الأصل ... ع خرجيه على المطبخ
وقال ابن الرومي
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاها كي تزول صبابثي ! ... فيشتد ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الجوى ... ليشفيه ما ترشف الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن أرى الروحين تمتزجان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"