بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 3 أبريل 2010

نبذ من زاد المعاد/10

فصل
غلط في عمر النبي
صلى الله عليه وسلم خمس طوائف
إحداها : من قال : إنه اعتمر في رجب وهذا غلط فإن عمره مضبوطة محفوظة لم يخرج في رجب إلى شيء منها البتة
الثانية : من قال : إنه اعتمر في شوال وهذا أيضا وهم والظاهر - والله أعلم - أن بعض الرواة غلط في هذا وأنه اعتكف في شوال فقال : اعتمر في شوال لكن سياق الحديث وقوله : اعتمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر : عمرة في شوال وعمرتين في ذي القعدة يدل على أن عائشة أو من دونها إنما قصد العمرة
الثالثة : من قال : إنه اعتمر من التنعيم بعد حجه وهذا لم يقله أحد من أهل العلم وإنما يظنه العوام ومن لا خبرة له بالسنة
الرابعة : من قال : إنه لم يعتمر في حجته أصلا والسنة الصحيحة المستفيضة التي لا يمكن ردها تبطل هذا القول
الخامسة : من قال : إنه اعتمر عمرة حل منها ثم أحرم بعدها بالحج من مكة والأحاديث الصحيحة تبطل هذا القول وترده

فصل
ووهم في حجه خمس طوائف
الطائفة الأولى : التي قالت : حج حجا مفردا لم يعتمر معه
الثانية : من قال : حج متمتعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج كما قاله القاضي أبو يعلى وغيره
الثالثة : من قال : حج متمتعا تمتعا لم يحل منه لأجل سوق الهدي ولم يكن قارنا كما قاله أبو محمد بن قدامة صاحب المغني وغيره
الرابعة : من قال : حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى له سعيين
الخامسة : من قال : حج حجا مفردا واعتمر بعده من التنعيم

فصل
وغلط في إحرامه خمس طوائف
إحداها : من قال : لبى بالعمرة وحدها واستمر عليها
الثانية : من قال : لبى بالحج وحده واستمر عليه
الثالثة : من قال : لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة وزعم أن ذلك خاص به
الرابعة : من قال : لبى بالعمرة وحدها ثم أدخل عليها الحج في ثاني الحال
الخامسة : من قال : أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا ثم عينه بعد إحرامه
والصواب : أنه أحرم بالحج والعمرة معا من حين أنشأ الإحرام ولم يحل حتى حل منهما جميعا فطاف لهما طوافا واحدا وسعى لهما سعيا واحدا وساق الهدي كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترت تواترا يعلمه أهل الحديث والله أعلم

فصل
في أعذار القائلين بهذه الأقوال وبيان منشأ الوهم والغلط
أما عذر من قال : اعتمر فى رجب فحديث عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما [ أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب ] متفق عليه وقد غلطته عائشة وغيرها كما في الصحيحين عن [ مجاهد قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالسا إلى حجرة عائشة وإذا ناس يصلون في المسجد الضحى قال : فسألناه عن صلاتهم فقال : بدعة ثم قلنا له : كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أربعا إحداهن : في رجب فكرهنا أن نرد عليه قال : وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة فقال عروة : يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ؟ قالت : ما يقول ؟ قال : يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر إحداهن في رجب قالت : يرحم الله عبد الرحمن ما اعتمر عمرة قط إلا وهو شاهد وما اعتمر في رجب قط ] وكذلك قال أنس وابن عباس : إن عمره كلها كانت في ذي القعدة وهذا هو الصواب

فصل
وأما من قال : اعتمر فى شوال فعذره ما رواه مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا ثلاثا إحداهن في شوال واثنتين في ذي القعدة ولكن هذا الحديث مرسل وهو غلط أيضا إما من هشام وإما من عروة أصابه فيه ما أصاب ابن عمر وقد رواه أبو داود مرفوعا عن عائشة وهو غلط أيضا لا يصح رفعه قال ابن عبد البر : وليس روايته مسندا مما يذكر عن مالك في صحة النقل قلت : ويدل على بطلانه عن عائشة : أن عائشة وابن عباس وأنس بن مالك قالوا : لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة وهذا هو الصواب فإن عمرة الحديبية وعمرة القضية كانتا في ذي القعدة وعمرة القرآن إنما كانت في ذي القعدة وعمرة الجعرانة أيضا كانت في أول ذي القعدة وإنما وقع الاشتباه أنه خرج من مكة في شوال للقاء العدو وفرغ من عدوه وقسم غنائمهم ودخل مكة ليلا معتمرا من الجعرانة وخرج منها ليلا فخفيت عمرته هذه على كغير من الناس وكذلك قال محرش الكعبي والله أعلم

فصل
وأما من ظن أنه اعتمر من التنعيم بعد الحج فلا أعلم له عذرا فإن هذا خلاف المعلوم المستفيض من حجته ولم ينقله أحد قط ولا قاله إمام ولعل ظان هذا سمع أنه أفرد الحج ورأى أن كل من أفرد الحج من أهل الآفاق لا بد له أن يخرج بعده إلى التنعيم فنزل حجة رسول الله
صلى الله عليه وسلم على ذلك وهذا عين
الغلط

فصل
وأما من قال : إنه لم يعتمر في حجته أصلا فعذره أنه لما سمع أنه أفرد في حجته الحج وعلم يقينا أنه لم يعتمر بعد حجته قال : إنه لم يعتمر في تلك الحجة اكتفاء منه بالعمرة المتقدمة والأحاديث المستفيضة الصحيحة ترد قوله كما تقدم من أكثر من عشرين وجها وقد قال : [ هذه عمرة استمتعنا بها ] وقالت حفصه : ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ وقال سراقة بن مالك : تمتع رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكذلك قال ابن عمر وعائشة وعمران بن حصين وابن عباس وصرح أنس وابن عباس وعائشة أنه اعتمر في حجته وهي إحدى عمرة الأربع

فصل
وأما من قال : إنه اعتمر عمرة حل منها كما قاله القاضى وأبو يعلى ومن وافقه فعذرهم ما صح عن ابن عمر وعائشة وعمران بن حصين وغيرهم أنه
صلى الله عليه وسلم تمتع وهذا يحمل أنه تمتع حل منه ويحتمل أنه لم يحل فلما أخبر معاوية أنه قصر عن رأسه بمشقص على المروة وحديثه في الصحيحين دل على أنه حل من إحرامه ولا يحكن أن يكون هذا في غير حجة الوداع لأن معاوية أسلم بعد الفتح والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن زمن الفتح محرما ولا يمكن أن يكون في عمرة الجعرانة لوجهين أحدهما : أن في بعض ألفاظ الحديث الصحيح [ وذلك في حجته ]
والثاني : أن في رواية النسائي بإسناد صحيح [ وذلك في أيام العشر ] وهذا إنما كان في حجته وحمل هؤلاء رواية من روى أن المتعة كانت له خاصة على أن طائفة منهم خصوا بالتحليل من الإحرام مع سوق الهدي دون من ساق الهدي من الصحابة وأنكر ذلك عليهم آخرون منهم شيخنا أبو العباس وقالوا : من تأمل الأحاديث المستفيضة الصحيحة تبين له أن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يحل لا هو ولا أحد ممن ساق الهدى

فصل
في أعذار الذين وهموا في صفة حجته
أما من قال : إنه حج حجا مفردا لم يعتمر فيه فعذره ما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت : خرجنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج وقالوا : هذا التقسيم والتنويع صريح في إهلاله بالحج وحده
ولمسلم عنها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردا
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لبى بالحج وحده
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أهل بالحج
وفي سنن ابن ماجه عن جابر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أفرد الحج
وفي صحيح مسلم عنه : خرجنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة وفي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير قال : حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت [ ثم لم تكن عمرة ] ثم حج أبو بكر رضي الله عنه فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم معاوية وعبد الله بن عمر ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها عمرة وهذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدؤون بشيىء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ثم لا يحلون وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبدآن بشيء أول من البيت تطوفان به ثم تحلان وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة فلما مسحوا الركن حلوا
وفي سنن أبي داود : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة ووهيب بن خالد كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم موافين لهلال ذي الحجة فلما كان بذي الحليفة قال : [ من شاء أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل بعمرة ] ثم انفرد وهيب في حديثه بأن قال عنه صلى الله عليه وسلم : [ فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة ] وقال الآخر : [ وأما أنا فأهل بالحج ] فصح بمجموع الروايتين أنه أهل بالحج مفردا فأرباب هذا القول عذرهم ظاهر كما ترى ولكن ما عذرهم في حكمه وخبره الذي حكم به على نفسه وأخبر عنها بقوله : سقت الهدي وقرنت وخبر من هو تحت بطن ناقته وأقرب إليه حينئذ من غيره فهو من أصدق الناس يسمعه يقول : [ لبيك بحجة وعمرة ] وخبر من هو من أعلم الناس عنه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين يخبر أنه أهل بهما جميعا ولبى بهما جميعا وخبر زوجته حفصة في تقريره لها على أنه معتمر بعمرة لم يحل منها فلم ينكر ذلك عليها بل صدقها وأجابها بأنه مع ذلك حاج وهو صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل يسمعه أصلا بل ينكره وما عذرهم عن خبره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالوحي الذي جاء من ربه يأمره فيه أن يهل بحجة في عمرة وما عذرهم عن خبر من أخبر عنه من أصحابه أنه قرن لأنه علم أنه لا يحج بعدها وخبر من أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر مع حجته وليس مع من قال : إنه أفرد الحج شيء من ذلك البتة فلم يقل أحد منهم عنه : إني أفردت ولا أتاني آت من ربي يأمرني بالإفراد ولا قال أحد : ما بال الناس حلوا ولم تحل من حجتك كما حلوا هم بعمرة ولا قال أحد : سمعته يقول : لبيك بعمرة مفردة البتة ولا بحج مفرد ولا قال أحد : إنه اعتمر أربع عمر الرابعة بعد حجته وقد شهد عليه أربعة من الصحابة أنهم سمعوه يخبر عن نفسه بأنه قارن ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بأن يقال : لم يسمعوه ومعلوم قطعا أن تطرق الوهم والغلط إلى من أخبر عما فهمه هو من فعله يظنه كذلك أولى من تطرق التكذيب إلى من قال : سمعته يقول : كذا وكذا وإنه لم يسمعه فإن هذا لا يتطرق إليه إلا التكذيب بخلاف خبر من أخبر عما ظنه من فعله وكان واهما فإنه لا ينسب إلى الكذب ولقد نزه الله عليا وأنسا والبراء وحفصة عن أن يقولوا : سمعناه يقول : كذا ولم يسمعوه ونزهه ربه تبارك وتعالى أن يرسل إليه : أن افعل كذا وكذا ولم يفعله هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل فكيف والذين ذكروا الإفراد عنه لم يخالفوا هؤلاء في مقصودهم ولا ناقضوهم وإنما أرادو إفراد الأعمال واقتصاره على عمل المفرد فإنه ليس في عمله زيادة على عمل المفرد ومن روى عنهم ما يوهم خلاف هكذا فإنه عبر بحسب ما فهمه كما سمع بكر بن عبد الله ابن عمر يقول : أفرد الحج فقال : لبى بالحج وحده فحمله على المعنى وقال سالم ابنه عنه ونافع مولاه إنه تمتع فبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل
بالحج فهذا سالم يخبر بخلاف ما أخبر به بكر ولا يصح تأويل هذا عنه بأنه أمر به فإنه فسره بقوله : وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وكذا الذين روو الإفراد عن عائشة
رضي الله عنها فهما عروة والقاسم وروى القرآن عنها عروة ومجاهد وأبو الأسود يروي عن عروة الإفراد والزهري يروي عنه القرآن فإن قدرنا تساقط الروايتين سلمت رواية مجاهد وإن حملت رواية الإفراد على أنه أفرد أعمال الحج تصادقت الروايات وصدق بعضها بعضا ولا ريب أن قول عائشة وابن عمر أفرد الحج محتمل لثلاثة معان : أحدها : الإهلال به مفردا
الثاني : إفراد أعماله
الثالث : أنه حج حجة واحدة لم يحج معها غيرها بخلاف العمرة فإنها كانت أربع مرات
وأما قولهما : تمتع بالعمرة إلى الحج وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فحكيا فعله فهذا صريح لا يحتمل غير معنى واحد فلا يجوز رده بالمجمل وليس في رواية الأسود بن يزيد وعمرة عن عائشة أنه أهل بالحج ما يناقض رواية مجاهد وعروة عنها أنه قرن فإن القارن حاح أهل بالحج قطعا وعمرته جزء من حجته فمن أخبر عنها انه أهل بالحج فهو غير صادق فإن ضمت رواية مجاهد إلى رواية عمرة والأسود ثم ضمتا إلى رواية غروة تبين من مجموع الروايات أنه كان قارنا وصدق بعضها بعضا حتى لو لم يحتمل قول عائشة وابن عمر إلا معنى الإهلال به مفردا لوجب قطعا أن يكون سبيله سبيل قول ابن عمر : اعتمر في رجب وقول عائشة أو عروة : إنه
صلى الله عليه وسلم اعتمر في شوال إلا أن تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة لا سبيل أصلا إلى تكذيب رواتها ولا تأويلها وحملها على غير ما دلت عليه ولا سبيل إلى تقديم هذه الرواية المجملة التي قد اضطربت على رواتها واختلف عنهم فيها وعارضهم من هو أوثق منهم أو مثلهم عليها
وأما قول جابر : إنه أفرد الحج فالصريح من حديثه ليس فيه شيء من هذا وإنما فيه إخباره عنهم أنفسهم أنهم لا ينوون إلا الحج فأين في هذا ما يدل على أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لبى بالحج مفردا
وأما حديثه الآخر الذي رواه ابن ماجه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أفرد الحج فله ثلاث طرق أجودها : طريق الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه وهذا يقينا مختصر من حديثه الطويل في حجة الوداع ومروي بالمعنى والناس خالفوا الدراوردي في ذلك وقالوا : أهل بالحج وأهل بالتوحيد والطريق الثاني : فيها مطرف بن مصعب عن عبد العزيز بن أبي حازم عن جعفر ومطرف قال ابن حزم هو مجهول قلت : ليس هو بمجهول ولكنه ابن أخت مالك روي عنه البخاري وبشر بن موسى وجماعة قال أبو حاتم : صدوق مضطرب الحديث هو أحب إلي من إسماعيل بن أبي أويس وقال ابن عدي : يأتي بمناكير وكأن أبا محمد ابن حزم رأى في النسخة مطرف بن مصعب فجهله وإنما هو مطرف أبو مصعب وهو مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليط بن يسار وممن غلط في هذا أيضا محمد بن عثمان الذهبي في كتابه الضعفاء فقال : مطرف بن مصعب المدني عن ابن أبي ذئب منكر الحديث قلت : والراوي عن ابن أبي ذئب والداراوردي ومالك هو مطرف أبو مصعب المدني وليس بمنكر الحديث وإنما غره قول ابن عدي يأتي بمناكير ثم ساق له منها ابن عدي جملة لكن هي من رواية أحمد بن داود بن صالح عنه كذبه الدارقطني والبلاء فيها منه
والطريق الثالث : لحديث جابر فيها محمد بن عبد الوهاب ينظر فيه من هو وما حاله عن محمد بن مسلم إن كان الطائفي هو ثقة عند ابن معين ضعيف عند الإمام أحمد وقال ابن حزم : ساقط البتة ولم أر هذه العبارة فيه لغيره وقد استشهد به مسلم قال ابن حزم : وإن كان غيره فلا أدري من هو ؟ قلت : ليس بغيره بل هو الطائفي يقينا وبكل حال فلو صح هذا عن جابر لكان حكمه حكم المروي عن عائشة وابن عمر وسائر الرواة الثقات إنما قالوا : أهل بالحج فلعل هؤلاء حملوه على المعنى وقالوا : أفرد الحج ومعلوم أن العمرة إذا دخلت في الحج فمن قال : أهل بالحج لا يناقض من قال : أهل بهما بل هذا فصل وذاك أجمل ومن قال : أفرد الحج يحتمل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة ولكن هل قال أحد قط عنه : إنه سمعه يقول : [ لبيك بحجة مفردة ] هذا ما لا سبيل إليه حتى لو وجد ذلك لم يقدم على تلك الأساطين التي ذكرناها والتي لا سبيل إلى دفعها البتة وكان تغليط هذا أو حمله على أول الإحرام وأنه صار قارنا في أثنائه متعينا فكيف ولم يثبت ذلك وقد قدمنا عن سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع رواه زكريا الساجي عن عبد الله بن أبي زياد القطواني عن زيد بن الحباب عن سفيان ولا تناقض بين هذا وبين قوله : أهل بالحج وأفرد بالحج ولبى بالحج كما تقدم

فصل
فحصل الترجيح لرواية من روى القران لوجوه عشرة
أحدها : أنهم أكثر كما تقدم
الثاني : أن طرق الإخبار بذلك تنوعت كما بيناه
الثالث : أن فيهم من أخبر عن سماعه ولفظه صريحا وفيهم من أخبر عن إخباره عن نفسه بأنه فعل ذلك وفيهم من أخبر عن أمر ربه له بذلك ولم يجىء شيء من ذلك في الإفراد
الرابع : تصديق روايات من روى أنه اعتمر أربع عمر لها
الخامس : أنها صريحة لا تحتمل التأويل بخلاف روايات الإفراد
السادس : أنها متضمنة زيادة سكت عنها أهل الإفراد أو نفوها
والذاكر الزائد مقدم على الساكت والمثبت مقدم على النافي
السابع : أن رواة الإفراد أربعة : عائشة وابن عمر وجابر وابن عباس والأربعة رووا القرآن فإن صرنا إلى تساقط رواياتهم سلمت رواية من عداهم للقرآن عن معارض وإن صرنا إلى الترجيح وجب الأخذ برواية من لم تضطرب الرواية عنه ولا اختلفت كالبراء وأنس وعمر بن الخطاب وعمران بن حصين وحفصة ومن معهم ممن تقدم
الثامن : أنه النسك الذي أمر به من ربه فلم يكن ليعدل عنه
التاسع : أنه النسك الذي أمر به كل من ساق الهدي فلم يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدي ثم يسوق هو الهدي ويخالفه
العاشر : أنه النسك الذي أمر به آله وأهل بيته واختار لهم ولم يكن ليختار لهم إلا ما اختار لنفسه
وثمت ترجيح حادي عشر وهو قوله [ دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ] وهذا يقتضي أنها قد صارت جزءا منه أو كالجزء الداخل فيه بحيث لا يفصل بينها وبينه وإنما تكون مع الحج كما يكون الداخل في الشيء معه
وترجيح ثاني عشر : وهو قول عمر بن الخطاب
رضي الله عنه للصبي بن معبد وقد أهل بحج وعمرة فأنكر عليه زيد بن صوحان أو سلمان بن ربيعة فقال له عمر : هديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وهذا يوافق رواية عمر عنه صلى الله عليه وسلم أن الوحي جاءه من الله بالإهلال بهما جميعا فدل على أن القرآن سنته التي فعلها وامتثل أمر الله له بها
وترجيح ثالث عشر : أن القارن تقع أعماله عن كل من النسكين فيقع إحرامه وطوافه وسعيه عنهما معا وذلك أكمل من وقوعه عن أحدهما وعمل كل فعل على حدة وترجيح رابع عشر : وهو أن النسك الذي اشتمل على سوق الهدي أفضل بلا ريب من نسك خلا عن الهدي فإذا قرن كان هديه عن كل واحد من النسكين فلم يخل نسك منهما عن هدي ولهذا - والله أعلم - أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم من ساق الهدي أن يهل بالحج والعمرة معا وأشار إلى ذلك في المتفق عليه من حديث البراء بقوله : [ إني سقت الهدي وقرنت ]
وترجيح خامس عشر : وهو أنه قد ثبت أن التمتع أفضل من الإفراد لوجوه كثيرة منها : أنه
صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج إليه ومحال أن ينقلهم من الفاضل إلى المفضول الذي هو دونه : ومنها : أنه تأسف على كونه لم يفعله بقوله : [ لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ] ومنها : أنه أمر به كل من لم يسق الهدي ومنها : أن الحج الذي استقر عليه فعله وفعل القرآن لمن ساق الهدي والتمتع لمن لم يسق الهدي ولوجوه كثيرة غير هذه والمتمتع إذا ساق الهدي فهو أفضل من متمتع اشتراه من مكة بل في أحد القولين لا هدي إلا ما جمع فيه بين الحل والحرم فإذا ثبت هذا فالقارن السائق أفضل من متمتع لم يسق ومن متمتع ساق الهدي لأنه قد ساق من حين أحرم والمتمتع إنما يسوق الهدي من أدنى الحل فكيف يجعل مفرد لم يسق هديا أفضل من متمتع ساقه من أدنى الحل ؟ فكيف إذا جعل أفضل من قارن ساقه من الميقات وهذا بحمد الله واضح

فصل
وأما قول من قال : إنه حج متمتعا تمتعا حل فيه من إحرامه ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدي فعذره ما تقدم من حديث معاوية أنه قصر عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بمشقص في العشر وفي لفظ : وذلك في حجته وهذا مما أنكره الناس على معاوية وغلطوه فيه وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر في قوله : إنه اعتمر في رجب فإن سائر الأحاديث الصحيحة المستفيضة من الوجوه المتعددة كلها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه إلا يوم النحر ولذلك أخبر عن نفسه بقوله : [ لولا أن معي الهدي لأحللت ] وقوله : [ إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى أنحر ] وهذا خبر عن نفسه فلا يدخله الوهم ولا الغلط بخلاف خبر غيره عنه لا سيما خبرا يخالف ما أخبر به عن نفسه وأخبر عنه به الجم الغفير أنه لم يأخذ من شعره شيئا لا بتقصير ولا حلق وأنه بقي على إحرامه حتى حلق يوم النحر ولعل معاوية قصر عن رأسه في عمرة الجعرانة فإنه كان حينئذ قد أسلم ثم نسي فظن أن ذلك كان في العشر كما نسي ابن عمر أن عمره كانت كلها في ذي القعدة وقال : كانت إحداهن في رجب وقد كان معه فيها والوهم جائز على من سوى الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا قام الدليل عليه صار واجبا
وقد قيل : إن معاوية لعله قصر عن رأسه بقية شعر لم يكن استوفاه الحلاق يوم النحر فأخذه معاوية على المروة ذكره أبو محمد ابن حزم وهذا أيضا من وهمه فإن الحلاق لا يبقي غلطا شعرا يقصر منه ثم يبقي منه بعد التقصير بقية يوم النحر وقد قسم شعر رأسه بين الصحابة فأصاب أبا طلحة أحد الشقين وبقية الصحابة اقتسموا الشق الآخر الشعرة والشعرتين والشعرات وأيضا فإنه لم يسع بين الصفا والمروة إلا سعيا واحدا وهو سعيه الأول لم يسع عقب طواف الإفاضة ولا اعتمر بعد الحج قطعا فهذا وهم محض وقيل : هذا الإسناد إلى معاوية وقع فيه غلط وخطأ أخطأ فيه الحسن بن علي فجعله عن معمر عن ابن طاووس وإنما هو عن هشام بن حجير عن ابن طاووس وهشام : ضعيف
قلت : والحديث الذي في البخاري عن معاوية قصرت عن رأس رسول الله
صلى الله عليه وسلم بمشقص ولم يزد على هذا والذي عند مسلم : قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة وليس في الصحيحين غير ذلك
وأما رواية من روى [ في أيام العشر ] فليست في الصحيح وهي معلولة أو وهم من معاوية قال قيس بن سعد راويها عن عطاء عن ابن عباس عنه ينكرون هذا على معاوية وصدق قيس فنحن نحلف بالله : إن هذا ما كان في العشر قط
ويشبه هذا وهم معاوية في الحديث الذي رواه أبو داود عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي أن معاوية قال لأصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم : هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا وعن ركوب جلود النمور ؟ قالوا : نعم
قال : فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة ؟ قالوا : أما هذه فلا فقال : أما إنها معها ولكنكم نسيتم ونحن نشهد بالله : إن هذا وهم من معاوية أو كذب عليه فلم ينه رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ذلك قط وأبو شيخ شيخ لا يحتج به فضلا عن أن يقدم على الثقات الحفاظ الأعلام وإن روى عنه قتادة ويحيى بن أبي كثير واسمه خيوان بن خلدة بالخاء المعجمة وهو مجهول

فصل
وأما من قال : حج متمتعا تمتعا لم يحل منه لأجل سوق الهدي كما قاله صاحب المغني وطائفة فعذرهم قول عاثشة وابن عمر : تمتع رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقول حفصة : ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك وقول سعد في المتعة : قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه وقول ابن عمر لمن سأله عن متعة الحج هي حلال فقال له السائل : إن أباك قد نهى عنها فقال : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أأمر أبي تتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال الرجل : بل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فقال : لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم
قال هؤلاء : ولولا الهدي لحل كما يحل المتمتع الذي لا هدي معه ولهذا قال : [ لولا أن معي الهدي لأحللت ] فأخبر أن المانع له من الحل سوق الهدي والقارن إنما يمنعه من الحل القران لا الهدي وأرباب هذا القول قد يسمون هذا المتمتع قارنا لكونه أحرم بالحج قبل التحلل من العمرة ولكن القرآن المعروف أن يحرم بهما جميعا أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف
والفرق بين القارن والمتمتع السائق من وجهين أحدهما : من الإحرام فإن القارن هو الذي يحرم بالحج قبل الطواف إما في ابتداء الإحرام أو في أثنائه
والثاني : أن القارن ليس عليه إلا سعي واحد فإن أتى به أولا وإلا سعى عقب طواف الإفاضة والمتمتع عليه سعي ثان عند الجمهور وعن أحمد رواية أخرى : أنه يكفيه سعي واحد كالقارن والنبي
صلى الله عليه وسلم لم يسع سعيا ثانيا عقب طواف الإفاضة فكيف يكون متمتعا على هذا القول
فإن قيل : فعلى الرواية الأخرى يكون متمتعا ولا يتوجه الإلزام ولها وجه قوي من الحديث الصحيح وهو ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال : لم يطف النبي
صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول هذا مع أن أكثرهم كانوا متمتعين وقد روى سفيان الثوري سلمة بن كهيل قال : حلف طاووس : ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحجه وعمرته إلا طوافا واحدا
قيل : الذين نظروا أنه كان متمتعا تمتعا خاصا لا يقولون بهذا القول بل يوجبون عليه سعيين والمعلوم من سنته صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يسع إلا سعيا واحدا كما ثبت في الصحيح عن ابن عمر أنه قرن وقدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ولم يزد على ذلك ولم يحلق ولا قصر ولا حل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر فنحر وحلق رأسه ورأى أنه قد مضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول وقال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومراده بطوافه الأول الذي قضى به حجه وعمرته : الطواف بين الصفا والمروة بلا ريب
وذكر الدارقطني عن عطاء ونافع عن ابن عمر وجابر : أن النبي
صلى الله عليه وسلم إنما طاف لحجه وعمرته طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا ثم قدم مكة فلم يسع بينهما بعد الصدر فهذا يدل على أحد أمرين ولا تجد إما أن يكون قارنا وهو الذي لا يمكن من أوجب على المتمتع سعيين أن يقول غيره وإما أن المتمتع يكفيه سعي واحد ولكن الأحاديث التي تقدمت في بيان أنه كان قارنا صريحة في ذلك فلا يعدل عنها
فإن قيل : فقد روى شعبة عن حميد بن طلال عن مطرف عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه واله وسلم طاف طوافين وسعى سعيين رواه الدارقطني عن ابن صاعد : حدثنها محمد بن يحيى الأزدي حدثنا عبد الله بن داود عن شعبة قيل : هذا خبر معلول وهو غلط قال الدارقطني : يقال : إن محمد بن يحيى حدث بهذا من حفظه فوهم في متنه والصواب بهذا الإسناد : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرن بين الحج والعمرة والله أعلم وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يدل على أن هذا الحديث غلط
وأظن أن الشيخ أبا محمد بن قدامة إنما ذهب إلى أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان متمتعا لأنه رأى الإمام أحمد قد نص على أن التمتع أفضل من القرآن ورأى أن الله سبحانه لم يكن ليختار لرسوله إلا الأفضل ورأى الأحاديث قد جاءت بأنه تمتع ورأى أنها صريحة في أنه لم يحل فأخذ من هذه المقدمات الأربع أنه تمتع تمتعا خاصا لم يحل منه ولكن أحمد لم يرجح التمتع لكون النبي صلى الله عليه وسلم حج متمتعا كيف وهو القائل : لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قارنا وإنما اختار التمتع لكونه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي أمر به الصحابة أن يفسخوا حجهم إليه وتأسف على فوته
ولكن نقل عنه المروزي أنه إذا ساق الهدي فالقران أفضل فمن أصحابه من جعل هذا رواية ثانية ومنهم من جعل المسألة رواية واحدة وأنه إن ساق الهدي فالقران أفضل وإن لم يسق فالتمتع أفضل وهذه طريقة شيخنا وهي التي تليق بأصول أحمد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتمن أنه كان جعلها عمرة مع سوقه الهدي بل ود أنه كان جعلها عمرة ولم يسق الهدي
بقي أن يقال : فأي الأمرين أفضل أن يسوق ويقرن أو يترك السوق ويتمتع كما ورد النبي
صلى الله عليه وسلم أنه فعله
قيل : قد تعارض في هذه المسألة أمران
أحدهما : أنه
صلى الله عليه وسلم قرن وساق الهدي ولم يكن الله سبحانه ليختار له إلا أفضل الأمور ولا سيما وقد جاءه الوحي به من ربه تعالى وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم
والثاني قوله : [ لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ] فهذا يقتضي أنه لو كان هذا الوقت الذي تكلم فيه هو وقت إحرامه لكان أحرم بعمرة ولم يسق الهدي لأن الذي استدبره هو الذي فعله ومضى فصار خلفه والذي استقبله هو الذي لم يفعله بعد بل هو أمامه فبين أنه لو كان مستقبلا لما استدبره وهو الإحرام بالعمرة دون هدي ومعلوم أنه لا يختار أن ينتقل عن الأفضل إلى المفضول بل إنما يختار الأفضل وهذا يدل على أن آخر الأمرين منه ترجيع التمتع
ولمن رجح القران مع السوق أن يقول : هو
صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا لأجل أن الذي فعله مفضول مرجوح بل لأن الصحابة شق عليهم أن يحثوا من إحرامهم مع بقائه هو محرما وكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أمروا به مع انشراح وقبول ومحبة
وقد ينتقل عن الأفضل إلى المفضول لما فيه من الموافقة وتأليف القلوب كما قال لعائشة : [ لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين ] فهذا ترك ما هو الأولى لأجل الموافقة والتأليف فصار هذا هو الأولى في هذه الحال فكذلك اختياره للمتعة بلا هدي وفي هذا جمع بين ما فعله وبين ما وده وتمناه ويكون الله سبحانه قد جمع له بين الأمرين أحدهما بفعله له والثاني : بتمنيه ووده له فأعطاه أجر ما فعله وأجر ما نواه من الموافقة وتمناه وكيف يكون نسك يتخلله التحلل ولم يسق فيه الهدي أفضل من نسك لم يتخلله تحلل وقد ساق فيه مائة بدنة وكيف يكون نسك أفضل في حقه من نسك اختاره الله له وأتاه به الوحي من ربه
فإن قيل : التمتع وإن تخلله تحلل لكن قد تكرر فيه الإحرام وإنشاؤه عبادة محبوبة للرب والقران لا يتكرر فيه الإحرام ؟
قيل : في تعظيم شعائر الله بسوق الهدي والتقرب إليه بذلك من الفضل ما ليس في مجرد تكرر الإحرام ثم إن استدامته قائمة مقام تكرره وسوق الهدي لا مقابل له يقوم مقامه
فإن قيل : فأيما أفضل إفراد يأتي عقيبه بالعمرة أو تمتع يحل منه ثم يحرم بالحج عقيبه ؟ قيل : معاذ الله أن نظن أن نسكا قط أفضل من النسك الذي اختاره الله لأفضل الخلق وسادات الأمة وأن نقول في نسك لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة الذين حجوا معه بل ولا غيرهم من أصحابه : إنه أفضل مما فعلوه بأمره فكيف يكون حج على وجه الأرض أفضل من الحج الذي حجه النبي صلوات الله عليه وأمر به أفضل الخلق واختاره لهم وأمرهم بفسخ ما عداه من الأنساك إليه وود أنه كان فعله لا حج قط أكمل من هذا وهذا وإن صح عنه الأمر لمن ساق الهدي بالقران ولمن لم يسق بالتمتع ففي جواز خلافه نظر ولا يوحشك قلة القائلين بوجوب ذلك فإن فيهم البحر الذي لا ينزف عبد الله بن عباس وجماعة من أهل الضاهر والسنة هي الحكم بين الناس والله المستعان

فصل
وأما من قال : إنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى له سعيين كما قاله كثير من فقهاء الكوفة فعذره ما رواه الدارقطني من حديث مجاهد عن ابن عمر أنه جمع بين حج وعمرة معا وقال : سبيلهما واحد قال : وطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين وقال : هكذا رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت
وعن علي بن أبي طالب أنه جمع بينهما وطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين وقال : هكذا رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت
وعن علي
رضي الله عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا فطاف وسعى سعيين
وعن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : طاف رسول الله
صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته طوافين وسعى لهما سعيين وأبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين
وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة بل لا يصح منها حرف واحد
أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة وقال الدارقطني : لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عمارة وهو متروك الحديث
وأما حديث علي
رضي الله عنه الأول فيرويه حفص بن أبي داود وقال أحمد ومسلم : حفص متروك الحديث وقال ابن خراش : هو كذاب يضع الحديث وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ضعيف
وأما حديثه الثاني : فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي حدثني أبي عن أبيه عن جده قال الدارقطني : عيسى بن عبد الله يقال له : مبارك وهو متروك الحديث
وأما حديث علقمة عن عبد الله فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد عن حماد عن إبراهيم عن علقمة قال الدارقطني : وأبو بردة ضعيف ومن دونه في الإسناد ضعفاء انتهى وفيه عبد العزيز بن أبان قال يحيى : هو كذاب خبيث وقال الرازي والنسائي : متروك الحديث
وأما حديث عمران بن حصين فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي وحدث به من حفظه فوهم فيه وقد حدث به على الصواب مرارا ويقال : إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي
وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث الدرارودي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : [ من قرن بين حجته وعمرته أجزأه لهما طواف واحد ] ولفظ الترمذي : [ من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف وسعي واحد عنهما حتى يحل منهما جميعا ]
وفي الصحيحين عن عائشة
رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال : [ من كان معه هدي فليهل بالحج والعمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا ]
وصح أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : [ إن طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك ]
وروى عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم طاف طوافا واحدا لحجه وعمرته وعبد الملك : أحد الثقات المشهورين احتج به مسلم وأصحاب السنن وكان يقال له : الميزان ولم يتكلم فيه بضعف ولا جرح وإنما أنكر عليه حديث الشفعة
وتلك شكاة ظاهر عنه عارها
وقد روى الترمذي عن جابر
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة وطاف لهما طوافا واحدا وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أرطأة فقد روى عنه سفيان وشعبة وابن نمير وعبد الرزاق والخلق عنه قال الثوري : وما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه وعيب عليه التدليس وقل من سلم منه وقال أحمد : كان من الحفاظ وقال ابن معين : ليس بالقوي وهو صدوق يدلس وقال أبو حاتم : إذا قال : حدثنا فهو صادق لا نرتاب في صدقه وحفظه وقد روى الدارقطني من حديث ليث بن أبي سليم قال : حدثني عطاء وطاووس ومجاهد عن جابر وعن ابن عمر وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا لعمرتهم وحجهم
وليث بن أبي سليم احتج به أهل السنن الأربعة واستشهد به مسلم وقال ابن معين : لا بأس به وقال الدارقطني : كان صاحب سنة وانما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس ومجاهد حسب وقال عبد الوارث : كان من أوعية العلم وقال أحمد : مضطرب الحديث ولكن حدث عنه الناس وضعفه النسائي ويحيى في رواية عنه ومثل هذا حديثه حسن وإن لم يبلغ رتبة الصحة
وفي الصحيحين عن جابر قال : [ دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم على عائشة ثم وجدها تبكي فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : قد حضت وقد حل الناس ولم أحل ولم أطف بالبيت فقال : اغتسلي ثم أهلي ففعلت ثم وقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال : قد حللت من حجك وعمرتك جميعا ]
وهذا يدل على ثلاثة أمور أحدها : أنها كانت قارنة والثاني : أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد والثالث : أنه لا يجب عليها قضاء تلك العمرة التي حاضت فيها ثم أدخلت عليها الحج وأنها لم ترفض إحرام العمرة بحيضها وإنما رفضت أعمالها والاقتصار عليها وعائشة لم تطف أولا طواف القدوم بل لم تطف إلا بعد التعريف وسعت مع ذلك فإذا كان طواف الإفاضة والسعي بعد يكفي القارن فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة والسعي بعد يكفي القارن فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة وسعي واحد مع أحدهما بطريق الأولى لكن عائشة تعذر عليها الطواف الأول فصارت قصتها حجة فإن المرأة التي يتعذر عليها الطواف الأول تفعل كما فعلت عائشة تدخل الحج على العمرة وتصير قارنة ويكفيها لهما طواف الإفاضة والسعي عقيبه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ومما يبين أنه
صلى الله عليه وسلم لم يطف طوافين ولا سعى سعيين قول عائشة رضي الله عنها وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا متفق عليه وقول جابر : [ لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا ] طوافه الأول رواه مسلم وقوله لعائشة : [ يجزىء عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك ] رواه مسلم وقوله لها في رواية أبي داود : [ طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك جميعا ] وقوله لها في الحديث المتفق عليه لما طافت بالكعبة وبين والمروة : [ قد حللت من حجك وعمرتك جميعا ] قال : والصحابة الذين نقلوا حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم نقلوا أنهم لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمرهم بالتحيل إلا من ساق الهدي فإنه لا يحل إلا يوم النحر ولم ينقل أحد منهم أن أحدا منهم طاف وسعى ثم طاف وسعى ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فلما لم ينقله أحد من الصحابة علم أنه لم يكن
وعمدة من قال بالطوافين والسعيين أثر يرويه الكوفيون عن علي
رضي الله عنه وآخر عن ابن مسعود رضي الله عنهما
وقد روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي
رضي الله عنه أن القارن يكفيه طوافا واحد وسعي واحد خلاف ما روى أهل الكوفة وما رواه العراقيون منه ما هو منقطع ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون ولهذا طعن علماء النقل في ذلك حتى قال ابن حزم : كل ما روي في ذلك عن الصحابة لا يصح منه ولا كلمة واحدة وقد نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو موضوع بلا ريب وقد حلف طاووس : ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته إلا طوافا واحدا وقد ثبت مثل ذلك عن ابن عمر وابن عباس وجابر وغيرهم رضي الله عنهم وهم أعلم الناس بحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخالفوها بل هذه الآثار صريحة في أنهم لم يطوفوا بالصفا والمروة إلا مرة واحدة
وقد تنازع الناس في القارن والمتمتع هل عليهما سعيان أو سعي واحد ؟ على ثلاثة أقوال : في مذهب أحمد وغيره
أحدها : ليس على واحد منهما إلا سعي واحد كما نص عليه أحمد في رواية ابنه عبد الله قال عبد الله : قلت لأبي : المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة ؟ قال : إن طاف طوافين فهو أجود وإن طاف طوافا واحدا فلا بأس قال شيخنا : وهذا منقول عن غير واحد من السلف
الثاني : المتمتع عليه سعيان والقارن عليه سعي واحد وهذا القول هو القول الثاني في مذهبه وقول من يقوله من أصحاب مالك والشافعي رحمهما الله
والثالث : إن على كل واحد منهما سعيين كمذهب أبي حنيفة
رحمه الله ويذكر قولا في مذهب أحمد رحمه الله والله أعلم والذي تقدم هو بسط قول شيخنا وشرحه والله أعلم

فصل
وأما الذين قالوا : إنه حج حجا مفردا اعتمر عقيبه من التنعيم فلا يعلم لهم عذر البتة إلا ما تقدم من أنهم سمعوا أنه أفرد الحج وأن عادة المفردين أن يعتمروا من التنعيم فتوهموا أنه فعل كذلك

فصل
وأما الذين غلطوا في إهلاله فمن قال : إنه لبى بالعمرة وحدها واستمر عليها فعذره أنه سمع أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم تمتع والمتمتع عنده من أهل بعمرة مفردة بشروطها وقد قالت له حفصة رضي الله عنها : ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك ؟ وكل هذا لا يدل على أنه قال : لبيك بعمرة مفردة ولم ينقل هذا أحد عنه البتة فهو وهم محض والأحاديث الصحيحة المستفيضة في لفظه إهلاله تبطل هذا

فصل
وأما من قال : إنه لبى بالحج وحده واستمر عليه فعذره ما ذكر ما ذكرنا عمن قال : أفرد الحج ولبى بالحج وقد تقدم الكلام على ذلك وأنه لم يقل أحد قط : إنه قال : لبيك بحجة مفردة وإن الذين نقلوا لفظه صرحوا بخلاف ذلك

فصل
وأما من قال : إنه لبى بالحج وحده ثم أدخل عليه العمرة وظن أنه بذلك تجتمع الأحاديث فعذره أنه رأى أحاديث إفراده بالحج صحيحة فحملها على ابتداء إحرامه ثم إنه أتاه آت من ربه تعالى فقال : قل : عمرة في حجة فأخل العمرة حينئذ على الحج فصار قارنا ولهذا قال للبراء بن عازب : [ إني سقت الهدي وقرنت ] فكان مفردا في ابتداء إحرامه قارنا في أثنائه وأيضا فإن أحدا لم يقل إنه أهل بالعمرة ولا لبى بالعمرة ولا أفرد العمرة ولا قال : لا ننوي إلا العمرة بل قالوا : أهل بالحج ولبى بالحج وأفرد الحج ولم ننوي إلا الحج وهذا يدل على أن الإحرام وقع أولا بالحج ثم جاءه الوحي من ربه تعالى بالقران فلبى بهما فسمعه أنس يلبي بهما وصدق وسمعته عائشة وابن عمر وجابر يلبي بالحج وحده أولا وصدقوا
قالوا : وبهذا تتفق الأحاديث ويزول عنها الاضطراب وأرباب هذه المقالة لا يجيزون إدخال العمرة على الحج ويرونه لغوا ويقولون : إن ذلك خاص بالنبي
صلى الله عليه وسلم دون غيره قالوا : ومما يدل على ذلك : أن ابن عمر قال : لبى بالحج وحده وأنس قال : أهل بهما جميعا وكلاهما صادق فلا يمكن أن يكون إهلاله بالقران سابقا على إهلاله بالحج وحده لأنه إذا أحرم قارنا لم يمكن أن يحرم بعد ذلك بحج مفرد وينقل الإحرام إلى الإفراد فتعين أنه أحرم بالحج مفردا فسمعه ابن عمر وعائشة وجابر فنقلوا ما سمعوه ثم أدخل عليه العمرة فأهل بهما جميعا لما جاءه الوحي من ربه فسمعه أنس يهل بهما فنقل ما سمعه ثم أخبر عن نفسه بأنه قرن وأخبر عنه من تقدم ذكره من الصحابة بالقران فاتفقت أحاديثهم وزال عنها الاضطراب والتناقض قالوا : ويدل عليه قول عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : [ من أراد منكم أن يهل بحج أو عمرة فليهل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فيهل ] قالت عائشة : فأهل رسول لله صلى الله عليه وسلم بحج وأهل به ناس معه فهذا يدل على أنه كان مفردا في ابتداء إحرامه فعلم أن قرانه كان بعد ذلك ولا ريب أن في هذا القول من مخالفة الأحاديث المتقدمة ودعوى التخصيص للنبي صلى الله عليه وسلم في بإحرام لا يصح في حق الأمة ما يرده ويبطله ومما يرده أن أنسا قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالبيداء ثم ركب وصعد جبل البيداء وأهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر
وفي حديث عمر أن الذي جاءه من ربه قال له : [ صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة ] فكذلك فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فالذي روى عمر أنه أمر به وروى أنس أنه فعله سواء فصلى الظهر بذي الحليفة ثم قال : [ لبيك حجا وعمرة ] واختلف الناس في جواز إدخال العمره على الحج على قولين وهما روايتان عن أحمد أشهرهما : إنه لا يصح والذين قالوا بالصحة كأبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله بنوه على أصولهم وأن القارن يطوف طوافين ويسعى سعين فإذا أدخل العمرة على الحج فقد التزم زيادة عمل على الإحرام بالحج وحده ومن قال : يكفيه طواف واحد وسعي واحد قال : لم يستفد بهذا الإدخال إلا سقوط أحد السفرين ولم يلتزم به زيادة عمل بل نقصانه فلا يجوز وهذا مذهب الجمهور

فصل
وأما القائلون : إنه أحرم بعمرة ثم أدخل عليها الحج فعذرهم قول ابن عمر : تمتع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج متفق عليه
وهذا ظاهر في أنه أحرم أولا بالعمرة ثم أدخل عليها الحج ويبين أيضا أن ابن عمر لما حج زمن ابن الزبير أهل بعمرة ثم قال : أشهدكم أنى أوجبت حجا مع عمرتي وأهدى هديا اشتراه بقديد ثم انطلق يهل بهما جميعا حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ولم يزد على ذلك ولم ينحر ولم يحلق ولم يقصر ولم يحل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر وحلق ورأى أن ذلك قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول وقال : هكذا فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فعند هؤلاء أنه كان متمتعا في ابتداء إحرامه قارنا في أثنائه وهؤلاء أعذر من الذين قبلهم وإدخال الحج على العمرة جائز بلا نزاع يعرف وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها بإدخال الحج على العمرة فصارت قارنة ولكن سياق الأحاديث الصحيحة يرد على أرباب هذه المقالة
فإن أنسا أخبر أنه حين صلى الظهر أهل بهما جميعا وفي الصحيح عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة ] قالت : وكان من القوم من أهل بعمرة ومنهم من أهل بالحج فقالت : فكنت أنا ممن أهل بعمرة وذكرت الحديث رواه مسلم فهذا صريح في أنه لم يهل إذ ذاك بعمرة فإذا جمعت بين قول عائشة هذا وبين قولها في الصحيح : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وبين قولها وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج والكل في الصحيح علمت أنها إنما نفت عمرة مفردة وأنها لم تنف عمرة القران وكانوا يسمونها تمتعا كما تقدم وأن ذلك لا يناقض إهلاله بالحج فإن عمرة القران في ضمنه وجزء منه ولا ينافي قولها : أفرد الحج فإن أعمال العمرة لما دخلت في أعمال الحج وأفردت أعماله كان ذلك إفرادا بالنعل
وأما التلبية بالحج مفردا فهو إفراد بالقول وقد قيل : إن حديث ابن عمر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم تمتع في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج مروي بالمعنى من حديثه الآخر وان ابن عمر هو الذي فعل ذلك عام حجه في فتنة ابن الزبير وأنه بدأ فأهل بالعمرة ثم قال : ما شأنها إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي فأهل بهما جميعا ثم قال في آخر الحديث : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أراد اقتصاره على طواف واحد وسعي واحد فحمل على المعنى وروي به : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وإنما الذي فعل ذلك ابن عمر وهذا ليس ببعيد بل متعين فإن عائشة قالت عنه : [ لولا أن معي الهدي لأهللت بعمرة ] وأنس قال عنه : إنه حين صلى الظهر أوجب حجا وعمرة ؟ وعمر رضي الله عنه أخبر عنه أن الوحي جاءه من ربه فأمره بذلك
فإن قيل : فما تصنعون بقول الزهري : إن عروة أخبره عن عائشة بمثل حديث سالم عن ابن عمر ؟ قيل : الذي أخبرت به عائشة من ذلك هو أنه
صلى الله عليه وسلم طاف طوافا واحدا عن حجه وعمرته وهذا هو الموافق لرواية عروة عنهما في الصحيحين وطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا فهذا مثل الذي رواه سالم عن أبيه سواء وكيف تقول عائشة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وقد قالت إن رسول صلى الله عليه وسلم قال : [ لولا أن معي الهدي لأهللت بعمرة ] وقالت : وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ؟ فعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يهل في ابتداء إحرامه بعمرة مفردة والله أعلم

فصل
وأما الذين قالوا : إنه أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا ثم عينه بعد ذلك لما جاءه القضاء وهو بين الصفا والمروة وهو أحد أقوال الشافعي
رحمه الله نص عليه في كتاب اختلاف الحديث قال : وثبت أنه خرج ينتظر القضاء فنزل عليه القضاء وهو ما بين الصفا والمروة فأمر أصحابه أن من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعله عمرة ثم قال : ومن وصف انتظار النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء إذ لم يحج من المدينة بعد نزول الفرض طلبا للإختيار فيما وسع الله من الحج والعمرة فيشبه أن يكون أحفظ لأنه قد أتي بالمتلاعنين فانتظر القضاء كذلك حفظ عنه في الحج ينتظر القضاء وعذر أرباب هذا القول ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يذكر حجا ولا عمرة ] وفي لفظ : [ يلبي لا يذكر حجا ولا عمرة ] وفي رواية عنها : [ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج حتى إذا دنونا منه مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل ] وقال طاووس : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ينتظر القضاء فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة فأمر أصحابه من كان منهم أهل بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة الحديث
وقال جابر في حديثه الطويل في سياق حجة النبي
صلى الله عليه وسلم : فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله فما عمل به من شيء عملنا به فأهل بالتوحيد [ لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ] وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته فأخبر جابر أنه لم يزد على هذه التلبية ولم يذكر أنه أضاف إليها حجا ولا عمرة ولا قرانا وليس في شيء من هذه الأعذار ما يناقض أحاديث تعيينه النسك الذي أحرم به في الابتداء وأنه القران
فأما حديث طاووس فهو مرسل لا يعارض به الأساطين المسندات ولا يعرف اتصاله بوجه صحيح ولا حسن ولو صح فانتظاره للقضاء كان فيما بينه وبين الميقات فجاءه القضاء وهو بذلك الوادي أتاه آت من ربه تعالى فقال : [ صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة ] فهذا القضاء الذي انتظره جاءه قبل الإحرام فعين له القران وقول طاووس : نزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة هو قضاء آخر غير القضاء الذي نزل عليه بإحرامه فإن ذلك كان بوادي العقيق وأما القضاء الذي نزل عليه بين الصفا والمروة فهو قضاء الفسخ الذي أمر به الصحابة إلى العمرة فحينئذ أمر كل من لم يكن معه هدي منهم أن يفسخ حجه إلى عمرة وقال : [ لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ] وكان هذا أمر حتم بالوحي فإنهم لما توقفوا فيه قال : [ انظروا الذي آمركم به فافعلوه ]
فأما قول عائشة : خرجنا لا نذكر حجا ولا عمرة فهذا إن كان محفوظا عنها وجب حمله على ما قبل الإحرام وإلا ناقض سائر الروايات الصحيحة عنها أن منهم من أهل عند الميقات بحج ومنهم من أهل بعمرة وأنا ممن أهل بعمرة وأما قولها : نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة فهذا في ابتداء الاحرام ولم تقل : إنهم استمروا على ذلك إلى مكة هذا باطل قطعا فإن الذين سمعوا إحرام رسول الله
صلى الله عليه وسلم وما أهل به شهدوا على ذلك وأخبروا به ولا سبيل إلا رد رواياتهم ولو صح عن عائشة ذلك لكان غايته أنها لم تحفظ إهلالهم عند الميقات فنفته وحفظه غيرها من الصحابة فأثبته والرجال بذلك أعلم من النساء وأما قول جابر رضي الله عنه : وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد فليس فيه إلا إخباره عن صفة تلبيته وليس فيه نفي لتعيينه النسك الذي أحرم بوجه من الوجوه وبكل حال ولو كانت هذه الأحاديث صريحة في نفي التعيين لكانت أحاديث أهل الإثبات أولى بالأخذ منها لكثرتها وصحتها واتصالها وأنها مثبتة مبينة متضمنة لزيادة خفيت على من نفى وهذا بحمد الله واضح وبالله التوفيق

فصل
ولنرجع إلى سياق حجته
صلى الله عليه وسلم
ولبد رسول الله
صلى الله عليه وسلم رأسه بالغسل وهو بالغين المعجمة على وزن كفل وهو ما يغسل به الرأس من خطمي ونحوه يلبد به الشعر حتى لا ينتشر وأهل في مصلاه ثم ركب على ناقته وأهل أيضا ثم أهل لما استقلت به على البيداء
قال ابن عباس : وايم الله : لقد أوجب في مصلاه وأهل حين استقلت به ناقته وأهل حين علا على شرف البيداء
وكان يهل بالحج والعمرة تارة وبالحج تارة لأن العمرة جزء منه فمن ثم قيل : قرن وقيل : تمتع وقيل : أفرد قال ابن حزم : كان ذلك قبل الظهر بيسير وهذا وهم منه والمحفوظ : أنه إنما أهل بعد صلاة الظهر ولم يقل أحد قط : إن إحرامه كان قبل الظهر ولا أدري من أين له هذا وقد قال ابن عمر : [ ما أهل رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره ] وقد قال أنس : [ إنه صلى الظهر ثم ركب ] والحديثان في الصحيح
فإذا جمعت أحدهما إلى الآخر تبين أنه إنما أهل بعد صلاة الظهر ثم لبى فقال : [ لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ] ورفع صوته بهذه التلبية حتى سمعها أصحابه وأمرهم بأمر الله له أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية
وكان حجه على رحل لا في محمل ولا هودج ولا عمارية وزاملته تحته وقد اختلف في جواز ركوب المحرم في المحمل والهودج والعمارية ونحوها على قولين هما روايتان عن أحمد أحدهما : الجواز وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة والثاني : المنع وهو مذهب مالك

فصل
ثم إنه
صلى الله عليه وسلم خيرهم عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة ثم ندبهم عند دنوهم من مكة إلى فسخ الحج والقران إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي ثم حتم ذلك عليهم عند المروة
وولدت أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر
رضي الله عنهما بذي الحليفة محمد بن أبي بكر فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتستثفر بثوب وتحرم وتهل وكان في قصتها ثلاث سنن إحداها : غسل المحرم والثانية : أن الحائض تغتسل لإحرامها والثالثة : أن الإحرام يصح من الحائض ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي بتلبيته المذكورة والناس معه يزيدون فيها وينقصون وهو يقرهم ولا ينكر عليهم
ولزم تلبيته فلما كانوا بالروحاء رأى حمار وحش عقيرا فقال : [ دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه ] فجاء صاحبه الى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار فأمر رسول الله أبا بكر فقسمة بين الرفاق
وفي هذا دليل على جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يصده لأجله وأما كون صاحبه لم يحرم فلعله لم يمر بذي الحليفة فهو كأبي قتادة في قصته وتدل هذه القصة على أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ : وهبت لك بل تصح بما يدل عليها وتدل على قسمته اللحم مع عظامه بالتحري وتدك على أن الصيد يملك بالإثبات وإزالة امتناعه وأنه لمن أثبته لا لمن أخذه وعلى حل أكل لحم الحمار الوحشي وعلى التوكيل في القسمة وعلى كون القاسم واحدا

فصل
ثم مضى حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج إذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم فأمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزوا والفرق بين قصة الظبي وقصة الحمار أن الذي صاد الحمار كان حلالا فلم يمنع من أكله وهذا لم يعلم أنه حلال وهم محرمون فلم يأذن لهم فى أكله ووكل من يقف عنده لئلا يأخذه أحد حتى يجاوزوه وفيه دليل على أن قتل المحرم للصيد يجعله بمنزلة الميتة في عدم الحل إذ لوكان حلالا لم تضع ماليته

فصل
ثم سار حتى إذا نزل بالعرج وكانت زمالته وزمالة أبي بكر واحدة وكانت مع غلام لأبي بكر فجلس رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى جانبه وعائشة إلى جانبه الآخر وأسماء زوجته إلى جانبه وأبو بكر ينتظر الغلام والزمالة إذ طلع الغلام ليس معه البعير فقال : أين بعيرك ؟ فقال : أضللته البارحة فقال أبو بكر : بعير واحد تضله قال : فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول : [ انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول ذلك ويتبسم ] ومن تراجم أبي داود على هذه القصة باب المحرم يؤدب غلامه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"