بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 5 أبريل 2010

نبذ من كتاب "الفوائد لابن القيم/2

والمقصود انه سبحانه جعل لنا الارض كالجمل الذلول الذي كيفما يقاد ينقاد وحسن التعبير بمناكبها عن طرقها وفجاجها لما تقدم من وصفها بكونها ذلولا فالماشي عليها يطأ علي مناكبها وهو أعلى شيء فيها ولهذا فسرت المناكب بالجبل كمناكب الانسان وهي أعاليه قالوا وذلك تنبيه علي أن المشي في سهولها أيسر وقالت طائفة بل المناكب الجوانب والنواحي ومنه مناكب الانسان لجوانبه والذي يظهر ان المراد بالمناكب الأعالي وهذا الوجه الذي يمشي عليه الحيوان هو العالي من الارض دون الوجه المقابل له فان سطح الكره أعلاها والمشي انما يقع في سطحها وحسن التعبير عنه بالمناكب لما تقدم من وصفها بأنها ذلول ثم أمرهم أن يأكلوا من رزقه الذي أودعه فيها فذللها لهم ووطأها وفتق فيها السبل والطرق التي يمشون فيها وأودعها رزقهم فذكر تهيئة المسكن للانتفاع والتقلب فيه بالذهاب والمجيء والأكل مما أودع فيها للساكن ثم نبه بقوله وإليه النشور على انا في هذا المسكن غير مستوطنين ولا مقيمين بل دخلناه عابري سبيل فلا يحسن ان نتخذه وطنا ومستقرا وإنما دخلناه لنتزود منه الى دار القرار فهو منزل عبور لا مستقر حبور ومعبر وممر لا وطن ومستقر فتضمنت الآية الدلالة على ربوبيته ووحدانيته وقدرته وحكمته ولطفه والتذكير بنعمه واحسانه والتحذير من الركون الى الدنيا واتخاذها وطنا ومستقرا بل نسرع فيها السير الى داره وجنته فالله في ما ضمن هذه الآية من معرفته وتوحيده والتذكير بنعمه والحث على السير اليه والاستعداد للقائه والقدوم عليه والاعلام بأنه سبحانه يطوي هذه الدار كأن لم تكن وانه يحي أهلها بعد ما أماتهم واليه النشور
فائدة للانسان قوتان قوة علمية نظرية وقوة عملية ارادية وسعادته
التامة موقوفة على استكمال قوتيه العلمية الارادية واستكمال القوة العلمية انما يكون بمعرفة

فاطره وبارئه ومعرفة أسمائه وصفاته ومعرفة الطريق التي توصل اليه ومعرفة آفاتها ومعرفة نفسه ومعرفة عيوبها فبهذه المعارف الخمسة يحصل كمال قوته العلمية وأعلم الناس أعرفهم بها وأفقههم فيها استكمال القوة العلمية الارادية لا تحصل الا بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد والقيام بها اخلاصا وصدقا ونصحا واحسانا ومتابعة وشهودا لمنته عليه وتقصيره هو في أداء حقه فهو مستحي من مواجهته بتلك الخدمة لعلمه انها دون ما يستحقه عليه ودون دون ذلك وانه لا سبيل له إلى استكمال هاتين القوتين الا بمعونته فهو مضطر الى ان يهديه الصراط المستقيم الذي هدى اليه أولياءه وخاصته وان يجنبه الخروج عن ذلك الصراط اما بفساد في قوته العلمية فيقع في الضلال واما في قوته العملية فيوجب له الغضب
فكمال الانسان وسعادته لا تتم الا بمجموع هذه الأمور وقد تضمنتها سورة الفاتحة وأنتظمتها أكمل انتظام فان قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين يتضمن الاصل الاول وهو معرفة الرب تعالى ومعرفة اسمائه وصفاته وأفعاله والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الاسماء الحسنى وهي اسم الله والرب والرحمن فأسم الله متضمن لصفات الألوهية واسم الرب متضمن الربوبية واسم الرحمن متضمن لصفات الاحسان والجود والبر ومعاني أسمائه تدور لى هذا وقوله إياك نعبد وإياك نستعين يتضمن معرفة الطريق الموصلة اليه وانها ليست الا عبادته وحده بما يحبه ويرضاه واستعانته على عبادته وقوله إهدنا الصراط المستقيم يتضمن بيان ان العبد لا سبيل له الى سعادته الا باستقامته على الصراط المستقيم وانه لا سبيل له الي الاستقامة الا بهداية ربه له كما لا سبيل له الى عبادته بمعونته فلا سبيل له الي الاستقامة علي الصراط الا بهدايته وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين يتضمن بيان طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم وان الانحراف الى احد الطرفين انحراف الي الضلال الذي هو فساد العلم والاعتقاد والانحراف الى الطرف الآخر انحراف الي الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل

فأول السورة رحمة وأوسطها هداية وآخرها نعمة وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية وحظه منها على قدر حظه من الرحمة فعاد الأمر كله الى نعمته ورحمته والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيته فلا يكون الا رحيما منعما وذلك من موجبات الهيته فهو الأله الحق وان جحده الجاحدون وعدل به المشركون فمن تحقق بمعاني الفاتحة علما ومعرفة وعملا وحالا فقد فاز من كماله بأوفر نصيب وصارت عبوديته عبودية الخاصة الذين ارتفعت درجتهم عن عوام المتعبدين والله المستعان
فائدة الرب تعالى يدعو عباده في القرآن الي معرفته من طريقين احدهما
النظر في مفعولاته والثاني التفكر في آياته وتدبرها فتلك آياته المشهودة وهذه آياته المسموعة المعقولة فالنوع الأول كقوله ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الي آخرها وقوله إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب وهو كثير في القرآن والثاني كقوله أفلا يتدبرون القرآن وقوله أفلم يدبروا القول وقوله كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته وهو كثير أيضا
فأما المفعولات فأنها دالة على الأفعال والأفعال دالة على الصفات فان المفعول يدل علي فاعل فعله وذلك يستلزم وجوده وقدرته ومشيئته وعلمه لاستحالة صدور الفعل الاختيارى من معدوم أو موجود لا قدرة له ولا حياة ولا علم ولا ارادة ثم ما في المفعولات من التخصيصات المتنوعة دال على ارادة الفاعل وان فعله ليس بالطبع بحيث يكون واحدا غير متكرر وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى وما فيها من النفع والاحسان والخير دال على رحمته وما فيها من البطش والأنتقام والعقوبة دال

على غضبه وما فيها من الاكرام والتقريب والعناية دال على محبته وما فيها من الاهانة والابعاد والخذلان دال على بغضه ومقته وما فيها من ابتداء الشيء في غاية النقص والضعف ثم سوقه الى تمامه ونهايته دال على وقوع المعاد وما فيها من أحوال النبات والحيوان وتصرف المياه دليل على امكان المعاد وما فيها من ظهور آثار الرحمة والنعمة على خلقه دليل على صحة النبوات وما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة دليل على أن معطي تلك الكمالات أحق بها فمفعولاته من أدل شيء على صفاته وصدق ما أخبرت به رسله عنه فالمصنوعات شاهدة تصدق الآيات المسموعات منبهه علي الاستدلال بالآيات المصنوعات قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم انه الحق أي أن القرآن حق فاخبر انه لا بد من ان يريهم من آياته المشهودة ما يبين لهم أن آياته المتلوة حق ثم أخبر بكفاية شهادته على صحة خبره بما أقام من الدلائل والبراهين علي صدق رسوله فآياته شاهدة بصدقة وهو شاهد بصدق رسوله بآياته وهو الشاهد والمشهود له وهو الدليل والمدلول عليه فهو الدليل بنفسه على نفسه كما قال بعض العارفين كيف أطلب لدليل على من هو دليل علي كل شيء فأي دليل طلبته عليه فوجده أظهر منه ولهذا قال الرسل لقومهم أفي الله شك فهو أعرف من كل معروف وأبين من كل دليل فالأشياء عرفت به في الحقيقة وان كان عرف بها في النظر والاستدلال بأفعاله واحكامه عليه
فائدة في المسند وصحيح أبي الحاتم من حديث عبد الله بن مسعود قال
قال رسول الله ما أصاب عبدا هم ولا حزن فقال اللهم اني عبدك وابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت

به في علم الغيب عندك ان تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي الا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا يا رسول الله أفلا نتعلمهن قال بلى ينبغي لمن سمعهن ان يتعلمهن فتضمن هذا الحديث العظيم أمورا من المعرفة والتوحيد والعبودية منها ان الداعي به صدر سؤاله بقوله اني عبدك ابن عبدك ابن أمتك وهذا يتناول من فوقه من آبائه وأمهاته الى ابويه آدم وحواء وفي ذلك تملق له واستخذا بين يديه واعتراف بانه مملوكه وآباؤه مماليكه وان العبد ليس له غير باب سيده وفضله واحسانه وان سيده ان اهمله وتخلى عنه هلك ولم يؤوه احد ولم يعطف عليه بل يضيع أعظم ضيعة فتحت هذا الاعتراف اني لا غنى بي عنك طرفة عين وليس لى من أعوذ به وألوذ به غير سيدي الذي انا عبده وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبر مأمور منهى انما يتصرف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه فليس هذا شأن العبد بل شأن الملوك والأحرار واما العبيد فتعرفهم على محض العبودية فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون اليه سبحانه في قوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وقوله وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا ومن عداهم عبيد القهر والربوبية فاضافتهم اليه كاضافة سائر البيوت الى ملكه واضافة أولئك كاضافة البيت الحرام اليه اضافة ناقته اليه وداره التي هي الجنة اليه واضافة عبودية رسوله اليه بقوله وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا سبحان الذي أسرى بعبده وإنه لما قام عبد الله يدعوه وفي التحقيق بمعنى قوله اني عبدك التزام عبوديته من الذل والخضوع والانابة وامتثال امر سيده واجتناب نهيه ودوام الافتقار اليه واللجأ اليه والاستعانة به والتوكل عليه وعياذ العبد به ولياذه به وان لم لا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفا ورجاء وفيه أيضا أني عبد من جميع الوجوه صغيرا وكبيرا حيا وميتا ومطيعا وعاصيا معافى ومبتلي بالروح والقلب واللسان والجوارح وفي ايضا ان مالي ونفسي ملك لك فان العبد وما

يملك لسيده وفيه ايضا انك أنت الذي مننت علي بكل مل انا فيه من نعمة فذلك كله من انعامك على عبدك وفيه ايضا اني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي الا بأمرك كما لا يتصرف العبد الا باذن سيده واني لا املك لنفسي ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فان صح له شهود ذلك فقد قال اني عبدك حقيقة ثم قال ناصيتي بيدك أي انت المتصرف في تصرفي كيف تشاء لست انا المتصرف في نفسي وكيف يكون له في نفسه تصرف من نفسه بيد ربه وسيده وناصيته بيده وقلبه بين أصبعين من أصابعه وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله اليه سبحانه ليس الى العبد منه شيء بل هو في قبضة سيده اضعف من مملوك ضعيف حقير ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له تحت تصرفه وقهره بل الأمر فوق ذلك ومتى شهد العبد ان ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ولم يرجهم ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين المتصرف فيهم سواهم والمدبر لهم غيرهم فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقره وضرورته الى ربه وصفا لازما له ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر اليهم ولم يعلق أمله ورجاءه بهم فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته ولذا قال هود لقومه اني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم وقوله ماض في حكمك عدل في قضاؤك تضمن هذا الكلام أمرين أحدهما مضاء حكمه في عبده والثاني يتضمن حمده وعدله وهو سبحانه له الملك وله الحمد وهذا معنى قول نبيه هود ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها ثم قال ان ربي على صراط مستقيم أي مع كونه مالكا قاهرا متصرفا في عباده نواصيهم بيده فهو على صراط مستقيم وهو العدل الذي يتصرف به فيهم فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وقضائه وقدره وأمره ونهيه وثوابه وعقابه فخبره كله صدق وقضاؤه كله عدل وأمره كله مصلحة والذي نهى عنه كله ومفسدة وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله وحكمته وفرق بين

الحكم والقضاء وجعل المضاء للحكم والعدل لقضاء فان حكمه سبحانه يتناول حكمه الدينى الشرعى وحكمه الكونى القدرى والنوعان نافذان في العبد ان ماضيان فيه وهو مقهور تحت الحكمين قد مضيا فيه ونفذا فيه شاء ام أبي لكن الحكم الكونى لا يمكنه مخالفته واما الديني الشرعى فقد يخالفه
ولما كان القضاء هو الاتمام والاكمال وذلك انما يكون بعد مضيه ونفوذه قال عدل في قضاؤك أي الحكم الذي أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه واما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه فان كان حكما دينيا فهو ماض فى العبد وان كان كونيا فان نفذه سبحانه مضي فيه وان لم ينفذه اندفع عنه فهو سبحانه يقضى ما يقضى به وغيره قد يقضي بقضاء ويقدر أمر ولا يستطيع تنفيذه وهو سبحانه يقضي ويمضى فله القضاء والامضاء وقوله عدل فى قضاؤك يتضمن جميع أقضيته فى عبده من كل الوجوه من صحة وسقم وغني وفقر ولذة وألم وحياة وموت وعقوبة وتجاوز وغير ذلك قال تعالي وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم وقال وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فان الانسان كفور فكل ما يقضى علي العبد فهو عدل فيه
فان قيل فالمعصية عندكم بقضائه وقدره فما وجه العدل فى قضائها فان العدل فى العقوبة عليها ظاهر قيل هذا سؤال له شأن ومن أجله زعمت طائفة ان العدل هو المقدور والظلم ممتنع لذاته قالوا لان الظلم هو التصرف فى ملك الغير والله له كل شيء فلا يكون تصرفه فى خلقه الا عدلا وقالت طائفة بل العدل انه لا يعاقب على ما قضاه وقدره فلما حسن منه العقوبة على الذنب علم انه ليس بقضائه وقدره فيكون العدل هو جزاؤه علي الذنب بالعقوبة والذم إما فى الدنيا وإما فى الآخرة وصعب على هؤلاء الجمع بين العدل وبين القدر فزعموا ان من أثبت القدر لم يمكنه ان يقول بالعدل ومن قال بالعدل لم يمكنه ان يقول بالقدر كما صعب عليهم الجمع بين التوحيد واثبات الصفات فزعموا انه لا يمكنهم اثبات التوحيد الا بانكار الصفات فصار توحيدهم تعطيلا

وعدلهم تكذيبا بالقدر وأما أهل السنة فهم مثبتون للأمرين والظلم عندهم هو وضع الشيء فى غير موضعه كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له وهذا قد نزه الله نفسه عنه فى غير موضع من كتابه وهو سبحانه وان أضل من شاء وقضي بالمعصية والغى على من شاء فذلك محض العدل فيه لانه وضع الاضلال والخذلان فى موضعه اللائق به كيف ومن أسمائه الحسني العدل الذي كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح العلل ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالاسماع والابصار والعقول وهذا عدله ووفق من شاء بمزيد عناية وأراد من نفسه ان يعينه ويوفقه فهذا فضله وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله وخلي بينه وبين نفسه ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفقه فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله وهذا نوعان أحدهما ما يكون جزاء منه للعبد على اعراضه عنه وايثار عدوه فى الطاعة والموافقة عليه وتناسى ذكره وشكره فهو أهل ان يخذله ويتخلى عنه والثاني ان لا يشاء له ذلك ابتداء لما يعلم منه انه لا يعرف قدر نعمة الهداية ولا يشكره عليه ولا يثنى عليه بها ولا يحبه فلا يشاؤها له لعدم صلاحية محله قال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وقال ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم فاذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية كان ذلك محض العدل كما اذا قضى على الحية بان تقتل وعلى العقرب وعلى الكلب العقور كان ذلك عدلا فيه وان كان مخلوقا على هذه الصفة وقد استوفينا الكلام فى هذا فى كتابنا الكبير فى القضاء والقدر
والمقصود أن قوله ماض فى حكمك عدل فى قضاؤك رد على الطائفتين القدرية الذين ينكرون عموم أقضية الله فى عبده ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره ويردون القضاء الى الأمر والنهى وعلى الجبرية الذين يقولون كل مقدور عدل فلا يبقى لقوله عدل فى قضاؤك فائدة فان العدل عندهم كل ما يمكن

فعله والظلم هو المحال لذاته فكأنه قال ماض ونافذ فى قضاؤك وهذا هو الأول بعينه وقوله أسألك بكل اسم الي آخره توسل اليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم وهذه أحب الوسائل اليه فانها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هى مدلول اسمائه وقوله ان تجعل القرآن ربيع قلبى ونور صدرى الربيع المطر الذي يحيى الأرض شبه القرآن به لحياة القلوب به وكذلك شبهه الله بالمطر وجمع بين الماء الذى تحصل به الحياة والنور الذى تحصل به الاضاءة والاشراق كما جمع بينهما سبحانه فى قوله أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه فى النار ابتغاء حلية وفى قوله مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ثم قال أو كصيب من السماء وفي قوله الله نور السموات والارض مثل نوره الآيات ثم قال ألم تر أن الله يزجي السحاب ثم يؤلف بينه الآية فتضمن الدعاء أن يحيي قلبه بربيع القرآن وان ينور به صدره فتجتمع له الحياة والنور قال تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها
ولما كان الصدر أوسع من القلب كان النور الحاصل له يسري منه الى القلب لأنه قد حصل لما هو أوسع منه ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب تسري الحياة منه الي الصدر ثم الى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حياة القلب واستنارته سأل أن يكون ذهابها بالقرآن فانها أحرى أن لا تعود وأما اذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فانها تعود بذهاب ذلك والمكروه الوارد على القلب ان كان من أمر ماض أحدث الحزن زان كان من مستقبل أحدث الهم وان كان من أمر حاضر أحدث الغم والله أعلم

فائدة أنزه الموجودات وأظهرها وأنورها وأشرفها وأعلاها ذاتا وقدرا
وأوسعها عرش الرحمن جل جلاله ولذلك صلح لاستوائه عليه وكل ما كان أقرب الى العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنان وأشرفها وأنورها وأجلها لقربها من العرش اذ هو سقفها وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير وخلق الله القلوب وجعلها محلا لمعرفته ومحبته وارادته فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفته ومحبته وارادته قال تعالى للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم وقال تعالى وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم وقال تعالى ليس كمثله شيء فهذا من المثل الأعلى وهو مستو علي قلب المؤمن فهو عرشه وان لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس وخبث لم يصلح لاستواء المثل الأعلي عليه معرفة ومحبة وارادة فاستوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وارادتها والتعلق بها فضاق وأظلم وبعد من كماله وفلاحه حتي تعود القلوب علي قلبين قلب هو عرش الرحمن ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم فهو حزين علي ما مضى مهموم بما يستقبل مغموم في الحال وقد روى الترمذي وغيره عن النبي أنه قال اذا دخل النور القلب انفسخ وانشرح قالوا فما علامة ذلك يا رسول الله قال الانابة الى دار الخلود والتجاني عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله والنور الذي يدخل القلب انما هو آثار المثل الأعلى فلذلك ينفسخ وينشرح واذا لم يكن فيه معرفة الله ومحبته فحظه الظلمة والضيق

فائدة تأمل خطاب القرآن تجد ملكا له الملك كله وله الحمد كله أزمة الأمور كلها بيده ومصدرها منه ومرادها اليه مستويا على سرير ملكه لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته عالما بما في نفوس عبيده مطلعا علي أسرارهم وعلانيتهم منفردا بتدبير المملكة يسمع ويرى ويعطي ويمنع ويثيب ويعاقب ويكرم ويهين ويخلق ويرزق ويميت ويحيي ويقدر و يقضي ويدبر الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها وصاعدة اليه لا تتحرك في ذرة الا باذنه ولا تسقط ورقة الا بعلمه فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ويمجد نفسه ويحمد نفسه وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه ويحذرهم مما فيه هلاكهم ويتعرف اليهم بأسمائه وصفاته ويتححب اليهم بنعمه وآلائه فيذكرهم بنعمه عليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها ويحذرهم من نقمه ويذكرهم بما اعد لهم من الكرامة ان اطاعوه وما أعد لهم ما العقوبة ان عصوه ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم ويذم أعداءه بسىء أعمالهم وقبيح صفاتهم ويضرب الأمثال وينوع الأدلة والبراهين ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة ويصدق الصادق ويكذب الكاذب ويقول الحق ويهدي السبيل ويدعو الى دار السلام ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها وآلامها ويذكر عباده فقرهم اليه وشدة حاجتهم اليه من كل وجه وانهم لا غنى لهم عنه طرفة عين ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات وانه الغنى بنفسه عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير اليه بنفسه وانه لا ينال احد ذرة من الخبر فما فوقها الا بفضله ورحمته ولا ذرة من الشر فما فوقها الا بعدله وحكمته ويشهد من خطابه عتابه لاحبابه الطف عتاب وانه مع ذلك مقيل عثراتهم وغافر زلاتهم ومقيم اعذارهم ومصلح فسادهم والدافع

عنهم والمحامي عنهم والناصر لهم والكفيل بمصالحهم والمنجي لهم من كل كرب والموفي لهم بوعده وانه وليهم الذي لا ولى لهم سواه فهو مولاهم الحق ونصيرهم علي عدوهم فنعم المولى ونعم النصير فاذا شهدت القلوب من القرآن ملكا عظيما رحيما جوادا جميلا هذا شانه فكيف لا تحبه وتنافس في القرب منه وتنفق انفاسها في التودد اليه ويكون احب اليها من كل ما سواه ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه وكيف لا تلهج بذكره ويصير حبه والشوق اليه والأنس به هو غذائها وقوتها ودواؤها بحيث ان فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنفع بحياتها
فائدة قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده وهذا كما انه
في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والارادات فاذا كان القلب ممتلئا بالباطل اعتقادا ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع كما ان اللسان اذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه الا اذا فزع لسانه من النطق بالباطل وكذلك الجوارح اذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة الا اذا فرغها من ضدها فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وارادته والشوق إليه والأنس به إلا يمكن شغله بمحبة الله واردته وحبه والشوق الى لقائه لا بتفريغه من تعلقه بغيره ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته الا اذا فرغها من ذكر غيره وخدمته فاذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع لم يبقى فيها موضع للشغل بالله ومعرفة اسمائه وصفاته وأحكامه وسر ذلك ان اصغاء القلب كاصغاء الأذن فاذا صغى الى غير حديث الله لم يبق فيه اصغاء ولا فهم لحديثه كما اذا مال الى غير محبة الله لم يبق فيه ميل الى محبته فاذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان ولهذا في الصحيح عن النبي انه قال لان يمتلىء جوف احدكم قيحا حتي يريه خير له من أن يمتلىء

شعرا فبين أن الجوف يمتلىء بالشعر فكذلك يمتلىء بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها والعلوم التي لا تنفع والمفاكهات والمضاحكات والحكايات ونحوها واذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغا لها ولا قبولا فتعدته وجاوزته الي محل سواه كما اذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فانه فيه لا يقبلها ولا تلج فيه لكن تمر مجتازة لا مستوطنة ولذلك قيل
نزه فؤادك من سوانا تلقنا ... فجنابنا حل لكل منزه
والصبر طلسم لكنز وصالنا ... من حل ذا الطلسم فاز بكنزه وبالله التوفيق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"