بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 1 أبريل 2010

نبذ من كتاب منهاج السنة النبوية/12

فمن قال إن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفضلا عنه والمريد والمحب والمبغض والراضي والساخط ما تكون إرادته ومحبته وبغضه ورضاه وسخطه بائنا عنه لا يقوم به بحال من الأحوال قال ما لا يعقل ولم يفهم الرسل للناس هذا بل كل من سمع ما بلغته الرسل عن الله يعلم بالضرورة أن الرسل لم ترد بكلام الله ما هو منفضل عن الله وكذلك لم ترد بإرادته ومحبته ورضاه ونحو ذلك ما هو منفضل عنه بل ما هو متصف به
قالت الجهمية والمعتزلة
المتكلم من فعل الكلام والله تعالى لما أحدث الكلام في غيره صار متكلما
فيقال لهم
للمتأخرين المختلفين هنا ثلاثة أقوال
قيل
المتكلم من فعل الكلام ولو كان منفصلا وهذا إنما قاله هؤلاء
وقيل المتكلم من قام به الكلام ولو لم يكن بفعله ولا هو بمشيئته ولا قدرته وهذا قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم

وقيل المتكلم من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته وقام به الكلام وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من الشيعة والمرجئة والكرامية وغيرهم
فأولئك يقولون هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات والصنف الثاني يقولون صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته والآخرون يقولون هو صفة ذات وصفة فعل وهو قائم به متعلق بمشيئته وقدرته
وإذا كان كذلك فقولهم إنه صفة فعل ينازعهم فيه طائفة وإذا لم ينازعوا في هذا فيقال هب أنه صفة فعل منفصلة عن القائل الفاعل أو قائمة به أما الأول فهو قولكم الفاسد وكيف تكون الصفة غيره قائمة بالموصوف أو القول غير قائم بالقائل
وقول القائل الصفات تنقسم إلى صفة ذات وصفة فعل ويفسر صفة الفعل بما هو بائن عن الرب كلام متناقض كيف يكون صفة للرب وهو لا يقوم به بحال بل هو مخلوق بائن عنه
وهذا وإن كانت الأشعرية قالته تبعا للمعتزلة فهو خطاء في نفسه فإن إثبات صفات الرب وهي مع ذلك مباينة له جمع لين المتناقضين

المتضادين بل حقيقة قول هؤلاء إن الفعل لا يوصف به الرب فإن الفعل هو المخلوق والمخلوق لا يوصف به الخالق ولو كان الفعل الذي هو المفعول صفة له لكانت جميع المخلوقات صفات للرب وهذا لا يقوله عاقل فضلا عن مسلم
فإن قلتم
هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به لأنه لو قام به لقامت به الحوادث
قيل والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل ويقولون كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل ونحن نعقل الفرق بين نفس الخلق والتكوين وبين المخلوق المكون
وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبي حنيفة وهو الذي حكاه البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبدالله بن حامد والقاضي أبي يعلى في آخر قوليه وهو قول أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث وحكاه

البخاري في كتاب خلق أفعال العباد عن العلماء مطلقا وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم
ثم القائلون بقيام فعله به منهم من يقول فعله قديم والمفعول متأخر كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم وهو الذي ذكره الثقفي وغيره من الكلابية لما وقعت المنازعة بينهم وبين ابن خزيمة
ومنهم من يقول بل هو حادث النوع كما يقول ذلك من يقوله من الشيعة والمرجئة والكرامية
ومنهم من يقول هو يقع بمشيئته وقدرته شيئا فشيئا لكنه لم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد
وسائر الطوائف منهم من يقول بل الخلق حادث قائم بالمخلوق كما يقوله هشام بن الحكم وغيره ومنهم من يقول بل هو قائم بنفسه لا في محل كما يقوله أبو الهذيل العلاف وغيره ومنهم من يقول بمعان قائمة بنفسها لا تتناهى كما يقوله معمر بن عباد وغيره

وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون هو قائم بذات الله فيقولون قد جمعنا بين حجتنا وحجتكم فقلنا العدم لا يؤمر ولا ينهى وقلنا الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم
فإن قلتم لنا
قد قلتم بقيام الحوادث بالرب
قالوا لكم
نعم وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجئ فقد ناقض كتاب الله تعالى
ومن قال إنه لم يزل ينادى موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل لأن الله يقول فلما جاءها نودى سورة النمل 8 وقال إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون سورة يس 82 فأتى بالحروف الدالة على الإستقبال
قالوا
وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته وأنه يتكلم إذا شاء وانه يتكلم شيئا بعد شيء فنحن نقول به وما يقول به من يقول إن كلام الله قائم بذاته وإنه صفة له والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به وقد أخذنا

بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما
فإذا قالوا لنا
فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به
قلنا
ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل وهو قول لازم لجميع الطوائف ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته
ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأمراض والنقائص والله تعالى منزه عن ذلك كما نزه نفسه عن السنة والنوم واللغوب وعن أن يؤوده حفظ السماوات والأرض وغير ذلك مما هو منزه عنه بالنص والإجماع
ثم إن كثيرا من نفاة الصفات المعتزلة وغيرهم يجعلون مثل هذا حجة في نفي قيام الصفات أو قيام الحوادث به مطلقا وهو غلط منهم فإن نفى الخاص لا يستلزم نفى العام ولا يجب إذا نفيت عنه النقائص والعيوب أن ينتفي عنه ما هو من صفات الكمال ونعوت الجلال
ولكن يقوم به ما يشاؤه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة

ونحن نقول لمن أنكر قيام ذلك به أتنكره لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ونحو ذلك مما يقوله الكلابية
فإن قال بالأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائما بالمتكلم لا منفصلا عنه كافيا في هذا الباب
وإن كان الثاني قلنا لهؤلاء أتجوزون حدوث الحوادث بلا سبب حادث أم لا فإن جوزتم ذلك وهو قولكم لزم أن يفعل الحوادث من لم يكن فاعلا لها ولا لضدها فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن قائمة به هي ولا ضدها
ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل
فإن قلتم
القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده
قلنا
هذا ممنوع ولا دليل لكم عليه ثم إذا سلم ذلك فهو كقول

القائل القدر على الشيء لا يخلو عن فعله وفعل ضده وأنتم تقولون إنه لم يزل قادرا ولم يكن فاعلا ولا تاركا لأن الترك عندكم أمر وجودي مقدور وأنتم تقولون لم يكن فاعلا لشيء من مقدوراته في الأزل مع كونه قادرا بل تقولون إنه يمتنع وجود مقدوره في الأزل مع كونه قادرا عليه
وإذا كان هذا قولكم فلأن لا يجب وجود المقبول في الأزل بطريق الأولى والأحرى فإن هذا المقبول مقدور لا يوجد إلا بقدرته وأنتم تجوزون وجود قادر مع امتناع مقدوره في حال كونه قادرا
ثم نقول إن كان القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده لزم تسلسل الحوادث وتسلسل الحوادث إن كان ممكنا كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلما إذا شاء كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة
وإن لم يكن جائزا أمكن أن يقوم به الحادث بعد أن لم يكن قائما به كما يفعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلا لها وكان قولنا هو الصحيح فقولكم أنتم باطل على كلا التقديرين
فإن قلتم لنا أنتم توافقونا على امتناع تسلسل الحوادث وهو حجتنا وحجتكم على نفى قدم العالم

قلنا لكم
موافقتنا لكم حجة جدلية وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم وقلنا بأن القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم وأنتم تقولون إن قبل الحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك
قلنا
إن صحت هاتان المقدمتان ونحن لا نقول بموجبهما لزم خطؤنا إما في هذه وإما في هذه وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في قولنا إن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلا على صوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها
أكثر ما في هذا الباب أنا نكون متناقضين والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها وإذا كنا متناقضين فرجوعنا إلى قول نوافق فيه العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول

نخالف فيه العقل والنقل فالقول بأن المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته أو منفصل عنه لا يقوم به مخالف للعقل والنقل بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلا ولا نقلا لكن قد نكون نحن لم نقله بلوازمه فنكون متناقضين وإذا كنا متناقضين كا الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه لا نرجع عن الصواب لنطرد الخطأ فنحن نرجع عن تلك المناقضات ونقول بقول أهل الحديث
فإن قلتم إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية
قلنا بل قولكم إن الرب تعالى لم يزل معطلا لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئا ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل بلا حدوث سبب يقتضى ذلك قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادرا وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعا غير ممكن جمع بين النقيضين فكان فيما عليه

المسلمون من أنه لم يزل قادرا ما يبين أنه لم يزل قادرا على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته
والقول بدوام كونه متكلما ودوام كونه فاعلا بمشيئته منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم وهو منقول عن جعفر ابن محمد الصادق في الأفعال المتعدية فضلا عن اللازمة وهو دوام إحسانه وذلك قوله وقول المسلمين ياقديم الإحسان إن عنى بالقديم قائم به
والفلاسفة الدهرية قالوا بقدم الأفلاك وغيرها من العالم وأن الحوادث فيه لا إلى أول وأن البارئ موجب بذاته للعالم ليس فاعلا بمشيئته وقدرته ولا يتصرف بنفسه
ومعلوم بالإضطرار من دين الرسل أن الله تعالى خالق كل شيء ولا يكون المخلوق إلا محدثا فمن جعل مع الله شيئا قديما بقدمه فقد علم مخالفته لما أخبرت به الرسل مع مخالفته لصريح العقل
وأنتم وافقتموهم على طائفة من باطلهم حيث قلتم إنه لا يتصرف

بنفسه ولا يقوم به أمر يختاره ويقدر عليه بل جعلتموه كالجماد الذي لا تصرف له ولا فعل وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف فيه فوافقتموهم على بعض باطلهم
ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته وأنه قادر على الفعل بنفسه وعلى التكلم بنفسه كيف شاء وقلنا إنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال متكلما إذا شاء فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم ولا نقول إن كلامه شيء واحد أمرى ونهى وخبر وأن معنى التوراة والإنجيل واحد وأن الأمر والنهى صفة لشي واحد فإن هذا مكابرة للعقل ولا نقول إنه أصوات مقطعة متضادة أزلية فإن الأصوات لا تبقى زمانين
وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله لزم أن يكون تكليم الله

للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة ليس إلا مجرد خلق إدراك لهم لما كان أزليا لم يزل
ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فإن هذا وصف له بالكمال بعد النقص وأنه صار محلا للحوادث التي كمل بها بعد نقصه ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب والقول في الثاني كالقول في الأول ففيه تجدد كمال بلا سبب ووصف له بالنقص الدائم من الأزل إلى أن تجدد له ما لا سبب لتجدده وفي ذلك تعطيل له عن صفات الكمال
وأما دوام الحوادث فمعناه هنا دوام كونه متكلما إذا شاء وهذا دوام كماله ونعوت جلاله ودوام أفعاله وبهذا يمكن أن يكون العالم وكل ما فيه مخلوق له حادث بعد أن لم يكن لأنه يكون سبب الحدوث هو ما قام بذاته من كلماته وأفعاله وغير ذلك فيعقل

سبب حدوث الحوادث ويمتنع مع هذا أن يقال بقدم شيء من العالم لأنه لو كان قديما لكان مبدعه موجبا بذاته ليلزمه موجبه ومقتضاه وإذا كان الخالق فاعلا بفعل يقول بنفسه بمشيئته واختياره امتنع أن يكون موجبا بذاته لشي من الأشياء فامتنع قدم شيء من العالم وإذا امتنع من الفاعل المختار أن يفعل شيئا منفصلا عنه مقارنا له مع أنه لا يقوم به فعل اختياري فلأن يمتنع ذلك إذا قام به فعل اختياري بطريق الأولى والأحرى لأنه على هذا التقدير لا يوجد المفعول حتى يوجد الفعل الإختياري الذي حصل بقدرته ومشيئته وعلى التقدير الأول يكفى فيه نفس المشيئة والقدرة والفعل الإختياري
ومعلوم أن ما توقف على المشيئة والقدرة والفعل الإختياري القائم به يكون أولى بالحدوث والتأخر مما لم يتوقف إلا على بعض ذلك
والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وأكثر الناس

لا يعلمون كثيرا من هذه الأقوال ولذلك كثر بينهم القيل والقال وما ذكرناه إشارة إلى مجامع المذاهب
والأصل الذي باين به أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم وسائر أئمة المسلمين للجهمية والمعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات أن الرب تعالى إنما يوصف بما يقوم به لا يوصف بمخلوقاته وهو أصل مطرد عند السلف والجمهور
ولكن المعتزلة استضعفت الأشعرية ومن وافقهم بتناقضهم في هذا الأصل حيث وصفوه بالصفات الفعلية مع أن الفعل لا يقوم به عندهم والأشعري تبع في ذلك للجهمية والمعتزلة الذين نفوا قيام الفعل به لكن أولئك ينفون الصفات أيضا بخلاف الأشعرية
والمعتزلة لهم نزاع في الخلق هل هو المخلوق أو غير المخلوق وإذا قالوا هو غير المخلوق فقد يقولون معنى قائم لا في محل كما تقوله البصريون في الإرادة وقد يقولون معاني لا نهاية لها في آن واحد كما يقوله معمر منهم وأصحابه ويسمون أصحاب المعاني وقد يقولون إنه قائم بالمخلوق
وحجة الأشعري ومن وافقه على أن الخلق هو المخلوق أنهم قالوا لو كان غيره لكان إما قديما وإما محدثا فإن كان قديما لزم قدم المخلوق وهو محال بالإضطرار فيما علم حدوثه بالإضطرار والدليل فيما علم حدوثه بالدليل وإن كان محدثا كان مخلوقا فافتقر الخلق إلى

خلق ثان ولزم التسلسل وأيضا فيلزم قيام الحوادث به وهذا عمدتهم في نفس الأمر
والرازي لم يكن له خبرة بأقوال طوائف المسلمين إلا بقول المعتزلة والأشعرية وبعض أقوال الكرامية والشيعة فلهذا لما ذكر هذه المسألة ذكر خلاف فيها مع فقهاء ما وراء النهر وقول هؤلاء هو قول جماهير طوائف المسلمين
والجمهور لهم في الجواب عن عمدة هؤلاء طرق كل قوم بحسبهم فطائفة قالت بل الخلق الذي هو التكوين والفعل قديم والمكون المفعول محدث لأن الخلق عندهم لا تقوم به الحوادث وهذا قول كثير من هؤلاء من الحنفية والحنبلية والكلابية والصوفية وغيرهم فإذا قالوا لهؤلاء فيلزم قدم المكون قالوا نقول في ذلك مثل ما قلتم في الإرادة الأزلية قلتم هي قديمة فإن كان المراد محدثا كذلك التكوين قديم وإن كان المكون محدثا
وطائفة قالت بل الخلق والتكوين حادث إذا أراد الله خلق شيء وتكوينه وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والفقه والتصوف قالوا لأن الله ذكر وجود أفعاله شيئا بعد شيء كقوله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش سورة الأعراف 54 وقوله ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين سورة فصلت 11 وقوله

ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سورة الأعراف 11 وقوله ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين سورة المؤمنون 12 14 وأمثال ذلك
وهولاء يلتزمون أنه تقوم به الأمور الإختيارية كخلقه ورضاه وغضبه وكلامه وغير ذلك مما دلت عليه النصوص وفي القرآن أكثر من ثلاثمائة موضع توافق قولهم وأما الأحاديث فكثيرة جدا والآثار عن السلف بذلك متواترة وهو قول أكثر الأساطين من الفلاسفة
ثم هؤلاء في التسلسل على قولين وهم يقولون المخلوق يحصل بالخلق والخلق يحصل بقدرته ومشيئته لا يحتاج إلى خلق آخر
ويقولون لمنازعيهم إذا جاز عندكم وجود المخلوقات المنفصلة بمجرد القدرة والمشيئة من غير فعل قائم به فلأن يجوز الفعل بمجرد القدرة الإرادة أولى وأحرى
ومن لم يقل بالتسلسل منهم يقول نفس القدرة القديمة والإرادة القديمة أوجبت ما حدث من الفعل والإرادة وبذلك يحصل المخلوق فيما لا يزال
ومن قال بالتسلسل منهم قال التسلسل الممتنع إنما هو التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للفاعل فاعل وهلم جرا إلى غير نهاية سواء عبر عن ذلك بأن للعلة علة وللمؤثر مؤثرا أو عبر عنه بأن للفاعل فاعلا

فهذا هو التسلسل الممتنع في صريح العقل ولهذا كان هذا ممتنعا باتفاق العقلاء كما أن الدور الممتنع هو الدور القبلي
فأما التسلسل في الآثار وهو أن لا يكون الشيء حتى يكون قبله غيره أو لا يكون إلا ويكون بعد غيره فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال
قيل هو ممتنع في الماضي والمستقبل وقيل بل هو جائز في الماضي والمستقبل وقيل ممتنع في الماضي جائز في المستقبل
والقول بجوازه مطلقا هو معنى قول السلف وأئمة الحديث وقول جماهير الفلاسفة القائلين بحدوث هذا العالم والقائلين بقدمه
وقد بسط الكلام على أدلة الطائفتين في موضع آخر فإنا قد بسطنا الكلام فيما ذكره من أصول الدين أضعاف ما تكلم به هو ونبهنا على مجامع الأقوال - فصل
وأما قوله
وأن الأنبياء معصومون من الخطأ والسهو والمعصية صغيرها وكبيرها من أول العمر إلى آخره وإلا لم يبق وثوق بما يبلغونه فانتفت فائدة البعثة ولزم التنفير عنهم
فيقال أولا
إن الإمامية متنازعون في عصمة الأنبياء

قال الأشعري في المقالات واختلفت الروافض في الرسول هل يجوز عليه أن يعصى أم وهم فرقتان
فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الرسول جائز عليه أن يعصى الله وأن النبي قد عصى في أخذ الفداء يوم بدر فأما الأئمة فلا يجوز ذلك عليهم فإن الرسول إذا عصى فإن الوحي يأتيه من قبل الله والأئمة لا يوحى إليهم ولا تهبط الملائكة عليهم وهم معصومون فلا يجوز عليهم أن يسهوا ولا يغلطوا وإن جاز على الرسول العصيان
قال والقائل بهذا القول هشام بن الحكم
والفرقة الثانية منهم يزعمون أنه لا يجوز على الرسول أن يعصى الله
تعالى ولا يجوز ذلك على الأئمة لأنهم جميعا حجج الله وهم معصومون من الزلل ولو جاز عليهم السهو واعتماد المعاصي وركوبها لكانوا قد ساووا المأمومين في جواز ذلك عليهم كما جاز على المأمومين ولم يكن المأمومون أحوج إلى الأئمة من الأئمة لو كان ذلك جائزا عليهم جميعا
وأيضا فكثير من شيوخ الرافضة من يصنف الله تعالى بالنقائص

كما تقدم حكاية بعض ذلك فزرارة بن أعين وأمثاله يقولون يجوز البداء عليه وأنه يحكم بالشيء ثم يتبين له مالم يكن علمه فينتقض حكمه لما ظهره له من خطئه فإذا قال مثل هؤلاء بأن الأنبياء والأئمة لا يجوز أن يخفى عليهم عاقبة فعلهم فقد نزهوا البشر عن الخطأ مع تجويزهم الخطأ على الله وكذلك هشام بن الحكم وزارة بن أعين وأمثالهما ممن يقول إنه يعلم ما لم يكن عالما به
ومعلوم أن هذا من أعظم النقائص في حق الرب فإذا قالوا مع ذلك إن الأنبياء والأئمة لا يبدو لهم خلاف ما رأوا فقد جعلوهم لا يعلمون ما لم يكونوا يعلمونه في مثل هذا وقالوا بجواز ذلك في غيره
وأما ما تقوله غلاتهم من إلا هية على أو نبوته وغلط جبريل بالرسالة فهو أعظم من أن يذكر هنا ولا ريب أن الشرك والغلو يخرج أصحابه إلى أن يجعلوا البشر مثل الإله بل أفضل من الإله في بعض الأمور كما ذكر الله عن المشركين حيث قال وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون سورة الأنعام 136 وقال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم سورة الأنعام 108
فهؤلاء لما سبت آلهتهم سبوا الله مقابلة فجعلوهم مماثلين لله وأعظم في قلوبهم كما تجد كثيرا من المشركين يحب ما اتخذه من دون الله أندادا أكثر مما يحب الله تعالى وتجد أحدهم يحلف بالله ويكذب

ويحلف بما اتخذه ندا من إمامه أو شيخه أو غير ذلك ولا يستجيز أن يكذب وتسأله بالله والله فلا يعطى وتسأله بما يعظمه من إمامه أو شيخه أو غير ذلك فيعطى ويصلى لله في بيته ويدعوه فلا يكون عنده كبير خشوع فإذا أتى إلى قبر من يعظمه ورجا أن يدعوه أو يدعو به أو يدعو عنده فيحصل له من الخشوع والدموع ما لا يحصل في عبادة الله ودعائه في بيت الله أو في بيت الداعي العابد وتجد أحدهم يغضب إذا ذكر ما اتخذه ندا بعيب أو نقص ويذكر الله بالعيوب والنقوص فلا يغضب له
ومثل هذا كثير في المشركين شركا محضا وفي من فيه شعبة من الشرك في هذه الأمة والنصارى ينزهون البشر عن كثير مما يصفون به الرب فيقولون لله ولد وينزهون كثيرا من عظمائهم أن يكون له ولد ويقول كثير منهم إن الله ينام والباب عندهم لا ينام ومثل هذا كثير
ثم يقال ثانيا
قد اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله فلا يجوز أن يقرهم على الخطأ في شيء مما يبلغونه عنه وبهذا يحصل المقصود من البعثة
وأما وجوب كونه قبل أن يبعث نبيا لا يخطئ أو لا يذنب فليس في

النبوة يستلزم هذا وقول القائل لو لم يكن كذلك لم تحصل ثقة فيما يبلغونه عن الله كذب صريح فإن من آمن وتاب حتى ظهر فضله وصلاحه ونبأه الله بعد ذلك كما نبأ إخوة يوسف ونبأ لوطا وشعيبا وغيرهما وأيده الله تعالى بما يدل على نبوته فإنه يوثق فيما يبلغه كما يوثق بمن لم يفعل ذلك وقد تكون الثقة به أعظم إذا كان بعد الإيمان والتوبة قد صار أفضل من غيره والله تعالى قد أخبر أنه يبدل السيئات بالحسنات للتائب كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل أن يصدر منهم ما يدعونه من الأحداث كانوا من خيار الخلق وكانوا أفضل من أولادهم الذين ولدوا بعد الإسلام
ثم يقال وأيضا
فجمهور المسلمين على أن النبي لا بد أن يكون من أهل البر والتقوى متصفا بصفات الكمال ووجوب بعض الذنوب أحيانا مع التوبة الماحية الرافعة لدرجته إلى أفضل مما كان عليه لا ينافي ذلك
وأيضا فوجوب كون النبي لا يتوب إلى الله فينال محبة الله وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك ويكون بعد التوبة التي يحبه الله منه خيرا مما كان قبلها فهذا مع ما فيه من التكذيب للكتاب والسنة غض من مناصب الأنبياء وسلبهم هذه الدرجة ومنع إحسان الله إليهم وتفضله عليهم بالرحمة والمغفرة

ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره وتاب بعد ذنبه فهو مخالف ما علم بالإضطرار من دين الإسلام فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كفرهم وهداهم الله به بعد ضلالهم وتابوا إلى الله بعد ذنوبهم أفضل من أولادهم الذين ولدوا على الإسلام
وهل يشبه بني الأنصار بالأنصار أو بنى المهاجرين بالمهاجرين إلا من لا علم له وأين المنتقل بنفسه من السيئات إلى الحسنات بنظره واستدلاله وصبره واجتهاده ومفارقته عاداته ومعاداته لأوليائه وموالاته لأعدائه إلى آخر لم يحصل له مثل هذه الحال وقد قال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية
وقد قال تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف

له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعلم عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما سورة الفرقان 68 70
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر
رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يارب قد عملت أشياء لا أراها ههنا فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه

فأين من يبدل الله سيئاته حسنات إلى من لم تحصل له تلك الحسنات ولا ريب أن السيئات لا يؤمر بها وليس للعبد أن يفعلها ليقصد بذلك التوبة منها فإن هذا مثل من يريد أن يحرك العدو عليه ليغلبهم بالجهاد أو يثير الأسد عليه ليقتله ولعل العدو يغلبه والأسد يفترسه بل مثل من يريد أن يأكل السم ثم يشرب الترياق وهذا جهل بل إذا قدر من ابتلى بالعدو فغلبه كان أفضل ممن لم يكن كذلك وكذلك من صادفه الأسد وكذلك من اتفق أن شرب السم فسقى ترياقا فاروقا يمنع نفوذ سائر السموم فيه كان بدنه أصح من بدن من لم يشرب ذلك الترياق
والذنوب إنما تضر أصحابها إذا لم يتوبوا منها والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها
وحينئذ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم فإن الأعمال بالخواتيم

مع أن القرآن والحديث وإجماع السلف معهم في تقرير هذا الأصل
فالمنكرون لذلك يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان ويحرفون الكلم عن مواضعه كقولهم في قوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر سورة الفتح 2 أي ذنب آدم وما تأخر من ذنب أمته فإن هذا ونحوه من تحريف الكلم عن مواضعه
أما أولا فلأن آدم تاب وغفر له ذنبه قبل أن يولد نوح وإبراهيم فكيف يقول له إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ذنب آدم
وأما ثانيا فلأن الله يقول ولا تز وازرة وزر أخرى سورة الإسراء 15 فكيف يضاف ذنب أحد إلى غيره
وأما ثالثا فلأن في حديث الشفاعة الذي في الصحاح أنهم يأتون

آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته اشفع لنا إلى ربك فيذكر خطيئته ويأتون نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى فيقول لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكان سبب قبول شفاعته كما عبودتيه وكمال مغفرة الله له فلو كانت هذه لآدم لكان يشفع لأهل الموقف
وأما رابعا فلأن هذه الآية لما نزلت قال أصحابه
رضي الله عنهم يا رسول الله هذا لك فما لنا فأنزل الله تعالى هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم سورة الفتح 4 فلو كان ما تأخر ذنوبهم لقال هذه الآية لكم
وأما خامسا فكيف يقول عاقل إن الله غفر ذنوب أمته كلها وقد علم أن منهم من يدخل النار وإن خرج منها بالشفاعة

فهذا وأمثاله من خيار تأويلات المانعين لما دل عليه القرآن من توبة الأنبياء من ذنوبهم واستغفارهم وزعمهم أنه لم يكن هناك ما يوجب توبة ولا استغفار ولا تفضل الله عليه بمحبته وفرحه بتوبتهم ومغفرته ورحمته لهم فكيف بسائر تأويلاتهم التي فيها من تحريف القرآن وقول الباطل على الله ما ليس هذا موضع بسطه
وأما قوله
إن هذا ينفى الوثوق ويوجب التنفير فليس هذا بصحيح فيما قبل النبوة ولا فيما يقع خطأ ولكن غايته أن يقال هذا موجود فيما تعمد من الذنب
فيقال
بل إذا اعترف الرجل الجليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى توبته واسغفاره ومغفرة الله له ورحمته دل ذلك على صدقه وتواضعه وعبوديته لله وبعده عن الكبر والكذب بخلاف من يقول ما بي حاجة إلى شيء من هذا ولا يصدر منى ما يحوجني إلى مغفرة الله لي وتوبته على ويصر على كل ما يقوله ويفعله بناء على

أنه لا يصدر منه ما يرجع عنه فإن مثل هذا إذا عرف من رجل نسبه الناس إلى الكذب والكفر والجهل
وقد ثبت في الصحيح أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لن يدخل أحد منكن الجنة بعمله قالوا ولا أنت يارسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فكان هذا من أعظم ممادحه
وكذلك قوله
صلى الله عليه وسلم لا تطروني ما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله وكل من سمع هذا عظمه بمثل هذا الكلام

وفي الصحيحين عنه أنه كان يقول اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به منى أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير
وهذا كما أنه لما قال النبي
صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا على حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني رواه أبو داود وغيره وقال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد رواه مالك وغيره كان

هذا التواضع مما زاده الله به رفعة وكذلك لما سجد له بعض أصحابه فنهاه عن ذلك وقال إنه لا يصلح السجود إلا لله وكذلك لما كان بعض الناس يقول ما شاء الله وشاء محمد قال أجعلتني ندا لله قل ما شاء الله ثم شاء محمد وقوله في دعائه أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المعترف المقر بذنبه أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف من خضعت له رقبته وذل جسده ورغم أنفه لك ونحو

هذه الأحوال التي رفع الله بها درجاته بما اعترف به من فقر العبودية وكمال الربوبية
والغنى عن الحاجة من خصائص الربوبية فأما العبد فكماله في حاجته إلى ربه وعبوديته وفقره وفاقته فكلما كانت عبوديته أكمل كان أفضل وصدور ما يحوجه إلى التوبة والإستغفار مما يزيده عبودية وفقرا وتواضعا
ومن المعلوم أن ذنوبهم ليست كذنوب غيرهم بل كما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين لكن كل يخاطب على قدر مرتبته وقد قال
صلى الله عليه وسلم كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون
وما ذكره من عدم الوثوق والتنفير قد يحصل مع الإصرار والإكثار ونحو ذلك وأما اللمم الذي يقترن به التوبة والإستغفار أو ما يقع بنوع من

التأويل وما كان قبل النبوة فإنه مما يعظم به الإنسان عند أولى الأبصار
وهذا عمر بن الخطاب
رضي الله عنه قد علم تعظيم رعيته له وطاعتهم مع كونه دائما كان يعترف بما يرجع عنه من خطأ وكان إذا اعترف بذلك وعاد إلى الصواب زاد في أعينهم وازدادوا له محبة وتعظيما
ومن أعظم ما نقمه الخوارج على علي أنه لم يتب من تحكيم الحكمين وهم وإن كانوا جهالا في ذلك فهو يدل على أن التوبة لم تكن تنفرهم وإنما نفرهم الأصرار على ما ظنوه هم ذنبا
والخوارج من أشد الناس تعظيما للذنوب ونفورا عن أهلها حتى أنهم يكفرون بالذنب ولا يحتملون لمقدمهم ذنبا ومع هذا فكل مقدم لهم تاب عظموه وأطاعوه ومن لم يتب عادوه فيما يظنونه ذنبا وإن لم يكن ذنبا

فعلم أن التوبة والإستغفار لا توجب تنفيرا ولا تزيل وثوقا بخلاف دعوى البراءة مما يتاب منه ويستغفر ودعوى السلامة مما يحوج الرجوع إلى الله واللجأ إليه فإنه هو الذي ينفر القلوب ويزيل الثفة فإن هذا لم يعلم أنه صدر إلا عن كذاب أو جاهل وأما الأول فإنه يصدر عن الصادقين العالمين
ومما يبين ذلك أنه لم يعلم أحد طعن في نبوة أحد من الأنبياء ولا قدح في الثقة به بما دلت عليه النصوص التي تيب منها ولا احتاج المسلمون إلى تأويل النصوص بما هو من جنس التحريف لها كما يفعله من يفعل ذلك والتوراة فيها قطعة من هذا وما أعلم أن بني إسرائيل قدحوا في نبي من الأنبياء بتوبته في أمر من الأمور وإنما كانوا يقدحون فيهم بالإفتراء عليهم كما كانوا يؤذن موسى عليه السلام وإلا فموسى قد قتل القبطي قبل النبوة وتاب من سؤال الرؤية وغير ذلك بعد النبوة وما أعلم أحدا من بنى إسرائيل قدح فيه بمثل هذا
وما جرى في سورة النجم من قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى على المشهور عند السلف والخلف من أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه الله وأبطله هو من أعظم المفتريات على قول

هؤلاء ولهذا كان كثير من الناس يكذب هذا وإن كان مجوزا عليهم غيره إما قبل وإما بعدها لظنه أن في ذلك خطأ في التبليغ وهو معصوم في التبليغ بالإتفاق والعصمة المتفق عليها أنه لا يقر على خطأ في التبليغ بالإجماع ومن هذا فلم يعلم أحد من المشركين نفر برجوعه عن هذا وقوله إن هذا مما ألقاه الشيطان ولكن روى أنهم نفروا لما رجع إلى ذم آلهتهم بعد ظنهم أنه مدحها فكان رجوعهم لدوامه على ذمها لا لأنه قال شيئا ثم قال إن الشيطان ألقاه وإذا كان هذا لم ينفر فغيره أولى أن لا ينفر
وأيضا فقد ثبت أن النسخ نفر طائفة كما قال سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها سورة البقرة 142 وقوله وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا سورة النحل 101 102 فالتبديل الذي صرحوا بأنه منفر ونفروا به عنه لم يكن مما يجب نفيه عنه فكيف بالرجوع إلى الحق الذي لم يعلم أنهم نفروا منه وهو أقل تنفيرا لأن النسخ فيه رجوع عن الحق إلى حق وهذا رجوع إلى حق من غير حق
ومعلوم أن الإنسان يحمد على ترك الباطل إلى الحق ما لا يحمد على

ترك ما لم يزل يقول إنه حق وإذا كان جائزا فهذا أولى وإذا كان في ذلك مصلحة ففي هذا أيضا مصالح عظيمة ولولا أن فيها وفي العلم بها مصالح لعباده لم يقصها في غير موضع من كتابه
وهو سبحانه وله الحمد لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر معه توبته لينزهه عن النقص والعيب ويبين أنه ارتفعت منزلته وعظمت درجته وعظمت حسناته وقربه إليه بما أنعم الله عليه من التوبة والإستغفار والأعمال الصالحة التي فعلها بعد ذلك وليكون ذلك أسوة لمن يتبع الأنبياء ويقتدي بهم إلى يوم القيامة
ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز دل على أن يوسف لم يذنب أصلا في تلك القصة كما يذكر من يذكر أشياء نزهه الله منها بقول تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين سورة يوسف 24 وقد قال تعالى ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه سورة يوسف 24
والهم كما قال الإمام أحمد
رضي الله عنه همان هم خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تعالى يقول إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة كاملة فإن عملها فاكتبوها عشرا إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من جراي

فيوسف E لما هم ترك همه لله فكتب الله به حسنة كاملة ولم يكتب عليه سيئة قط بخلاف امرأة العزيز فإنها همت وقالت وفعلت فراودته بفعلها وكذبت عليه عند سيدها واستعانت بالنسوة وحبسته لما اعتصم وامتنع عن الموافقة على الذنب ولهذا قالت وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم سورة يوسف 53 وهذا من قولها كما دل عليه القرآن ليس من كلام يوسف عليه السلام بل لما قالت هذا كان يوسف غائبا في السجن لم يحضر عند الملك بل لما برأته هي والنسوة استدعاه الملك بعد هذا وقال ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين سورة يوسف 54
وأما من ذكر الله تعالى وتبارك عنه ذنبا كآدم عليه السلام فإنه لما قال وعصى آدم ربه فغوى ثم أجتباه ربه فتاب عليه وهدى سورة طه 121 122
وقال فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم سورة البقرة 37

وقال تعالى عن داود عليه السلام وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب سورة ص 24 25
وقال لموسى عليه السلام والصلاة إنى لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم سورة النمل 10 11
ومن احتج على امتناع ذلك بأن الإقتداء بهم مشروع والإقتداء بالذنب لا يجوز قيل له إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه لا فيما نهوا عنه كما أنه إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه ولم ينسخ ولم ينسه فيما نسخ وحينئذ فيكون التأسى بهم مشروعا مأمورا به لا يمنع وقوع ما ينهون عنه ولا يقرون عليه لا من هذا ولا من هذا وإن كان اتباعهم في المنسوخ لا يجوز بالإتفاق
ومما يبين أن النسخ أشد تنفيرا أن الإنسان إذا رجع عن شيء إلى آخر وقال الأول الذي كنت عليه حق أمرني الله به ورجوعي عنه حق أمرني الله به كان هذا أقرب إلى النفور عنه من أن يقول رجعت عما لم يأمرني الله به فإن الناس كلهم يحمدون من قال هذا وأما من قال أمري بهذا حق ونهيي عنه حق فهذا مما نفر عنه كثير من السفهاء وأنكره من أنكره من اليهود وغيرهم
ومما يبين الكلام في مسألة العصمة أن تعرف النبوة ولوازمها وشروطها فإن الناس تكلموا في ذلك بحسب أصولهم في أفعال الله

تعالى إذا كان جعل الشخص نبيا رسولا من أفعال الله تعالى فمن نفى الحكم والأسباب في أفعاله وجعلها معلقة بمحض المشيئة وجوز عليه فعل كل ممكن ولم ينزهه عن فعل من الأفعال كما هو قول الجهم بن صفوان وكثير من الناس كالشعري ومن وافقه من أهل الكلام من أتباع مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من مثبتة القدر فهؤلاء يجوزون بعثة كل مكلف والنبوة عندهم مجرد إعلامه بما أوحاه إليه والرسالة مجرد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه النبوة عندهم صفة ثبوتية ولا مستلزمة لصفة يختص بها بل هي من الصفات الإضافية كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعية
وهذا قول طوائف من أهل الكلام كالجهم بن صفوان والأشعري وأتباعهما ولهذا من يقول بها كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما يقول إن العقل لا يوجب عصمة النبي إلا في التبليغ خاصة فإن هذا هو مدلول المعجزة وما سوى ذلك إن دل السمع عليه وإلا لم تجب عصمته منه
وقال محققوا هؤلاء كأبي المعالى وغيره إنه ليس في السمع قاطع يوجب العصمة والظواهر تدل على وقوع الذنوب منهم وكذلك كالقاضي أبي بكر إنما يثبت ما يثبته من العصمة في غير التبليغ إذا كان من موارد الإجماع لأن الإجماع حجة وما سوى ذلك فيقول لم يدل عليه عقل ولا سمع
وإذا احتج المعتزلة وموافقوهم من الشيعة عليهم بأن هذا يوجب

التنفير ونحن ذلك فيجب من حكمة الله منعهم منه قالوا هذا مبنى على مسألة التحسين والتقبيح العقليين قالوا ونحن نقول لا يجب على الله شيء ويحسن منه كل شيء وإنما ننفى ما ننفيه بالخبر السمعي ونوجب وقوع ما يقع بالخبر السمعي أيضا كما أوجبنا ثواب المطيعين وعقوبة الكافرين لإخباره أنه يفعل ذلك ونفينا أن يغفر لمشرك لإخباره أنه لا يفعل ذلك ونحو ذلك
وكثير من القدرية المعتزلة والشيعة وغيرهم ممن يقول بأصله في التعديل والتجوير وأن الله لا يفضل شخصا على شخص إلا بعمله يقول إن النبوة أو الرسالة جزاء على عمل متقدم فالنبي فعل من الأعمال الصالحة ما استحق به أن يجزيه الله بالنبوة
وهؤلاء القدرية في شق وأؤلئك الجهمية الجبرية في شق
وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم وصدوره عن علة موجبة مع إنكارهم أن الله تعالى يفعل بقدرته ومشيئته وأنه يعلم الجزئيات فالنبوة عندهم فيض يفيض على الإنسان بحسب استعداده وهي مكتسبة عندهم ومن كان متميزا في قوته العلمية بحيث يستغنى عن التعليم وشكل في نفسه خطاب يسمعه كما يسمع النائم وشخص

يخاطبه كما يخاطب النائم وفي العملية بحيث يؤثر في العنصريات تأثيرا غريبا كان نبيا عندهم
وهم لا يثبتون ملكا مفضلا يأتي بالوحي من الله تعالى ولا ملائكة بل ولا جنا يخرق الله بهم العادات للأنبياء إلا قوى النفس
وقول هؤلاء وإن كان شرا من أقوال كفار اليهود والنصارى وهو أبعد الأقوال عما جاءت به الرسل فقد وقع فيه كثير من المتأخرين الذين لم يشرق عليهم نور النبوة من المدعين للنظر العقلي والكشف الخيالي الصوفي وإن كان غاية هؤلاء الأقيسة الفاسدة والشك وغاية هؤلاء الخيالات الفاسدة والشطح
والقول الرابع وهو الذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها وكثير من النظار أن الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس والله أعلم حيث يجعل رسالاته فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره وفي عقله ودينه واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته كما قال تعالى وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا

بعضهم فوق بعض درجات سورة الزخرف 31 32 وقال تعالى ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم سورة البقرة 105 وقال تعالى لما ذكر الأنبياء بقوله ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم سورة الأنعام 84 87 فأخبر أنه اجتباهم وهداهم
والأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون والشهداء والصالحون فلولا وجوب كونهم من المقربين الذين هم فوق أصحاب اليمين لكان الصديقون أفضل منهم أو من بعضهم
والله تعالى قد جعل خلقه ثلاثة أصناف فقال تعالى في تقسيمهم في الآخرة وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم سورة الواقعة 7 12 وقال في تقسيمهم عند الموت فإما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمينفسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصليه جحيم سورة الواقعة 88 94 وكذلك ذكر في سورة الإنسان والمطففين هذه الأصناف الثلاثة

والأنبياء أفضل الخلق وهم أصحاب الدرجات العلى في الآخرة فيمتنع أن يكون النبي من الفجار بل ولا يكون من عموم أصحاب اليمين بل من أفضل السابقين المقربين فإنهم أفضل من عموم الصديقين والشهداء والصالحين وإن كان النبي أيضا يوصف بأنه صديق وصالح وقد يكون شهيدا لكن ذاك أمر يختص بهم لا يشركهم فيه من ليس بنبى كما قال عن الخليل وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين سورة العنكبوت 27 وقال يوسف توفني مسلما وألحقني بالصالحين سورة يوسف 101
فهذا مما يوجب تنزيه الأنبياء أن يكونوا من الفجار والفساق وعلى هذا إجماع سلف الأمة وجماهيرها
وأما من جوز أن يكون غير النبي أفضل منه فهو من أقوال بعض ملاحدة المتأخرين من غلاه الشيعة والصوفية والمتفلسفة ونحوهم
وما يحكى عن الفضلية من الخوارج أنهم جوزوا الكفر على النبي فهذا بطريق اللازم لهم لأن كل معصية عندهم كفر وقد جوزوا المعاصى على النبي وهذا يقتضى فساد قولهم بأن كل معصية كفر

وقولهم بجواز المعاصي عليهم وإلا فلم يلتزموا أن يكون النبي كافرا ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبا
وطوائف أهل الكلام الذين يجوزون بعثة كل مكلف من الجهمية والأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم متفقون أيضا على أن الأنبياء أفضل الخلق وأن النبي لا يكون فاجرا لكن يقولون هذا لم يعلم بالعقل بل علم بالسمع بناء على ما تقدم من أصلهم من أن الله يجوز أن يفعل كل ممكن
وأما الجمهور الذين يثبتون الحكمة والأسباب فيقولون نحن نعلم بما علمناه من حكمة الله أنه لا يبعث نبيا فاجرا وأن ما ينزل على البر الصادق لا يكون إلا ملائكة لا تكون شياطين كما قال تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين إلى قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون سورة الشعراء 192 226
فهذا مما بين الله به الفرق بين الكاهن والنبي وبين الشاعر والنبي لما زعم المفترون أن محمدا
صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه الوحي في أول الأمر وخاف على نفسه قبل أن يستيقن أنه ملك قال لخديجة لقد خشيت على نفسي قالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل

الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق
فاستدلت
رضي الله عنها بحسن عقلها على أن من يكون الله قد خلقه بهذه الأخلاق الكريمة التي هي من أعظم صفات الأبرار الممدوحين أنه لا يجزيه فيفسد الشيطان عقله ودينه ولم يكن معها قبل ذلك وحي تعلم به انتفاء ذلك بل علمته بمجرد عقلها الراجح
وكذلك لما ادعى النبوة من ادعاها من الكذابين مثل مسيلمة الكذاب والعنسى وغيرهما مع ما كان يشتبه من أمرهم لما كان ينزل عليهم من الشياطين ويوحون إليهم حتى يظن الجاهل أن هذا من جنس ما ينزل على الأنبياء ويوحى إليهم فكان ما يبلغ العقلاء وما يرونه من سيرتهم والكذب الفاحش والظلم ونحو ذلك يبين لهم أنه ليس بنبي إذ قد علموا أن النبي لا يكون كاذبا ولا فاجرا
وفي الصحيحين عن النبي
صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو الخويصرة اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء والرواية الصحيحة بالفتح أي أنت خاسر خائب إن لم

أعدل إن ظننت أني ظالم مع اعتقادك أني نبي فإنك تجوز أن يكون الرسول الذي آمنت به ظالما وهذا خيبة وخسران فإن ذلك ينافى النبوة ويقدح فيها
وقد قال تعالى وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة سورة آل عمران 161 وفيه قراءتان يغل ويغل أي ينسب إلى الغلول بين سبحانه أنه ما لأحد أن ينسبه إلى الغلول كما أنه ليس له أن يغل فدل على أن النبي لا يكون غالا
ودلائل هذا الأصل عظيمة لكن مع وقوع الذنب الذي هو بالنسبة إليه ذنب وقد لا يكون ذنبا من غيره مع تعقبه بالتوبة والإستغفار لا يقدح في كون الرجل من المقربين السابقين ولا الأبرار ولا يلحقه بذلك وعيد في الآخرة فضلا عن أن يجعله من الفجار
وقد قال تعالى في عموم وصف المؤمنين ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة سورة النجم 31 32 وقال وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا

وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العالمين سورة آل عمران 133 136 وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 33 35
وقال حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون سورة الأحقاف 15 16
وقد قال في قصة إبراهيم عليه السلام فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم سورة العنكبوت 26 وقال في قصة شعيب عليه السلام قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين سورة الأعراف 88 89 وقال في سورة إبراهيم وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين سورة إبراهيم 13
وقد ذم الله تعالى وتبارك فرعون بكونه رفع نبوة موسى بما تقدم من قتله

نفسا بغير حق فقال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين سورة الشعراء 18 21 وكان موسى صلى الله عليه وسلم قد تاب من ذلك كما أخبر الله تعالى عنه وغفر له بقوله فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم سورة القصص 15 16
فإن قيل
فإذا كان قد غفر له فلماذا يمتنعون من الشفاعة يوم القيامة لأجل ما بدا منهم فيقول آدم إذا طلبت منه الشفاعة إني نهيت عن أكل الشجرة وأكلت منها نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها والخليل يذكر تعريضاته الثلاث التي سماها كذبا وكانت تعريضا وموسى يذكر قتل النفس

قيل
هذا من كمال فضلهم وخوفهم وعبوديتهم وتواضعهم فإن من فوائد ما يتاب منه أنه يكمل عبودية العبد ويزيده خوفا وخضوعا فيرفع الله بذلك درجته وهذا الإمتناع مما يرفع الله به درجاتهم وحكمة الله تعالى في ذلك أن تصير الشفاعة لمن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

ولهذا كان ممن امتنع ولم يذكر ذنبا المسيح وإبراهيم أفضل منه وقد ذكر ذنبا ولكن قال المسيح لست هناكم اذهبوا إلى عبد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وتأخر المسيح عن المقام المحمود الذي خص به محمد صلى الله عليه وسلم هو من فضائل المسيح ومما يقربه إلى الله صلوات الله عليهم أجمعين
فعلم أن تأخرهم عن الشفاعة لم يكن لنقص درجاتهم عما كانوا عليه بل لما علموه من عظمة المقام المحمود الذي يستدعى من كمال مغفرة الله للعبد وكمال عبودية العبد لله ما اختص به من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا قال المسيح اذهبوا إلى محمد عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه إذا غفر له ما تأخر لم يخف أن يلام إذا ذهب إلى ربه ليشفع وإن كان لم يشفع إلا بعد الإذن بل إذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه لم يكن يحسنها قبل ذلك فيقال له أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع وهذا كله في الصحيحين وغيرهما
وأما من قيل له تقدم ولم يعرف أنه غفر له ما تأخر فيخاف أن يكون ذهابه إلى الشفاعة قبل أن يؤذن له في الشفاعة ذنبا فتأخر لكمال خوفه من الله تعالى ويقول أنا قد أذنبت وما غفر لي فأخاف أن أذنب ذنبا آخر فإن النبي صلى الله

عليه وسلم قال المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين
ومن معاني ذلك أنه لا يؤتى من وجه واحد مرتين فإذا ذاق الذائق ما في الذنب من الألم وزال عنه خاف أن يذنب ذنبا آخر فيحصل له مثل ذلك الألم وهذا كمن مرض من أكلة ثم عوفى فإذا دعى إلى أكل شيء خاف أن يكون مثل ذلك الأول لم يأكله يقول قد أصابني بتلك الأكلة ما أصابني فأخاف أن تكون هذه مثل تلك ولبسط هذه الأمور موضع آخر
والمقصود هنا أن الذين ادعوا العصمة مما يتاب منه عمدتهم أنه لو صدر منهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة لأن درجتهم أعلى فالذنب منهم أقبح وأنه يجب أن يكون فاسقا فلا تقبل شهادته وأنه حينئذ يستحق العقوبة فلا يكون إيذاؤه محرما وأذى الرسول محرم بالنص وأنه يجب الإقتداء بهم ولا يجوز الإقتداء بأحد في ذنب
ومعلوم أن العقوبة ونقص الدرجة إنما يكون مع عدم التوبة وهم معصومون من الإصرار بلا ريب
وأيضا فهذا إنما يتأتى في بعض الكبائر دون الصغيرة وجمهور

المسلمين على تنزيههم من الكبائر لا سيما الفواحش وما ذكر الله تعالى عن نبي كبيرة فضلا عن الفاحشة بل ذكر في قصة يوسف ما يبين أنه يصرف السوء والفحشاء عن عباده المخلصين وإنما يقتدي بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه
وأيضا فالذنوب أجناس ومعلوم أنه لا يجوز منهم كل جنس بل الكذب لا يجوز منهم بحال أصلا فإن ذلك ينافي مطلق الصدق ولهذا ترد شهادة الشاهد للكذبة الواحدة وإن لم تكن كبيرة في أحد قولى العلماء وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ولو تاب شاهد الزور من الكذب هل تقبل شهادته فيه قولان للعلماء والمشهور عن مالك أنها لا تقبل وكذلك من كذب على رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حديث واحد ثم تاب منه لم تقبل روايته في أحد قوليهم وهو مذهب مالك وأحمد حسما للمادة لأنه لا يؤمن أن يكون أظهر التوبة ليقبل حديثه
فلا يجوز أن يصدر من النبي
صلى الله عليه وسلم تعمد الكذب ألبتة سواء كان صغيرة أو كبيرة بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم ماينبغي انبي أن تكون له خائنة الأعين وأما قوله صلى الله عليه

وسلم لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله فتلك كانت معاريض فكان مأمورا بها وكانت منه طاعة لله والمعاريض قد تسمى كذبا لكونه أفهم خلاف ما في نفسه
وفي الصحيحين عن أم كلثوم قالت لم أسمع النبي
صلى الله عليه وسلم يرخص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث حديث الرجل لامرأته وإصلاحه بين الناس وفي الحرب

قالت فيما يقول الناس إنه كذب وهو المعاريض
وأما ما تقوله الرافضة من أن النبي قبل النبوة وبعدها لا يقع منه خطأ ولا ذنب صغير وكذلك الأئمة فهذا مما انفردوا به عن فرق الأمة كلها وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف
ومن مقصودهم بذلك القدح في إمامة أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما لكونهما أسلما بعد الكفر ويدعون أن عليا رضي الله عنه لم يزل مؤمنا وأنه لم يخط قط ولم يذنب قط وكذلك تمام الإثنى عشر
وهذا مما يظهر كذبهم وضلالهم فيه لكل ذي عقل يعرف أحوالهم ولهذا كانوا هم أغلى الطوائف في ذلك وأبعدهم عن العقل والسمع
ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياء والأئمة نقصا وأن ذلك يجب تنزيههم وعنه وهم مخطئون إما في هذه المقدمة وإما في هذه المقدمة
أما المقدمة الأولى فليس من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه بحيث صار بعد التوبة أعلى درجة مما كان قبلها منقوصا ولا مغضوضا منه بل هذا مفضل عظيم مكرم وبهذا ينحل جميع ما يوردونه من الشبه
وإذا عرف أن أولياء الله يكون الرجل منهم قد أسلم بعد كفره وآمن بعد نفاقه وأطاع بعد معصيته كما كان أفضل أولياء الله من هذه الأمة وهم السابقون الأولون يبين صحة هذا الأصل

والإنسان ينتقل من نقص إلى كمال فلا ينظر إلى نقص البداية ولكن ينظر إلى كمال النهاية فلا يعاب الإنسان بكونه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة إذا كان الله بعد ذلك خلقه في أحسن تقويم
ومن نظر إلى ما كان فهو من جنس إبليس الذي قال أنا خير منه خلقني من نار وخلقته من طين سورة ص 76 وقد قال تعالى إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين سورة ص 71 72 فأمرهم بالسجود له إكراما لما شرفه الله بنفخ الروح فيه وإن كان مخلوقا من طين والملائكة مخلوقون من نور وإبليس مخلوق من نار كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة
رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم
وكذلك التوبة بعد السيئات قال تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين سورة البقرة 222 وفي الصحيحين عن النبي
صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فقال تحت شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه فكيف تجدون فرحه بها قالوا عظيما يا رسول الله قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته

ولهذا قال بعض السلف إن العبد ليفعل الذنب فيدخل به الجنة
وإذا ابتلى العبد بالذنب وقد علم أنه سيتوب منه ويتجنبه ففي ذلك من حكمة الله ورحمته بعبده أن ذلك يزيده عبودية وتواضعا وخشوعا وذلا ورغبة في كثرة الأعمال الصالحة ونفرة قوية عن السيئات فإن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين
وذلك أيضا يدفع عنه العجب والخيلاء ونحو ذلك مما يعرض للإنسان وهو أيضا يوجب الرحمة لخلق الله ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا وترغيبهم في التوبة
وهو أيضا يبين من فضل الله وإحسانه وكرمه ما لا يحصل بدون ذلك كما في الحديث الصحيح عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم

وهو أيضا يبين قوة حاجة العبد إلى الإستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه في أن يستعمله في طاعته ويجنبه معصيته وأنه لا يملك ذلك إلا بفضل الله عليه وإعانته له فإن من ذاق مرارة الإبتلاء وعجزه عن دفعه إلا بفضل الله ورحمته كان شهود قلبه وفقره إلى ربه واحتياجه إليه في أن يعينه على طاعته ويجنبه معصيته أعظم ممن لم يكن كذلك ولهذا قال بعضهم كان داود صلى الله عليه وسلم بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة وقال بعضهم لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه
ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة وأرغب فيها وأشد حذرا من الذنب من كثير من الذين لم يبتلوا بذنب كما في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد فإنه لما قتل رجلا بعد أن قال لا إله إلا الله فقال النبي
صلى الله عليه وسلم أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أثر هذا فيه حتى كان يمتنع أن يقتل أحدا يقول لا إله إلا الله وكان هذا مما أوجب امتناعه من القتال في الفتنة
وقد تكون التوبة موجبة له من الحسنات ما لا يحصل لمن يكن مثله تائبا من الذنب كما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك
رضي الله عنه وهو أحد الثلاثة الذين أنزل الله فيهم لقد تاب الله

على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاذ يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم ليتوبوا إنه بهم رءوف رحيم سورة التوبة 117 ثم قال وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا صاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم سورة التوبة 118
وإذا ذكر حديث كعب في قضية تبين أن الله رفع درجته بالتوبة ولهذا قال فوالله ما أعلم أحدا ابتلاه الله بصدق الحديث أعظم مما ابتلاني
وكذلك قال بعض من كان من أشد الناس عدواة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم كسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من أشد الكفار هجاء وإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم فلما تاب وأسلم كان من أحسن الناس إسلاما وأشدهم حياء وتعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الحارث بن هشام قال الحارث ما نطقت بخطيئة منذ أسلمت ومثل هذا كثير في أخبار التوابين

فمن يجعل التائب الذي اجتباها الله وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه وقد صار بعد التوبة خيرا مما كان قبل التوبة فهو جاهل بدين الله تعالى وما بعث الله به رسوله وإذا لم يكن في ذلك نفص مع وجود ما ذكر فجميع ما يذكرونه هو مبنى على أن ذلك نقص وهو نقص إذا لم يتب منه أو هو نقص عمن ساواه إذا لم يصر بعد التوبة مثله فأما إذا تاب توبة محت أثره بالكلية وبدلت سيئاته حسنات فلا نقص فيه بالنسبة إلى حاله وإذا صار بعد التوبة أفضل ممن يساويه أو مثله لم يكن ناقصا عنه
ولسنا نقول إن كل من أذنب وتاب فهو أفضل ممن لم يذنب ذلك الذنب بل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس فمن الناس من يكون بعد التوبة أفضل ومنهم من يعود إلى ما كان ومنهم من لا يعود إلى مثل حاله والأصناف الثلاثة فيهم من هو أفضل ممن لم يذنب ويتب وفيهم من هو مثله وفيهم من هو دونه
وهذا الباب فيه مسائل كثيرة ليس هذا موضع تفصيلها ولبسطها موضع آخر والمقصود التنبيه
ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين متفقين على ما دل عليه الكتاب والسنة من أحوال الأنبياء لا يعرف عن أحد منهم القول بما أحدثته المعتزلة والرافضة ومن

تبعهم في هذا الباب بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء ولا من قال هذا يمنع الوثوق أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام
وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهل كما قصدت النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل فأشركوا بهم واتخذوهم أربابا من دون الله وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه
وكذلك الغلاة في العصمة يعرضون عما أمروا به من طاعة أمرهم والإقتداء بأفعالهم إلى ما نهوا عنه من الغلو والإشراك بهم فيتخذونهم أربابا من دون الله يستغيثون بهم في مغيبهم وبعد مماتهم وعند قبورهم ويدخلون فيما حرمه الله تعالى ورسوله من العبادات الشركية التي ضاهوا بها النصارى
وقد ثبت في الصحيح عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال عند موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوه قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا
وفي الصحيحين أيضا أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة وذكر

حسنها وتصاوير فيها فقال إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة
وفي صحيح مسلم عن جندب عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك وإني أبرأ إلى كل خليل من خليله ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله يعنى نفسه
وفي السنن عنه أنه قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني وفي الموطأ وغيره أنه قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وفي المسند وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي
صلى الله عليه وسلم إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد

وفي صحيح مسلم عن أبي هياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأرسل علي في خلافته من يفعل مثل ما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسوى القبور المشرفة ويطمس التماثيل فإن هذه وهذه من أسباب الشرك وعبادة الأوثان قال الله تعالى لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا سورة نوح 23 24 قال غير واحد من السلف كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا وعكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم من دون الله
فالمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من العامة ومن أهل البيت كلها من البدع المحدثة المحرمة في دين الإسلام وإنما أمر الله أن يقصد لعبادته وحده لا شريك له المساجد لا المشاهد
قال الله تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل

مسجد وادعوه مخلصين له الدين سورة الأعراف 29 وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم فيها خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين سورة التوبة 17 18 وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا سورة الجن 18 ومثل هذا في القرآن كثير
وزيارة القبور على وجهين زيارة أهل التوحيد المتبعين للرسل وزيارة أهل البدع والشرك
فالأولى مقصودها أن يسلم على الميت ويدعى له وزيارة قبره بمنزلة الصلاة عليه إذا مات يقصد بها الدعاء له والله سبحانه يثيب هذا الداعي له عند قبره كما يثيب الداعي إذا صلى عليه وهو على سريره
والثانية مقصودها أن يطلب منه الحوائج أو يقسم على الله أو يظن أن دعاء الله عند قبره أقرب إلى الإجابة فهذا كله من البدع المنكرة باتفاق أئمة المسلمين ولم يكن شيء من هذا على عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان بل كان المسلمون لما فتحوا أرض الشام والعراق وغيرهما إذا وجدوا قبرا يقصد الدعاء عنده غيبوه كما وجدوا بتستر قبر دانيال فحفروا له بالنهار ثلاثة عشر قبرا ودفنوه بالليل في واحد منها وكان مكشوفا وكان الكفار يستسقون به فغيبه المسلمون لأن هذا من الشرك

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها فنهى عن الصلاة إليها لما فيه من مشابهة المشركين الذين يسجدون لها وفي السنن والمسند قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام
والسبب الذي من أجله نهى عن الصلاة في المقبرة في أصح قولي العلماء هو سد ذريعة الشرك كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وقت غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان والمشركون يسجدون لها حينئذ فنهى عن قصد الصلاة في هذا الوقت لما في ذلك من المشابهة لهم في الصورة وإن اختلف القصد
كذلك نهى عن الصلاة في المقبرة لله لما فيه من مشابهة من يتخذ القبور مساجد وأن المصلى الله لا يقصد ذلك سدا للذريعة فأما إذا قصد ليصلي هناك ليدعوا عند القبور ظنا أن هذا الدعاء هناك أجوب فهذا ضلال بإجماع المسلمين وهو مما حرمه الله ورسوله
وأبلغ من ذلك أن يدعى ويقسم على الله بالميت وأبلغ من ذلك أن

يسأل الله به ونحو ذلك وأبلغ من ذلك أن يسافر إليه من مكان بعيد لهذا القصد أو ينذر له أو لمن عنده دهن أو شمع أو ذهب أو فضة أو قناديل أو ستور فهذا كله من نذور أهل الشرك ولا يجوز مثل هذا النذر باتفاق المسلمين ولا الوفاء به كما ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه
ولا يجوز أن ينذر أحد إلا طاعة ولا يجوز أن ينذرها إلا لله فمن نذر لغير الله فهو مشرك كمن صام لغير الله وسجد لغير الله ومن حج إلى قبر من القبور فهو مشرك بل لو سافر إلى مسجد لله غير المساجد الثلاثة ليعبد الله فيها كان عاصيا لله ورسوله فكيف إذا سافر إلى غير الثلاثة ليشرك بالله وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا

ولهذا قال غير واحد من العلماء إن السفر لزيارة المشاهد سفر معصية ومن لم يجوز القصر في سفر المعصية منهم من لم يجوزه لا سيما إذا سمى ذلك حجا وصنفت فيه مصنفات وسميت مناسك حج المشاهد ومن هؤلاء من يفضل قصد المشاهد وحجها والسفر إليها على حج بيت الله الحرام الذي فرض الله حجه على الناس
وهذا أمر قد وقع فيه الغلاة في المشايخ والأئمة المنتسبين إلى السنة وإلى الشيعة حتى أن الواحد من هؤلاء في بيته يصلى لله الصلاة المفروضة بقلب غافل لاه ويقرأ القرآن بلا تدبر ولا خشوع وإذا زار قبر من يغلو فيه بكى وخشع واستكان وتضرع وانتحب ودمع كما يقع إذا سمع المكاء والتصدية الذي كان للمشركين عند البيت
وكثير من هؤلاء لا يحج لأجل ما أمر الله به ورسوله من حج البيت العتيق بل لقصد زيارة النبي
صلى الله عليه وسلم كما يزور شيوخه وائمته ونحو ذلك
والأحاديث المأثورة عن النبي
صلى الله عليه وسلم في زيارة قبره كلها ضعيفة بل موضوعة فلم يخرج أهل الصحيحين والسنن المشهورة شيئا منها ولا استدل بشيء منها أحد من أئمة المسلمين وإنما اعتمدوا على ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من رجل

يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام
وقد ذكر ابن عبدالبر هذا عاما مرفوعا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وبينه فقال ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام
وفي النسائي وغيره عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله وكل بقبري ملائكة تبلغني عن أمتي السلام وفي السنن سنن أبي داود وغيره عن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"