بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 5 أبريل 2010

نبذ من "روضة المحبين"/7

ويقول اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يريد أنه يطيق العدل بينهن في النفقة عليهن والقسم بينهن وأما التسوية بينهن في المحبة فليست إليه ولا يملكها
وقال ابن سيرين سألت عبيدة عن قوله تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فقال يعني الحب والجماع
وقال ابن عباس لا يستطيع أن يعدل بينهن في الشهوة ولو حرص
وقال أبو قيس مولى عمرو بن العاص بعثني عمرو إلى أم سلمة فقال سلها أكان رسول الله يقبل أهله وهو صائم فإن قالت لا فقل لها إن عائشة
رضي الله عنها حدثتنا أن رسول الله كان يقبلها وهو صائم فسألها فقالت لا فأخبرها بما قال عبدالله فقالت أم سلمة رضي الله عنها إن رسول الله كان إذا رأى عائشة رضي الله عنها لم يتمالك عنها أما أنا فلا وقال بيان الشعبي أتاني رجل فقال كل أمهات المؤمنين أحب إلا عائشة فقلت أما أنت فقد خالفت رسول الله كانت عائشة رضي الله عنها أحبهن إلى قلبه
وقال مصعب بن سعد فرض عمر بن الخطاب
رضي الله عنه لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن عشرة آلافعشرة آلاف وزاد عائشة ألفين وقال

إنها حبيبة رسول الله وكان مسروق إذا حدث عن عائشة رضي الله عنها يقول حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول رب العالمين المبرأة من فوق سبع سموات قال أبو محمد بن حزم وقد أحب من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كثير
قال الخرائطي واشترى عبدالله بن عمر جارية رومية فكان يحبها حبا شديدا فوقعت ذات يوم عن بغلة له فجعل يمسح التراب عن وجهها ويفديها وكانت تقول له أنت قالون تعني جيد ثم إنها هربت منه فوجد عليها وجدا شديدا وقال
قد كنت أحسبني قالون فانصرفت ... فاليوم أعلم أني غير قالون
وقصة مغيث وعشقه بريرة حتى إنه كان يطوف وراءها ودموعه تسيل على خديه في الصحيح وكان عروة بن أذينة شيخ مالك من العلماء الثقات الصلحاء وقفت عليه امرأة فقالت أنت الذي يقال له الرجل الصالح وأنت تقول
إذا وجدت لهيب الحب في كبدي ... عمدت نحو سقاء القوم أبترد
هذا بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد
وكان محمد بن سيرين ينشد
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها ... فناديت لبنى باسمها ودعوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ... لألقيت نفسي نحوها وقضيت

وقال صالح عن ابن شهاب حدثني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة أن ابن مسعود رضي الله عنه قال بينا نحن عند رسول الله في قريب من ثمانين رجلا ليس فيهم إلا قرشي والله ما رأيت صفحة وجوه قط أحسن من وجوههم يومئذ قال فذكروا النساء فتحدثوا فيهن وتحدثت معهم حتى أحببت أن نسكت قالوا ولولا لطافة الحب ولذته ما تمناه المتمنون وقال شاعر الحماسة
تشكى المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكانت لقلبي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي
قالوا والعشق المباح مما يؤجر عليه العاشق كما قال شريك بن عبدالله وقد سئل عن العشاق فقال أشدهم حبا أعظمهم أجرا وصدق والله إذا كان المعشوق ممن يحب الله للعاشق قربه ووصله وقالت امرأة
لن يقبل الله من معشوقه عملا ... يوما وعاشقها لهفان مهجور
ليست بمأجورة في قتل عاشقها ... لكن عاشقها في ذاك مأجور
ونحن نقول متى باتت مهاجرة لفراش عاشقها الذي هو بعلها لعنتها الملائكة حتى تصبح قالوا والعشق يصفي العقل ويذهب الهم ويبعث على حسن اللباس وطيب المطعم ومكارم الأخلاق ويعلي الهمة ويحمل على طيب الرائحة وكرم العشرة وحفظ الأدب والمروءة وهو بلاء الصالحين ومحنة العابدين وهو ميزان العقول وجلاء الأذهان وهو خلق الكرام كما قيل
وما أحببتها فحشا ولكن ... رأيت الحب أخلاق الكرام
قالوا وأرواح العشاق عطرة لطيفة وأبدانهم رقيقة ضعيفة وأزواجهم

بطيئة الانقياد لمن قادها حاشا سكنها الذي سكنت إليه وعقدت حبها عليه وكلامهم ومنادمتهم تزيد في العقول وتحرك النفوس وتطرب الأرواح وتلهو بأخبارهم أولو الألباب
فأحاديث العشاق زينة مجالسهم وروح محادثتهم ويكفي أن يكون الأعرابي الذي لا يذكر مع الملوك ولا مع الشجعان الأبطال يعشق ويشتهر بالعشق فيذكر في مجالس الملوك والخلفاء ومن دونهم وتدون أخباره وتروى أشعاره ويبقى له العشق ذكرا مخلدا ولولا العشق لم يذكر له اسم ولم يرفع له رأس
وقال بعض العقلاء العشق للأرواح بمنزلة الغذاء للأبدان إن تركته ضرك وإن أكثرت منه قتلك
وقال ابن عبدالبر في كتابه بهجة المجالس وجد في صحيف لبعض أهل الهند العشق ارتياح جعل في الروح وهو معنى تنتجه النجوم في مطارح شعاعها ويتولد في الطباع بوصلة أشكالها وتقبله الروح بلطيف جوهرها وهو يعد جلاء القلوب وصيقل الأذهان ما لم يفرط فإذا أفرط صار سقما قاتلا ومرضا منهكا لا تنفذ فيه الآراء ولا تنجع فيه الحيل والعلاج منه زيادة فيه
وقال أعرابي هو أنيس النفس ومحادث العقل تجنه الضمائر وتخدمه الجوارح وقال عبدالله بن طاهر أمير خراسان لولده اعشقوا تظرفوا وعفوا تشرفوا وقال قدامة وصفه بعض البلغاء فقال يشجع الجبان ويسخي البخيل ويصفي ذهن البليد ويفصح لسان العيي ويبعث حزم العاجز

ويذل له عز الملوك وتصدع له صولة الشجاع وهو داعية الأدب وأول باب تفتق به الأذهان والفطن وتستخرج به دقائق المكايد والحيل وإليه تستروح الهمم وتسكن نوافر الأخلاق والشيم يمتع جليسه ويؤنس أليفه وله سرور يجول في النفوس وفرح يسكن في القلوب وقيل لبعض الرؤساء ابنك قد عشق فقال الحمد لله الآن رقت حواشيه ولطفت معانيه وملحت إشاراته وظرفت حركاته وحسنت عباراته وجادت رسائله وحلت شمائله فواظب على المليح واجتنب القبيح
وقيل لآخر ذلك فقال إذا عشق لطف وظرف ودق ورق وقيل لبعضهم متى يكون الفتى بليعا قال إذا صنف كتابا أو وصف هوى أو حبيبا وقيل لسعيد بن أسلم إن ابنك شرع في الرقيق من الشعر فقال دعوه يظرف وينظف ويلطف وقال العباس بن الأحنف
وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى ... ولا خير فيمن لا يحب ويعشق
وقال الحسين بن مطير
إن الغواني جنة ريحانها ... نضر الحياة فأين عنها نعزف
لولا ملاحتهن ما كانت لنا ... دنيا نلذ بها ولا نتصرف
وقال غيره
ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها ... وأنت وحيد مفرد غير عاشق
وقال آخر
هل العيش إلا أن تروح وتغتدي ... وأنت بكأس العشق في الناس نشوان

وقال العطوي
ما دنت بالحب إلا ... والحب دين الكرام
وقال آخر
نظرت إليها نظرة فهويتها ... ومن ذا له عقل سليم ولا يهوى
وقال آخر
وما سرني أني خلي من الهوى ... ولو أن لي ما بين شرق ومغرب
وقال آخر
وما تلفت إلا من العشق مهجتي ... وهل طاب عيش لامرئ غير عاشق
وقال آخر
ولا خير في الدنيا بغير صبابة ... ولا في نعيم ليس فيه حبيب
وقال الكميت
ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها ... فيما مضى أحد إذا لم يعشق
ألعشق فيه حلاوة ومرارة ... فاسأل بذلك من تطعم أو ذوق
وقال آخر
وما طابت الدنيا بغير محبة ... وأي نعيم لامرئ غير عاشق
وقال آخر
أسكن إلى سكن تلذ بحبه ... ذهب الزمان وأنت خال مفرد
وقال آخر
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فأنت وعير في الفلاة سواء
وقال آخر
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا

وقال آخر
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فقم فاعتلف تبنا فأنت حمار
وقال آخر
إذا لم تذق في هذه الدار صبوة ... فموتك فيها والحياة سواء
وقال الأقرع بن معاذ
ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيبا ولا وافى إليك حبيب
وقال آخر
وما ذاق طعم العيش من لم يكن له ... حبيب إليه يطمئن ويسكن
وقال علي بن أبي كثير لابن أبي الزرقاء هل عشقت قط حتى تكاتب وتراسل وتواعد قال لا فقال لا يجيء منك شيء وكان لبعض الملوك ولد واحد ساقط الهمة دنيء النفس فاتر فأراد أن يرشحه للملك فسلط عليه الجواري والقيان فعشق منهن واحدة فأعلم بذلك الملك فسر وأرسل إلى المعشوقة أن تجني عليه وقولي إني لا أصلح إلا لملك أو عالم فلما قالت له ذلك أخذ في التعلم وما عليه الملوك من أدوات الملك حتى برع في ذلك وقال المرزباني سئل أبو نوفل هل يسلم أحد من العشق فقال نعم الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عنده فهم فأما من في طبعه أدنى ظرف أو معه دمائة أهل الحجاز وظرف أهل العراق فهيهات وقال علي بن عبدة لا يخلو أحد من صبوة إلا أن يكون جافي الخلقة ناقصا أو منقوص الهمة أو على خلاف تركيب الاعتدال

قالوا ولا يكمل أحد قط إلا من عشقه لأهل الكمال وتشبه بهم فالعالم يبلغ في العلم بحسب عشقه له وكذلك صاحب كل صناعة وحرفة ويكفي أن العاشق يرتاح لكريم الأخلاق والأفعال والشيم لتحمد شمائله عند معشوقه كما قال
ويرتاح للمعروف في طلب العلى ... لتحمد يوما عند ليلى شمائله
وقال أبو المنجاب رأيت في الطواف فتى نحيف الجسم بين الضعف يلوذ ويتعوذ ويقول
وددت بأن الحب يجمع كله ... فيقذف في قلبي وينغلق الصدر
فلا ينقضي ما في فؤادي من الهوى ... ومن فرحي بالحب أو ينقضي العمر
فقلت يا فتى أما لهذه البنية حرمة تمنعك عن هذا الكلام فقال بلى والله ولكن الحب ملأ قلبي بفرح التذكر ففاضت الفكرة في سرعة الأوبة إلى من لا يشذ عنه معرفة ما بي فتمنيت المنى والله ما يسرني ما بقلبي منه ما فيه أمير المؤمنين من الملك وإني أدعو الله أن يثبته في قلبي عمري ويجعله ضجيعي في قبري دريت به أو لم أدر هذا دعائي أو انصرف من حجتي ثم بكى فقلت ما يبكيك قال خوف أن لا يستجاب دعائي وله قصدت وفيه رغبت مما يعطي الله سائر خلقه ثم مضى قالت هذه الفرقة وغاية ما يقدر في أمر العشق أنه يقتل صاحبه كما هو معروف عند جماعة من العشاق وقد قال سويد بن سعيد الحدثاني حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس
رضي الله عنهما عن النبي

أنه قال من عشق فكتم وعف وصبر فمات فهو شهيد رواه عن سويد جماعة وقال الخطيب حدثنا أبو الحسن علي بن أيوب إملاء منه حدثنا أبو عبدالله المرزباني وابن حيوية وابن شاذان قالوا حدثنا أبو عبدالله إبراهيم بن محمد بن عرفة نفطويه قال دخلت على محمد بن داود الأصبهاني في مرضه الذي مات فيه فقلت له كيف تجدك فقال حب من تعلم أورثني ما ترى فقلت ما منعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه فقال الاستمتاع على وجهين أحدهما النظر المباح والثاني اللذة المحظورة فأما النظر المباح فأورثني ما ترى وأما اللذة المحظورة فإنه منعني منها ما حدثني أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة قال الحاكم أبو عبدالله إنما أتعجب من هذا الحديث فإنه لم يحدث به غير سويد وهو وداود بن علي وابنه أبو بكر ثقات ثم رواه الخطيب حدثنا الأزهري حدثنا المعافى بن زكريا حدثنا قطبة بن الفضل بن إبراهيم الأنصاري حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق حدثنا سويد حدثنا ابن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا ورواه الزبير بن بكار عن عبدالملك بن عبدالعزيز بن الماجشون عن عبدالعزيز بن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي به ولفظه من عشق فعف فمات فهو شهيد رواه أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب اعتلال القلوب حدثنا أبو يوسف يعقوب بن عيسى من ولد عبدالرحمن بن عوف عن الزبير فذكره فخرج سويد

عن عهدة التفرد به على أنه لو تفرد به فهو ثقة احتج به مسلم في صحيحه وقال عبدالله بن أحمد قال لي أبي أكتب عنه حديث ضمام وقال البغوي كان حافظا وكان أحمد ينتقي لولديه عليه صالح وعبدالله فكانا يختلفان إليه وقال مسلم ثقة ثقة وقال أبو حاتم الرازي ويعقوب بن شيبة هو صدوق وأكثر ما عيب به التدليس وقد صرح هاهنا بالتحديث وعيب بأنه ذهب بصره في آخر عمره فربما أدخل عليه هذا الحديث في كتبه ولكن رواية الأكابر عنه هذا الحديث كان قبل ذهاب بصره لأنه إنما عمي في آخر عمره وليس هذا بقادح في حديثه
قلت وهذا حديث باطل على رسول الله قطعا لا يشبه كلامه وقد صح عنه أنه عد الشهداء ستا فلم يذكر فيهم قتيل العشق شهيدا ولا يمكن أن يكون كل قتيل بالعشق شهيدا فإنه قد يعشق عشقا يستحق عليه العقوبة وقد أنسكر حفاظ الإسلام هذا الحديث على سويد وقد تكلم الناس فيه فقال ابن المديني ليس بشيء والضرير إذا كان عنده كتب فهو عيب شديد وقال يعقوب بن شيبة صدوق مضطرب الحفظ ولا سيما بعد ما عمي وقال البخاري كان قد عمي فيلقن ما ليس من حديثه وقال أبو أحمد الجرجاني هذا الحديث أحد ما أنكر على سويد وأنكره البيهقي وأبو الفضل بن طاهر وأبو الفرج بن الجوزي وأدخله في كتابه الموضوعات
ولما رواه أبو بكر الأزرق عن سويد عاتبه عليه ابن المرزبان فأسقط ذكر

النبي منه وكان سويد إذا سئل عنه لا يرفعه وهذا أحسن أحواله أن يكون موقوفا ولذلك رواه أبو محمد الحسين القاري من حديث أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله وأما سياق الخطيب له من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها فلا يشك من شم رائحة الحديث أن هذا باطل على هشام عن أبيه عن عائشة ولا يحتمل هذا المتن هذا الإسناد بوجه والتحاكم في ذلك إلى أهل الحديث لا إلى العارين الغرباء منه والظاهر أن ابن مسروق سرقه وغير إسناده وأما حديث الزبير بن بكار فمن رواية يعقوب بن عيسى وهو ضعيف لا تقوم به حجة قد ضعفه أهل الحديث ونسبوه إلى الكذب

الباب الخامس عشر فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة
مذهبه
قال الله تعالى إخبارا عن المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا وقد أثنى الله عليهم سبحانه بهذا الدعاء الذي سألوه فيه أن لا يحملهم مالا طاقة لهم به وقد فسر ذلك بالعشق وليس المراد اختصاصه به بل المراد أن العشق مما لا طاقة للعبد به وقال مكحول هو شدة الغلمة وقال النبي لا ينبغي للمرء أن يذل نفسه قال الإمام أحمد تفسيره أن يتعرض من البلاء لما لا يطيق وهذا مطابق لحال العاشق فإنه أذل الناس لمعشوقه ولما يحصل به رضاه والحب مبناه على الذل والخضوع للمحبوب كما قيل
إخضع وذل لمن تحب فليس في ... شرع الهوى أنف يشال ويعقد
وقال آخر
مساكين أهل العشق حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر

وقال آخر
قالوا عهدناك ذا عز فقلت لهم ... لا يعجب الناس من ذل المحبينا
لا تنكروا ذلة العشاق إنهم ... مستعبدون برق الحب راضونا
قالوا وإذا اقتحم العبد بحر العشق ولعبت به أمواجه فهو إلى الهلاك أدنى منه إلى السلامة كما ذكر الخرائطي أنه كان بالمدينة جارية ظريفة فهويت رجلا من قريش وكان لا يفارقها ولا تفارقه فملها وزاد حبها له فسقمت وجعل مولاها لا يعبأ بشكواها ولا يرق لها حتى هامت على وجهها ومزقت ثيابها وأفضت إلى أمر عظيم فلما رأى ما صرت إليه عالجها فلم ينفع فيها العلاج وكانت تدور في السكك بالليل وتقول
ألحب أول ما يكون لجاجة ... تأتي به وتسوقه الأقدار
حتى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى ... جاءت أمور لا تطاق كبار
من ذا يطيق كما نطيق من الهوى ... غلب العزاء وباحت الأسرار
قال الخرائطي وأنشدني بعض أصحابنا
الحب أوله شيء يهيم به ... قلب المحب فيلقى الموت كاللعب
يكون مبدؤه من نظرة عرضت ... ومزحة أشعلت في القلب كاللهب
كالنار مبدؤها من قدحة فإذا ... تضرمت أحرقت مستجمع الحطب

قالوا وكيف يمدح أمر يمنع القرار ويسلب المنام ويوله العقل ويحدث الجنون بل هو نفسه جنون كما قال بعض الحكماء الجنون فنون والعشق فن من فنونه كما قال بعض العشاق
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... ألعشق أعظم مما بالمجانين
ألعشق لا يستفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
قالوا وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه وضيع أهله ومصالح دينه ودنياه قال الزبير بن بكار جاءت بدوية إلى أخت لها فقالت كيف بك من حب فلان قالت حرك والله حبه الساكن وسكن المتحرك ثم أنشأت تقول
فلو أن ما بي بالحصى فلق الحصى ... وبالريح لم يسمع لهن هبوب
ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تكتب علي ذنوب
فقلت والله لأسألنه كيف هو من حبك فجاءته فسألته فقال إنما الهوى هوان ولكنه خولف باسمه وإنما يعرف ذلك من استبكته المعالم والطلول
وأنشد أبو الفضل الربعي
قد أمطرت عيني دما فدماؤها ... بعد الدموع من الجفون هوامل
كيف العزاء ولا يزال من الضنى ... في الجسم مني والجوانح نازل
لهفي على زمن مضى تجتازني ... فيه صروف الدهر وهي عواقل
قالوا والعشق هو الداء الدوي الذي تذوب معه الأرواح ولا يقع معه

الارتياح بل هو بحر من ركبه غرق فإنه لا ساحل له ولا نجاة منه وهو الذي قال فيه القائل
وما أحد في الناس يحمد أمره ... فيوجد إلا وهو في الحب أحمق
وما أحد ما ذاق بؤس معيشة ... فيعشق إلا ذاقها حين يعشق
وقال العباس بن الأحنف
ويح المحبين ما أشقى نفوسهم ... إن كان مثل الذي بي بالمحبينا
يشقون في هذه الدنيا بعشقهم ... لا يرزقون به دنيا ولا دينا
وقال آخر
ألعشق مشغلة عن كل صالحة ... وسكرة العشق تنفي لذة الوسن
وقال محمد بن أبي محمد اليزيدي
كيف يطيق الناس وصف الهوى ... وهو جليل ما له قدر
بل كيف يصفو لحليف الهوى ... عيش وفيه البين والهجر
وقال محمد بن أمية
قرين الحب يأنس بالهموم ... ويكثر فكرة القلب السقيم
وأعظم ما يكون به اغتباطا ... على خطر ومطلع عظيم
وقال أبو تمام
أما الهوى فهو العذاب فإن جرت ... فيه النوى فأليم كل عذاب
وقال ابن أبي حصينة
والعشق يجتذب النفوس إلى الردى ... بالطبع واحسدي لمن لم يعشق

وقال ابن المعتز
الحب داء عضال لا دواء له ... يحار فيه الأطباء النحارير
قد كنت أحسب أن العاشقين غلوا ... في وصفه فإذا بالقوم تقصير
وقال أعرابي
ألا ما الهوى والحب بالشيء هكذا ... يذل به طوع اللسان فيوصف
ولكنه شيء قضى الله أنه ... هو الموت أو شيء من الموت أعنف
فأوله سقم وآخره ضنى ... وأوسطه شوق يشف ويتلف
وروع وتسهيد وهم وحسرة ... ووجد على وجد يزيد ويضعف
وقال عبدالمحسن الصوري
ما الحب إلا مسلك خطر ... عسر النجاة وموطىء زلق
وقال آخر
وكان ابتداء الذي بي مجونا ... فلما تمكن أمسى جنونا
وكنت أظن الهوى هينا ... فلاقيت منه عذابا مهينا
وقالت امرأة
رأيت الهوى حلوا إذا اجتمع الشمل ... ومرا على الهجران لا بل هو القتل
فمن لم يذق للهجر طعما فإنه ... إذا ذاق طعم الحب لم يدر ما الوصل
وقد ذقت طعميه على القرب والنوى ... فأبعده قتل وأقربه خبل

قالوا والعشق يترك الملك مملوكا والسلطان عبدا كما قال الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل وكان ملك الأندلس
ظل من فرط حبه مملوكا ... ولقد كان قبل ذاك مليكا
تركته جآذر القصر صبا ... مستهاما على الصعيد تريكا
يجعل الخد واضعا فوق ترب ... للذي يجعل الحرير أريكا
هكذا يحسن التذلل بالحر ... ر إذا كان في الهوى مملوكا
وقال الرشيد وقد عشق ثلاث جوار من جواريه ويقال إنه المأمون
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني
وقال بعض الملوك في جارية له عشقها وكانت كثيرة التجني عليه
أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو جهدت على تلافي ... لقلت من الرضا أحسنت زيدي
وقال ابن طاهر ملك خراسان
فإني وإن حنت إليك ضمائري ... فما قدر حبي أن يذل له قدري
وقال ابن الأحمر ملك الأندلس
أيا ربة الخدر التي أذهبت نسكي ... على كل حال أنت لا بد لي منك
فإما بذل وهو أليق بالهوى ... وإما بعز وهو أليق بالملك

قالوا وكم ممن هرب من الحب إلى مظان التلف ليتخلص من التلف بالتلف قال دعبل الشاعر كنت بالثغر فنودي بالنفير فخرجت مع الناس فإذا بفتى يجر رمحه بين يدي فالتفت فنظر إلي فقال أنت دعبل قلت نعم قال اسمع مني ثم أنشدني فقال
أنا في أمري رشاد ... بين غزو وجهاد
بدني يغزو عدوي ... والهوى يغزو فؤادي
ثم قال كيف ترى قلت جيد والله قال فوالله ما خرجت إلا هاربا من الحب ثم قاتل حتى قتل وقال أصرم بن حميد
نحن قوم تليننا الحدق النجل ... على أننا نلين الحديدا
طوع أيدي الظباء تقتادنا العين ... ونقتاد بالطعان الأسودا
تتقي سخطنا الليوث ونخشى ... صولة الخشف حين يبدي الصدودا
وترانا عند الكريهة أحرا ... را وفي السلم للغواني عبيدا
قالوا ورأينا الداخل فيه يتمنى منه الخلاص ولات حين مناص قال الخرائطي أنشدني أبو جعفر العبدي
إن الله نجاني من الحب لم أعد ... إليه ولم اقبل مقالة عاذلي
ومن لي بمنجاة من الحب بعدما ... رمتني دواعي الحب بين الحبائل
وقال أبو عبيدة الحبائل الموت قال وأنشدني أبو عبيدالله بن الدولابي
دعوت ربي دعاء فاستجاب له ... كما دعا ربه نوح وأيوب
أن ينزع الداء من صدري ويجعله ... في صدر سلمى وحمل الداء تعطيب

أو يشف قلبي سريعا من صبابته ... فلا أحن إذا حن المطاريب
قالوا وكم أكبت فتنة العشق رؤوسا على مناخرها في الجحيم وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم وجرعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين وكم أزالت من نعمة وأحلت من نقمة وكم أنزلت من معقل عزه عزيزا فإذا هو من الأذلين ووضعت من شريف رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل السافلين وكم كشفت من عورة وأحدثت من روعة وأعقبت من ألم وأحلت من ندم وكم أضرمت من نار حسرات أحرقت فيها الأكباد وأذهبت قدرا كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد وكم جلبت من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء فقل أن يفارقها زوال نعمة أو فجاءة نقمة أو تحويل عافية أو طروق بلية أو حدوث رزية فلو سألت النعم ما الذي أزالك والنقم ما الذي أدالك والهموم والأحزان ما الذي جلبك والعافية ما الذي أبعدك وجنبك والستر ما الذي كشفك والوجه ما الذي أذهب نورك وكسفك والحياة ما الذي كردك وشمس الإيمان ما الذي كورك وعزة النفس ما الذي أذلك وبالهوان بعد الإكرام بدلك لأجابتك بلسان الحال اعتبارا إن لم تجب بالمقال حوارا
هذه والله بعض جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون ويكفي اللبيب

موعظة واستبصارا ما قصه الله سبحانه وتعالى عليه في سورة الأعراف في شأن أصحاب الهوى المذموم تحذيرا واعتبارا فبدأ سبحانه وتعالى بهوى إبليس الحامل له على التكبر عن طاعة الله تعالى في أمره بالسجود لآدم فحمله هوى النفس وإعجابه بها على أن عصى أمره وتكبر على طاعته فكان من أمره ما كان ثم ذكر سبحانه هوى آدم حين رغب في الخلود في الجنة وحمله هواه على أن أكل من الشجرة التي نهي عنها وكان الحامل له على ذلك هوى النفس ومحبتها للخلود فكان عاقبة ذلك الهوى والشهوة إخراجه منها إلى دار التعب والنصب وقيل إنه إنما أكل منها طاعة لحواء فحمله حبه لها أن أطاعها ودخل في هواها وإنما توصل إليه عدوه من طريقها ودخل عليه من بابها فأول فتنة كانت في هذا العالم بسبب النساء
ثم ذكر سبحانه فتنة الكفار الذين أشركوا به ما لم ينزل به سلطانا وابتدعوا في دينه ما لم يشرعه وحرموا زينته التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وتعبدوا له بالفواحش وزعموا أنه أمرهم بها واتخذوا الشياطين أولياء من دونه والحامل لهم على ذلك كله الهوى والحب الفاسد وعليه حاربوا رسله وكذبوا كتبه وبذلوا أنفسهم وأموالهم وأهليهم دونه حتى خسروا الدنيا والآخرة ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة قوم نوح وما أصارهم إليه الهوى من الغرق في الدنيا ودخول النار في الآخرة ثم ذكر قصة عاد وما أفضى إليه بهم الهوى من الهلاك الفظيع والعقوبة المستمرة ثم قصة قوم صالح كذلك ثم قصة العشاق أئمة الفساق وناكحي الذكران وتاركي النسوان وكيف أخذهم وهم في خوضهم يلعبون وقطع دابرهم

وهم في سكر عشقهم يعمهون وكيف جمع عليهم من العقوبات ما لم يجمعه على أمة من الأمم أجمعين وجعلهم سلفا لإخوانهم اللوطية من المتقدمين والمتأخرين ولما تجرأوا على هذه المعصية ومردوا ونهجوا لإخوانهم طريقا وقاموا بأمرها وقعدوا ضجت الملائكة إلى الله من ذلك ضجيجا وعجت الأرض إلى ربها من هذا الأمر عجيجا وهربت الملائكة إلى أقطار السموات وشكتهم إلى الله جميع المخلوقات وهو سبحانه وتعالى قد حكم أنه لا يأخذ الظالمين إلا بعد إقامة الحجة عليهم والتقدم بالوعد والوعيد إليهم فأرسل إليهم رسوله الكريم يحذرهم من سوء صنيعهم وينذرهم عذابه الأليم فأذن رسول الله بالدعوة على رؤوس الملإ منهم والأشهاد وصاح بها بين أظهرهم في كل حاضر وباد وقال فكان في قوله لهم من أعظم الناصحين أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ثم أعاد لهم القول نصحا وتحذيرا وهم في سكرة عشقهم لا يعقلون إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون فأجاب العشاق جواب من أركس في هواه وغيه فقلبه بعشقه مفتون و قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فلما أن حان الوقت المعلوم وجاء ميقات نفوذ القدر المحتوم أرسل الرحمن تبارك وتعالى لتمام الإنعام والامتحان إلى بيت لوط ملائكة في صورة البشر وأجمل ما يكون من الصور وجاءوه في صورة الأضياف النزول بذي الصدر الرحيب ف سيء بهم

وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاء الصريخ إلى اللوطية أن لوطا قد نزل به شباب لم ينظر إلى مثل حسنهم وجمالهم الناظرون ولا رأى مثلهم الراؤون فنادى اللوطية بعضهم يعضا أن هلموا إلى منزل لوط ففيه قضاء الشهوات ونيل أكبر اللذات وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات فلما دخلوا إليه وهجموا عليه قال لهم وهو كظيم من الهم والغم وقلبه بالحزن عميد يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد فلما سمع اللوطية مقاله أجابوه جواب الفاجر المجاهر العنيد لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد فقال لهم لوط مقالة المضطهد الوحيد لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد فلما رأت رسل الله ما يقاسي نبيه من اللوطية كشفوا له عن حقيقة الحال وقالوا هون عليك يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فسر نبي الله سرور المحب وافاه الفرج بغتة على يد الحبيب وقيل له فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ولما أبوا إلا مراودته عن أضيافه ولم يرعوا حق الجار ضرب جبريل بجناحه على وجوههم فطمس منهم الأعين وأعمى الأبصار فخرجوا من عنده عميانا يتحسسون ويقولون ستعلم غدا ما يحل بك أيها

المجنون فلما انشق عمود الصبح جاء النداء من عند رب الأرباب أن اخسف بالأمة اللوطية وأذقهم أليم العذاب فاقتلع القوي الأمين جبريل مدائنهم على ريشة من جناحه ورفعها في الجو حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وأتبعوا الحجارة من سجيل وهو الطين المستحجر الشديد وخوف سبحانه إخوانهم على لسان رسوله من هذا الوعيد فقال تعالى فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد فهذه عاقبة اللوطية عشاق الصور وهم السلف وإخوانهم بعدهم على الأثر
وإن لم يكونوا قوم لوط بعينهم ... فما قوم لوط منهم ببعيد
وإنهم في الخسف ينتظرونهم ... على مورد من مهلة وصيد
يقولون لا أهلا ولا مرحبا بكم ... ألم يتقدم ربكم بوعيد
فقالوا بلى لكنكم قد سننتم ... صراطا لنا في العشق غير حميد
أتينا به الذكران من عشقنا لهم ... فأوردنا ذا العشق شر ورود
فأنتم بتضعيف العذاب أحق من ... متابعكم في ذاك غير رشيد
فقالوا وأنتم رسلكم أنذرتكم ... بما قد لقيناه بصدق وعيد
فما لكم فضل علينا فكلنا ... نذوق عذاب الهون جد شديد
كما كلنا قد ذاق لذة وصلهم ... ومجمعنا في النار غير بعيد
وكذلك قوم شعيب إنما حملهم على بخس المكيال والميزان فرط محبتهم للمال وغلبهم الهوى على طاعة نبيهم حتى أصابهم العذاب

وكذلك قوم فرعون حملهم الهوى والشهوة وعشق الرئاسة على تكذيب موسى حتى آل بهم الأمر إلى ما آل وكذلك أهل السبت الذين مسخوا قردة إنما أتوا من جهة محبة الحيتان وشهوة أكلها والحرص عليها وكذلك الذي آتاه الرب تبارك وتعالى آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين وقال تعالى ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث وتأمل قوله تعالى آتيناه آياتنا فأخبر أن ذلك إنما حصل له بإيتاء الرب له لا بتحصيله هو ثم قال فانسلخ منها ولم يقل فسلخناه بل أضاف الانسلاخ إليه وعبر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ الدالة على تخليه عنها بالكلية وهذا شأن الكافر وأما المؤمن ولو عصى الله تبارك وتعالى ما عصاه فإنه لا ينسلخ من الإيمان بالكلية ثم قال فأتبعه الشيطان ولم يقل فتبعه فإن في أتبعه إعلاما بأنه أدركه ولحقه كما قال الله تعالى فأتبعوهم مشرقين أي لحقوهم ووصلوا إليهم ثم قال ولو شئنا لرفعناه بها ففي ذلك دليل على أن مجرد العلم لا يرفع صاحبه فهذا قد أخبر الله سبحانه أنه آتاه آياته ولم يرفعه بها فالرفعة بالعلم قدر زائد على مجرد تعلمه ثم أخبر الله تعالى عن السبب الذي منعه أن يرفع بها فقال ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه وقوله أخلد إلى الأرض أي سكن إليها ونزل بطبعه إليها فكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية وبحسب ما يخلد العبد إلى الأرض يهبط من السماء قال سهل قسم الله الأعضاء من الهوى لكل عضو منه حظا فإذا مال عضو

منها إلى الهوى رجع ضرره إلى القلب وللنفس سبع حجب سماوية وسبع حجب أرضية فكلما دفن العبد نفسه أرضا أرضا سما قلبه سماء سماء فإذا دفن النفس تحت الثرى وصل القلب إلى العرش ثم ذكر سبحانه مثل المتبع لهواه كمثل الكلب الذي لا يفارقه اللهث في حالتي تركه والحمل عليه فهكذا هذا لا يفارقه اللهث على الدنيا راغبا وراهبا
والمقصود أن هذه السورة من أولها إلى آخرها في ذكر حال أهل الهوى والشهوات وما آل إليه أمرهم فالعشق والهوى أصل كل بلية قال عدي ابن ثابت كان في زمن بني إسرائيل راهب يعبد الله حتى كان يؤتى بالمجانين يعوذهم فيبرأون على يديه وإنه أتي بامرأة ذات شرف من قومها قد جنت وكان لها إخوة فأتوه بها فلم يزل الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت فلما استبان حملها لم يزل يخوفه ويزين له قتلها حتى قتلها ودفنها فذهب الشيطان في صورة رجل حتى أتى بعض إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب ثم أتى بقية إخوتها رجلا رجلا فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئا كبر علي ذكره فذكر ذلك بعضهم لبعض حتى رفعوا ذلك إلى ملكهم فسار الناس إليه حتى استنزلوه من صومعته فأقر لهم بالذي فعل فأمر به فصلب فلما رفع على الخشبة تمثل له الشيطان فقال أنا الذي زينت لك هذا وألقيتك فيه فهل أنت مطيعي فيما أقول لك وأخلصك قال

نعم قال تسجد لي سجدة واحدة فسجد له وقتل الرجل فهو قول الله تعالى كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين
وقال واصل مولى أبي عيينة دخلت على محمد بن سيرين فقال لي هل تزوجت فقلت لا قال وما يمنعك قلت قلة الشيء قال تزوج عبدالله بن محمد بن سيرين ولا شيء له فرزقه الله
ثم حدث أن امرأة من بني إسرائيل يقال لها ميسونة خاصمت إلى حبرين من بني إسرائيل فعلقاها قال وكان كل واحد منهما يكتم صاحبه ما يجد منها فأخبرا أنها في حائط تغتسل قال فجاءا فتسورا عليها الحائط فلما رأتهما دخلت غمرا من الماء فوارت نفسها فقالا لها إنك إن لم تفعلي غدونا فشهدنا عليك بالزور فأبت فشهدا عليها فلما قربت ليقام عليها الحد نزل الوحي على دانيال بتكذيبهما فهذا بعض فتنة العشق
وقد روى شعبة عن عبدالملك بن عمير قال سمعت مصعب بن سعد يقول كان سعد يعلمنا هذا الدعاء ويذكره عن النبي

اللهم إني أعوذ بك من فتنة النساء وأعوذ بك من عذاب القبر
وقال الحسن بن عرفة حدثنا أبو معاوية الضرير عن ليث عن طاوس عن ابن عباس
رضي الله عنهما قال إنه لم يكن كفر من مضى إلا من قبل النساء وهو كفر من بقي أيضا
وقد روى سفيان بن عيينة عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد
رضي الله عنهما قال قال رسول الله ما تركت على أمتي بعدي أضر على الرجال من النساء
وروى أبو إسحاق عن هبيرة بن يريم عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه قال قال رسول الله إن أخوف ما أخاف على أمتي الخمر والنساء وقال علي بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال ما أيس الشيطان من أحد قط إلا أتاه من قبل النساء
وروى سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
رضي الله عنهما قال قيل لآدم ما حملك على أكل الشجرة قال يا رب زينت لي حواء قال فإني قد عاقبتها لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها وأدميتها في الشهر مرتين

وقال ابن عباس رضي الله عنهما أو غيره أول فتنة بني إسرائيل كانت من قبل النساء
قالوا ويكفي من مضرة العشق ما اشتهر من مصارع العشاق وذلك موجود في كل زمان
فهذا بعض ما احتجت به هذه الفرقة لقولها ونحن نعقد للحكم بين الطائفتين بابا مستقلا بعون الله تعالى

الباب السادس عشر في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين
فنقول العشق لا يحمد مطلقا ولا يذم مطلقا وإنما يحمد ويذم باعتبار متعلقه فإن الإرادة تابعة لمرادها والحب تابع للمحبوب فمتى كان المحبوب مما يحب لذاته أو وسيلة توصله إلى ما يحب لذاته لم تذم المبالغة في محبته بل تحمد وصلاح حال المحب كذلك بحسب قوة محبته
ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبه كلها لله تعالى وحده بحيث يحب الله بكل قلبه وروحه وجوارحه فيوحد محبوبه ويوحد حبه وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب توحيد المحبوب أن المحبة لا تصح إلا بذلك فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه وتوحيد الحب أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له فهذا الحب وإن سمي عشقا فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله فلا يحب إلا الله كما في الحديث الصحيح ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار فأخبر أن

العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه ومحبة رسوله هي من محبته ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبة الله وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها وتصدق هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئا فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر كان الله أحب إليه من نفسه وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم بل لا نظير لهذه المحبة كما لا مثل لمن تعلقت به وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد وتقتضي كمال اللذة والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان
ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركا شركا لا يغفره الله كما قال الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله والصحيح أن معنى الآية والذين آمنوا أشد حبا لله من أهل الأنداد لأندادهم كما تقدم بيانه أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا كما لا يماثل محبوبهم غيره وكل آذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته
ومن ضرب لمحبته الأمثال التي هي في محبة المخلوق للمخلوق كالوصل والهجر والتجني بلا سبب من المحب وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علوا كبيرا فهو مخطئ أقبح الخطإوأفحشه وهو حقيق بالإبعاد والمقت والآفة إنما هي من

نفسه وقلة أدبه مع محبوبه والله تعالى نهى أن يضرب عباده له الأمثال فهو لا يقاس بخلقه وما ابتدع من ابتدع إلا من ضرب الأمثال له سبحانه فأصحاب الكلام المحدث المبتدع ضربوا له الأمثال الباطلة في الخبر عنه وما يوصف به وأصحاب الإرادة المنحرفة ضربوا له الأمثال في الإرادة والطلب وكلاهما على بدعة وخطإ
والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقا ممدوحا مثابا عليه وذلك أنواع أحدها محبة القرآن بحيث يغني بسماعه عن سماع غيره ويهيم قلبه في معانيه ومراد المتكلم سبحانه منه وعلى قدر محبة الله تكون محبة كلامه فمن أحب محبوبا أحب حديثه والحديث عنه كما قيل
إن كنت تزعم حبي ... فلم هجرت كتابي
أما تأملت ما فيه ... من لذيذ خطابي
وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى من علامة محبته فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه بل لا ينساه فيحتاج إلى من يذكره به وكذلك يحب سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه فعشق هذا كله من أنفع العشق وهو غاية سعادة العاشق وكذلك عشق العلم النافع وعشق أوصاف الكمال من الكرم والجود والعفة والشجاعة والصبر ومكارم الأخلاق فإن هذه الصفات لو صورت صورا لكانت من أجمل الصور وأبهاها ولو صور العلم صورة لكانت أجمل من صورة الشمس والقمر ولكن عشق هذه الصفات إنما يناسب الأنفس الشريفة الزكية كما أن محبة الله ورسوله وكلامه ودينه إنما تناسب الأرواح العلوية السمائية الزكية لا الأرواح الأرضية الدنية فإذا أردت أن تعرف قيمة العبد وقدره فانظر إلى محبوبه ومراده واعلم أن العشق المحمود لا يعرض فيه شيىء من الآفات المذكورة

بقي هاهنا قسم آخر وهو عشق محمود يترتب عليه مفارقة المعشوق كمن يعشق امرأته أو أمته فيفارقها بموت أو غيره فيذهب المعشوق ويبقى العشق كما هو فهذا نوع من الابتلاء إن صبر صاحبه واحتسب نال ثواب الصابرين وإن سخط وجزع فاته معشوقه وثوابه وإن قابل هذه البلوى بالرضا والتسليم فدرجته فوق درجة الصبر وأعلى من ذلك أن يقابلها بالشكر نظرا إلى حسن اختيار لله له فإنه ما يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له فإذا علم أن هذا القضاء خير له اقتضى ذلك شكره لله على ذلك الخير الذي قضاه له وإن لم يعلم كونه خير له فليسلم للصادق المصدوق في خبره المؤكد باليمين حيث يقول والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن وإيمان العبد يأمره بأن يعتقد بأن ذلك القضاء خير له وذلك يقتضي شكر من قضاه وقدره وبالله التوفيق

الباب السابع عشر في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله
ورسوله
قال الله تعالى تعالى عقيب ذكره ما أحل لعباده من الزوجات والإماء وما حرم عليهم يريد الله ليبين لكم ويهدكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا أي لا يصبر عن النساء كما ذكر الثوري عن ابن طاوس عن أبيه وخلق الإنسان ضعيفا قال إذا نظر إلى النساء لم يصبر وكذلك قال غير واحد من السلف ولما كانت الشهوة في هذا الباب غالبة لا بد أن توجب ما يوجب التوبة كرر سبحانه وتعالى ذكر التوبة مرتين فأخبر أن متبعي الشهوات يريدون من عباده أن يميلوا ميلا عظيما وأخبر سبحانه وتعالى أنه يريد التخفيف عنا لضعفنا فأباح لنا أن ننكح ما طاب لنا من أطايب النساء أربعا وأن نتسرى من الإماء بما شئنا
ولما كان العبد له في هذا الباب ثلاثة أحوال حالة جهل بما يحل له ويحرم عليه وحالة تقصير وتفريط وحالة ضعف وقلة صبر قابل سبحانه جهل عبده بالبيان والهدى وتقصيره وتفريطه بالتوبة وضعفه وقلة صبره بالتخفيف

وقال عبدالله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه حدثنا أبو معمر حدثنا يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله جعلت قرة عيني في الصلاة وحبب إلي النساء والطيب الجائع يشبع والظمآن يروى وأنا لا أشبع من حب الصلاة والنساء وأصله في صحيح مسلم بدون هذه الزيادة
وفي صحيح مسلم من حديث عروة عن عائشة
رضي الله عنها قالت لما أصاب رسول الله سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبت على نفسها وكانت امرأة جميلة حلوة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله تستعينه على كتابتها قالت فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب الحجرة فكرهتها وعلمت أن رسول الله يرى منها ما رأيت فقالت يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فجئت رسول الله أستعينه قال فهل لك في غير ذلك قالت وما هو

قال أقضي كتابتك وأتزوجك قالت نعم يا رسول الله قد فعلت وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله تزوج جويرية بنت الحارث فقال الناس أصهار رسول الله فأرسلوا ما بأيديهم قالت فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها
وقال عبدالله بن عمر
رضي الله عنهما خرج سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة فما ملكت نفس أن قمت إليها فقبلتها
وفي الصحيحين من حديث أنس
رضي الله عنه قال قدم رسول الله خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي وقد قتل زوجها وكانت عروسا فاصطفاها رسول الله لنفسه فخرج بها حتى بلغا سد الروحاء فبنى بها ثم صنع حيسا في نطع صغير ثم قال رسول الله آذن من حولك فكانت تلك وليمة رسول الله على صفية ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت رسول الله يحوى لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته

فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب وعند أبي داود في هذه القصة قال وقع في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول الله بسبعة أرؤس ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها وتهيئها وتعتد في بيتها وهي صفية بنت حيي
وقال أبو عبيدة حج عبدالملك بن مروان ومعه خالد بن يزيد بن معاوية وكان خالد هذا من رجالات قريش المعدودين وكان عظيم القدر عند عبدالملك فبينما هو يطوف بالبيت إذ بصر برملة بنت الزبير بن العوام فعشقها عشقا شديدا ووقعت بقلبه وقوعا متمكنا فلما أراد عبدالملك القفول هم خالد بالتخلف عنه فوقع بقلب عبدالملك تهمة فبعث إليه فسأله عن أمره فقال يا أمير المؤمنين رملة بنت الزبير رأيتها تطوف بالبيت فأذهلت عقلي والله ما أبديت إليك ما بي حتى عيل صبري ولقد عرضت النوم على عيني فلم تقبله والسلو على قلبي فامتنع عنه فأطال عبدالملك التعجب من ذلك وقال ما كنت أقول إن الهوى يستأسر مثلك قال فإني لأشد تعجبا من تعجبك مني ولقد كنت أقول إن الهوى لا يتمكن إلا من صنفين من الناس الشعراء والأعراب أما الشعراء فإنهم ألزموا قلوبهم الفكر في النساء ووصفهن والتغزل فمال طبعهم إلى النساء فضعفت قلوبهم عن دفع الهوى فاستسلموا إليه منقادين وأما الإعراب فإن أحدهم يخلو بامرأته فلا يكون الغالب عليه غير حبه لها ولا يشغله عنه شيء فضعفوا عن دفع الهوى فتمكن منهم فما رأيت نظرة حالت بيني وبين الحزم وحسنت عندي ركوب الإثم مثل نظرتي هذه فتبسم عبدالملك فقال أفكل هذا قد بلغ بك فقال والله ما عرتني هذه البلية قبل وقتي

هذا فوجه عبدالملك إلى الزبير يخطب رملة على خالد فذكروا لها ذلك فقالت لا والله أو يطلق نساءه فطلق امرأتين كانتا عنده وظعن بها إلى الشام وكان يقول
أليس يزيد الشوق في كل ليلة ... وفي كل يوم من حبيبتنا قربا
خليلي ما من ساعة تذكرانها ... من الدهر إلا فرجت عني الكربا
أحب بني العوام طرا لحبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالا يجول ولا قلبا
وذكر الخرائطي أن بشر بن مروان كان إذا ضرب البعث على أحد من جنده ثم وجده قد أخل بمركزه أقامه على كرسي ثم سمر يديه في الحائط ثم انتزع الكرسي من تحت رجليه فلا يزال يتشحط حتى يموت وأنه ضرب البعث على رجل عاشق حديث عهد بعرس ابنة عمه فلما صار في مركزه كتب إلى ابنة عمه كتابا ثم كتب في أسفله
لولا مخافة بشر أو عقوبته ... وأن يرى بعد ذا في الكف مسمار
إذا لعطلت ثغري ثم زرتكم ... إن المحب إذا ما اشتاق زوار
فلما ورد عليها الكتاب أجابته عنه ثم كتبت في أسفله

ليس المحب الذي يخشى العقاب ولو ... كانت عقوبته في فجوة النار
بل المحب الذي لا شيء يفزعه ... أو يستقر ومن يهواه في الدار
فلما قرأ الكتاب قال لا خير في الحياة بعد هذا وأقبل حتى دخل المدينة فأتى بشر بن مروان في وقت غدائه فلما فرغ من غدائه أدخل عليه فقال ما الذي دعاك إلى تعطيل ثغرك أما سمعت النداء فقال اسمع عذري فإما عفوت وإما عاقبت فقال ويلك وهل لك من عذر فقص عليه قصته وقصة ابنة عمه فقال أولى لكما يا غلام خط على اسمه من البعث وأعطه عشرة آلاف درهم والحق بابنة عمك
سهرت ومن أهدى لي الشوق نائم ... وعذب قلبي بالهوى وهو سالم
فواحسرتا حتى متى أنا قائل ... لمن لامني في حبكم أنت ظالم
وحتى متى أخفي الهوى وأسره ... وأدفن شوقي في الحشا وأكاتم
أريد الذي قد سركم بمساءتي ... ليغفل واش أو ليعذر لائم
وقال آخر
بي لا بها ما أقاسي من تجنيا ... ومن جوى الحب في الأحشاء أفديها
والله يعلم أني لا أسر بأن ... تلقى من الوجد ما لاقيته فيها
خوف البكاء كما أبكي فتتركني ... أبكي على كبدي طورا وأبكيها
وقال العباس بن هشام الكلبي ضرب عبدالملك بن مروان بعثا إلى اليمن فأقاموا سنين حتى إذا كان ذات ليلة وهو بدمشق قال والله لأعسن الليلة مدينة دمشق ولأسمعن الناس ماذا يقولون في البعث الذي أغزيت فيه

رجالهم وأغرمتهم أموالهم فبينما هو في بعض أزقتها إذ هو بصوت امرأة قائمة تصلي فتسمع إليها فلما انصرفت إلى مضجعها قالت اللهم مسير النجب ومنزل الكتب ومعطي الرغب أسألك أن ترد لي غائبي فتكشف به همي وتقر به عيني وأسألك أن تحكم بيني وبين عبدالملك بن مروان الذي فعل بنا هذا ثم أنشأت تقول
تطاول هذا الليل فالعين تدمع ... وأرقني حزن لقلبي موجع
فبت أقاسي الليل أرعى نجومه ... وبات فؤادي بالجوى يتقطع
إذا غاب منها كوكب في مغيبه ... لمحت بعيني كوكبا حين يطلع
إذا ما تذكرت الذي كان بيننا ... وجدت فؤادي حسرة يتصدع
وكل حبيب ذاكر لحبيبه ... يرجي لقاه كل يوم ويطمع
فذا العرش فرج ما ترى من صبابتي ... فأنت الذي يدعو العباد فيسمع
دعوتك في السراء والضر دعوة ... على حاجة بين الشراسيف تلذع
فقال عبدالملك لحاجبه تعرف هذا المنزل قال نعم هذا منزل يزيد بن سنان قال فما المرأة منه قال زوجته فلما أصبح سأل كم تصبر المرأة عن زوجها قالوا ستة أشهر

وقال جرير بن حازم عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير قال كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إذا أمسى أخذ درته ثم طاف بالمدينة فإذا رأى شيئا ينكره أنكره فبينما هو ذات ليلة يعس إذ مر بامرأة على سطح وهي تقول
تطاول هذا الليل واخضل جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا رب غيره ... لحرك من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصدني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
ثم تنفست الصعداء وقالت لهان على عمر بن الخطاب ما لقيت الليلة فضرب باب الدار فقالت من هذا الذي يأتي إلى امرأة مغيبة هذه الساعة فقال افتحي فأبت فلما أكثر عليها قالت أما والله لو بلغ أمير المؤمنين لعاقبك فلما رأى عفافها قال افتحي فأنا أمير المؤمنين قالت كذبت ما أنت أمير المؤمنين فرفع بها صوته وجهر لها فعرفت أنه هو ففتحت له فقال هيه كيف قلت فأعادت عليه ما قالت فقال أين زوجك قالت في بعث كذا وكذا فبعث إلى عامل ذلك الجند أن سرح فلان بن فلان فلما قدم عليه قال اذهب إلى أهلك ثم دخل على حفصة ابنته فقال أي بنية كم تصبر المرأة عن زوجها قالت شهرا واثنين وثلاثة وفي الرابع ينفد الصبر فجعل ذلك أجلا للبعث وهذا مطابق لجعل الله سبحانه وتعالى

مدة الإيلاء أربعة أشهر فإنه سبحانه وتعالى علم أن صبر المرأة يضعف بعد الأربعة ولا تحتمل قوة صبرها أكثر من هذه المدة فجعلها أجلا للمولي وخيرها بعد الأربعة إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فسخت نكاحه فإذا مضت الأربعة أشهر عيل صبرها قال الشاعر
ولما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر

الباب الثامن عشر في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب
العالمين
قد جعل الله سبحانه وتعالى لكل داء دواء ويسر الوصال إلى ذلك الدواء شرعا وقدرا فمن أراد التداوي بما شرعه الله له واستعان عليه بالقدر وأتى الأمر من بابه صادف الشفاء ومن طلب الدواء بما منعه منه شرعا وإن امتحنه به قدرا فقد أخطأ طريق المداواة وكان كالمتداوي من داء بداء أعظم منه وقد تقدم حديث طاوس عن ابن عباس
رضي الله عنهما عن النبي أنه قال لم ير للمتحابين مثل النكاح وقد اتفق رأي العقلاء من الأطباء وغيرهم في مواضع الأدوية أن شفاء هذا الداء في التقاء الروحين والتصاق البدنين وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله رأى امرأة فأتى زينب فقضى حاجته منها وقال إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه وذكر إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله أنه كان يقول يا معشر خولان زوجوا شبابكم وإماءكم فإن الغلمة أمر عارم فأعدوا عدتها واعلموا أنه ليس لمنعظ إذن يريد أنه إذا

استأذن عليه فلا إذن له وذكر العتبي أن رجلا من ولد عثمان ورجلا من ولد الحسين خرجا يريدان موضعا لهما فنزلا تحت سرحة فأخذ أحدهما فكتب عليها
خبرينا خصصت بالغيث يا سر ... ح بصدق والصدق فيه شفاء
وكتب الآخر
هل يموت المحب من ألم الحبب ... ويشفى من الحبيب اللقاء
ثم مضيا فلما رجعا وجدا مكتوبا تحت ذلك
إن جهلا سؤالك السرح عما ... ليس يوما عليك فيه خفاء
ليس للعاشق المحب من الحبب ... سوى لذة اللقاء شفاء
وقال أبو جعفر العذري
لسكر الهوى أروى لعظمي ومفصلي ... إذا سكر الندمان من لذة الخمر
وأحسن من قرع المثاني ونقرها ... تراجيع صوت الثغر يقرع بالثغر
ولما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر
وقال عبدالله بن صالح كان الليث بن سعد إذا أراد الجماع خلا في منزل في داره ودعا بثوب يقال له الهركان وكان يلبسه إذ ذاك وكان إذا خلا في ذلك المنزل علم أنه يريد أمرا وكان إذا غشي أهله قال اللهم شد لي أصله

وارفع لي صدره وسهل علي مدخله ومخرجه وارزقني لذته وهب لي ذرية صالحة تقاتل في سبيلك قال وكان جهوريا فكان يسمع ذلك منه رضي الله عنه
وقال الخرائطي حدثنا عمارة بن وثيمة قال حدثني أبي قال كان عبدالله بن ربيعة من خيار قريش صلاحا وعفة وكان ذكره لا يرقد فلم يكن يشهد لقريش خيرا ولا شرا وكان يتزوج المرأة فلا تمكث معه إلا أياما حتى تهرب إلى أهلها فقالت زينب بنت عمر بن أبي سلمة مالهن يهربن من ابن عمهن قيل لها إنهن لا يطقنه قالت فما يمنعه مني فأنا والله العظيمة الخلق الكبيرة العجز الفخمة الفرج قال فتزوجها فصبرت عليه وولدت له ستة من الولد
وقال رشيد بن سعد عن زهرة بن معبد عن محمد بن المنكدر أنه كان يدعو في صلاته اللهم قوي لي ذكري فإن فيه صلاحا لأهلي وقال حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال كان لأنس بن مالك غلام وكان شيخا كبيرا فرافعته امرأته إلى أنس وقالت لا أطيقه ففرض له عليها ستة في اليوم والليلة
وقال علي بن عاصم حدثنا خالد الحذاء قال لما خلق الله آدم وخلق حواء قال له يا آدم اسكن إلى زوجك فقالت له حواء يا آدم ما أطيب هذا زدنا منه وفي الصحيح أن سليمان بن داود عليهما السلام طاف في ليلة واحدة على تسعين امرأة وفي الصحيحين أن رسول الله كان يطوف على نسائه في الليلةالواحدة وهن تسع نسوة وربما كان يطوف عليهن بغسل واحد وربما كان يغتسل عند كل واحدة منهن
وقال المروذي قال أبو عبدالله يعني أحمد بن حنبل ليس العزوبة

من أمر الإسلام في شيء النبي تزوج أربع عشرة ومات عن تسع ولو تزوج بشر بن الحارث لتم أمره ولو ترك الناس النكاح لم يكن غزو ولا حج ولا كذا ولا كذا وقد كان النبي يصبح وما عندهم شيء ومات عن تسع وكان يختار النكاح ويحث عليه ونهى عن التبتل فمن رغب عن سنة النبي فهو على غير الحق ويعقوب في حزنه قد تزوج وولد له والنبي قال حبب إلي النساء قلت له فإن إبراهيم بن أدهم يحكى عنه أنه قال لروعة صاحب العيال فما قدرت أن أتم الحديث حتى صاح بي وقال وقعت في بنيات الطريق أنظر ما كان عليه محمد وأصحابه ثم قال بكاء الصبي بين يدي أبيه يطلب منه الخبز أفضل من كذا وكذا أين يلحق المتعبد العزب انتهى كلامه
وقد اختلف الفقهاء هل يجب على الزوج مجامعة امرأته فقالت طائفة لا يجب عليه ذلك فإنه حق له فإن شاء استوفاه وإن شاء تركه بمنزلة من استأجر دارا إن شاء سكنها وإن شاء تركها
وهذا من أضعف الأقوال والقرآن والسنة والعرف والقياس يرده أما القرآن فإن الله سبحانه وتعالى قال ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف فأخبر أن للمرأة من الحق مثل الذي عليها فإذا كان الجماع حقا للزوج عليها فهو حق على الزوج بنص القرآن وأيضا فإنه سبحانه وتعالى أمر الأزواج أن

يعاشروا الزوجات بالمعروف ومن ضد المعروف أن يكون عنده شابة شهوتها تعدل شهوة الرجل أو تزيد عليها بأضعاف مضاعفة ولا يذيقها لذة الوطء مرة واحدة ومن زعم أن هذا من المعروف كفاه طبعه ردا عليه والله سبحانه وتعالى إنما أباح للأزواج إمساك نسائهم على هذا الوجه لا على غيره فقال تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان
وقالت طائفة يجب عليه وطؤها في العمر مرة واحدة ليستقر لها بذلك الصداق وهذا من جنس القول الأول وهذا باطل من وجه آخر فإن المقصود إنما هو المعاشرة بالمعروف والصداق دخل في العقد تعظيما لحرمته وفرقا بينه وبين السفاح فوجوب المقصود بالنكاح أقوى من وجوب الصداق
وقالت طائفة ثالثة يجب عليه أن يطأها في كل أربعة أشهر مرة واحتجوا على ذلك بأن الله سبحانه وتعالى أباح للمولي تربص أربعة أشهر وخير المرأة بعد ذلك إن شاءت أن تقيم عنده وإن شاءت أن تفارقه فلو كان لها حق في الوطء أكثر من ذلك لم يجعل للزوج تركه في تلك المدة وهذا القول وإن كان أقرب من القولين اللذين قبله فليس أيضا بصحيح فإنه غير المعروف الذي لها وعليها وأما جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر فنظرا منه سبحانه للأزواج فإن الرجل قد يحتاج إلى ترك وطء امرأته مدة لعارض من سفر أو تأديب أو راحة نفس أو اشتغال بمهم فجعل الله سبحانه وتعالى له أجلا أربعة أشهر ولا يلزم من ذلك أن يكون الوطء مؤقتا في كل أربعة أشهر مرة
وقالت طائفة أخرى بل يجب عليه أن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها

ويكسوها ويعاشرها بالمعروف بل هذا عمدة المعاشرة ومقصودها وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يعاشرها بالمعروف فالوطء داخل في هذه المعاشرة ولا بد قالوا وعليه أن يشبعها وطئا إذا أمكنه ذلك كما عليه أن يشبعها قوتا وكان شيخنا رحمه الله تعالى يرجح هذا القول ويختاره
وقد حض النبي على استعمال هذا الدواء ورغب فيه وعلق عليه الأجر وجعله صدقة لفاعله فقال وفي بضع أحدكم صدقة ومن تراجم النسائي على هذا الترغيب في المباضعة ثم ذكر هذا الحديث ففي هذا كمال اللذة وكمال الإحسان إلى الحبيبة وحصول الأجر وثواب الصدقة وفرح النفس وذهاب أفكارها الرديئة عنها وخفة الروح وذهاب كثافتها وغلظها وخفة الجسم واعتدال المزاج وجلب الصحة ودفع المواد الرديئة فإن صادف ذلك وجها حسنا وخلقا دمثا وعشقا وافرا ورغبة تامة واحتسابا للثواب فذلك اللذة التي لا يعادلها شيء ولا سيما إذا وافقت كمالها فإنها لا تكمل حتى يأخذ كل جزء من البدن بقسطه من اللذة فتلتذ العين بالنظر إلى المحبوب والأذن بسماع كلامه والأنف بشم رائحته والفم بتقبيله واليد بلمسه وتعتكف كل جارحة على ما تطلبه من لذتها وتقابله من المحبوب فإن فقد من ذلك شيء لم تزل النفس متطلعة إليه متقاضية له فلا تسكن كل السكون ولذلك تسمى المرأة سكنا لسكون النفس إلينا قال الله تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ولذلك فضل

جماع النهار على جماع الليل ولسبب آخر طبيعي وهو أن الليل وقت تبرد فيه الحواس وتطلب حظها من السكون والنهار محل انتشار الحركات كما قال الله تعالى وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا وقال الله تعالى هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه وتمام النعمة في ذلك فرحة المحب برضاء ربه تعالى بذلك واحتساب هذه اللذة عنده ورجاء تثقيل ميزانه ولذلك كان أحب شيء إلى الشيطان أن يفرق بين الرجل وبين حبيبه ليتوصل إلى تعويض كل منهما عن صاحبه بالحرام كما في السنن عنه أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي إن إبليس ينصب عرشه على الماء ثم يبث سراياه في الناس فأقربهم منه منزلة أعظمهم فتنة فيقول أحدهم ما زلت به حتى زنى فيقول يتوب فيقول الآخر ما زلت به حتى فرقت بينه وبين أهله فيدنيه ويلتزمه ويقول نعم أنت نعم أنت فهذا الوصال لما كان أحب شيء إلى الله ورسوله كان أبغض شيء إلى عدو الله فهو يسعى في التفريق بين المتحابين في الله المحبة التي يحبها الله ويؤلف بين الاثنين في المحبة التي يبغضها الله ويسخطها وأكثر العشاق من جنده وعسكره ويرتقي بهم الحال حتى

يصير هو من جندهم وعسكرهم يقود لهم ويزين لهم الفواحش ويؤلف بينهم عليها كما قيل
عجبت من إبليس في نخوته ... وقبح ما أظهر من سيرته
تاه على آدم في سجدة ... وصار قوادا لذريته
وقد أرشد النبي الشباب الذين هم مظنة العشق إلى أنفع أدويتهم ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود
رضي الله عنه قال قال رسول الله يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج
وفي لفظ آخر ذكره أبو عبيد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله
رضي الله عنه عن النبي عليكم بالباءة وذكر الحديث وبين اللفظين فرق فإن الأول يقتضي أمر العزب بالتزويج والثاني يقتضي أمر المتزوج بالباءة والباءة اسم من أسماء الوطء وقوله من استطاع منكم الباءة فليتزوج فسرت الباءة بالوطء وفسرت بمؤن النكاح ولا ينافي التفسير الأول إذ المعنى على هذا مؤن الباءة ثم قال ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء فأرشدهم إلى الدواء الشافي الذي وضع لهذا الأمر ثم نقلهم عنه عند العجز إلى البدل وهو الصوم فإنه يكسر شهوة النفس ويضيق عليها مجاري الشهوة فإن هذه الشهوة تقوى بكثرة الغذاء وكيفيته فكمية الغذاء وكيفيته يزيدان في توليدها والصوم يضيق عليها ذلك فيصير بمنزلة وجاء الفحل وقل من أدمن الصوم إلا وماتت شهوته أو ضعفت

جدا والصوم المشروع يعدلها واعتدالها حسنة بين سيئتين ووسط بين طرفين مذمومين وهما العنة والغلمة الشديدة المفرطة وكلاهما خارج عن الاعتدال وكلا طرفي قصد الأمور ذميم وخير الأمور أوساطها والأخلاق الفاضلة كلها وسط بين طرفي إفراط وتفريط وكذلك الدين المستقيم وسط بين انحرافين وكذلك السنة وسط بين بدعتين وكذلك الصواب في مسائل النزاع إذا شئت أن تحظى به فهو القول الوسط بين الطرفين المتباعدين وليس هذا موضع تفصيل هذه الجملة فإنا لم نقصد له وبالله التوفيق

الباب التاسع عشر في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كل حال
إعلم أن الجمال ينقسم قسمين ظاهر وباطن فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته كما في الحديث الصحيح إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وهذا الجمال الباطن يزين الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمال فتكسوا صاحبها من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتست روحه من تلك الصفات فإن المؤمن يعطى مهابة وحلاوة بحسب إيمانه فمن رآه هابه ومن خالطه أحبه وهذا أمر مشهود بالعيان فإنك ترى الرجل الصالح المحسن ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورة وإن كان أسود أو غير جميل ولا سيما إذا رزق حظا من صلاة الليل فإنها تنور الوجه وتحسنه
وقد كان بعض النساء تكثر صلاة الليل فقل لها في ذلك فقالت إنها تحسن الوجه وأنا أحب أن يحسن وجهي ومما يدل على أن الجمال الباطن أحسن من الظاهر أن القلوب لا تنفك عن تعظيم صاحبه ومحبته والميل إليه فصل
وأما الجمال الظاهر فزينة خص الله بها بعض الصور عن بعض وهي من

زيادة الخلق التي قال الله تعالى فيها يزيد في الخلق ما يشاء قالوا هو الصوت الحسن والصورة الحسنة والقلوب كالمطبوعة على محبته كما هي مفطورة على استحسانه
وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قالوا يا رسول الله الرجل يحب أن تكون نعله حسنة وثوبه حسنا أفذلك من الكبر فقال لا إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس فبطر الحق جحده ودفعه بعد معرفته وغمط الناس النظر إليهم بعين الازدراء والاحتقار والاستصغار لهم ولا بأس بهذا إذا كان لله وعلامته أن يكون لنفسه أشد ازدراء واستصغارا منه لهم فأما إن احتقرهم لعظمة نفسه عنده فهو الذي لا يدخل صاحبه الجنة فصل
وكما أن الجمال الباطن من أعظم نعم الله تعالى على عبده فالجمال الظاهر نعمة منه أيضا على عبده يوجب شكرا فإن شكره بتقواه وصيانته ازداد جمالا على جماله وإن استعمل جماله في معاصيه سبحانه قلبه له شيئا ظاهرا في الدنيا قبل الآخرة فتعود تلك المحاسن وحشة وقبحا وشينا وينفر عنه من رآه فكل من لم يتق الله
تعالى في حسنه وجماله انقلب قبحا وشينا يشينه به بين الناس فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره وقبح الباطن يعلو جمال الظاهر ويستره
يا حسن الوجه توق الخنا ... لا تبدلن الزين بالشين

ويا قبيح الوجه كن محسنا ... لا تجمعن بين قبيحين
وكان النبي يدعو الناس إلى جمال الباطن بجمال الظاهر كما قال جرير بن عبدالله وكان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه يسميه يوسف هذه الأمة قال قال لي رسول الله أنت امرء قد حسن الله خلقك فأحسن خلقك وقال بعض الحكماء ينبغي للعبد أن ينظر كل يوم في المرآة فإن رأى صورته حسنة لم يشنها بقبيح فعله وإن رآها قبيحة لم يجمع بين قبح الصورة وقبح الفعل
ولما كان الجمال من حيث هو محبوبا للنفوس معظما في القلوب لم يبعث الله نبيا إلا جميل الصورة حسن الوجه كريم الحسب حسن الصوت كذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
وكان النبي أجمل خلق الله وأحسنهم وجها كما قال البراء بن عازب
رضي الله عنه وقد سئل أكان وجه رسول الله مثل السيف قال لا بل مثل القمر
وفي صفته كأن الشمس تجري في وجهه يقول واصفه لم أر قبله ولا بعده مثله
وقال ربيعة الجرشي قسم الحسن نصفين فبين سارة ويوسف نصف الحسن ونصف الحسن بين سائر الناس وفي الصحيح عنه أنه رأى يوسف ليلة الإسراء وقد أعطي شطر الحسن وكان رسول الله يستحب أن يكون الرسول الذي يرسل إليه حسن الوجه حسن

الاسم وكان يقول إذا أبردتم إلي بريدا فليكن حسن الوجه حسن الاسم
وقد روى الخرائطي من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس
رضي الله عنهما يرفعه من آتاه الله وجها حسنا واسما حسنا وخلقا حسنا وجعله في موضع غير شائن له فهو من صفوة الله من خلقه وقال وهب قال داود يا رب أي عبادك أحب إليك قال مؤمن حسن الصورة قال فأي عبادك أبغض إليك قال كافر قبيح الصورة
ويذكر عن عائشة
رضي الله عنها أن رسول الله كان ينتظره نفر من أصحابه على الباب فجعل ينظر في الماء ويسوي شعره ولحيته ثم خرج إليهم فقلت يا رسول الله وأنت تفعل هذا قال نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيىء من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال وقال يحيى بن أبي كثير دخل رجل على معاوية غمصا يعني رمص العينين فحط من عطائه فقال ما يمنع أحدكم إذا خرج من منزله أن يتعاهد أديم وجهه وكانت عائشة بنت طلحة من أجمل أهل زمانها أو أجملهم فقال أنس بن مالك والله ما رأيت أحسن منك إلا معاوية على منبر رسول الله فقالت والله لأنا أحسن من النار في عين المقرور في الليلة القارة

ودخل عليها أنس يوما في حاجة فقال إن القوم يريدون أن يدخلو اعليك فينظروا إلى جمالك قالت أفلا قلت ليس فألبس ثيابي
وكان مصعب بن الزبير من أجمل الناس وكان يحسد الناس على الجمال فبينا هو يخطب يوما إذ دخل ابن جودان من ناحية الأزد وكان جميلا فأعرض بوجهه عن تلك الناحية إلى ناحية أخرى فدخل ابن حمران من تلك الناحية وكان جميلا فرمى ببصره إلى مؤخر المسجد فدخل الحسن البصري وكان من أجمل الناس فنزل مصعب عن المنبر
وخرج نسوة يوم العيد ينظرون إلى الناس فقيل لهن من أحسن من مر بكن قلن شيخ عليه عمامة سوداء يعنين الحسن البصري وأخذ مصعب ابن الزبير رجلا من أصحاب المختار فأمر بضرب عنقه فقال الرجل أيها الأمير ما أقبح من أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك هذا الذي يستضاء به فأتعلق بأطرافك وأقول يا رب سل مصعبا فيم قتلني فقال مصعب أطلقوه فقال الرجل أيها الأمير اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض فقال مصعب أعطوه مائة ألف درهم فقال إني أشهد الله أن لعبدالرحمن بن قيس الرقيات نصفها قال مصعب ولم ذلك قال لقوله
إنما مصعب شهاب من الل ... ه تجلت عن وجهه الظلماء
فضحك مصعب وقال إن فيك لموضعا للصنيعة وأمره بلزومه
وقال الزبير بن بكار حدثنا مصعب الزبيري حدثنا عبدالرحمن بن أبي الحسن قال خرج أبو حازم يرمي الجمار ومعه قوم متعبدون وهو يكلمهم

ويحدثهم ويقص عليهم فبينما هو يمشي وهم معه إذ نظر إلى فتاة مستترة بخمارها ترمي الناس بطرفها يمنة ويسرة وقد شغلت الناس وهم ينظرون إليها مبهوتين وقد خبط بعضهم بعضا في الطريق فرآها أبو حازم فقال يا هذه اتقي الله فإنك في مشعر من مشاعر الله عظيم وقد فتنت الناس فاضربي بخمارك على جيبك فإن الله تعالى يقول وليضربن بخمرهن على جيوبهن فأقبلت تضحك من كلامه وقالت إني والله
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فاقبل أبو حازم على أصحابه وقال تعالوا ندعو الله أن لا يعذب هذه الصورة الحسناء بالنار فجعل يدعو وأصحابه يؤمنون
وقال ضمرة بن ربيعة عن عبدالله بن شوذب دخلت امرأة جميلة على الحسن البصري فقالت يا أبا سعيد ينبغي للرجال أن يتزوجوا على النساء قال نعم قالت وعلى مثلي ثم أسفرت عن وجه لم ير مثله حسنا وقالت يا أبا سعيد لا تفتوا الرجال بهذا ثم ولت فقال الحسن ما على رجل كانت هذه في زاوية بيته ما فاته من الدنيا

وقال عبدالملك بن قريب كنت في بعض مياه العرب فسمعت الناس يقولون قد جاءت قد جاءت فتحول الناس فقمت معهم فإذا جارية قد وردت الماء ما رأيت مثلها قط في حسن وجهها وتمام خلقها فلما رأت تشوف الناس إليها أرسلت برقعها فكأنه غمامة غطت شمسا فقلت لم تمنعيننا النظر إلى وجهك هذا الحسن فأنشأت تقول
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ونظر إليها أعرابي فقال أنا والله ممن قل صبره ثم قال
أوحشية العينين أين لك الأهل ... أبالحزن حلوا أم محلهم السهل
وأية أرض أخرجتك فإنني ... أراك من الفردوس إن فتش الأصل
قفي خبرينا ما طعمت وما الذي ... شربت ومن أين استقل بك الرحل
لأن علامات الجنان مبينة ... عليك وإن الشكل يشبهه الشكل
تناهيت حسنا في النساء فإن يكن ... لبدر الدجى نسل فأنت له نسل
وقال آخر
يا منسي المحزون أحزانه ... لما أتته في المعزينا
إستقبلتهن بتمثالها ... فقمن يضحكن ويبكينا

حق لهذا الوجه أن يزدهي ... عن حزنه من كان محزونا
وقال آخر
أنيري مكان البدر إن أفل البدر ... وقومي مقام الشمس ما استأخر الفجر
ففيك من الشمس المنيرة ضوؤها ... وليس لها منك التبسم والثغر
وقال آخر
رقادي يا طرفي عليك حرام ... فخل دموعا فيضهن سجام
ففي الدمع إطفاء لنار صبابة ... لها بين أحناء الضلوع ضرام
ويا كبدي الحرى التي قد تصدع ... ت من الوجد ذوبي ما عليك ملام
ويا وجه من ذلت وجوه أعزة ... له وزهى عزا فليس يرام
أجر مستجيرا في الهوى باسطا ... إليك يديه والعيون نيام
وذكر الخرائطي عن بعض العلويين قال بينا أنا عند الحسن بن هانىء وهو ينشد
ويلي على سود العيون ... النهد الضمر البطون
الناطقات عن الضمي ... ر لنا بألسنة الجفون
فوقف عليه أعرابي ومعه بنيه فقال أعد علي فأعاد عليه فقال يا ابن أخي ويلك أنت وحدك من هذا ويلي أنا وأنت وويل ابني هذا وويل هذه الجماعة وويل جيراننا كلهم

وقال الخرائطي حدثنا يموت بن المزرع حدثنا محمد بن حميد حدثنا محمد بن سلمة قال حدثني أبي قال أتيت عبدالعزيز بن المطلب أسأله عن بيعة الجن للنبي بمسجد الأحزاب ما كان بدؤها فوجدته مستلقيا يتغنى
فما روصة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
من الخفرات البيض لم تلق شقوة ... وبالحسب المكنون صاف نجارها
فإن برزت كانت لعينيك قرة ... وإن غبت عنها لم يعمك عارها
فقلت له أتغني أصلحك الله وأنت في جلالك وشرفك فقال أما والله لأحملنها ركبان نجد قال فوالله ما اكترث بي وعاد يتغنى
فما ظبية أدماء خفاقة الحشا ... تجوب بظلفيها متون الخمائل
بأحسن منها إذ تقول تدللا ... وأدمعها تذرين حشو المكاحل
تمتع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيام الصدود الأطاول
قال فندمت على قولي وقلت له أصلحك الله أتحدثني في هذا بشيء قال نعم حدثني أبي قال دخلت على سالم بن عبدالله بن عمر
رضي الله عنهم وأشعب يغنيه

مغيرية كالبدر سنة وجهها ... مطهرة الأثواب والعرض وافر
لها حسب زاك وعرض مهذب ... وعن كل مكروه من الأمر زاجر
من الخفرات البيض لم تلق ريبة ... ولم يستملها عن تقى الله شاعر
فقال له سالم زدني فغناه
ألمت بنا والليل داج كأنه ... جناح غراب عنه قد نفض القطرا
فقلت أعطار ثوى في رحالنا ... وما احتملت ليلى سوى طيبها عطرا
فقال له سالم والله لولا أن تتداوله الرواة لأجزلت جائزتك فإنك من هذا الأمر بمكان
قال الخرائطي حدثنا العباس بن الفضل عن بعض أصحابه قال حججت سنة من السنين فإني لبالربذة إذ وقفت علينا جارية على وجهها برقع فقالت يا معشر الحجيج نفر من هذيل ذهب بنعمهم السيل وقعدت بهم الأيام ما بهم نجعة فمن يراقب فيهم الدار الآخرة ويعرف لهم حق الأخوة جزاه الله خيرا قال فرضخنا لها فقلت لها هل قلت في ذلك شيئا فأنشأت تقول
كف الزمان توسدتنا عنوة ... شلت أناملها عن الأعراب
قوم إذا حل العفاة ببابهم ... ألفوا نوافلهم بغير حساب
فقلنا لها لو أمتعتينا بالنظر إلى وجهك فكشفت البرقع عن وجه لا والله لا تهتدي العقول لوصفه فلما رأتنا قد بهتنا لحسنها أنشأت تقول

الدهر أبدى صفحة قد صانها ... أبواي قبل تمرس الأيام
فتمتعوا بعيونكم في حسنها ... وانهوا جوارحكم عن الآثام
ثم انصرفت وكان محمد بن حميد الطوسي يهوى جارية فأرسل إليها مرة أترجة فبكت بكاء شديدا فقيل لها يوجه إليك من تحبينه بهدية فتبكين هذا البكاء فغنت
أهدى له أحبابه أترجة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر
خاف التلون والفراق لأنها ... لونان باطنها خلاف الظاهر
فلما جاءه الرسول أخبره عنها بما أغاظه فكتب إليها
ضيعت عهد فتى لغيبك حافظ ... في حفظه عجب وفي تضييعك
وصددت عنه وماله من حيلة ... إلا الوقوف إلى أوان رجوعك
إن تقتليه وتذهبي بحياته ... فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك
فلما وافتها الرقعة بكت حتى رحمها من حولها ثم اندفعت تقول
هل لعيني إلى الرقاد شفيع ... إن قلبي من السقام مروع
لا تراني بخلت عنك بدمع ... لا وحق الحبيب مالي دموع
إن قلبي إليك صب حزين ... فاستراحت إلى الأنين الضلوع
ليس في العطف يا حبيبي بدع ... إنما هجر من يحب بديع

ثم كتبت إليه أنا مملوكة لا أملك من أمري شيئا فإذا كان لك في حاجة فاشترني لأكون طوع يديك فاشتراها فمكثت عنده وكانت من أحظى إمائه حتى قتل في وقعة بابك الخرمي فكانت تتمثل في رثائه بقول أبي تمام
محمد بن حميد أخلقت رممه ... أريق ماء المعالي مذ أريق دمه
رأيته بنجاد السيف محتبيا ... في النوم بدرا جلت عن وجهه ظلمه
فقلت والدمع من حزن ومن كمد ... يجري انسكابا على الخدين منسجمه
ألم تمت يا شقيق النفس مذ زمن ... فقال لي لم يمت من لم يمت كرمه فصل
وهذا فصل في ذكر حقيقة الحسن والجمال ما هي وهذا أمر لا يدرك إلا بالوصف وقد قيل إنه تناسب الخلقة واعتدالها واستواؤها ورب صورة متناسبة الخلقة وليست في الحسن هناك وقد قيل الحسن في الوجه والملاحة في العينين وقيل الحسن أمر مركب من أشياء وضاءة وصباحة وحسن تشكيل وتخطيط ودموية في البشرة وقيل الحسن معنى لا تناله العبارة ولا يحيط به الوصف وإنما للناس منه أوصاف أمكن التعبير عنها وقد كان رسول الله في الذروة العليا منه ونظرت إليه عائشة
رضي الله عنها ثم تبسمت فسألها مم ذاك فقالت كأن أبا كبير الهذلي إنما عناك بقوله

ومبرإ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
ولقي بعض الصحابة راهبا فقال صف لي محمدا كأني أنظر إليه فإني رأيت صفته في التوراة والإنجيل فقال لم يكن بالطويل البائن ولا بالقصير فوق الربعة أبيض اللون مشربا بالحمرة جعدا ليس بالقطط جمته إلى شحمة أذنه صلت الجبين واضح الخد أدعج العينين أقنى الأنف مفلج الثنايا كأن عنقه إبريق فضة ووجهه كدارة القمر فأسلم الراهب وفي صفة هند بن أبي هالة له لم يكن بالطويل الممغط ولا بالقصير المتردد كان ربعة من الرجال ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم وكان في الوجه تدوير أبيض مشرب أدعج العينين أهدب الأشفار جليل المشاش والكتد شثن الكفين والقدمين دقيق المسربة إذا مشى تقلع كأنما ينحط من صبب وإذا التفت التفت جميعا كأن الشمس تجري

في وجهه وكان مع هذا الحسن قد ألقيت عليه المحبة والمهابة فمن وقعت عليه عيناه أحبه وهابه وكمل الله سبحانه له مراتب الجمال ظاهرا وباطنا وكان أحسن خلق الله خلقا وخلقا وأجملهم صورة ومعنى وهكذا كان يوسف الصديق ولهذا قالت امرأة العزيز للنسوة لما أرتهن إياه ليعذرنها في محبته فذلكن الذي لمتنني فيه أي هذا هو الذي فتنت به وشغفت بحبه فمن يلومني على محبته وهذا حسن منظره ثم قالت ولقد راودته عن نفسه فاستعصم أي فمنع هذا الجمال فباطنه أحسن من ظاهره فإنه في غاية العفة والنزاهة والبعد عن الخنا والمحب وإن غيب محبوبه فلا يجري لسانه إلا بمحاسنه ومدحه ويتعلق بهذا قوله تعالى في صفة أهل الجنة ولقاهم نضرة وسرورا فجمل ظواهرهم بالنضرة وبواطنهم بالسرور ومثله قوله وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فإنه لا شيء أشهى إليهم وأقر لعيونهم وأنعم لبواطنهم من النظر إليه فنضر وجوههم بالحسن ونعم قلوبهم بالنظر إليه وقريب منه قوله تعالى وحلوا

أساور من فضة فهذا زينة الظاهر ثم قال وسقاهم ربهم شرابا طهورا أي مطهرا لبواطنهم من كل أذى فهذا زينة الباطن ويشبهه قوله تعالى يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا فهذا زينة الظاهر ثم قال ولباس التقوى ذلك خير فهذا زينة الباطن وينظر إليه من طرف خفي قوله تعالى وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا فزين ظاهرها بالمصابيح وباطنها بحفظها من الشياطين وقريب منه قوله تعالى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى فذكر الزاد الظاهر والزاد الباطن وهذا من زينة القرآن الباطنة المضافة إلى زينة ألفاظه وفصاحته وبلاغته الظاهرة ومنه قوله تعالى لآدم إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فقابل بين الجوع والعري دون الجوع والظمإ وبين الظمإ والضحى دون الظمإ والجوع فإن الجوع عري الباطن وذله والعري جوع الظاهر وذله فقابل بين نفي ذل باطنه وظاهره وجوع باطنه وظاهره والظمأ حر الباطن والضحى حر الظاهر فقابل بينهما وسئل المتنبي عن قول امرئ القيس
كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبإ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
فقيل له إنه عيب عليه مقابلة سبي الزق الروي بالكر وكان الأحسن مقابلته بتبطن الكاعب جمعا بين اللذتين وكذلك مقابلة ركوب الجواد للكر أحسن من مقابلته لتبطن الكاعب فقال بل الذي أتى به أحسن فإنه قابل مركوب الشجاعة بمركوب اللذة واللهو فهذا مركب الطرب وهذا مركب الحرب والطلب وكذلك قابل بين السباءين سباء الزق وسباء الرق
قلت وأيضا فإن الشارب يفتخر بالشجاعة كما قال حسان
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا منا ينهنهنا اللقاء
وهذه جملة اعتراضية من ألطف الاعتراض
وقيل الحسن ما استنطق أفواه الناظرين بالتسبيح والتهليل كما قيل
ذي طلعة سبحان فالق صبحه ... ومعاطف جلت يمين الغارس
وقال علي بن الجهم
طلعت فقال الناظرون إلى ... تصويرها ما أعظم الله
ودنت فلما سلمت خجلت ... والتف بالتفاح خداها
وكأن دعص الرمل أسفلها ... وكأن غصن البان أعلاها

حتى إذا ثملت بنشوتها ... قرأت كتاب الباه عيناها
وقال آخر
ذو صورة بشرية قمرية ... تستنطق الأفواه بالتسبيح
وقال آخر
وإذا بدت في بعض حاجتها ... تستنطق الأفواه بالتسبيح
وقال بشار
تلقى بتسبيحة من حسن ما خلقت ... وتستفز حشا الرائي بإرعاد
ولي من أبيات
يا صورة البدر ولا الذي ... صور ليس البدر يحكيك
مني على العين ولا تبخلي ... بنظرة فالعين تفديك
وإن تحرجت لهذا فكم ... قد سبح الرحمن رائيك
هذا بهذا فارتجي أجر من ... إن غبت عنه ظل يبكيك
قال ابن شبرمة كفاك من الحسن أنه مشتق من الحسنة وقال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه إذا تم بياض المرأة في حسن شعرها فقد تم حسنها وقالت عائشة رضي الله عنها البياض شطر الحسن وقال بعض السلف جعل الله البهاء والهوج مع الطول والدهاء والدمامة مع القصر والخير فيما بين ذلك
ومما يذم في النساء المرأة القصيرة الغليظة وهي التي عناها الشاعر بقوله
وأنت التي حببت كل قصيرة ... إلي ولم تشعر بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار النسا شر النساء البحاتر

والبحاتر هن النساء القصار الغلاظ وبعضهم يبالغ في هذا حتى يفضل المهازيل على السمان
أنشد الزمخشري
لا أعشق الأبيض المنفوخ من سمن ... لكنني أعشق السمر المهازيلا
إني امرؤ أركب المهر المضمر في ... يوم الرهان فدعني واركب الفيلا
وطائفة تفضل السمان وتقول السمن نصف الحسن وهو يستر كل عيب في المرأة ويبدي محاسنها وخيار الأمور أوساطها
ومما يستحسن في المرأة طول أربعة وهن أطرافها وقامتها وشعرها وعنقها وقصر أربعة يدها ورجلها ولسانها وعينها فلا تبذل ما في بيت زوجها ولا تخرج من بيتها ولا تستطيل بلسانها ولا تطمح بعينها وبياض أربعة لونها وفرقها وثغرها وبياض عينها وسواد أربعة أهدابها وحاجبها وعينها وشعرها وحمرة أربعة لسانها وخدها وشفتها مع لعس وإشراب بياضها بحمرة ودقة أربعة أنفها وبنانها وخصرها وحاجبها وغلظ أربعة ساقها ومعصمها وعجيزتها وذاك منها وسعة أربعة جبينها ووجهها وعينها وصدرها وضيق أربعة فمها ومنخرها وخرق أذنها وذاك منها فهذه أحق النساء بقول كثير
لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها

وقال آخر
لو أبصر الوجه منها وهو منهزم ... ليلا وأعداؤه من خلفه وقفا
وقال آخر
يا طيب مرعى مقلة لم تخف ... بوجنتيها زجر حراس
حلت بوجه لم يغض ماؤه ... ولم تخضه أعين الناس
وقال آخر
فلم يزل خدها ركنا ألوذ به ... والخال في خدها يغني عن الحجر
وقول الآخر وأنشده المبرد
وأحسن من ربع ومن وصف دمنة ... ومن جبلى طي ومن وصفكم سلعا
تلاحظ عيني عاشقين كلاهما ... له مقلة في خد معشوقه ترعى
وأنشد ثعلب
خزاعية الأطراف مرية الحشا ... فزارية العينين طائية الفم
ومكية في الطيب والعطر دائما ... تبدت لنا بين الحطيم وزمزم
ثم قال وصفها بما يستحسن من كل قبيلة
وقال صالح بن حسان يوما لأصحابه هل تعرفون بيتا من الغزل في امرأة خفرة قلنا نعم بيت لحاتم في زوجته ماوية
يضيء لها البيت الظليل خصاصه ... إذا هي يوما حاولت أن تبسما

قال ما صنعتم شيئا قلنا فبيت الأعشى
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
قال جعلها تدخل وتخرج قلنا يا أبا محمد فأي بيت هو قال قول أبي قيس بن الأسلت
ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتعتل عن إتيانهن فتعذر
قلت وأحسن من هذا كله ما قاله إبراهيم بن محمد الملقب بنفطويه
رحمه الله
وخبرها الواشون أن خيالها ... إذا نمت يغشى مضجعي ووسادي
فخفرها فرط الحياء فأرسلت ... تعيرني غضبى بطول رقادي
ومما يستحسن في المرأة رقة أديمها ونعومة ملمسه كما قال قيس بن ذريح
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهد
فزاد كما زدنا فأصبح ناميا ... فليس وإن متنا بمنفصم العهد
ولكنه باق على كل حادث ... ومؤنسنا في ظلمة القبر واللحد
يكاد مسيل الماء يخدش جلدها ... إذا اغتسلت بالماء من رقة الجلد
قلت ومن المبالغة في معنى البيت الأخير قول أبي نواس
توهمه قلبي فأصبح خده ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر
ومر بقلبي خاطر فجرحته ... ولم أر جسما قط يجرحه الفكر
وصافحه كفي فآلم كفه ... فمن غمز كفي في أنامله عقر

ولي من أبيات
يدمي الحرير أديمها من مسه ... فأديمها منه أرق وأنعم فصل
فيا أيها العاشق سمعه قبل طرفه فإن الأذن تعشق قبل العين أحيانا وجيش المحبة قد يدخل المدينة من باب السمع كما يدخلها من باب البصر والمؤمنون يشتاقون إلى الجنة وما رأوها ولو رأوها لكانوا أشد لها شوقا والصرورة يكاد قلبه يذوب شوقا إلى رؤية البيت الحرام فإن شاقتك هذه الصفات وأخذت بقلبك هذه المحاسن
فاسم بعينيك إلى نسوة ... مهورهن العمل الصالح
وحدث النفس بعشق الألى ... في عشقهن المتجر الرابح
واعمل على الوصل فقد أمكنت ... أسبابه ووقتها رائح فصل
وقد وصف الله سبحانه حور الجنة بأحسن الصفات وحلاهن بأحسن الحلي وشوق الخطاب إليهن حتى كأنهم يرونهن رؤية العين قال الطبراني حدثنا بكر بن سهل الدمياطي حدثنا عمرو بن هشام البيروني حدثنا سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة
رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى حور عين قال حور بيض عين ضخام العيون شعر الحوراء بمنزلة

جناح النسر قلت أخبرني عن قوله تعالى كأمثال اللؤلؤ المكنون قال صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي قلت يا رسول الله أخبرني عن قوله فيهن خيرات حسان قال خيرات الأخلاق حسان الوجوه قلت أخبرني عن قوله كأنهن بيض مكنون قال رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر وهو الغرقىء قلت يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى عربا أترابا قال هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز رمصا شمطا خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عربا متعشقات متحببات أترابا على ميلاد واحد قلت يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين قال بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة قلت يا رسول الله وبم ذلك قال بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الألوان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن نحن الخالدات فلا نموت نحن الناعمات فلا نبأس أبدا نحن المقيمات فلا نظعن أبدا ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا قلت يا رسول الله المرأة منا تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها قال يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا فتقول أي رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقا في دار الدنيا فزوجنيه يا أم سلمة ذهب

حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة فصل
وقد وصفهن الله
تعالى بأنهن كواعب وهو جمع كاعب وهي المرأة التي قد تكعب ثديها واستدار ولم يتدل إلى أسفل وهذا من أحسن خلق النساء وهو ملازم لسن الشباب ووصفهن بالحور وهو حسن ألوانهن وبياضه قالت عائشة رضي الله عنها البياض نصف الحسن وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا تم بياض المرأة في حسن شعرها فقد تم حسنها والعرب تمدح المرأة بالبياض قال الشاعر
بيض أوانس ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الحديث زوانيا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام
والعين جمع عيناء وهي المرأة الواسعة العين مع شدة سوادها وصفاء بياضها وطول أهدابها وسوادها ووصفهن بأنهن خيرات حسان وهو جمع خيرة وأصلها خيرة بالتشديد كطيبة ثم خفف الحرف وهي التي قد جمعت المحاسن ظاهرا وباطنا فكمل خلقها وخلقها فهن خيرات الأخلاق حسان الوجوه ووصفهن بالطهارة فقال ولهم فيها أزواج مطهرة طهرن من الحيض والبول والنجو

وكل أذى يكون في نساء الدنيا وطهرت بواطنهن من الغيرة وأذى الأزواج وتجنيهن عليهم وإرادة غيرهم ووصفهن بأنهن مقصورات في الخيام أي ممنوعات من التبرج والتبذل لغير أزواجهن بل قد قصرن على أزواجهن لا يخرجن من منازلهم وقصرن عليهم فلا يردن سواهم ووصفهن سبحانه بأنهن قاصرات الطرف وهذه الصفة أكمل من الأولى ولهذا كن لأهل الجنتين الأوليين فالمرأة منهن قد قصرت طرفها على زوجها من محبتها له ورضاها به فلا يتجاوز طرفها عنه إلى غيره كما قيل
أذود سوام الطرف عنك وماله ... على أحد إلا عليك طريق
وكذلك حال المقصورات أيضا لكن أولئك مقصورات وهؤلاء قاصرات ووصفهن سبحانه بقوله أبكارا عربا أترابا وذلك لفضل وطء البكر وحلاوته ولذاذته على وطء الثيب قالت عائشة
رضي الله عنها يا رسول الله لو مررت بشجرة قد رعي منها وشجرة لم يرع منها ففي أيهما كنت ترتع بعيرك فقال في التي لم يرع منها تعني أنه لم يتزوج بكرا غيرها وصح عنه أنه قال لجابر لما تزوج امرأة ثيبا هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك فإن قيل فهذه الصفة تزول بأول وطء فتعود ثيبا قيل

الجواب من وجهين أحدهما أن المقصود من وطء البكر أنها لم تذق أحدا قبل وطئها فتزرع محبته في قلبها وذلك أكمل لدوام العشرة فهذه بالنسبة إليها وأما بالنسبة إلى الواطىء فإنه يرعى روضة أنفا لم يرعها أحد قبله وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ثم بعد هذا تستمر له لذة الوطء حال زوال البكارة والثاني أنه قد روي أن أهل الجنة كلما وطىء أحدهم امرأة عادت بكرا كما كانت فكلما أتاها وجدها بكرا وأما العرب فجمع عروب وهي التي جمعت إلى حلاوة الصورة حسن التأني والتبعل والتحبب إلى الزوج بدلها وحديثها وحلاوة منطقها وحسن حركاتها قال البخاري في صحيحه وأما الأتراب فجمع ترب يقال فلان تربي إذا كنتما في سن واحد فهن مستويات في سن الشباب لم يقصر بهن الصغر ولم يزر بهن الكبر بل سنهن سن الشباب وشبههن تعالى باللؤلؤ المكنون وبالبيض المكنون وبالياقوت والمرجان فخذ من اللؤلؤ صفاء لونه وحسن بياضه ونعومة ملمسه وخذ من البيض المكنون وهو المصون الذي لم تنله الأيدي اعتدال بياضه وشوبه بما يحسنه من قليل صفرة بخلاف الأبيض الأمهق المتجاوز في البياض وخذ من الياقوت والمرجان حسن لونه في صفائه وإشرابه بيسير من الحمرة

فصل
فاسمع الآن وصفهن عن الصادق المصدوق فإن مالت النفس وحدثتك بالخطبة وإلا فالإيمان مدخول فروى مسلم في صحيحه من حديث أيوب عن محمد بن سيرين قال إما تفاخروا وإما تذاكروا الرجال في الجنة أكثر أم النساء فقال أبو هريرة
رضي الله عنه أو لم يقل أبو القاسم إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلةالبدر والتي تليها على أضواء كوكب دري في السماء إضاءة لكل امرىء منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم وما في الجنة أعزب
وقال الطبراني في معجمه حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني والحسن بن علي القسوي قال حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا فضل بن مرزوق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبدالله
رضي الله عنه عن النبي قال أول زمرة يدخلون الجنة كأن وجوههم صورة القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على أحسن كوكب دري في السماء لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ سوقهما من وراء لحومهما وحللهما كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء قال الحافظ أبو عبدالله المقدسي هذا عندي على شرط الصحيح

وفي الصحيحين من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون فيها ولا يتغوطون فيها آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشية
وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا يونس بن محمد حدثنا الخزرج بن عثمان السعدي حدثنا أبو أيوب مولى عثمان بن عفان
رضي الله عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله قيد سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها ولنصيف امرأة من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها قال قلت يا أبا هريرة وما النصيف قال الخمار فإذا كان هذا قدر الخمار فما قدر لابه !
وقال ابن وهب أخبرنا عمرو أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه قال قال رسول الله إن الرجل في الجنة لتأتيه امرأة تضرب على منكبيه فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب فتسلم عليه فيرد عليها السلام ويسألها من أنت فتقول أنا

المزيد وإنه ليكون عليها سبعون ثوبا أدناها مثل النعمان فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك وإن عليهم التيجان وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب وبعض هذا الحديث في جامع الترمذي وهو على شرطه
وفي صحيح البخاري من حديث أنس
رضي الله عنه أن رسول الله قال لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم أو موضع قيده يعني سوطه خير من الدنيا وما فيها ولو اطلعت امرأة من نساء الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا وأضاءت ما بينهما ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها
وفي المسند من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين على كل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب
وقال ابن وهب حدثنا عمرو أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه عن النبي قال إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنان وسبعون زوجة وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء رواه الترمذي
وفي معجم الطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي قال خلق الحور العين من الزعفران

فصل
فإن أردت سماع غنائهن فاسمع خبره الآن ففي معجم الطبراني من حديث ابن عمر
رضي الله عنهما قال قال رسول الله إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط إن مما يغنين به نحن الخيرات الحسان أزواج قوم كرام ينظرون بقرة أعيان وإن مما يغنين به نحن الخالدات فلا نمتته نحن الآمنات فلا نخفنه نحن المقيمات فلا نظعنه وقد قيل في قوله تعالى فهم في روضة يحبرون إنه السماع الطيب ولا ريب أنه من الحبرة
وقال عبدالله بن محمد البغوي حدثنا علي أنبأنا زهير عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي
رضي الله عنه قال وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان فعمدوا إلى إحداهما فكأنما أمروا به فشربوا منها فأذهب الله ما في بطونهم من قذى أو أذى أو بأس ثم عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة النعيم ولم تتغير أشعارهم بعدها أبدا ولم تشعث رؤوسهم كأنما ادهنوا بالدهان ثم انتهوا إلى خزنة

الجنة فقالوا سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ثم تلقاهم الولدان يطيفون بهم كما يطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم يقدم عليهم من غيبته فيقولون له أبشر بما أعد الله تعالى لك من الكرامة ثم ينطلق غلام من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين فيقول جاء فلان باسمه الذي كان يدعى به في الدنيا قالت أنت رأيته قال أنا رأيته وهو بأثرى فيستخف إحداهن الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه صرح أخضر وأحمر وأصفر من كل لون ثم رفع رأسه فنظر إلى سقفه فإذا مثل البرق ولولا أن الله تعالى قدره لألم أن يذهب بصره ثم طأطأ رأسه فإذا أزواجه وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة ثم اتكأوا فقالوا الحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ثم ينادي مناد تحيون فلا تموتون أبدا وتقيمون فلا تظعنون أبدا وتصحون فلا تمرضون أبدا
وفي سنن ابن ماجه عن أسامة بن زيد
رضي الله عنهما قال قال رسول الله ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة

نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام في أبد في دار سليمة وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية قالوا نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها قال قولوا إن شاء الله فقال القوم إن شاء الله تعالى فصل
فهذا وصفهن وحسنهن فاسمع الآن لذة وصالهن وشأنه ففي مسند أبي يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه قال قال رسول الله فذكر حديثا طويلا وفيه فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعتني في أهل الجنة يدخلون الجنة فيقول الله تعالى قد شفعتك وأذنت لهم في دخول الجنة وكان رسول الله يقول والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم فيدخل رجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشىء الله وثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ ا لله بعبادتهما الله في الدنيا يدخل على الأولى منهما في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجا من سندس وإستبرق وإنه ليضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها وإنه لينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبده لها مرآة يعني وكبدها له مرآة فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ما يفتر ذكره ولا يشتكي قبلها فبينا هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل إلا أنه لا مني ولا منية إلا أن يكون لك أزواج غيرها فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة كلما جاء واحدة قالت والله ما في الجنة شيء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"