بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 5 أبريل 2010

نبذ من " الفوائد"/5

تلقى قلبه فقد ارسلته عجلا ... الى لقائك والأشواق تقدمه
فاذا دخل علي الحبيب افيضت عليه الخلع من كل ناحية ليمتحن أيسكن اليها فتكون حظه ام يكون التفاته الى من ألبسه اياها ملأوا مراكب القلوب متاعا لا تنفق الا على الملك فلما هبت رياح السحر اقلعت تلك المراكب فما طلع الفجر الا وهي بالمينا قطعوا بادية الهوى باقدام الجد فما كان الا القليل حتى قدموا من السفر فاعقبهم الراحة في طريق التلقى فدخلوا بلد الوصل وقد حاز ربح الأبد فرغ القوم قلوبهم من الشواغل فضربت فيها سرادقات المحبة فاقاموا العيون تحرس تارة وترش أخرى سرادق المحبة لا يضرب الا في قاع نزه فارغ
نزه فؤادك من سوانا والقنا ... فنجنابنا حل لكل منزه
الصبر طلسم لكنز وصالنا ... من حل ذا الطلسم فاز بكنزه
اعرف قدر ما ضاع منك وابك بكاء من يدري مقدار الفائت لو تخيلت قرب الأحباب لاقمت المأتم على بعدك لو استنشقت ريح الأسحار لافاق منك قلبك المخمور من استطال الطريق ضعف مشيه
وما انت بالمشتاق ان قلت بيننا ... طوال الليالى أو بعيد المفاوز
أما علمت أن الصادق اذا هم القى بين عينيه عزمه اذا نزل آب في القلب حل آذار في العين هان سهر الحراس لما علموا ان أصواتهم بسمع الملك من لاح له حال الآخرة هان عليه فراق الدنيا اذا لاح للباشق الصيد نسي مألوف الكف يا أقدام الصبر احملي بقى القليل تذكر حلاوة الوصال يهن عليك مر المجاهدة قد علمت أين المنزل فاحد لها تسر أعلي الهمم همة من استعد صاحبها للقاء الحبيب قدم التقادم بين يدي الملتقى فاستبشر بالرضا عند القدوم وقدموا لانفسهم الجنه ترضي منك باداء الفرائض والنار تندفع

عنك بترك المعاصي والمحبة لا تقنع منك الا ببذل الروح لله ما أحلى زمان تسعى فيه أقدام الطاعة علي ارض الاشتياق لما سلم القوب النفوس الى رائض الشرع علمها الوفاق في خلاف الطبع فاستقامت مع الطاعة كيف دارت دارت معها
واني اذا اصطكت رقاب مطيهم ... وثور حاد بالرفاق عجول
اخالف بين الراحتين على الحشا ... وأنظر أني ملثم فأميل
فصل علمت كلبك فهو يترك شهوته في تناول ما صاده احتراما لنعمتك وخوفا
من سطوتك وكم علمك معلم الشرع وأنت لا تقبل حرم صيد الجاهل والممسك لنفسه فما ظن الجاهل الذي أعماله لهوي نفسه جمع فيك عقل الملك وشهوة البهيمة وهوى الشيطان وأنت للغالب عليك من الثلاثة أن غلبت شهوتك وهواك زدت على مرتبة ملك وان غلبك هواك وشهوتك نقصت عن مرتبة كلب لما صاد الكلب لربه أبيح صيده ولما أمسك علي نفسه حرم ما صاده مصدر ما في العبد من الخير والشر والصفات الممدوحة والمذمومة من صفة المعطي المانع فهو سبحانه يصرف عباده بين مقتضى هذين الاسمين فحظ العبد الصادق من عبوديته بهما الشكر عند العطاء والافتقار عند المنع فهو سبحانه يعطيه ليشكره ويمنعه ليفتقر اليه فلا يزال شكورا فقيرا
قوله تعالى وكان الكافر على ربه ظهيرا هذا من ألطف خطاب القرآن وأشرف معانيه وان المؤمن دائما مع الله علي نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه فهو مع الله علي عدوه الداخل فيه والخارج عنه يحاربهم ويعاديهم ويغضبهم له سبحانه كما يكون خواص الملك معه علي حرب اعدائه والبعيدون منه فارغون من ذلك غير مهتمين به

والكافر مع شيطانه ونفسه وهواه علي ربه وعبارات السلف علي هذه تدور ذكر بن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال عونا للشيطان علي ربه بالعداوة والشرك وقال ليث عن مجاهد قال يظاهر الشيطان علي معصية الله يعينه عليها وقال زيد بن أسلم ظهيرا أي مواليا والمعني أنه يوالي عدوه علي معصيته والشرك به فيكون مع عدوه معينا له علي مساخط ربه
فالمعية الخاصة لتي للمؤمن مع ربه وإله قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان ومع نفسه وهواه وقربانه ولهذا صدر الآية بقوله ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وهذه العبادة هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة فظاهروا أعداء الله على معاداته ومخالفته ومساخطه بخلاف وليه سبحانه فانه معه علي نفسه وشيطانه وهواه وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله وبالله التوفيق
قوله تعالى والذين اذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا قال مقاتل اذا وعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صما لم يسمعوه وعميانا لم يبصروه ولكنهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به وقال ابن عباس لم يكونوا عليها صما وعميانا بل كانوا خائفين خاشعين وقال الكلبي يخرون عليها سمعا وبصرا وقال الفراء اذا تلي عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولي كأنهم لم يسمعوه فذلك الخرور وسمعت العرب تقول قعد يشتمنى كقولك قام يشتمنى واقبل يشتمنى والمعني على ما ذكر لم يصيروا عندها صما وعميانا وقال الزجاج المعني اذا تليت عليهم خروا سجدا وبكيا سامعين مبصرين كما أمروا به وقال ابن قتيبة أي لم يتغافلوا عنها كانهم صم لم يسمعوها وعمى لم يروها قلت ههنا أمران ذكر الخرور وتسليط النفي عليه وهل هو خرور القلب أو خرور البدن

للسجود وهل لمعنى لم كن خرورهم عن صمم وعمه فلهم عليها خرورا بالقلب خضوعا أو بالبدن سجودا أو ليس هناك خرور وعبر به عن القعود
أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة تعلق القلب بغير الله وطاعة القوة الغضبية والقوة الشهوانية وهي الشرك والظلم والفواحش فغاية التعلق بغير الله شرك وان يدعى معه اله آخر وغاية طاعة القوة الغضبية القتل وغاية القوة الشهوانية الزنا ولهذا جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله والذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون وهذه الثلاثة يدعو بعضها الى بعض فالشرك يدعو الى الظلم والفواحش كما ان الاخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه قال تعالى
كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فالسوء العشق والفحشاء الزنا وكذلك الظلم يدعو الى الشرك والفاحشة فان الشرك اظلم لظلم كما أن أعدل العدل التوحيد فالعدل قرين التوحيد والظلم قرين الشرك ولهذا يجمع سبحانه بينهما أما الاول ففي قوله شهد اللهأنه لا اله الا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط وأما الثاني فكقوله تعالى ان الشرك لظلم عظيم والفاحشة تدعو الى الشرك والظلم ولا سيما اذا قويت ارادتها ولم تحصل الا بنوع من الظلم بالظلم والاستعانة بالسحر والشيطان وقد جمع سبحانه بين الزنا والشرك في قوله
الزاني لا ينكح الا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها الا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين فهذه الثلاثة يجر بعضها الى بعض ويامر بعضها ببعض ولهذا كلما كان القلب أضعف توحيدا وأعظم شركا كان أكثر فاحشة واعظم تعلقا بالصور وعشقا لها ونظير هذا قوله تعالى وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون فاخبر أن ما عنده خير لمن آمن به وتوكل عليه وهذا هو التوحيد ثم قال والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش فهذا اجتناب داعي القوة الشهوانية ثم قال

واذا ما غضبوا هم يغفرون فهذا مخالفة القوة الغضبية فجمع بين التوحيد والعفة والعدل التي هي جماع الخير كله
فائدة هجر القرآن أنواع أحدها هجر سماعه والايمان به والاصغاء اليه
والثاني هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وان قرأه وآمن به والثالث هجر تحكيمه والتحاكم اليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم والرابع هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه والخامس هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به وكل هذا داخل في قوله وقال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وأن كان بعض الهجر اهون من بعض وكذلك لحرج الذي فى الصدور منه فانه تارة يكون حرجا من إنزاله وكونه حقا من عند الله وتارة يكون من جهة لتكلم به أو كونه مخلوقا من بعض مخلوقاته الهم غيره أن تكلم به وتارة يكون من جهة كفايته وعدمها وأنه لا يكفي العباد بل هم محتاجون معه الى المعقولات والأقيسة أو الأراء أو السياسات وتارة يكون من جهة دلالته وما أريد به حقائقه المفهومة منه عند الخطاب أو أريد به تأويلها واخراجها عن حقائقها الي تأويلات مستكرهة مشتركة وتارة يكون من جهة كون تلك الحقائق وان كانت مرادة فهي ثابتة في نفس الامر أو أوهم أنها مرادة لضرب المصلحة فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن وهم يعلمون ذلك من نفوسهم ويجدونه في صدورهم ولا تجد مبتدعا في دينه قط الا وفي قلب حرج من الآيات التي تخالف بدعته كما نك لا تجد ظالما فاجرا الا وفى صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين ارادته فتدبر هذا لمعنى ثم ارض لنفسك بما تشاء

فائدة كمال النفس المطلوب ما تضمن أمرين أحدهما أن يصير هيئة راسخة وصفة
لازمة له الثاني أن يكون صفة كمال في نفسه فاذا لم يكن كذلك لم يكن كمالافلا يليق بمن يسعى فى كمال نفسه المنافسة عليه ولا الأسف على فوته وذلك ليس الا معرفة بارئها وفاطرها ومعبودها والهها لحق الذي لا صلاح لها ولا نعيم ولا لذة الا بمعرفته وارادة وجهه وسلوك الطريق الموصلة اليه والى رضاه وكرامته وأن تعتاد ذلك فيصير لها هيئة راسخة لازمة وما عدا ذلك من العلوم والارادات والأعمال فهي بين مالا ينفعها ولا يكملها وما يعود بضررها ونقصها وألمها ولا سيما اذا صار هيئة راسخة لها فانها تعذب وتتألم به بحسب لزومه لها وأما الفضائل المنفصلة عنها كالملابس والمراكب والمساكن والجاه والمال فتلك فى الحقيقة عوار اعيرتها مدة ثم يرجع فيها المعير فتتألم وتتعذب برجوعه فيها بحسب تعلقها بها ولا سيما اذا كانت هي غاية كمالها فاذا سلبتها أحضرت أعظم النقص والألم والحسرة فليتدبر من يريد سعادة نفسه ولذتها هذه النكتة فاكثر هذا الخلق انما يسعون في حرمان نفوسهم وألمها وحسرتها ونقصها من حيث يظنون أنهم يريدون سعادتها ونعيمها فلذتها بحسب ما حصل لها من تلك المعرفة والمحبة والسلوك وألمها وحسرتها بحسب ما فاتها من ذلك ومتى عدم ذلك وخلا منه لم يبق فيه الا القوى البدنية النفسانية التي بها يأكل ويشرب وينكح ويغضب وينال سائر لذاته ومرافق حياته ولا يلحقه من جهتها شرف ولا فضيلة بل خساسة ومنقصة اذ كان انما يناسب بتلك القوى البهائم ويتصل بجنسها ويدخل في جملتها ويصير كأحدها وربما زادت في تناولها عليه واختصت دونه بسلامة عافيتها والأمن من جلب الضرر عليها فكمال تشاركك فيه البهائم وتزيد عليك وتختص عنك فيه بسلامة العاقبة حقيق أن تهجره الي الكمال الحقيقى الذي لا كمال سواه وبالله التوفيق

فائدة جليلة اذا أصبح العبد وأمسي وليس همه الا الله وحده تحمل الله
سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمه وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته وان أصبح وأمسي والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله الى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره لكل من أعرض عن عبودية اللله وطاعته ومحبته بلى بعبودية لمخلوق ومحبته وخدمته قال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين قال سفيان بن عيينة لا تأتون بمثل مشهور للعرب الا جئتكم به من القرآن فقال له قائل فأين في القرآن اعط أخاك تمرة فان لم يقبل فاعطه جمرة فقال في قوله
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا الآية
فائدة العلم نقل صورة المعلوم من الخارج واثباتها في النفس ولعمل نقل
صورة علمية من النفس واثباتها في الخارج فان كان الثابت في النفس مطابقا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح وكثيرا ما يثبت ويترا أي في النفس صور ليس لها وجود حقيقى فيضنها الذي قد أثبتها في نفسه علما وانما هي مقدرة لا حقيقية لها واكثر علوم الناس من هذا الباب وما كان منها مطابقا للحقيقة في الخارج فهو نوعان نوع تكمل النفس بادراكه والعلم به وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وكتبه وأمره ونهيه ونوع لا يحصل به للنفس كمال وهو كل علم لا يضر الجهل به فانه لا ينفع العلم به وكان النبي يستعيذ بالله من علم لا ينفع وهذا حال أكثر لعلوم الصحيحة المطابقة التي لا يضر الجهل بها شيئا كالعلم بالفلك

ودقائقه ودرجاته وعدد الكواكب ومقاديرها والعلم بعدد الجبال والوانها ومساحتها ونحو ذلك فشرف العلم بحسب شرف معلومه وشدة الحاجة اليه وليس ذلك الا العلم بالله وتوابع ذلك واما العلم فآفته عدم مطابقته لمراد الله الدينى الذي يحبه الله ويرضاه وذلك يكون من فساد العلم تارة ومن فساد الارادة تارة ففساد من جهة العلم ان يعتقد ان هذا مشروع محبوب لله وليس كذلك او يعتقد انه يقر به الي الله وان لم يكن مشروعا فيظن انه يتقرب الي الله بهذا العمل وان لم يعلم انه مشروع وأما فساده من جهة القصد فان لا يقصد به وجه الله والدار الآخرة بل يقصد به الدنيا والخلق وهاتان الآفتان في العلم والعمل لا سبيل الى السلامة منهما الا بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة وارادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والرادة فمتى خلا من هذه المعرف وهذه الارادة فسد علمه وعمله والأيمان واليقين يورثان صحة المعرفة وصحة الارادة يورثان الايمان ويمدانه ومن هنا يتبين انحراف اكثر الناس عن الأيمان ولانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الارادة ولا يتم الايمان الا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة وتجريد الارادة عن شوائب الهوى وارادة الخلق فيكون علمه مقتبسا من مشكاة الوحى وارادته لله والدار الآخرة فهذا أصح الناس علما وعملا وهو من الأئمة الذين يهدون بامر الله ومن خلفاء رسوله في أمته
قاعدة الايمان له ظاهر وباطن وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح وباطنه
تصديق القلب وانقياده ومحبته فلا ينفع ظاهر لا باطن له وان حقن به الدماء وعصم به المال والذرية ولا يجزىء باطن لا ظاهر له الا اذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل علي فساد الباطن وخلوه من الايمان ونقصه دليل نقصه وقوته دليل قوته فالايمان قلب الاسلام ولبه

واليقين قلب الايمان ولبه وكل علم وعمل لا يزيد الايمان واليقين قوة فمدخول وكل ايمان لا يبعث على العمل فمدخول
قاعدة التوكل على الله نوعان احدهما توكل عليه في جلب حوائج العبد
وحظوظه الدنيوية او دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية والثاني التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الايمان واليقين والجهاد والدعوة اليه وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه الا الله فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية ومتي توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضا لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه فاعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل فهذا توكل الرسل وخاصة اتباعهم
التوكل تارة يكون توكل اضطرار والجاء بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وزرا الا التوكل كما اذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه وظن ان لا ملجأ من الله الا اليه وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة وتارة يكون توكل اختيار وذلك التوكل مع وجود السبب المفضي الى المراد فان كان السبب مأمورا به ذم على تركه وان قام السبب وترك التوكل ذم على تركه أيضا فانه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن والواجب القيام بهما والجمع بينهما وان كان السبب محرما حرم عليه مباشرته وتوحد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه فان التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه بل هو أقوى الأسباب على الاطلاق وان كان السبب مباحا نظرت هل يضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه فان أضعفه وفرق عليك قلبك وشتت همك فتركه اولى وان لم يضعفه فمباشرته أولى لأن حكمه أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته

مهما أمكنك القيام بها ولا سيما اذا فعلته عبودية فتكون قد أتيت بعبودية القلب بالتوكل وعبودية الجوارح بالسبب المنوى به القربة والذي يحقق لتوكل القيام بالأسباب المأمور بها فمن عطلها لم يصح توكله كما أن القيام بالأسباب المفضية الي حصول الخير يحقق رجاءه فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنيا كما أن من عطلها يكون توكله عجزا وعجزه توكلا
وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب علي الله وحده فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون اليها كما لا ينفعه قوله توكلت علي الله مع اعتماده على غيره وركونه اليه وثقته به فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء كما أن توبة اللسان مع اصرار القلب شيء وتوبة القلب وان لم ينطق اللسان شيء فقول العبد توكلت على الله مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله تبت الي الله وهو مصر على معصيته مرتكب لها
فائدة الجاهل يشكو الله الي الناس وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو
اليه فانه لو عرف ربه لما شكاه ولو عرف الناس لما شكا اليهم ورأى بعض السلف رجلا يشكو الي رجل فاقته وضرورته فقال يا هذا والله ما زدت على ان شكوت من يرحمك وفي ذلك قيل
اذا شكوت الي ابن آدم انما ... تشكو الرحيم الى الذي لا يرحم
والعارف انما يشكو الى الله وحده وأعرف العارفين من جعل شكواه الي الله من نفسه لا من الناس فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه فهو ناظر الى قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم وقوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وقوله أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا

قل هو من عند أنفسكم فالمراتب ثلاثة أخسها أن تشكو الله الى خلقه وأعلاها أن تشكو نفسك اليه وأوسطها أن تشكو خلقه اليه
قاعدة جليلة قال الله تعالى
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول اذا دعاكم لما يحيكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه واليه تحشرون فتضمنت هذه الآية أمورا أحدها ان الحياة النافعة انما تحصل بالاستجابة لله ورسوله فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وان كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا فهؤلاء هم الأحياء وان ماتوا وغيرهم أموات وان كانوا احياء الأبدان ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول فان كان ما دعا اليه ففيه الحياة فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول قال مجاهد لما يحيكم يعني للحق وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة وقال السدى هو الاسلام أحياهم به بعد موتهم بالكفر وقال ابن اسحق وعروة بن الزبير واللفظ له لما يحيكم يعنى للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل وقواكم بعد الضعف ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم وهذه كل عبارات عن حقيقة واحدة وهى القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا قال الواحدى والأكثرون على ان معنى قوله لما يحيكم هو الجهاد وهو قول ابن اسحق واختيار أكثر أهل المعاني قال الفراء اذا دعاكم الي احياء أمركم بجهاد عدوكم يريد ان أمرهم انما يقوى بالحرب والجهاد فلو تركوا لجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم قلت الجهاد من أعظم ما يحيهم به فى الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة أما في الدنيا فان قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد وأما في البرزخ فقد قال تعالى ولا تحسبن

الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وأما في الآخرة فان حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم ولهذا قال ابن قتيبة لما يحيكم يعني الشهادة وقال بعض المفسرين لما يحيكم يعني الجنة فانها دار الحيوان وفيها الحياة الدائمة الطيبة حكاة أبو علي الجرجاني والآية تتناول هذا كله فان الايمان والاسلام والقرآن والجهاد يحي القلوب الحياة الطيبة وكمال الحياة في الجنة والرسول داع الي الايمان والى الجنة فهو داع الى الحياة في الدنيا والآخرة والانسان مضطر الى نوعين من الحياة حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره ومتي نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل والغى والرشاد والهوى والضلال فيختار الحق علي ضده فتفيده هذه الحياة قوة التميز بين النافع والضار في العلوم والارادات والأعمال وتفيده قوة الايمان والارادة والحب للحق وقوة البغض والكراهة للباطل فشعوره وتمييزه وحبه ونفرته بحسب نصيبه من هذه الحياة كما ان البدن الحى يكون شعوره واحساسه بالنافع والمؤلم أتم ويكون ميله الي النافع ونفرته عن المؤلم أعظم فهذا بحسب حياة البدن وذاك بحساب حياة القلب فاذا بطلت حياته بطل تمييزه وان كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع علي الضار كما ان الانسان لا حياة له حتي ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه فيصير حيا بذلك النفخ وان كان قبل ذلك من جملة الأموات فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول من الروح الذي ألقى اليه قال تعالى
ينزل الملائكة بالروح من أمره علي من يشاء من عباده وقال يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده وقال وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا لايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فاخبر أن وحيه روح ونور فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول

الملكي فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له احدى الحياتين وفاتته الأخرى الأخرى قال تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها فجمع له بين النور والحياة كما جمع لمن أعرض عن كتابة بين الموت والظلمة قال ابن عباس وجميع المفسرين كان كافرا ضالا فهديناه
وقوله وجعلنا له نورا يمشي به في الناس يتضمن امورا احدها انه يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمة فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل فضلوا ولم يهتدوا للطريق وآخر معه نور يمشي به في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها وثانيها انه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون منه لحاجتهم الى النور وثالثها انه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط اذا بقى اهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم
وقوله
واعلموا ان الله يحؤل بين المرء وقلبه المشهور في الآية انه يحول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الايمان ويحول بين اهل طاعته وبين معصيته وبين اهل معصيته وبين طاعته وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين وفي الآية قول آخر ان المعنى انه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافيه فهو بينه وبين قلبه ذكره الواحدي عن قتادة وكان هذا انسب بالسياق لأن الاستجابة اصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب فان الله سبحانه بين العبد وبين قلبه فيعلم هل استجاب له قلبه وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه وعلي القول الأول فوجه المناسبة انكم ان تثاقلتم عن الاستجابة و أبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة عقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانة فيكون كقوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة وقوله فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقوله

فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب وان استجاب بالجوارح وفي الآية سر آخر وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به وهو الاستجابة وبين القدر والايمان به فهي كقوله لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤن الا أن يشاء الله رب العالمين وقوله فمن شاء ذكره وما يذكرون الا أن يشاء الله والله أعلم
فائدة جليلة قوله تعالى
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون وقوله
تعالى وان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية علي نفسه منه وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده ويحب الموادعة و المتاركة وهذا المحبوب شر له في معاشه ومعاده وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها وله في امساكها خير كثير لا يعرفه ويحب المرأة لوصف من أصافها وله في أمساكها شر كثير لا يعرفه لانسان كما وصفه وصفه به خالقه ظلوم جهول فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يصره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه بل المعيار علي ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه فانفع الأشياء له علي الاطلاق طاعةربه بظاهره وباطنه وأضر الأشياء عليه علي الاطلاق معصيته بظاهره وباطنه فاذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرا له وذا تخلي عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقينا ان المكروهات التي تصيبه والمحن لتي تنزل به فيها

ضروب من المصالح والمنافع لتي لا يحصيها علمه ولا فكرته بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب
فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها فانظر الى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعاهدها بالسقى والاصلاح حتي أثمرت أشجارها فاقبل عليها يفصل اوصالها ويقطع أغصانها لعلمه انها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة حتي اذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها اقبل بقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثمرتها ان تكون بحضرة الملوك ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت بل يعطشها وقتا ويسقيها وقتا ولا يترك الماء عليها دائما وان كان ذلك انضر لورقها واسرع لنباتها ثم يعمد الى تلك الزينة التى زينت بها من الأوراق فيلقى عنها كثيرا منها لان تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها كما في شجر العنب ونحوه فهو يقطع اعضاءها بالحديد ويلقى عنها كثيرا من زينتها وذلك عين مصلحتها فلو انها ذات تمييز وادراك كالحيوان لتوهمت ان ذلك إفساد لها واضرار بها وانما هو عين مصلحتها
وكذلك الأب الشفيق علي ولده العالم بمصلحته اذا رأى مصلحته في اخراج الدم الفاسد عنه بضع جلده وقطع عروقه واذاقه الالم الشديد وان رأى شفاة في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه كان ذلك رحمة به وشفقة عليه وان رأى مصلحته فى ان يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه لعلمه ان ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه وكذلك يمنعه كثيرا من شهواته حمية له ومصلحة لا بخلا عليه فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعبادة منهم بأنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم اذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرا لهم من أن لا ينزله بهم نظرا منه لهم واحسانا اليهم ولطفا بهم ولو مكنوا من الاحتيار لانفسهم

لعجزوا عن القيام بمصالحهم علما وارادة وعملا لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته أحبوا أم كرهوا فعرف ذلك الموقنون باسمائه وصفاته فلم يتهموه في شيء من أحكامه وخفي ذلك على الجهل به وبأسمائه وصفاته فنازعوه تدبيره وقدحوا فى حكمته ولم ينقادوا لحكمه وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة فلا لربهم عرفوا ولا لمصالحهم حصلوا والله الموفق
ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه فيها إلا نعيم الآخرة فانه لا يزال راضيا عن ربه والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين فانه طيب النفس بما يجري عليه من المقادير التى هي عين اختيار الله له وطمأنينتها الى أحكامه الدينية وهذا هو الرضا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا وما ذاق طعم الايمان من لم يحصل له ذلك وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضي فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة لا يخرج عن ذلك البته كما قال في الدعاء المشهور اللهم اني عبدك ابن عبدك أبن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم ه لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به فى علم الغيب عندك ان تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي ما قالها أحد قط الا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرجا قالوا أفلا نتعلمهن يا رسول الله قال بلا ينبغى لمن يسمعهن أن يتعلمهن
والمقصود قوله عدل في قضاؤك وهذا يتناول كل قضاء يقضيه علي عبده من عقوبة أو ألم وسبب ذلك فهو الذي قضى بالسبب وقضي بالمسبب وهو عدل في هذا القضاء وهذا القضاء خير للمؤمن كما قال والذى نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء الا كان خيرا له وليس ذلك الا للمؤمن قال العلامة ابن القيم فسألت شيخنا هل يدخل فى ذلك قضاء الذنب فقال نعم بشرطه

فاجمل فى لفظه بشرطه ما يترتب على الذنب من الآثار المحبوبة لله من التوبة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وغير ذلك
فائدة لا تتم الرغبة فى الآخرة الا بالزهد فى الدنيا ولا يستقيم الزهد
فى الدنيا الا بعد نظرين صحيحين نظر فى الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة عليها والحرص عليها وما فى ذلك من الغصص والنغص والانكاد وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها وهم حال الظفر بها وغم وحزن بعد فواتها فهذا أحد النظرين
النظر الثاني النظر في الآخرة واقبالها ومجيئها ولا بد ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما هنا فهى كمال الله سبحانه والآخرة خير وأبقى فهى خيرات كاملة دائمة وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة فاذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل ايثاره وزهد فيما يقتضي الزهد فيه فكل أحد مطبوع على ان لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة الى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة الى اذا تبين له فضل الأجل على العاجل وقويت رغبته فى الأعلى الأفضل فاذا آثر الفاني الناقص كان ذلك اما لعدم تبين الفضل له وأما لعدم رغبته في الافضل
وكل واحد من الامرين يدل على ضعف الايمان وضعف العقل والبصيرة فان الراغب فى الدنيا الحريص عليه المؤثر لها اما ان يصدق بان ما هناك أشرف وأفضل وأبقى وإما أن لا يصدق بذلك كان عادما للايمان رأسا وان صدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه فايثار الدنيا على الآخرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"