بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 1 أبريل 2010

نبذ من كتاب منهاج السنة النبوية/3

ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث أو جنس الحوادث أو جنس الفعل أو جنس الإحداث أو ما يشبه هذا من العبارات من الامتناع إلى الإمكان هو مصير ذلك ممكنا جائزا بعد أن كان ممتنعا من غير سبب تجدد وهذا ممتنع في صريح العقل وهو أيضا انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة
وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكنا وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا لم يزل الحادث ممكنا فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه فإنه يعقل كون الحادث ممكنا ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل وأما كون الممتنع ممكنا فهو ممتنع في نفسه فكيف إذا قيل لم يزل إمكان هذا الممتنع
وأيضا فما ذكروه من الشرط وهو أن جنس الفعل أو جنس الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لم يزل ممكنا فإنه يتضمن الجمع بين النقيضين أيضا فإن كون هذا لم يزل يقتضى أنه لا بداية لإمكانه

وإن إمكانه قديم أزلي وكونه مسبوقا بالعدم يقتضى أن له بداية وأنه ليس بقديم أزلي فصار قولهم مستلزما أن الحوادث يجب أن يكون لها بداية وأنه لا يجب أن يكون لها بداية
وذلك لأنهم قدروا تقديرا ممتنعا والتقدير الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع كقوله تعالى لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا سورة الأنبياء 22
فإن قولهم إمكان جنس الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له مضمونة أن ما له بداية ليس له بدايه فإن المشروط بسبق العدم له بداية وإن قدر أنه لا بداية له كان جمعا بين النقيضين
وأيضا فيقال هذا تقدير لا حقيقة له في الخارج فصار بمنزلة قول القائل جنس الحوادث بشرط كونها ملحوقة بالعدم هل لإمكانها نهاية أم ليس لإمكانها نهاية فكما أن هذا يستلزم الجمع بين النقيضين في النهاية فكذلك الأمل يستلزم الجمع بين النقيضين في البداية
وأيضا فالممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام يجب به الممكن وقد يقولون لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام يستلزم وجود ذلك الممكن
وهذا الثاني أصوب كما عليه نظار المسلمين المثبتين فإن بقاءه

معدوما لا يفتقر إلى مرجح ومن قال إنه يفتقر إلى مرجح قال عدم مرجحه يستلزم عدمه ولكن يقال هذا مستلزم لعدمه لا أن هذا هو الأمر الموجب لعدمه ولا يجب عدمه في نفس الأمر بل عدمه في نفس الأمر لا علة له فإن عدم المعلول يستلزم عدم العلة وليس هو علة له والملزوم أعم من كونه علة لأن ذلك المرجح التام لو لم يستلزم وجود الممكن لكان وجود الممكن مع المرجح التام جائزا لا واجبا ولا ممتنعا وحينئذ فيكون ممكنا فيتوقف على مرجح لأن الممكن لا يحصل إلا بمرجح
فدل ذلك على أن الممكن إن لم يحصل مرجح يستلزم وجوده امتنع وجوده وما دام وجوده ممكنا جائزا غير لازم لا يوجد وهذا هو الذي يقوله أئمة أهل السنة المثبتين للقدر مع موافقة أئمة الفلاسفة لهم وهذا مما احتجوا به على أن الله خالق أفعال العباد
والقدرية من المعتزلة وغيرهم تخالف في هذا وتزعم أن القادر يمكنه ترجيح الفعل على الترك بدون ما يستلزم ذلك وادعوا أنه إن لم يكن القادر كذلك لزم أن يكون موجبا بالذات لا قادرا قالوا والقادر المختار هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك فمتى قيل إنه لا يفعل إلا مع لزوم أن يفعل لم يكن مختارا بل مجبورا
فقال لهم الجمهور من أهل الملة وغيرهم بل هذا خطأ فإن

القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك ليس هو الذي إن شاء الفعل مشيئة جازمة وهو قادر عليه قدرة تامة يبقى الفعل ممكنا جائزا لا لازما واجبا ولا ممتنعا محالا
بل نحن نعلم أن القادر المختار إذا أراد الفعل إرادة جازمة وهو قادر عليه قدرة تامة لزم وجود الفعل وصار واجبا بغيره لا بنفسه كما قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وما شاء سبحانه فهو قادر عليه فإذا شاء شيئا حصل مرادا له وهو مقدور عليه فيلزم وجوده وما لم يشأ لم يكن فإنه ما لم يرده وإن كان قادرا عليه لم يحصل المقتضى التام لوجوده فلا يجوز وجوده
قالوا ومع القدرة التامة والإرادة الجازمة يمتنع عدم الفعل ولا يتصور عدم الفعل إلا لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه وهو معروف بالأدلة اليقينية فإن فعل المختار لا يتوقف إلا على قدرته وإرادته فإنه قد يكون قادرا ولا يريد الفعل فلا يفعله وقد يكون مريدا للفعل لكنه عاجز عنه فلا يفعل أما مع كمال قدرته وإرادته فلا يتوقف الفعل على شيء غير ذلك والقدرة التامة والإرادة الجازمة هي المرجح التام للفعل الممكن فمع وجودهما يجب وجود ذلك الفعل
والرب تعالى قادر مختار يفعل بمشيئته لا مكره له وليس هو موجبا

بذاته بمعنى أنه علة أزلية مستلزمة للفعل ولا بمعنى أنه يوجب بذات لا مشيئة لها ولا قدرة بل هو يوجب بمشيئته وقدرته ما شاء وجوده وهذا هو القادر المختار فهو قادر مختار يوجب بمشيئته ما شاء وجوده
وبهذا التحرير يزول الإشكال في هذه المسألة فإن الموجب بذاته إذا كان أزليا يقارنه موجبه فلو كان الرب تعالى موجبا بذاته للعالم في الأزل لكان كل ما في العالم مقارنا له في الأزل وذلك ممتنع بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما شاء الله وجوده من العالم فإنه يجب وجوده بقدرته ومشيئته وما لم يشأ يمتنع وجوده إذ لا يكون شيء إلا بقدرته ومشيئته وهذا يقتضي وجوب وجود ما شاء تعالى وجوده
ولفظ الموجب بالذات فيه إجمال فإن أريد به أنه يوجب ما يحدثه بمشيئته وقدرته فلا منافاة بين كونه فاعلا بالقدرة والاختيار وبين كونه موجبا بالذات بهذا التفسير وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئا من الأشياء بذات مجردة عن القدرة والاختيار فهذا باطل ممتنع وإن

أريد أن علة تامة أزلية تستلزم معلولها الأزلى بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه لازم لذاته أزلا وأبدا الفلك أو غيره فهذا أيضا باطل
فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضى قدم شيء من العالم مع الله أو فسر بما يقتضى سلب صفات الكمال عن الله فهو باطل وإن فسر بما يقتضى أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فهو حق فإن ما شاء وجوده فقد وجب وجوده بقدرته ومشيئته لكن لا يقتضى هذا أنه شاء شيئا من المخلوقات بعينه في الأزل بل مشيئته لشيء معين في الأزل ممتنع لوجوه متعددة
ولهذا كان عامة العقلاء على أن الأزلي لا يكون مرادا مقدورا ولا أعلم نزاعا بين النظار أن ما كان من صفات الرب أزليا لازما لذاته لا يتأخر منه شيء لا يجوز أن يكون مرادا مقدورا وأن ما كان مرادا مقدورا لا يكون إلا حادثا شيئا بعد شيء وإن كان نوعه لم يزل موجودا أو كان نوعه كله حادثا بعد أن لم يكن
ولهذا كان الذين اعتقدوا أن القرآن قديم لازم لذات الله متفقين على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته وإنما يكون بمشيئته وقدرته خلق إدراك في العبد لذلك المعنى القديم والذين قالوا كلامه قديم وأرادوا أنه

قديم العين متفقون على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته سواء قالوا هو معنى واحد قائم بالذات أو قالوا هو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية الأعيان
بخلاف أئمة السلف الذين قالوا إنه يتكلم بمشيئته وقدرته وإنه لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء فإن هؤلاء يقولون الكلام قديم النوع وإن كلمات الله لا نهاية لها بل لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته ولم يزل يتكلم كيف شاء إذا شاء ونحو ذلك من العبارات والذين قالوا إنه يتكلم بمشيئته وقدرته وكلامه حادث بالغير قائم بذاته أو مخلوق منفصل عنه يمتنع عندهم أن يكون قديما
فقد اتفقت الطوائف كلها علي أن المعين القديم الأزلي لا يكون مقدورا مرادا بخلاف ما كان نوعه لم يزل موجودا شيئا بعد شيء فهذا مما يقول أئمة السلف وأهل السنة والحديث إنه يكون بمشيئته وقدرته كما يقول ذلك جماهير الفلاسفة الأساطين الذين يقولون بحدوث الأفلاك وغيرها وأرسطو وأصحابه الذين يقولون بقدمها
فأئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة يقولون إن الأفلاك محدثة كائنة بعد أن لم تكن مع قولهم إنه لم يزل النوع المقدور المراد موجودا شيئا بعد شيء
ولكن كثيرا من أهل الكلام يقولون ما كان مقدورا مرادا يمتنع أن

يكون لم يزل شيئا بعد شيء ومنهم من يقول بمنع ذلك في المستقبل أيضا
وهؤلاء هم الذين ناظرهم الفلاسفة القائلون بقدم العالم ولما ناظروهم واعتقدوا أنهم قد خصموهم وغلبوهم اعتقدوا أنهم قد خصموا أهل الملل مطلقا لاعتقادهم الفاسد الناشىء عن جهلهم بأقوال أئمة أهل الملل بل وبأقوال أساطين الفلاسفة القدماء وظنهم أنه ليس لأئمة الملل وأئمة الفلاسفة قول إلا قول هؤلاء المتكلمين وقولهم أو قول المجوس والحرانية أو قول من يقول بقدم مادة بعينها ونحو ذلك من الأقوال التي قد يظهر فسادها للنظار وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أن عامة العقلاء مطبون عل أن العلم بكون الشىء المعين مرادا مقدورا يوجب العلم بكونه حادثا كائنا بعد أن لم يكن بل هذا عند العقلاء من المعلوم بالضرورة ولهذا كان مجرد تصور العقلاء أن الشيء مقدور للفاعل مراد له فعله بمشيئته وقدرته موجب للعلم بأنه حادث بل مجرد تصورهم كون الشيء مفعولا أو مخلوقا أو مصنوعا أو نحو ذلك من العبارات يوجب العلم بأنه محدث كائن بعد أن لم يكن ثم بعد هذا قد ينظر في أنه فعله بمشيئته وقدرته وإذا

علم أن الفاعل لا يكون فاعلا إلا بمشيئته وقدرته وما كان مقدورا مرادا فهو محدث كان هذا أيضا دليلا ثانيا على أنه محدث
ولهذا كان كل من تصور من العقلاء أن الله تعالى خلق السموات والأرض أو خلق شيئا من الأشياء كان هذا مستلزما لكون ذلك المخلوق محدثا كائنا بعد أن لم يكن
وإذا قيل لبعضهم هو قديم مخلوق أو قديم محدث وعنى بالمخلوق والمحدث ما يعنيه هؤلاء المتفلسفة الدهرية المتأخرون الذين يريدون بلفظ المحدث أنه معلول ويقولون إنه قديم أزلى مع كونه معلولا ممكنا يقبل الوجود والعدم فإذا تصور العقل الصريح هذا المذهب جزم بتناقضه وأن أصحابه جمعوا بين النقيضين حيث قدروا مخلوقا محدثا معلولا مفعولا ممكنا أن يوجد وأن يعدم وقدروه مع ذلك قديما أزليا واجب الوجود بغيره يمتنع عدمه
وقد بسطنا هذا في مواضع في الكلام على المحصل وغيره وذكرنا أن ما ذكره الرازي عن أهل الكلام من أنهم يجوزون وجود مفعول

معلول أزلي للموجب بذاته لم يقله أحد منهم بل هم متفقون على أن كل مفعول فإنه لا يكون إلا محدثا
وما ذكره هو أمثاله موافقة لابن سينا من أن الممكن وجوده وعدمه قد يكون قديما أزليا قول باطل عند جماهير العقلاء من الأولين والآخرين
حتى عند أرسطو وأتباعه القدماء والمتأخرين فإنهم موافقون لسائر العقلاء في أن كل ممكن يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا كائنا بعد أن لم يكن وأرسطو إذا قال إن الفلك قديم لم يجعله مع ذلك ممكنا يمكن وجوده وعدمه
والمقصود أن العلم بكون الشيء مقدورا مرادا يوجب العلم بكونه محدثا بل العلم بكونه مفعولا يوجب العلم بكونه محدثا فإن الفعل والخلق والإبداع والصنع ونحو ذلك لا يعقل إلا مع تصور حدوث المفعول
وأيضا فالجمع بين كون الشيء مفعولا وبين كونه قديما أزليا مقارنا لفاعله في الزمان جمع بين المتناقضين ولا يعقل قط في الوجود

فاعل قارنة مفعوله المعين سواء سمى علة فاعلة أو لم يسم ولكن يعقل كون الشرط مقارنا للمشروط
والمثل الذي يذكرونه من قولهم حركت يدي فتحرك خاتمي أو كمي أو المفتاح ونحو ذلك حجة عليهم لا لهم فإن حركة اليد ليست هي العلة التامة ولا الفاعل لحركة الخاتم بل الخاتم مع الإصبع كالإصبع مع الكف فالخاتم متصل بالإصبع والإصبع متصلة بالكف لكن الخاتم يمكن نزعها بلا ألم بخلاف الإصبع وقد يعرض بين الإصبع والخاتم خلو يسير بخلاف أبعاض الكف
ولكن حركة الإصبع شرط في حركة الخاتم كما أن حركة الكف شرط في حركة الإصبع أعني في الحركة المعينة التي مبدؤها من اليد بخلاف الحركة التي تكون للخاتم أو للإصبع إبتداء فإن هذه متصلة منها إلى الكف كمن يجر إصبع غيره فيجر معه كفه
وما يذكرونه من أن التقدم والتأخر يكون بالذات والعلة كحركة

الإصبع ويكون بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين ويكون بالمكانة كتقدم العالم على الجاهل ويكون بالمكان كتقدم الصف الأول على الثاني وتقدم مقدم المسجد على مؤخره ويكون بالزمان كلام مستدرك
فإن التقدم والتأخر المعروف هو التقدم والتأخر بالزمان فإن قبل وبعد ومع ونحو ذلك معانيها لازمة للتقدم والتأخر الزماني وأما التقدم بالعلية أو الذات مع المقارنة في الزمان فهذا لا يعقل ألبتة ولا له مثال مطابق في الوجود بل هو مجرد تخيل لا حقيقة له
وأما تقدم الواحد على الاثنين فإن عنى به الواحد المطلق فهذا لا وجود له في الخارج ولكن في الذهن والذهن يتصور الواحد المطلق قبل الاثنين المطلق فيكون متقدما في التصور تقدما زمانيا وإن لم يعن به هذا فلا تقدم بل الواحد شرط في الاثنين مع كون الشرط لا يتأخر عن المشروط بل قد يقارنه وقد يكون معه فليس هنا تقدم واجب غير التقدم الزماني
وأما التقدم بالمكان فذاك نوع آخر وأصله من التقدم بالزمان فإن

مقدم المسجد تكون فيه الأفعال المتقدمة بالزمان على مؤخره فالإمام يتقدم فعله بالزمان لفعل المأموم فسمى محل الفعل المتقدم متقدما وأصله هذا
وكذلك التقدم بالرتبة فإن أهل الفضائل مقدمون في الأفعال الشريفة والأماكن وغير ذلك على من هو دونهم فسمى ذلك تقدما وأصله هذا
وحينئذ فإن كان الرب هو الأول المتقدم على كل ما سواه كان كل شيء متأخرا عنه وإن قدر أنه لم يزل فاعلا فكل فعل معين ومفعول معين هو متأخر عنه
وإذا قيل الزمان مقدار الحركة فليس هو مقدار حركة معينة كحركة الشمس أو الفلك بل الزمان المطلق مقدار الحركة المطلقة وقد كان قبل أن يخلق الله السماوات والأرض والشمس والقمر حركات وأزمنة وبعد أن يقيم الله القيامه فتذهب الشمس والقمر تكون في الجنة حركات وأزمنة كما قال تعالى ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا سورة مريم 62
وجاء في الآثار أنهم يعرفون الليل والنهار بأنوار تظهر من جهة

العرش وكذلك لهم في الآخرة يوم المزيد يوم الجمعة يعرف بما يظهر فيه من الأنوار الجديدة القوية وإن كانت الجنة كلها نورا يزهر ونهرا يطرد لكن يظهر بعض الأوقات نور آخر يتميز به النهار عن الليل
فالرب تعالى إذا كان لم يزل متكلما بمشيئته فعالا بمشيئته كان مقدار كلامه وفعاله الذي لم يزل هو الوقت الذي يحدث فيه ما يحدث من مفعولاته وهو سبحانه متقدم على كل ما سواه التقدم الحقيقي المعقول
ولا تحتاج أن نجيب عن هذا بما ذكره الشهرستاني والرازي وغيرهما من أن في أنواع التقدمات تقدم أجزاء الزمان على بعض وأن هذا نوع آخر وأن تقدم الرب على العالم هو من هذا الجنس
فإن هذا قد يرد لوجهين
أحدهما أن تقدم بعض أجزاء الزمان على بعض هو بالزمان فإنه

ليس المراد بالتقدم بالزمان أن يكون هناك زمان خارج عن التقدم والمتقدم وصفاتهما بل المراد أن المتقدم يكون قبل المتأخر القبلية المعقولة كتقدم اليوم على غد وأمس على اليوم ومعلوم أن تقدم طلوع الشمس وما يقارنه من الحوادث على الزوال نوع واحد فلا فرق بين تقدم نفس الزمان المتقدم على المتأخر وبين تقدم ما يكون في الزمان المتقدم على ما يكون في الزمان المتأخر
الوجه الثاني أن يقال أجزاء الزمان متصلة متلاحقة ليس فيها فصل عن الزمان ومن قال إن الباري لم يزل غير فاعل ولا يتكلم بمشيئته ثم صار فاعلا و متكلما بمشيئته وقدرته يجعل بين هذا وهذا من الفصل مالا نهاية له فكيف يجعل هذا بمنزلة تقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض
وبالجملة فالعلم بأن الفاعل بمشيئته وقدرته بل الفاعل مع قطع النظر عن كونه إنما يفعل بمشيئته وقدرته وإن كان هذا لازما له في نفس الأمر فالعلم بمجرد كونه فاعلا للشيء المعين يوجب العلم بأنه

أبدعه وأحدثه وصنعه ونحو ذلك من معاني العبارات التي تقتضي أن المفعول كان بعد أن لم يكن وأن ما فعله بقدرته وإرادته كان بعد أن لم يكن وإن قدر دوام كونه فاعلا بقدرته وإرادته
فعلم أن إرادته لشيء معين في الأزل ممتنع لأن إرادة وجوده تقتضي إرادة وجود لوازمه لأن وجود الملزوم بدون وجود اللازم محال فتلك الإرادة القديمة لو اقتضت وجود مراد معين في الأزل لاقتضت وجود لوازمه وما من وجود معين من المرادات إلا وهو مقارن لشيء آخر من الحوادث كالفلك الذي لا ينفك عن الحوادث وكذلك العقول والنفوس التي يثبتها هؤلاء الفلاسفة هي لا تزال مقارنة للحوادث وإن قالوا إن الحوادث معلولة لها فإنها ملازمة مقارنة لها على كل تقدير
وذلك أن الحوادث مشهودة في العالم فإما أن تكون لم تزل مقارنة للعالم أو تكون حادثة فيه بعد أن لم تكن فإن لم تزل مقارنة له ثبت أن العالم لم يزل مقارنا للحوادث وإن قيل إنها حادثة فيه بعد أن لم تكن كان العالم خاليا عن الحوادث ثم حدثت فيه وذلك يقتضي حدوث الحوادث بلا سبب حادث وهذا ممتنع على ما تقدم وكما سلموه هم

فإن قيل إن هذا جائز أمكن وجود العالم بما فيه من الحوادث مع القول بأن الحوادث حدثت بعد أن لم تكن حادثة أعني نوع الحوادث وإلا فكل حادث معين فهو حادث بعد أن لم يكن
وإنما النزاع في نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أو في المستقبل فقط أو لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل على ثلاثة أقوال معروفة عند أهل النظر من المسلمين وغيرهم أضعفها قول من يقول لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل كقول جهم ابن صفوان وأبي الهذيل العلاف وثانيها قول من يقول يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي كقول كثير من أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الكرامية والأشعرية والشيعة ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم والقول الثالث قول من يقول يمكن دوامها في الماضي والمستقبل كما يقوله أئمة أهل الحديث وأئمة الفلاسفة وغيرهم
لكن القائلون بقدم الأفلاك كأرسطو وشيعته يقولون بدوام حوادث الفلك وأنه ما من دورة إلا وهي مسبوقة بأخرى لا إلى أول وأن الله

لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام بل حقيقة قولهم إن الله لم يخلق شيئا كما بين في موضع آخر وهذا كفر باتفاق أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى
وهؤلاء القائلون بقدمها يقولون بأزلية الحوادث في الممكنات وأما الذين يقولون إن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وما سواه مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن فهم يفرقون بين الخالق الواجب والمخلوق الممكن في دوام الحوادث وهذا قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة القدماء فهم وإن قالوا إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل حيا فعالا فإنهم يقولون إن ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن
والمقصود هنا أن الفلاسفة القائلين بقدم العالم إن جوزوا حدوث الحوادث بلا سبب حادث بطلت عمدتهم في قدم العالم وإن منعوا ذلك امتنع خلو العالم عن الحوادث وهم لا يسلمون أنه لم يخل من الحوادث
وإذا كان كل موجود معين من مرادات الله التي يخلقها فإنه مقارن

للحوادث مستلزم لها امتنع إرادته دون إرادة لوازمه التي لا ينفك عنها والله رب كل شيء وخالقه لا رب غيره فيمتنع أن يكون بعض ذلك بإرادته وبعضه بإرادة غيره بل الجميع بإرادته
وحينئذ فالإرادة الأزلية القديمة إما أن تكون مستلزمة لمقارنة مرادها لها وإما أن لا تكون كذلك فإن كان الأول لزم أن يكون المراد ولوازمه قديما أزليا والحوادث لازمة لكل مراد مصنوع فيجب أن تكون مرادة له وأن تكون قديمة أزلية إذ التقدير أن المراد مقارن للإرادة فيلزم أن تكون جميع الحوادث المتعاقبة قديمة أزلية وهذا ممتنع لذاته
وإن قيل إنه أراد القديم بإرادة قديمة وأراد الحوادث المتعاقبة عليه بإرادات متعاقبة كما قد يقوله طائفة من الفلاسفة وهو يشبه قول صاحب المعتبر

قيل أولا كون الشيء مرادا يستلزم حدوثه بل وتصور كونه مفعولا يستلزم حدوثه فإن مقارنة المفعول المعين لفاعله ممتنع في بداية العقول
وقيل ثانيا إن جاز أن يكون له إرادات متعاقبة دائمة النوع لم يمتنع أن يكون كل ما سواه حادثا بتلك الإرادات فالقول حينئذ بقدم شيء من العالم قول بلا حجة أصلا
وقيل ثالثا إن الفاعل الذي من شأنه أن يفعل شيئا بعد شيء بإرادات متعاقبة يمتنع قدم شيء معين من إراداته وأفعاله وحينئذ فيمتنع قدم شيء من مفعولاته فيمتنع قدم شيء من العالم
وقيل رابعا إذا قدر أنه في الأزل كان مريدا لذلك المعين كالفلك إرادة مقارنة للمراد لزم أن يكون مريدا للوازمه إرادة مقارنة للمراد فإن وجود الملزوم بدون اللازم محال واللازم له نوع الحوادث وإرادة النوع إرادة مقارنة له في الأزل محال لامتناع وجود النوع كله في الأزل
وإذا قيل اللازم له دوام الحوادث فيكون مستلزما لدوام الإرادة لتلك الحوادث

قيل معلوم أن إرادة هذا الحادث ليست إرادة هذا الحادث وأن جوزوا هذا لزمهم أن يجوزوا وجود جميع الكائنات بإرادة واحدة قديمة أزلية كما يقوله من يقول من المتكلمين كابن كلاب وأتباعه وحينئذ يبطل قولهم
وإذا كان كذلك فالمعلول المعين القديم إذا قدر كان مرادا بإرادة قديمة أزلية باقية ولم يقترن بها إرادة شيء من الحوادث لأن الحادث لا يكون قديما ونوع الإرادات والحوادث ليس فيه شيء بعينه قديم لكن قد يقال يقترن بها النوع الدائم لكن هذا ممتنع من وجوه قد ذكر بعضها
وإن قيل إن الإرادة القديمة الأزلية ليست مستلزمة لمقارنة مرادها لها لم يجب أن يكون المراد قديما أزليا ولا يجوز أن يكون حادثا لأن حدوثه بعد أن لم يكن يفتقر إلى سبب حادث كما تقدم
وإن جاز أن يقال إن الحوادث تحدث بالإرادة القديمة الأزلية من غير تجدد أمر من الأمور كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام

من الأشعرية والكرامية وغيرهم ومن وافقهم من أتباع الأئمة أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم كان هذا مبطلا لحجة هؤلاء الفلاسفة على قدم العالم
فإن أصل حجتهم أن الحوادث لا تحدث إلا بسبب حادث فإذا جوزوا حدوثها عن القادر المختار بلا سبب حادث أو جوزوا حدوثها بالإرادة القديمة الأزلية بطلت عمدتهم وهم لا يجوزون ذلك
وأصل هذا الدليل أنه لو كان شيء من العالم قديما للزم أن يكون صدر عن مؤثر تام سواء سمى علة تامة أو موجبا بالذات أو قيل إنه قادر مختار وأختياره أزلي مقارن لمراده في الأزل ويمتنع أن يكون في الأزل ويمتنع أن يكون في الأزل قادر مختار يقارنه مراده سواء سمى ذلك علة تامة أو لم يسم وسواء سمى موجبا بالذات أو لم يسم بل يمتنع أن يكون شيء من المفعولات المعينة العقلية مقارنا لفاعله الأزلى في الزمان وامتناع هذا معلوم بصريح العقل عند جماهير العقلاء من الأولين والآخرين ويمتنع أن يكون في الأزل علة تامة أو موجب بالذات سواء سمى قادرا مختارا أو لم يسم

وسر ذلك أن ما كان كذلك لزم أن يقارنه أثره المسمى معلولا أو مرادا أو موجبا بالذات أو مبدعا أو غير ذلك من الأسماء لكن مقارنة ذلك له في الأزل تقتضي أن لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا ولو لم يكن كذلك لم يكن للحوادث فاعل بل كانت حادثة بنفسها وهذا ممتنع بنفسه فإثبات موجب بالذات أو فاعل مختار يقارنه مراده في الأزل يستلزم أن لا يكون للحوادث فاعل وهذا محال
لا سيما قول من يقول إن العالم صدر عن ذات بسيطة لا يقوم بها صفة ولا فعل كما يقوله ابن سينا وأمثاله فإن هؤلاء يقولون بصدور الأمور المختلفة عن ذات بسيطة وإن العلة البسيطة التامة الأزلية توجب معلولات مختلفة وهذا من أعظم الأقوال امتناعا في صريح المعقول
ومهما أثبتوه من الوسائط كالعقول وغيرها فإنه لا يخلصهم من هذا القول الباطل
فإن تلك الوسائط كالعقول صدرت عن غيرها وصدر عنها غيرها
فإن كانت بسيطة من كل وجه فقد صدر المختلف الحادث عن البسيط الأزلي وإن كان فيها اختلاف أو قام بها حادث فقد صدرت أيضا المختلفات والحوادث عن البسيط التام الأزلي

وكلاهما باطل فهم مع القول بأن مبدع العالم علة له أبعد الناس عن مراعاة موجب التعليل
وهؤلاء يقولون أيضا إنه علة تامة أزلية لبعض العالم كالأفلاك مثلا وليس علة تامة في الأزل لشيء من الحوادث بل لا يصير علة تامة لشيء من الحوادث إلا عند حدوثه فيصير علة بعد أن لم يكن علة مع أن حاله قبل ومع وبعد حال واحدة فاختصاص كل وقت بحوادثه وبكونه صار علة تامة فيه لتلك الحوادث لا بد له من مخصص ولا مخصص ولا مخصص إلا الذات البسيطة وحالها في نفسها واحد أزلا وأبدا فكيف يتصور أن يخص بعض الأوقات بحوادث مخصوصة دون بعض مع تماثل أحوالها في نفسها
وهذا بعينه تخصيص لكل حال من الأحوال الحادثة المتماثلة عن سائر أمثاله بذلك الإحداث وبتلك المحدثات من غير مخصص يختص به ذلك المثل فقد وقع هؤلاء في أضعاف ما فروا منه وأضعاف أضعافه إلى مالا يتناهى

وإذا قيل حدوث الحادث الأول أعد الذات لحدوث الثاني
قيل لهم فالذات نفسها هي علة الجميع ونسبتها إلى الجميع نسبة واحدة فما الموجب لكونها جعلت ذلك يعدها لهذا دون العكس مع أنه لم يقم بها شيء يوجب التخصيص
وأيضا فكيف تصير هي فاعلة لهذا الحادث بعد أن لم تكن فاعلة له من غير أمر يقوم بها
وأيضا فكيف يكون معلولها يجعلها فاعلة بعد أن لم تكن فاعلة بدون فعل يقوم بها
وإذا قالوا أفعالها تختلف وتحدث لاختلاف القوابل والشرائط وحدوث ذلك الاستعداد وسبب ذلك الحدوث هو الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية
قيل لهم هذا إن كان ممكنا فإنما يمكن فيما يكون فيه فاعل الإعداد غير فاعل الإمداد كالشمس التي يفيض نورها وحرارتها على العالم ويختلف فعلها ويتأخر كمال تأثيرها عن شروقها لاختلاف القوابل وحدوثها والقوابل ليست من فعل الشمس
وكذلك ما يدعونه من العقل الفعال الذي يختلف فيضه في هذا العالم باختلاف قوابله فإن القوابل اختلفت باختلاف حركات الأفلاك وليست حركات كل الأفلاك عن العقل الفياض

فأما الذات التي منها الإعداد ومنها الإمداد ومنها الفيض ومنها القبول وهي الفاعلة للقابل والمقبول والشرط والمشروط فلا يتصور أن يقال إنما اختلف فعلها أو فيضها أو إيجابها وتأخر لاختلاف القوابل والشروط أو لتأخر ذلك فإنه يقال القول في اختلاف القوابل والشروط وتأخرها كالقول في اختلاف المقبول والمشروط وتأخر ذلك فليس هناك سبب وجودي يقتضي ذلك إلا مجرد الذات التي هي عندهم بسيطة وهي عندهم علة تامة أزلية فهل هذا القول إلا من أفسد الأقوال في صريح المعقول
وإن قالوا السبب في ذلك أنه لم يكن إلا هذا وأن الممكنات لا تقبل إلا هذا
قيل الممكنات قبل وجودها ليس لها حقيقة موجودة تجعل هي السبب في تخصيص أحد الموجودين بالوجود دون الآخر ولكن بعد وجودها يعقل كون الممكن شرطا لغيره ومانعا لغيره كوجود اللازم فإنه شرط في الضدين فإنه مانع من الآخر دون غيره ووجود اللازم فإنه شرط في وجود الملزوم أي لا بد من وجوده مع وجوده سواء وجدا معا أو سبق أحدهما الآخر

وإنما يقدر وجود شيء من الممكنات فكيف يعقل أن أحد الممكنين الجائزين اللذين لم يوجد واحد منهما هو الذي أوجب في الذات البسيطة أن يوجد هذا دون هذا ويجعل هذا قديما دون هذا مع أنها واحدة بسيطة نسبتها إلى جميع الممكنات نسبة واحدة
وإذا قيل ماهية الممكن أوجبت ذلك دون وجوده
قيل الجواب من وجهين
أحدهما أن الماهية المجردة عن الوجود إنما تعقل في العلم الذي يعبر عنه بالوجود الذهني دون الوجود الخارجي والعلم تابع للمعلوم فإن لم يكن من الذات الفاعلة سبب يقتضي تخصيص ماهية دون ماهية بالوجود بل كانت بسيطة لا اختصاص لها بشيء من الماهيات لم يعقل اختصاص إحدى الماهيتين بالوجود دون الأخرى ومعلوم أن الفاعل إذا تصور ما يريد فعله قبل أن يفعله فلا بد من أن يكون فيما يراد فعله سبب يوجب تخصيصه بالإرادة والعبد لإرادته أسباب خارجة عنه توجب التخصيص وأما الرب تعالى فلا يخرج عنه إلا ما هو منه وهو مفعوله فإن لم يكن في ذاته ما يوجب التخصيص امتنع التخصيص منه فامتنع الفعل
الثاني أن يقال هب أن ماهية الممكن ثابتة في الخارج لكن القول في تخصيص تلك الماهيات المقارنة لوجودها بالوجود دون

بعض كالقول في تخصيص وجودها إذ كان كل ما يقدر وجوده فماهيته مقارنة له
وإن قيل إن الماهيات أمر محقق في الخارج غني عن الفاعل فهذا تصريح بأنها واجبة بنفسها مشاركة للرب في إبداع الوجود وهذا باطل وهذا يتوجه على القول بأن المعدوم ليس بشيء وهو الصواب و على قول من قال إنه شيء في الخارج أيضا
فصل
ثم إنه يمكن تحرير هذا الدليل بطريق التقسيم على كل تقدير تقوله طائفة من طوائف المسلمين
مثل أن يقال إن الحوادث إما أن يمتنع دوامها ويجب أن يكون لها ابتداء وإما أن لا يمتنع دوامها بل يجوز حوادث لا أول لها
فإن كان الأول لزم وجود الحوادث عن القديم الواجب الوجود بنفسه من غير حدوث شيء من الأشياء كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام

سواء قالوا إنها تصدر عن القادر المختار ولم يثبتوا له إرادة قديمة كما تقوله المعتزلة والجهمية أو قالوا إنها تصدر عن القادر المختار المريد بإرادة قديمة أزلية كما تقوله الكلابية والأشعرية والكرامية
وعلى هذا القول فيمتنع قدم شيء من العالم فإنه من شيء من العالم إلا وهو مقرون بالحوادث لم يسبقها سواء جعل كل ذلك جسما أو قيل إن هناك عقولا ونفوسا ليست أجساما فإنه لا ريب أنها مقارنة للحوادث فإنها فاعلة مستلزمة لها فإذا امتنع وجود حوادث لا أول لها امتنع أن يكون للحوادث علة مستلزمة لها سواء كانت ممكنة أو واجبة وعلى هذا التقدير فالإرادة القديمة لا تستلزم وجود المراد معها لكن يجب وجود المراد في الوقت المتأخر عن الإرادة
وإن قيل إنه يمكن دوام الحوادث وأن لا يكون لها ابتداء
فيقال على هذا التقدير يمتنع أن يكون شيء من العالم قديما أزليا لا الأفلاك ولا العقول ولا النفوس ولا المواد العنصرية ولا الجواهر المفردة ولا غير ذلك لأن كل ما كان قديما من العالم أزليا فلا بد أن

يكون فاعله موجبا له بالذات سواء سمى علة تامة أو مرجحا تاما أو سمى قادرا مختارا
لكن وجود الموجب بالذات في الأزل محال لأنه يستلزم أن يكون موجبه ومقتضاه أزليا وهذا ممتنع لوجوه
منها أن المفعول المعين للفاعل يمتنع أن يكون مقارنا له في الزمان أزليا معه لا سيما إذا اعتبر مع ذلك أن يكون فاعلا بإرادته وقدرته فإن مقارنة مقدورة المعين له بحيث يكون أزليا معه محال بل هذا محال ممتنع فيما يقدر قائما به فإنه يمتنع كونه مرادا أزليا فلأن يكون ممتنعا فيما هو منفصل عنه بطريق الأولى
ومنها أنه إذا قدر علة تامة موجبا بذاته لزم أن يقارنه معلوله مطلقا فيكون كل شيء من العالم أزليا وهذا محال خلاف المشاهدة وإجماع العقلاء
وإذا قيل إن بعض العالم أزلي كالأفلاك ونوع الحركات وبعضه ليس بأزلي كآحاد الأشخاص والحركات
قيل هذا يقتضي بطلان قولهم من وجوه
أحدها أنه إذا جاز كونه فاعلا للحوادث شيئا بعد شيء أمكن أن يكون كل ما سواه حادثا فالقول بقدم شيء معين من العالم قول بلا حجة

الثاني أن كونه محدثا للحوادث شيئا بعد شيء بدون قيام سبب به يوجب الإحداث ممتنع فإن الذات إذا كان حالها قبل هذا وبعد هذا ومع هذا واحدة امتنع أن تخص هذا بالإحداث دون هذا بل امتنع أن تحدث شيئا
الثالث أنه إن جوز أن تحدث شيئا بدون سبب يقوم بها جاز أن يكون لجميع الحوادث ابتداء فلا يكون في العالم شيء قديم وإن لم يجوز ذلك بطل قولهم بأنها تحدث الحوادث بدون سبب يقوم بها
الرابع أن إحداث الحوادث إن لم يجز بدون سبب يقوم بها بطل قولهم وإن افتقر إلى سبب يقوم بها لزم أن يقوم بها تلك الأمور دائما شيئا بعد شيء فلا تكون فاعلة قط إلا مع قيام ذلك بها فيمتنع أن يكون لها مفعول معين أزلا وأبدا لأن صدور ذلك عن ذات تفعل ما يقوم بها شيئا بعد شيء ممتنع لأن ما تفعل بهذه الواسطة لا يكون فعلها إلا شيئا بعد شيء فيمتنع أن يكون لها فعل معين لازم لها وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون لها مفعول معين لازم لها
الخامس أنه إذا قدر أن شيئا من معلولاتها لازم لها أزلا وأبدا لم يكن ذلك إلا لكون الذات علة تامة موجبة له ومعلوم أن المعين

مخصوص بقدر وصفه وحال وهذا التخصيص الذي فيه يستلزم أن يكون الاختصاص في علته وإلا فالعلة التي لا اختصاص لها لا توجب ما هو مختص بقدر وحال وصفة
ومعلوم أنه إذا قدر أن الفاعل هو الذات المجردة عن الأحوال المتعاقبة عليها سواء قيل إنه لا يقوم بها الأحوال أو قيل إنها تقوم بها لكن على التقديرين لا تكون موجبة لشيء قديم أزلي إلا لمجرد الذات المجردة عن الأحوال المتعاقبة لأن الأحوال المتعاقبة آحادها موجودة شيئا بعد شيء فيمتنع أن تكون موجبة لشيء قديم أزلي فإن الموجب القديم المعين الأزلي أولى أن يكون قديما أزليا معينا والأحوال المتعاقبة ليس منها شيء قديم معين أزلي فيمتنع أن يكون الموجب المشروط بها قديما أزليا
فإذا قدر أنه قديم أزلي لم يكن ذلك إلا بتقدير أن تكون الذات المجردة هي الموجبة والذات المجردة ليس فيها اختصاص يوجب تخصيص الفلك دون غيره بكونه معلولا بخلاف ما إذا قيل إنه حدث بعد أن لم يكن لأسباب أوجبت الحدوث والتخصيص فإن هذا السؤال يندفع وهذا دليل مستقل في المسألة ولم يتقدم بعد ذكره في هذا الكتاب

السادس أنه إذا كانت الأحوال لازمة لها كان بتقدير فعلها بدون الأحوال تقديرا ممتنعا وحينئذ فالذات المستلزمة للأحوال المتعاقبة لا تفعل بدونها وإذا كان الفاعل لا يفعل إلا بأحوال متعاقبة امتنع قدم شيء من مفعولاته لأن القديم يقتضي علة تامة أزلية وما يستلزم الأحوال المتعاقبة لا يكون اقتضاؤه في الأزل لشيء معين تاما أزليا بل إنما يتم اقتضاؤه لكل مفعول عند وجود الأحوال التي بها يصير فاعلا
السابع أنه إن جاز أن يقوم بالفاعل الأحوال المتعاقبة جاز بل وجب حدوث كل ما سواه وإن لم يجز ذلك فإما أن يقال يمتنع حدوث شيء ومعلوم وجود الحوادث وإما أن يقال بل تحدث بلا سبب حادث في الفاعل وحينئذ فيلزم جواز حدوث كل ما سوى الله تعالى فإنه إذا جاز أن يحدث الحوادث دائما بلا سبب يقتضي حدوثها فلأن تحدث جميعها بلا سبب يقتضي حدوثها أولي فإن هذا أقل محذورا فإذا جاز الحدوث مع المحذور الأعظم فمع الأخف أولى
وأيضا فالأول إن كان مستلزما لتلك الحوادث كان الجميع قديما وهو ممتنع كما تقدم وإن لم يكن مستلزما لتلك الحوادث كانت حادثة بعد أن لم تكن فيلزم حدوث الحوادث بدون سبب حادث وإن كان مستلزما لنوعها دون الآحاد فقد عرف بطلان ذلك من وجوه ولو جاز حدوث الحوادث بدون سبب حادث لجاز حدوث العالم

وإذا جاز الحدوث العالم امتنع قدمه لأنه لا يكون قديما إلا لقدم العلة الموجبة له
وإذا قدر أن ثم علة موجبة له فإنه يجب القدم ويمتنع الحدوث وإذا جاز حدوثه امتنع قدمه فكذلك إذا جاز قدمه امتنع حدوثه فإنه لا يجوز قدمه إلا القدم موجبه ومع ذلك يمتنع حدوثه فكما أن الممكن الذهني الذي يقبل الوجود والعدم إذا حصل المقتضى التام وجب وجوده وإلا وجب عدمه فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وليس في الخارج إلا ما وجب وجوده بنفسه أو بغيره أو ما امتنع وجوده بنفسه أو بغيره فكذلك القول في قدم الممكن وحدوثه ليس في الخارج إلا ما يجب قدمه أو يمتنع قدمه فإذا حصل موجب قدمه بنفسه أو بغيره وإلا امتنع قدمه ولزم إما دوام عدمه وإما حدوثه فمع القول بجواز حدوثه يمتنع قدم العلة الموجبة له فيمتنع قدمه فلا يمكن أن يقال إنه يجوز حدوثه مع إمكان أن يكون قديما بل إذا ثبت جواز حدوثه ثبت امتناع قدمه
ولهذا كان كل من جوز حدوث الحوادث بدون سبب حادث يقول بحدوثه ومن قال بقدمه لم يقل أحد منهم بجواز حدوث الحوادث بدون سبب حادث وإن كان هذا القول مما يخطر بالبال تقديره بأن

يقال يمكن حدوث الحوادث بلا سبب حادث لأن الفاعل القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ويمكن مع ذلك قدم العالم بأن يكون المختار رجح قدمه بلا مرجح فإن هذا القول لظهور بطلانه لم يقله أحد من العقلاء فيما نعلم لأنه مبني على مقدمتين كل منهما باطلة في نظر العقول وإن كان من العقلاء من التزم بعضهما فلا يعرف من التزمهما معا
إحداهما كون الفاعل المختار يرجح بلا سبب فإن أكثر العقلاء يقولون إن فساد هذا معلوم بالضرورة أو هو قطعي غير ضروري
والثانية كون القادر المختار يكون فعله مقارنا له لا يحدث شيئا بعد شيء فإن هذا أيضا مما يقول العقلاء أو جمهورهم إن فساده معلوم بالضرورة أو قطعا بل جمهور العقلاء يقولون إن مفعول الفاعل لا يكون مقارنا له أبدا
ثم من النظار من قال بإحدى المقدمتين دون الأخرى فالقدرية وبعض الجهمية يقولون بالأولى وبعض الجبرية يقولون بالأولى في حق الرب دون العبد وأما الثانية فلم يقل بها إلا من جعل الفاعل مريدا أو جعل بعض العالم قديما كأبي البركات ونحوه

وأما القائلون بقدم شيء من العالم فلا يقولون بأن الفاعل مريد وهؤلاء قولهم أفسد من قول أبي البركات وأمثاله فإن كون المفعول المعين لم يزل مقارنا لفاعله هو مما يقول جمهور العقلاء إنه معلوم الفساد بالضرورة فإذا قيل مع ذلك إن الفاعل غير مريد كان زيادة ضلال ولم يكن هذا مما يقوى قولهم بل نفس كون الفاعل فاعلا لمفعوله المعين يمنع مقارنته له وما يذكرونه من حركة الخاتم مع اليد وحركة الشعاع مع الشمس وأمثال ذلك ليس فيه أن المفعول قارن فاعله وإنما قارن شرطه وليس في العالم فاعل لم يزل مفعوله مقارنا له
وأما سائر القائلين بقدم شيء من العالم فلا يقولون بأن الفاعل مريد
ثم كل من الطائفتين من أعظم الناس إنكارا لمقدمة القدرية وهو أن الفاعل المختار يرجح بلا مرجح حادث ومتى جوزوا ذلك بطل قولهم بقدم شيء من العالم فإن أصل قولهم إنما هو أن الفاعل يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن لامتناع حدوث الحوادث بلا سبب فيمتنع أن يكون معطلا ثم يصير فاعلا بل إذا قدر أنه كان معطلا لزم دوام تعطيله

فإذا قدر أنه فاعل لزم دوام فعله وعندهم يمتنع ما قاله أولئك المتكلمون من جواز تعطيله ثم فعله فمتى جوزوا أن يكون معطلا لم يفعل لم يمكنهم نفي ما قاله أولئك ولا القول بقدم شيء من العالم
لكن غاية من جوز هذا أن يصير شاكا يقول هذا ممكن وهذا ممكن ولا أدرى أيهما الواقع وحينئذ فيمكن أن يعلم أحدهما بالسمع ومعلوم أن الرسل صلوات الله عليهم أخبرت بأن الله خالق كل شيء وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام فمن قدر أن عقله جوز الأمرين فبقي شاكا أمكنه أن يعلم وقوع أحد الجائزين بالسمع
والعلم بصدق الرسول ليس موقوفا على العلم بحدوث العالم وهذه طريقة صحيحة لمن سلكها فإن المقدمات الدقيقة الصحيحة العقلية قد لا تظهر لكل أحد والله تعالى قد وسع طريق الهدى لعباده فيعلم أحد المستدلين المطلوب بدليل ويعلمه الآخر بدليل آخر ومن علم صحة الدليلين معا كان كل منهما يدله على المطلوب وكان

اجتماع الأدلة يوجب قوة العلم وكل منهما يخلف الآخر إذا عزب الآخر عن الذهن
ولكن مع كون أحد من العقلاء لم يعلم أنه قال هذا ومع كون نقيضه مما يعلم بالسمع فنحن نذكر دلالة العقل على فساده أيضا فنقول
كما أنه ما يثبت قدمه امتنع عدمه فما جاز عدمه امتنع قدمه فإنه لو كان قديما لامتنع عدمه والتقدير أنه جائز العدم فيمتنع قدمه وما جاز حدوثه لم يمتنع عدمه بل جاز عدمه وقد تقدم أن ما جاز عدمه امتنع قدمه لأنه لو كان قديما لم يجز عدمه بل امتنع عدمه
وتلك المقدمة متفق عليها بين النظار متكلمهم ومتفلسفهم وغيرهم وبيان صحتها أن ما يثبت قدمه فإما أن يكون قديما بنفسه أو بغيره فالقديم بنفسه واجب بنفسه والقديم بغيره واجب بغيره ولهذا كان كل من قال إن العالم أو شيئا منه قديم فلا بد من أن يقول هو واجب بنفسه أو بغيره ولا يمكنه مع ذلك أن يقول ليس هو بواجب بنفسه ولا بغيره فإن القديم بنفسه لو لم يكن واجبا بنفسه لكان ممكنا مفتقرا إلى غيره فإن كان محدثا لم يكن قديما وإن كان قديما بغيره لم يكن قديما بنفسه وقد فرض أنه قديم بنفسه فثبت أن ما هو قديم بنفسه فهو واجب بنفسه
وأما القديم بغيره فأكثر العقلاء يقولون يمتنع أن يكون شيء قديما بفاعل ومن جوز ذلك فإنه يقول قديم بقدم موجبه الواجب بنفسه

ففاعله لا بد أن يوجبه فيكون علة موجبة أزلية إذ لو لم يوجبه بل جاز وجوده وجاز عدمه وهو من نفسه ليس له إلا العدم لوجب عدمه ومع وجوب العدم يمتنع وجوده فضلا عن قدمه فما لم يكن موجودا بنفسه ولا قديما بنفسه إذا لم يكن له في الأزل ما يوجب وجوده لزم عدمه فإن المؤثر التام إذا حصل لزم وجود الأثر وإن لم يحصل لزم عدمه
وإذا قيل التأثير أولى به مع إمكان عدم التأثير قيل هذه مقدمة باطلة كما تقدم وأنتم تسلمون صحتها والذين ادعوا صحتها لم يقولوا بباطل قولكم فلم يجمع أحد بين هذين القولين الباطلين
ونحن في مقام الاستدلال فإن قلتم نحن نقول هذا على طريق الإلزام لمن قال هذا من الجبرية والقدرية الذين يجوزون ترجيح القادر المختار بدون مرجح تام يوجب الفعل فنقول لهم هلا قلتم بأن الرب فاعل مختار وهو مع هذا فعله لازم له
قيل لكم هؤلاء يقولون إن الفعل القديم ممتنع لذاته ولو قدر أن الفاعل غير مختار فكيف إذا كان الفاعل مختارا
فقد علم أن فعل القادر المختار يمتنع أن يكون مقارنا له
ويقولون لا يعقل الترجيح إلا مع الحدوث ويقولون إن الممكن لا يعقل ترجيح وجوده على عدمه إلا مع كونه حادثا فأما الممكن المجرد بدون الحدوث فلا يعقل كونه مفعولا بل يقولون إن هذا معلوم

بالضرورة وهو كون الممكن مما يمكن وجوده بدلا من عدمه وعدمه بدلا من وجوده وهذا إنما يكون فيما يمكن أن يكون موجودا ويمكن أن يكون معدوما وما وجب قدمه بنفسه أو بغيره امتنع أن يكون معدوما فيمتنع أن يكون ممكنا
قالوا وهذا ما اتفق عليه جماهير العقلاء حتى أرسطو وأتباعه القدماء يقولون إن الممكن لا يكون إلا محدثا وكذلك ابن رشد الحفيد وغيره من متأخريهم
وإنما قال إن الممكن يكون قديما طائفة منهم كابن سينا وأمثاله واتبعه على ذلك الرازي وغيره ولهذا ورد على هؤلاء من الإشكالات ما ليس لهم عنه جواب صحيح كما أورد بعض ذلك الرازي في محصلة ومحققوهم لا يقولون إن المحرج إلى الفاعل هو مجرد الحدوث حتى يقولوا إن المحدث في حال بقائه غني عن الفاعل بل يقولون إنه محتاج إلى الفاعل في حال حدوثه وحال بقائه وإن الممكن لا يحدث ولا يبقى إلا بالمؤثر
فهذا الذي عليه جماهير المسلمين بل عليه جماهير العقلاء لا يقولون إن شيئا من العالم غنى عن الله في حال بقائه بل يقولون متى قدر أنه ليس بحادث امتنع أن يكون مفعولا محتاجا إلى المؤثر فالقدم

عندهم ينافي الحاجة إلى الفاعل وينافى كونه مفعولا فالحدوث عندهم من لوازم كون الشيء مفعولا فيمتنع عندهم أن يكون مفعول قديما وهذا ليس قول القدرية والجبرية فقط بل هذا قول جماهير العقلاء من أهل الملل وغير أهل الملل وهو قول جماهير أئمة الفلاسفة
وأما كون الفلك مفعولا قديما فإنما هو قول طائفة قليلة من الفلاسفة وعند جمهور العقلاء أنه معلوم الفساد بالضرورة ولهذا كل من تصور من العقلاء أن الله خلق السموات والأرض تصور أنها كانت بعد أن لم تكن وكل من تصور أن شيئا من الموجودات مصنوع مفعول لله تصور أنه حادث فأما تصور أنه مفعول وأنه قديم فهذا إنما تتصوره العقول تقديرا له كما يتصور الجمع بين النقيضين تقديرا له والذي يقول ذلك يتعب تعبا كثيرا في تقدير إمكان ذلك وتصويره كما يتعب سائر القائلين بأقوال ممتنعة ثم مع هذا فالفطر ترد ذلك وتدفعه ولا تقبله
وأعجب من ذلك تسمية هؤلاء العالم محدثا ويعنون بكونه محدثا

أنه معلول العلة القديمة وإذا سئل أحدهم هل العالم محدث أو قديم يقول هو محدث وقديم ويعني بذلك أن الفلك قديم بنفسه لم يزل وأنه محدث يعنون بكونه محدثا له أنه معلول علة قديمة
وهذه العبارة يقولها ابن سينا وأمثاله من الباطنية فإنهم يأخذون عبارات المسلمين فيطلقونها على معانيهم كما قال مثل ذلك في لفظ الأفول فإن أهل الكلام المحدث لما احتجوا بحدوث الأفعال على حدوث الفاعل الذي قامت به الأفعال وزعموا أن إبراهيم الخليل احتج بهذا وأن المراد بالأقول الحركة والانتقال وأنه استدل بذلك على حدوث المتحرك والمنتقل نقل ابن سينا هذه المادة إلى أصله وذكر هذا في إشاراته فجعل هذا الأفول عبارة عن الإمكان وقال إن ما هوى في حظيرة الإمكان هوى في حظيرة الأفول ولفظه فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما
وذلك أنه أراد أن يقول بقول سلفه الفلاسفة مع قوله بما يشبه طريقة المتكلمين والمتكلمون استدلو على حدوث الجسم بطريقة التركيب

فجعل هو التركيب دليلا على الإمكان والمتكلمون جعلوا دليلهم هو دليل إبراهيم الخليل بقوله لا أحب الآفلين سورة الأنعام 76 وفسروه بأن الأفول هو الحركة فقال ابن سينا قال قوم إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنك إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوت قوله تعالى لا أحب الآفلين فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما
ويريد بالشرط أنه ليس بمركب وأن المركب ممكن ليس بواجب والممكن آفل الإمكان أفول ما والآفل عندهم هو الذي يكون موجودا بغيره ويقولون نحن نستدل بإمكان الممكنات على الواجب ونقول العالم قديم لم يزل ولا يزال ونجعل معنى قوله تعالى لا أحب الآفلين أي لا أحب الممكنين وإن كان الممكن واجب الوجود بغيره قديما لم يزل ولا يزال
ومعلوم أن كلا القولين من باب تحريف الكلم عن مواضعه وإنما الأفول هو المغيب والاحتجاب ليس هو الإمكان ولا الحركة

وإبراهيم الخليل لم يحتج بذلك على حدوث الكواكب ولا على إثبات الصانع وإنما احتج بالأفول على بطلان عبادتها فإن قومه كانوا مشركين يعبدون الكواكب ويدعونها من دون الله لم يكونوا يقولون إنها هي التي خلقت السموات والأرض فإن هذا لا يقوله عاقل ولهذا قال يا قوم إني برئ مما تشركون سورة الأنعام 78 وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين سورة الشعراء 75 77 وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن هؤلاء القوم يأخذون عبارات المسلمين التي عبروا بها عن معنى فيعبرون بها عن معنى آخر يناقض دين المسلمين ليظهر بذلك أنهم موافقون للمسلمين في أقوالهم وأنهم يقولون العالم محدث وأن كل ما سوى الله فهو عندنا آفل محدث يمعنى أنه معلول له وإن كان قديما أزليا معه واجبا به لم يزل ولا يزال
وإذا كان جماهير العقلاء يقولون إن المفعول لا يكون إلا حادثا لا سيما المفعول لفاعل باختياره فإذا كان من هؤلاء من قال إنه يفعل بدون سبب حادث وإنه يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح لم

يلزمه أن يقول مع هذا إن مفعوله قديم رجحه بلا مرجح فإنه يقول إن هذا القول باطل وقولي الآخر إن كان باطلا فلا أجمع بين قولين باطلين وإن كان حقا فقول الحق لا يوجب علي أن أقول الباطل فإن الحق لا يستلزم الباطل بل الباطل قد يستلزم الحق وهذا لا يضر الحق فإنه إذا وجد الملزوم وجد اللازم فالحق لازم سواء قدر وجود الباطل أو عدمه أما الباطل فلا يكون لازما للحق لأن لازم الحق حق والباطل لا يكون حقا فلا يلزم من قال الحق أن يقول الباطل وهذا ظاهر
والمقصود هنا أنه متى قيل بجواز حدوث الحوادث بدون سبب حادث أمكن أن يفعل الفاعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلا بدون سبب حادث كما يقول ذلك من يقوله من طوائف النظار من متكلمة المسلمين وغيرهم من القدرية والجبرية وغيرهم وحتى كان ذلك ممكنا في نفس الأمر لم يجب دوام الفاعل فاعلا وأمكن حدوث الزمان والمادة وغير ذلك كما يقول ذلك من يقوله من النظار من أهل الكلام والفلسفة ومتى كان ذلك ممكنا بطل كل ما يحتج به على قدم شيء من العالم فبطل القول بقدم العالم وعلم أيضا امتناع قدمه لأنه لا يكون

قديما إلا إذا كان واجبا بنفسه أو كان الفاعل مستلزما بنفسه له فإذا لم يكن هناك فاعل مستلزم له امتنع أن يكون قديما وكان كل من حجج القائلين بالحدوث والقائلين بالقدم مبطلة لهذا القول
أما القائلون بالقدم فعمدتهم أن المؤثر التام يستلزم أثره فيمتنع عندهم القول بمفعول قديم من غير علة تامة موجبة لأنه أثر عن غير مؤثر تام
وأما القائلون بالحدوث فعمدتهم أن الفاعل المختار بل الفاعل مطلقا لا يكون مفعول إلا حادثا وأن مفعولا قديما ممتنع
فصار عمدة هؤلاء وهؤلاء مبطلة لهذا القول الذي لم يقله أحد ولكن يقال على سبيل الإلزام لكل من الطائفتين إذا التزمت فاسد قولها دون صحيحة فإذا التزمت القدمية جواز حدوث الحوادث بلا سبب وأن الأثر لا يحتاج إلى مؤثر تام بل القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح والتزمت الحدوثية أن المفعول مطلقا أو المفعول بالقدرة والاختيار لم يزل قديما أزليا مع فاعله مقارنا له لزم من هذين اللازمين إمكان أن يكون الفاعل قادرا مختارا يرجح بلا مرجح ومفعوله مع هذا قديما

بقدمه لكن أحد من العقلاء لم يلتزم هذين فيما علمناه وإن قدر أنه التزم ذلك فقد التزم ملزومين باطلين كل منهما باطل بالبرهان والجمع بينهما لم يقله أحد من العقلاء وكان كل من العقلاء يرد عليه ببرهان قاطع ولكن هو يعارض كلام كل طائفة بكلام الطائفة الأخرى وغايته فساد بعض قول هؤلاء وفساد بعض قول هؤلاء لكن لا يلزم أن يسلم له الجميع بين فساد كل من القولين ولا الجمع بين هذا الفساد وهذا الفساد بل هذا يكون أبلغ في رد قوله
وأيضا فإن كلا من الطائفتين فرت من أحد الفسادين وظنت الآخر ليس بفاسد ولم تهتد إلى الجمع بين الصحيح كله والسلامة من الفاسد كله فليس له أن يلزمها ما علمت فساده مع ما لم تعلم فساده فيلزمها الفاسد كله ويخرجها من الصحيح كله فإن غاية قولها أبلق أن يكون فيه بياض وسواد والأبلق خير من الأسود
فإن الطائفة التي قالت إن القادر يمكنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح إنما قالته لما علمت أن القادر الفاعل لا بد أن يكون فعله حادثا وأن كونه فاعلا مع كونه الفعل قديما جمع بين المتناقضين ولم يهتدوا إلى الفرق بين نوع الفعل وبين عينه بل

اعتقدت أيضا أن حوادث لا أول لها ممتنع فقالت حينئذ فيمتنع دوام الفعل فيلزم كونه فاعلا بعد أن لم يكن فيلزم ترجيح القادر لأحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح لأن القادريه لا تختص ولم تزل وإن قيل باختصاصها أو حدوثها لزم حدوث القادرية لا محدث وتخصيصها بغير مخصص وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن بغير سبب وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بدون سبب يوجب هذا الانتقال وإذا جاز ذلك فجواز كونه مرجحا لأحد مقدوريه أولى بالجواز
وهذه اللوازم وإن قال الجمهور ببطلانها فإنهم يقولون ألجأنا إليها تلك الملزومات لما ذكرناه من ظنهم أنه لا فرق بين النوع والعين وإذا قيل لهم فقولوا مع هذه اللوازم بانتفاء تلك الملزومات فقالوا إن القادر يرجح أحد المقدورين على الآخر بلا مرجح ويحدث الحوادث بلا سبب مع أن الفاعل القادر يقارنه مفعوله المعين وأنه لا أول لعين الفعل والمفعول فقد لزمهم أن يقولوا باللوازم التي يظهر بطلانها مع نفي الملزومات التي أوجبت تلك في نظرهم التي فيها ما يظهر بطلانه وفيها ما يخفي بطلانه فقد لزمهم أن يقولوا باللازم الباطل

الذي لا حاجة بهم إليه مع نفي ما أحوجهم إليه مع أن فيه حقا أو فيه حقا وباطلا
وكذلك الطائفة التي قالت بقدم العالم فإنها لما اعتقدت أن الفاعل يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن وأن يحدث حادثا لا في وقت ويمتنع الوقت في العدم المحض ولم يهتدوا إلى الفرق بين دوام النوع ودوام العين ظنت أنه يلزم قدم عين المفعول فالتزمت مفعولا قديما أزليا لفاعل ثم قال من قال منهم لا يعقل كون الفاعل فاعلا بالاختيار مع كون مفعوله قديما مقارنا له فقالوا هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار والتزموا ما هو معلوم الفساد عند حمهور العقلاء من مفعول معين مقارن لفاعله أزلا وأبدا حذرا من إثبات كونه يصير فاعلا بعد أن لم يكن
فإذا قيل لهم فقولوا بهذه الأقوال مع قولكم إنه يمكن أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن فيرجح أحد مقدوريه بلا مرجح فقد لزمهم أن يقولوا الباطل كله وأن يقولا باللازم الذي يظهر بطلانه بدون الملزوم الذي فيه حق وباطل الذي ألجأهم إلى هذا اللازم

وأيضا فإنه على هذا التقدير الذي نتكلم عليه وهو تقدير أن لا يكون الأزلى مستلزما لتلك الحوادث بل كانت حادثة بعد أن لم تكن فيلزم أن العالم كان خاليا عن جميع الحوادث ثم حدثت فيه بلا سبب حادث وهو شبيه بقول الحرانيين القائلين بالقدماء الخمسة الواجب بنفسه والمادة والمدة والنفس والهيولي كما يقوله ديمقراطيس وابن زكريا الطبيب ومن وافقهما أو بقول يحكى عن بعض القدماء وهو أن جواهر العالم أزلية وهو القول بقدم المادة

وكانت متحركة على غير انتظام فاتفق اجتماعها وانتظامها فحدث هذا العالم
وكلا القولين في غاية الفساد وأما الأولون فيقولون إن النفس عشقت الهيولي فعجز الرب عن تخليصها من الهيولي حتى تذوق وبال اجتماعها بالهيولي وهم قالوا هذا فرارا من حدوث حادث بلا سبب وقد وقعوا فيما فروا منه وهو حدوث محبة النفس للهيولي فيقال لهم ما الموجب لذلك فقد لزمهم حدوث حادث بلا سبب ولزمهم ما هو أشنع من ذلك وهو حدوث الحوادث بدون صدورها عن رب العالمين والقول بقدماء معه
فإن قالوا بوجوب وجودها لزم كون واجب الوجود مستحيلا موصوفا بما يستلزم حدوثه ونقصه وإمكانه
وإن لم تكن واجبة بأنفسها بل به لزم أن يكون موجبا لها دون غيرها والعلة القديمة تستلزم معلولها فيلزم من ذلك تغير معلولها واستحالته من حال إلى حال بدون فعل منها واستحالة المعلول اللازم بدون تغير في العلة محال وإلا لم يكن معلولا لها وإن جوزوا ذلك فليجوزوا كون العالم قديما أزليا لازما لذات الرب وهو مع هذا ينتقض وتنشق السماء وتنفطر وتقوم القيامة بدون فعل من الرب ولا حدوث شيء منه أصلا بل بمجرد حدوث حادث في العالم بلا محدث

وإن قالوا هو بغض النفس للهيولي كان من جنس قولهم إن سبب حدوثه محبة النفس للهيولي فإذا جاز أن يحدث بمحبة النفس بدون اختيار الرب تعالى جاز أن ينتقض بغض النفس بدون اختيار الرب
وأما الآخرون فإنهم أثبتوا حدوث العالم فإن كانوا ينفون الصانع بالكلية فقد قالوا بحدوث الحوادث بلا محدث وإن كانوا يقولون بالصانع فقد أثبتوا إحداثه لهذا النظام بلا سبب حادث إن قالوا إن الرب لم يكن يحركها قبل انتظامها وإن قالوا إنه كان يحركها قبل انتظامها ثم إنه ألفها فهؤلاء قائلون بإثبات الصانع وحدوث هذا العالم وقولهم خير من قول القائلين بقدم هذا العالم
ثم إن قولهم يحتمل شيئين أحدهما إثبات شيء من العالم قديم بعينه فيكون قولهم بعض قول القائلين بقدم هذا العالم وهو من جنس قول القائلين بالقدماء الخمسة من حيث أثبتوا قديما معينا غير الأفلاك وهو من جنس قول أهل الأفلاك حيث أثبتوا حوادث لم تزل ولا تزال إن كانوا يقولون بأن تلك المواد لم تزل متحركة وإن قالوا بل كانت ساكنة ثم تحركت فقولهم من جنس قول أهل القدماء الخمسة فما دل على فساد قول هؤلاء وهؤلاء يدل على فساد قولهم

وما ذكرنا من التقسيم يأتي على كل قول وإن كان كل قول باطل له دلائل خاصة تدل على فساده
وأيضا فالمتكلمون الذين يثبتون الجوهر الفرد أو يقولون إن الحركة والسكون أمران وجوديان كجمهور المعتزلة والأشعرية وغيرهم يقولون إن العالم لم يخل من الحركة والسكون ومن الاجتماع والافتراق وهي حادثة فالعالم مستلزم للحوادث
وهذا مبسوط في موضعه وفيه نزاع بين النظار ومقدماته فيها طول ونزاع وقد لا يتقرر بعضها فلا نبسطه في هذا الموضع إذ لا حاجة بنا إليه وهو من الكلام المذموم فإن كثيرا من النظار يقولون إن السكون أمر عدمي ونقول إثبات الجوهر الفرد باطل والأجسام ليست مركبة من الجواهر الفردة ولا من الهيولى والصورة بل الجسم واحد في نفسه وأما كون الأجسام كلها تقبل التفريق أو لا يقبله إلا بعضها فليس هذا موضع بسطه وبتقدير أن يقبل ما يقبل التفريق فلا يجب أن يقبله إلى غير غاية بل يقبله إلى غاية وبعدها يكون الجسم صغيرا لا يقبل التفريق الفعلي بل يستحيل إلى جسم آخر كما يوجد في أجزاء الماء إذا تصغرت فإنها تستحيل هواء مع أن أحد جانبيها متميز عن

الآخر فلا يحتاج إلى إثبات جزء لا يتميز منه جانب عن جانب ولا يحتاج إلى إثبات تجزئة وتفريق لا يتناهى بل تتصغر الأجسام ثم تستحيل إذا تصغرت فهذا القول أقرب إلى العقول من غيره
فلما كان دليل أولئك مبنيا على إحدى هاتين المقدمتين إثبات الجواهر الفردة وأن الأجسام مركبة منها أو إثبات أن السكون أمر وجودي والنزاع في ذلك مشهور والبرهان عند التحقيق لا يقوم إلا على نقيض ذلك لم يبسط الكلام في تقريره
ولا يحتاج في إثبات شيء مما جاءت به الرسل إلى طرق باطلة مثل هذه الطرق وإن كان الذين دخلوا فيها أعلم وأعقل من المتفلسفة المخالفين وأقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول لكن بسبب ما غلطوا فيه من السمعيات والعقليات شاركهم في بعض الغلط في ذلك أهل الباطل من المتفلسفة وغيرهم وضموا إليه أمورا أخرى أبعد عن العقل والشرع منه وصاروا يحتجون على أولئك المتكلمين الذين هم أولى بالشرع والعقل منهم ببطلان ما خالفوهم فيه وخالفوا فيه

الحق وصاروا يجعلون ذلك حجة على مخالفة الحق مقدرين أنه لا حق عند الرسل وأتباعهم إلا ما يقوله هؤلاء المتكلمون وصاروا بمنزلة من جاور بعض جهال المسلمين وفساقهم من المشركين وأهل الكتاب فصار يورد بعض ما أولئك فيه من الجهل والظلم ويجعل ذلك حجة على بطلان دين المسلمين مقدرا أن دين المسلمين هو ما أولئك عليه مع كونه هو أجهل وأظلم منهم كما يحتج طائفة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى على القدح في دين المسلمين بما يجدون في بعضهم من الفواحش إما بنكاح التحليل وإما غيره وما يجدونه من الظلم أو الكذب أو الشرك فإذا قوبلوا على وجه الإنصاف وجدوا الفواحش والظلم والكذب والشرك فيهم أضعاف ما يجدونه في المنتسبين إلى دين الإسلام وإذا بين لهم حقيقة الإسلام تبين أنه ليس فيه شيء من تلك الفواحش والظلم والكذب والشرك فإنه ما من ملة إلا وقد دخل في بعض أهلها نوع من الشر لكن الشر الذي دخل في غير المسلمين أكثر مما دخل في المسلمين والخير الذي يوجد في المسلمين أكثر مما يوجد في غيرهم وكذلك أهل السنة في الإسلام

الخير فيهم أكثر منه في أهل البدع والشر الذي في أهل البدع أكثر منه في أهل السنة
فإن قيل ما ذكرتموه يدل على أنه يمتنع أن يكون العالم خاليا على الحوادث ثم تحدث فيه لكن نحن نقول إنه لم يزل مشتملا على الحوادث والقديم هو أصل العالم كالأفلاك ونوع الحوادث مثل جنس حركات الأفلاك فأما أشخاص الحوادث فإنها حادثة بالاتفاق وحينئذ فالأزلي مستلزم لنوع الحوادث لا لحادث معين فلا يلزم قدم جميع الحوادث ولا حدوث جميعها بل يلزم قدم نوعها وحدوث أعيانها كما يقول أئمة أهل السنة منكم إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء ويقولون إن الفعل من لوازم الحياة والرب لم يزل حيا فلم يزل فعالا وهذا معروف من قول أئمتكم كأحمد بن حنبل والبخاري صاحب الصحيح ونعيم ابن حماد الخزاعي وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم ممن قبلهم مثل ابن عباس وجعفر الصادق وغيرهما ومن بعدهم
وهم ينقلون ذلك عن أئمة أهل السنة ويقولون إن من خالف هذا

القول فهو مبتدع ضال وهؤلاء وأمثالهم عندكم هم أئمة أهل السنة والحديث وهم من أعلم الناس بمقالة الرسول والصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن أتبع الناس لها
وهؤلاء وغيرهم كسفيان بن عيينة احتجوا على أن كلام الرب غير مخلوق بأن الله لم يخلق شيئا إلا ب كن فلو كانت كن مخلوقة لزم التسلسل المانع من الخلق وهذا التسلسل فلو كانت كن مخلوقة لزم التسلسل في أصل كونه خالقا وفاعلا فهو تسلسل في أصل التأثير وهو ممتنع باتفاق العقلاء
بخلاف التسلسل في الآثار المعينة فإنه إذا لم يكن خالقا إلا بقوله كن امتنع أن يكون القول مخلوقا كما إذا قيل لا يكون خالقا إلا بعلم وقدرة امتنع أن يكون العلم والقدرة مخلوقين لأنه يلزم أن يكون ذلك المخلوق يمتنع وجوده إلا بعد وجوده فإنه لا يكون خالقا إلا به فيجب كونه متقدما على كل مخلوق فلو كان مخلوقا للزم تقدمه على نفسه وهذه حجة صحيحة عقلية شرعية

بخلاف ما إذا قيل إنه يخلق هذا بكن وهذا بكن أخرى فإن هذا يستلزم وجود أثر بعد أثر وهذا في جوازه نزاع بين العقلاء وأئمة السنة منكم ثم إن أساطين الفلاسفة وكثيرا من أهل الكلام يجيز ذلك
والمقصود أنكم إذا جوزتم وجود حادث بعد حادث عن القديم الأزلي الذي هو الرب عندكم فكذلك يقول هؤلاء في حوادث العالم التي تحدث في الفلك وغيره
قيل هذا قياس باطل وتشبيه فاسد وذلك أن هؤلاء إذا قالوا هذا قالوا الرب نفسه يفعل شيئا بعد شيء أو أن يتكلم بشيء وهذا ليس بممتنع بل هو جائز في صريح العقل فإن غاية ما يقال أن يكون وجود الأول وانقضاؤه شرطا في الثاني كما يكون وجود الوالد شرطا في وجود الولد وأن يكون تمام فاعلية الثاني إنما حصلت عند عدم الأول ويكون عدم الأول إذا اشترط في الثاني فهو من جنس اشتراط عدم أحد الضدين في وجود الضد الآخر مع أن الفاعل للضد الحادث ليس هو عدم الأول فكيف إذا كان هو المعدم للأول
وإذا قيل فعله للثاني مشروط بعدم الأول كان من باب اشتراط عدم الضد لوجود ضده ثم إن كان الشرط إعدام الأول كان فعله مشروطا بفعله والإعدام أمر وجودي وأيضا فالفاعل عند عدم الضد

المانع يتم كونه مريدا قادرا وتلك أمور وجودية وهو المقتضى لها إما بنفسه أو بما منه فلم يحصل موجود إلا منه وعنه
وأما هؤلاء فيقولون إن الفاعل الأول لا تقوم به صفة ولا فعل بل هو ذات مجردة بسيطة وإن الحوادث المختلفة تحدث عنها دائما بلا أمر يحدث منه وهذا مخالفة لصريح المعقول سواء سموه موجبا بالذات أو فاعلا بالاختيار فإن تغير المعلولات واختلافها بدون تغير العلة واختلافها أمر مخالف لصريح المعقول وفعل الفاعل المختار لأمور حادثة مختلفة بدون ما يقوم به من الإرادة بل من الإرادات المتنوعة مخالف لصريح المعقول
وهؤلاء يقولون مبدأ الحوادث كلها حركة الفلك وليس فوقه أمور حادثة توجب حركته مع أن حركات الفلك تحدث شيئا بعد شيء بلا أسباب حادثة تحدثها وحركات الأفلاك هي الأسباب لجميع الحوادث عندهم فإذا لم يكن لها محدث كان حقيقة قولهم أنه ليس لشيء من الحوادث محدث وإن كان للفلك عندهم نفس ناطقة

فحقيقة قولهم في جميع الحوادث من جنس قول القدرية في فعل الحيوان
ولهذا اضطر ابن سينا في هذا الموضع إلى جعل الحركة ليست شيئا يحدث شيئا بعد شيء بل هو أمر واحد لم يزل موجودا كما قد ذكرنا ألفاظه وبينا فسادها وأنه إنما قال ذلك لئلا يلزمه أنه يحدث عن العلة التامة حادث بعد حادث فخالف صريح العقل والحس في حدوث الحركة شيئا بعد شيء ليسلم له ما أدعاه من أن رب العالمين لم يحدث شيئا لأنه عنده علة تامة وقد اعترف حذاقهم بفساد قولهم
وأما من قال منهم بقيام الإرادات المتعاقبة به كأبي البركات وأمثاله فهؤلاء يقولون إنه موجب بذاته للأفلاك وموجب للحوادث المتعاقبة فيه بما يقوم به من الإرادات المتعاقبة
فيقال لهؤلاء أولا من جنس ما قيل لإخوانهم والحجة إليهم أقرب فإنهم أقرب إلى الحق فيقال لهم إذا جاز أن يحدث الحوادث شيئا بعد شيء لما يقوم به من الإرادات شيئا بعد شيء فلماذا لا يجوز أن تكون الأفلاك حادثة بعد أن لم تكن لما يقوم به من الإرادات المتعاقبة

وقد تفطن لهذا طائفة من حذاق هؤلاء النظار كالأثير الأبهري فقال يجوز أن يحدث جميع ذلك لما يقوم به من إرادة وإن كانت مسبوقة بإرادة أخرى لا إلى غاية
ويقال لهم أيضا لم لا يجوز أن تكون السماوات والأرض بأنفسها مسبوقة بمادة بعد مادة لا إلى غاية وكل ما سوى الله مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن وإن كان كل حادث قبله حادث كما يقوله من يقوله في الأمور القائمة بذاته من إرادات أو غيرها فإن تسلسل الحوادث ودوامها إن كان ممكنا فهذا ممكن وإن كان ممتنعا لزم إمتناع قدم الفلك فعلى التقديرين لا يلزم قدم الفلك ولا حجة لكم على قدمه مع أن الرسل قد أخبرت بأنه مخلوق فما الذي أوجب مخالفة ما أتفقت عليه الرسل وأهل الملل وأساطين الفلاسفة القدماء من غير أن يقوم على مخالفته دليل عقلي أصلا
إذ غاية ما يقولونه إنما هو إثبات قدم نوع الفعل لا عينه فإن جميع ما يحتج به القائلون بقدم العالم لا يدل على قدم شيء بعينه من

العالم بل إذا قالوا اعتبار أسباب الفعل وهو الفاعل والغاية والمادة والصورة يدل على قدم الفعل فإنما يدل ذلك إن دل على قدم نوعه لا عينه وقدم نوعه ممكن مع القول بموجب سائر الأدلة العقلية الدالة على أن الفعل لا يكون إلا حادثا وإن كان حادثا شيئا بعد شيء وأن الفاعل مطلقا أو الفاعل بالاختيار لا يكون فعله إلا حادثا ولو كان شيئا بعد شيء وأن دوام الحوادث لمخلوق معين قديم أزلي ممتنع وكذلك المفعول المعين المقارن لفاعله لم يزل معه ممتنع
مع أن الرسل قد أخبرت بأن الله تعالى خالق كل شيء وأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام فكيف عدلتم عن صحيح المنقول وصريح المعقول إلى ما يناقضه بل أثبتم قدم ما لا يدل دليل إلا على حدوثه لا على قدمه
ثم يقال لهؤلاء أيضا إذا كان الرب فاعلا بإراداته كما سلمتموه وكما دلت عليه الأدلة بل إذا كان فاعلا كما سلمتموه أنتم وإخوانكم القائلون بأنه قديم عن موجب قديم وموجبه فاعله فلا يعقل فاعل مفعوله مقارن له لم يتقدم عليه بزمان ابتداء بل تقدير هذا في العقل تقدير لا يعقل

وأنتم شنعتم على مخالفيكم لما أثبتوا حدوثا في غير زمان وقلتم هذا لا يعقل فيقال لكم ولا يعقل أيضا فعل في غير زمان أصلا ولا يعقل مفعول مقارن لفاعله لم يتقدم عليه بزمان أصلا
وما ذكرتموه من أن التقدم بالذات أمر معقول وهو تقدم العلة على المعلول أمر قدرتموه في الأذهان لا وجود له في الأعيان فلا يعقل في الخارج فاعل يقارنه مفعوله سواء سميتموه علة تامة أو لم تسموه وما تذكرونه من كون الشمس فاعله للشعاع وهو مقارن لها في الزمان مبني على مقدمتين على أن مجرد الشمس هي الفاعله وأنه مقارن لها بالزمان وكلتا المقدمتين باطلة فمعلوم أن الشعاع لا يكفي في حدوثه مجرد الشمس بل لا بد من حدوث جسم قابل له ولا بد مع ذلك من زوال الموانع
وأيضا فلا نسلم لكم أن الشعاع مقارن للشمس في الزمان بل قد يقال إنه متأخر عنها ولو بجزء يسير من الزمان وهكذا ما تمثلون به من قول القائل حركت يدي فتحرك المفتاح أوكمى مبنى على هاتين المقدمتين الباطلتين فمن الذي يسلم أن حركة اليد هي العلة التامة لحركة الكم والمفتاح بل الفاعل للحركتين واحد لكن تحريكه للثاني

مشروط بتحريكه الأول فالحركة الأولى شرط في الثانية لا فاعلة لها والشرط يجوز أن يقارن المشروط وإذا قدر أن أحدهما فاعل للآخر لم يسلم أنه مقارن له في الزمان بل يعقل تحريك الإنسان لما قرب منه قبل تحريكه لما بعد منه فتحريكه لشعر جلده متقدم على تحريكه لباطن ثيابه وتحريكه لباطن ثيابه متقدم على تحريكه لظاهرها وتحريكه لقدمه متقدم على تحريكه لنعله وتحريكه ليده متقدم على تحريكه لكمه
والمقارنة يراد بها شيئان أحدهما الاتصال كاتصال أجزاء الزمان وأجزاء الحركة الحادثة شيئا بعد شئ فكل واحد يكون متصلا بالآخر يقال إنه مقارن له لإتصاله به وإن كان عقبه يقال أيضا لما هو معه من غير تقدم في الزمان أصلا ومعلوم أن الأجسام المتصل بعضها ببعض إذا كان مبدأ الحركة من أحد طرفيها فإن الحركة تحصل فيها شيئا بعذ شئ فهي متصلة مقترنة بالاعتبار الأول ولا يقال إنها مقترنة في الزمان بالمعنى الثاني
ومبدأ ما يحركه الإنسان منه فإذا حرك يده تحرك الكم المتصل بها وتحرك ما اتصل بالكم لكن حركة اليد قبل حركة الكم مع اتصالها وهكذا سائر النظائر

والإنسان إذا حرك حبلا بسرعة فإنه تتصل الحركة بعضها ببعض مع العلم بأن الطرف الذي يلي يده تحرك قبل الطرف الآخر ولا يعقل قط فعل من الأفعال إلا حادثا شيئا بعد شئ لا يعقل فعل مقارن لفاعله في الزمان أصلا
وإذا قيل إن الفاعل لم يزل فاعلا كان المعقول منه أنه لم يزل يحدث شيئا بعد شئ لم يعقل منه أنه لم يزل مفعوله المعين مقارنا له لم يتقدم عليه بزمان أصلا
وأيضا فالرب تعالى إذا لم يحدث شيئا إلا بقدرته ومشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون سورة يس 82 فلا بد أن يريد الفعل قبل أن يفعله ولا بد أن يكون الفعل قبل المفعول وإن كانت لإرادة والفعل موجودين عند وجود المفعول كما يقول أهل السنة إن القدرة لا بد أن تكون مع الفعل
لكن إذا قيل لم يزل المفعول لازما للفاعل لم يكن فرق بين الصفة القائمة به وبين المفعول المخلوق له فلا يكون فرق بين حياته وبين مخلوقاته بل ولا بين الخالق والمخلوق
والعقلاء يعلمون الفرق بين ما يفعله الفاعل لا سيما ما يفعله

باختياره وبين ما هو صفة له من لوازم ذاته ويعلمون أن لون الإنسان وطوله وعرضه ليس مرادا له ولا مقدورا له ولا مفعولا له لأنه لازم له لا يدخل تحت قدرته ومشيئته وأما أفعاله الداخلة تحت قدرته ومشيئته فهي أفعال له مقدورة مرادة فإذا قدر أن هذه لازمة لذاته كاللون والقدر كان هذا غير معقول بل كان هذا مما يعلم به أن هذه ليست أفعال له ولا مفعولات بل صفات له
وأيضا فإذا كان العالم لم يخل من نوع الحوادث كما سلمتموه وكما يقوم عليه البرهان بل كما اتفق عليه جماهير العقلاء لم يمكن فعل العالم بدون الحوادث لامتناع وجود الملزوم بدون اللازم ولم يمكن أن يكون ملزوم الحوادث المصنوع المفعول قديما وكل جزء من أجزاء العالم يمتنع أن يخلو من الحوادث
وما يدعيه هؤلاء المتفلسفة من أن العقول خالية عن الحوادث من أبطل الكلام لو كان للعقول وجود في الخارج فكيف ولا حقيقة لها في الخارج وذلك أن معلول العقول عندهم وهي النفوس

الفلكية أو الأفلاك أو ما شئت من العالم مستلزم للحوادث فإن النفوس والأفلاك لا يمكن خلوها من الحوادث عندهم ولو خلت لم تكن نفوسا بل تكون عقولا
وحينئذ فإذا كان المعلول لم يخل عن الحوادث لزم أن تكون علته لم تخل من الحوادث وإلا لزم حدوث الحوادث في المعلول بلا علة وهو ممتنع فإنه لا بد للحوادث من سبب تحدث عنده فإن لم يكن في علة النفوس والأفلاك ما يقتضي ذلك بطل أن تكون علة لها لامتناع صدور الحوادث المختلفة عن علة بسيطة على حال واحدة
وهذا مما استدل به أئمتهم وغير أئمتهم القائلون بأن الرب تقوم به الأمور الاختيارية قالوا لأن المفعولات فيها من التنوع والحدوث ما يوجب أن يكون سبب ذلك عن الفاعل وإلا لزم حدوث الحوادث بلا محدث وإذا كان كل جزء من أجزاء العالم ملزوما للحوادث وهو مصنوع فإبداعه بدون الحوادث ممتنع وإحداث الحوادث شيئا بعد شيء مع قدم ذات محلها المعلول ممتنع لأن القديم الموجب

لذاته لا يوجها إلا مع الحوادث فلا يكون موجبا لها قط إلا مع فعل حادث يقوم به وإذا كان لا يفعل إلا بفعل حادث امتنع أن يكون المفعول قديما لأن قدم المفعول يقتضي قدم الفعل بالضرورة
وإذا قيل فعل الملزوم قديم وفعل الحوادث حادث شيئا بعد شيء لزم أن يقوم بذات الفاعل فعلان أحدهما فعل للذات القديمة وهو قديم بقدمها دائم بدوامها والآخر أفعال لحوادثها وهي حادثة شيئا بعد شيء فتكون ذات الفاعل فاعلة للملزوم بفعل وفاعلة للازم بفعل آخر أو أفعال وفعلها للملزوم يوجب فعلها للازم لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم وإرادتها للملزوم توجب إرادتها للازم لأن المريد للملزوم العالم بأن هذا يلزمه إن لم يرد اللازم لكان إما غير مريد لوجود الملزوم وإما غير عالم بالملزوم
والرب تعالى مريد للملزوم وعالم بالملزوم فيمتنع أن يريد الملزوم دون اللازم وهذا وإن كان لا بد منه فيما يريد إحداثه ويريد أن يحدث له حوادث متعاقبة كما يحدث الإنسان ويحدث له أحوالا متجددة شيئا بعد شيء ويحدث الأفلاك ويحدث حوادثها شيئا بعد شيء لكنه إذا فرض أن الملزوم غير محدث له لم يعقل كونه مفعولا له ولا يعقل أيضا كونه معلولا له قديما بقدمه فإن المعلول له صفات ومقادير

مختصة به والعلة المجردة عن الأحوال الاختيارية إنما تستلزم ما يكون من لوازمها وإنما يكون من لوازمها ما يناسبها مناسبة المعلول لعلته والمعلول فيه من الأقدار والأعداد والصفات المختلفة ما يمتنع وجود ما يشابه ذلك في علته فتمتنع المناسبة وإذا امتنعت المناسبة امتنع كونه علة له
وأيضا فإذا قدر أنها موجب أزلي للمعلول الأزلي كان إيجابها له إما بالذات مجردة عن أحوالها المتعاقبة وإما مع أحوالها والأول ممتنع فإن خلو الذات عن لوازمها ممتنع والثاني ممتنع لأن الذات المستلزمة لصفاتها وأحوالها لا تفعل إلا بصفاتها وأحوالها والأحوال المتعاقبة يمتنع أن يكون لها معلول معين قديم أزلي ويمتنع أن تكون شرطا في المعلول الأزلي لأن المعلول الأزلي لا بد أن يكون مجموع علة أزلية والأحوال المتعاقبة لا يكون مجموعها ولا شيء منها أزليا
وإنما الأزلي هو النوع القديم الذي يوجد شيئا فشيئا وهذا يمتنع أن يكون شرطا في الأزل
وهذا كما لو قيل إن الفلك المتحرك دائما يوجب ذاتا أزلية متحركة أو غير متحركة فإن هذا ممتنع عندهم وعند غيرهم فإن ما كان فعله مشروطا بالحركة يمتنع أن يكون مفعوله المعين قديما ولو قدر أن

المتحرك الأزلي يوجب متحركا أزليا لم يوجب إلا ما يناسبه وأما المتحركات المختلفة في قدرها وصفاتها وحركاتها فيمتنع صدورها عن متحرك حركة متشابهة
وأيضا فإن المفعول المخلوق مفتقر إلى الفاعل من جميع الوجوه ليس له شيء إلا من الفاعل والفاعل الخالق غني عنه من جميع الوجوه واقترانهما أزلا وأبدا يمنع كون أحدهما فاعلا غنيا والآخر مفعولا فقيرا بل يمنع كونه متولدا عنه ويوجب كونه صفة له فإن الولد وإن تولد عن والده بغير قدرته وإرادته واختياره ومشيئته فهو حادث عنه وأما كون المتولد عن الشيء ملازما للمتولد عنه مقارنا له في وجوده فهذا أيضا لا يعقل
ولهذا كان قول من قال من مشركي العرب إن الملائكة أولاد الله وإنهم بناته مع ما في قولهم من الكفر والجهل فقول هؤلاء أكفر منه من وجوه فإن اولئك يقولون إن الملائكة حادثة كائنة بعد أن لم تكن وكانوا يقولون إن الله خلق السماوات والأرض لم يكونوا يقولون بقدم العالم
وأما هؤلاء فيقولون إن العقول والنفوس التي يسمونها الملائكة

والسماوات قديمة بقدم الله لم يزل الله والدا لها فهم مع قولهم بأن الله ولدها يقولون لم تزل معه وهذا أمر لا يعقل لا في الولد ولا في الفعل فكان قولهم مخالفا لما تعرفه العقول من جميع الجهات وسر الأمر أنهم جمعوا بين النقيضين فأثبتوا فعلا وصنعا وإبداعا من غير إبداع ولا صنع ولا فعل
وقولهم في فعل الرب كقولهم في ذاته وصفاته فأثبتوا واجب الوجود ووصفوه بما يستلزم أن يكون ممتنع الوجود وأثبتوا صفاته وقالوا فيها ما يوجب نفي صفاته فهم دائما يجمعون في أقوالهم بين النقيضين وذلك أنهم في الأصل معطلة محضة ولكن أثبتوا ضربا من الإثبات وأرادوا أن يجمعوا بين الإثبات والتعطيل فلزمهم التناقض
ولهذا يمتنعون من أن يوصف بنفي أو إثبات فمنهم من يقول لا يقال هو موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت وقد يقولون لا يقال هو موجود ولا يقال ليس بموجود ولا يقال هو حي ولا يقال ليس بحي فيرفعون النقيضين جميعا أو يمتنعون من إثبات أحد النقيضين ورفع النقيضين ممتنع كما أن جمع النقيضين ممتنع والامتناع من إثبات أحد النقيضين هو الإمساك عن النفي والإثبات

والحق والباطل وذلك جهل وامتناع عن معرفة الحق والتكلم به
ومدار ذلك على أن الله لا يعرف ولا يذكر ولا يمجد ولا يعبد وهو من أنواع السفسطة فإن السفسطة منها ما هو نفي للحق ومنها ما هو نفي للعلم به ومنها ما هو تجاهل وامتناع عن إثباته ونفيه ويسمى أصحاب هذا القول اللاأدرية لقولهم لا ندري
كما قال فرعون وما رب العالمين سورة الشعراء 23 متجاهلا أنه لا يعرفه وأنه منكور لا يعرف فخاطبة موسى بما بين له أنه أعرف من أن ينكر وأعظم من أن يجحد فقال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين سورة الشعراء 24 26
وكذلك قالت الرسل لمن قال من قومهم إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم سورة إبراهيم 9 10 إلى أمثال ذلك وهذا المقام مبسوط في موضعه ولكن نبهنا عليه هنا لاتصال الكلام به
والمقصود هنا أنه إذا جوزنا حدوث الحوادث بلا سبب حادث امتنع القول بقدم العالم كما سنبين امتناع ذلك على القول بامتناع حدوث

الحوادث بلا سبب فيلزم القول بامتناع قدمه على التقديرين فيلزم امتناع القول بقدمه على تقدير النقيضين وهو المطلوب
وهذا التقدير الذي نريد أن نتكلم عليه وهو تقدير إمكان دوام الحوادث وتسلسلها وإمكان حوادث لا أول لها وعلى هذا القول فيمتنع حدوث حادث بلا سبب حادث بالضرورة واتفاق العقلاء فيما نعلم لأن ذلك ترجيح لأحد طرفي الممكن بلا مرجح تام مع إمكان المرجح التام وحدوث الحوادث بلا سبب حادث مع إمكان حدوث السبب الحادث دائما
وهذا لم يقله أحد من العقلاء فيما نعلم وهو باطل لأن ذلك يقتضي ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وذلك لأنه إذا كان نسبة الحادث المعين إلى جميع الأوقات نسبة واحدة ونسبتها إلى قدرة الفاعل القديم وإرادته في جميع الأحوال نسبة واحدة والفاعل على حال واحدة لم يزل عليها كان من المعلوم بالضرورة أن تخصيص وقت بدون وقت بالإحداث ترجيح لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح
وأيضا فإذا قيل إن هذا جائز ونحن نتكلم على تقدير جواز دوام الحوادث جاز أن يريد حادثا بعد حادث لا إلى أول لا يقتضى أن يريد حادثا بعينه في الأزل لأن وجود الحادث المعين في الأزل محال

بالضرورة واتفاق العقلاء فإن المحدث المعين لا يكون قديما إذ هذا جمع بين النقيضين وإنما النزاع في دوام نوع الحوادث لا في قدم حادث معين
وفي الجملة فإذا قيل بجواز دوام الحوادث وأن نوعها قديم لم يقل إن نوعها حادث بعد أن لم يكن فإن ما جاز قدمه امتنع عدمه
والمراد هنا الجواز الخارجي لا مجرد الجواز الذهني الذي هو عدم العلم بالامتناع فإن ذلك لا يدل على قدم شيء بخلاف الأول وهو العلم بإمكان قدمه لأنه إذا جاز قدمه لم يكن إلا لوجوبه بنفسه أو لصدوره عن واجب الوجود وعلى التقديرين فما كان واجبا بنفسه أو لازما للواجب بنفسه لزم كونه قديما وامتنع كونه معدوما لأن الواجب بنفسه يجب قدمه ويمتنع عدمه ويمتنع وجود الملزوم بدون اللازم فيجب قدم لوازمه ويمتنع عدمها
وإذا قيل بجواز دوام الحوادث جاز قدم نوعها وإنما يجوز قدمها ويمتنع عدم نوعها إذا كان له موجب أزلي وحينئذ فيجب قدم نوعها ويمتنع عدم نوعها فلا يجب أن يكون بعض العالم أزليا ثم إنه

يحدث فيه الحوادث مع القول بجواز دوامها بل يمتنع ذلك كما تقدم وهذه كلها مقدمات بينة لمن تدبرها وفهمها
فتبين أنه لو كان شيء من العالم أزليا قديما للزم أن يكون فاعله موجبا بالذات ولو كان فاعل العالم موجبا بالذات لم يحدث في العالم شيء من الحوادث والحوادث فيه مشهودة فامتنع أن يكون فاعل العالم موجبا بذاته فامتنع أن يكون العالم قديما كما قاله أولئك الدهرية بل ويمتنع أيضا أن يكون المعين الذي هو مفعول الفاعل أزليا لا سيما مع العلم بأنه فاعل باختياره فيمتنع أن يكون في العالم شيء أزلي على هذا التقدير الذي هو تقدير إمكان الحوادث ودوامها وامتناع صدور الحوادث بلا سبب حادث
وإذا قيل إن فاعل العالم قادر مختار كما هو مذهب المسلمين وسائر أهل الملل وأساطين الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو فإنه لا بد أن يكون الفاعل المبدع مريدا لمفعولاته حين فعله لها كما قال تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون سورة النحل 40
ولا يكفي وجود إرادة قديمة تتناول جميع المتجددات بدون تجدد إرادة ذلك الحادث المعين لأنه على هذا التقدير يلزم جواز حدوث الحوادث بلا سبب حادث

ونحن نتكلم على التقدير الآخر وهو امتناع حدوثها بدون سبب حادث وإذا كان على هذا التقدير لا بد من ثبوت الإرادة عند وجود المراد ولا بد من إرادة مقارنة للمراد مستلزمة له آمتنع أن يكون في الأزل إرادة يقارنها مرادها سواء كانت عامة لكل ما يصدر عنه أو كانت خاصة ببعض المفعولات فإن مرادها هو مفعول الرب وهذه الإرادة هي إرادة أن يفعل ومعلوم أن الشيء الذي يريد الفاعل أن يفعله لا يكون شيئا قديما أزليا لم يزل ولا يزال بل لا يكون إلا حادثا بعد أن لم يكن
وهذا معلوم بضرورة العقل عند عامة العقلاء وهو متفق عليه عند نظار الأمم المسلمين وغير المسلمين وجماهير الفلاسفة الأولين والآخرين حتى ارسطو وأتباعه ولم ينازع في ذلك إلا شرذمة قليلة من المتفلسفة جوز بعضهم أن يكون مفعولا ممكنا وهو قديم أزلي كابن سينا وأمثاله وجوز بعضهم مع ذلك أن يكون مرادا
وأما جماهير العقلاء فيقولون إن فساد كل من هذين القولين معلوم بضرورة العقل حتى المنتصرون لأرسطو وأتباعه كابن رشد الحفيد وغيره أنكروا كون الممكن يكون قديما أزليا على إخوانهم كابن سينا وبينوا أنهم خالفوا في هذا القول أرسطو وأتباعه وهو كما قال هؤلاء

وكلام ارسطو بين في ذلك في مقالة اللام التي هي آخر كلامه في علم ما بعد الطبيعة وغير ذلك
وأرسطو وقدماء أصحابه مع سائر العقلاء يقولون إن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا كائنا بعد أن لم يكن والمفعول لا يكون إلا محدثا وهم إذا قالوا بقدم الأفلاك لم يقولوا إنها ممكنة ولا مفعولة ولا مخلوقة بل يقولون إنها تتحرك للتشبه بالعلة الأولى فهي محتاجة إلى العلة الأولى التي يسميها ابن سينا وأمثاله واجب الوجود من جهة أنه لا بد في حركتها من التشبه به فهو لها من جنس العلة الغائية لا أنه علة فاعلة لها عند أرسطو وذويه
وهذا القول وإن كان من أعظم الأقوال كفرا وضلالا ومخالفة لما عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين ولهذا عدل متأخروا الفلاسفة عنه وأدعوا موجبا وموجبا كما زعمه ابن سينا وأمثاله

وأساطين الفلاسفة قبل أرسطو لم يكونوا يقولون بقدم العالم بل كانوا مقرين بأن الأفلاك محدثة كائنة بعد أن لم تكن مع نزاع منتشر لهم في المادة فالمقصود هنا أن هؤلاء مع ما فيهم من الضلال لم يرضوا لأنفسهم أن يجعلوا الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه قديما أزليا بل قالوا إنه لا يكون إلا محدثا ولا رضوا لأنفسهم أن يقولوا إن المفعول المصنوع المبدع قديم أزلي ولا أن المراد الذي أراد الباري فعله هو قديم أزلي فإن فساد هذه الأقوال ظاهر في بداية العقول وإنما ألجأ إليها من قالها من متأخريهم ما التزموه من الأقوال المتناقضة التي ألجأتهم إليها
كما أن كثيرا من أهل الكلام ألجأتهم أصول لهم فيها إلى أقوال يعلم فسادها بضرورة العقل مثل إرادة أو كلام لا في محل ومثل شيء واحد بالعين يكون حقائق متنوعة ومثل أمر سبق بعضه بعضا يكون قديم الأعيان لم يزل كل شيء منه قديما أزليا وأمثال ذلك
وما يذكره الرازي وأمثاله في هذه المسألة وغيرها من إجماع الحكماء كدعواه إجماعهم على علة الافتقار هي الإمكان وأن الممكن المعلول يكون قديما أزليا فهو إنما يذكر ما وجده في كتب ابن سينا ويظن أن هذا إجماع الفلاسفة

ولما كان كون المفعول لا يعقل إلا بعد العدم ظاهرا كان الفلاسفة يجعلون من جملة علل الفعل العدم ويجعلون العدم من جملة المبادىء وعندهم من جملة الأجناس العالية للأعراض أن يفعل وأن ينفعل ويعبرون عنهما بالفعل والانفعال
فإذا قيل إن البارىء فعل شيئا من العالم لزم أن يقوم به أن يفعل وهو الفعل فيقوم به الصفات التي سموها الأعراض ولزم أن الفعل لا يكون إلا بعد عدم لا يكون مع كون المفعول قديما أزليا وقالوا لما كان ما يسمونه الحركة أو التغير أو الفعل محتاجا إلى العدم والعدم ليس بمحتاج إليه كان العدم مبدءا له بهذا الاعتبار ومرادهم أنه شرط في ذلك فإنه لا يكون حركة ولا فعل ونحو ذلك مما قد يسمونه تغيرا واستكمالا إلا بوجود بعد عدم إما عدم ما كان موجودا وإما عدم مستمر كعدم المستكمل ما كان معدوما له ثم حصل فإذن هذا المتغير والمستكمل والمتحرك والمفعول محتاج إلى العدم والعدم غير محتاج إليه فصار العدم مبدءا له بهذا الاعتبار ولهذا كان الفعل والانفعال المعروف في العالم إنما هو ما يحدث من تأثير الفاعل وتأثير الفعل لا يعقل فعل ولا انفعال بدون حدوث شيء بعد عدم

ثم هؤلاء الشذوذ من المتأخرين الذين زعموا أن الفعل لا يشترط فيه تقدم العدم قد ذكروا لهم حججا ذكرها ابن سينا وغيره من متأخريهم واستقصاها الرازي في مباحثه المشرقية وذكر في ذلك ما سماه عشرة براهين وكلها باطلة
قال
الأول المحتاج إلى العدم السابق إما أن يكون هو وجود الفعل وإما أن يكون هو تأثير الفاعل فيه ومحال أن يكون المفتقر إلى العدم السابق هو وجود الفعل لأن الفعل لو افتقر في وجوده إلى العدم لكان ذلك العدم مقارنا له والعدم المقارن مناف لذلك الوجود ومحال أن يكون المفتقر إليه تأثير الفاعل لأن تأثير الفاعل يجب أن يكون مقارنا للأثر ووجود الأثر ينافي عدمه والمنافي لما يجب أن يكون مقارنا يجب أن يكون منافيا والمنافي لا يكون شرطا فإذن لا الفعل

في كونه موجودا ولا حاصلا ولا الفاعل في كونه مؤثرا يفتقر إلى العدم المنافى
فيقال في الجواب إنه ليس المراد بكون المفعول أو فعل الفاعل مفتقرا إلى العدم أن العدم مؤثر فيه حتى يجب أن يكون مقارنا له بل المراد أنه لا يكون إلا بعد العدم كما قالوا هم إن العدم من جملة المبادىء سواء جعلوه مبدءا لمطلق الفعل أو الحركة أو الحركة والتغير والاستكمال فالمقصود أنهم جعلوا ذلك مفتقرا إلى العدم بمعنى أنه لا يكون إلا بعد عدم شيء لا بمعنى أن العدم مقارن له
ومعلوم أنه إذا قيل إن الحركة لا تكون إلا شيئا بعد شيء أو الصوت كان الحادث من ذلك موقوفا على وجود ما قبله وإن لم يكن مقارنا له
وأيضا فالشيء المعدوم إذا عدم بعد وجوده كان هذا العدم الحادث مفتقرا إلى ذلك الوجود السابق ولم يكن مقارنا له
وأيضا فهذا الذي قاله يلزمه في كل ما يحدث فإن كل ما يحدث فإنما يحدث بعد عدمه فحدوثه متوقف على عدمه السابق لوجوده مع أن ذلك العدم ليس مقارنا له فإن طردوا حجتهم لزمهم

أن لا يحدث حادث وهذه مكابرة وهذا شأنهم في عامة حججهم التي يذكرونها في قدم العالم فإن مقتضاها أن لا يحدث شيء وحدوث الحوادث في العالم مشهود فكانت حججهم مما يعلم أنها من جنس شبه السوفسطائية
وهذا كحجتهم العظمى التي يحتجون بها على أنه مؤثر تام في الأزل وأن المؤثر التام يستلزم أثره فإن مقتضاها أن لا يحدث شيء وهم ضلوا حيث لم يفرقوا بين مطلق المؤثر وبين المؤثر في كل ممكن
فإذا قالوا كونه مؤثرا إما أن يكون لذاته المخصوصة أو لأمر لازم لها أو لأمر منفصل عنها والثالث ممتنع لأن ذلك المنفصل هو من جملة آثاره فيمتنع أن يكون مؤثرا فيه لامتناع الدور في العلل وعلى الأول والثاني يلزم دوام كونه مؤثرا
قيل لهم كونه مؤثرا يراد به أنه مؤثر في وجود كل ما صدر عنه ويراد به أنه مؤثر في شيء معين من العالم ويراد به أنه مؤثر في الجملة مثل أن يكون مؤثرا في شيء بعد شيء

والأول والثاني ممتنعان في الأزل لا سيما الأول فإنه لا يقوله عاقل والحجة لا تدل على تأثيره في كل شيء في الأزل ولا في شيء معين في الأزل
وأما الثالث فيناقض قولهم لا يوافقه بل يقتضي حدوث كل ما سواه فإذا كان تأثيره من لوازم ذاته والحوادث مشهودة بل التأثير لا يعقل إلا مع الإحداث كان الإحداث الثاني مشروطا بسبق الأول وبأنقصائه أيضا وذلك من لوازم ذاته شيئا بعد شيء
فلا يكون في الحجة ما يدل على قولهم ولا على ما يناقض ما أخبرت به الرسل وإن دل على بطلان قول طائفة من أهل الكلام المحدث في دين الإسلام من الجهمية والقدرية ومن اتبعهم
وكذلك ما يحتجون به على بطلان الإحداث والتأثير ونحو ذلك من الشبه المقتضية نفي التأثير ونفي ترجيح وجود الممكن على عدمه ونفي كونه فاعلا لحكمة أو لا لحكمة وغير ذلك مما يذكر في هذا الباب فإن جميعها تقتضي أن لا يحدث في العالم حادث وهذا خلاف المشاهدة وكل حجة تقتضي خلاف المشهود فهي من جنس حجج السفسطة
وهو كلهم متفقون على أن العدم من جملة العلل وهو مأخوذ عن

أرسطو قال أرسطو في مقالة اللام التي هي منتهى فلسفته وهي علم ما بعد الطبيعة
وأما على طريق المناسبة فأخلق بنا إن نحن اتبعنا ما وصفنا ان نبين أن مبادىء جميع الأشياء الموجودة الثلاثة العنصر والصورة والعدم مثال ذلك في الجوهر المحسوس أن الحر نظير الصورة والبرد نظير العدم والعنصر هو الذي له هذان بالقوة وفي باب الكيف يكون البياض نظير الصورة والسواد نظير العدم والشيء الموضوع لهما هو السطح في قياس العنصر ويكون الضوء نظير الصورة والظلمة نظير العدم والجسم القابل للضوء هو الموضوع لهما فليس يمكن على الإطلاق أن تجد عناصر هي بأعيانها عناصر لجميع الأشياء وأما على طريق المناسبة والمقايسة فأخلق بها أن توجد
قال وليس طلبنا الآن طلب عنصر الأشياء الموجودة لكن قصدنا إنما هو طلب مبدئها وكلاهما سبب لها إلا أن المبدأ قد يجوز أن يوجد خارجا عن الشيء مثل السبب المحرك وأما العناصر فلا يجوز أن تكون إلا في الأشياء التي هي منها وما كان عنصرا فليس مانع يمنع من أن يقال له مبدأ وما كان مبدءا فليس له عنصر لا محالة
وذلك أن المبدأ المحرك قد يجوز أن يكون خارجا عن المحرك ولكن المحرك القريب من الأشياء الطبيعية هو مثل الصورة وذلك أن

الإنسان إنما يلده إنسان وأما في الأشياء الوهمية فالصورة أو العدم مثال ذلك الطب والجهل به والبناء والجهل به وفي كثير من الأمور يكون السبب المحرك هو الصورة من ذلك أن الطب من وجه ما هو الصحة لأنها المحركة وصورة البيت من وجه ما هي البناء والإنسان إنما يلده إنسان
وليس قصدنا لطلب المحرك القريب لكن قصدنا للمحرك الأول الذي منه يتحرك جميع الأشياء فالأمر فيه بين أنه جوهر وذلك أنه مبدأ الجواهر ولا يجوز أن يكون مبدأ الجواهر إلا جوهرا وهو مبدأ الجواهر ومبدأ جميع الأشياء الموجودة ولم يكن التهيب من التصريح بهذا فيما تقدم صوابا فإن سائر الأشياء إنما هي أحداث وحالات للجوهر وحركات له وينبغي أن نبحث عن هذا الجوهر الذي يحرك الجسم كله ما هو هل يجب أن نضع أنه نفس أو أنه عقل أو أنه غيرهما بعد أن نحذر ونتوقى أن نحكم على المبدأ الأول بشيء من الأعراض التي تلزم الأواخر من الأشياء الموجودة ولكنه قد يوجد في أواخر الأشياء الموجودة ما هو بالقوة وأن يكون الشيء في الأوقات المختلفة على حالات مختلفة وأن لا يكون دائما على حال واحدة والأشياء التي تقبل الكون والفساد هي التي توجد بهذه الحال فإنك تجد الشيء فيها بعينه مرة بالقوة ومرة بالفعل

مثال ذلك أن الخمر توجد بالفعل بعد أن تغلى وتسكر وقد تكون موجودة بالقوة في وقت آخر إذا كانت الرطوبة التي فيها تتولد إنما هي في نفس الكرم واللحم وربما كان بالفعل وربما كان بالقوة في العناصر التي عنها تتولد وإذا قلنا بالقوة أو بالفعل فليس نعني شيئا غير الصورة والعنصر ونعني بالصورة التي يمكن أن تنفرد من المركب من الصورة والعنصر فأما المنفرد فمثل الضوء والظلمة إذ كان يمكن فيها أن تنفرد عن الهواء والمركب منهما فمثل البدن الصحيح والبدن السقيم وأعني بالعنصر الشيء الذي يمكن فيه أن يحتمل الحالتين كلتيهما مثل البدن فربما كان صحيحا وربما كان سقيما
فهذا الشيء الذي بالفعل والذي بالقوة قد يختلف لا في العناصر الموجودة في الأشياء المركبة منهما أعني من الصورة والعنصر لكن في الأشياء الخارجة عن الأشياء المركبة أيضا التي لم يكن عنصرها عنصر الأشياء التي تكون عنها ولا صورتها لكن غيرها
فينبغي أن يكون هذا الأمر قائما في وهمك إذا قصدت البحث عن السبب الأول أن بعض العلل المحركة موافقة في الصورة للشيء المتحرك قريبة منه وبعضها أبعد منه أما العلة القريبة فمثل الأب

وأما الشمس فهي علة أبعد وأبعد من الشمس الفلك المائل وهذه الأشياء ليست عللا على طريق عنصر الشيء الحادث أو على طريق صورة ولا على طريق عدم لكنها إنما هي محركة وهي محركة لا على أنها موافقة في الصورة قريبة مثل الأب لكنها أبعد وأقوى فعلا إذا كانت هي ابتداء العلل القريبة أيضا وذكر كلاما آخر ليس هذا موضع بسطه
ثم ذكر الرازي
البرهان الثاني وهو أن الفعل ممكن الوجود في الأزل لثلاثة أوجه
أحدها أنه لو لم يكن كذلك لكان ممتنعا ثم صار ممكنا ولكان الممتنع لذاته قد انقلب ممكنا لذاته وهذا يرفع الأمان عن القضايا العقلية

وثانيهما أنه ممكن فيما لا يزال فإن كان إمكانه لذاته أو لعلة دائمة لزم دوام الإمكان وإن كان لعلة حادثة كان باطلا لأن الكلام في إمكان حدوث تلك العلة كالكلام في إمكان حدوث غيرها فيلزم دوام إمكان الفعل
وثالثها أن امتناع الفعل إن كان لذاته أو لسبب واجب لذاته لزم دوام الامتناع وهو باطل بالحس والضرورة وإجماع العقلاء لوجود الممكنات وإن كان لسبب غير واجب امتنع كونه قديما فإن ما وجب قدمه امتنع عدمه ثم الكلام فيه كالكلام في الأول فكونه ممتنعا في الأزل لعلة حادثة ظاهر البطلان فإن القديم لا يكون لعلة حادثة
قال فثبت أنه لا يمكن دعوى امتناع حصول الممكنات في الأزل ولا يمكن أن يقال المؤثر ما كان يمكن أن يؤثر فيه ثم صار يمكن فإن القول في امتناع التأثير وإمكانه كالقول في امتناع وجود الأثر وإمكانه
قال فثبت أن استناد الممكنات إلى المؤثر لا يقتضي تقدم العدم عليها

قال وعلى هذه الطريقة إشكال لأنا نقول الحادث إذا اعتبرناه من حيث كونه مسبوقا بالعدم فهو مع هذا الشرط لا يمكن أن يقال بأن إمكانه يتخصص بوقت دون وقت لما ذكرتموه من الأدلة فإذن إمكانه ثابت دائما ثم لا يلزم من دوام إمكانه خروجه عن الحدوث لأنا لما أخذناه من حيث كونه مسبوقا بالعدم كانت مسبوقيته بالعدم جزءا ذاتيا له والجزء الذاتي لا يرفع وإذا لم يلزم من إمكان حدوث الحادث من حيث إنه حادث خروجه عن كونه حادثا فقد بطلت هذه الحجة
قال فهذا شك لا بد من حله
قلت فيقال هذا الشك هو المعارضة التي اعتمد عليها في كتبه الكلامية كالأربعين وغيره وعليها اعتمد الآمدي في دقائق الحقائق وغيره وهي باطلة لوجهين أحدهما أنه ليس فيها جواب عن حجتهم بل هي معارضة محضة الثاني أن يقال قوله الحادث

إذا اعتبر من حيث هو حادث أتعني به إذا قدر أن الحوادث كلها لها أول فإذا اعتبر مع ذلك إمكانها فلا أول له أم تعني به أن كل حادث تعتبره إذا اعتبر إمكانه
فإن عنيت الأول قيل لك لا نسلم إمكان هذا التقدير فإنك قدمت أنه لا بد لكل حادث من أول وجملة الحوادث مسبوقة بالعدم وأن لا يكون الفاعل أحدث شيئا ثم أحدث وقدرت مع ذلك أن إحداثه لم يزل ممكنا ونحن لا نسلم إمكان الجمع بين هذين فأنت إنما منعت دوام كونه محدثا في الأزل لامتناع حوادث لا أول لها ومع امتناع ذلك يستحيل أن يكون الإحداث لم يزل ممكنا فقد قدرت إمكان دوام الحدوث مع امتناع دوامه وهذا تقدير لاجتماع النقيضين
وأما إن عنيت بما تقدره حدوث حادث معين فلا نسلم أن إمكانه أزلي بل حدوث كل حادث معين جاز أن يكون مشروطا بشروط تنافي أزليته وهذا هو الواقع كما يعلم ذلك في كثير من الحوادث فإن حدوث ما هو مخلوق من مادة يمتنع قبل وجود المادة ولكن الجواب عن هذه الحجة أنها لا تقتضي إمكان قدم شيء بعينه كما قد بسط في موضع آخر فلا يلزم من ذلك إمكان قدم شيء بعينه من الممكنات وهو المطلوب

قال الرازي
البرهان الثالث الحوادث إذا وجدت واستمرت فهي في حال استمرارها محتاجة إلى المؤثر لأنها ممكنة في حال بقائها كما كانت ممكنة في حال حدوثها والممكن يفتقر إلى المؤثر
فيقال هذه الحجة إنما تدل على أن الممكنات المحدثة تحتاج حال بقائها إلى المؤثر ونحن نسلم هذا كما سلمه جمهور النظار من المسلمين وغيرهم وإنما نازع في ذلك طائفة من متكلمي المعتزلة وغيرهم لكن هذا لا يدل على أن الممكن أن يوجد وأن يعدم يمكن مقارنته للفاعل أزلا وأبدا إلا إذا بين إمكان كونه أزليا أبديا مع إمكان وجوده وعدمه وهذا محل النزاع كيف وجمهور العقلاء يقولون لا يعقل ما يمكن أن يوجد وأن لا يوجد إلا ما يكون حادثا وأما القديم الأزلي الواجب بنفسه أو بغيره فلا يعقل فيه أن يمكن أن يوجد وأن لا يوجد فإن عدمه ممتنع
وإذا قيل هو باعتبار ذاته يقبل الأمرين
قيل عن هذا جوابان
أحدهما أنه مبني على أن له حقيقة في الخارج غير وجوده الثابت في الخارج وهذا باطل

الثاني أنه لو قدر أن الأمر كذلك فمع وجوب موجبه الأزلي يكون واجبا أزلا وأبدا فيمتنع العدم كما يقوله أهل السنة في صفات الرب تعالى وهذا لا يعقل فيه أنه يمكن وجوده وعدمه ولا أن له فاعلا يفعله كما أنه لا يعقل مثل ذلك في الصفات اللازمة للقديم تعالى
قال الرازي
البرهان الرابع أن افتقار الأثر إلى المؤثر إما لأنه موجود في الحال أو لأنه كان معدوما أو لأنه سبقه عدم ومحال أن يكون العدم السابق هو المقتضى فإن العدم نفي محض فلا حاجة له إلى المؤثر أصلا ومحال أن يكون هو كونه مسبوقا بالعدم لأن كون الوجود مسبوقا بالعدم كيفية تعرض للوجود بعد حصوله على طريق الوجوب لأن وقوعه على نعت المسبوقية بالعدم كيفية لازمة بعد وقوعه فإنه يستحيل أن يقع إلا كذلك والواجب غني عن المؤثر فإذن المفتقر هو الوجود والوجود عارض للماهية فلا يعتبر في افتقاره إلى الفاعل تقدم العدم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"