بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 31 مارس 2010

نبذ من كتاب الروح لابن القيم/5



أعظم المتوكلين وكان يلبس لامته ودرعه بل ظاهر يوم أحد بين درعين واختفى في الغار ثلاثا فكان متوكلا في السبب لا على السبب
وأما العجز فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما فإما أن يعطل السبب عجزا منه ويزعم أن ذلك توكل ولعمر الله إنه لعجز وتفريط وإما أن يقوم بالسبب ناظرا إليه معتمدا عليه غافلا عن المسبب معرضا عنه وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر ولم يعلق قلبه به تعلقا تاما بحيث يكون قلبه مع الله وبدنه مع السبب فهذا توكله عجز وعجزه توكل
وهذا موضع انقسم فيه الناس طرفين ووسطا فأحد الطرفين عطل الأسباب محافظة على التوكل
والثاني عطل التوكل محافظة على السبب والوسط علم أن حقيقة التوكل لا يتم إلا بالقيام بالسبب فتوكل على الله في نفس السبب وأما من عطل السبب وزعم أنه متوكل فهو مغرور مخدوع متمن كمن عطل النكاح والتسري وتوكل في حصول الولد وعطل الحرث والبذر وتوكل في حصول الزرع وعطل الأكل والشرب وتوكل في حصول الشبع والري فالتوكل نظير الرجاء والعجز نظير التمني فحقيقة التوكل أن يتخذ العبد ربه وكيلا له قد فوض إليه كما يفوض الموكل إلى وكيله للعالم بكفايته نهضته ونصحه وأمانته وخبرته وحسن اختياره والرب سبحانه قد أمر عبده بالاحتيال وتوكل له أن يستخرج له من حيلته ما يصلحه فأمره أن يحرث ويبذر ويسعى ويطلب رزقه في ضمان ذلك كما قدره سبحانه ودبره واقتضته حكمته وأمره أن لا يعلق قلبه بغيره بل يجعل رجاءه له وخوفه منه وثقته به وتوكله عليه واخبره أنه سبحانه الملي بالوكالة الوفي بالكفالة فالعاجز من رمي هذا كله وراء ظهره وقعد كسلان طالبا للراحة مؤثرا للدعة يقول الرزق يطلب صاحبه كما يطلبه أجله وسيأتيني ما قدر لي على ضعفي ولن أنال ما لم يقدر لي مع قوتي ولو أنى هربت من رزقي كما أهرب من الموت للحقني فيقال له نعم هذا كله حق وقد علمت أن الرزق مقدر فما يدريك كيف قدر لك بسعيك أم بسعي غيرك وإذا كان بسعيك فبأي سبب ومن أي وجه وإذا خفي عليك هذا كله فمن أين علمت انه يقدر لك إتيانه عفوا بلا سعي ولا كد فكم من شيء سعيت فيه فقدر لغيرك وكم من شيء سعى فيه غيرك فقدر لك رزقا فإذا رأيت هذا عيانا فكيف علمت أن رزقك كله بسعي غيرك وأيضا فهذا الذي أوردته عليك النفس يجب عليك طرده في جميع الأسباب مع مسبباتها حتى في أسباب دخول الجنة والنجاة من النار فهل تعطلها اعتمادا على التوكل أم تقوم بها مع التوكل بل لن تخلو الأرض من متوكل صبر نفسه لله وملأ قلبه من الثقة به ورجائه وحسن الظن به فضاق قلبه مع ذلك عن مباشرة بعض الأسباب فسكن قلبه إلى الله واطمأن

إليه ووثق به وكان هذا من أقوى أسباب حصول رزقه فلم يعطل السبب وإنما رغب عن سبب إلى سبب أقوى منه فكان توكله أوثق الأسباب عنده فكان اشتغال قلبه بالله وسكونه إليه وتضرعه إليه أحب إليه من اشتغاله بسبب يمنعه من ذلك أو من كماله فلم يتسع قلبه للأمرين فأعرض أحدهما إلى الآخر ولا ريب ان هذا أكمل حالا ممن امتلأ قلبه بالسبب واشتغل به عن ربه وأكمل منهما من جمع الأمرين وهي حال الرسل والصحابة فقد كان زكريا نجارا وقد أمر الله نوحا أن يصنع السفينة ولم يكن في الصحابة من يعطل السبب اعتمادا على التوكل بل كانوا أقوم الناس بالأمرين ألا ترى أنهم بذلوا جهدهم في محاربة أعداء الدين بأيديهم وألسنتهم وقاموا في ذلك بحقيقة التوكل وعمروا أموالهم وأصلحوها وأعدوا لأهليهم كفايتهم من القوت بسيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه وآله
فصل والفرق بين الاحتياط والوسوسة ان الاحتياط الاستقصاء والمبالغة في
اتباع السنة وما كان عليه رسول الله وأصحابه من غير غلو ومجاوزة ولا تقصير ولا تفريط فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به السنة ولم يفعله رسول الله ولا أحد من الصحابة زاعما أنه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه كمن يحتاط بزعمه ويغسل أعضاءه في الوضوء فوق الثلاثة فيسرف في صب الماء في وضوئه وغسله وصرح بالتلفظ بنية الصلاة مرارا أو مرة واحدة ويغسل ثيابه مما لا يتيقن نجاسته احتياطا ويرغب عن الصلاة في نعله احتياطا إلى أضعاف أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دينا وزعموا أنه احتياط وقد كان الاحتياط باتباع هدى رسول الله وما كان عليه أولى بهم فإنه الاحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق الاحتياط وعدل عن سواء الصراط والاحتياط كل الاحتياط الخروج عن خلاف السنة ولو خالفت أكثر أهل الأرض بل كلهم
فصل والفرق بين إلهام الملك وإلقاء الشيطان من وجوه منها أن ما كان
لله موافقا لمرضاته وما جاء به رسوله فهو من الملك وما كان لغيره غير موافق لمرضاته فهو من إلقاء الشيطان ومنها أن ما أثمر إقبالا على الله وإنابة إليه وذكرا له وهمة صاعدة إليه فهو من إلقاء الملك وما أثمر ضد ذلك فهو من إلقاء الشيطان ومنها أن ما أورث أنسا ونورا في القلب وانشراحا في الصدر فهو من الملك وما أورث ضد ذلك فهو من الشيطان ومنها أن ما أورث

سكينة وطمأنينة فهو من الملك وما أورث قلقا وإنزعاجا واضطرابا فهو من الشيطان فالإلهام الملكي يكثر في القلوب الطاهرة النقية التي قد استنارت بنور الله فللملك بها اتصال وبينه وبينها مناسبة فإنه طيب طاهر لا يجاور إلا قلبا يناسبه فتكون لمة الملك بهذا القلب أكثر من لمة الشيطان وأما القلب المظلم الذي قد اسود بدخان الشهوات والشبهات فإلقاء الشيطان ولمة به أكثر من لمة الملك
فصل والفرق بين الاقتصاد والتقصير أن الاقتصاد هو التوسط بين طرفي
الإفراط والتفريط وله طرفان هما ضدان له تقصير ومجاوزة فالمقتصد قد أخذ بالوسط وعدل عن الطرفين قال تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما وقال تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقال تعالى وكلوا واشربوا ولا تسرفوا والدين كله بين هذين الطرفين بل الإسلام قصد بين الملل والسنة قصد بين البدع ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه وكذلك الاجتهاد هو بذل الجهد في موافقة الأمر والغلو مجاوزته وتعديه وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان فأما إلى غلو ومجاوزة وغما إلى تفريط وتقصير وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلق رسول الله وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم وهذا أن المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم ولهذا حذر السلف منهما أشد التحذير وخوفوا من بلى بأحدهما بالهلاك وقد يجتمعان في الشخص الواحد كما هو الحال أكثر الخلق يكون مقصرا مفرطا في بعض دينه غالبا متجاوزا في بعضه والمهدي من هداه الله
فصل والفرق بين النصيحة والتأنيب أن النصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة
الرحمة له والشفقة عليه والغيرة له وعليه فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة ومراد الناصح بها وجه الله ورضاه والإحسان إلى خلقه فيتلطف في بذلها غاية التلطف ويحتمل أذى المنصوح ولائمته ويعامله معاملة الطبيب العالم المشفق المريض المشبع ! مرضا وهو يحتمل سوء خلقه وشراسته ونفرته ويتلطف في وصول الدواء إليه بكل ممكن فهذا شأن الناصح
وأما المؤنب فهو رجل قصده التعبير والإهانة وذم من أنبه وشتمه في صورة النصح فهو يقول له يا فاعل كذا وكذا يا مستحقا الذم والإهانة في صورة ناصح مشفق وعلامة هذا أنه

لو رأى من يحبه ويحسن إليه على مثل عمل هذا أو شر منه لم يعرض له ولم يقل له شيئا ويطلب له وجوه المعاذير فإن غلب قال وإني ضمنت له العصمة والإنسان عرضه للخطأ ومحاسنه أكثر من مساويه والله غفور رحيم ونحو ذلك فيا عجبا كيف كان هذا المن يحبه دون من يبغضه وكيف كان ذلك منك التأنيب في صورة النصح وحظ هذا منك رجاء العفو والمغفرة وطلب وجوه المعاذير
ومن الفروق بين الناصح والمؤنب أن الناصح لا يعاديك إذا لم تقبل نصيحته وقال قد وقع أجرى على الله قبلت أو لم تقبل ويدعو لك بظهر الغيب ولا يذكر عيوبك ولا يبينها في الناس والمؤنب بعد ذلك
فصل والفرق بين بالمبادرة والعجلة أن المبادرة انتهاز الفرصة في وقتها
ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها فهو لا يطلب الأمور في أدبارها ولا قبل وقتها بل إذا حضر وقتها بادر إليها ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نضلها وإدراكها
والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها كلها فالمبادرة وسط بين خلقين مذمومين أحدهما التفريط والإضاعة والثاني الاستعجال قبل الوقت ولهذا كانت العجلة من الشيطان فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها وتجلب عليه أنواعا من الشرور وتمنعه أنواعا من الخير وهي قرين الندامة فقل من استعجل إلا ندم كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة
فصل والفرق بين الأخبار بالحال وبين الشكوى وإن اشتبهت صورتهما ان
الأخبار بالحال يقصد المخبر به قصدا صحيحا من علم سبب إدانته أو الاعتذار لأخيه من أمر طلبه منه أو يحذره من الوقوع في مثل ما وقع فيه فيكون ناصحا بإخباره له أو حمله على الصبر بالتأسي به كما يذكر عن الأحنف أنه شكا إليه رجل شكوى فقال يا ابن أخي لقد ذهب ضوء عيني من كذا وكذا سنة فما أعلمت به أحدا ففي ضمن هذا الأخبار من حمل الشاكي على التأسي والصبر ما يثاب عليه المخبر وصورته صورة الشكوى ولكن القصد ميز بينهما ولعل من هذا قول النبي لما قالت عائشة وارأساه فقال بل أنا وارأساه أي الوجع القوي بي

أنا دونك فتأسى بي فلا تشتكي ويلوح لي فيه معنى آخر وهو أنها كانت حبيبة رسول الله بل كانت أحب النساء إليه على الإطلاق فلما اشتكت إليه رأسها أخبرها أن بمحبها من الألم مثل الذي بها وهذا غاية الموافقة من المحب ومحبوبه يتألم بتألمه ويسر بسروره حتى إذا آلمه عضو من أعضائه آلم المحب ذلك العضو بعينه وهذا من صدق المحبة وصفاء المودة فالمعنى الأول يفهم أنك لا تشتكي واصبري فبي من الموجع مثل ما بك فتأسى بي في الصبر وعدم الشكوى والمعنى الثاني يفهم إعلامها بصدق محبته لها أي انظري قوة محبتي لك كيف واسيتك في ألمك ووجع رأسك فلم تكوني متوجعة وأنا سليم من الوجع بل يؤلمني ما يؤلمك كما يسرني ما يسرك كما قيل
وإن أولى البرايا ان تواسيه ... عند السرور الذي واساك في الحزن
وأما الشكوى فالأخبار العاري عند القصد الصحيح بل يكون مصدره السخط وشكاية المبتلي إلى غيره فإن شكا إليه سبحانه وتعالى لم يكن ذلك شكوى بل استعطاف وتملق واسترحام له كقول أيوب ربي أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين وقول يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وقول موسى اللهم لك الحمد وإليك المشتكي وأنت المستعان وبك المستعاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك وقول سيد ولد آدم اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل على غضبك أو ينزل بي سخطك لك العتبي حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك فالشكوى إلى الله سبحانه لا تنافي الصبر بوجه فإن الله تعالى قال عن أيوب إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب مع إخباره عنه بالشكوى إليه في قوله مسني الضر وأخبر عن نبيه يعقوب أنه وعد من نفسه بالصبر الجميل والنبي إذا قال وفي مع قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ولم يجعل ذلك نقصا لصبره ولا يلتفت إلى غير هذا من ترهات القوم كما قال بعضهم لما قال مسني الضر قال تعالى إنا وجدناه صابرا ولم يقل صبورا حيث قال مسني الضر وقال بعضهم لم يقل ارحمني وإنما قال أنت أرحم الراحمين فلم يزد على الأخبار بحاله ووصف ربه وقال بعضهم إنما شكا مس الضر حين ضعف لسانه عن الذكر فشكا مس ضر ضعف الذكر لا ضر المرض والألم وقال بعضهم استخرج منه هذا القول ليكون قدوة للضعفاء من هذه الأمة وكأن هذا القائل رأى أن الشكوى إلى الله تنافي الصبر وغلط أقبح الغلط فالمنافي للصبر شكواه لا الشكوى إليه فالله يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه والشكوى إليه ولا يحب التجلد عليه

وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه وتذلله له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره فاحذر كل الحذر من إظهار التجلد عليه وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف فرحمته اقرب إلى هذا القلب من اليد للفم
فصل وهذا باب من الفروق مطول ولعل إن ساعد القدر أن نفرد فيه
كتابا كبيرا وإنما نبهنا بما ذكرنا على أصوله واللبيب يكتفي ببعض ذلك والدين كله فرق وكتاب الله فرقان ومحمد فرق بين الناس ومن اتقى الله جعل له فرقانا يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا وسمى يوم بدر يوم الفرقان لأنه فرق بين أولياء الله وأعدائه فالهدى كله فرقان والضلال أصله الجمع كما جمع المشركون بين عبادة الله وعبادة الأوثان ومحبته ومحبة الأوثان وبين ما يحبه ويرضاه وبين ما قدره وقضاه فجعلوا الأمر واحد واستدلوا بقضائه وقدره على محبته ورضاه وجمعوا بين الربا والبيع فقالوا إنما البيع مثل الربا وجمعوا بين المذكي والميتة وقالوا كيف نأكل ما قتلنا ولا نأكل ما قتل الله وجمع المنسلخون عن الشرائع بين الحلال والحرام فقالوا هذه المرأة خلقها الله وهذه خلقها وهذا الحيوان خلقه وهذا خلقه فكيف يحل هذا ويحرم هذا وجمعوا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وجاءت طائفة الاتحادية فطموا الوادي على القرى وجمعوا الكل في ذات واحدة وقالوا هي الله الذي لا إله إلا هو وقال صاحب فصوصهم وواضع نصوصهم واعلم أن الأمر قرآنا لا فرقانا
ما الأمر إلا نسق واحد ... ما فيه من مدح ولا ذم
وإنما العادة قد خصصت ... والطبع والشراع بالحكم
والمقصود أن أرباب البصائر هم أصحاب الفرقان فأعظم الناس فرقانا بين المشتبهات أعظم الناس بصيرة والتشابه يقع في الأقوال والأعمال والأحوال والأموال والرجال وإنما أتى أكثر أهل العلم من المتشابهات في ذلك كله ولا يحصل الفرقان إلا بنور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده يرى في ضوئه حقائق الأمور ويميز بين حقها وباطلها وصحيحها وسقيمها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ولا تستطل هذا الفصل فلعله من أنفع فصول الكتاب والحاجة إليه شديدة فإن رزقك الله فيه بصيرة خرجت منه إلى فرقان أعظم منه وهو الفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد المعطلين والفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه أهل التعطيل والفرق بين إثبات الصفات والعلو والتكلم والتكليم حقيقة وبين التشبيه والتمثيل والفرق بين تجريد

التوحيد العملي الإرادي وبين هضم أرباب المراتب مراتبهم التي أنزلهم الله إياها والفرق بين تجريد متابعة المعصوم وبين إهدار أقوال العلماء وإلغائها وعدم الالتفات إليها والفرق بين تقليد العالم وبين الاستضاءة بنور علمه والاستعانة بفهمه والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان والفرق بين الحال الإيماني الرحماني والحال الشيطاني الكفرى والحال النفساني والفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع على كل واحد والحكم المؤول الذي نهايته أن يكون جائز الإتباع عند الضرورة ولا درك على مخالفه
فصل ونحن نختم الكتاب بإشارة لطيفة إلى الفروق بين هذه الأمور إذ كل
فرق منها يستدعي بسطه كتابا كبيرا فالفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد المعطلين أن توحيد الرسل إثبات صفات الكمال لله على وجه التفصيل وعبادته وحده لا شريك له فلا يجعل له ندا في قصد ولا حب ولا خوف ولا رجاء ولا لفظ ولا حلف ولا نذر بل يرفع العبد الانداد له من قلبه وقصده ولسانه وعبادته كما أنها معدومة في نفس الأمر لا وجود لها البتة فلا يجعل لها وجودا في قلبه ولسانه
وأما توحيد المعطلين فنفى حقائق أسمائه وصفاته وتعطليها ومن أمكنة منهم تعطليها من لسانه عطلها فلا يذكرها ولا يذكر آية تتضمنها ولا حديثا يصرح بشيء منها ومن لم يمكنه تعطيل ذكرها سطا عليها بالتحريف ونفى حقيقتها وجعلها اسما فارغا لا معنى له أو معناه من جنس الألغاز والأحاجي على أن من طرد تعطيله منهم على أنه يلزمه في ما حرف إليه النص من المعنى نظير ما فر منه سواء فإن لزم تمثيل أو تشبيه أو حدوث في الحقيقة لزم في المعنى الذي حمل عليه النص وإن لا يلزم في هذا فهو أولى أن لا يلزم في الحقيقة فلما علم هذا لم يمكنه إلا تعطيل الجميع فهذا طرد لأصل التعطيل والفرق اقرب منه ولكنه مناقض يتحكم بالباطل حيث أثبت لله بعض ما أثبته لنفسه ونفى عنه البعض الآخر واللازم الباطل فيهما واحد واللازم الحق لا يفرق بينهما
والمقصود أنهم سموا هذا التعطيل توحيدا وإنما هو إلحاد في أسماء الرب تعالى وصفاته وتعطيل لحقائقها
فصل والفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه المعطلة أن الرسل نزهوه سبحانه عن
النقائض والعيوب التي نزه نفسه عنها وهي المنافية لكماله وكمال ربوبيته وعظمته كالسنة والنوم والغفلة والموت

واللغوب والظلم وإرادته والتسمي به والشريك والصاحبة والظهير والولد والشفيع بدون إذنه وأن يترك عباده سدى هملا وأن يكون خلقهم عبثا وأن يكون خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا لا لثواب ولا عقاب ولا أمر ولا نهى وأن يسوى بين أوليائه وأعدائه وبين الأبرار والفجار وبين الكفار والمؤمنين وأن يكون في ملكه مالا يشاء أن يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه وأن يكون لغيره معه من الأمر شيء وأن يعرض له غفلة أو سهو أو نسيان وأن يخلف وعده أو تبدل كلماته أو يضاف إليه الشر اسما أو وصفا أو فعلا بل أسماءه كلها حسنى وصفاته كلها كمال وأفعاله كلها خير وحكمة ومصلحة فهذا تنزيه الرسل لربهم
وأما المعطلون فنزهوه عما وصف به نفسه من الكمال فنزهوه عن أن يتكلم أو يكلم أحدا ونزهوه عن استوائه على عرشه وأن ترفع إليه الأيدي وأن يصعد إليه الكلم الطيب وأن ينزل من عنده شيء أو تعرج إليه الملائكة والروح وأن يكون فوق عباده وفوق جميع مخلوقاته عاليا عليها ونزهوه أن يقبض السموات بيده والأرض باليد الأخرى وان يمسك السموات على إصبع والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع ونزهوه أن يكون له وجه وأن يراه المؤمنون بأبصارهم في الجنة وأن يكلمهم ويسلم عليهم ويتجلى لهم ضاحكا وأن ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول من يستغفرني فأغفر له من يسألني فأعطيه فلا نزول عندهم ولا قول ونزهوه أن يفعل شيئا لشيء بل أفعاله لا لحكمة ولا لغرض مقصود ونزهوه أن يكون تام المشيئة نافذ الإرادة بل يشاء الشيء ويشاء عباده خلافه فيكون ما شاء العبد دون ما شاء الرب ولا يشاء الشىء فيكون مالا يشاء ويشاء مالا يكون وسموا هذا عدلا كما سموا ذلك النزيه توحيدا ونزهوه عن أن يحب أو يحب ونزهوه عن الرأفة والرحمة والغضب والرضا ونزهة آخرون عن السمع والبصر وآخرون عن العلم ونزهه آخرون عن الوجود فقالوا الذي فر إليه هؤلاء المنزهون من التشبيه والتمثيل يلزمنا في الوجود يلزمنا في الوجود فيجب علينا أن ننزهه عنه فهذا تنزيه الملحدين والأول تنزيه المرسلين
فصل الفرق بين إثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه والتمثيل يما
قاله الإمام أحمد ومن وافقه من أئمة الهدى أن التشبيه والتمثيل أن تقول يد كيدي أو سمع كسمعي أو بصر كبصري ونحو ذلك وأما إذا قلت سمع وبصر ويد ووجه واستواء لا يماثل شيئا من صفات المخلوقين بل بين الصفة والصفة من الفرق كما بين الموصوف والموصوف فأي تمثيل ههنا وأي تشبيه لولا تلبيس الملحدين فمدار الحق الذي اتفقت عليه الرسل على أن يوصف الله بما وصف

به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تشبيه ولا تمثيل إثبات الصفات ونفى مشابهه المخلوقات فمن شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد حقائق ما وصف الله به نفسه فقد كفر ومن أثبت له حقائق الأسماء والصفات ونفى عنه مشابهة المخلوقات فقد هدى إلى صراط مستقيم
فصل والفرق بين تجريد التوحيد وبين هضم أرباب المراتب أن تجريد
التوحيد أن لا يعطى المخلوق شيئا من حق الخالق وخصائصه فلا يعبد ولا يصلى له ولا يسجد ولا يحلف باسمه ولا ينذر له ولا يتوكل عليه ولا يؤله ولا يقسم به على الله ولا يعبد ليتقرب إلى الله زلفى ولا يساوي برب العالمين في قول القائل ما شاء الله وشئت وهذا منك ومن الله وأنا بالله وبك وأنا متوكل على الله وعليك والله لي في السماء وأنت في الأرض وهذا من صدقاتك وصدقات الله وأنا تائب إلى الله وإليك وأنا في حسب الله وحسبك فيسجد للمخلوق كما يسجد المشركون لشيوخهم يحلق رأسه له ويحلف باسمه وينذر له ويسجد لقبره بعد موته ويستغيث به في حوائجه ومهماته ويرضيه بسخط الله ولا يسخطه في رضا الله ويتقرب إليه أعظم مما يتقرب إلى الله ويحبه ويخافه ويرجوه أكثر مما يحب الله ويخافه ويرجوه أو يساويه فإذا هضم المخلوق خصائص الربوبية وأنزله منزلة العبد المحض الذي لا يملك لنفسه فضلا عن غيره ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لم يكن هذا تنقصا له ولا حطا من مرتبته ولو رغم المشركون وقد صح عن سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه أنه قال لو تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله وقال أيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي وقال لا تتخذوا قبري عيدا وقال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد وقال لا تقولوا ما شاء الله وشاء وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله ندا وقال له رجل قد أذنب اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال عرف الحق لأهله وقد قال الله له ليس لك من الأمر شيء وقال قل إن الأمر كله لله وقال قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله وقال قل إني لا املك لنفسي ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا أي لن أجد من دونه من ألتجىء إليه واعتمد عليه وقال لا بنته فاطمة وعمه العباس وعمته صفية لا أملك لكم من الله شيئا وفي لفظ في الصحيح لا أغني عنكم من الله شيئا فعظم ذلك على المشركين بشيوخهم وآلهتهم وأبوا ذلك كله وادعوا لشيوخهم ومعبوديهم خلاف هذا كله وزعموا أن من سلبهم ذلك فقد هضمهم مراتبهم وتنقصهم وقد هضموا جانب الإلهية

غاية الهضم وتنقصوه فلهم نصيب وافر من قوله تعالى وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون
فصل والفرق بين تجريد متابعة المعصوم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها
أن تجريد المتابعة أن لا تقدم على ما جاء به قول أحد ولا رأيه كائنا من كان بل تنظر في صحة الحديث أولا فإذا صح لك نظرت في معناه ثانيا فإذا تبين لك لم تعدل عنه ولو خالفك من بين المشرق المغرب ومعاذ الله أن تتفق الأمة على مخالفة ما جاء به نبيها بل لا بد أن يكون في الأمة من قال به ولو لم تعلمه فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة على الله ورسوله بل أذهب إلى النص ولا تضعف واعلم أنه قد قال به قائل قطعا ولكن لم يصل إليك هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه فهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة انه اعلم بها منك فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النص أعلم به منك فهلا وافقته إن كنت صادقا فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك فمتبعهم حقا من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم فخلافهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب لدليله من الكتاب والسنة بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به ولذلك سمى تقليدا بخلاف ما استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى قال الشافعي اجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد
فصل والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان أن أولياء الرحمن
لا خوف عليهم ولاهم يحزنون هم الذين آمنوا وكانوا يتقون وهم المذكورون في أول سورة البقرة إلى قوله هم المفلحون وفي وسطها في قوله ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر إلى قوله

أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون وفي أول الأنفال إلى قوله لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم وفي أول سورة المؤمنين إلى قوله هم فيها خالدون وفي آخر سورة الفرقان وفي قوله إن المسلمين والمسلمات إلى آخر الآية وفي قوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون وفي قوله ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون وفي قوله إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون إلى قوله في جنات مكرمون وفي قوله التائبون العابدون الحامدون إلى آخر الآية
فأولياء الرحمن هم المخلصون لربهم المحكمون لرسوله في الحرم والحل الذين يخالفون غيره لسنته ولا يخالفون سنته لغيرها فلا يبتدعون ولا يدعون إلى بدعة ولا يتحيزون إلى فئة غير الله ورسوله وأصحابه ولا يتخذون دينهم لهوا ولعبا ولا يستحبون سماع الشيطان على سماع القرآن ولا يؤثرون صحبة الأفتان على مرضاة الرحمن ولا المعازف والمثاني على السبع المثاني
برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض مورد للضنا
وكم قلت يا قوم انتم على ... شفا جرف من سماع الغنا
فلما استهانوا بتنبيهنا ... تركنا غويا وما قد جنا
وهل يستجيب لداعي الهدى ... غوى اصار الغنا ديدنا
فعشنا على ملة المصطفى ... وماتوا على تأتنا تنتنا
ولا يشتبه أولياء الرحمن بأولياء الشيطان إلا على فاقد البصيرة والإيمان وأنى يكون المعرضون عن كتابه وهدى ورسوله وسنته المخالفون له إلى غيره أولياءه وقد ضربوا لمخالفته جاشا وعدلوا عن هدى نبيه وطريقته وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون
فأولياء الرحمن المتلبسون بما يحبه وليهم الداعون إليه المحاربون لمن خرج عنه وأولياء الشيطان المتلبسون بما يحبه وليهم قولا وعملا يدعون إليه ويحاربون من نهاهم عنه فإذا رأيت الرجل يحب السماع الشيطاني ومؤذن الشيطان وإخوان الشياطين ويدعو إلى ما يبحه الشيطان من الشرك والبدع والفجور علمت أنه من أولياءه فإن اشتبه عليك فاكشفه في ثلاثة مواطن في صلاته ومحبته للسنة وأهلها ونفرته عنهم ودعوته إلى الله ورسله وتجريد التوحيد والمتابعة وتحكيم السنة فزنه بذلك لا تزنه يحال ولا كشف ولا خارق ولو مشى على الماء وطار في الهواء

فصل وبهذا يعلم الفرق بين الحال الإيماني والحال الشيطاني فإن الحال
الإيماني ثمرة المتابعة للرسول والإخلاص في العمل وتجريد التوحيد ونتيجته منفعة المسلمين في دينهم ودنياهم وهو إنما يصح بالاستقامة على السنة والوقوف مع الأمر والنهي
والحال الشيطاني نسبته أما شرك أو فجور وهو ينشأ من قرب الشياطين والاتصال بهم ومشابهتهم وهذا الحال يكون لعباد الأصنام والصلبان والنيران والشيطان فإن صاحبه لما عبد الشيطان خلع عليه حالا يصطاد به ضعفاء العقول والإيمان ولا إله إلا الله كم هلك بهؤلاء من الخلق ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فكل حال خرج صاحبه عن حكم الكتاب وما جاء به الرسول فهو شيطاني كائنا ما كان وقد سمعت بأحوال السحرة وعباد النار وعباد الصليب وكثير ممن ينتسب إلى الإسلام ظاهرا وهو بريء منه في الباطن له نصيب من هذا الحال بحسب موالاته للشيطان ومعاداته للرحمن وقد يكون الرجل صادقا ولكن يكون ملبوسا عليه بجهله فيكون حاله شيطانيا مع زهد وعبادة وإخلاص لكن لبس عليه الأمر لقلة علمه بأمور الشياطين والملائكة وجهله بحقائق الإيمان وقد حكى هؤلاء وهؤلاء من ليس منهم بل هو متشبه صاحب مخاييل ومخاريق ووقع الناس في البلاء بسبب عدم التمييز بين هؤلاء وهؤلاء فحسبوا كل سوداء تمرة وكل بيضاء شحمة والفرقان اعز ما في هذا العالم وهو نور يقذفه الله في القلب يفرق به بين الحق والباطل ويزن به حقائق الأمور خيرها وشرها وصالحها وفاسدها فمن عدم الفرقان وقع ولا بد في إشراك الشيطان فالله المستعان وعليه التكلان
فصل والفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع والحكم المؤول الذي غايته
ان يكون جائز الاتباع أن الحكم المنزل هو الذي أنزله الله على رسوله وحكم به بين عباده وهو حكمه الذي لا حكم له سواه
وأما الحكم المؤول فهو أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها ولا يكفر ولا يفسق من خالفها فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم الله ورسوله بل قالوا اجتهدنا برأينا فمن شاء قبله ومن شاء لم يقبله ولم يلزموا به الأمة بل قال أبو حنيفة هذا رأي فمن جاءني بخير منه قبلناه ولو كان هو عين حكم الله لما ساغ لأبى يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه وكذلك مالك استشاره الرشيد أن يحمل الناس على ما في الموطأ فمنعه من ذلك وقال قد تفرق أصحاب رسول الله

في البلاد وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين وهذا الشافعي ينهى أصحابه عن تقليده ويوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه وهذا الإمام أحمد ينكر على من كتب فتاواه ودونها ويقول لا تقلدني ولا تقلد فلانا ولا فلانا وخذ من حيث أخذوا ولو علموا رضي الله عنهم أن أقوالهم يجب اتباعها لحرموا على أصحابهم مخالفتهم ولما ساغ لأصحابهم أن يفتوا بخلافهم في شيء ولما كان أحدهم يقول القول ثم يفتي بخلافه فيروي عنه في المسألة القولان والثلاثة وأكثر من ذلك فالرأي والاجتهاد أحس أحواله أن يسوغ اتباعه والحكم المنزل لا يحل لمسلم أن يخالفه ولا يخرج عنه
وأما الحكم المبدل وهو الحكم بغير ما أنزل الله فلا يحل تنفيذه ولا العمل به ولا يسوغ اتباعه وصاحبه بين الكفر والفسوق والظلم
والمقصود التنبيه على بعض أحوال النفس المطمئنة واللوامة والأمارة وما تشترك فيه النفوس الثلاثة وما يتميز به بعضها من بعض وأفعال كل واحدة منها واختلافها ومقاصدها ونياتها وفي ذلك تنبيه على ما وراءه وهي نفس واحدة تكون أمارة تارة ولوامة أخرى ومطمئنة أخرى وأكثر الناس الغالب عليهم الأمارة وأما المطمئنة فهي اقل النفوس البشرية عددا وأعظمها عند الله قدرا وهي التي يقال لها ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي
والله سبحانه وتعالى المسئول المرجو الإجابة الإجابة أن يجعل نفوسنا مطمئنة إليه عاكفة بهمتها عليه راهبة منه راغبة فيما لديه وان يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأن لا يجعلنا ممن أغفل قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا ولا يجعلنا من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا أنه سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل تم الكتاب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"