بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 3 أبريل 2010

نبذ من زاد المعاد/9

فصل
وكان
صلى الله عليه وسلم ينهى المتصدق أن يشتري صدقته وكان يبيح للغني أن يأكل من الصدقة إذا أهداها إليه الفقير وأكل صلى الله عليه وسلم من لحم تصدق به علي بريرة وقال : [ هو عليها صدقة ولنا منها هديه ]
وكان أحيانا يستدين لمصالح المسلمين علي الصدقة كما جهز جيشا فنفدت الإبل فأمر عبد الله بن عمرو أن يأخذ من قلائص الصدقة وكان يسم إبل الصدقة بيده وكان يسمها في آذانها
وكان إذا عراه أمر استسلف الصدقة من أربابها كما استسلف من العباس
رضي الله عنه صدقة عامين

فصل
في هديه
صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر
فرضها رسول الله
صلى الله عليه وسلم على المسلم وعلى من يمونه من صغير وكبير ذكر وأنثى حر وعبد صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب
وروي عنه : أو صاعا من دقيق وروي عنه : نصف صاع من بر
والمعروف : أن عمر بن الخطاب جعل نصف صاع من بر مكان الصاع من هذه الأشياء ذكره أبو داود
وفي الصحيحين أن معاوية هو الذي قوم ذلك وفيه عن النبي
صلى الله عليه وسلم آثار مرسلة ومسندة يقوي بعضها بعضا فمنها : حديث عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ صاع من بر أو قمح على كل اثنين ] رواه الإمام أحمد وأبو داود
وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي
صلى الله عليه وسلم بعث مناديا في فتح مكة [ ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى حر أو عبد صغير أو كبير مدان من قمح أو سواه صاعا من طعام ] قال الترمذي : حديث حسن غريب
وروى الدارقطني من حديث ابن عمر
رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمرو بن حزم في زكاة الفطر بنصف صاع من حنطة
وفيه سليمان بن موسى وثقه بعضهم وتكلم فيه بعضهم
قال الحسن البصري : خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة فقال : [ أخرجوا صدقة صومكم فكأن الناس لم يعلموا فقال : من ها هنا من أهل المدينة ؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم فإنهم لا يعلمون فرض رسول الله
صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح على كل حر أو مملوك ذكر أو أنثى صغير أو كبير فلما قدم علي رضي الله عنه رأى رخص السعر قال : قد أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعا من كل شيىء ] رواه أبو داود وهذا لفظه والنسائي وعنده : فقال علي : أما إذ أوسع الله عليكم فأوسعوا إجعلوها صاعا من بر وغيره وكان شيخنا رحمه الله : يقوي هذا المذهب ويقول : هو قياس قول أحمد في الكفارات أن الواجب فيها من البر نصف الواجب من غيره

فصل
وكان من هديه
صلى الله عليه وسلم إخراج هذه الصدقة قبل صلاة العيد وفي السنن عنه أنه قال : [ من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ]
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ومقتضى هذين الحديثين أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد وأنها تفوت بالفراغ من الصلاة وهذا هو الصواب فإنه لا معارض لهذين الحديثين ولا ناسخ ولا إجماع يدفع القول بهما وكان شيخنا يقوي ذلك وينصره ونظيره ترتيب الأضحية على صلاة الإمام لا على وقتها وأن من ذبح قبل صلاة الإمام لم تكن ذبيحته أضحية بل شاة لحم وهذا أيضا هو الصواب في المسألة الأخرى وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضعين

فصل
وكان من هديه
صلى الله عليه وسلم تخصيص المساكين بهذه الصدقة ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية قبضة قبضة ولا أمر بذلك ولا فعله أحد من أصحابه ولا من بعدهم بل أحد القولين عندنا : إنه لا يجوز إخراجها إلا على المساكين خاصة وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية

فصل
في هديه
صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوع
كان
صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة بما ملكت يده وكان لا يستكثر شيئا أعطاه لله تعالى ولا يستقله وكان لا يسأله أحد شيئا عنده إلا أعطاه قليلا كان أو كثيرا وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه وكان أجود الناس بالخير يمينه كالريح المرسلة
وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه تارة بطعامه وتارة بلباسه وكان ينوع في أصناف عطائه وصدقته فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعا كما فعل ببعير جابر وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه وأفضل وأكبر ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه ويقبل الهدية ويكافىء عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفا وتنوعا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله فيخرح ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها بحاله وقوله فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى
وكان هديه
صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والصروف ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرا عجيبا في شرح الصدر وانضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره بالنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها وشرح صدره حسا وإخراج حظ الشيطان منه

فصل
في أسباب شرح الصدور وحصولها على الكمال له
صلى الله عليه وسلم
فأعظم أسباب شرح الصدر : التوحيد وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه قال الله تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } [ الزمر : 22 ] وقال تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء } [ الأنعام : 25 ]
فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه ومنها : النور الذي يقذفه الله في قلب العبد وهو نور الإيمان فإنه يشرح الصدر ويوسعه ويفرح القلب فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج وصار في أضيق سجن وأصعبه
وقد روى الترمذي في جامعه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح قالوا : وما علامة ذلك يا رسول الله ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله ] فيصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور وكذلك النور الحسي والظلمة الحسية هذه تشرح الصدر وهذه تضيقه
ومنها : العلم فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع وليس هذا لكل عالم بل للعلم الموروث عن الرسول
صلى الله عليه وسلم وهو العلم النافع فأهله أشرح الناس صدرا وأوسعهم قلوبا وأحسنهم أخلاقا وأطيبهم عيشا
ومنها : الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى ومحبته بكل القلب والإقبال عليه والتنعم بعبادته فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك حتى إنه ليقول أحيانا : إن كنت في الجنة في مثل هذه الحالة فإني إذا في عيش طيب وللمحبة تأثير عجيب في إنشراح الصدر وطيب النفس ونعيم القلب لا يعرفه إلا من له حس به وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر أفسح وأشرح ولا يضيق إلا عند رؤية البطالين الفارغين من هذا الشأن فرؤيتهم قذى عينه ومخالطتهم حمى روحه
ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى وتعلق القلب بغيره والغفلة عن ذكره ومحبة سواه فإن من أحب شيئا غير الله عذب به وسجن قلبه في محبة ذلك الغير فما في الأرض أشقى منه ولا أكسف بالا ولا أنكد عيشا ولا أتعب قلبا فهما محبتان محبة هي جنة الدنيا وسرور النفس ولذة القلب ونعيم الروح وغذاؤها ودواوها بل حياتها وقرة عينها وهي محبة الله وحده بكل القلب وانجذاب قوى الميل والإرادة والمحبة كلها إليه
ومحبة هي عذاب الروح وغم النفس وسجن القلب وضيق الصدر وهي سبب الألم والنكد والعناء وهي محبة ما سواه سبحانه
ومن أسباب شرح الصدر دوام ذكره على كل حال وفي كل موطن فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر ونعيم القلب وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه وحبسه وعذابه
ومنها : الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه والنفع بالبدن وأنواع الإحسان فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرا وأنكدهم عيشا وأعظمهم هما وغما [ وقد ضرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الصحيح مثلا للبخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد كلما هم المتصدق بصدقة اتسعت عليه وانبسطت حتى يجر ثيابه ويعفي أثره وكلما هم البخيل بالصدقة لزمت كل حلقة مكانها ولم تتسع عليه ] فهذا مثل انشراح صدر المؤمن المتصدق وانفساح قلبه ومثل ضيق صدر البخيل وانحصار قلبه
ومنها الشجاعة فإن الشجاع منشرح الصدر واسع البطان متسع القلب والجبان : أضيق الناس صدرا وأحصرهم قلبا لا فرحة له ولا سرور ولا لذة له ولا نعيم إلا من جنس ما للحيوان البهيمي وأما سرور الروح ولذتها ونعيمها وابتهاجها فمحرم على كل جبان كما هو محرم على كل بخيل وعلى كل معرض عن الله سبحانه غافل عن ذكره جاهل به وبأسمائه تعالى وصفاته ودينه متعلق القلب بغيره وإن هذا النعيم والسرور يصير في القبر رياضا وجنة وذلك الضيق والحصر ينقلب في القبر عذابا وسجنا فحال العبد في القبر كحال القلب في الصدر نعيما وعذابا وسجنا وانطلاقا ولا عبرة بانشراح صدر هذا لعارض ولا بضيق صدر هذا لعارض فإن العوارض تزول بزوال أسبابها وإنما المعول على الصفة التي قامت بالقلب توجب انشراحه وحبسه فهي الميزان والله المستعان
ومنها بل من أعظمها : إخراح دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه وتحول بينه وبين حصول البرء فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرح صدره ولم يخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه لم يحظ من انشراح صدره بطائل وغايته أن يكون له مادتان تعتوران على قلبه وهو للمادة الغالبة عليه منهما
ومنها : ترك فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم فإن هذه الفضول تستحيل آلاما وغموما وهموما في القلب تحصره وتحبسه وتضيقه ويتعذب بها بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم وما أنكد عيشه وما أسوأ حاله وما أشد حصر قلبه ولا إله إلا الله ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم وكانت همته دائرة عليها حائمة حولها فلهذا نصيب وافر من قوله تعالى : { إن الأبرار لفي نعيم } [ الإنفطار 13 ] ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى : { إن الفجار لفي جحيم } [ الانفطار : 14 ] وبينهما مراتب متفاوتة لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى
والمقصودة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر واتساع القلب وقرة العين وحياة الروح فهو أكمل الخلق في هذا الشرح والحياة وقرة العين مع ما خص به من الشرح الحسي وأكمل متابعة له أكملهم انشراحا ولذة وقرة عين وعلى حسب متابعته ينال العبد انشراح صدره وقرة عينه ولذة روحه ما ينال فهو صلى الله عليه وسلم في ذروة الكمال من شرح الصدر ورفع الذكر ووضع الوزر ولأتباعه من ذلك بحسب نصيبهم من اتباعه والله المستعان
وهكذا لأتباعه نصيب من حفظ الله لهم وعصمته إياهم ودفاعه عنهم وإعزازه لهم ونصره لهم بحسب نصيبهم من المتابعة فمستقل ومستكثر فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه

فصل
في هديه
صلى الله عليه وسلم في الصيام
لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات وفطامها عن المألوفات وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والضراب وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه وتلجم بلجامه فهو لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال فإن الصائم لا يفعل شيئا وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لايطلع عليه بشر وذلك حقيقة الصوم وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } [ البقرة : 158 ]
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم [ الصوم جنة ] وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام وجعله وجاء هذه الشهوة
والمقصود : أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة بهم وإحسانا إليهم وحمية لهم وجنة
وكان هدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدي وأعظم تحصيل للمقصود وأسهله على النفوس ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة وألفت أوامر القرآن فنقلت إليه بالتدريج
وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة فتوفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقدم صام تسع رمضانات وفرض أولا على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كل يوم مسكينا ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا الصيام فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينا ورخص للمريض والمسافر أن يفطرا ويقضيا وللحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك فإن خافتا على ولديهما زادتا مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم فإن فطرهما لم يكن لخوف مرض وإنما كان مع الصحة فجبر بإطعام المسكين كفطر الصحيح في أول الإسلام
وكان للصوم رتب ثلاث أحداها : إيجابه بوصف التخيير
والثانية : تحتمه لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه
الطعام والشراب إلى الليلة القابلة فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة

فصل
وكان من هديه
صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من العبادات فكان جبريل E يدارسه القرآن في رمضان وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة وكان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والإعتكاف
وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور حتى إنه كان ليواصل فيه أحيانا ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة وكان ينهى أصحابه عن الوصال فيقولون له : إنك تواصل فيقول : [ لست كهيئتكم إني أبيت - وفي رواية : إني أظل - عند ربي يطعمي ويسقيني ]
وقد اختلف الناس في هذا الطعام والشراب المذكورين على قولين
أحدهما : أنه طعام وشراب حسي للفم قالوا : وهذه حقيقة اللفظ ولا موجب للعدول عنها
الثاني : أن المراد به ما يغذيه الله به من معارفه وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل :
( لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد )
( لها بوجهك نورتستضيء به ... ومن حديثك في أعقابها حادي )
( إذا شكت من كلال السيرأوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد )
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه محبوبه وتنعم بقربه والرضى عنه وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت ومحبوبه حفي به معتن بأمره مكرم له غاية مع الإكرام مع المحبة التامة له أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب ؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحسانا إذا امتلأ قلب المحب بحبه وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه وتمكن حبه منه أعظم تمكن وهذا حاله مع حبيبه أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا ؟ ولهذا قال : [ إني أظل عند ربي يطعمنى ويسقيني ] ولو كان ذلك طعاما وشرابا للفم لما كان صائما فضلا عن كونه مواصلا وأيضا فلو كان ذلك في الليل لم يكن مواصلا ولقال لأصحابه إذا قالوا له : إنك تواصل : لست أواصل ولم يقل : لست كهيئتكم بل أقرهم على نسبة الوصال إليه وقطع الإلحاق بينه وبينهم في ذلك بما بينه من الفارق كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم واصل في رمضان فواصل الناس فنهاهم فقيل له : أنت تواصل فقال : [ إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى ]
وسياق البخاري لهذا الحديث : نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الوصال فقالوا : إنك تواصل قال : [ إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى ] وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال فقال رجل من المسلمين : إنك يا رسول الله تواصل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ويسقيني ]
وأيضا : فإن النبي
صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الوصال فأبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : [ لو تأخر الهلال لزدتكم ] كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا عن الوصال
وفي لفظ آخر [ لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم إني لست مثلكم ] أو قال : [ إنكم لستم مثلي فإني أظل يطعمني ربي ويسقيني ] فأخبر أنه يطعم ويسقى مع كونه مواصلا وقد فعل فعلهم منكلا بهم معجزا لهم فلو كان يأكل ويشرب لما كان ذلك تنكيلا ولا تعجيزا بل ولا وصالا وهذا بحمد الله واضح
وقد نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة للأمة وأذن فيه إلى السحر وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : [ لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر ]
فإن قيل : فما حكم هذه المسألة وهل الوصال جائز أو محرم أو مكروه ؟ قيل : اختلف الناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال
أحدها : أنه جائز إن قدر عليه وهو مروي عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف وكان ابن الزبير يواصل الأيام ومن حجة أرباب هذا القول أن النبي
صلى الله عليه وسلم واصل بالصحابة مع نهيه لهم عن الوصال كما في الصحيحين من
حديث أبي هريرة [ أنه نهى عن الوصال وقال : إني لست كهيئتكم فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ثم يوما ] فهذا وصاله بهم بعد نهيه عن الوصال ولو كان النهي للتحريم لما أبوا أن ينتهوا ولما أقرهم عليه بعد ذلك قالوا : فلما فعلوه بعد نهيه وهو يعلم ويقرهم علم أنه أراد الرحمة بهم والتخفيف عنهم وقد قالت عائشة : [ نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم ] متفق عليه وقالت طائفة أخرى : لا يجوز الوصال منهم : مالك وأبوحنيفة والشافعي والثوري رحمهم الله قال ابن عبد البر : وقد حكاه عنهم : إنهم لم يجيزوه لأحد قلت : الشافعي رحمه الله نص على كراهته واختلف أصحابه هل هي كراهة تحريم أو تنزيه ؟ على وجهين واحتج المحرمون بنهي النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : والنهي يقتضي التحريم قالوا : وقول عائشة : رحمة لهم لا يمنع أن يكون للتحريم بل يؤكده فإن من رحمته بهم أن حرمه عليهم بل سائر مناهيه للأمة رحمة وحمية وصيانة قالوا : وأما مواصلته بهم بعد نهيه فلم يكن تقريرا لهم كيف وقد نهاهم ولكن تقريعا وتنكيلا فاحتمل منهم الوصال بعد نهيه لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم عنه بظهور المفسدة التي نهاهم لأجلها فإذا ظهرت لهم مفسدة الوصال وظهرت حكمة النهي عنه كان ذلك أدعى إلى قبولهم وتركهم له فإنهم إذا ظهر لهم ما في الوصال وأحسوا منه الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم وأرجح من من وظائف الدين من القوة في أمر الله والخشوع في فرائضه والإتيان بحقوقها الظاهرة والباطنة والجوع الشديد ينافي ذلك ويحول بين العبد وبينه تبين لهم حكمة النهي عن الوصال والمفسدة التي فيه لهم دونه صلى الله عليه وسلم قالوا : وليس إقراره لهم على الوصال لهذه المصلحة الراجحة بأعظم من إقرار الأعرابي على البول في المسجد لمصلحة التأليف ولئلا ينفر عن الإسلام ولا بأعظم من إقراره المسيء في صلاته على الصلاة التي أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنها ليست بصلاة وأن فاعلها غير مصل بل هي صلاة باطلة في دينه فأقره عليها لمصلحة تعليمه وقبوله بعد الفراغ فإنه أبلغ في التعليم والتعلم قالوا : وقد قال صلى الله عليه وسلم : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتبوه ]
قالوا : وقد ذكر في الحديث ما يدل على أن الوصال من خصائصه فقال : [ إني لست كهيئتكم ] ولو كان مباحا لهم لم يكن من خصائصه قالوا : وفي الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب
رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم ]
وفي الصحيحين نحوه من حديث عبد الله بن أبي أوفى قالوا : فجعله حكما بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر وذلك يحيل الوصال شرعا
قالوا : وقد قال
صلى الله عليه وسلم : [ لا تزال أمتي على الفطرة أو لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر ] وفي السنن عن أبي هريرة عنه [ لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر إن اليهود والنصارى يؤخرون ]
وفي السنن عنه قال : قال الله
تعالى : [ أحب عبادي إلي أعجلكم فطرا ] وهذا يقتضي كراهة تأخير الفطر فكيف تركه وإذا كان مكروها لم يكن عبادة فإن أقل درجات العبادة أن تكون مستحبة
والقول الثالث وهو أعدل الأقوال : أن الوصال يجوز من سحر إلى سحر وهذا هو المحفوظ عن أحمد وإسحاق لحديث أبي سعيد الخدري عن النبي
صلى الله عليه وسلم : [ لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر ] رواه البخاري وهو أعدل الوصال وأسهله على الصائم وهو في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه تأخر فالصائم له في اليوم والليلة أكلة فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره والله أعلم

فصل
وكان من هديه
صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محققة أو بشهادة شاهد واحد كما صام بشهادة ابن عمر وصام مرة بشهادة أعرابي واعتمد على خبرهما ولم يكلفهما لفظ الشهادة فإن كان ذلك إخبارا فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد وإن كان شهادة فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة فإن لم تكن رؤية ولا شهادة أكمل عدة شعبان ثلاثين يوما
وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو سحاب أكمل عدة شعبان ثلاثين يوما ثم صامه ولم يكن يصوم يوم الإغمام ولا أمر به بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم وكان يفعل كذلك فهذا فعله وهذا أمره ولا يناقض هذا قوله : [ فإن غم عليكم فاقدروا له ] فإن القدر : هو الحساب المقدر والمراد به الإكمال كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري [ فأكملوا عدة شعبان ] وقال : [ لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ] والذي أمر بإكمال عدته هو الشهر الذي يغم وهو عند صيامه وعند الفطر منه وأصرح من هذا قوله : [ الشهر تسعة وعشرون فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ] وهذا راجع إلى أول الشهر بلفظه وإلى آخره بمعناه فلا يجوز إلغاء ما دل عليه لفظه واعتبار ما دل عليه من جهة المعنى وقال : [ الشهر ثلاثون والشهر تسعة وعشرون فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ]
وقال : [ لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حالت دونه غمامة فأكملوا ثلاثين ]
وقال : [ لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ]
وقالت عائشة
رضي الله عنها [ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤيته فإن غم عليه عد شعبان ثلاثين يوما ثم صام ] صححه الدارقطني وابن حبان وقال : [ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين ]
وقال : [ لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن أغمي عليكم فاقدروا له ]
وقال : [ لا تقدموا رمضان ] وفي لفظ : [ لا تقدموا بين يدي رمضان بيوم أو يومين إلا رجلا كان يصوم صياما فليصمه ]
والدليل على أن يوم الإغمام داخل في هذا النهي حديث ابن عباس يرفعه : [ لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حالت دونه غمامة فأكملوا ثلاثين ] ذكره ابن حبان في صحيحه فهذا صريح في أن صوم يوم الإغمام من غير رؤية ولا إكمال ثلاثين صوم قبل رمضان وقال : [ لا تقدموا الشهر إلا أن تروا الهلال أو تكملوا العدة ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ]
وقال : [ صوموا لرؤيته وأفطروا لرويته فإن حال بينكم وبينه سحاب : فأكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا ] قال الترمذي : حديث حسن صحيح وفي النسائي : من حديث يونس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس يرفعه : [ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا ولا تصوموا قبله يوما فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة عدة شعبان ]
وقال سماك : [ عن عكرمة : عن ابن عباس : تمارى الناس في رؤية هلال رمضان فقال بعضهم : اليوم وقال بعضهم : غدا فجاء أعرابي إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رآه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أتشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فنادى في الناس صوموا ثم قال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا ولا تصوموا قبله يوما ]
وكل هذه الأحاديث صحيحة فبعضها في الصحيحين وبعضها في صحيح ابن حبان والحاكم وغيرهما وإن كان قد أعل بعضها بما لا يقدح في صحة الاستدلال بمجموعها وتفسير بعضها ببعض واعتبار بعضها ببعض وكلها يصدق بعضها بعضا والمراد منها متفق عليه فإن قيل : فإذا كان هذا هديه
صلى الله عليه وسلم فكيف خالفه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وأبو هريرة ومعاوية وعمرو بن العاص والحكم بن أيوب الغفاري وعائشة وأسماء ابنتا أبي بكر وخالفه سالم بن عبد الله ومجاهد وطاووس وأبو عثمان النهدي ومطرف بن الشخير وميمون بن مهران وبكر بن عبد الله المزني وكيف خالفه إمام أهل الحديث والسنة أحمد بن حنبل ونحن نوجدكم أقوال هؤلاء مسندة ؟ فأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال الوليد بن مسلم : أخبرنا ثوبان عن أبيه عن مكحول أن عمر بن الخطاب كان يصوم إذا كانت السماء في تلك الليلة مغيمة ويقول : ليس هذا بالتقدم ولكنه التحري
وأما الرواية عن علي
رضي الله عنه فقال الشافعي : أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن أمه فاطمة بنت حسين أن علي بن أبي طالب قال : لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان
وأما الرواية عن ابن عمر ففي كتاب عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن عمر قال : كان إذا كان سحاب أصبح صائما وإن لم يكن سحاب أصبح مفطرا
وفي الصحيحين عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : [ إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا وإن غم عليكم فاقدروا له ] زاد الإمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح عن نافع قال : كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما يبعث من ينظر فإن رأى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما
وأما الرواية عن أنس
رضي الله عنه : فقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ابراهيم حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال : رأيت الهلال إما الظهر وإما قريبا منه فأفطر ناس من الناس فأتينا أنس بن مالك فأخبرناه برؤية الهلال وبإفطار من أفطر فقال : هذا اليوم يكمل لي أحد وثلاثون يوما وذلك لأن الحكم بن أيوب أرسل إلي قبل صيام الناس : إني صائم غدا فكرهت الخلاف عليه فصمت وأنا متم يومي هذا إلى الليل
وأما الروايه عن معاوية فقال أحمد : حدثنا المغيرة حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال : حدثني مكحول ويونس بن ميسرة بن حلبس أن معاوية بن أبي سفيان كان يقول : لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان
وأما الرواية عن عمرو بن العاص فقال أحمد : حدثنا زيد بن الحباب أخبرنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عمرو بن العاص أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان
وأما الرواية عن أبي هريرة فقال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن أبي مريم مولى أبي هريرة قال : سمعت أبا هريرة يقول : لأن أتعجل في صوم رمضان بيوم أحب إلي من أن أتأخر لأني إذا تعجلت لم يفتني وإذا تأخرت فاتني
وأما الرواية عن عائشة
رضي الله عنها فقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو عوانة عن يزيد بن خمير عن الرسول الذي أتى عائشة في اليوم الذي يشك فيه من رمضان قال : قالت عائشة : لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان
وأما الرواية عن أسماء بنت أبي بكر
رضي الله عنهما فقال سعيد أيضا : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر قالت : ما غم هلال رمضان إلا كانت أسماء متقدمة بيوم وتأمر بتقدمه
وقال أحمد : حدثنا روح بن عباد عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان
وكل ما ذكرناه عن أحمد فمن مسائل الفضل بن زياد عنه
وقال في رواية الأثرم : إذا كان في السماء سحابة أو علة أصبح صائما وإن لم يكن في السماء علة أصبح مفطرا وكذلك نقل عنه ابناه صالح وعبد الله والمروزي والفضل بن زياد وغيرهم
فالجواب من وجوه
أحدهما : أن يقال : ليس فيما ذكرتم عن الصحابة أثر صالح صريح في وجوب صومه حتى يكون فعلهم مخالفا لهديه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وإنما غاية المنقول عنهم صومه احتياطا وقد صرح أنس بأنه إنما صامه كراهة للخلاف على الأمراء ولهذا قال الإمام أحمد في رواية : الناس تبع للإمام في صومه وإفطاره والنصوص التي حكيناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله إنما تدل على أنه لا يجب صوم يوم الإغمام ولا تدل على تحريمه فمن أفطره أخذ بالجواز ومن صامه أخذ بالاحتياط
الثاني : أن الصحابة كان بعضهم يصوم كما حكيتم وكان بعضهم لا يصومه وأصح وأصرح من روي عنه صومه عبد الله بن عمر قال ابن عبد البر : وإلى قوله ذهب طاووس اليماني وأحمد بن حنبل وروي مثل ذلك عن عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر ولا أعلم أحدا ذهب مذهب ابن عمر غيرهم قال : وممن روي عنه كراهة صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو هريرة وأنس بن مالك
رضي الله عنهم قلت : المنقول عن علي وعمر وعمار وحذيفة وابن مسعود المنع من صيام آخر يوم من شعبان تطوعا وهو الذي قال فيه عمار : من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم
فأما صوم يوم الغيم احتياطا على أنه إن كان من رمضان فهو فرضه وإلا فهو تطوع فالمنقول عن الصحابة يقتضي جوازه وهو الذي كان يفعله ابن عمر وعائشة هذا مع رواية عائشة أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان إذا غم هلال شعبان عد ثلاثين يوما ثم صام وقد رد حديثها هذا بأنه لو كان صحيحا لما خالفته وجعل صيامها علة في الحديث وليس الأمر كذلك فإنها لم توجب صيامه وإنما صامته احتياطا وفهمت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن الصيام لا يجب حتى تكتمل العدة ولم تفهم هي ولا ابن عمر أنه لا يجوز
وهذا أعدل الأقوال في المسألة وبه تجتمع الأحاديث والآثار ويدل عليه ما رواه معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لهلال رمضان : [ إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يوما ] ورواه ابن أبي رواد عن نافع عنه : [ فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ]
وقال مالك وعبيد الله عن نافع عنه : [ فاقدروا له ] فدل على أن ابن عمر لم يفهم من الحديث وجوب إكمال الثلاثين بل جوازه فإنه إذا صام يوم الثلاثين فقد أخذ بأحد الجائزين احتياطا ويدل على ذلك أنه
رضي الله عنه لو فهم من قوله صلى الله عليه وسلم : [ اقدروا له تسعا وعشرين ثم صوموا ] كما يقوله الموجبون لصومه لكان يأمر بذلك أهله وغيرهم ولم يكن يقتصر على صومه فى خاصة نفسه ولا يأمر به ويبين أن ذلك هو الواجب على الناس
وكان ابن عباس
رضي الله عنه لا يصومه ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : [ لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ]
وذكر مالك في موطئه هذا بعد أن ذكر حديث ابن عمر كأنه جعله مفسرا لحديث ابن عمر وقوله : [ فاقدروا له ]
وكان ابن عباس يقول : عجبت ممن يتقدم الشهر بيوم أو يومين وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : [ لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين ] كأنه ينكر على ابن عمر
وكذلك كان هذان الصاحبان الإمامان أحدهما يميل إلى التشديد والآخر إلى الترخيص وذلك في غير مسألة وعبدالله بن عمر : كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك وكان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد وكان يمنع من دخول الحمام وكان إذا دخله اغتسل منه وابن عباس : كان يدخل الحمام وكان ابن عمر يتيمم بضربتين : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ولا يقتصر على ضربة واحدة ولا على الكفين وكان ابن عباس يخالفه ويقول : التيمم ضربة للوجه والكفين وكان ابن عمر يتوضأ من قبلة امرأته ويفتي بذلك وكان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى وكان ابن عباس يقول : ما أبالي قبلتها أو شممت ريحانا
وكان يأمر من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى أن يتمها ثم يصلي الصلاة التي ذكرها ثم يعيد الصلاة الي كان فيها وروى أبو يعلى الموصلي في ذلك حديث مرفوعا في مسنده والصواب : أنه موقوف على ابن عمر قال البيهقي : وقد روي عن ابن عمر مرفوعا ولا يصح قال : وقد روي عن ابن عباس مرفوعا ولا يصح والمقصود : أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد والاحتياط
وقد روى معمر عن أيوب عن نافع عنه أنه كان إذا أدرك مع الإمام ركعة أضاف إليها أخرى فإذا فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو قال الزهري : ولا أعلم أحدا فعله غيره
قلت : وكأن هذا السجود لما حصل له من الجلوس عقيب الركعة وإنما محله عقيب الشفع
ويدل على أن الصحابة لم يصوموا هذا اليوم على سبيل الوجوب أنهم قالوا : لأن نصوم يوما من شعبان أحب إلينا من أن نفطر يوما من رمضان ولو كان هذا اليوم من رمضان حتما عندهم لقالوا : هذا اليوم من رمضان فلا يجوز لنا فطره والله أعلم
ويدل على أنهم إنما صاموه استحبابا وتحريا ما روي عنهم من فطره بيانا للجواز فهذا ابن عمر قد قال حنبل في مسائله : حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي قال : سمعت ابن عمر يقول : لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه
قال حنبل : وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبيدة بن حميد قال : أخبرنا عبد العزيز بن حكيم قال : سألوا ابن عمر قالوا : نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شيء ؟ فقال : أف أف صوموا مع الجماعة فقد صح عن ابن عمر أنه قال : لا يتقدمن الشهر منكم أحد وصح عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ صوموا لرؤية الهلال وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ]
وكذلك قال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه : [ إذا رأيتم الهلال فصوموا لرؤيته وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ]
وقال ابن مسعود
رضي الله عنه : [ فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ]
فهذه الآثار إن قدر إنها معارضة لتلك الآثار التي رويت عنهم في الصوم فهده أولى لموافقتها النصوص المرفوعة لفظا ومعنى وإن قدر أنها لا تعارض بينها فهاهنا طريقتان من الجمع إحداهما : حملها على غير صورة الإغمام أوعلى الإغمام في آخر الشهر كما فعله الموجبون للصوم
والثانية : حمل آثار الصوم عنهم على التحري والاحتياط استحبابا لا وجوبا وهذه الآثار صريحة في نفي الوجوب وهذه الطريقة أقرب إلى موافقة النصوص وقواعد الشرع وفيها السلامة من التفريق بين يومين متساويين في الشك فيجعل أحدهما يوم شك والثاني يوم يقين مع حصول الشك فيه قطعا وتكليف العبد اعتقاد كونه من رمضان قطعا مع شكه هل هو منه أم لا ؟ تكليف بما لا يطاق وتفريق بين المتماثلين والله أعلم

فصل
وكان من هديه
صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالصوم بشهادة الرجل الواحد المسلم وخروجهم منه بشهادة اثنين
وكان من هديه إذا شهد الشاهدان برؤية الهلال بعد خروج وقت العيد أن يفطر ويأمرهم بالفطر ويصلي العيد من الغد في وقتها وكان يعجل الفطر ويحض عليه ويتسحر ويحث على السحور ويؤخره ويرغب في تأخيره
وكان يحض على الفطر بالتمر فإن لم يجد فعلى الماء هذا من كمال شفقته على أمته ونصحهم فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به ولا سيما القوة الباصرة فإنها تقوى به وحلاوة المدينة التمر ومرباهم عليه وهو عندهم قوت وأدم ورطبه فاكهة وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب

فصل
وكان
صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي وكان فطره على رطبات إن وجدها فإن لم يجدها فعلى تمرات فإن لم يجد فعلى حسوات من ماء ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند فطره : [ اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت فتقبل منا إنك أنت السميع العليم ] ولا يثبت
رروي عنه أيضا أنه كان يقول : [ اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت ]
ذكره أبو داود عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك
وروي عنه أنه كان يقول إذا أفطر : [ ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى ] ذكره أبو داود من حديث الحسين بن واقد عن مروان بن سالم المقفع عن ابن عمر
ويذكر عنه
صلى الله عليه وسلم : [ إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد ] رواه ابن ماجه وصح عنه أنه قال : [ إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم ] وفسر بأنه قد أفطر حكما وإن لم ينوه وبأنه قد دخل وقت فطره كأصبح وأمسى ونهى الصائم عن الرفث والصخب والسباب وجواب السباب فأمره أن يقول لمن سابه : إني صائم فقيل : يقوله بلسانه وهو أظهر وقيل : بقلبه تذكيرا لنفسه بالصوم وقيل : يقوله في الفرض بلسانه وفي التطوع في نفسه لأنه أبعد عن الرياء

فصل
وسافر رسول الله
صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام وأفطر وخير الصحابة بين الأمرين وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم ليتقووا على قتاله فلو اتفق مثل هذا في الحضر وكان في الفطر قوة لهم على لقاء العدو فهل لهم الفطر ؟ فيه قولان أصحهما دليلا : أن لهم ذلك وهو اختيار ابن تيمية وبه أفتى العساكر الإسلامية لما لقوا العدو بظاهر دمشق ولا ريب أن الفطر لذلك أولى من الفطر لمجرد السفر بل إباحة الفطر للمسافر تنبيه على إباحته في هذه الحالة فإنها أحق بجوازه لأن القوة هناك تختص بالمسافر والقوة هنا له وللمسلمين ولأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر ولأن المصلحة الحاصلة بالفطر للمجاهد أعظم من المصلحة بفطر المسافر ولأن الله تعالى قال : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } الأنفال : [ 60 ] والفطر عند اللقاء من أعظم أسباب القوة
والنبي
صلى الله عليه وسلم قد فسر القوة بالرمي وهو لا يتم ولا يحصل به مقصوده إلا بما يقوي ويعين عليه من الفطر والغذاء ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لما دنوا من عدوهم : [ إنكم قد دنوتم من غدوكم والفطر أقوى لكم ] وكانت رخصة ثم نزلوا منزلا آخر فقال : [ إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا ] فكانت عزمة [ فأفطرنا ] فعلل بدنوهم من عدوهم واحتياجهم إلى القوة التي يلقون بها العدو وهذا سبب آخر غير السفر والسفر مستقل بنفسه ولم يذكر في تعليله ولا أشار إليه فالتعليل به اعتبارا لما ألغاه الشارع في هذا الفطر الخاص وإلغاء وصف القوة التي يقاوم بها العدو واعتبار السفر المجرد إلغاء لما اعتبره الشارع وعلل به
وبالجملة : فتنبيه الشارع وحكمته يقتضي أن الفطر لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر فكيف وقد أشار إلى العلة ونبه عليها وصرح بحكمها وعزم عليهم بأن يفطروا لأجلها ويدل عليه ما رواه عيسى بن يونس عن شعبة عن عمرو بن دينار قال : سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم فتح مكة : [ إنه يوم قتال فأفطروا ] تابعه سعيد بن الربيع عن شعبة فعلل بالقتال ورتب عليه الأمر بالفطر بحرف الفاء وكل أحد يفهم من هذا اللفظ أن الفطر لأجل القتال وأما إذا تجرد السفر عن الجهاد فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الفطر : هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه

فصل
وسافر رسول الله
صلى الله عليه وسلم في رمضان في أعظم الغزوات وأجلها في غزاة بدر وفي غزاة الفتح
قال عمر بن الخطاب : غزونا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين : يوم بدر والفتح فأفطرنا فيهما
وأما ما رواه الدارقطني وغيرة عن عائشة قالت : خرجت مع رسول
صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت وقصر وأتممت فغلط إما عليها وهو الأظهر أو منها وأصابها فيه ما أصاب ابن عمر في قوله : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه وما اعتمر في رجب قط وكذلك أيضا عمرة كلها في ذي القعدة وما اعتمر في رمضان قط

فصل
ولم يكن من هديه
صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد ولا صح عنه في ذلك شيء وقد أفطر دحية بن خليفة الكلبي في سفر ثلاثة أميال وقال لمن صام : قد رغبوا عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم
وكان الصحابة حين ينشؤن السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت ويخبرون أن ذلك سنته وهديه
صلى الله عليه وسلم كما قال عبيد بن جبر : ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان فلم تجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة قال : اقترب قلت : ألست ترى البيوت ؟ قال أبو بصرة : أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ رواه أبو داود وأحمد ولفظ أحمد : ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة فلما دنونا من مرساها أمر بسفرته فقربت ثم دعاني إلى الغداء وذلك في رمضان فقلت : يا أبا بصرة والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد ؟ قال : أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت : لا قال : فكل قال : فلم نزل مفطرين حتى بلغنا
وقال محمد بن كعب : أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا وقد رحلت له راحلته وقد لبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلت له : سنة ؟ قال : سنة ثم ركب قال الترمذي حديث حسن وقال الدارقطني فيه : فأكل وقد تقارب غروب الشمس
وهذه الآثار صريحة في أن من أنشأ السفر في أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه

فصل
وكان من هديه
صلى الله عليه وسلم أن يدركه الفجر وهو جنب من أهله فيغتسل بعد الفجر ويصوم
وكان يقبل بعض أزواجه وهو صائم في رمضان وشبه قبلة الصائم بالمضمضة بالماء
وأما ما رواه أبو داود عن مصدع بن يحيى عن عائشة أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها فهذا الحديث قد اختلف فيه فضعفه طائفة بمصدع هذا وهو مختلف فيه قال السعدي : زائغ جائر عن الطريق وحسنه طائفة وقالوا : هو ثقة صدوق روى له مسلم في صحيحه وفي إسناده محمد بن دينار الطاحي البصري مختلف فيه أيضا قال يحيى : ضعيف وفي رواية عنه ليس به بأس وقال غيره : صدوق وقال ابن عدي : قوله ويمص لسانها لا يقوله إلا محمد بن دينار وهو الذي رواه وفي إسناده أيضا سعد بن أوس مختلف فيه أيضا قال يحيى : بصري ضعيف وقال غيره : ثقة وذكره ابن حبان في الثقات
وأما الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه عن ميمونة مولاة النبي
صلى الله عليه وسلم قالت : [ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل قبل امرأته وهما صائمان فقال : قد أفطر ] فلا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه أبو يزيد الضني رواه عن ميمونة وهي بنت سعد قال الدارقطني : ليس بمعروف ولا يثبت هذا وقال البخاري : هذا لا أحدث به هذا حديث منكر وأبو يزيد رجل مجهول
ولا يصح عنه
صلى الله عليه وسلم التفريق بين الشاب والشيخ ولم يجىء من وجه يثبت وأجود ما فيه حديث أبي داود عن نصر بن علي عن أبي أحمد الزبيري : حدثنا إسرائيل عن أبي العنبس عن الأغر عن أبي هريرة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له وأتاه آخر فسأله فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ وإذا الذي نهاه شاب وإسرائيل وإن كان البخاري ومسلم قد احتجا به وبقية الستة فعلة هذا الحديث أن بينه وبين الأغر فيه أبا العنبس العدوي الكوفي واسمه الحارث بن عبيد سكتوا عنه

فصل
وكان من هديه
صلى الله عليه وسلم إسقاط القضاء عمن أكل وشرب ناسيا وأن الله سبحانه هو الذي أطعمه وسقاه فليس هذا الأكل والشرب يضاف إليه فيفطر به فإنما يفطر بما فعله وهذا بمنزلة أكله وشربه في نومه إذ لا تكليف بفعل النائم ولا بفعل الناسي

فصل
والذي صح عنه
صلى الله عليه وسلم : أن الذي يفطر به الصائم : الأكل والشرب والحجامة والقيء : والقرآن دال على أن الجماع مفطر كالأكل والشرب لا يعرف فيه خلاف ولا يصح عنه في الكحل شيء
وصح عنه أنه كان يستاك وهو صائم
وذكر الإمام أحمد عنه أنه كان يصب الماء على رأسه وهو صائم
وكان يتمضمض ويستنشق وهو صائم ومنع الصائم من المبالغة في الإستنشاق ولا يصح عنه أنه احتجم وهو صائم قال الإمام أحمد : وقد رواه البخاري في صحيحه قال أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد قال : لم يسمع الحكم حديث مقسم في الحجامة في الصيام يعني حديث سعيد عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس [ أن النبي
صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم ]
قال مهنا : وسألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم فقال : ليس بصحيح قد أنكره يحيى بن سعيد الأنصاري إنما كانت أحاديث ميمون بن مهران عن ابن عباس نحو خمسة عشر حديثا
وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله ذكر هذا الحديث فضعفه وقال مهنا : سألت أحمد عن حديث قبيصة عن سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : احتجم رسول الله
صلى الله عليه وسلم صائما محرما فقال : هو خطأ من قبل قبيصة وسألت يحيى عن قبيصة بن عقبة فقال : رجل صدق والحديث الذي يحدث به عن سفيان عن سعيد بن جبير خطأ من قبله قال أحمد : في كتاب الأشجعي عن سعيد بن جبير مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم ولا يذكر فيه صائما
قال مهنا : وسألت أحمد عن حديث ابن عباس [ أن النبي
صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم ] ؟ فقال : ليس فيه [ صائم ] إنما هو محرم ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه وهو محرم ورواه عبد الرزاق عن معمر عن ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم وروح عن زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء وطاووس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم وهؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون صائما
وقال حنبل : حدثنا أبو عبد الله حدثنا وكيع عن ياسين الزيات عن رجل عن أنس أن النبي
صلى الله عليه وسلم احتجم في رمضان بعد ما قال : [ أفطر الحاجم والمحجوم ] قال أبو عبد الله : الرجل : أراه أبان بن أبي عياش يعني ولا يحتج به
وقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : روى محمد بن معاوية النيسابوري عن أبي عوانة عن السدي عن أنس أن النبي
صلى الله عليه وسلم [ احتجم وهو صائم ] فأنكر هذا ثم قال : السدي عن أنس قلت : نعم فعجب من هذا قال أحمد : وفي قوله [ أفطر الحاجم والمحجوم ] غير حديث ثابت
وقال إسحاق : قد ثبت هذا من خمسة أوجه عن النبي
صلى الله عليه وسلم والمقصود أنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو صائم ولا صح عنه أنه نهى الصائم عن السواك أول النهار ولا آخره بل قد روي عنه خلافه
ويذكر عنه : [ من خير خصال الصائم السواك ] رواه ابن ماجه من حديث مجالد وفيه ضعف

فصل
وروي عنه
صلى الله عليه وسلم أنه اكتحل وهو صائم وروي عنه أنه خرح عليهم في رمضان وعيناه مملوءتان من الإثمد ولا يصح وروي عنه أنه قال في الإثمد : [ ليتقه الصائم ] ولا يصح قال أبو داود : قال لي يحيى بن معين : هو حديث منكر

فصل
في هديه
صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع
كان
صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقال : لا يفطر ويفطر حتى يقال : لا يصوم وما استكمل صيام شهر غير رمضان وما كان يصوم في شهر أكثر مما يصوم في شعبان
ولم يكن يخرج عنه شهرحتى يصوم منه
ولم يصم الثلاثة الأشهر سردا كما يفعله بعض الناس ولا صام رجبا قط ولا استحب صيامه بل روي عنه النهي عن صيامه ذكره ابن ماجه
وكان يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس
وقال ابن عباس
رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يفطر أيام البيض في سفر ولا حضر ذكره النسائي وكان يحض على صيامها وقال ابن مسعود رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام ذكره أبو داود والنسائي
وقالت عائشة : لم يكن يبالي من أي الشهر صامها ذكره مسلم ولا تناقض بين هذه الآثار
وأما صيام عشر ذي الحجة فقد اختلف فقالت عائشة : رأيته صائما في العشر قط ذكره مسلم
وقالت حفصة : أربع لم يكن يدعهن رسول الله
صلى الله عليه وسلم : صيام يوم عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من كل شهر وركعتا الفجر ذكره الإمام أحمد رحمه الله
وذكر الإمام أحمد عن بعض أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم تسع ذي الحجة ويصوم عاشوراء وثلاثة أيام من الشهر أو الاثنين من الشهر والخميس وفي لفظ : الخميسين والمثبت مقدم على النافي إن صح
وأما صيام ستة أيام من شوال فصح عنه أنه قال : [ صيامها مع رمضان يعدل صيام الدهر ]
وأما صيام يوم عاشوراء فإنه كان يتحرى صومه على سائر الأيام ولما قدم المدينة وجد اليهود تصومه وتعظمه فقال : [ نحن أحق بموسى منكم ] فصامه وأمر بصيامه وذلك قبل فرض رمضان فلما فرض رمضان قال : [ من شاء صامه ومن شاء تركه ]
وقد استشكل بعض الناس هذا وقال : إنما قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول فكيف يقول ابن عباس : إنه قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء ؟ وفيه إشكال آخر وهو أنه قد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أنها قالت : كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية وكان E يصومه فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض شهر رمضان قال : [ من شاء صامه ومن شاء تركه ]
وإشكال آخر وهو ما ثبت في الصحيحين أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله بن مسعود وهو يتغدى فقال : يا أبا محمد ادن إلى الغداء فقال : أوليس اليوم يوم عاشوراء ؟ فقال : وهل تدري ما يوم عاشوراء ؟ قال : وما هو ؟ قال : إنما هو يوم كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل رمضان فلما نزل رمضان تركه
وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا : يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع ] فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهذا فيه أن صومه والأمر بصيامه قبل وفاته بعام وحديثه المتقدم فيه أن ذلك كان عند مقدمه المدينة ثم إن ابن مسعود أخبر أن يوم عاشوراء ترك برمضان وهذا يخالفه حديث ابن عباس المذكور ولا يمكن أن يقال : ترك فرضه لأنه لم يفرض لما ثبت في الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : [ هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر ] ومعاوية إنما سمع هذا بعد الفتح قطعا
وإشكال آخر وهو أن مسلما روى في صحيحه عن عبد الله بن عباس أنه لما قيل لرسول الله
صلى الله عليه وسلم : إن هذا اليوم تعظمه اليهود والنصارى قال : [ إن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ] فلم يأت العام القابل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم روى مسلم في صحيحه عن الحكم بن الأعرج قال : انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له : أخبرني عن صوم عاشوراء فقال : إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما قلت : هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه ؟ قال : نعم
وإشكال آخر : وهو أن صومه إن كان واجبا مفروضا في أول الإسلام فلم يأمرهم بقضائه وقد فات تبييت النية له من الليل وإن لم يكن فرضا فكيف أمر بإتمام الإمساك من كان أكل ؟ كما في المسند والسنن من وجوه متعددة أنه عليه السلام أمر من كان طعم فيه أن يصوم بقية يومه وهذا إنما يكون في الواجب وكيف يصح قول ابن مسعود : فلما فرض رمضان ترك عاشوراء واستحبابه لم يترك ؟ وإشكال آخر : وهو أن ابن عباس جعل يوم عاشوراء يوم التاسع وأخبر أن هكذا كان يصومه
صلى الله عليه وسلم وهو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في : [ صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود صوموا يوما قبله أو يوما بعده ] ذكره أحمد وهو الذي روى : [ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر ] ذكره الترمذي
فالجواب عن هذه الإشكالات بعون الله وتأييده وتوفيقه : أما الإشكال الأول : وهو أنه لما قدم المدينة وجدهم يصومون يوم عاشوراء فليس فيه أن يوم قدومه وجدهم يصومونه فإنه إنما قدم يوم الاثنين في ربيع الأول ثاني عشرة ولكن أول علمه بذلك بوقوع القصة في العام الثاني الذي كان بعد قدومه المدينة ولم يكن وهو بمكة هذا إن كان حساب أهل الكتاب في صومه بالأشهر الهلالية وإن كان بالشمسية زال الإشكال بالكلية ويكون اليوم الذي نجى الله فيه موسى هو يوم عاشوراء من أول المحرم فضبطه أهل الكتاب بالشهور الشمسية فوافق ذلك مقدم النبي
صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول وصوم أهل الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس وصوم المسلمين إنما هو بالشهر الهلالي وكذلك حجهم وجميع ما تعتبر له الأشهر من واجب أو مستحب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ نحن أحق بموسى منكم ] فظهر حكم هذه الأولوية في تعظيم هذا اليوم وفي تعيينه وهم أخطؤوا تعيينه لدورانه في السنة الشمسية كما أخطأ النصارى في تعيين صومهم بأن جعلوه في فصل من السنة تختلف فيه الأشهر
وأما الإشكال الثاني وهو أن قريشا كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصومه فلا ريب أن قريشا كانت تعظم هذا اليوم وكانوا يكسون الكعبة فيه وصومه من تمام تعظيمه ولكن إنما كانوا يعدون بالأهلة فكان عندهم عاشر المحرم فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجدهم يعظمون ذلك اليوم ويصومونه فسألهم عنه فقالوا : هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون فقال صلى الله عليه وسلم : [ نحن أحق منكم بموسى ] فصامه وأمر بصيامه تقريرا لتعظيمه وتأكيدا وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه وأمته أحق بموسى من اليهود فإذا صامه موسى شكرا لله كنا أحق أن نقتدي به من اليهود لا سيما إذا قلنا : شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخافه شرعنا
فإن قيل : من أين لكم أن موسى صامه ؟ قلنا : ثبت في الصحيحين [ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما سألهم عنه فقالوا يوم عظيم نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا لله فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه ] فلما أقرهم على ذلك ولم يكذبهم علم أن موسى صامه شكرا لله فانضم هذا القدر إلى التعظيم الذي كان له قبل الهجرة فازداد تأكيدا حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي في الأمصار بصومه وإمساك من كان أكل والظاهر : أنه حتم ذلك عليم وأوجبه كما سيأتي تقريره
وأما الإشكال الغالب : وهو أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم عاشوراء قبل أن ينزل فرض رمضان فلما نزل فرض رمضان تركه فهذا لا يمكن التخلص منه إلا بأن صيامه كان فرضا قبل رمضان وحينئذ فيكون المتروك وجوب صومه لا استحبابه ويتعين هذا ولا بد لأنه عليه السلام قال قبل وفاته بعام وقد قيل له : إن اليهود يصومونه : لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع أي : معه خالفوا اليهود وصوموا يوما قبله أو يوما بعده أي : معه ولا ريب أن هذا كان في آخر الأمر وأما في أول الأمر فكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء فعلم أن استحبابه لم يترك
ويلزم من قال : إن صومه لم يكن واجبا أحد الأمرين إما أن يقول بترك استحبابه فلم يبق مستحبا أو يقول : هذا قاله عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه برأيه وخفي عليه استحباب صومه وهذا بعيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم حثهم على صيامه وأخبر أن صومه يكفر السنة الماضية واستمر الصحابة على صيامه إلى حين وفاته ولم يرو عنه حرف واحد بالنهي عنه وكراهة صومه فعلم أن الذي ترك وجوبه لا استحبابه
فإن قيل : حديث معاوية المتفق على صحته صريح في عدم فرضيته وإنه لم يفرض قط - فالجواب - أن حديث معاوية صريح في نفي استمرار وجوبه وأنه الآن غير واجب ولا ينفي وجوبا متقدما فسوخا فإنه لا يمتنع أن يقال لما كان واجبا ونسخ وجوبه : إن الله لم يكتبه علينا
وجواب ثان : أن غايته أن يكون النفي عاما في الزمان الماضي والحاضر فيخص بأدلة الوجوب في الماضي وترك النفي في استمرار الوجوب
وجواب ثالث : وهو أنه
صلى الله عليه وسلم إنما نفى أن يكون فرضه ووجوبه مستفادا من جهة القرآن ويدل على هذا قوله : إن الله لم يكتبه علينا وهذا لا ينفي الوجوب بغير ذلك فإن الواجب الذي كتبه الله على عباده هو ما أخبرهم بأنه كتبه عليهم كقوله تعالى : { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] فأخبر صلى الله عليه وسلم أن صوم يوم عاشوراء لم يكن داخلا في هذا المكتوب الذي كتبه الله علينا دفعا لتوهم من يتوهم أنه داخل فيما كتبه الله علينا فلا تناقض بين هذا وبين الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخا بهذا الصيام المكتوب يوضح هذا أن معاوية إنما سمع هذا منه بعد فتح مكة واستقرار فرض رمضان ونسخ وجوب عاشوراء به والذين شهدوا أمره بصيامه والنداء بذلك وبالإمساك لمن أكل شهدوا ذلك قبل فرض رمضان عند مقدمه المدينة وفرض رمضان كان في السنة الثانية من الهجرة فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات فمن شهد الأمر بصيامه شهده قبل نزول فرص رمضان ومن شهد الإخبار عن عدم فرضه شهده في آخر الأمر بعد فرض رمضان وإن لم يسلك هذا المسلك تناقضت أحاديث الباب واضطربت
فإن قيل : فكيف يكون فرضا ولم يحصل تبييت النية من الليل وقد قال : لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فالجواب : أن هذا الحديث مختلف فيه : هل هو من كلام النبي
صلى الله عليه وسلم أو من قول حفصة وعائشة ؟ فأما حديث فأوقفه عليها معمر والزهري وسفيان بن عيينة ويونس بن يزيد الأيلي عن الزهري ورفعه بعضهم وأكثر أهل الحديث يقولون : الموقوف أصح قال الترمذي : وضد رواه نافع عن ابن عمر قوله وهو أصح ومنهم من يصحح رفعه لثقة رافعه وعدالته وحديث عائشة أيضا : روي وموقوفا واختلف في تصحيح رفعه فإن لم يثبت رفعه فإن لم يثبت رفعه فمعلوم أن هذا إنما قاله بعد فرض رمضان وذلك متأخر عن الأمر بصيام يوم عاشوراء وذلك تجديد حكم واجب وهو التبييت نسخا لحكم ثابت بخطاب فإجزاء صيام يوم عاشوراء بنية من النهار قبل فرض رمضان وقبل فرض التبييت من الليل ثم نسخ وجوب صومه برمضان وتجدد وجوب التبييت فهذه طريقة
وطريقة ثانية هي طريقة أصحاب أبي حنيفة أن وجوب صيام يوم عاشوراء تضمن أمرين : وجوب صوم ذلك اليوم وإجزاء صومه بنية من النهار ثم نسخ تعيين الواجب بواجب آخر فبقي حكم الإجزاء بنية من النهار غير منسوخ
وطريقة ثالثة : وهي أن الواجب تابع للعلم ووجوب عاشوراء إنما علم من النهار وحينئذ فلم يكن التبييت ممكنا فالنية وجبت وهي الوجوب والعلم به وإلا كان تكليفا بما لا تطاق وهو ممتنع قالوا هذا اذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار أجزأ صومه بنية مقارنة بالوجوب وأصله صوم يوم عاشوراء وهذه طريقة شيخنا وهي كما تراها أصح الطرق وأقربها إلى موافقة الشرع وقواعده وعليها تدل الأحاديث ويجتمع شملها الذي يظن تفرقه ويتخلص من دعوى النسخ بغير ضرورة وغير هذه الطريقة لا بد فيه من مخالفة قاعدة من قواعد الشرع أو مخالفة بعض الآثار وإذا كان النبي
صلى الله عليه وسلم لم يأمر أهل قباء بإعادة الصلاة التي صلوا بعضها إلى القبلة المنسوخة إذ لم يبلغهم وجوب التحول فكذلك من لم يبلغه وجوب فرض الصوم أو لم يتمكن من العلم بسبب وجوبه لم يؤمر بالقضاء ولا يقال : إنه ترك التبييت الواجب إذ وجوب التبييت تابع للعلم بوجوب المبيت وهذا في غاية الظهور
ولا ريب أن هذه الطريقة أصح من طريقة من يقول : كان عاشوراء فرضا وكان يجزىء صيامه بنية من النهار ثم نسخ الحكم بوجوبه فنسخت متعلقاته ومن متعلقاته إجزاء صيامه بنية من النهار لأن متعلقاته تابعة له وإذا زال المتبوع زالت توابعه وتعلقاته فإن إجزاء الصوم الواجب بنية من النهار لم يكن من متعلقات خصوص هذا اليوم بل من متعلقات الصوم الواجب والصوم الواجب لم يزل وإنما زال تعيينه فنقل من محل إلى محل والإجزاء بنية من النهار وعدمه من توابع أصل الصوم لا تعيينه
وأصح من طريقة من يقول : إن صوم يوم عاشوراء لم يكن واجبا قط لأنه قد ثبت الأمر به وتأكيد الأمر بالنداء العام وزيادة تأكيده بالأمر لمن كان أكل بالإمساك وكل هذا ظاهر قوي في الوجوب ويقول ابن مسعود : إنه لما فرض رمضان ترك عاشوراء ومعلوم أن استحبابه لم تترك بالأدلة التي تقدمت وغيرها فيتعين أن يكون المتروك وجوبه فهذه خمس طرق للناس في ذلك والله أعلم
وأما الإشكال الراجح وهو أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع وأنه توفي قبل العام المقبل وقول ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم التاسع فابن عباس روى هذا وهذا وصح عنه هذا وهذا ولا تنافي بينهما إذ من الممكن أن يصوم التاسع ويخبر أنه إن بقي إلى العام القابل صامه أو يكون ابن عباس أخبر عن فعله مستندا إلى ما عزم عليه ووعد به ويصح الإخبار عن ذلك مقيدا أي : كذلك كان يفعل لو بقي ومطلقا إذا علم الحال وعلى كل واحد من الاحتمالين فلا تنافي بين الخبرين
وأما الإشكال الخامس : فقد تقدم جوابه بما فيه كفاية
وأما الإشكال السادس : وهو قول ابن عباس : أعدد وأصبح يوم التاسع صائما فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال وسعة علم ابن عباس فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليوم التاسع بل قال للسائل : صم اليوم التاسع واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يعده الناس كلهم يوم عاشوراء فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه وأخبر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يصومه كذلك فإما أن يكون فعل ذلك هوالأولى وإما أن يكون حض على الأمر به وعزمه عليه في المستقبل ويدك على ذلك أنه هو الذي روى صوموا يوما قبله ويوما بعده وهو الذي روى : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر وكل هذه الآثار عنه يصدق بعضها بعضا ويؤيد بعضها بعضا
فمراتب صومه ثلاثة : أكملها : أن يصام قبله يوم وبعده يوم ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر وعليه أكثر الأحاديث ويلي ذلك إفراد العاشر بالصوم
وأما إفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار وعدم تتبع ألفاظها وطرقها وهو بعيد من اللغة والشرع والله الموفق للصواب
وقد سلك بعض أهل العلم مسلكا آخر فقال : قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة مع الإتيان بها وذلك يحصل بأحد أمرين : إما بنقل العاشر إلى التاسع أو بصيامهما معا وقوله : إذا كان العام المقبل صمنا التاسع : يحتمل الأمرين فتوفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم قبل أن يتبين مراده فكان الاحتياط صيام اليومين معا والطريقة التي ذكرناها أصوب إن شاء الله ومجموع أحاديث ابن عباس عليها تدل لأن قوله في حديث أحمد : خالفوا اليهود صوموا يوما قبله أو يوما بعده وقوله في حديث الترمذي : أمرنا بصيام عاشوراء يوم العاشر يبين صحة الطريقة التي سلكناها والله أعلم

فصل
وكان من هديه
صلى الله عليه وسلم إفطاريوم عرفة بعرفة ثبت عنه ذلك في الصحيحين
وروي عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة رواه عنه أهل السنن
وصح عنه أن صيامه يكفر السنة الماضية والباقية ذكره مسلم
وقد ذكر لفطره بعرفة عدة حكم
منها أنه أقوى على الدعاء
ومنها : أن الفطر في السفر أفضل في فرض الصوم فكيف بنفله
ومنها : أن ذلك اليوم كان يوم الجمعة وقد نهى عن إفراده بالصوم فأحب أن يرى الناس فطره فيه تأكيدا لنهيه عن تخصيصه بالصوم وإن كان صومه لكونه يوم عرفة لا يوم جمعة وكان شيخنا
رحمه الله يسلك مسلكا آخر وهو أنه يوم عيد لأهل عرفة لاجتماعهم فيه كاجتماع الناس يوم العيد وهذا الإجتماع يختص بمن بعرفة دون أهل الآفاق قال : وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحديث الذي رواه أهل السنن [ يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام ] ومعلوم : أن كونه عيدا هو لأهل ذلك الجمع لاجتماعهم والله أعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"