بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 1 أبريل 2010

نبذ من كتاب منهاج السنة النبوية/10

وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده وكان مولده عند أكثر الناس إما بالعراق أو بحران كما في التوراة ولهذا ناظرهم في عبادة الكواكب والأصنام وحكى الله عنه أنه لما رأى كوكبا قال هذا ربي إلى قوله لاأحب الآفلين إلى قوله فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين سورة الأنعام 76 79 الآيات
وقد ظن طائفة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أن مراده بقوله هذا ربي أن هذا خالق العالم وأنه استدل بالأفول وهو الحركة والإنتقال على عدم ربوبيته وزعموا أن هذه الحجة هي الدالة على حدوث الأجسام وحدوث العالم

وهذا غلط من وجوه
أحدها أن هذا القول لم يقله أحد من العقلاء لا قوم إبراهيم ولا غيرهم ولا توهم أحدهم أن كوكبا أو القمر أو الشمس خلق هذا العالم وإنما كان قوم إبراهيم مشتركين يعبدون هذه الكواكب زاعمين أن في ذلك جلب منفعة أو دفع مضرة على طريقة الكلدانيين والكشدانيين وغيرهم من المشركين أهل الهند وغيرهم وعلى طريقة هؤلاء صنف الكتاب الذي صنفه أبو عبدالله بن الخطيب الرازي في السحر والطلسمات ودعوة الكواكب وهذا دين المشركين من

الهند والخطأ والنبط والكلدانيين والكشدانيين وغير هؤلاء
ولهذا قال الخليل يا قوم إني برئ مما تشركون سورة الأنعام 77 وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين سورة الشعراء 75 77 وأمثال ذلك
وأيضا فالأفول في لغة العرب هو المغيب والإحتجاب ليس هو الحركة والإنتقال

وأيضا فلو كان احتجاجه بالحركة والإنتقال لم ينتظر إلى أن يغيب بل كان نفس الحركة التي يشاهدها من حين تطلع إلى أن تغيب هي الأفول
وأيضا فحركتها بعد المغيب والإحتجاب غير مشهودة ولا معلومة
وأيضا فلو كان قوله هذا ربي أي هذا رب العالمين لكانت قصة إبراهيم عليه السلام حجة عليهم لأنه حينئذ لم تكن الحركة عنده مانعة من كونه رب العالمين وإنما المانع هو الأفول
ولما حرف هؤلاء لفظ الأفول سلك ابن سينا هذا المسلك

في إشاراته فجعل الأفول هو الإمكان وجعل كل ممكن آفلا وأن الأفول هوى في حظيرة الإمكان وهذا يستلزم أن يكون ما سوى الله آفلا
ومعلوم أن هذا من أعظم الإفتراء على اللغة والقرآن ومن أعظم القرمطة ولو كان كل ممكن آفلا لم يصح قوله فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فإن قوله فلما أفل يقتضى حدوث الأفول له وعلى قول هؤلاء المفترين على اللغة والقرآن الأفول لازم له لم يزل ولا يزال آفلا ولو كان مراد إبراهيم بالأفول الإمكان والإمكان حاصل في الشمس والقمر والكوكب في كل وقت لم يكن به حاجة إلى أن ينتظر أفولها
وأيضا فجعل القديم الأزلي الواجب بغيره أزلا وأبدا ممكنا قول انفرد به ابن سينا ومن تابعه وهو قول مخالف لجمهور العقلاء من سلفهم وخلفهم

والمقصود هنا أنه لما ظهرت الجهمية نفاة الصفات تكلم الناس في الجسم وفي إدخال لفظ الجسم في أصول الدين وفي التوحيد وكان هذا من الكلام المذموم عند السلف والأئمة فصار الناس في لفظ الجسم على ثلاثة أقوال
طائفة تقول إنه جسم وطائفة تقول ليس بجسم وطائفة تمتنع عن إطلاق القول بهذا وهذا لكونه بدعة في الشرع أو لكونه في العقل يتناول حقا وباطلا فمنهم من يكف عن التكلم في ذلك ومنهم من يستفصل المتكلم فإن ذكر في النفي أو الإثبات معنى صحيحا قبله وعبر عنه بعبارة شرعية لا يعبر عنها بعبارة مكروهة في الشرع وإن ذكر معنى باطلا رده
وذلك أن لفظ الجسم فيه اشتراك بين معناه في اللغة ومعانيه المصطلح عليها وفي المعنى منازعات عقلية فيطلقه كل قوم بحسب اصطلاحهم وحسب اعتقادهم فإن الجسم عند أهل اللغة هو البدن أو البدن ونحوه مما هو غليظ كثيف هكذا نقله غير واحد من أهل اللغة
ومنه قوله تعالى وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم سورة المنافقون 4 وقوله تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم سورة البقرة 247
ثم قد يعنى به نفس الشيء الغليظ الكثيف وقد يعنى به نفس غلظه وكثافته

وعلى هذا فالزيادة في الجسم الذي هو الطول والعرض وهو القدر وعلى الأول فالزيادة في نفس المقدر الموصوف
وقد يقال هذا الثوب له جسم أي غلظ وثخن ولا يسمى الهواء جسما ولا النفس الخارج من فم الإنسان ونحو ذلك عندهم جسما
وأما أهل الكلام والفلسفة فالجسم عندهم أعم من ذلك كما أن لفظ الجوهر في اللغة أخص من معناه في اصطلاحهم فإنهم يعنون بالجوهر ما قام بنفسه أو المتحيز أو ما إذا وجد كان وجوده لا في موضع أي لا في محل يستغنى عنه والجوهر في اللغة الجوهر المعروف
ثم قد يعبرون عن الجسم بأنه ما يشار إليه أو ما يقبل الإشارة الحسية بأنه هنا أو هناك وقد يعبرون عنه بما قبل الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق أو بما كان فيه الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق
ولفظ البعد الطول والعرض والعمق في اصطلاحهم أعم من

معناه في اللغة فإن أهل اللغة يقسمون الأعيان إلى طويل وقصير والمسافة والزمان إلى قريب وبعيد والمنخفض من الأرض إلى عميق وغير عميق
وهؤلاء عندهم كل ما يراه الإنسان من الأعيان فهو طويل عريض عميق حتى الحبة بل الذرة وما هو أصغر من ذرة هو في اصطلاحهم طويل عريض عميق
وقد يعبرون عن الجسم بالمركب أو المؤلف ومعنى ذلك عندهم أعم من معناه في اللغة فإن المركب والمؤلف في اللغة ما ركبه مركب أو ألفه مؤلف كالأدوية المركبة من المعاجين والأشربة ونحو ذلك وبالمركب ماركب على غيره أو فيه كالباب المركب في موضعه ونحوه
ومنه قوله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك سورة الإنفطار 8 وبالتأليف التوفيق بين القلوب ونحو ذلك ومنه قوله تعالى والمؤلفة

قلوبهم سورة التوبة 60 وقوله وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم سورة الأنفال 63 وقوله إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا سورة آل عمران 103
وللناس اصطلاحات في المؤلف والمركب كما للنحاة اصطلاح فقد يعنون بذلك الجملة التامة وقد يعنون به ما ركب تركيب مزج كبعلبك وقد يعنون به المضاف وما يشبهه وهو ما ينصب في النداء
وللمنطقيين ونحوهم من أهل الكلام اصطلاحات أخر يعنون به ما دل جزؤه على جزء معناه فيدخل في ذلك المضاف إذا قصد به الإضافة دون العلمية فلا يدخل فيه بعلبك ونحوه
ومنهم من يسوى بين المؤلف والمركب ومنهم من يفرق بينهما وهذا كله تأليف في الأقوال
وأما التأليف في الأعيان فأولئك إذا قالوا إن الجسم هو المؤلف والمركب لم يعنوا به ما كان مفترقا فاجتمع ولا ما يقبل التفريق بل يعنون به ما تميز منه جانب عن جانب كالشمس والقمر وغيرهما من الأجسام
وأما المتفلسفة فالمؤلف والمركب عندهم أعم من هذا يدخلون

وفي ذلك تأليفا عقليا لا يوجد في الأعيان ويدعون أن النوع مؤلف من الجنس والفصل فإذا قلت الإنسان حيوان ناطق قالوا الإنسان مؤلف من هذين وإنما هو موصوف بهما
ثم تنازع هؤلاء في الجسم هل هو مركب من أجزاء لا تقبل القسمة وهي الجوهر الفرد عندهم وهو شيء لم يدركه أحد بحسه وما من شيء نفرضه إلا وهو أصغر منه عند القائلين به أو مركب من المادة والصورة تركيبا عقليا
وإذا حقق الأمر عليهم في المادة لم يوجد إلا نفس الجسم وأعراضه تارة يعنى بالمادة الجسم الذي هو جوهر والصورة شكله واتصاله القائم به وتارة يعنى بالصورة نفس الجسم الذي هو الجوهر وبالمادة القدر المطلق الذي يعم الأجسام كلها أو يعنى بها ما منه خلق الجسم
وقد يعنى بالصورة العرضية التي هي الإتصال والشكل القائم به فالجسم هو المتصل والصورة هي الإتصال فالصورة هنا عرض والمادة الجسم كالصورة الصناعية كشكل السرير فإنه صورته والخشب مادته

ولفظ المادة والهيولي يعنى به عندهم هذه الصورة الصناعية وهي عرض يحدث بفعل الآدميين ويعنى به الصورة الطبيعية وهي نفس الأجسام وهي جواهر ومادة وما منها خلقت
وقد يعنى بالمادة المادة الكلية وهي ما تشترك فيه الأجسام من القدر ونحوه
وهذه كليات حاصلة في الأذهان وهي في الخارج معينة إما أعراض وإما جواهر
وقد يعنى بالمادة المادة الأزلية وهي المجردة عن الصورة وهذه يثبتها أفلاطن وسائر العقلاء أنكروها وفي الحقيقة هي ثابتة في الذهن لا في الخارج والأجسام مشتركة في كون كل واحد منها له قدر يخصه فهي مشتركة في نوع المقدار لا في عينه فصارت الأجسام مشتركة في المقدار فقالوا بينها مادة مشتركة وهيولي مشتركة ولم يهتدوا إلى الفرق بين الإشتراك في الكلي المطلق والإشتراك في الشيء المعين فاشتراك الأجسام في الجسمية والإمتداد والمقدار الذي يظن أنه المادة ونحو ذلك كاشتراك الناس في الإنسانية واشتراك الحيوانات في الحيوانية

وهؤلاء ظنوا أن هذه الكليات موجودة في الخارج مشتركة وذلك غلط فإن ما في الخارج ليس فيه اشتراك بل لكل موجود شيء يخصه لا يشركه فيه غيره والإشتراك يقع في الأمور العامة الكلية المطلقة وتلك لا تكون عامة مطلقة كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان فما فيه الإشتراك ليس فيه إلا العلم والعقل وما به الإختصاص والإمتياز وهو الموجود في الخارج لا اشتراك فيه وإنما فيه اشتباه وتماثل يسمى اشتراكا كالاشتراك في المعنى العام والإنقسام بحسب الإشتراك فمن لم يفرق بين قسمة الكلى إلى جزئياته والكل إلى أجزاء كقسمة الكلمة إلى اسم وفعل وحرف وإلا غلط كما غلط كثير من الناس في هذا الموضع
ولما قالت طائفة من النحاة كالزجاجي وابن جنى الكلام ينقسم

إلى اسم وفعل وحرف أو الكلام كله ثلاثة اسم وفعل وحرف اعترض على ذلك من لم يعرف مقصودهم ولم يجعل القسمة نوعين كالجزولي حيث قال كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاصه أو نوع قسم إلى أشخاصه فاسم المقسوم صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقساما له
وكلام أبي البقاء في تفسير ابن جنى أقرب حيث قال معناه أجزاء الكلام ونحو ذلك

ومن المعلوم أن قسمة كل الشيء الموجود في الخارج إلى أبعاضه وأجزائه أشهر من قسمة المعنى العام الذي في الذهن إلى أنواعه وأشخاصه كقوله تعالى ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر سورة القمر 28 وقوله وإذا حضر القسمة أولو القربى سورة النساء 8 وقوله E والله إنى ما أعطى أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أقسم بينكم وقوله لا تعضية في الميراث إلا ما حمل القسم وقول الصحابة رضوان الله

عليهم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض خيبر بين من حضر الحديبية وقسم غنائم حنين بالجعرانة مرجعه من الطائف وقسم ميراث سعد بن الربيع
وقول الفقهاء باب قسم الغنائم والفئ والصدقات وقسمة الميراث وباب القسمة وذكر المشاع والمقسوم وقسمه الإجبار والتراضي ونحو ذلك
وقول الحاسب الضرب والقسمة إنما يراد به قسمة الأعيان الموجودة في الخارج فيأخذ أحد الشريكين قسما والآخر قسما وليس كل اسم

من أسماء المقسوم يجب أن يصدق على كل منهما منفردا فإذا قسم بينهم جزور فأخذ هذا فخذا وهذا رأسا وهذا ظهرا لم يكن اسم الجزور صادقا على هذه الأبعاض وكذلك لو قسم بينهم شجرة فأخذ هذا نصف ساقها وهذا نصفا وهذا أغصانها لم يكن اسم المقسوم صادقا على الأبعاض ولو قسم بينهم سهم كما كان الصحابة يقسمون فيأخذ هذا القدح وهذا النصل لم يكن هذا سهما ولا هذا سهما
فإذا كان اسم المقسوم لا يقع إلا حال الإجتماع زال بالإنقسام وإن كان يقال حال الإجتماع والإفتراق كانقسام الماء والتمر ونحو ذلك صدق فيهما وعلى التقديرين فالمقسوم هنا موجودات في الخارج
وإذا قلنا الحيوان ينقسم إلى ناطق وبهيم لم نشر إلى حيوان معين موجود في الخارج فنقسمه قسمين بل هذا اللفظ والمعنى يدخل فيه ما كان وما لم يكن بعد ويتناول جزئيات لم تخطر بالذهن فهذه المعاني الكلية لا توجد في الخارج كلية
فإذا قيل الأجسام تشترك في مسمى الجسم أو في المقدار المعين أو غير ذلك كان هذا المشترك معنى كليا والمقدار المعين

لهذا الجسم ليس هو المقدار المعين لهذا الجسم المعين وإن كان مساويا له وأما إن كان أكبر منه فهنا اشتركا في نوع القدر لا في هذا القدر فالإشتراك الذي بين الأجسام هو في هذه الأمور
وأما ثبوت شيء موجود في الخارج هو في هذا الإنسان وهو بعينه في هذا الإنسان فهو مكابرة سواء في ذلك المادة والحقائق الكلية ولكن هؤلاء ظنوا ما في الأذهان ثابتا في الأعيان والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن هذا الباب التأليف والتركيب في اصطلاح هؤلاء المتفلسفة من المتكلمين والمنطقيين ومن وافقهم هو نوع آخر غير تلك الأنواع والمركب لا بد له من مفرد وإذا حقق الأمر على هؤلاء لم يوجد عندهم معنى مفرد يتركب منه هذه المؤلفات وإنما يوجد ذلك في الأذهان لا في الأعيان فالبسيط المفرد الذي يقدرونه كالحيوانية المطلقة والجسمية المطلقة وأمثال ذلك لا يوجد في الخارج إلا صفات معينة لموصوفات معينة فهذه الأمور مما تدخل في لفظ المؤلف والمركب بحسب الإصطلاحات الوضعية مع ما فيها من الإعتبارات العقلية

وهم متنازعون في الجسم هل هو مؤلف من الجواهر المفردة التي لا تقبل الإنقسام كما يقوله كثير من أهل الكلام أو مؤلف من المادة والصورة كما يقوله كثير من المتفلسفة أولا مؤلف لا من هذا ولا من هذا كما يقوله كثير من الطوائف على ثلاثة أقوال أصحها الثالث
وكل من أصحاب الأقوال الثلاثة متنازعون هل يقبل القسمة إلى غير نهاية والصحيح أنه لا يقبل الإنقسام إلى غير نهاية لكن مثبتة الجوهر الفرد يقولون ينتهي إلى حد لا يقبل القسمة مع وجوده وليس كذلك بل إذا تصغرت الأجزاء استحالت كما في أجزاء الماء إذا تصغرت فإنها تستحيل فتصير هواء فما دامت موجودة فإنه يتميز منها جانب عن جانب فلا يوجد شيء لا يتميز بعضه عن بعض كما يقوله مثبتة الجوهر الفرد ولا يمكن انقسامه إلى مالا يتناهى بل إذا صغرلم يقبل القسمة الموجودة في الخارج وإن كان بعضه غير البعض الآخر بل إذا تصرف فيه بقسمة أو نحوها استحال فالأجزاء الصغيرة ولو عظم صغرها يتميز منها شيء عن شيء في نفسه وفي الحس والعقل لكي لا يمكن فصل بعضه عن بعض بالتفريق بل يفسد ويستحيل لضعف قوامه عن احتمال ذلك وبسط هذا له موضع آخر

ثم القائلون بأن الجسم مركب من جواهر منفردة تنازعوا هل هو جوهر واحد بشرط انضمام مثله إليه أو جوهران فصاعدا أو أربعة أو ستة أو ثمانية أو ستة عشر أو أثنان وثلاثون على أقوال معروفة لهم
ففي لفظ الجسم والجوهر والمتحيز من الإصطلاحات والآراء المختلفة ما فيه فلهذا وغيره لم يسغ إطلاق إثباته ولا نفيه
بل إذا قال القائل
إن الباري تعالى جسم
قيل له
أتريد أنه مركب من الأجزاء كالذي كان متفرقا فركب أو أنه يقبل التفريق سواء قيل اجتمع بنفسه أو جمعه غيره أو أنه من جنس شيء من المخلوقات أو أنه مركب من المادة والصورة أو من الجواهر المنفردة
فإن قال هذا
قيل
هذا باطل
وإن قال
أريد به أنه موجود أو قائم بنفسه كما يذكر عن هشام ومحمد بن كرام وغيرهما ممن أطلق هذا اللفظ أو أنه موصوف

بالصفات أو أنه يرى في الآخرة أو أنه يمكن رؤيته أو أنه مباين للعالم فوقه ونحو هذه المعاني الثابتة بالشرع والعقل
قيل له
هذه معان صحيحة ولكن إطلاق هذا اللفظ على هذا بدعة في الشرع مخالف للغة فاللفظ إذا احتمل المعنى الحق والباطل لم يطلق بل يجب أن يكون اللفظ مثبتا للحق نافيا للباطل
وإذا قال
ليس بجسم
قيل
أتريد بذلك أنه لم يركبه غيره ولم يكن أجزاء متفرقة فركب أو أنه لا يقبل التفريق والتجزئة كالذي ينفصل بعضه عن بعض
أو أنه ليس مركبا من الجواهر المنفردة ولا من المادة والصورة ونحو هذه المعاني
أو تريد به شيئا يستلزم نفى اتصافه بالصفات بحيث لا يرى ولا يتكلم بكلام يقوم به ولا يباين خلقه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا تعرج إليه الملائكة ولا الرسول ولا ترفع إليه

الأيدي ولا يعلو على شيء ولا يدنو منه شيء ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له ونحو ذلك من المعاني السلبية التي لا يعقل أن يتصف بها إلا المعدوم
فإن قال
أردت الأول
قيل
المعنى صحيح لكن المطلقون لهذا النفى أدخلوا فيه هذه المعاني السلبية ويجعلون ما يوصف به من صفات الكمال الثبوتية مستلزمة لكونه جسما فكل ما يذكر من الأمور الوجودية يقولون هذا تجسيم ولا ينتفي ما يسمونه تجسيما إلا بالتعطيل المحض
ولهذا كل من نفى شيئا قال لمن أثبته إنه مجسم
فغلاة النفاة من الجهمية والباطنية يقولون لمن أثبت له الأسماء الحسنى إنه مجسم ومثبتة الأسماء دون الصفات من المعتزلة ونحوهم يقولون لمن أثبت الصفات إنه مجسم ومثبتة الصفات دون

ما يقوم به من الأفعال الإختيارية يقولون لمن أثبت ذلك إنه مجسم وكذلك سائر النفاة
وكل من نفى ما أثبته الله ورسوله بناء على أن إثباته تجسيم يلزمه فيما أثبته الله ورسوله
ومنتهى هؤلاء النفاة إلى أثبات وجود مطلق وذات مجردة عن الصفات والعقل الصريح يعلم أن الوجود المطلق والذات المجردة عن الصفات إنما يكون في الأذهان لا في الأعيان فالذهن يجرد هذا ويقدر هذا التوحيد الذي يفرضونه كما يقدر إنسانا مطلقا وحيوانا مطلقا ولكن ليس كل ما قدرته الأذهان كان وجوده في الخارج في حيز الإمكان
ومن هنا يظهر غلط من قصد إثبات إمكان هذا بالتقدير العقلي كما ذكره الرازي فقال العقل يعلم أن الشيء إما أن يكون متحيزا وإما أن يكون قائما بالمتحيز وإما أن يكون لا متحيزا ولا حالا بالمتحيز

فيقال له
تقدير العقل لهذه الأقسام لا يقتضي وجودها في الخارج ولا إمكان وجودها في الخارج فإن هذا مثل أن يقال الشيء إما أن يكون واجبا وإما أن يكون ممكنا وإما أن يكون لا واجبا ولا ممكنا والشيء إما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا وإما أن يكون لا قديما ولا محدثا والشيء إما أن يكون قائما بنفسه وإما أن يكون قائما بغيره وإما أن يكون لا قائما بنفسه ولا قائما بغيره والشيء إما أن يكون موجودا وإما أن يكون معدوما وإما أن يكون لا موجودا ولا معدوما
فإن أمثال هذه التقديرات والتقسيمات لا تثبت إمكان الشيء ووجوده في الخارج بل إمكان الشيء يعلم بوجوده أو بوجود نظيره أو وجود ما يكون الشيء أولى بالوجود من ذلك الذي علم وجوده أو بنحو ذلك من الطرق
والإمكان الخارجي يثبت بمثل هذه الطرق وأما الإمكان الذهني فهو أن لا يعلم امتناع الشيء ولكن عدم العلم بالإمتناع ليس علما بالإمكان
فإن قال النافي
كل ما اتصف بأنه حي عليم قدير أو ما كان له حياة وعلم وقدرة أو ما يجوز أن يرى أو ما يكون فوق العالم أو نحو ذلك

من المعاني التي أثبتها الكتاب والسنة لا يوصف بها إلا ما هو جسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وذلك ممتنع
قيل
جمهور العقلاء لا يقولون إن هذه الأجسام المشهودة كالسماء والكواكب مركبة لا من الجواهر الفردة ولا من المادة والصورة فكيف يلزمهم أن يقولوا بلزوم هذا التركيب في رب العالمين
وقد بين في غير هذا الموضع فساد حجج الطائفتين وفساد حجج نفيهم لهذين المعنيين وأن هؤلاء يبطلون حجة هؤلاء الموافقين لهم في الحكم وهؤلاء يبطلون حجة هؤلاء فلم يتفقوا على صحة حجة واحدة بنفى ما جعلوه مركبا بل هؤلاء يحتجون بأن المركب مفتقر إلى أجزائه فيبطل أولئك هذه الحجة وهؤلاء يحتجون بأن ما كان كذلك لم يخل عن الأعراض الحادثة وما لم يخل عن الحوادث فهو محدث وأولئك يبطلون حجة هؤلاء بل يمنعونهم المقدمتين وهذه الأمور مبسوطة في غير هذه الموضع وإنما نبهنا هنا على هذا الباب
والأصل الذي يجب على المسلمين أن ما ثبت عن الرسول وجب

الإيمان به فيصدق خبره ويطاع أمره وما لم يثبت عن الرسول فلا يجب الحكم فيه بنفى ولا إثبات حتى يعلم مراد المتكلم ويعلم صحة نفيه أو إثباته
وأما الألفاظ المجملة فالكلام فيها بالنفى والإثبات دون الإستفصال يوقع في الجهل والضلال والفتن والخبال والقيل والقال وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء
وكل من الطائفتين نفاة الجسم ومثبتية موجودون في الشيعة وفي أهل السنة المقابلين للشيعة أعنى الذين يقولون بإمامة الخلفاء الثلاثة
وأول ما ظهر إطلاق لفظ الجسم من متكلمة الشيعة كهشام بن الحكم كذا نقل ابن حزم وغيره
قال أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين اختلف الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق
فالفرقة الأولى الهشامية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد طويل عريض عميق طوله

مثل عرضه وعرضه مثل عمقه لا يوفى بعضه على بعض وزعموا أنه نور ساطع له قدر من الأقدار في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ذو لون وطعم ورائحة ومجسمة وذكر كلاما طويلا
والفرقة الثانية من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود ولا يثبتون البارئ ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف
والفرقة الثالثة من الرافضة يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان ويمنعون أن يكون جسما
والفرقة الرابعة من الرافضة الهشامية أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحما ودما ويقولون هو نور ساطع يتلألأ بياضا وأنه ذو حواس

خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وأنف وأذن وفم وعين وأنه يسمع بغير ما به يبصر وكذلك سائر حواسه متغايره عندهم
قال وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وفرة سوداء وأن ذلك نور أسود
والفرقة الخامسة يزعمون أن لرب العالمين ضياء خالصا ونورا بحتا وهو كالمصباح الذي من حيث جئته يلقاك بأمر واحد وليس بذي صورة ولا أعضاء ولا اختلاف في الأجزاء وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان
قال والفرقة السادسة من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا بصورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس

وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج
قال أبو الحسن الأشعري وهؤلاء قوم من متأخريهم فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون بما حكيناه عنهم من التشبيه
قلت وهذا الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن قدماء الشيعة من القول بالتجسيم قد اتفق على نقله عنهم أرباب المقالات حتى نفس الشيعة كابن النوبختى وغيره ذكر ذلك عن هؤلاء الشيعة
وقال أبو محمد بن حزم وغيره أول من قال في الإسلام إن الله جسم هشام ابن الحكم وكان الذين يناقضونه في ذلك المتكلمين من المعتزل كأبي الهذيل العلاف
فالجهمية والمعتزلة أول من قال إن الله ليس بجسم
فكل من القولين قاله قوم من الإمامية ومن أهل السنة الذين ليسوا بإمامية
وإثبات الجسم قول محمد بن كرام وأمثاله ممن يقول بخلافة الخلفاء الثلاثة والنفى قول أبي الحسن الأشعري وغيره ممن يقول

بخلافة الخلفاء الثلاثة وقول كثير من أتباع الأئمة الأربعة أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم
فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول إن القرآن غير مخلوق وإن الله يرى في الآخرة ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة
وهذا الرافضي يعنى المصنف جعل أهل السنة بالإصطلاح الأول وهو اصطلاح العامة كل من ليس برافضي قالوا هو من أهل السنة ثم أخذ ينقل عنهم مقالات لا يقولها إلا بعضهم مع تحريفه لها فكان في نقله من الكذب والإضطراب ما لا يخفى على ذوي الألباب
وإذا عرف أن مراده بأهل السنة السنة العامة فهؤلاء متنازعون في إثبات الجسم ونفيه كما تقدم والإمامية أيضا متنازعون في ذلك
وأئمة النفاة هم الجهمية من المعتزلة ونحوهم يجعلون من أثبت الصفات مجسما بناء عندهم على أن الصفات لا تقوم إلا بجسم

ويقولون إن الجسم مركب من الجواهب المفردة أو من المادة والصورة
فقال لهم أهل الإثبات قولكم منقوض بإثبات الأسماء الحسنى فإن الله حي عليم قدير فإن أمكن إثبات حي عليم قدير وليس بجسم أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم وإن لم يمكن إثبات ذلك فما كان جوابكم عن إثبات الأسماء كان جوابنا عن إثبات الصفات
ثم المثبتون للصفات منهم من يثبت الصفات المعلومة بالسمع كما يثبت الصفات المعلومة بالعقل وهذا قول أهل السنة الخاصة أهل الحديث ومن وافقهم وهو قول أئمة الفقهاء وقول أئمة الكلام من أهل الإثبات كأبي محمد بن كلاب وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن

الأشعري وأبي عبدالله بن مجاهد وأبي الحسن الطبري والقاضي أبي بكر بن الباقلاني ولم يختلف في ذلك قول الأشعري وقدماء أئمة أصحابه لكن المتأخرون من أتباعه كأبي المعالي وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما
ونفاة الصفات الخبرية منهم من يتأول نصوصها ومنهم من يفوض معناها إلى الله

وأما من أثبتها كالأشعري وأئمة أصحابه فهؤلاء يقولون تأويلها بما يقتضى نفيها تأويل باطل فلا يكتفون بالتفويض بل يبطلون تأويلات النفاة
وقد ذكر الأشعري ذلك في عامة كتبه كالموجز والمقالات الكبير والمقالات الصغير والإبانة وغير ذلك ولم يختلف في ذلك كلامه لكن طائفة ممن توافقه وممن تخالفه يحكون له قولا آخر أو تقول أظهر غير ما أبطن وكتبه تدل على بطلان هذين الظنين
وأما القول الثالث وهو القول الثابت عن أئمة السنة المحضة كالإمام أحمد وذويه فلا يطلقون لفظ الجسم لا نفيا ولا إثباتا لوجهين

أحدهما أنه ليس مأثورا لا في كتاب ولا سنة ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا غيرهم من أئمة المسلمين فصار من البدع المذمومة
الثاني أن معناه يدخل فيه حق وباطل فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل
وملخص ذلك أن الذين نفوه أصل قولهم أنهم أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام فقالوا الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وما لا يخلو عنهما فإنه لا يخلو عن حادث لأن الحركة حادثة شيئا بعد شيء والسكون إما عدم الحركة وإما ضد يقابل الحركة وبكل حال فالجسم لا يخلوا عن الحركة والسكون والسكون يمكن تبديله بالحركة فكل جسم يقبل الحركة فلا يخلو منها أو مما يقابلها فإن كان لا يخلو منها كما تقوله الفلاسفة في الفلك فإنه حادث وإن كان لا يخلو مما يقابلها فإن يقبل الحركة وما قبل الحركة أمكن

أن لا يخلو منها فأمكن أن لايخلو من الحوادث وما أمكن لزوم دليل الحدوث له كان حادثا فإن الرب تعالى لا يجوز أن يلزمه دليل الحدوث
ثم منهم من اكتفى بقوله ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فإن ما لا يخلو عنها لا يسبقها فلا يكون قبلها وما لا يكون إلا مقارنا للحادث لا قبله ولا يكون إلا حادثا
وكثير من الكتب المصنفة لا يوجد فيها إلا هذا وأما حذاق هؤلاء فتفطنوا للفرق بين عين الحادث ونوع الحادث فإن المعلوم أن ما لا يسبق الحادث المعين فهو حادث وأما ما لا يسبق نوع الحادث فهذا لا يعلم حدوثه وإن لم يعلم امتناع دوام الحوادث وأن لها ابتداء وأنه يمتنع تسلسل الحوادث ووجود حوادث لا أول لها فصار الدليل موقوفا على امتناع حوادث لا أول لها
وهذا الموضع هو المهم الأعظم في هذا الدليل وفيه كثر الإضطراب والتبس الخطأ بالصواب

وآخرون سلكوا أعم من هذا فقالوا الجسم لا يخلو عن الأعراض والأعرض حادثة لا تبقى زمانين
ومنهم من يقول الجسم لا يخلو عن نوع من أنواع الأعراض لأنه قابل له والقابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده
ومنهم من قال الجسم لا يخلو عن الإجتماع والإفتراق والحركة والسكون وهذه الأنواع الأربعة هي الأكوان فالجسم لا يخلو عن الأكوان
والكلام في هذه الطرق ولوازمها كثير قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه
وهذا الكلام وإن كان أصله من المعتزلة فقد دخل في كلام المثبتين للصفات حتى في كلام المنتسبين إلى السنة الخاصة المنتسبين إلى الحديث والسنة وهو موجود في كلام كثير من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم
وهذا من الكلام الذي بقى على الأشعري من بقايا كلام المعتزلة فإنه خالف المعتزلة لما رجع عن مذهبهم في أصولهم التي اشتهروا فيها بمخالفة أهل السنة كإثبات الصفات والرؤية وأن القرآن غير

مخلوق وإثبات القدر وغير ذلك من مقالات أهل السنة والحديث وذكر في كتاب المقالات أنه يقول بما ذكره عن أهل السنة والحديث
وذكر في الإبانةأنه يأتم بقول الإمام أحمد قال فإنه الإمام الكامل والرئيس الفاضل الذي أبان الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين
وقال فإن قال قائل قد أنكرتم قول الجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة واحتج في ضمن ذلك بمقدمات سلمها

للمعتزلة مثل هذا الكلام فصارت المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام يقولون إنه متناقض في ذلك
وكذلك سائر أهل السنة والحديث يقولون إن هذا تناقض وإن هذه بقية بقيت عليه من كلام المعتزلة
وأصل ذلك هو هذا الكلام وهو موجود في كلام كثير من أصحاب أحمد والشافعي ومالك وكثير من هؤلاء يخالف الأشعري في مسائل وقد وافقه على الأصل الذي ترجع إليه تلك المسائل فيقول الناس في تناقضه كما قالوه في تناقض الأشعري وكما قالوه في تناقض المعتزلة وتناقض الفلاسفة فما من طائفة فيها نوع يسير من مخالفة السنة المحضة والحديث إلا ويوجد في كلامها من التناقض بحسب ذلك وأعظمهم تناقضا أبعدهم عن السنة كالفلاسفة ثم المعتزلة والرافضة
فلما أعتقد هؤلاء أنهم أثبتوا بهذا الدليل حدوث الجسم لزم انتفاء ذلك عن الله لأن الله قديم ليس بمحدث فقالت المعتزلة ما قامت به الصفات فهو جسم لأن الصفات أعراض والعرض لا يقوم

إلا بجسم فنفت الصفات ونفت أيضا قيام الأفعال الإختيارية به لأنها أعراض ولأنها حوادث فقالت القرآن مخلوق لأن القرآن كلام وهو عرض ولأنه يفتقر إلى الحركة وهي حادثة فلا يقوم إلا بجسم
وقالت أيضا إنه لا يرى في الآخرة لأن العين لا ترى إلا جسما أو قائما بجسم
وقالت ليس هو فوق العالم لأن ذلك مقام مكان والمكان لا يكون به إلا جسم أو ما يقوم بجسم
وهذا هو المذهب الذي ذكره هذا الإمامي وهو لم يبسط الكلام فيه فلذا اقتصرنا على هذا القدر إذا الكلام على ذلك مبسوط في موضع آخر
فقالت مثبتة الصفات للمعتزلة أنتم تقولون إن الله حي عليم قدير وهذا لا يكون إلا جسما فإن طردتم قولكم لزم أن يكون الله جسما وإن قلتم بل يسمى بهذه الأسماء من ليس بجسم قيل لكم وتثبت هذه الصفات لمن ليس بجسم
وقالوا لهم أيضا إثبات حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر

بلا قدرة مثل إثبات أسود بلا سواد وأبيض بلا بياض وقائم بلا قيام ومصل بلا صلاة ومتكلم بلا كلام وفاعل بلا فعل وهذا مما يعلم فساده لغة وعقلا
وقالوا لهم أيضا أنتم تعلمون أنه حي عالم قادر وليس كونه حيا هو كونه عالما ولا كونه عالما هو كونه قادرا
فهذه المعاني التي تعقلونها وتثبتونها هي الصفات سواء سميتموها أحكاما أو أحوالا أو معاني أو غير ذلك فليس الإعتبار بالألفاظ بل بالمعاني المعقولة
ومن تدبر كلام أئمة المعتزلة والشيعة والفلاسفة نفاة الصفات وجدهم في غاية التناقض كما تقول الفلاسفة إنه عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق
ثم يقولون هذا المعنى هو هذا المعنى وإن العالم هو العلم فيجعلون إحدى الصفتين هي الأخرى ويجعلون الموصوف هو الصفة
وأيضا فما يشنع به هؤلاء على أهل السنة هم يقولون به بغير اختيارهم ومن تدبر كلام أبي الحسين البصري وأمثاله من أئمة المعتزلة وجد المعاني التي يثبتها هي قول الصفاتية لكن ليس هذا موضع بسط ذلك إذ الكلام هنا مختصر بحسب هذا المقام وقد نبهنا

على أن أهل السنة يقولون بالحق مطلقا وأنه ما من قول يثبت بشرع وعقل إلا وقد قال به أئمة أهل السنة وهذا هو المقصود في هذا المقام
الوجه السادس
أن يقال لهذا الإمامي أنت قلت مذهب الإمامية أحقها وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل لأنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم وأن كل ما سواه محدث لأنه واحد وليس بجسم ولا مكان وإلا لكان محدثا
وقد تبين أن أكثر متقدمي الإمامية كانوا بضد هذا كهشام بن الحكم وهشام بن سالم ويونس بن عبدالرحمن القمى مولى آل يقطين وزراة بن أعين

وأبي مالك الحضرمي وعلي بن ميثم وطوائف كثيرين هم

أئمة الإمامية قبل المفيد والطوسي والموسوي والكراجكي
وقد تقدم أن هذا قول قدماء الإمامية فإن قول المعتزلة إنما حدث فيهم متأخرا وحينئذ فليست الإمامية كلها على ما ذكرته ثم إن كان ما ذكرته هو الصواب فشيوخ الإمامية المتقدمون على غير الصواب وإن كان خطأ فشيوخهم المتأخرون على هذا الخطأ فقد لزم بالضرورة أن شيوخ الإمامية ضلوا في التوحيد إما متقدموهم وإما متأخروهم
الوجه السابع
أن يقال أنت ذكرت اعتقادا ولم تذكر عليه دليلا لا شرعيا ولا عقليا ولا ريب أن الرافضة أجهل وأضل وأقل من أن يناضروا علماء السنة لكن يناظر بعضهم بعضا كما يتناظرون دائما في المعدوم هل هو شيء أو ليس بشيء
فيقال لهذا الإمامي النافي أنت لم تقم حجة على شيوخك الإمامية القائلين بأن الله في مكان دون مكان وأنه يتحرك وأنه تقوم به الحوادث
قال الأشعري
واختلفت الروافض في حملة العرش أيحملون

العرش أم يحملون البارئ تعالى وهم فرقتان فرقة يقال لها اليونسية أصحاب يونس بن عبدالرحمن القمى مولى آل يقطين يزعمون أن الحملة يحملون البارى واحتج يونس في أن الحملة تطيق حمله وشبههم بالكركي وأن رجليه تحملانه وهما دقيقتان
وقالت فرقة أخرى إن الحملة تحمل العرش والبارئ يستحيل أن يكون محمولا
قال الأشعري
واختلف الروافض في القول بأن الله عالم حي قادر سميع بصير إله وهم تسع فرق
فالفرقة الأولى منهم الزرارية أصحاب زرارة بن أعين الرافضي يزعمون أن الله لم يزل غير سميع ولا عليم ولا بصير حتى خلق ذلك لنفسه وهم يسمون التيمية ورئيسهم زرارة بن أعين

والفرقة الثانية منهم السيابية أصحاب عبدالرحمن بن سيابة يقفون في هذه المعاني ويزعمون أن القول فيها ما يقول جعفر كائنا قوله ما كان ولا يعرفون في هذه الأشياء قولا
والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن الله تعالى لا يوصف بأنه لم يزل إلها قادرا ولا سميعا بصيرا حتى يحدث الأشياء لأن الأشياء التي كانت قبل أن تكون ليست بشيء ولن يجوز أن يوصف بالقدرة لا على شيء وبالعلم لا بشيء وكل الروافض إلا شرذمة قليلة يزعمون أن الله يريد الشيء ثم يبدو له فيه

قال والفرقة الرابعة من الروافض يزعمون أن الله لم يزل لا حيا ثم صار حيا
والفرقة الخامسة من الروافض وهم أصحاب شيطان الطاق يزعمون أن الله عالم في نفسه ليس بجاهل ولكنه إنما يعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها فأما قبل أن يقدرها ويريدها فمحال أن يعلمها لا لأنه ليس بعالم وكلن الشيء لا يكون شيئا حتى يقدره ويشيئه بالتقدير والتقدير عندهم الإرادة

قال والفرقة السادسة من الرافضة
أصحاب هشام بن الحكم يزعمون أنه محال أن يكون الله لم يزل عالما بالأشياء بنفسه وأنه إنما يعلم الأشياء بعد أن لم يكن بها عالما وأنه يعلمها بعلم وأن العلم صفة له ليست هي هو ولا هي غيره ولا بعضه فلا يجوز أن يقال العلم محدث أو قديم لأن العلم صفة والصفة لا توصف قال ولو كان لم يزل عالما لكانت المعلومات لم تزل لأنه لا يصح عالم إلا بمعلوم موجود قال ولو كان عالما بما يفعله عباده لم تصح المحنة والإختبار
قال
وقال هشام في سائر صفات الله كقدرته وحياته وسمعه وبصره وإرادته إنها صفات الله لا هي الله ولا غير الله وقد

اختلف عنه في القدرة والحياة فمنهم من يحكى عنه أنه كان يقول إن البارئ لم يزل قادرا حيا ومنهم من ينكر أن يكون قال ذلك
قال
والفرقة السابعة من الرافضة
لا يزعمون أن البارئ عالم في نفسه كما قال شيطان الطاق ولكنهم يزعمون أن الله لا يعلم الشيء حتى يؤثر أثره والتأثير عندهم الإرادة فإذا أراد الشيء علمه وإذا لم يرده لم يعلمه ومعنى أراد عندهم أنه تحرك حركة هي إرادة فإذا تحرك علم الشيء وإلا لم يجز الوصف له بأنه عالم به
قال والفرقة الثامنة من الرافضة
يزعمون أن معنى أن الله يعلم أنه يفعل فإن قيل لهم أتقولون إن الله سبحانه لم يزل عالما

بنفسه اختلفوا فمنهم من يقول لم يزل لا يعلم بنفسه حتى فعل العلم لأنه قد كان ولما يفعل ومنهم من يقول لم يزل يعلم بنفسه فإن قيل لهم فلم يزل يفعل قالوا نعم ولا نقول بقدم الفعل
قال
ومن الرافضة من يزعم أن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون إلا أعمال العباد فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها
قال والفرقة التاسعة من الرافضة
يزعمون أن الله تعالى لم يزل عالما حيا قادرا ويميلون إلى نفى التشبيه ولا يقرون بحدوث العلم ولا بما حكيناه من التجسيم وسائر ما أخبرنا به من التشبيه عنهم
قال
واختلف الروافض في إرادة الله سبحانه وهم أربع فرق

فالفرقة الأولى منهم أصحاب هشام بن الحكم وهشام الجواليقي يزعمون أن إرادة الله حركة وهي معنى لا هي الله ولا هي غيره وأنها صفة لله ليست غيره وذلك أنهم يزعمون أن الله إذا أراد الشيء تحرك فكان ما أراد
والفرقة الثانية منهم أبو مالك الحضرمي وعلى بن ميثم ومن تابعهما يزعمون أن إرادة الله غيره وهي حركة الله كما قال هشام إلا أن هؤلاء خالفوه فزعموا أن الإرادة حركة وأنها غير الله بها يتحرك
والفرقة الثالثة منهم القائلون بالإعتزال والإمامة يزعمون أن إرادة الله ليست بحركة فمنهم من أثبتها غير المراد فيقول إنها مخلوقة لله لا بإرادة ومنهم من يقول إرادة الله لتكوين الشيء هو الشيء

وإرادته لأفعال العباد هي أمره إياهم بالفعل وهي غير فعلهم وهم يأبون أن يكون الله أراد المعاصي فكانت
والفرقة الرابعة منهم يقولون لا نقول قبل الفعل إن الله أراد فإذا فعلت الطاعة قلنا أرادها وإذا فعلت المعصية فهو كاره لها غير محب لها
قلت القول الثالت هو قول متأخري الشيعة كالمفيد وأتباعه الذين اتبعوا المعتزلة وهم طائفة صاحب هذا الكتاب والقول الأول قول البصريين من المعتزلة والثاني قول البغداديين فصار هؤلاء الشيعة على قول المعتزلة
فهذه المقالات التي نقلت في التشبيه والتجسيم لم نر الناس نقلوها عن طائفة من المسلمين أعظم مما نقلوها عن قدماء الرافضة ثم الرافضة حرموا الصواب في هذا الباب كما حرموه في غيره فقدماؤهم

يقولون بالتجسيم الذي هو قول غلاة المجسمة ومتأخروهم يقولون بتعطيل الصفات موافقة لغلاة المعطلة من المعتزلة ونحوهم فأقوال أئمتهم دائرة بين التعطيل والتمثيل لم تعرف لهم مقالة متوسطة بين هذا وهذا
وأئمة المسلمين من أهل بيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم وغيرهم متفقون على القول الوسط المغاير لقول أهل التمثيل وقول أهل التعطيل وهذا مما يبين مخالفة الرافضة لأئمة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصول دينهم كما هم مخالفون لأصحابه بل ولكتاب الله وسنة رسوله
وهذا لأن مبنى مذهب القوم على الجهل والكذب والهوى وهم وإن كانوا يدعون اتباع الأئمة الإثنى عشر في الشرائع فلو قدر من يجوز له التقليد إماما من أئمة أهل البيت كعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر الصادق وأمثالهم لكان ذلك سائغا جائزا عند أهل

السنة لم تقل أهل السنة إنه لا يجوز لمن يجوز له التقليد تقليد هؤلاء وأمثالهم بل أهل السنة متفقون على أن تقليد الواحد من هؤلاء وأمثالهم كتقليد أمثالهم يسوغ هذا لمن يسوغ له ذلك
وأكثر علماء السنة على أن التقليد في الشرائع لا يجوز إلا لمن عجز عن الإستدلال هذا منصوص الشافعي وأحمد وعليه أصحابهما وما حكى عن أحمد من تجويز تقليد العالم للعالم غلط عليه ولكن هذا القول حكى عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قيل عنه يجوز تقليد الأعلم وقيل العالم
وهذا النزاع إذا لم يكن تبين له القول الموافق للكتاب والسنة فإن تبين له ما جاء به الرسول لم يجز له التقليد في خلافه باتفاق المسلمين وأما تقليد العاجز عن الإستدلال فيجوزه الجمهور ومنع منه طائفة من أهل الظاهر
وجمهور علماء المسلمين على أن القدرة على الإجتهاد والإستدلال مما ينقسم ويتبعض فقد يكون الرجل قادرا على الإجتهاد والإستدلال في مسألة أو نوع من العلم دون الآخر وهذا حال أكثر علماء

المسلمين لكن يتفاوتون في القوة والكثرة فالأئمة المشهورون أقدر على الإجتهاد والإستدلال في أكثر مسائل الشرع من غيرهم وأما أن يدعى أن واحدا منهم قادر على أن يعرف حكم الله في كل مسألة من الدين بدليلها فمن ادعى هذا فقد ادعى ما لا علم له به بل ادعى ما يعرف أنه باطل - فصل
والمقصود هنا أن يقال لهذا الإمامي وأمثاله ناظروا إخوانكم هؤلاء الرافضة في التوحيد وأقيموا الحجة على صحة قولكم ثم ادعوا إلى ذلك ودعوا أهل السنة والتعرض لهم فإن هؤلاء يقولون إن قولهم في التوحيد هو الحق وهم كانوا في عصر جعفر الصادق وأمثاله فهم يدعون أنهم أعلم منكم بأقوال الأئمة لا سيما وقد استفاض عن جعفر الصادق أنه سئل عن القرآن أخالق هو أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله وهذا مما اقتدى به الإمام أحمد في المحنة فإن جعفر بن محمد من أئمة الدين باتفاق أهل السنة

وهذا قول السلف قاطبة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق ولكنهم لم يقولوا ما قاله ابن كلاب ومن اتبعه من أنه قديم لازم لذات الله وأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل هذا قول محدث أحدثه ابن كلاب واتبعه عليه طوائف
وأما السلف فقولهم إنه لم يزل متكلما وإنه يتكلم بمشيئته وقدرته
وكذلك قالوا بلزوم الفاعلية ونقلوا عن جعفر الصادق بن محمد أنه قال بدوام الفاعلية المتعدية وأنه لم يزل محسنا بما لم يزل

فيما لم يزل إلى ما لم يزل كما نقل ذلك الثعلبي عنه بإسناده في تفسير قوله أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا سورة المؤمنون 115 مع قول جعفر وسائر المسلمين وأهل الملل وجماهير العقلاء من غير أهل الملل أن الله تعالى خالق كل شيء وأن ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن ليس مع الله شيء من العالم قديم بقدم الله
وأما هشام بن الحكم وهشام بن سالم وغيرهما من شيوخ الإمامية فكانوا يقولون إن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله كما قاله جعفر بن محمد وسائر أئمة السنة ولكن لا أعرف هل يقولون بدوام كونه متكلما بمشيئته كما يقوله أئمة أهل السنة أم

يقولون تكلم بعد أن لم يكن متكلما كما تقوله الكرامية وغيرهم
قال الأشعري
واختلفت الروافض في القرآن وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم هشام بن الحكم وأصحابه يزعمون أن القرآن لا خالق ولا مخلوق وزاد بعض من يخبر عن المقالات في الحكاية عن هشام فزعم أنه كان يقول لا خالق ولا مخلوق ولا يقال أيضا غير مخلوق لأنه صفة والصفة لا توصف
قال
وحكى زرقان عن هشام بن الحكم أنه قال القرآن على ضربين إن كنت تريد المسموع فقد خلق الله الصوت المقطع وهو رسم القرآن فأما القرآن فهو فعل الله مثل العلم والحركة لا هو هو ولا غيره
والفرقة الثانية منهم يزعمون أنه مخلوق محدث لم يكن ثم كان كما تزعم المعتزلة والخوارج
قال
وهؤلاء قوم من المتأخرين منهم

قلت
ومعلوم أن قول جعفر بن محمد الصادق وهؤلاء الذين قالوا من السلف ليس بمخلوق لم يريدوا أنه ليس بمكذوب بل أرادوا أنه لم يخلقه كما قالت المعتزلة وهذا قول متأخري الرافضة
فإن طائفة من متأخري الإمامية كأبي القاسم الموسوي المعروف بالمرتضى وغيره لما وافقوا المعتزلة على أنه محدث منفصل عن الله وأنه لم يكن يمكنه أن يتكلم ثم صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما وليس له كلام يقوم به بل كلامه من جملة مصنوعاته المنفصلة عنه ثم سمعوا عن السلف من أهل البيت مثل جعفر بن محمد وغيره أنهم قالوا إنه غير مخلوق قالوا لا نقول إنه مخلوق متابعة لهؤلاء بل نقول إنه محدث مجعول موافقة لما ظنوه من لفظ القرآن في قوله إنا جعلناه قرآنا عربيا سورة الزخرف 3 وقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث سورة الأنبياء 2
وكثير من الناس غير الشيعة يقولون غير مخلوق

ويقصدون في هذا المعنى أنه غير مكذوب مفترى فإنه يقال خلق هذا الحديث واختلقه إذا افتراه قال تعالى عن إبراهيم إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا سورة العنكبوت 17 وقال عن قوم هود قالوا إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين سورة الشعراء 137 138
فيقال لهؤلاء
كل من تدبر الآثار المنقولة عن السلف وما وقع من النزاع بين الأمة في أن القرآن مخلوق أو غير مخلوق علم أنه لم يكن نزاعهم في أنه مفترى أو غير مفترى فإن من يقر بأن محمدا رسول الله لا يقول إن القرآن مفترى بل إنما يقول إنه مفترى من قال إن محمدا كاذب افترى القرآن كما قال تعالى أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله سورة يونس 38 وقال أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات سورة هود 13 وقال تعالى وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا سورة الفرقان 4 وقال أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى أجرامي وأنا برئ مما تجرمون سورة هود 35
والذين تنازعوا في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق كانوا مقرين بأن محمدا رسول الله وأنه مبلغ للقرآن عن الله تعالى لم يفتره

هو ولكن الجهمية والمعتزلة لما كان أصلهم أن الرب لا تقوم به الصفات والأفعال والكلام لزمهم أن يقولوا كلامه بائن عنه مخلوق من مخلوقاته وكان أول من ظهر عنه هذا الجعد بن درهم ثم الجهم ابن صفوان ثم صار هذا في المعتزلة
ولما ظهر هذا سألوا أئمة الإسلام مثل جعفر الصادق وأمثاله فقالوا لجعفر الصادق القرآن خالق أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله ومعلوم أن قوله ليس بخالق ولا مخلوق لم يرد به أنه ليس بكاذب ولا مكذوب لكن أراد أنه ليس هو الخالق للمخلوقات ولا هو من المخلوقات ولكنه كلام الخالق
وكذلك ما نقل عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه لما قيل

له حكمت مخلوقا قال لم أحكم مخلوقا وإنما حكمت القرآن
وما رواه ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية قال كتب إلى حرب الكرماني ثنا محمد بن المصفى ثنا عبدالله بن محمد عن عمرو بن جميع عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال لما حكم علي الحكمين قالت الخوارج حكمت رجلين قال ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن
حدثنا الأشج ثنا يحيى بن يمان ثنا حسن بن صالح عن عبدالله ابن الحسن قال قال علي للحكمين احكما بالقرآن كله فإنه كله لي
وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا الصهيبي ابن عم علي بن عاصم وعلي بن صالح عن عمران بن حدير عن عكرمة قال كان ابن

عباس في جنازة فسمع رجلا يقول يا رب القرآن ارحمه فقال ابن عباس مه القرآن منه القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود
حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ثنا أبو مروان الطبري بمكة يعنى الحكم بن محمد ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت مشيختنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق وفي رواية منه بدأ وإليه يعود وهذا رواه غير واحد عن سفيان بن عيينة عن عمرو ورواه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد
وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا العباس بن عبدالعظيم ثنا رويم بن يزيد المقري ثنا عبد الله بن عباس عن يونس بن بكير عن جعفر بن محمد عن أبيه قال سئل على بن الحسين عن القرآن فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الخالق ورواه أو زرعة عن يحيى بن منصور عن رويم فذكره
وحدثنا جعفر بن محمد بن هارون ثنا عبدالرحمن بن مصعب ثنا موسى بن داود الكوفى عن رجل عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه سأله إن قوما يقولون القرآن مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله

حدثنا موسى بن سهل الرملي ثنا موسى بن داود ثنا معبد أبو عبدالرحمن عن معاوية بن عمار الذهبي قال قلت لجعفر بن محمد إنهم يسألوني عن القرآن مخلوق أو خالق فقال إنه ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله
وحدثنا أبو زرعة ثنا سويد بن سعيد عن معاوية فذكره
وحدثنا أبي قال حدثنا الحسن بن الصباح ثنا معبد بمثله
حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إلي قال قال أبي وحدثت عن موسى بن داود بهذا الحديث عن معبد قال رأيت معبدا هذا ولم يكن به بأس وأثنى عليه ثم قال كان يفتى برأي ابن أبي ليلى
حدثنا عبدالله مولى المهلب بن أبي صفرة ثنا علي بن أحمد بن علي ابن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن أخيه موسى بن جعفر قال سئل أبي جعفر بن محمد عن القرآن خالق أو مخلوق قال لو كان خالقا لعبد ولو كان مخلوقا لنفد
ومثل هذه الآثار كثيرة عن الصحابة والتابعين والأئمة من أهل البيت

وغيرهم فعلي رضي الله عنه لم يرد بقوله ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن أي ما حكمت كلاما مفترى فإن الخوارج إنما قالوا له حكمت مخلوقا من الناس وهما أبو موسى وعمرو بن العاص فقال لم أحكم مخلوقا وإنما حكمت وإنما حكمت القرآن وهو كلام الله
فالحكم لله وهو سبحانه يصف كلامه بأنه يحكم ويقص ويفتى كقوله ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء سورة النساء 127 أي وما يتلى عليكم يفتيكم فيهن
وقوله وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه سورة البقرة 213
وإذا أضيف الحكم والقصص والإفتاء إلى القرآن الذي هو كلام الله فالله هو الذي حكم به وأفتى به وقص به كما أضاف ذلك إلى نفسه في غير موضع

فهذا هو مراد علي بن أبي طالب وجعفر بن محمد وغيرهما من أهل البيت رضوان الله عليهم وسائر سلف الأمة بلا ريب فتبين أن هؤلاء الرافضة مخالفون لأئمة أهل البيت وسائر السلف في مسألة القرآن كما خالفوهم في غيرها
وأما قولهم إنه مجعول فالله لم يصفه بأنه مجعول معدى إلى مفعول واحد بل قال إنا جعلناه قرآنا عربيا سورة الزخرف 3 فإذا قالوا هو مجعول قرآنا عربيا فهذا حق وأما قوله تعالى وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث سورة الأنبياء 2 فهذه الآية تدل على أن الذكر نوعان محدث وغير محدث كما تقول ما جاءني من رجل عدل إلا قبلت شهادته وصفة النكرة للتخصيص وعندهم كل ذلك محدث والمحدث في القرآن ليس هو المحدث في كلامهم فلم يوافقوا القرآن
ثم إذا قيل هو محدث لم يلزم من ذلك أن يكون مخلوقا بائنا عن الله بل إذا تكلم الله به بمشيئته وقدرته وهو قائم به جاز أن يقال هو محدث وهو مع ذلك كلامه القائم بذاته وليس بمخلوق
وهذا قول كثير من أئمة السنة والحديث وقد احتج البخاري وغيره على ذلك بقول النبي
صلى الله عليه وسلم إن الله يحدث من أمره ما

يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ومعلوم أن الذي أحدثه هو أمره أن لا يتكلموا في الصلاة لا عدم تكلمهم في الصلاة فإن ذلك يكون بإختيارهم ومنهم من تكلم بعد النهى لكن نهوا عن ذلك ولهذا قال يحدث من أمره ما يشاء
والمقصود هنا أنه يقال لهذا الإمامي إخوانك هؤلاء يقولون إن قولهم هو الحق دون قولك وأنت لم تحتج لقولك إلا بمجرد قولك إنه ليس بجسم وهؤلاء إخوانك يقولون إنه جسم فناظرهم فإنهم إخوانك في الإمامة وخصومك في التوحيد
وهكذا ينبغي لك أن تناظر الخوارج الذين هم خصومك وأما أهل السنة فهم وسط بينك وبين خصومك وأنت لا تقدر على قطع خصومك لا هؤلاء ولا هؤلاء

فإن قلت
حجتي على هؤلاء أن كل جسم محدث
قال لك إخوانك
بل الجسم عندنا ينقسم إلى قسمين قديم ومحدث كما أن القائم بنفسه والموجود والحي والعالم والقادر ينقسم إلى قديم ومحدث
فإن قال النافي
الجسم لا يخلو عن الحوادث وما لم يخل عن الحوادث فهو حادث
قال له إخوانه
لا نسلم أنه لا يخلو عن الحوادث وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن ما لم يخل عن الحوادث فهو حادث
فإن قال
الدليل على أنه لا يخلو من الحوادث أنه لا يخلو من الأعراض والأعراض حادثة فإن العرض لا يبقى زمانين
وعلى هذا اعتمد كثير من الكلابية في حدوث العالم وعليه أيضا اعتمد الآمدي وطعن في كل دليل غيره وذكر أن هذه طريقة الأشعرية
وضعف ذلك من تعقب كلامه وقال هذا يقتضى بناء هذا الأصل العظيم على هذه المقدمة الضعيفة وقد رأيت كلام الأشعري نفسه

فرأيته اعتمد على أن الأجسام لا تخلو من الإجتماع والإفتراق بناء على أن الإجسام مركبة من الجواهر المنفردة فاحتج باستلزامها لهذا النوع من الأعراض وهذا النوع حادث لأنه من الأكوان لكنه مبنى على الجوهر الفرد وجمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم على نفيه
والمقصود هنا ذكر ما يبين أصول الطوائف وأن قول هؤلاء الرافضة المعتزلة من أفسد أقوال طوائف الأمة فإنه ليس معهم حجة شرعية ولا عقلية يمكنهم الإنتصاف بها من إخوانهم أهل البدع وإن كان أولئك ضالين مبتدعين أيضا وهم مناقضون لهم غاية المناقضة فكيف تكون لهم حجة على أهل السنة الذين هم وسط في الإسلام كما إن الإسلام وسط في الملل
فإذا قال النافي
الدليل على حدوثها استلزامها للأعراض
قالوا له
ليس هذا قولك وقول أئمتك المعتزلة وإنما هو قول

الأشعرية وأما المعتزلة فعندهم أنه قد يخلو عن كثير من الأعراض وإنما يقولون ذلك في الأكوان أو في الألوان
وقالوا
لا نسلم أن الأعراض حادثة وأنها لا تبقى زمانين وهذا القول معلوم البطلان بالضرورة عند جمهور العقلاء مع أنه ليس قولك وقول شيوخك المعتزلة والرافضة
فإن قال الإمامي النافي
الدليل على أن الجسم لا يخلو من الحوادث أنه لا يخلو من الأكوان والأكوان حادثة إذ لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان
قالوا له
لا نسلم أن الأكوان كلها حادثة ولا نسلم أن السكون حادث بل يجوز أن يكون لنا جسم قديم أزلي ساكن ثم تحرك بعد أن لم يكن متحركا لأن السكون إن كان عدميا جاز أن يحدث أمر وجودي وإن كن وجوديا جاز أن يزول بحادث
قال النافي
القديم لا يزول
قال إخوانه
القديم إن كان معنى عدميا جاز زواله باتفاق العقلاء فإنه ما من حادث إلا وعدمه قديم والسكون عند كثير

من الناس عدمي ونحن نختار أنه عدمي فيجوز زواله وإن كان وجوديا فلا نسلم أنه لا يجوز زواله
فإن قال النافي
السكون وجودي وإذا كان وجوديا قديما فالمقتضى لقدمه قديم من لوازم الواجب فيكون واجبا بوجوب سببه
قال إخوانه المجسمة
هذا الموضع يرد على جميع الطوائف المنازعين لنا من الشيعة والمعتزلة والأشعرية وغيرهم فإنهم وافقونا على أن البارئ فعل بعد أن لم يكن فاعلا فعلم جواز حدوث الحوادث كلها بلا سبب حادث وهم يصرحون بأنه يجوز بل يجب حدوث الحوادث كلها بغير سبب حادث لامتناع حوادث لا أول لها عندهم وإذا جاز ذلك اخترنا أن يكون السكون عدميا والحادث هو الحركة التي هي وجودية فإذا جاز إحداث جرم بلا سبب حادث فإحداث حركة بلا سبب حادث أولى
ولو قيل إن السكون وجودي فإذا جاز وجود أعيان بعد أن لم تكن

وذلك تحول من أن لا يفعل إلى أن يفعل سواء سمى مثل هذا تغيرا وانتقالا أو لم يسم جاز أن يتحرك الساكن وينتقل من السكون إلى الحركة وإن كانا وجوديين
وقول القائل
المقتضي لقدمه من لوازم الوجوب
جوابه أن يقال قد يكون بقاؤه مشروطا بعدم تعلق الإرادة بزواله أو بغير ذلك كما يقولونه في سبب الحوادث فإن الواجب انتقل من أن لا يفعل إلى أن يفعل فما كان جوابهم عن ذلك كان جوابا عن هذا وإن قالوا بدوام الفاعلية بطل قولهم وقولنا
وبالجملة هل يجوز أن يحدث عن القديم أمر بلا سبب حادث وترجيح أحد طرفي الممكن بمجرد القدرة وحينئذ فيجوز أن يحدث القادر ما به يزيل السكون الماضي من الحركة سواء كان ذلك السكون وجوديا أو عدميا
قال النافي هذا يلزم منه أن يكون البارئ محلا للحركة وللحوادث أو للأعراض وهذا باطل

قال إخوانه الإمامية
قد صادرتنا على المطلوب فهذا صريح قولنا فإنا نقول إنه يتحرك وتقوم به الحوادث والأعراض فما الدليل على بطلان قولنا
قال النافي
لأن ما قامت به الحوادث لم يخل منها وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
قال إخوانه قولك ما قامت به الحوادث لم يخل منها فهذا ليس قول الإمامية ولا قول المعتزلة وإنما هو قول الأشعرية وقد اعترف الرازي والآمدي وغيرهما بضعفه وأنه لا دليل عليه وهم وأنتم تسلمون لنا أنه أحدث الأشياء بعد أن لم يكن هناك حادث بلا سبب حادث فإذا حدثت الحوادث من غير أن يكون لها أسباب حادثة جاز أن تقوم به بعد أن لم تكن قائمة به
فهذا القول الذي يقوله هؤلاء الإمامية ويقوله من يقوله من الكرامية وغيرهم من إثبات أنه جسم قديم وأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا أو تحرك بعد أن لم يكن متحركا لا يمكن هؤلاء الإمامية وموافقيهم من المعتزلة والكلابية إبطاله فإن أصل قولهم بامتناع الحوادث به

وهؤلاء قد جوزوا ذلك ثم الكلابية لا تنفى قيام الحوادث به لانتفاء الصفات فإنهم يقولون بقيام أعيان الصفات القديمة به وإنما ينفون قدم النوع لتجدد أعيانه فإنها حوادث
وعمدتهم في نفى ذلك أن ما قبل الحوادث لم يخل منها وهذه مقدمة باطلة عند العقلاء وقد اعترف بذلك غير واحد من حذاقهم كالرازي والآمدي وغيرهما وأما أبو المعالي وأمثاله فلم يقيموا حجة عقلية على هذا المطلوب وإنما اعتمدوا على تناقض أقوال من نازعهم من الكرامية والفلاسفة وغيرهما
وتناقض أقوال هذه الطوائف يدل على فساد قولها بمجموع الأمرين لا يدل على صحة أحدهما بعينه وحينئذ فإذا كان هناك قول ثالث يمكن القول به مع فساد أحدهما أو كليهما لم يلزم صحة قول الكلابية وجميع الطوائف المختلفين المخالفين للكتاب والسنة وإنما عندهم إفساد بعضهم قول الآخرين وبيان تناقضه ليس عندهم قول صحيح يقال به
ولهذا كانت الفائدة المستفادة من كلامهم نقض بعضهم كلام بعض فلا يعتقد شيء منها ثم إن عرف الحق الذي جاء به الرسول فهو الصواب الموافق لصريح المعقول وإلا استفيد من ذلك السلامة من

تلك الإعتقادات الباطلة وإن لم يعرف الحق فالجهل البسيط خير من الجهل المركب وعدم اعتقاد الأقوال الباطلة خير من اعتقاد شيء منها
وأما المعتزلة فتنفى قيام الحوادث به لأنها أعراض فلا تقوم به وهؤلاء يقولون بل تقوم به الأعراض
وعمدة المعتزلة أنه لو قامت به لكان جسما وهؤلاء التزموا أنه جسم وعمدة هؤلاء في نفي كونه جسما أن الجسم لا يخلو من الحوادث وهؤلاء قد نازعوهم في هذا وقالوا بل يخلو عن الحوادث وقالوا إن البارئ جسم قديم كما تقولون أنتم إنه ذات قديمة وإنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا وتجعلون مفعوله هو فعله لكن هؤلاء يقولون له فعل قائم به ومنفصل عنه وهؤلاء يقولون له مفعول منفصل عنه ولا يقوم به فعل
وعمدة هؤلاء أنه في الأزل إن كان ساكنا لم تجز عليه الحركة لأن السكون معنى وجودي أزلي فلا يزول وإن كان متحركا لزم حوادث لا تتناهى وهؤلاء يقولون بل كان ساكنا في الأزل ويقولون إن

السكون عدم الحركة أو عدم الحركة عما يمكن تحريكه أو عدمه عما من شأنه أن يتحرك فلا يسلمون أن السكون أمر وجودي كما يقولون مثل ذلك في العمى والصمم والجهل البسيط
والقول بأن هذه الأمور عدمية ليس هو قول من يقوله من الفلاسفة وحدهم كما يظنه بعض المصنفين في الكلام بل هو قول كثير من النظار المتكلمين أهل القبلة والصلاة وتنازعهم في هذا كتنازعهم في نظائره مثل بقاء الأعراض وتماثل الأجسام وغير ذلك
وإن قالوا إنه وجودي فلا يسلمون أن كل أزلي لايزول بل يقولون في تبدل السكون بالحركة ما يقوله مناظروهم في تبدل الإمتناع بالإمكان فإن الطائفتين اتفقتا على أن الفعل كان ممتنعا في الأزل فصار ممكنا فهكذا يقوله هؤلاء في السكون الوجودي إن كان تبدله بالحركة في الأزل ممتنعا وهو فيما لا يزال ممكن فتبدل حيث أمكن التبدل كما يقولون جميعا إنه حدث الفعل حيث كان الحدوث ممكنا

فهذا بحث هؤلاء الإمامية والكرامية مع هؤلاء الإمامية ومن وافقهم من المعتزلة والكلابية وأتباعهم في هذه الأمور التي يعتمدون فيها على العقل وقد أجابهم طائفة من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم بأن الدليل الدال على حدوث العالم هو هذا الدليل الدال على حدوث الأجسام فإن لم يكن هذا صحيحا انسد طريق معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع
فقال المخالف لهؤلاء لا نسلم أن هذا هو الطريق إلى معرفة حدوث العالم ولا إلى إثبات الصانع بل هذا طريق محدث في الإسلام لم يكن أحد من الصحابة ولا القرابة ولا التابعين يسلك هذه الطريق وإنما سلكها الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف ومن وافقهما ولو كان العلم بإثبات الصانع وحدوث العالم لا يتم إلا بهذه الطريق لكان بيانها من الدين ولم يحصل الإيمان إلا بها
ونحن نعلم بالإضطرار أن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذه الطريق لأمته ولا دعاهم بها لا إليها ولا أحد من الصحابة فالقول بأن الإيمان موقوف علهيا مما يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام

وكل أحد يعلم أنها طريق محدثة لم يسلكها السلف والناس متنازعون في صحتها فكيف يقولون إن العلم بالصانع والعلم بحدوث العالم موقوف عليها
وقالوا بل هذه الطريقة تنافى العلم بإثبات الصانع وكونه خالقا للعالم آمرا بالشرائع مرسلا للرسل فالذين ابتدعوها من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم قالوا إنها صحيحة في العقل وإن العلم بالنبوة وصحة دين الإسلام لايتم إلا بها
وقولهم إن العلم بذلك لا يتم إلا بها مما أنكره عليهم جماهير الأمة من الأولين والآخرين لا سيما السلف والأئمة وكلامهم في تبديع أهل هذا الكلام وذمه وذم أهله ونسبتهم إلى الجهل وعدم العلم من الأمور المتواترة عن السلف
وكذلك القول بصحتها من جهة العقل هو مما أنكره جمهور أئمة الأمة لكن سلم ذلك طوائف من الكرامية والكلابية وغيرهم ونازعوهم في موجب هذه الطريق ونازعوهم أيضا في توقف صحة دين الإسلام عليها كما ذكر ذلك غير واحد مثل ما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب وذكره الخطابي

وأبو عمر الطلمنكي الأندلسي والقاضي أبو يعلى وغير واحد
وأما أئمة السنة وطوائف من أهل الكلام فبينوا أن هذه طريقة باطلة في العقل أيضا وأنها تنافى صحة دين الإسلام فضلا عن أن تكون شرطا في العلم به وأين اللازم لدين الإسلام من المنافي له
وبينوا أن تقدير ذات لم تزل غير فاعلة ولا متكلمة بمشيئتها وقدرتها ثم حدوث ما يحدث من مفعولات مثل كلام مؤلف منظوم وأعيان وغير ذلك بدون سبب حادث مما يعلم بطلانه بصريح المعقول وهو مناقض لكونه سبحانه خلق السماوات والأرض ولكون القرآن كلام الله وغير ذلك مما أخبر به الرسل بل حقيقته أن الرب لم يفعل شيئا ولم يتكلم بشيء لامتناع ما ذكروه من أن يكون فعالا أو مقالا له كما قد بسط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على مجامع الطرق والمقالات
قالت النفاة فإذا كانت طرقنا في إثبات العلم بالصانع وحدوث السماوات والأرض وإثبات العلم بالنبوة طرقا باطلة فما الطريق إلى ذلك
قالوا أولا لا يجب علينا في هذا المقام بيان ذلك بل المقصود ههنا أن هذه طريق محدثة مبتدعة يعلم أنها ليست هي

الطريق التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فيمتنع أن تكون واجبة أو يكون العلم الواجب أو الإيمان بصدقة موقوفا عليها
وقالوا كل من العلم بالصانع وحدوث العالم له طرق كثيرة متعددة
أما إثبات الصانع فطرقه لا تحصى بل الذي عليه جمهور العلماء أن الإقرار بالصانع فطري ضروري مغروز في الجبلة ولهذا كانت دعوة عامة الرسل إلى عبادة الله وحده لا شريك له وكان عامة الأمة مقرين بالصانع مع إشراكهم به بعبادة ما دونه والذين أظهروا إنكار الصانع كفرعون خاطبتهم الرسل خطاب من يعرف أنه حق كقول موسى لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر سورة الإسراء 102 ولما قال فرعون وما رب العالمين سورة الشعراء 23 قال له موسى رب السموات والأرض إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون سورة الشعراء 24 28

ولما قال فرعون فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى سورة طه 49 50 فكان جواب موسى له جوابا للمتجاهل الذي يظهر أنه لا يعرف الحق وهو معروف عنده فإن سؤال فرعون بقوله وما رب العالمين استفهام إنكار لوجوده ليس هو استفهام طلب لتعريف ما هيته كما ظن ذلك بعض المتأخرين وقالوا إن فرعون طالبه ببيان الماهية فعدل عن ذلك لامتناع الجواب بذكرها فإن هذا غلط منهم فإن فرعون لم يكن مفرا بالصانع ألبته بل كان جاحدا له وكان استفهامه استفهام إنكار لوجوده ولهذا قال ما علمت لكم من إله غيري سورة القصص 38 وقال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات 24 ولو كان مقرا بوجوده طالبا لمعرفة ما هيته لم يقل هذا ولكان موسى ما أجابه إجابة لم تذكر فيها ماهيته
ومع أن القول بأن الماهية هي ما يقوله المنطقيون من ذكر الذاتي المشترك والذاتي المميز وهما الجنس والفصل كلام باطل قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وبين أن الماهية المغايرة للوجود الخارجي إنما هي ما يتصور في الذهن فإن ما في الأذهان من الصور الذهنية ليس هو نفس الموجودات الخارجية
وأما دعوى أهل المنطق اليوناني أن في الخارج ماهية ووجودا غير

الماهية وأن الصفات اللازمة تنقسم إلى لازمة مقومة داخلة في الماهية ومفارقة عرضية لها غير مقومة وإلى لازمة لوجودها الخارجي دون ماهيتها الخارجية فكلام باطل من وجوه متعددة كما قد بسط هذا في موضعه وبين أن الصفات تنقسم إلى لازمة للموصوف وعارضة له فقط كما عليه نظار المسلمين من جميع الطوائف وبين كلام نظار المسلمين في الحد والبرهان وأن كلامهم في صريح المعقول أصح من كلام المتفلسفة اليونان ومن اتبعهم من المتسبين إلى الملل
وأيضا فنفس حدوث الإنسان يعلم به صانعه وكذلك حدوث كل ما يشاهد حدوثه وهذه الطريقة مذكورة في القرآن
وأيضا فالوجود يستلزم إثبات موجد قديم واجب بنفسه ونحن نعلم أن من الموجودات ما هو حادث فقد علم بالضرورة انقسام الموجود إلى قديم بنفسه وإلى محدث
وأما حدوث العالم فيمكن علمه بالسمع وبالعقل فإنه يمكن العلم بالصانع إما بالضرورة والفطرة وإما بمشاهدة حدوث المحدثات

وإما بغير ذلك ثم يعلم صدق الرسول بالطرق الدالة على ذلك وهي كثيرة ودلالة المعجزات طريق من الطرق وطريق التصديق لا تنحصر في المعجزات ثم يعلم بخبر الرسول حدوث العالم
وأما بالعقل فيعلم أن العالم لو كان قديما لكان إما واجبا بنفسه وهذا باطل كما تقدم التنبيه عليه من أن كل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه وإما واجبا بغيره فيكون المقتضى له موجبا بذاته بمعنى أنه مستلزم لمقتضاه سواء كان شاعرا مريدا أم لم يكن فإن القديم الأزلي إذا قدر انه معلول مفعول فلا بد من أن تكون علة تامة مقتضية له في الأزل وهذا هو الموجب بذاته ولو كان مبدعة موجبا بذاته علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله ومقتضاه والحوادث مشهودة في العالم فعلم أن فاعله ليس علة تامة وإذا لم يكن علة تامة لم يكن قديما
وهذه الحوادث التي في العالم إن قيل إنها من لوازمه امتنع أن

تكون العلة الأزلية التامة علة للملزوم دون لازمه وامتنع أيضا أن يكون علة للازمه لأن العلة التامة الأزلية لا تقتضي حدوث شيء وإن لم تكن الحوادث من لوازمه كانت حادثة بعد أن لم تكن فإن لم يكن لها محدث لزم حدوث الحوادث بلا محدث وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة وإن كان لها محدث غير الواجب بنفسه كان القول في حدوث إحداثه إياها كالقول في ذلك المحدث وإن كان الواجب بنفسه هو المحدث فقد حدثت عنه الحوادث بعد أن لم تكن حادثة وحينئذ فيكون قد تغير وصار محلا للحوادث بعد أن لم يكن والعلة التامة الأزلية لا يجوز عليها التغير والإنتقال من حال إلى حال وذلك لأن تغيرها لا بد أن يكون بسبب حادث والعلة التامة الأزلية لا يجوز أن يحدث فيها حادث فإنه إن حدث بها مع أنه لم يتجدد شيء لزم الحدوث بلا سبب وإن لم يحدث بها لزم حدوث الحوادث بلا فاعل فبطل أن تكون علة تامة أزلية وإن جوز مجوز عليها الإنتقال من حال إلى حال جاز أن يحدث العالم بعد أن لم يكن فبطل حجة من يقول بقدم العالم

وأيضا فإنه على هذا التقدير لا يكون المنتقل من حال إلى حال إلا فاعلا بالإختيار لا موجبا بالذات وإيضاح هذا أن الحوادث إما أن يجوز دوامها لا إلى أول وإما أن يجب أن يكون لها أول فإن وجب أن يكون أول بطل مذهب القائلين بقدم العالم القائلين بأن حركات الأفلاك أزلية
وأيضا فإذا وجب أن يكون لها أول لزم حدوث العالم لأنه متضمن للحوادث فإنه إما أن يكون مستلزما للحوادث أو تكون عارضة له فإن كان مستلزما لها ثبت أنه لا يخلوا عنها فإذا كان لها ابتداء كان له ابتداء لازما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها ولا يتقدم عليها فإذا قدر أن الحوادث كلها كائنة بعد أن لم يكن حادث أصلا كان المقرون بها الذي لم يتقدمها كائنا بعد أن لم يكن قطعا وإن كانت الحوادث عارضة للعالم ثبت حدوث الحوادث بلا سبب وإذا جاز حدوث الحوادث كلها بلا سبب حادث جاز حدوث العالم بلا سبب حادث فبطلت كل حجة توجب قدمه وكان القائل بقدمه قائلا بلا حجة أصلا

وإذا قيل يجوز أن يكون العالم قديما عن علته بلا حادث فيه ثم حدثت فيه الحوادث كان هذا باطلا لأنه إذا جاز أن يحدثنا بعد أن لم يكن محدثا لم يكن موجبا بل فاعلا باختياره ومشيئته والفاعل باختياره ومشيئته لا يقارنه مفعوله كما قد بسط في موضعه
ولأنه على هذا يجب أن يقارنه القديم من مفعولاته ويجب أن يبقى معطلا عن الفعل إلى أن يحدث الحوادث فإيجاب تعطيله وإيجاب فعله جمع بين الضدين وتخصيص بلا مخصص فإنه بذاته إما أن يجب أن يكون فاعلا في الأزل وإما أن يمتنع كونه فاعلا في الأزل وإما أن يجوز الأمران
فإن وجب كونه فاعلا في الأزل جاز حدوث الحوادث في الأزل ووجب أن لا يكون لها ابتداء والتقدير أن لها ابتداء وإن امتنع كونه فاعلا في الأزل امتنع أن يكون شيء قديم في الأزل غيره فلا يجوز قدم العالم خاليا عن الحوادث ولا مع الحوادث

وإن جاز أن يكون فاعلا في الأزل وجاز أن لا يكون لم يمتنع أن يكون فاعلا في الأزل فجاز حدوث الحوادث في الأزل
وإن قيل بل يكون فاعلا لغير الحوادث ثم يحدث الحوادث فيما لا يزال كما يقوله من يقول بقدم العقول والنفوس وأن الأجسام حدثت عن بعض ما حدث للنفس من التصورات والإرادات وكما يقوله من يقول بقدم القدماء الخمسة كان هذا من أفسد الأقوال لأنه يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب حادث أوجب حدوثها إذلم يكن هناك ما يقتضى تجدد إحداث الحوادث مع أن قول القائل بقدم النفس يقتضى دوام حدوث الحوادث فإن ما يحدث من تصورات النفس وإراداتها حوادث دائمة عندهم وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب حادث لم يكن هناك سبب يدل على قدم شيء من العالم والذين قالوا بدوام معلول معين عنه التزموا دوام الفاعلية فرارا من هذا المحذور فإذا كان هذا لازما لهم على التقديرين لم يكن لهم حاجة إلى ذلك الممتنع عند جماهير العقلاء

ففي الجملة جواز كونه فاعلا في الأزل يستلزم جواز حدوث الحوادث في الأزل ولهذا لم يعرف من قال بكونه فاعلا في الأزل مع امتناع دوام الحوادث فإن القائلين بحدوث الأجسام عن تصور من تصورات النفس يقولون بدوام الحوادث في النفس والقائلين بالقدماء الخمسة لا يقولون إنه فاعل لها في الأزل بل يقولون إنها واجبة بنفسها هذا هو المحكي عنهم وقد يقولون إنها معلولة له لا مفعولة له
فإذا قدر أنه فاعل للعالم في الأزل وقدر امتناع الحدوث في الأزل جمع بين وجوب كونه فاعلا وامتناع كونه فاعلا
وإذا قيل يفعل ما هو قديم ولا يفعل ما هو حادث
قيل فعلى هذا التقدير يجوز تغيير القديم لأن التقدير ان المعلول القديم حدثت فيه الحوادث بعد أن لم تكن بلا سبب حادث والمعلول القديم لا يجوز تغييره فإنه يقتضي تغيير علته التامة الأزلية الموجبة له ثم على هذا التقدير المتضمن إثبات قديم معلول لله أو إثبات قدماء معلولة عن الله مع حدوث الحوادث الدائمة في ذلك القديم أو مع تجدد حدوث الحوادث فيها هو قول بحدوث هذا

العالم كما يذكر ذلك عن ديمقراطيس ومحمد بن زكريا الرازي وغيرهما وهذا مبسوط في موضعه وكما هو قول من يقول بحدوث الأجسام كلها والرازي قد يجعل القولين قولا واحدا كما أشار إلى ذلك في محصله وغير محصله وذلك أن المعروف عن الحرنانيين هو القول بالقدماء الخمسة ثم بنوا عليه تصور النفس وقد حدث لها عشق تعلقت بسببه بالهيولي ليكون للأجسام سبب اقتضى حدوثها لكنه مع هذا باطل فإن حدوث الحوادث بلا سبب إن كان ممتنعا بطل هذا القول لأنه يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب وإذا كانت أحوال الفاعل واحدة وهو لا يقوم به شيء من الأمور الإختيارية امتنع أن يختص بعض الأحوال بسبب يقتضى حدوث الأجسام وإن

كان ممكنا أمكن حدوث كل ما سوى الله بعد أن لم يكن وكانت هذه القدماء مما يجوز حدوثه
وأيضا فعلى هذا القول يكون موجبا بذاته لمعلولاته ثم يصير فاعلا بالإختيار لغيرها والقول بأحد القولين يناقض الآخر
وإن قيل إن الحوادث يجوز دوامها امتنع أن تكون علة أزلية لشيء منها والعالم لا يخلو منها على هذا التقدير بل هو مستلزم لها فيمتنع أن يكون علة تامة لها في الأزل ويمتنع أن يكون علة للملزوم دون لازمه
وأيضا فإن كل ما سوى الواجب يمكن وجوده وعدمه وكل ما كان كذلك فإنه لا يكون إلا موجودا بعد عدمه
وأيضا فإن القول بأن المفعول المعين يقارن فاعله أزلا وأبدا مما يعلم بطلانه بضرورة العقل ولهذا كان هذا مما اتفق عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين حتى أرسطو وأصحابه القدماء ومن اتبعه من المتأخرين فإنهم متفقون على أن كل ما أمكن وجوده وعدمه لا يكون

إلا محدثا مسبوقا بالعدم وإنما أثبت ممكنا قديما ابن سينا ومن وافقه وقد أنكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة وبينوا أنه خالف في ذلك قول سلفه كما ذكر ذلك ابن رشد وغيره وكذلك عامة العقلاء من جميع الطوائف متفقون على أن كل ما يقال إنه مفعول أو مبدع أو مصنوع لا يكون إلا محدثا
ولهذا كان جماهير العقلاء إذا تصوروا أنه خلق السماوات والأرض تصوروا أنه أحدثها لا يتصور في عقولهم أن تكون مخلوقة قديمة وإن عبر عن ذلك بعبارات أخر مثل أن يقال هي مبدعة قديمة أو مفعولة قديمة ونحو ذلك بل هذا وهذا جمع بين الضدين عند عامة العقلاء وما يذكره من يثبت مقارنة المفعول لفاعله من قولهم حركت يدي فتحرك الخاتم ونحوه تمثيل غير مطابق لأنه ليس في شيء مما يذكرونه علة فاعلة تقدمت على المعلول المفعول وإنما الذي تقدم في اللفظ شرط أو سبب كالشرط ومثل ذلك يجوز أن يقارن المشروط هذا إذا سلم مقارنة الثاني للأول وإلا ففي كثير مما يذكرونه يكون متأخرا عنه مع اتصاله به كأجزاء الزمان بعضها مع بعض هو متصل بعضها ببعض مع التأخر
وأما ما ذكره الرازي في محصله وغير محصله حيث قال اتفق المتكلمون على أن القديم يمتنع استناده إلى الفاعل واتفقت

الفلاسفة على أنه غير ممتنع زمانا فإن العالم قديم عندهم زمانا مع أنه فعل الله تعالى
فيقال
أما نقله عن المتكلمين فصحيح وهو قول جماهير العقلاء من جميع الطوائف وأما نقله عن الفلاسفة فهو قول طائفة منهم كابن سينا وليس هو قول جمهورهم لا القائلين بقدم العالم كأرسطو وأتباعه ولا القائلين بحدوث صورته وهم جمهور الفلاسفة فإن القائلين بقدمه لم يكونوا يثبتون له فاعلا مبدعا كما يقوله ابن سينا بل منهم من لا يثبت له علة فاعله وأرسطو يثبت له علة غائية يتشبه بها الفلك لم يثبت علة فاعله كما يقوله ابن سينا وأمثاله وأما من قبل أرسطو فكانوا يقولون بحدوث السماوات كما يقوله أهل الملل
ثم قال الرازي
وعندي أن الخلاف في هذا المقام لفظي لأن المتكلمين يمتنعون من إسناد القديم إلى المؤثر الموجب بالذات وكذلك زعم مثبتو الحال بناء على أن عالمية الله وعلمه قديمان مع أن العالمية والقادرية معللة بالعلم والقدرة وزعم أبو هاشم أن العالمية والقادرية والحيية والموجودية معللة بحال خامسة مع أن الكل

قديم وزعم أبو الحسين أن العالمية حال معللة بالذات وهؤلاء وإن كانوا يمتنعون عن إطلاق لفظ القديم على هذه الأحوال ولكنهم يغطون المعنى في الحقيقة
فيقال
ليس في المتكلمين من يقول بأن المفعول قد يكون قديما سواء كان الفاعل يفعل بمشيئته أو قدر أنه يفعل بذاته بلا مشيئة والصفات اللازمة للموصوف
فإن قيل
إنها قديمة فليست مفعولة عند أحد من العقلاء بل هي لازمة للذات بخلاف المفعولات الممكنة المباينة للفاعل فإن هذا هو المفعول الذي أنكر جمهور العقلاء على من قال بقدمه والمتكلمون وسائر جمهور العقلاء متفقون على أن المفعول لا يكون قديما وإن قدر أنه فاعل بالطبع كما تفعل الأجسام الطبيعية فما ذكره عن المتكلمين فليس بلازم لهم
ثم قال وأما الفلاسفة فإنهم إنما جوزوا إسناد العالم القديم إلى البارئ لكونه عندهم موجبا بالذات حتى لو اعتقدو فيه كونه فاعلا بالإختيار لما جوزوا كونه موجبا للعالم القديم

قال فظهر من هذا اتفاق الكل على جواز إسناد القديم إلى الموجب القديم وامتناع إسناده إلى المختار
فيقال بل الفلاسفة في كونه يفعل بمشيئته على قولين معروفين لهم وأبو البركات وغيره يقولون بأنه فاعل بمشيئته مع قولهم بقدم العالم فتبين أن ما ذكره عن المتكلمين باطل وما ذكره عن الفلاسفة باطل
أما الفلاسفة فعلى قولين وأما المتكلمون فمتفقون على بطلان ما حكاه عنهم أو ألزمهم به بل هم وجمهور العقلاء يقولون يعلم بالضرورة أن كل مفعول فهو محدث ثم كونه مفعولا بالمشيئة أو بالطبع مقام ثان
وليس العلم بكون المفعول محدثا مبنيا على كون الفاعل مريدا فإن الفعل عندهم لا يكون ابتداؤه إلا من قادر مريد لكن هذه قضية قائمة بنفسها وهذه قضية قائمة بنفسها وكل منهما دليل على حدوث كل ما سوى الله وهما أيضا قضيتان متلازمتان
وهذه الأمور لبسطها موضع آخر ولكن المقصود هنا أن المبطلين لأصول الجهمية والمعتزلة من أهل السنة والشيعة وغيرهم يقولون بهذه

الطرق فهذه الطرق وغيرها مما يبين به حدوث كل ما سوى الله تعالى سواء قيل بأن كل حادث مسبوق بحادث أو لم يقل
وأيضا فما يقوله قدماء الشيعة والكرامية ونحوهم لهؤلاء أن يقولوا نحن علمنا أن العالم مخلوق بما فيه من آثار الحاجة كما قد تبين قبل هذا أن كل جزء من العالم محتاج فلا يكون واجبا بنفسه فيكون مفتقرا إلى الصانع فثبت الصانع بهذا الطريق
ثم يقولوا ويمتنع وجود حوادث لا أول لها فثبت حدوثه بهذا الطريق
ولهذا كان محمد بن الهيصم ومن وافقه كالقاضي أبي خازم بن

القاضي أبي يعلى في كتابه المسمى بالتلخيص لا يسلكون في إثبات الصانع الطريق التي يسلكها أولئك المعتزلة ومن وافقهم حيث يثبتون أولا حدوث العالم بحدوث الأجسام ويجعلون ذلك هو الطريق إلى إثبات الصانع بل يبتدئون بإثبات الصانع ثم يثبتون حدوث العالم بتناهي الحوادث ولا يحتاجون أن يقولوا كل جسم محدث
وبالجملة فالتقديرات أربعة فإن الحوادث إما أن يجوز دوامها وإما أن يمتنع دوامها ويجب أن يكون لها ابتداء وعلى التقديرين

فإما أن يكون كل جسم محدثا وإما أن لا يكون وقد قال بكل قول طائفة من أهل القبلة وغيرهم
وكل هؤلاء يقولون بحدوث الأفلاك وأن الله أحدثها بعد عدمها ليس فيهم من يقول بقدمها فإن ذلك قول الدهرية سواء قالوا مع ذلك بإثبات عالم معقول كالعلة الأولى كما يقوله الإلهيون منهم أو لم يقولوا بذلك كما يقوله الطبيعيون منهم وسواء قالوا إن تلك العلة الأولى هي علة غائية بمعنى أن الفلك يتحرك للتشبه بها كما هو قول أرسطو وأتباعه أو قالوا إنها علة مبدعة للعالم كما يقوله ابن سينا وأمثاله أو قيل بالقدماء الخمسة كما يقوله الحرنانيون ونحوهم أو قيل بعدم صانع لها سواء قيل بوجوب ثبوت وجودها أو حدوثها لا بنفسها أو وجوب وجود المادة وحدوث الصورة بلا محدث كما يذكر عن الدهرية المحضة منهم
مع أن كثيرا من الناس يقولون إن هذه الأقوال من جنس أقوال السوفسطائية التي لا تعرف عن قوم معينين وإنما هي شيء يخطر لبعض الناس في بعض الأحوال

وإذا كان كذلك فقد تبين أنه ليس لهذا الإمامي وأمثاله من متأخري الإمامية والمعتزلة وموافقيهم حجة عقلية على بطلان قول إخوانهم من متقدمي الإمامية وموافقيهم الذين نازعوهم في مسائل الصفات والقرآن وما يتبع ذلك فكيف يكون حالهم مع أهل السنة الذين هم أصح عقلا ونقلا - فصل
وأما قوله عن الإمامية
إنهم يقولون إنه قادر على جميع المقدرات
فهذا ملبس لا فائدة فيه فإن قول القائل إنه قادر على جميع المقدورات يراد به شيئان
أحدهما أنه قادر على كل ممكن فإن كل ممكن هو مقدور بمعنى أنه يقدر القادر على فعله

والثاني أن يراد به أنه قادر على كل ما هو مقدور له لا يقدر على ما ليس بمقدور له
والمعنى الأول هو مراد أهل السنة المثبتين للقدر إذا قالوا هو قادر على كل مقدور فإنهم يقولون إن الله قادر على كل ما يمكن أن يكون مقدورا لأي قادر كان فما من أمر ممكن في نفسه إلا والله قادر عليه لا يتصور عندهم أن يقدر العباد على ما لم يقدر الله عليه وهذا معنى قوله تعالى إنه على كل شيء قدير سورة فصلت 39
فأما الممتنع لنفسه فإنه ليس بشيء عند عامة العقلاء وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا
فأما الممتنع فلم يقل أحد إنه شيء ثابت في الخارج فإن الممتنع هو ما لا يمكن وجوده في الخارج مثل كون الشيء موجودا معدوما فإن هذا ممتنع لذاته لا يعقل ثبوته في الخارج وكذلك كون الشيء أسود كله أبيض كله وكون الجسم الواحد بعينه في الوقت الواحد في مكانين
والممتنع يقال على الممتنع لنفسه مثل هذه الأمور وعلى الممتنع لغيره مثل ما علم الله تعالى أنه لا يكون وأخبر أنه لا يكون وكتب أنه لا يكون فهذا لا يكون
وقد يقال إنه يمتنع أن يكون لأنه لو كان للزم أن يكون علم الله بخلاف معلومه وخبره بخلاف مخبره لكن هذا هو ممكن في نفسه والله قادر عليه كما قال بلى قادرين على أن نسوي بنانه سورة القيامة 4 وقال تعالى وإنا على ذهاب به لقادرون سورة

المؤمنون 18 وقال تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو بلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض سورة الأنعام 65
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هاتان أهون
ومن ذلك قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها سورة السجدة 13 ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة سورة هو 118 ولو شاء الله ما اقتتلوا سورة البقرة 253 إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء سورة سبأ 9 وأمثال ذلك مما أخبر الله تعالى أنه لو شاء لفعله فإه هذه الأمور التي أخبر الله أنه لو شاء لفعلها تستلزم أنها ممكنة مقدورة له
وقد تنازع الناس في خلاف المعلوم هل هو ممكن مقدور كإيمان

الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن والذين زعموا أن الله يكلف العبد ما هو ممتنع احتجوا بتكليفه وزعموا أن إيمانه ممتنع لاستلزامه انقلاب علم الله جهلا
وجوابهم أن لفظ الممتنع مجمل يراد به الممتنع لنفسه ويراد به ما يمتنع لوجود غيره فهذا الثاني يوصف بأنه ممكن مقدور بخلاف الأول وإيمان من علم الله أنه لا يؤمن مقدور له لكنه لا يقع وقد علم الله أنه لا يؤمن مع كونه مستطيع الإيمان كمن علم أنه لا يحج مع استطاعته الحج
ومن الناس من يدعى أن الممتنع لذاته مقدور ومنهم من يدعى إمكان أمور يعلم بالعقل امتناعها وغالب هؤلاء لا يتصور ما يقوله حق التصور أو لا يفهم ما يريده الناس بتلك العبارة فيقع الإشتراك والإشتباه في اللفظ أو في المعنى
وحقيقة الأمر ما أخبر الله به في غير موضع من كتابه أنه على كل شيء قدير كما تقدم بيانه وهذا مذهب أهل السنة المثبتين للقدر
وأما القدرية من الإمامية والمعتزلة وغيرهم فإذا قالوا إنه قادر على كل المقدورات لم يريدوا بذلك ما يريده أهل الإثبات وإنما يريدون بذلك أنه قادر على كل ما هو مقدور له وأما نفس أفعال العباد من الملائكة والجن والإنس فإن الله لا يقدر عليها عند القدرية وإنما تنازعوا هل يقدر على مثلها
وإذا كان كذلك كان قولهم إنه قادر على كل مقدور إنما يتضمن

أنه قادر على كل ما هو مقدور له وغيره أيضا هو قادر على كل مقدور له لكن غاية ما يقولون إنه قادر على مثل مقدور العباد والعبد لا يقدر على مثل مقدور قادر آخر
وبكل حال فإذا كان المراد أنه قادر على ما هو مقدور له كان هذا بمنزلة أن يقال هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها مثل أن يقول القائل إنه فاعل لجميع المفعولات ومثل أن يقال زيد عالم بكل ما يعلمه وقادر على كل ما يقدر عليه وفاعل لكل ما يفعله
فإن الشأن في بيان المقدورات هل هو على كل شيء قدير فمذهب هؤلاء الإمامية وشيوخهم القدرية أنه ليس على كل شيء قديرا وأن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه ولا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا ولا يقيم قاعدا باختياره ولا يقعد قائما باختياره ولا يجعل أحدا مسلما مصليا ولا صائما ولا حاجا ولا معتمرا ولا

يجعل الإنسان لا مؤمنا ولا كافرا ولا برا ولا فاجرا ولا يخلقه هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا فهذه الأمور كلها ممكنة ليس فيها ما هو ممتنع لذاته وعندهم أن الله لا يقدر على شيء منها فظهر تمويههم بقولهم إن الله قادر على جميع المقدورات
وأما أهل السنة فعندهم أن الله تعالى على كل شيء قدير وكل ممكن فهو مندرج في هذا
وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما فهذا لا حقيقة له ولا يتصور وجوده ولا يسمى شيئا باتفاق العقلاء ومن هذا الباب خلق مثل نفسه وأمثال ذلك

وأما قوله
إنه عدل حكيم لا يظلم أحدا ولا يفعل القبيح وإلا لزم الجهل أو الحاجة تعالى الله عنهما
فيقال له
هذا متفق عليه بين المسلمين من حيث الجملة أن الله لا يفعل قبيحا ولا يظلم أحدا ولكن النزاع في تفسير ذلك فهو إذا كان خالقا لأفعال العباد هل يقال إنه فعل ما هو قبيح منه وظلم أم لا
فأهل السنة المثبتون للقدر يقولون ليس هو بذلك ظالما ولا فاعلا قبيحا والقدرية يقولون لو كان خالقا لأفعال العباد كان ظالما فاعلا لما هو قبيح منه
وأما كون الفعل قبيحا من فاعله فلا يقتضى أن يكون قبيحا من خالقه كما أن كونه أكلا وشربا لفاعله لا يقتضى أن يكون كذلك لخالقه لأن الخالق خلقه في غيره لم يقم بذاته فالمتصف به من قام به الفعل لا من خلقه في غيره كما أنه إذا خلق لغيره لونا وريحا وحركة وقدرة وعلما

كان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون والريح والحركة والقدرة والعلم فهو المتحرك بتلك الحركة والمتلون بذلك اللون والعالم بذلك العلم والقادر بتلك القدرة فكذلك إذا خلق في غيره كلاما أو صلاة أو صياما أو طوافا كان ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام وهو المصلي وهو الصائم وهو الطائف
وكذلك إذا خلق في غيره رائحة خبيثة منتنة كان هو الخبيث المنتن ولم يكن الرب تعالى موصوفا بما خلقه في غيره وإذا خلق الإنسان هلوعا جزوعا كما أخبر تعالى بقوله إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا سورة المعارج 19 21 لم يكن هو سبحانه لا هلوعا ولا جزوعا ولا منوعا كما تزعم القدرية أنه إذا جعل الإنسان ظالما كاذبا كان هو ظالما كاذبا تعالى عن ذلك
وهذا يدل على قول جماهير المثبتين للقدر القائلين بأنه خالق أفعال العباد فإنهم يقولون إن الله تعالى خالق العبد وجميع ما يقوم به من إرادته وقدرته وحركاته وغير ذلك
وذهبت طائفة منهم من الكرامية وغيرهم كالقاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى إلى أن معنى كونه خالقا لأفعال العباد أنه خالق

للأسباب التي عندها يكون العبد فاعلا ويمتنع ألا يكون فاعلا فما علم الله أن العبد يفعله خلق الأسباب التي يصير بها فاعلا ويقولون إن أفعال العباد وجدت من جهته لا من جهة الله ويقولون إن الله تعالى موجدها كما قالوا إن الله خالقها ويقولون إنه لم يكونها ولم يجعلها ويقولون إن العبد تحدث له إرادة مكتسبة لكن قد يقولون إنها بإرادة ضرورية يخلقها الله كما ذكر ذلك القاضي أبو خازم وغيره وقد يقولون بل العبد يحدث إرادته مطلقا كما قالته القدرية لكن هؤلاء يقولون إن الرب يسر خلق الأسباب التي تبعث داعية على إيقاع ما يعلم أنه يوقعه
ولكن على قول الجمهور من قال إن الفعل هو المفعول كما يقوله الجهم بن صفوان ومن وافقه كالأشعري وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقول إن أفعال العباد هي فعل الله
فإن قال أيضا وهي فعل لهم لزمه أن يكون الفعل الواحد لفاعلين كما يحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني وإن لم يقل هي فعل لهم

لزمه أن تكون أفعال العباد فعلا لله لا لعباده كما يقوله جهم بن صفوان والأشعري ومن وافقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم الذين يقولون إن الخلق هو المخلوق وإن أفعال العباد خلق لله تعالى فتكون هي فعل الله وهي مفعول الله كما أنها خلقه وهي مخلوقة
وهؤلاء لا يقولون إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة ولكن هم مكتسبون لها وإذا طولبوا بالفرق بين الفعل والكسب لم يذكروا فرقا معقولا ولهذا كان يقال عجائب الكلام ثلاثة أحوال أبي هاشم وطفرة النظام وكسب الأشعري

وهذا الذي ينكره الأئمة وجمهور العقلاء ويقولون إنه مكابرة للحس ومخالفة للشرع والعقل
وأما جمهور أهل السنة المتبعون للسلف والأئمة فيقولون إن فعل العبد فعل له حقيقة ولكنه مخلوق لله ومفعول لله لا يقولون هو نفس فعل الله ويفرقون بين الخلق والمخلوق والفعل والمفعول
وهذا الفرق الذي حكاه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد عن العلماء قاطبة وهو الذي ذكره غير واحد من السلف والأئمة وهو قول الحنفية وجمهور المالكية والشافعية والحنبلية وحكاه البغوي عن أهل السنة قاطبة وحكاه الكلاباذي صاحب التعرف لمذهب التصوف عن جميع الصوفية وهو قول أكثر طوائف أهل الكلام من الهشامية

وكثير من المعتزلة والكرامية وهو قول الكلابية أيضا أئمة الأشعرية فيما ذكره أبو علي الثقفي وغيره على قول الكرامية وأثبتوا لله فعلا قائما بذاته غير المفعول كما أثبتوا له إرادة قديمة قائمة بذاته وذكر سائر الإعتقاد الذي صنفوه لما جرى بينهم وبين ابن خزيمة نزاع في مسألة القرآن لكن ما أدري هل ذلك قول ابن كلاب نفسه أو قالوه هم بناء على هذا الأصل المستقر عندهم
ثم القدر فيه نزاع بين الإمامية كما بينهم النزاع في الصفات
قال أبو الحسن الأشعري في المقالات واختلفت الرافضة في أعمال العباد هل هي مخلوقة وهي ثلاث فرق
فالفرقة الأولى منهم وهم هشام بن الحكم

يزعمون أن أعمال العباد مخلوقة لله
قال
وحكى جعفر بن حرب عن هشام بن الحكم أنه كان يقول إن أفعال الإنسان اختيار له من وجه اضطرار له من وجه اختيار له من وجه أنه أرادها واكتسبها واضطرار من جهة أنها لا تكون منه إلا عند حدوث السبب المهيج عليه
قال
والفرقة الثانية منهم يزعمون أن لا جبر كما قال الجهمي ولا تفويض كما قالت المعتزلة لأن الرواية عن الأئمة زعموا جاءت بذلك ولم يتكلفوا أن يقولوا في أفعال العباد هل هي مخلوقة أم لا شيئا
والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن أعمال العباد غير

مخلوقة لله وهذا قول قوم يقولون بالإعتزال والإمامة
فإذن كانت الإمامية على ثلاثة أقوال منهم من يوافق المثبتة ومنهم من يوافق المعتزلة ومنهم من يقف
والواقفة معنى قولهم هو معنى قول أهل السنة ولكن توقفوا في إطلاق اللفظ فإن أهل السنة لا يقولون بالتفويض كما تقول القدرية ولا بالجبر كما تقول الجهمية بل أئمة السنة كالأوزاعي والثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم متفقون على إنكار قول الجبرية المأثور عن جهم بن صفوان وأتباعه وإن كان الأشعري يقول بأكثره وينفى الأسباب والحكم فالسلف مثبتون للأسباب والحكمة
والمقصود أن الإمامية إذا كان لهم قولان كانوا متنازعين في ذلك كتنازع سائر الناس لكنهم فرع على غيرهم في هذا وغيره فإن مثبتيهم تبع للمثبتة ونفاتهم تبع للنفاة إلا ما اختصوا به من افتراء الرافضة فإن الكذب والجهل والتكذيب بالحق الذي اختصوا به لم يشركهم فيه أحد من طوائف الأمة وأما ما يتكلمون به في سائر مسائل

العلم أصوله وفروعه فهم فيه تبع لغيرهم من الطوائف يستعيرون كلام الناس فيتكلمون به وما فيه من حق فهو من أهل السنة لا ينفردون عنهم بمسألة واحدة صحيحة لا في الأصول ولا في الفروع إذ كان مبدأ بدعة القوم من قوم منافقين لا مؤمنين
وحينئذ فهذا النافي يناظر أصحابه في ذلك وهو لم يذكر حجة وقد تقدم تفصيل مذاهب أهل السنة في ذلك وقد ذكر أصحابه عن الأئمة ما يخالف قوله في ذلك
وأما قوله
إن الله يثيب المطيع ويعفو عن العاصي أو يعذبه
فهذا مذهب أهل السنة الخاصة وسائر من انتسب إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية وسائر فرق الأمة من المرجئة وغيرهم والخلاف في ذلك مع الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار
وأما الشيعة فالزيدية منهم أو أكثر الزيدية تقول بقول المعتزلة في ذلك والإمامية على قولين

قال الأشعري
وأجمعت الزيدية أن أصحاب الكبائر كلهم معذبون في النار خالدون فيها مخلدون أبدا لا يخرجون منها ولا يغيبون عنها
قال
واختلفت الروافض في الوعيد وهم فرقتان
فالفرقة الأولى منهم يثبتون الوعيد على مخالفيهم ويقولون إنهم يعذبون ولا يقولون بإثبات الوعيد فيمن قال بقولهم ويزعمون أن الله يدخلهم الجنة وإن أدخلهم النار أخرجهم منها ورووا في ذلك عن أئمتهم أن ما كان بين الله وبين الشيعة من المعاصي سألوا الله فيهم فصفح عنهم وما كان بين الشيعة وبين الأئمة تجاوزوا عنه وما كان بين الشيعة وبين الناس من المظالم شفعوا لهم أئمتهم حتى يصفحوا عنهم

قال
والفرقة الثانية منهم يذهبون إلى إثبات الوعيد وأن الله
تعالى يعذب كل مرتكب للكبائر من أهل مقالتهم كان أو من غير أهل مقالتهم ويخلدهم في النار
وهذا قول أئمة هذا الإمامي من المعتزلة ونحوهم
وأما قوله
ويثيب المطيع لئلا يكون ظالما فقد قدمنا أن للمثبتين للقدر في تفسير الظلم الذي يجب تنزيه الله عنه قولين
أحدهما أن الظلم هو الممتنع لذاته وهو المحال لذاته وإن كان ما يمكن أن يكون فالرب قادر عليه وكل ما كان قادرا عليه لا يكون ظالما وهذا قول الجهم والأشعري وموافقيهما وقول كثير من السلف والخلف أهل السنة والحديث
ويروى عن إياس بن معاوية قال ما ناظرت بعقلي كله إلا القدرية

قلت لهم أخبروني عن الظلم ماهو قالوا التصرف في ملك غيره قلت فلله كل شيء
وهذا قول كثير من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"