بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 31 مارس 2010

نبذ من كتاب الروح لابن القيم/2

قال وقيل لنباش آخر ما أعجب ما رأيت قال رأيت جمجمة انسان مصبوب فيها رصاصا
قال وقيل لنباش آخر ما كان سبب توبتك قال عامة من كنت أنبش كنت أراه محول الوجه عن القبلة
قلت وحدثنى صاحبنا أبو عبد الله محمد بن مساب السلامى وكان من خيار عباد الله وكان يتحرى الصدق قال جاء رجل إلى سوق الحدادين ببغداد فباع مسامير صغار المسمار برأسين فأخذها الحداد وجعل يحمى عليها فلا تلين معه حتى عجز عن ضربها فطلب البائع فوجده فقال من أين لك هذه المسامير فقال لقيتها فلم يزل به حتى أخبره انه وجد قبرا مفتوحا وفيه عظام ميت منظومة بهذه المسامير قال فعالجتها على أن أخرجها فلم أقدر فأخذت حجرا فكسرت عظامه وجمعتها قال وأنا رأيت تلك المسامير قلت له فكيف صفتها قال المسمار صغير برأسين
قال ابن أبى الدنيا وحدثنى ابى عن أبى الحريش عن أمه قالت لما حفر أبو جعفر خندق الكوفة حول الناس موتاهم فرأينا شابا ممن حول عاضا على يده
وذكر عن سماك بن حرب قال مر أبو الدرداء بين القبور فقال ما أسكن ظواهرك وفي داخلك الدواهى
وقال ثابت البنانى بينا أنا أمشى في المقابر وإذا صوت خلفي وهو يقول يا ثابت لا يغرنك سكونها فكم من مغموم فيها فالتفت فلم أر أحدا
ومر الحسن على مقبره فقال يالهم من عسكر ما أسكنهم وكم فيهم من مكروب
وذكر ابن أبى الدنيا أن عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة بن عبد الملك يا مسلمة من دفن أباك قال مولاى فلان قال فمن دفن الوليد قال مولاى فلان قال فأنا أحدثك ما حدثنى به أنه لما دفن أباك والوليد فوضعهما في قبورهما وذهب ليحل العقد عنهما وجد وجوهما قد حولت في اقفيتهما فانظر يا مسملة إذا أنا مت فالتمس وجهى فانظر هل نزل بى ما نزل بالقوم أو هل عوفيت من ذلك قال مسلمة فلما مات عمر وضعته في قبره فلمست وجهه فإذا هو مكانه
وذكر ابن أبى الدنيا عن بعض السلف قال ماتت ابنة لى فأنزلتها القبر فذهبت أصلح اللبنة فإذا هى قد حولت عن القبلة فاغتممت لذلك غما شديدا فرأيتها في النوم فقالت يا أبت اغتممت لما رأيت فإن عامة من حولى محولين عن القبلة قال كأنها تريد الذين ماتوا مصرين على الكبائر

وقال عمرو بن ميمون سمعت عمر بن عبد العزيز يقول كنت من دلى الوليد بن عبد الملك في قبره فنظرت إلى ركبتيه قد جمعتا في عنقه فقال ابنه عاش أبى ورب الكعبة فقلت عوجل أبوك ورب الكعبة فاتعظ بها عمر بعده
وقال عمر بن عبد العزيز ليزيد بن المهلب لما استعمله على العراق يا يزيد اتق الله فانى حين وضعت الوليد في لحده فإذا هو يركض في أكفانه
وقال يزيد بن هارون أخبر هشام بن حسان عن واصل مولى أبى عيينة عن عمر بن زهدم عن عبد الحميد بن محمود قال كنت جالسا عند ابن عباس فأتاه قوم فقالوا إنا خرجنا حجاجا ومعنا صاحب لنا إذ أتينا فاذا الصفاح مات فهيأناه ثم انطلقنا فحفرنا له ولحدنا له فلما فرغنا من لحده إذا نحن بأسود قد ملأ اللحد فحفرنا له آخر فإذا به قد ملأ لحده فحفر ناله آخر فاذا به فقال ابن عباس ذاك الغل الذى يغل به انطلقوا فادفنوه في بعضها فوالذى نفسى بيده لو حفرتم الأرض كلها لوجدتموه فيه فانطلقنا فوضعناه في بعضها فلما رجعنا أتينا أهله بمتاع له معنا فقلنا لامرأته ما كان يعمل زوجك قالت كان يبيع الطعام فيأخذ منه كل يوم قوت أهله ثم يقرض الفضل مثله فيلقيه فيه
وقال ابن أبى الدنيا حدثنى محمد بن الحسين قال حدثنى أبو اسحاق صاحب الشاط قال دعيت إلى ميت لأغسله فلما كشفت الثوب عن وجهه إذا بحية قد تطوقت على حلقه فذكر من غلظها قال فخرجت فلم أغسله فذكروا أنه كان يسب الصحابة رضى الله عنهم
وذكر ابن أبى الدنيا عن سعيد بن خالد بن يزيد الأنصارى عن رجل من أهل البصرة كان يحفر القبور قال حفرت قبرا ذات يوم ووضعت رأسى قريبا منه فأتتنى امرأتان في منامى فقالت احداهما يا عبد الله نشدتك بالله الا صرفت عنا هذه المرأة ولم تجاورنا بها فاستيقظت فزعا فإذا بجنازة امرأة قد جىء بها فقلت القبر ورائكم فصرفتهم عن ذلك القبر فلما كان بالليل إذا أنا بالمرأتين في منامى تقول إحداهما جزاك الله عنا خيرا فلقد صرفت عنا شرا طويلا قلت ما لصاحبتك لا تكلمنى كما تكلمينى أنت قالت إن هذه ماتت عن غير وصية وحق لمن مات عن غير وصية ألا يتكلم إلى يوم القيامة
وهذه الأخبار وأضعافها وأضعاف اضعافها مما لا يتسع لها الكتاب مما أراه الله سبحانه لبعض عباده من عذاب القبر ونعيمه عيانا
وأما رؤية المنام فلو ذكرناها لجاءت عدة أسفار ومن أراد الوقوف عليها فعليه بكتاب المنامات لابن أبى الدنيا وكتاب البستان للقيروانى وغيرهما من الكتب المتضمنة لذلك وليس عند الملاحدة والزنادقة إلا التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه

فصل الأمر السابع أن الله سبحانه وتعالى يحدث في هذه الدار ما هو أعجب
من ذلك فهذا جبريل كان ينزل على النبي ويتمثل له رجلا فيكلمه بكلام يسمعه ! ومن إلأى جانب النبى لا يراه ولا يسمعه وكذلك غيره من الأنبياء وأحيانا يأتيه الوحى في مثل صلصة الجرس ولا يسمعه غيره من الحاضرين وهؤلاء الجن يتحدثون ويتكلمون بالأصوات المرتفعة بيننا ونحن لا نسمعهم وقد كانت الملائكة تضرب الكفار بالسياط وتضرب رقابهم وتصيح بهم والمسلمون معهم لا يرونهم ولا يسمعون كلامهم والله سبحانه قد حجب بنى آدم عن كثير مما يحدثه في الأرض وهو بينهم وقد كان جبريل يقرئ النبي ويدارسه القرآن والحاضرون لا يسمعونه
وكيف يستنكر من يعرف الله سبحانه ويقر بقدرته أن يحدث حوادث يصرف عنها أبصار بعض خلقه حكمة منه ورحمة بهم لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها والعبد أضعف بصرا وسمعا من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر وكثيرا ممن أشهده الله ذلك صعق وغشى عليه ولم ينتفع بالعيش زمنا وبعضهم كشف قناع قلبه فمات فكيف ينكر في الحكمة الإلهية اسبال غطاء يحول بين المكلفين وبين مشاهدة ذلك حتى إذا كشف الغطاء رأوه وشاهدوه عيانا
ثم إن العبد قادر على أن يزيل الزئبق والخردل عن عين الميت وصدره ثم يرده بسرعة فكيف يعجز عنه الملك وكيف لا يقدر عليه من هو على كل شيء قدير وكيف تعجز قدرته عن إبقائه في عينيه وعلى صدره لا يسقط عنه وهل قياس أمر للبرزخ على ما يشاهده الناس في الدنيا إلى محض الجهل والضلال وتكذيب أصدق الصادقين وتعجيز رب العالمين وذلك غاية الجهل والظلم
وإذا كان أحدنا يمكنه توسعة القبر عشرة أذرع ومائة ذراع وأكثر طولا وعرضا وعمقا ويستر توسيعه عن الناس ويطلع عليه من يشاء فكيف يعجز رب العالمين أن يوسعه ما يشاء على من يشاء ويستر ذلك عن أعين بنى آدم فيراه بنو آدم ضيقا وهو أوسع شيء وأطيبه ريحا وأعظمه إضاءة ونورا وهم لا يرون ذلك
وسر المسألة أن هذه السعة والضيق والإضاءة والخضرة والنار ليس من جنس المعهود في هذا العالم والله سبحانه إنما أشهد بنى آدم في هذه الدار ما كان فيها ومنها فأما ما كان من أمر الآخرة فقد أسبل عليه الغطاء ليكون الاقرار به والايمان سببا لسعادتهم فاذا كشف عنهم

الغطاء صار عيانا مشاهدا فلو كان الميت بين الناس موضوعا لم يمتنع أن يأتيه الملكان ويسألانه من غير أن يشعر الحاضرون بذلك ويجيبهما من غير أن يسمعوا كلامه ويضربانه من غير أن يشاهد الحاضرون ضربه وهذا الواحد منا ينام إلى جنب صاحبه فيعذب في النوم ويضرب ويألم وليس عند المستيقظ خبر من ذلك البتة وقد سرى أثر الضرب والألم إلى جسده
ومن أعظم الجهل استبعاد شق الملك الأرض والحجر وقد جعلهما الله سبحانه له كالهواء للطير ولا يلزم من حجبها للأجسام الكثيفة أن تتولج حجبها للارواح اللطيفة وهل هذا إلا من أفسد القياس وبهذا وأمثاله كذبت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم
فصل الأمر الثامن أنه غير ممتنع أن ترد الروح إلى المصلوب والغريق
والمحرق ونحن لا نشعر بها لأن ذلك الرد نوع آخر غير المعهود فهذا المغمى عليه والمسكوت والمبهوت أحياء وارواحهم معهم ولا تشعر بحياتهم ومن تفرقت أجزاؤه لا يمتنع على من هو على كل شيء قدير أن يجعل للروح اتصالا بتلك الأجزاء على تباعد ما بينها وقربه ويكون في تلك الأجزاء شعور بنوع من الألم واللذة وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل في الجمادات شعورا وإدراكا تسبح ربها به وتسقط الحجارة من خشيته وتسجد له الجبال والشجر وتسبحه الحصى والمياه والنبات قال تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ولو كان التسبيح هو مجرد دلالتها على صانعها لم يقل ولكن لا تفقهون تسبيحهم فإن كل عاقل يفقه دلالتها على صانعها وقال تعالى انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والاشراق والدلالة على الصانع لا تختص بهذين الوقتين وكذلك قوله تعالى يا جبال أوبى معه والدلالة لا تختص معيته وحده وكذب على الله من قال التأويب رجع الصدى فإن هذا يكون لكل مصوت وقال تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس والدلالة على الصانع لا تختص بكثير من الناس وقد قال تعالى ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صفات كل قد علم صلاته وتسبيحه فهذه صلاة وتسبيح حقيقة يعلمها الله وإن جحدها الجاهلون المكذبون وقد أخبر تعالى عن الحجارة أن بعضها يزول عن مكانه ويسقط من خشيته وقد أخبر عن الأرض والسماء أنهما يأذنان له وقولهما ذلك أى يستعمان كلامه وأنه خاطبهما فسمعا خطابه وأحسنا جوابه فقال لهما ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين وقد كان الصحابة يسمعون تسبيح الطعام

وهو يؤكل وسمعوا حنين الجذع اليابس في المسجد فاذا كانت هذه الاجسام فيها الاحساس والشعور فالأجسام التي كانت فيها الروح والحياة أولى بذلك وقد أشهد الله سبحانه عباده في هذه الدار إعادة حياة كاملة إلى بدن قد فارقته الروح فتكلم ومشى وأكل وشرب وتزوج وولد له كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم أو كالذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم وكقتيل بنى إسرائيل أو كالذين قال لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأماتهم الله ثم بعثهم من بعد موتهم وكأصحاب الكهف وقصة إبراهيم في الطيور الاربعة فاذا أعاد الحياة التامة إلى هذه الأجساد بعد ما بردت بالموت فكيف يمتنع على قدرته الباهرة أن يعيد إليها بعد موتها حياة ما غير مستقرة يقضى بها ما أمره فيها ويستنطقها بها ويعذبها أو ينعمها بأعمالها وهل إنكار ذلك إلا مجرد تكذيب وعناد وجحود وبالله التوفيق
فصل الأمر التاسع أنه ينبغى أن يعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب
البرزخ ونعيمه وهو ما بين الدنيا والآخرة قال تعالى ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة وسمى عذاب القبر ونعيمه وأنه روضة أو حفرة نار باعتبار غالب الخلق فالمصلوب والحرق والغرق وأكيل السباع ! والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذى تقتضيه أعماله وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما فقد ظن بعض الأوائل انه إذا حرق جسده بالنار وصار رمادا وذرى بعضه في البحر وبعضه في البر في يوم شديد الريح أنه ينجو من ذلك فأوصى بنيه أن يفعلوا به ذلك فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال قم فإذا هو قائم بين يدى الله فسأله ما حملك على ما فعلت فقال خشيتك يا رب وأنت أعلم فما تلافاه أن رحمه فلم يفت عذاب البرزخ ونعيمه لهذه الأجزاء التي صارت في هذه الحال حتى لو علق الميت على رؤوس الأشجار في مهاب الرياح لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه ونصيبه ولو دفن الرجل الصالح في أتون من النار لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصيبه وحظه فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما والهواء على ذلك نارا وسموما فعناصر العالم ومواده منقادة لربها وفاطرها وخالقها يصرفها كيف يشاء ولا يستعصى عليه منها شيء أراده بل هى طلوع مشيئته مذللة منقادة لقدرته ومن أنكر هذا فقد جحد رب العالمين وكفر به وأنكر ربوبيته

فصل الأمر العاشر أن الموت معاد وبعث أول فإن الله سبحانه وتعالى جعل
لابن آدم معادين وبعثين يجزى فيهما الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى
فالبعث الأول مفارقة الروح للبدن ومصيرها إلى دار الجزاء الأول
والبعث الثانى يوم يرد الله الأرواح إلى أجسادها ويبعثها من قبورها إلى الجنة أو النار ! وهو الحشر الثانى ولهذا في الحديث الصحيح وتؤمن بالبعث الآخر فإن البعث الأول لا ينكره أحد وإن أنكر كثير من الناس الجزاء فيه والنعيم والعذاب وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هاتين القيامتين وهما الصغرى والكبرى في سورة المؤمنين وسورة الواقعة وسورة القيامة وسورة المطففين وسورة الفجر وغيرها من السور وقد اقتضى عدله وحكمته أن جعلها دارى جزاء المحسن والمسىء ولكن توفية الجزاء إنما يكون يوم المعاد الثانى في دار القرار كما قال تعالى كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة
وقد اقتضى عدله وأوجبت سماؤه الحسنى وكماله المقدس تنعيم أبدان أوليائه وأرواحهم وتعذيب أبدان أعدائه وأرواحهم فلا بد أن يذيق بدن المطيع له وروحه من النعيم واللذة ما يليق به ويذيق بدن الفاجر العاصى له وروحه من الألم والعقوبة ما يستحقه هذا موجب عدله وحكمته وكماله المقدس ولما كانت هذه الدار دار تكليف وامتحان لا دار جزاء لم يظهر فيها ذلك وأما البرزخ فأول دار الجزاء فظهر فيها من ذلك ما يليق بتلك الدار وتقتضى الحكمة إظهاره فإذا كان يوم القيامة الكبرى وفي أهل الطاعة وأهل المعصية ما يستحقونه من نعيم الأبدان والأرواح وعذابهما فعذاب البرزخ ونعيمه أول عذاب الآخرة ونعيمها وهو مشتق منه وواصل إلى أهل البرزخ هناك كما دل عليه القرآن والسنة الصحيحة الصريحة في غير موضع دلالة صريحة كقوله فيفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها وفي الفاجر فيفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ومعلوم قطعا ان البدن يأخذ حظه من هذا الباب كما تأخذ الروح حظها فإذا كان يوم القيامة دخل من ذلك الباب إلى مقعده الذى هو داخله وهذان البابان يصل منهما إلى العبد فى هذه الدار أثر خفي محجوب بالشواغل والغوشي الحسية والعوارض ولكن يحس به كثير من الناس وإن لم يعرف سببه ولا يسحن التعبير عنه فوجود الشيء غير الاحساس به والتعبير عنه فإذا مات كان وصول ذلك الأثر إليه من ذينك البابين أكمل فإذا بعث كمل وصل ذلك الأثر إليه فحكمة الرب تعالى منتظمة لذلك أكمل انتظام في الدور الثلاث !

المسألة الثامنة وهي قول السائل ما الحكمة فيكون عذاب القبر لم يذكر
في القرآن مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به ليحذر ويتقى فالجواب من وجهين مجمل ومفصل
أما المجمل فهو أن الله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله وحيين وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما وهما الكتاب والحكمة وقال تعالى وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وقال تعالى هو الذى بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلهم الكتاب والحكمة وقال تعالى واذكرن ما يتلى في بيوتكم من آيات الله والحكمة
والكتاب هو القرآن والحكمة هى السنة بانفاق السلف وما أخبر به الرسول عن الله فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام لا ينكره إلا من ليس منهم وقد قال النبي إنى أوتيت الكتاب ومثله معه
وأما الجواب المفصل فهو أن نعيم البرزخ وعذابه مذكور في القرآن في غير موضع فمنها قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن اياته تستكبرون وهذا خطاب لهم عند الموت وقد أخبرت الملائكة وهم الصادقون أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون ولو تأخر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لما صح أن يقال لهم اليوم تجزون
ومنها قوله تعالى فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم القيامة تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب فذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره
ومنها قوله تعالى فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذى فيه يصعقون يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون وإن للذين ظلموا عذابا دون ولكن أكثرهم لا يعلمون وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا وأن يراد به عذابهم في البرزخ وهو أظهر لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا وقد يقال وهو أظهر أن من مات منهم عذب في البرزخ ومن بقى منهم عذب في الدنيا بالقتل وغيره فهو وعيد بعذابهم في الدنيا وفي البرزخ
ومنها قوله تعالى ولنذيقنهم من العذاب الادنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون

وقد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد الله بن عباس على عذاب القبر وفي الاحتجاج بها شيء لأن هذا عذاب في الدنيا يستدعى به رجوعهم عن الكفر ولم يكن هذا ما يخفي على حبر الأمة وترجمان القرآن لكن من فقهه في القرآن ودقة فهمه فيه فهم منها عذاب القبر فانه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين أدنى وأكبر فأخبر أنه يذيقهم بعض الأدنى ليرجعوا فدل على أنه بقى لهم من الأدنى بقية يعذبون بها بعد عذاب الدنيا ولهذا قال من العذاب الأدنى ولم يقل ولنذيقنهم العذاب الأدنى فتأمله
وهذا نظير قول النبي فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ولم يقل فيأتيه حرها وسمومها فإن الذى وصل إليه بعض ذلك وبقى له أكثره والذى ذاقه أعداء الله في الدنيا بعض العذاب وبقى لهم ما هو أعظم منه
ومنها قوله تعالى فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو الحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم فذكر هاهنا أحكام الأرواح عند الموت وذكر في أول السورة أحكامها يوم المعاد الأكبر وقدم ذلك على هذا تقديم الغاية للعناية إن هى أهم وأولى بالذكر وجعلهم عند الموت ثلاثة أقسام كما جعلهم في الآخرة ثلاثة أقسام
ومنها قوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى بك راضية مرضية فادخلى في عبادى وادخلى جنتى وقد اختلف السلف متى يقال لها ذلك فقالت طائفة يقال لها عند الموت وظاهر اللفظ مع هؤلاء فانه خطاب للنفس التي قد تجردت عن البدن وخرجت منه وقد فسر ذلك النبي بقوله في حديث البراء وغيره فيقال لها اخرجى راضية مرضيا عنك وسيأتى تمام تقرير هذا في المسألة التي يذكر فيها مستقر الأرواح في البرزخ إن شاء الله تعالى وقوله تعالى فادخلى في عبادى مطابق لقوله اللهم الرفيق الأعلى
وأنت إذا تأملت أحاديث عذاب القبر ونعيمه وجدتها تفصيلا وتفسيرا لما دل عليه القرآن وبالله التوفيق

المسألة التاسعة وهي قول السائل ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور
جوابها من وجهين مجمل ومفصل أما المجمل فانهم يعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره وارتكابهم لمعاصيه فلا يعذب الله روحا عرفته وأحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه ولا بدنا كانت فيه أبدا فان عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه فمستقل ومستكثر ومصدق ومكذب
وأما الجواب المفصل فقد أخبر النبي عن الرجلين الذين رآهما يعذبان في قبورهما يمشى أحدهما بالنميمة بين الناس ويترك الآخر الاستبراء من البول فهذا ترك الطهارة الواجبة وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه وإن كان صادقا وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة بالكذب والزور والبهتان أعظم عذابا كما أن في ترك الاستبراء من البول تنبيها على أن من ترك الصلاة التي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها فهو أشد عذابا وفي حديث شعبة أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس فهذا مغتاب وذلك نمام وقد تقدم حديث ابن مسعود رضى الله عنه في الذى ضرب سوطا امتلأ القبر عليه به نارا لكونه صلى صلاة واحدة بغير طهور ومر على مظلوم فلم ينصره
وقد تقدم حديث سمرة في صحيح البخارى في تعذيب من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق وتعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به بالنهار وتعذيب الزناة والزوانى وتعذيب آكل الربا كما شاهدهم النبي في البرزخ
وتقدم حديث أبى هريرة رضى الله عنه الذى فيه رضخ رءوس أقوام بالصخر لتثاقل رءوسهم عن الصلاة والذى يسرحون بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم والذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم والذين تقرض شفاههم بمقاريض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب
وتقدم حديث أبى سعيد وعقوبة أرباب تلك الجرائم فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم على سابلة آل فرعون وهم أكلة الربا ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم وهم أكلة أموال اليتامى ومنهم المعلقات بثديهن وهن الزوانى ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم وهم المغتابون ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم وهم الذين يغمتون أعراض الناس

وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن صاحب الشملة التي غلها من المغنم انها تشتعل نارا في قبره هذا وله فيها حق فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق له فيه فعذاب القبر عن معاصي القلب و العين و الاذن و الفم و اللسان و البطن و الفرج و اليد و الرجل و البدن كله فالنمام و الكذاب و المغتاب و شاهد الزور و قاذف المحصن و الموضع في الفتنة و الداعي إلى البدعة و القائل على الله و رسوله مالا علم له به والمجازف في كلامه وآكل الربا آكل أموال اليتامى وآكل السحت من الرشوة و البرطيل و نحوهما وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد و شارب المسكر وآكل لقمة الشجرة الملعونة والزاني واللوطي والسارق والخائن والغادر والمخادع والماكر وآخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهداه والمحلل والمحلل له و المحتال على إسقاط فرائض الله وارتكاب محارمه ومؤذي المسلمين ومتتبع عوراتهم والحاكم بغير ما أنزل الله والمفتي بغير ما شرعه الله والمعين على الاثم و العدوان وقاتل النفس التي حرم الله والملحد في حرم الله والمعطل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحد فيها والمقدم رأيه وذوقه وسياسته على سنة رسول والنائحة والمستمع إليها ونواحوا جهنم وهم المغنون الغناء الذى حرمه الله ورسوله والمستمع إليهم والذين يبنون المساجد على القبور ويوقدون عليها القناديل والسرج والمطففون في استيفاء ما لهم إذا أخذوه وهضم ما عليهم إذا بذلوه والجبارون والمتكبرون والمراؤون والهمازون واللمازون والطاعنون على السلف والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم وأعوان الظلمة الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم والذى إذا خوفته بالله وذكرته به لم يرعو ولم ينزجر فاذا خوفته بمخلوق مثله خاف وارعوى وكف عما هو فيه والذى يهدى بكلام الله ورسوله فلا يهتدى ولا يرفع به رأسا فاذا بلغه عمن يحسن به الظن ممن يصيب ويخطىء عض عليه بالنواجذ ولم يخالفه والذى يقرأ عليه القرآن فلا يؤثر فيه وربما استثقل به فاذا سمع قرآن الشيطان ورقية الزنا ومادة النفاق طاب سره وتواجد وهاج من قلبه دواعى الطرب وود أن المغنى لا يسكت والذى يحلف بالله ويكذب فاذا حلف بالبندق أو برئ من شيخه أو قريبه أو سراويل الفتوة أو حياة من يحبه ويعظمه من المخلوقين لم يكذب ولو هدد وعوقب والذى يفتخر بالمعصية ويتكثر بها بين اخوانه وأضرابه وهو المجاهر والذى لا تأمنه على مالك وحرمتك والفاحش اللسان البذىء الذى تركه الخلق اتقاء شره وفحشه والذى يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها ولا يذكر الله فيها إلا قليلا ولا يؤدى زكاة ماله طيبة بها نفسه ولا يحج مع قدرته على الحج ولا يؤدى ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها ولا يتورع من لحظة ولا لفظة ولا أكلة ولا

خطوة ولا يبإلى بما حصل من المال من حلال أو حرام ولا يصل رحمه ولا يرحم المسكين ولا الأرملة ولا اليتيم ولا الحيوان البهيم بل يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ويرائى للعالمين ويمنع الماعون ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه وبذنوبهم عن ذنبه فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسب كثرتها وقلتها وصغيرها وكبيرها
ولما كان أكثر الناس كذلك كان أكثر أصحاب القبور معذبين والفائز منهم قليل فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات وعذاب ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات وفي باطنها الدواهى والبليات تغلى بالحسرات كما تغلى القدور بما فيها ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها تالله لقد وعظت فما تركت لواعظ مقالا ونادت يا عمار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا وخربتم دارا أنتم مسرعونى إليها انتقالا عمرتم بيوتا لغيركم منافعها وسكناها وخربتم بيوتا ليس لكم مساكن سواها هذه دار الاستباق ومستودع الاعمال وبذر الزرع وهذه محل للعبر رياض من رياض الجنة أو حفر من حفر النار
المسألة العاشرة الأسباب المنجية من عذاب القبر جوابها أيضا من وجهين
مجمل ومفصل
أما المجمل فهو تجنب تلك الأسباب التي تقتضى عذاب القبر ومن انفعها ان يجلس الرجل عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه ثم يجدد له توبة نصوحا بينه وبين الله فينام على تلك التوبة ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ ويفعل هذا كل ليلة فإن مات من ليلته مات على توبة وإن استيقظ استيقظ مستقبلا للعمل مسرورا بتأخير أجله حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته وليس للعبد انفع من هذه النومة ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله عند النوم حتى يغله النوم فمن أراد الله به خيرا وفقه لذلك ولا قوة إلا بالله
وأما الجواب المفصل فنذكر أحاديث عن رسول الله فيما ينجى من عذاب القبر
فمنها ما رواه مسلم في صحيحه عن سلمان رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وان مات اجرى عليه عمله الذى كان يعمله واجرى عليه رزقه وأمن الفتان

وفي جامع الترمذى من حديث فضالة بن عبيد عن رسول الله قال كل ميت يختم على عمله إلا الذى مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح
وفي سنن النسائى عن رشدين بن سعد عن رجل من اصحاب النبي صلى الله أن رجلا قال يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد قال كفي ببارقة السيوف على رأسه فتنة
وعن المقدام بن معد يكرب قال قال رسول الله للشهيد عند الله ست خصال يغفر له في أول دفعة من دمه وبرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من اقاربه رواه ابن ماجه والترمذى وهذا لفظه وقال هذا حديث حسن صحيح
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال ضرب رجل من أصحاب رسول الله خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فاتى النبي فقال يا رسول الله ضربت خبائى على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فقال النبي هى المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر قال الترمذى هذا حديث حسن غريب
وروينا في مسند بن حميد عن إبراهيم بن الحكم عن ابيه عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال لرجل ألا أتحفك بحديث تفرح به قال الرجل بلى قال اقرأ تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شيء قدير احفظها وعلما أهلك وولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة تجادل أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له إلى ربها أن ينجيه من عذاب النار إذا كانت في جوفه وينجى الله بها صاحبها من عذاب القبر قال رسول الله لودت أنها في قلب كل إنسان من أمتى
قال أبو عمر بن عبد البر وصح عن رسول الله أنه قال إن سورة ثلاثين آية شفعت في صاحبها حتى غفر له تبارك الذى بيده الملك
وفي سنين ابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه برفعه من مات مبطونا مات شهيدا ووقي فتنة القبر وغدى وريح عليه برزق من الجنة
وفي سنن النسائى عن جامع بن شداد قال سمعت عبد الله بن يشكر يقول كنت جالسا مع سليمان بن صره وخالد بن عرفطة فذكروا أن رجلا مات ببطنه فإذا هما يشتهيان أن

يكونا شهدا جنازته فقال أحدهما للآخر ألم يقل رسول الله من قتله بطنه لم يعذب في قبره
وقال أبو داود الطيالسى في مسنده حدثنا شعبة حدثنى أحمد بن جامع بن شداد قال أبى فذكره وزاد فقال الآخر بلى
وفي الترمذى من حديث ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر قال الترمذى هذا حديث حسن غريب وليس إسناده بمتصل ربيعة بن سيف إنما يروى عن أبى عبد الرحمن الحبلى عن عبد الله بن عمرو ولا يعرف لربيعة بن سيف سماع من عبد الله ابن عمرو انتهى
وقد روى الترمذى الحكيم من حديث ربيعة بن سيف هذا عن عياض بن عقبة الفهرى عن عبد الله بن عمرو
وقد رواه أبو نعيم الحافظ عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا ولفظه من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أجير من عذاب القبر وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء تفرد به عمر بن موسى الوجيهى وهو مدنى ضعيف
وقوله كفي ببارقة السيوف على رأسه فتنة معناه والله أعلم قد امتحن نفاقه من إيمانه ببارقة السيف على رأسه فلم يفر فلو كان منافقا لما صبر ببارقة السيف على رأسه فدل على أن إيمانه هو الذى حمله على بذل نفسه لله وتسليمها له وهاج من قلبه حمية الغضب لله ورسوله واظهار دينه وإعزاز كلمته فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره حيث برز للقتل فاستغنى بذلك عن الامتحان في قبره
قال أبو عبد الله القرطبى إذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أجل خطرا وأعظم أجرا أن لا يفتن لأنه مقدم ذكره في التنزيل على الشهداء وقد صح في المرابط الذى هو دون الشهيد أنه لا يفتن فكيف بمن هو أعلى رتبة منه ومن الشهيد
والأحاديث الصحيحة ترد هذا القول وتبين أن الصديق يسأل في قبره كما يسأل غيره وهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأس الصديقين وقد قال النبيى لما أخبره عن سؤال الملك في قبره فقال وأنا على مثل حالتي هذه فقال نعم وذكر الحديث
وقد اختلف في الأنبياء هل يسألون في قبورهم على قولين وهما وجهان في مذهب أحمد

وغيره ولا يلزم من هذه الخاصية التي اختص بها الشهيد أن يشاركه الصديق في حكمها وإن كان أعلى منه فخواص الشهداء وقد تنتفي عمن هو أفضل منهم وإن كان أعلى منهم درجة
وأما حديث ابن ماجه من مات مريضا مات شهيدا ووقى فتنة القبر فمن إفراد ابن ماجه وفي إفراده غرائب ومنكرات ومثل هذا الحديث مما يتوقف فيه ولا يشهد به على رسول الله فان صح فهو مقيد بالحديث الآخر وهو الذى يقتله بطنه فان صح عنه أنه قال المبطون شهيد فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيد والله أعلم
وقد جاء فيما ينجى من عذاب القبر حديث فيه الشفاء رواه أبو موسى المدينى وبين علته في كتابه في الترغيب والترهيب وجعله شرحا له رواه من حديث الفرج بن فضالة حدثنا هلال أبو جبلة عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال خرج علينا رسول الله ونحن في صفة بالمدينة فقام علينا فقال إنى رأيت البارحة عجبا رأيت رجلا من أمتى أتاه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد ملك الموت عنه ورأيت رجلا من أمتى قد احتوشته الشياطين فجاء ذكر الله فطير الشياطين عنه ورأيت رجلا من أمتى قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم ورأيت رجلا من أمتى يلهث عطشا كلما دنا من حوض منع وطرد فجاءه صيام شهر رمضان فاسقاه وأرواه ورأيت رجلا من أمتى ورأيت النبيين جلوسا حلقا حلقا كلما دنا إلى حلقة طرد ومنع فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي ورأيت رجلا من أمتى من بين يديه ظلمة ومن خلفه وعن يمينه ظلمة وعن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة وهو متحير فيه فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور ورأيت رجلا من أمتى يتقى وهج النار وشررها فجاءته صدقته فصارت سترا بينه وبين النار وظلا على رأسه ورأيت رجلا من أمتى يكلم المؤمنين ولا يكلمونه فجاءته صلته لرحمه فقالت يا معشر المؤمنين انه كان وصولا لرحمه فكلموه المؤمنون وصافحوه وصافحهم ورأيت رجلا من أمتى قد احتوشته الزبانية فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة ورأيت رجلا من أمتى جاثيا على ركبتيه وبينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله
تعالى ورأيت رجلا من أمتى قد ذهبت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه فوضعها في يمينه ورايت رجلا من أمتى خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه ورأيت رجلا من أمتى قائما على شفير جهنم فجاءه رجاؤه من الله تعالى فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت رجلا من أمتى قد هوى

في النار فجاءته دمعته التي قد بكى من خشية الله تعالى فاستنقذته من ذلك ورأيت رجلا من أمتى قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف فجاءه حسن ظنه بالله تعالى فسكن روعه ومضى ورأيت رجلا من أمتى يزحف على الصراط يحبو أحيانا ويتعلق أحيانا فجاءته صلاته فأقامته على قدميه وأنقذته ورأيت رجلا من أمتى انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة قال الحافظ أبو موسى هذا حديث حسن جدا رواه عن سعيد بن المسيب وعمر بن ذر وعلى ابن زيد بن جدعان
ونحو هذا الحديث مما قيل فيه أن رؤيا الأنبياء وحى فهو على ظاهرها لا كنحو ما روى عنه أنه قال رأيت كأن سيفي انقطع فأولته كذا وكذا ورأيت بقرا تنحر ورأيت كأنا في دار عقبة بن رافع
وقد روى في رؤياه الطويلة من حديث سمرة في الصحيح ومن حديث على وأبى أمامة وروايات هؤلاء الثلاثة قريب بعضها من بعض مشتملة على ذكر عقوبات جماعة من المعذبين في البرزخ فأما في هذه الرواية فذكر العقوبة وأنبعها بما ينجى صاحبها من العمل وراوى هذا الحديث عن ابن المسيب هلال أبو جبلة مدنى لا يعرف بغير هذا الحديث ذكره ابن أبى حاتم عن ابيه هكذا ذكره الحاكم أبو أحمد والحاكم أبو عبد الله أبو جبل بلا هاء وحكياه عن مسلم ورواه عنه الفرج بن فضالة وهو وسط في الرواية ليس بالقوى ولا المتروك ورواه عنه بشر ابن الوليد الفقيه المعروف بأبى الخطيب كان حسن المذهب جميل الطريقة وسمعت شيخ الإسلام يعظم أمر هذا الحديث وقال أصول السنة تشهد له وهو من أحسن الأحاديث
المسألة الحادية عشر
وهى أن السؤال في القبر هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار أو يختص بالمسلم والمنافق
قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد والآثار الدالة تدل على أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق كان منسوبا إلى أهل القبلة ودين الإسلام بظاهر الشهادة وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه ودينه ونبيه وإنما يسأل عن هذا أهل الإسلام فيثبت الله الذين آمنوا ويرتاب المبطلون

والقرآن والسنة تدل على خلاف هذا القول وأن السؤال للكافر والمسلم قال الله تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء وقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر حين يسأل من ربك وما دينك ومن نبيك
وفي الصحيحن عن أنس بن مالك عن النبي أنه قال إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه ليسمع قرع نعالهم وذكر الحديث زاد البخارى وأما المنافق والكافر فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول لا أدرى كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ويضرب بمطرقة من حديد يصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين هكذا في البخارى وأما المنافق والكافر بالواو وقد تقدم في حديث أبى سعيد الخدرى الذى رواه ابن ماجه والإمام أحمد كنا في جنازة مع النبي فقال يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فاذا الإنسان دفن وتولى عنه أصحابه جاء ملك وفي يده مطراق فأقعده فقال ما تقول في هذا الرجل فإن كان مؤمنا قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقول هذا منزلك لو كفرت بربك وأما الكافر والمنافق فيقول له ما تقول في هذا الرجل فيقول لا أدرى فيقال لا دريت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول له هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذ كفرت فان الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله إلا الثقلين فقال بعض الصحابة يا رسول الله ما أحد يقوم على رأسه ملك إلا هيل عند ذلك فقال رسول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء
وفي حديث البراء بن عازب الطويل وأما الكافر إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل عليه الملائكة من السماء معهم مسوح وذكر الحديث إلى أن قال ثم تعاد روحه في جسده في قبره وذكر الحديث وفي لفظ فاذا كان كافر جاءه ملك الموت فجلس عند رأسه فذكر الحديث إلى قوله ما هذه الروح الخبيثة فيقولون فلان بأسو أسمائه فاذا انتهى به إلى سماء الدنيا أغلقت دونه قال يرمى به من السماء ثم قرأ قوله تعالى ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق قال فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فيجلسانه وينتهرانه فيقولان من ربك فيقول هاه لا أدرى فيقولان لا دريت فيقولان ما هذا النبي الذى بعث فيكم فيقول سمعت

الناس يقولون ذلك لا ادرى فيقولان له لا دريت وذلك قوله تعالى ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء وذكر الحديث
واسم الفاجر في عرف القرآن والسنة يتناول الكافر قطعا كقوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم وقوله تعالى كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وفي لفظ آخر في حديث البراء وإن الكافر إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل اليه ملائكة شداد غضاب معهم ثياب من نار وسرابيل من قطران فيحتوشونه فتنزع روحه كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل فاذا أخرجت لعنه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء
وذكر الحديث إلى أن قال انه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين فيقال يا هذا من ربك وما دينك ومن نبنيك فيقول لا أدرى فيقال لا دريت وذكر الحديث رواه حماد بن سلمة عن يونس بن خباب عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء
وفي حديث عيسى بن المسيب عن عدى بن ثابت عن البراء خرجنا مع رسول في جنازة رجل من الأنصار وذكر الحديث إلى أن قال وإن الكافر إذا كان في دبر من الدنيا وقبل من الآخرة وحضره الموت نزلت عليه ملائكة معهم كفن من نارو وحنوط من نار فذكر الحديث إلى أن قال فترد روحه إلى مضجعه فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ويفحصان الأرض بأشعارهما أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف فيجلسانه ثم يقولان يا هذا من ربك فيقول لا أدرى فينادى من جانب القبر لادريت فيضربانه بمرزبة من حديد لو اجتمع عليها من بين الخافقين لم تقل ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه وذكر الحديث
ورواه الإمام أحمد في مسنده عن أبى النظر هاشم بن القاسم حدثنا عيسى بن المسيب فذكره
وفي حديث محمد بن سلمة عن خصيف عن مجاهد عن البراء قال كنا في جنازة رجل من الأنصار ومعنا رسول الله فذكر الحديث إلى أن قال وقال رسول الله وإذا وضع الكافر أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول لا أدرى فيقولان له لادريت الحديث وقد تقدم
وبالجملة فعامة من روى حديث البراء بن عازب قال فيه وأما الكافر بالجزم وبعضهم قال وأما الفاجر وبعضهم قال وأما المنافق والمرتاب وهذه اللفظة من شك بعض الرواة هكذا في الحديث لا أدرى أى ذلك قال

وأما من ذكر الكافر والفاجر فلم يشك ورواية من لم يشك مع كثرتهم أولى من رواية من شك مع انفراده على أنه لا تناقض بين الروايتين فان المنافق يسأل كما يسأل الكافر والمؤمن فيثبت الله أهل الإيمان ويضل الله الظالمين وهم الكفار والمنافقون
وقد جمع أبو سعيد الخدرى في حديثه الذى رواه أبو عامر العقدى حدثنا عباد بن راشد عن داود بن أبى هند عن أبى نضرة عن أبى سعيد قال شهدنا مع رسول الله جنازة فذكر الحديث وقال وإن كان كافرا أو منافقا يقول له ما تقول في هذا الرجل فيقول لا أدرى وهذا صريح في أن السؤال للكافر والمنافق وقول أبى عمر
رحمه الله وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه ودينه فيقال له ليس كذلك بل هو من جملة المسئولين وأولى بالسؤال من غيره
وقد أخبر الله في كتابه أنه يسأل الكافر يوم القيامة قال تعالى ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين وقال تعالى فوربكم لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون وقال تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فإذا سئلوا يوم القيامة فكيف لا يسألون في قبورهم فليس لما ذكره أبو عمر
رحمه الله وجه
المسألة الثانية عشرة وهى أن سؤال منكر ونكير هل هو مختص بهذه الأمة أو
يكون لها ولغيرها
هذا موضع تكلم فيه الناس فقال أبو عبد الله الترمذى إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة فاذا أبوا كفت الرسل واعتزلزهم وعولجو بالعذاب فلما بعث الله محمدا بالرحمة إماما للخلق كما قال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب وأعطى السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف ثم يرسخ الإيمان في قلبه فأمهلوا فمن ها هنا ظهر أمر النفاق وكانوا يسرون الكفر ويعلنون الإيمان فكانوا بين المسلمين في ستر فلما ماتوا قبض الله لهم فتانى القبر ليستخرجا سرهم بالسؤال وليميز الله الخبيث من الطيب فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء
وخالف في ذلك آخرون منهم عبد الحق الأشبيلى والقرطبى وقالوا السؤال لهذه الأمة ولغيرها

وتوقف في ذلك آخرون منهم أبو عمر بن عبد البر فقال وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي أنه قال إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ومنهم من يرويه تسأل وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصت بذلك فهذا أمر لا يقطع عليه
وقد احتج من خصه بهذه الأمة بقوله إن هذه الأمة تبتلى في قبورها وبقوله أوحى إلى أنكم تفتنون في قبوركم وهذا ظاهر في الاختصاص بهذه الأمة قالوا ويدل عليه قول الملكين له ما كنت تقول في هذا الرجل الذى بعث فيكم فيقول المؤمن أشهد أنه عبد الله ورسوله فهذا خاص بالنبي وقوله في الحديث الآخر إنكم بي تمتحنون و عني تسألون
و قال آخرون لا يدل هذا على اختصاص السؤال بهذه الأمة دون سائر الأمم فإن قوله ان الأمة اما ن يراد به أمة الناس كما قال تعالى و ما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم و كل جنس من أجناس الحيوان يسمى أمة و في الحديث لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها و فيه أيضا حديث النبي الذي قرصته نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله اليه من أجل أن قرصتك نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله و إن كان المراد به أمته الذي بعث فيهم لم يكن فيه ما ينفي سؤال غيرهم من الأمم بل قد يكون ذكرهم اخبارا بأنهم مسئولون في قبورهم و أن ذلك لا يختص بمن قبلهم لفضل هذه الأمة و شرفها على سائر الأمم
و كذلك قوله أوحى إلى أنكم تفتنون في قبوركم
و كذلك اخباره عن قول الملكين ما هذا الرجل الذي بعث فيكم هو اخبار لأمته بما تمتحن به في قبورها و الظاهر و الله أعلم أن كل نبي مع أمته كذلك و أنهم معذبون في قبورهم بعد السؤال لهم و إقامة الحجة عليهم كما يعذبون في الآخرة بعد السؤال و إقامة الحجة و الله سبحانه و تعالى أعلم
المسألة الثالثة عشرة وهي أن الأطفال هل يمتحنون في قبورهم اختلف
الناس في ذلك على قولين هما وجهان لأصحاب أحمد
و حجة من قال أنهم يسألون أنه يشرع الصلاة عليهم و الدعاء لهم و سؤال الله أن يقيهم ! عذاب القبر و فتنة القبر كما ذكر مالك في موطئه عن أبي هريرة
رضي الله عنه أنه على جنازة صبي فسمع من دعائه اللهم قه عذاب القبر

واحتجوا بما رواه على بن معبد عن عائشة رضي الله عنها أنه مر عليها بجنازة صبي صغير فبكت فقيل لها ما يبكيك يا أم المؤمنين فقالت هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر
واحتجوا بما رواه هناد بن السرى حدثنا أبو معاوية عن يحيى بن سعيد عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال إنه كان ليصلي على المنفوس و ما ان عمل خطيئة قط فيقول اللهم أجره من عذاب القبر
قالوا والله سبحانه يكمل لهم عقولهم ليعرفوا بذلك منزلهم و يلهمون الجواب عما يسألون عنه
قالوا و قد دل على ذلك الأحاديث الكثيرة التي فيها أنهم يمتحنون في الآخرة و حكاه الأشعري عن أهل السنة و الحديث فإذا امتحنوا في الآخرة لم يمتنع امتحانهم في القبور
قال الآخرون السؤال أنما يكون لمن عقل الرسول و المرسل فيسأل هل آمن بالرسول و أطاعه أم لا فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم فأما الطفل الذي لا تمييز له بوجه ما فكيف يقال له ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم و لو رد إليه عقله في القبر فإنه لا يسأل عما لم يتمكن من معرفته و العلم به و لا فائدة في هذا السؤال و هذا بخلاف امتحانهم في الآخرة فإن الله سبحانه يرسل اليهم رسولا و يأمرهم بطاعة أمره و عقولهم معهم فمن أطاعه منهم نجا و من عصاه أدخله النار فذلك امتحان بأمر يأمرهم به يفعلونه ذلك الوقت لا أنه سؤال عن أمر مضى لهم في الدنيا من طاعة أو عصيان كسؤال الملكين في القبر
و أما حديث أبي هريرة
رضي الله عنه فليس المراد بعذاب القبر فيه عقوبة الطفل على ترك طاعة أو فعل معصية قطعا فان الله لا يعذب أحدا بلا ذنب عمله بل عذاب القبر قد يراد به الألم الذي يحصل للميت بسبب غيره و إن لم يكن عقوبة على عمل عمله و منه قوله إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه أي يتألم بذلك و يتوجع منه لا أنه يعاقب بذنب الحي و لا تزر وازرة وزر أخرى
و هذا كقول النبي السفر قطعة من العذاب فالعذاب أعم من العقوبة و لا ريب أن في القبر من الآلام و الهموم و الحسرات ما قد يسرى أثره إلى الطفل فيتألم به فيشرع المصلى عليه أن يسأل الله تعالى له أن يقيه ذلك العذاب و الله أعلم

المسألة الرابعة عشرة وهي قوله عذاب القبر دائم أم منقطع جوابها أنه
نوعان نوع دائم سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين فإذا قاموا من قبورهم قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ويدل على دوامه قوله تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويدل عليه أيضا ما تقدم في حديث سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي وفيه فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة
وفي حديث ابن عباس في قصة الجريدتين لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا فجعل التخفيف مقيدا برطوبتهما فقط
و في حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء و قد تقدم وفي الصحيح في قصة الذي لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة رواه الإمام أحمد وفي بعض طرقه ثم يخرق له خرقا إلى النار فيأتيه من غمها و دخانها إلى القيامة
النوع الثاني إلى مدة ثم ينقطع وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب
وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حج أو قراءة تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم وهذا كما يشفع الشافع في المعذب في الدنيا فيخلص من العذاب بشفاعته لكن هذه شفاعة قد لا تكون باذن المشفوع عنده والله سبحانه وتعالى لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحم المشفوع له ولا تغتر بغير هذا فإنه شرك وباطل يتعالى الله عنه من ذا الذى يشفع عنده إلا باذنه ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ما من شفيع إلا من بعد إذنه ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له قال لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والارض
وقد ذكر ابن أبى الدنيا حدثنى محمد بن موسى الصائغ حدثنا عبد الله بن نافع قال مات رجل من أهل المدينة فرآه رجل كأنه من أهل النار فاغتنم لذلك ثم أنه بعد ساعة أو

ثانيه رآه كأنه من أهل الجنة فقال ألم تكن قلت انك من أهل النار قال قد كان ذلك إلا أنه دفن معنا رجل من الصالحين فشفع في اربعين من جيرانه فكنت أنا منهم
قال ابن أبى الدنيا وحدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنى بعض أصحابنا قال مات أخى فرأيته في النوم فقلت ما كان حالك حين وضعت في قبرك قال أتانى آت بشهاب من نار فلولا أن داعيا دعا لى لرأيت أنه سيضربنى به
وقال عمرو بن جرير إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه بها ملك إلى قبره فقال يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ عليك شفيق
وقال بشار بن غالب رأيت رابعة في منامى وكنت كثير الدعاء لها فقالت لى يا بشار بن غالب هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل الحرير قلت كيف ذلك قالت هكذا دعاء المؤمنين الاحياء إذا دعوا للموتى استجيب لهم واجعل ذلك الدعاء على أطباق النور وخمر بمناديل الحرير ثم أتى بها الذى دعى له من الموتى فقيل هذه هدية فلان إليك
قال ابن أبى الدنيا وحدثنى أبو عبيد بن بحير قال حدثنى بعض أصحابنا قال رأيت أخا لى في النوم بعد موته فقلت أيصل إليكم دعاء الأحياء قال أى والله يترفرف مثل النور ثم يلبسه
وسيأتى إن شاء الله تعالى تمام لهذه في جواب السؤال عن انتفاع الأموات بما تهديه إليهم الأحياء المسالة الخامسة عشرة
وهى أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى القيامة هل هى في السماء أم في الأرض وهل هي في الجنة أم لا وهل تودع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها فتنعم وتعذب فيها أم تكون مجردة
هذه مسالة عظيمة تكلم فيها للناس واختلفوا فيها وهى إنما تتلقى من السمع فقط واختلف في ذلك فقال قائلون أرواح المؤمنين عند الله في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم وهذا مذهب أبى هريرة وعبد الله بن عمر رضى الله عنهم
وقالت طائفة هم بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها
وقالت طائفة الأرواح على افنية قبورها

وقال مالك بلغنى أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله أرواح للكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة
وقال أبو عبد الله بن منده وقال طائفة من الصحابة والتابعين أرواح المؤمنين عند الله
تعالى ولم يزيدوا على ذلك قال روى عن جماعة من الصحابة والتابعين أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت بئر بحضرموت
وقال صفوان بن عمرو سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان هل لأنفس المؤمنين مجتمع فقال إن الأرض التي يقول الله تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون قال هى الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث وقالوا هى الأرض التي يورثها الله المؤمنين في الدنيا وقال كعب أرواح المؤمنين عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت جند إبليس
وقالت طائفة أرواح المؤمنين ببئر زمزم وأرواح الكفار ببئر برهوت
وقال سلمان الفارسى أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين وفي لفظ عنه نسمة المؤمن تذهب في الأرض حيث شاءت
وقالت طائفة أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن شماله
وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها
وقال والذى نقول به في مستقر الأرواح هو ما قاله الله
تعالى ونبيه لا نتعداه فهو البرهان الواضح وهو أن الله تعالى قال وإذا أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين وقال تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فصح أن الله تعالى خلق الأرواح جملة وكذلك أخبر أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وأخذ الله عهدها وشهادتها له بالربوبية وهى مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم وقبل أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ تراب وماء ثم أقرها حيث شاء وهو البرزخ الذى ترجع إليه عند الموت ثم لا يزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنى إلى أن قال فصح أن الأرواح أجساد حاملة لأغراضها من التعارف والتناكر وأنها عارفة مميزة فيبلوهم الله في الدنيا كما يشاء ثم يتوفاها فيرجع إلى

البرزخ الذى رآها فيه رسول الله ليلة أسرى به عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم وأرواح أهل الشقاوة عن يساره وذلك عند منقطع العناصر ويعجل أرواح الأنبياء والشهداء إلى الجنة
قال وقد ذكر محمد بن نصر المروزى عن اسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذى قلنا بعينه قال وعلى هذا أجمع أهل العلم
قال ابن حزم وهو قول جميع أهل الإسلام قال وهذا هو قول الله تعالى فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين وقوله تعالى فأما أن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم إلى خرها فلا تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح إلى أجسادها ثانية وهى الحياة الثانية يحاسب الخلق فريق في الجنة وفريق في السعير مخلدين ابدا انتهى
وقال أبو عمر بن عبد البر أرواح الشهداء في الجنة وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم ونحن نذكر كلامه وما احتج به ونبين ما فيه
وقال ابن المبارك عن ابن جريج فيما قرىء عليه من مجاهد ليس هى في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها
وذكر معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين فقال بلغنى أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة تأتى ربها في كل يوم تسلم عليه
وقال أبو عمر بن عبد البر في شرح حديث ابن عمر أن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة قال وقد استدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب اليه في ذلك والله أعلم لأن الأحاديث بذلك أحسن مجيئا وأثبت نقلا من غيرها
قال والمعنى أنها قد تكون على أفنية قبورها لا على أنها تلزم ولا تفارق أفنية القبور كما قال مالك
رحمه الله أنه بلغنا أن الأرواح تسرح حيث شاءت
قال وعن مجاهد أنه قال الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك والله أعلم

وقالت فرقة مستقرها العدم المحض وهذا قول من يقول ان النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه فتعدم بموت البدن كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين كما سنذكر ذلك إن شاء الله والمقصود أن عند هذه الفرقة المبطلة ان مستقر الأرواح بعد الموت العدم المحض
وقالت فرقة مستقرها بعد الموت أرواح أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح فتصير النفس السبعية إلى ابدان السباع والكلبية إلى أبدان البهائم والدنية والسفلية إلى أبدان الحشرات وهذا قول المتناسخة منكرى المعاد وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلهم
فهذا ما تلخص لى من جمع أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت ولا تظفر به مجموعا في كتاب واحد غير هذا البتة ونحن نذكر مأخذ هذه الأقوال وما لكل قول وما عليه وما هو الصواب من ذلك الذى دل عليه الكتاب والسنة على طريقتنا التي من الله بها وهو مرجو الإعانة والتوفيق فصل
فأما من قال هى في الجنة فاحتج بقوله تعالى فاما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم قال وهذا ذكره سبحانه عقيب ذكر خروجها من البدن بالموت وقسم الأرواح إلى ثلاثة أقسام مقربين وأخبر أنها في جنة النعيم وأصحاب يمين حكم لها بالإسلام وهو يتضمن سلامتها من العذاب ومكذبة ضالة وأخبر أن لها نزلا من حميم وتصلية جحيم قالوا وهذا بعد مفارقتها للبدن قطعا وقد ذكر سبحانه حالها يوم القيامة في أول السورة فذكر حالها بعد الموت وبعد البعث واحتجوا بقوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلى في عبادى وادخلى جنتى وقد قال غير واحد من الصحابة والتابعين ان هذا يقال لها عند خروجها من الدنيا يبشرها الملك بذلك ولا ينافي ذلك قول من قال ان هذا يقال لها في الآخرة فانه يقال لها عند الموت وعند البعث وهذه من البشرى التي قال تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون وهذا التنزل يكون عند الموت ويكون في القبر ويكون عند البعث وأول بشارة الآخرة عند الموت
وقد تقدم في حديث البراء بن عازب أن الملك يقول لها عند قبضها أبشرى بروح وريحان وهذا من ريحان الجنة

واحتجوا بما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله قال إنما نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى حياة يوم يبعثه قال أبو عمر وفي رواية مالك هذه بيان سماع الزهرى لهذا الحديث من عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكذلك رواه يونس عن الزهرى قال سمعت عبد الرحمن بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه وكذلك رواه الأوزاعى عن الزهرى حدثنى عبد الرحمن بن كعب وقد أعل محمد بن يحيى الذهلى هذا الحديث بأن شعيب بن أبى حمزة ومحمد بن أخى الزهرى وصالح بن كيسان رووه عن الزهرى عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن جده كعب فيكون منقطعا وقال صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عبد الرحمن انه بلغه أن كعبا بن مالك كان يحدث قال الذهلى وهذا المحفوظ عندنا وهو الذى يشبهه حديث صالح وشعيب وابن أخى الزهرى وخالفه في هذا غيره من الحفاظ فحكموا لمالك والأوزاعى قال أبو عمر فاتفق مالك ويونس بن يزيد والأوزاعى والحارث بن فضيل على رواية هذا الحديث عن الزهرى عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك عن أبيه وصححه الترمذي وغيره
قال أبو عمر ولا وجه عندى لما قاله محمد بن يحيى من ذلك ولا دليل عليه واتفاق مالك ويونس بن زيد والأوزاعى ومحمد بن إسحاق أولى بالصواب والنفس إلى قولهم وروايتهم أسكن وهم من الحفظ والاتقان بحيث لا يقاس بهم من خالفهم في هذا الحديث انتهى وقد قال محمد الذهلى سمعت على بن المدينى يقول ولد كعب خمسة عبد الله وعبيد الله ومعبد وعبد الرحمن ومحمد قال الذهلى فسمع الزهرى من عبد الله بن كعب وكان قائد أبيه حين عمى وسمع من عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب وروى عن بشير بن عبد الرحمن بن كعب ولا أراه سمع منه انتهى فالحديث ان كان لعبد الرحمن عن أبيه كعب كما قال مالك ومن معه فظاهر وإن كان لعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن جده كما قال شعيب ومن معه فنهايته أن يكون مرسلا من هذا الطريق وموصولا من الأخرى والذين وصلوه ليسوا بدون الذين أرسلوه قدرا ولا عددا فالحديث من صحاح الأحاديث وإنما لم يخرجه صاحبا الصحيح لهذه العلة والله أعلم
قال أبو عمرو أما قوله نسمة المؤمن فالنسمة ها هنا الروح يدل على ذلك قوله في الحديث نفسه حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه وقيل النسمة الروح والنفس والبدن وأصل هذه اللفظة اعنى النسمة الانسان بعينه وإنما قيل للروح نسمة والله أعلم لأن حياة الانسان بروحه وإذا فارقه عدم أو صار كالمعدوم والدليل على أن النسمة الانسان قوله من أعتق نسمة مؤمنة وقول على رضى الله عنه والذى فلق الحبة وبرأ النسمة وقال الشاعر
فأعظم منك تقى في الحساب ... إذا النسمات نفضن الغبارا

يعنى إذا بعث الناس من قبورهم يوم القيامة وقال الخليل بن أحمد النسمة الإنسان قال والنسمة الروح والنسيم هبوب الريح وقوله تعالى في شجر الجنة يروى بفتح اللام وهو الأكثر ويروى بضم اللام والمعنى واحد وهو الأكل والرعى يقول تأكل من ثمار الجنة وتسرح بين أشجارها والعلوقة والعلوق الأكل والرعى تقول العرب ما ذاق اليوم علوقا أى طعاما قال الربيع بن زياد يصف الخيل
ومجنبات ما يذقن علوقة ... يمصعن بالمهرات والأمهار
وقال الأعشى
وفلاة كأنها ظهر ترس ... ليس فيها إلا الرجيع علاق
قلت ومنه قول عائشة والنساء إذ ذاك خفاف لم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام وأصل اللفظة من التعلق وهو ما يعلق القلب والنفس من الغذاء
قال واختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال قائلون منهم أرواح المؤمنين عند الله في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم
قال واحتجوا بأن هذا الحديث لم يخص فيه شهيدا من غير شهيد
واحتجوا أيضا بما روى عن أبى هريرة أن أرواح الأبرار في عليين وأرواح الفجار في سجين وعن عبد الله بن عمرو مثل ذلك قال أبو عمر وهذا قول يعارضه من السنة ما لا مدفع في صحة نقله وهو قوله إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشى إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة
وقال آخرون إنما معنى هذا الحديث في الشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة إنما يدلان على ذلك أما القرآن فقوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله الآية
وأما الآثار فذكر حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه من طريق بقى بن مخلد مرفوعا الشهداء يغدون ويروحون ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة بالعرش فيقول لهم الرب تبارك وتعالى هل تعلمون كرامة أفضل من كرامة أكرمتكموها فيقولون لا غير

أنا وددنا أنك أعدت أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل مرة أخرى فنقتل في سبيلك رواه عن هناد عن اسماعيل بن المختار عن عطية عنه
ثم ساق حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله لما أصيب إخوانكم يعنى يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب مدلاة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد قال فقال الله
تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون والحديث في مسند أحمد وسنن أبى داود
ثم ذكر حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال سأل عند الله بن مسود رضى الله عنه عن هذه الآية ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فقال أما أنا قد سألنا عن ذلك فقال أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في الجنة في ايها شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل فاطلع اليهم ربك إطلاعه فقال هل تشتهون شيئا قالوا وأى شيء نشتهى ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل بهم ذلك ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا والحديث في صحيح مسلم
قلت وفي صحيح البخارى عن أنس أن أم الربيع بنت البراء وهى أم حارثة بن سراقة أتت النبي فقالت يا نبي الله ألا تحدثنى عن حارثة وكان قتل يود بدر أصابه سهم غرب قان كان في الجنة صبرت وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء قال يا أم حارثة إنها جنان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى
ثم ساق من طريق بقى بن مخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا ابن عيينة عن عبيد الله ابن أبى يزيد سمع ابن عباس يقول أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في تتمر ! الجنة
ثم ذكر عن معمر عن قتادة قال بلغنا أن أرواح الشهداء في صور طير بيض تأكل من ثمار الجنة
ومن طريق أبى عاصم النبيل عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو أرواح الشهداء في طير كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة

قال أبو عمر هذه الآثار كلها تدل على أنهم الشهداء دون غيرهم وفي بعضها في صور طير وفي بعضها في أجواف طير وفي بعضها كطير خضر قال والذى يشبه عندى والله أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو صور طير لمطابقته لحديثنا المذكور يريد حديث كعب ابن مالك وقوله فيه نسمة المؤمن كطائر ولم يقل في جوف طائر
قال وروى عيسى بن يونس حديث ابن مسعود عن الأعمش عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله كطير خضر
قلت والذى في صحيح مسلم في أجواف طير خضر
قال أبو عمر فعلى هذا التأويل كأنه قال إنما نسمة المؤمن من الشهداء طائر يعلق في شجر الجنة
قلت لا تنافي بين قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة وبين قوله إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار وهذا الخطاب يتناول الميت على فراشه والشهيد كما أن قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة يتناول الشهيد وغيره ومع كونه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشى ترد روحه أنهار الجنة وتأكل من ثمارها
وأما المقعد الخاص به والبيت الذى أعد له فانه إنما يدخله يوم القيامة ويدل عليه أن منازل الشهداء ودورهم وقصورهم التي أعد الله لهم ليست هي تلك القناديل التي تأوى اليها أرواحهم في البرزخ قطعا فهم يرون منازلهم ومقاعدهم من الجنة ويكون مستقرهم في تلك القناديل المعلقة بالعرش فان الدخول التام الكامل إنما يكون يوم القيامة ودخول الأرواح الجنة في البرزخ أمر دون ذلك
ونظير هذا أهل الشقاء تعرض أرواحهم على النار غدوا وعشيا فإذا كان يوم القيامة دخلوا منازلهم ومقاعدهم التي كانوا يعرضون عليها في البرزخ فتنعم الأرواح بالجنة في البرزخ شيء وتنعمها مع الأبدان يوم القيامة بها شيء آخر فغذاه الروح من الجنة في البرزخ دون غذائها مع بدنها يوم البعث ولهذا قال تعلق في شجر الجنة أى تأكل العلقة وقام ! الأكل والشرب واللبس والتمتع فإنما يكون إذا ردت إلى أجسادها يوم القيامة فظهر أنه لا يعارض هذا القول من السنن شيء وإنما تعاضده السنة وتوافقه
وأما قول من قال إن حديث كعب في الشهداء دون غيرهم فتخصيص ليس في اللفظ ما يدل عليه وهو حمل اللفظ العام على أقل مسمياته فإن الشهداء بالنسبة إلى عموم المؤمنين

قليل جدا والنبي علق هذا الجزاء بوصف الإيمان فهو المقتضى له ولم يعلقه بوصف الشهادة ألا ترى أن الحكم الذى اختص بالشهداء علق بوصف الشهادة كقوله في حديث المقدام بن معد يكرب للشهيد عند الله ست خصال يغفر له في أول دفقة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويحلى حلة الإيمان ويزوج من الحور العين ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه فلما كان هذا يختص بالشهيد قال إن للشهيد ولم يقل إن للمؤمن وكذلك قوله في حديث قيس الجذامى يعطى الشهيد ست خصال وكذلك سائر الأحاديث والنصوص التي علق فيها الجزاء بالشهادة
وأما ما علق فيه الجزاء بالإيمان فإنه يتناول كل مؤمن شهيدا كان أو غير شهيد
واما النصوص والآثار التي ذكر في رزق الشهداء وكون أرواحهم في الجنة فكلها حق وهي لا تدل على انتفاء دخول أرواح المؤمنين الجنة ولا سيما الصديقين الذين هم أفضل من الشهداء بلا نزاع بين الناس فيقال لهؤلاء ما تقولون في أرواح الصديقين هل هى في الجنة أم لا
فإن قالوا أنها في الجنة ولا يسوغ لهم غير هذا القول فثبت أن هذه النصوص لا تدل على اختصاص أرواح الشهداء بذلك وإن قالوا ليست في الجنة لزمهم من ذلك أن تكون أرواح سادات الصحابة كابى بكر الصديق وأبى بن كعب وعبد الله بن مسعود وأبى الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم رضى الله عنهم ليست في الجنة وأرواح شهداء زماننا في الجنة وهذا معلوم البطلان ضرورة
فإن قيل فإن كان هذا حكم يختص بالشهداء فما الموجب لتخصيصهم بالذكر في هذه النصوص قلت التنبيه على فضل الشهادة وعلو درجتها وأن هذا مضمون لأهلها ولا بد وأن لهم منها أوفر نصيب فنصيبهم من هذا النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فراشهم وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة منهم فله نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه
ويدل على هذا أن الله سبحانه جعل أرواح الشهداء في أجواف اطير خضر فإنهم لما بذلوا أنفسهم لله حتى أتلفها أعداؤه فيه أعاضهم منها في البرزخ أبدانا خيرا منها تكون فيها إلى يوم القيامة ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من نعيم الأرواح المجردة عنها ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير ونسمة الشهيد في جوف طير وتأمل لفظ الحديثين فانه قال نسمة المؤمن طير فهذا يعم الشهيد وغيره ثم خص للشهيد بأن قال

هي في جوف طير ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير فصلوات الله وسلامه على من يصدق كلامه بعضه بعضا ويدل على أنه حق من عند الله وهذا الجمع أحسن من جمع أبى عمر وترجيحه رواية من روى أرواحهم كطير خضر بل الروايتان حق وصواب فهي كطير خضر وفي أجواف طير خضر
فصل وأما قول مجاهد ليس هي في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون
ريحها فقد يحتج لهذا القول بما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن اسحق عن عاصم بن عمر عن محمود ابن لبيد عن ابن عباس قال قال رسول الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية
وهذا لا ينافي كونهم في الجنة فإن ذلك النهر من الجنة ورزقهم يخرج عليهم من الجنة فهم في الجنة وإن لم يصيروا إلى مقاعدهم منها فمجاهد نفي الدخول الكامل من كل وجه والتعبير يقصر عن الإحاطة بتمييز هذا وأكمل العبارة ادلها على المراد عبارة رسول الله ثم عبارة أصحابه وكلما نزلت رأيت الشفاء والهدى والنور وكلما نزلت رأيت الحيرة والدعاوى والقول بلا علم
قال أبو عبد الله بن منده وروى موسى بن عبيدة عن عبد الله بن يزيد عن أم كبشة بنت المعرور قالت دخل علينا رسول الله فسألناه عن هذه الأرواح فوصفها صفة أبكى أهل البيت فقال إن أرواح المؤمنين في حواصل الطير خضر ترعى في الجنة وتأكل من ثمارها وتشرب من مائها وتأوى إلى قناديل من ذهب تحت العرش يقولون ربنا ألحق بنا إخواننا وآتنا ما وعدتنا وان أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوى إلى جحر في النار يقولون ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا
وقال الطبراني حدثنا أبو زرعة الدمشقي حدثنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية ابن صالح عن ضمرة بن حبيب قال سئل النبي عن أرواح المؤمنين فقال في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت قالوا يا رسول الله وأرواح الكفار قال محبوسة في سجين رواه أبو الشيخ عن هشام بن يونس عن عبد لله بن صالح ورواه أبو المغيرة عن أبى بكر بن أبى مريم عن ضمرة بن حبيب
وذكر أبو عبد الله بن منده من حديث غنجار عن الثورى عن ثور بن يزيد عن

خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله أرواح المؤمنين في طير خضر كالزرازير تأكل من ثمر الجنة ورواه غيره موقوفا
وذكر يزيد الرقاشي عن أنس وأبو عبد الله الشامي عن تميم الدارى عن النبي إذا عرج ملك الموت بروح المؤمن إلى السماء استقبله جبرائيل في سبعين ألفا من الملائكة كل منهم يأتيه ببشارة من السماء سوى بشارة صاحبه فإذا انتهي به إلى العرش خر ساجدا فيقول الله
تعالى لملك الموت انطلق بروح عبدى فضعه في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب رواه بكر بن خنيس عن ضرار بن عمرو عن يزيد وأبى عبد الله
فصل وأما قول من قال الأرواح على أفنية قبورها فان أراد أن هذا
أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبدا فهذا خطأ ترده نصوص الكتاب والسنة من وجوه كثيرة قد ذكرنا بعضها وسنذكر منها ما لم نذكره إن شاء الله
وإن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتا أولها إشراف على قبورها وهي في مقرها فهذا حق ولكن لا يقال مستقرها أفنية القبور
وقد ذهب إلى هذا المذهب جماعة منهم أبو عمر بن عبد البر قال في كتابه في شرح حديث ابن عمر إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى وقد استبدل به من ذهب إلى ان الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك من طريق الأثر ألا ترى أن الأحاديث الدالة على ذلك ثابتة متواترة وكذلك أحاديث السلام على القبور
قلت يريد الأحاديث المتواترة مثل حديث ابن عمر هذا ومثل حديث البراء ابن عازب الذي تقدم وفيه هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ومثل حديث أنس أن للعبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه ليسمع قرع نعالهم وفيه أنه يرى مقعده من الجنة والنار وأنه يفسح للمؤمن في قبره سبعين ذراعا ويضيق على الكافر ومثل حديث جابر إن هذه الأمة تبلى في قبورها فإذا دخل المؤمن من قبره وتولى عنه أصحابه أتاه ملك الحديث وأنه يرى مقعده من الجنة فيقول دعوني أبشر أهلي فيقال له أسكن فهذا مقعدك أبدا ومثل سائر أحاديث عذاب القبر ونعيمه التي تقدمت ومثل أحاديث السلام على أهل القبور وخطابهم ومعرفتهم بزيارة الأحياء لهم وقد تقدم ذكر ذلك كله
وهذا القول ترده السنة الصحيحة والآثار التي لا مدفع لها وقد تقدم ذكرها وكل ما ذكره

من الأدلة فهو يتناول الأرواح التي هي في الجنة بالنص وفي الرفيق الأعلى وقد بينا أن عرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائما من جميع الوجوه بل لها إشراف واتصال بالقبر وفنائه وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده فإن الروح شأنا آخر تكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين ولها اتصال بالبدن بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد الله عليه روحه فيرد عليه السلام وهي في الملأ الأعلى وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعهد من الأجسام التي إذا شغلت مكانا لم يمكن أن تكون في غيره وهذا غلط محض بل الروح تكون فوق السموات في أعلى عليين وترد إلى القبر فترد السلام وتعلم بالمسلم وهي في مكانها هناك وروح رسول الله في الرفيق الأعلى دائما ويردها الله سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه وتسمع كلامه وقد رأى رسول الله موسى قائما يصلى في قبر ورآه في السماء السادسة والسابعة فإما أن تكون سريعة الحركة والانتقال كلمح البصر وإما أن يكون المتصل منها بالقبر وفنائه بمنزلة شعاع الشمس وجرمها في السماء وقد ثبت أن روح النائم تصعد حتى تخترق السبع الطباق وتسجد لله بين يدي العرش ثم ترد إلى جسده في أيسر زمان وكذلك روح الميت تصعد بها الملائكة حتى تجاوز السموات السبع وتقف بين يدي الله فتسجد له ويقضى فيها قضاء ويريها الملك ما أعد الله لها في الجنة ثم تهبط فتشهد غسله وحمله ودفنه وقد تقدم في حديث البراء بن عازب أن النفس يصعد بها حتى توقف بين يدي الله فيقول تعالى اكتبوا كتاب عبدى في عليين ثم أعيدوه إلى الأرض فيعاد إلى القبر وذلك في مقدار تجهيزه وتكفينه فقد صرح به في حديث ابن عباس حيث قال فيهبطون على قدر فراغه من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه
وقد ذكر أبو عبد الله بن منده من حديث عيسى بن عبد الرحمن حدثنا ابن شهاب حدثنا عامر بن سعد عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه قال أردت مالي بالغابة فأدركنى الليل فأويت إلى قبر عبد الله بن عمر بن حرام فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها فجئت إلى رسول الله فذكرت ذلك له فقال ذلك عبد الله ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا يزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانهم الذي كانت به
ففي هذا الحديث بيان سرعة انتقال أرواحهم من العرش إلى الثرى ثم انتقالها من الثرى إلى مكانها ولهذا قال مالك وغيره من الأئمة أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت وما

يراه الناس من أرواح الموتى ومجيئهم إليهم من المكان البعيد أمر يعلمه عامة الناس ولا يشكون فيه والله أعلم
وأما السلام على أهل القبور وخطابهم فلا يدل على أن أرواحهم ليست في الجنة وأنها على أفنية القبور فهذا سيد ولد آدم الذي روحه في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى عند قبره ويرد سلام المسلم عليه وقد وافق أبو عمر
رحمه الله على أن أرواح الشهداء في الجنة ويسلم عليهم عند قبورهم كما يسلم على غيرهم كما علمنا النبي أن نسلم عليهم وكما كان الصحابة يسلمون على شهداء أحد وقد ثبت أن أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت كما تقدم ولا يضيق عقلك عن كون الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت وتسمع سلام المسلم عليها عند قبرها وتدنو حتى ترد عليه السلام وللروح شأن آخر غير شأن البدن وهذا جبريل صلوات الله وسلامه عليه رآه النبي وله ستمائة جناح منها جناحان قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب وكان من النبي حتى يضع ركبتيه بين ركبتيه ويديه على فخذيه وما أظنك يتسع بظنك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السموات حيث هو مستقره وقد دنا من النبي هذا الدنو فإن التصديق بهذا له قلوب خلقت له وأهلت لمعرفته ومن لم يتسع بطانة لهذا فهو أضيق أن يتسع للإيمان بالنزول الإلهي إلى سماء الدنيا كل ليلة وهو فوق سماواته على عرشه لا يكون فوقه شيء البتة بل هو العالي على كل شيء وعلوه من لوازم ذاته وكذلك دنوه عشية عرفة من أهل الموقف وكذلك مجيئه يوم القيامة لمحاسبة خلقه وإشراق الأرض بنوره وكذلك مجيئه إلى الأرض حين دحاها وسواها ومدها وبسطها وهيأها لما يراد منها وكذلك مجيئه يوم القيامة حين يقبض من عليها ولا يبقى بها أحد كما قال النبي فأصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد هذا وهو فوق سماواته على عرشه
فصل ومما ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من شأن الروح يختلف بحسب
حال الأرواح من القوة والضعف والكبر والصغر فللروح العظيمة الكبيرة من ذلك ما ليس لمن هو دونها وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوت أعظم تفاوت بحسب تفارق الأرواح في كيفياتها وقواها وإبطائها وإسراعها والمعاونة لها فللروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلى الله والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه فذا كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف إذا تجردت

وفارقته واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل شأنها روحا علية زكيه كبيرة ذات همة عالية فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر
وقد تواترت الرؤيا في أصناف بنى آدم على فعل الأرواح بعد موتها ما لا تقدر على مثله حال اتصالها بالبدن من هزيمة الجيوش الكثيرة بالواحد والاثنين والعدد القليل ونحو ذلك وكم قد رئى النبي ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة عددهم وعددهم وضعف المؤمنين وقلتهم
ومن العجب أن أرواح المؤمنين المتحابين المتعارفين تتلاقى وبينها أعظم مسافة وأبعدها فتتألم وتتعارف فيعرف بعضها بعضا كأنه جليسه وعشيرة فإذا رآه طابق ذلك ما كان عرفته روحه قبل رؤيته
قال عبد الله بن عمرو ان أرواح المؤمنين تتلاقى على مسيرة يوم وما أرى أحدهما صاحبه قط ورفعه بعضهم إلى النبي
وقال عكرمة ومجاهد إذا نام الإنسان فان له سببا يجرى فيه الروح وأصله في الجسد فتبلغ حيث شاء الله ما دام ذاهبا فالإنسان نائم فإذا رجع إلى البدن انتبه الإنسان وكان بمنزلة شعاع الشمس الذي هو ساقط بالأرض فأصله متصل بالشمس وقد ذكر أبو عبد الله بن منده عن بعض أهل العلم أنه قال إن الروح يمتد من منخر الإنسان ومركبه وأصله في بدنه فلو خرج الروح بالكلية لمات كما أن السراج لو فرق بينه وبين الفتيلة ألا ترى أن مركب النار في الفتيلة وضؤوها وشعاعها يملأ البيت فكذلك الروح تمتد من منخر الإنسان في منامه حتى تأتى السماء وتجول في البلدان وتلتقي مع أرواح الموتى فإذا أراه الملك الموكل بأرواح العباد ما أحب أن يريه وكان المرئي في اليقظة عاقلا ذكيا صدوقا لا يلتفت في يقظته إلى شيء من الباطل رجع إليه روحه فأدى إلى قلبه الصدق مما أراه الله
تعالى على حسب خلقه وإن كان خفيفا نزقا يحب الباطل والنظر إليه فإذا نام وأراه الله أمرا من خيرا وشر رجعت روحه إليه فحيث ما رأي شيئا من مخاريق الشيطان أو الباطل وقفت روحه عليه كما تقف في يقظته فكذلك لا يؤدى إلى قلبه فلا يعقل ما رأي لأنه خلط الحق بالباطل فلا يمكن معبر أن يعبر له وقد خلط الحق بالباطل

وهذا من أحسن الكلام وهو دليل على معرفة قائله وبصيرته بالأرواح وأحكامها
وأنت ترى الرجل يسمع العلم والحكمة وما هو أنفع شيء له ثم يمر بباطل ولهو من غناء أو شبهة أو زور أو غيره فيصغي إليه ويفتح له قلبه حتى يتأدى إليه فيتخبط عليه ذلك الذي سمعه من العلم والحكمة ويلتبس عليه الحق بالباطل فهكذا شأن الأرواح عند النوم وأما بعد المفارقة فإنها تعذب بتلك الاعتقادات والشه ! الباطلة التي كانت حظها حال اتصالها بالبدن وينضاف إلى ذلك عذابها بتلك الإرادات والشهوات التي حيل بينها وبينها وينضاف إلى ذلك عذاب آخر ينشئه الله لها ولبدنها من الأعمال التي اشتركت معه فيها وهذه هي المعيشة الضنك في البرزخ والزاد الذي تزود به إليه
والروح الزكيه العلوية المحقة التي لا تحب الباطل ولا تألفه بضد ذلك كله تنعم بتلك الاعتقادات الصحيحة والعلوم والمعارف التي تلقتها من مشكاة النبوة وتلك الإرادات والهمم الزكية وينشئ الله سبحانه لها من أعمالها نعيما ينعمها به في البرزخ فتصير لها روضة من رياض الجنة ولتلك حفرة من حفر النار
فصل وأما قول من قال أرواح المؤمنين عند الله تعالى ولم يزد على
ذلك فانه تأدب مع لفظ القرآن حيث يقول الله
تعالى بل أحياء عند ربهم يرزقون
وقد احتج أرباب هذا القول بحجج منها ما رواه محمد بن إسحاق الصغانى حدثنا يحيى بن أبى بكير حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبى ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبى هريرة عن النبي قال إن الميت إذا خرجت نفسه يعرج بها إلى السماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله
تعالى وإذا كان الرجل السوء يعرج بها إلى السماء فانه لا يفتح لها أبواب السماء فترسل من السماء فتصير إلى القبر
وهذا إسناد لا تسأل عن صحته وهو في مسنده أحمد وغيره
وقال أبو داود الطيالسى حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبى وائل عن موسى الأشعري قال تخرج روح المؤمن أطيب من ريح المسك فتنطلق بها الملائكة من دون السماء فيقولون ما هذا فيقولون هذا فلان ابن فلان كان يعمل كيت وكيت لمحاسن عمله فيقولون مرحبا بكم وبه فيقبضونها منهم فيصعد بها من الباب الذي كأن يصعد منه عمله فتشرق في السموات ولها برهان برهان كبرهان الشمس حتى ينتهي إلى العرش وأما الكافر فإذا قبض انطلق بروحه فيقولون ما هذا فيقولون هذا فلان ابن فلان كان يعمل كيت وكيت لمساوى عمله فيقولون لا مرحبا لا مرحبا ردوه فيرد إلى أسفل الأرض إلى الثرى

وقال الملكي بن إبراهيم عن داود بن يزيد الأودى قال أراه عن عامر الشعبي عن حذيفة ابن اليمان أنه قال الأرواح موقوفة عند الرحمن تعالى تنتظر موعده حتى ينفخ فيها
وذكر سفيان بن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه أنه دخل ابن عمر المسجد بعد قتل ابن الزبير وهو مصلوب فأتى أسماء يعزيها فقال لها عليك بتقوى الله والصبر فان هذه الجثث ليست بشيء وإنما الأرواح عند الله فقالت وما يمنعني من الصبر وقد أهدى رأس يحيى ابن زكريا إلى بغى من بغايا بنى إسرائيل
وذكر جرير عن الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال كنا جلوسا إلى كعب والربيع بن خيثم وخالد بن عرعرة في أناس فجاء ابن عباس فقال هذا ابن عم نبيكم قال فأوسع له فجلس فقال يا كعب كل ما في القرآن قد عرفت غير أربعة أشياء فأخبرني عنهن ما سجين وما عليون وما سدرة المنتهي وما قول الله لإدريس ورفعناه مكانا عليا قال أما عليون فالسماء السابعة فيها أرواح المؤمنين وأما سجين فالأرض السابعة السفلى وأرواح الكفار تحت جسد إبليس وأما قول الله سبحانه لإدريس ورفعناه مكانا عليا فأوحى الله إليه أنى رافع لك كل يوم مثل أعمال بنى آدم وكلم صديقا له من الملائكة أن يكلم له ملك الموت فيؤخره حتى يزداد عملا فحمله بين جناحيه فعرج به حتى إذا كان في السماء الرابعة لقيه ملك الموت فكلمه في حاجته فقال وأين هو قال هو ذا بين جناحي قال فالعجب أنى أمرت أن أقبض روحه في السماء الرابعة فقبض روحه وأما سدرة المنتهي فإنها سدرة على رؤوس حملة العرش ينتهي إليها علم الخلائق ثم ليس لأحد وراءها علم فلذلك سميت سدرة المنتهي
قال ابن منده ورواه وهب بن جرير عن أبيه ورواه يعقوب القمى عن شمر ورواه خالد بن عبد الله عن العوام بن حوشب عن القاسم بن عوف عن الربيع بن خيثم قال كنا جلوسا عند كعب فذكره
وذكر يعلى بن عبيد عن الأجلح عن الضحاك قال إذا قبض روح العبد المؤمن عرج به إلى السماء الدنيا فينطلق معه المقربون إلى السماء الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة حتى ينتهي به إلى سدرة المنتهي قلت للضحاك لم سميت سدرة المنتهي إليها كل شيء من أمر الله
تعالى لا يعدوها فيقول ربى عبدك فلان وهو أعلم به منهم فيبعث الله إليه بصك مختوم يؤمنه من العذاب وذلك قوله تعالى كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما علييون كتاب مرقوم يشهده المقربون وهذا القول لا ينافي قول من قال

هم في الجنة فإن الجنة عند سدرة المنتهي والجنة عند الله وكأن قائله رأي أن هذه العبارة أسلم وأوفق وقد أخبر الله سبحانه أن أرواح الشهداء عنده وأخبر النبي أنها تسرح في اللجنة حيث شاءت
فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار
بحضرموت ببرهوت فقال أبو محمد بن حزم هذا من قول الرافضة وليس كما قال بل قد قاله جماعة من أهل السنة
وقال أبو عبد الله بن منده وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين بالجابية ثم قال أخبرنا محمد بن محمد بن يونس حدثنا احمد بن عاصم حدثنا أبو داود سليمان ابن داود حدثنا همام حدثني قتادة حدثني رجل عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو وأنه قال إن أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية وان أرواح الكفار تجتمع في سبخة بحضرموت يقال لها برهوت
ثم ساق من طريق حماد بن سلمة عن عبد الجليل بن عطية عن شهر بن حوشب أن كعبا رأى عبد الله بن عمرو وقد تكلب الناس عليه يسألونه فقال لرجل سله أين أرواح المؤمنين وأرواح الكفار فسأله فقال أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت
قال ابن منده ورواه أبو داود وغيره عن عبد الجليل ثم ساق من حديث سفيان عن فرات القزاز عن أبى الطفيل عن على قال خير بئر في الأرض زمزم وشر بئر في الأرض برهوت في حضرموت وخير واد في الأرض وادي مكة والوادي الذي أهبط فيه آدم بالهند منه طيبكم وشر واد في الأرض الأحقاف وهو في حضرموت ترده أرواح الكفار
قال ابن منده وروى حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس عن على أبغض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال له برهوت فيه أرواح الكفار وفيه بئر ماؤها بالنهار أسود كأنه قيح تأوي إليه الهوام
ثم ساق من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا على بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا إبان بن تغلب قال قال رجل بت فيه يعنى وادي برهوت فكأنما حشرت فيه أصوات الناس وهم يقولون يا دومه يا دومه قال إبان فحدثنا رجل من أهل الكتاب أن دومة هو الملك الذي على أرواح الكفار

وقال سفيان وسألنا الحضرميين فقالوا لا يستطيع أحد أن يبيت فيه بالليل
فهذا جملة ما علمته في هذا القول فإن أراد عبد الله بن عمرو بالجابية التمثيل والتشبيه وأنها تجمع في مكان فسيح يشبه الجابيه لسعته وطيب هوائه فهذا قريب وإن أراد نفس الجابية دون سائر الأرض فهذا لا يعلم إلا بالتوقيت ولعله مما تلقاه عن بعض أهل الكتاب
فصل وأما قول من قال إنها تجتمع في الأرض التي قال الله فيها
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون فهذا إن كان قاله تفسير الآية فليس هو تفسيرا لها
وقد اختلف الناس في الأرض المذكورة هنا فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس هي أرض الجنة وهذا قول أكثر المفسرين وعن ابن عباس قول آخر أنها الدنيا التي فتحها الله على أمة محمد وهذا القول هو الصحيح ونظيره قوله تعالى في سروة النور وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وفي الصحيح عن النبي قال زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها
وقالت طائفة من المفسرين المراد بذلك أرض بيت المقدس
وهي من الأرض التي أورثها الله عباده الصالحين وليست الآية مختصة بها
فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة
وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة فهذا قول قد قاله جماعة من السلف والخلف ويدل عليه قول النبي اللهم الرفيق الأعلى وقد تقدم حديث أبى هريرة أن الميت إذا خرجت روحه عر ج بها إلى السماء حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة التي فيها الله
تعالى وتقدم قول أبى موسى أنها تصعد حتى تنتهي إلى العرش وقول حذيفة أنها موقوفة عند الرحمن وقول عبد الله بن عمر إن هذه الأرواح عند الله وتقدم قول النبي أن أرواح الشهداء تأوي إلى قناديل تحت العرش وتقدم حديث البراء بن عازب أنها تصعد من سماء إلى سماء ويشيعها من كل سماء مقربوها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة وفي لفظ إلى السماء التي فيها الله تعالى
ولكن هذا لا يدل على استقرارها هناك بل يصعد بها إلى هناك للعرض على ربها فيقضى فيها أمره ويكتب كتابه من أهل عليين أو من أهل سجين ثم تعود إلى القبر للمسألة ثم ترجع إلى مقرها التي أودعت فيه فأرواح المؤمنين في عليين بحسب منازلهم وأرواح الكفار في سجين بحسب منازلهم

فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين تجتمع ببئر زمزم فلا دليل
على هذا القول من كتاب ولا سنة يجب التسليم لها ولا قول صاحب يوثق به وليس بصحيح فإن تلك البئر لا تسع أرواح المؤمنين جميعهم وهو مخالف لما ثبت به السنة الصريحة من أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة
وبالجملة فهذا من أبطل الأقوال وأفسدها وهو أفسد من قول من قال أنها بالجابية فإن ذلك مكان متسع فضاء بخلاف البئر الضيقة
فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب
حيث شاءت فهذا مروى عن سلمان الفارسي والبرزخ هو الحاجز بين شيئين وكأن سلمان أراد بها في أرض بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث شاءت وهذا قول قوى فإنها قد فارقت الدنيا ولم تلج الآخرة بل هي في برزخ بينهما فأرواح المؤمنين في برزخ واسع فيه الروح والريحان والنعيم وأرواح الكفار في برزخ ضيق فيه الغم والعذاب قال تعالى ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون فالبرزخ هنا ما بين الدنيا والآخرة وأصله الحاجز بين الشيئين
فصل وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار
عن يساره فلعمر والله لقد قال قولا يؤيده الحديث الصحيح وهو حديث الإسراء فان النبي رآهم كذلك ولكن لا يدل على تعادلهم في اليمين والشمال بل يكون هؤلاء عن يمينه في العلو والسعة وهؤلاء عن يساره في السفل والسجن
وقد قال أبو محمد بن حزم ان ذلك البرزخ الذي رآه فيه رسول الله ليلة أسرى به عند سماء الدنيا قال وذلك عند منقطع العناصر قال وهذا يدل على أنها عنده تحت السماء حيث تنقطع العناصر وهي الماء والتراب والنار والهواء
وهو دائما يشنع على من قال قولا لا دليل عليه فأي دليل له على هذا القول من كتاب وسنة وسيأتي إشباع الكلام على قوله إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى
فإن قيل فإذا كانت أرواح أهل السعاده عن يمين آدم وآدم في السماء الدنيا وقد ثبت أن

أرواح الشهداء في ظل العرش والعرش فوق السماء السابعة فكيف تكون عن يمينه وكيف يراها النبي هناك في السماء الدنيا فالجواب من وجوه
أحدها أنه لا يمتنع كونها عن يمينه في جهة العلو كما كانت أرواح الأشقياء عن يساره في جهة السفل
الثاني أنه غير ممتنع أن تعرض على النبي في سماء الدنيا وإن كان مستقرها فوق ذلك
الثالث أنه لم يخبر أنه رأى أرواح السعداء جميعا هناك بل قال فإذا عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة ومعلوم قطعا أن روح إبراهيم وموسى فوق ذلك في السماء السادسة والسابعة وكذلك الرفيق الأعلى أرواحهم فوق ذلك وأرواح السعداء بعضها أعلى من بعض بحسب منازلهم كما أن أرواح الأشياء بعضها أسفل من بعض بحسب منازلهم والله أعلم
فصل وأما قول أبى محمد بن حزم أن مستقرها حيث كانت قبل خلق
أجسادها فهذا بناء منه على مذهبه الذي اختاره وهو أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد وهذا فيه قولان للناس وجمهورهم على أن الأرواح خلقت بعد الأجساد والذين قالوا أنها خلقت قبل الأجساد ليس معهم على ذلك دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع إلا ما فهموه من نصوص لا تدل على ذلك أو أحاديث لا تصح كما احتج به أبو محمد بن حزم من قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا الآية وبقوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا قال فصح أن الله خلق الأرواح جملة وهي الأنفس وكذلك أخبر عليه السلام أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف قال وأخذ
تعالى عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم وقبل أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ تراب وقال لأن الله تعالى خلق ذلك بلفظة ثم التى توجب التعقيب والمهلة ثم أقرها سبحانه وتعالى حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت
وسنذكر ما في هذا الاستدلال عند جواب سؤال السائل عن الأرواح هي مخلوقة مع الأبدان أم قبلها إذ الغرض هنا الكلام على مستقر الأرواح بعد الموت وقوله أنها تستقر في البرزخ الذي كانت فيه قبل خلق الأجساد مبنى على هذا الاعتقاد الذي اعتقده

وقوله أن أرواح السعداء عن يمين آدم وأرواح الكفار الأشقياء عن يساره حق كما أخبر به النبي وقوله إن ذلك عند منقطع العناصر لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا يشبه أقوال أهل الإسلام والأحاديث الصحيحة تدل على أن الأرواح فوق العناصر في الجنة عند الله وأدلة القرآن تدل على ذلك وقد وافق أبو محمد على أن أرواح الشهداء في الجنة ومعلوم أن الصديقين أفضل منهم فكيف تكون روح أبى بكر الصديق وعبد الله بن مسعود وأبى الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم رضى الله عنهم عند منقطع العناصر وذلك تحت هذا الفلك الأدنى وتحت السماء الدنيا وتكون أرواح شهداء زماننا وغيرهم فوق العناصر وفوق السموات
وأما قوله قد ذكر محمد بن نصر المروزى عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه قال وعلى هذا جميع أهل العلم وهو قول جميع أهل الإسلام
قلت محمد بن نصر المروزى ذكر في كتاب الرد على ابن قتيبة في تفسير قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم الآثار التي ذكرها السلف من استخراج ذرية آدم من صلبه ثم أخذ الميثاق عليهم وردهم في صلبه وأنه أخرجهم مثل الذر وأنه سبحانه قسمهم إذ ذاك إلى شقي وسعيد وكتب آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وما يصيبهم من خير وشر ثم قال قال إسحاق أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل هذا نص كلامه وهو كما ترى لا يدل على أن مستقر الأرواح ما ذكر أبو محمد حيث تنقطع العناصر بوجه من الوجوه بل ولا يدل على أن الأرواح كائنة قبل خلق الأجساد بل إنما يدل على أنه سبحانه أخرجها حينئذ فخاطبها ثم ردها إلى صلب آدم وهذا القول وإن كان قد قاله جماعة من السلف والخلف فالقول الصحيح غيره كما ستقف عليه إن شاء الله إذ ليس الغرض في جواب هذه المسألة الكلام في الأرواح هل هي مخلوقة قبل الأجساد أم لا حتى لو سلم لأبى محمد هذا كله لم يكن فيه دليل على أن مستقرها حيث تنقطع العناصر ولا أن ذلك الموضع كان مستقرها أولا
فصل وأما قول من قال مستقرها العدم المحض فهذا قول من قال إنها
عرض من أعراض البدن وهو الحياة وهذا قول ابن الباقلانى ومن تبعه وكذلك قال أبو الهذيل العلاف النفس عرض من الأعراض ولم يعينه بأنه الحياة كما عينه ابن الباقلانى ثم قال هي عرض كسائر أعراض الجسم

وهؤلاء عندهم أن الجسم إذا مات عدمت روحه كما تقدم وسائر أعراضه المشروطة بالحياة ومن يقول منهم أن العرض لا يبقى زمانين كما يقوله أكثر الأشعرية فمن قولهم إن روح الإنسان الآن هي غير روحه قبل وهو لا ينفك يحدث له روح ثم تغير ثم روح ثم تغير هكذا أبدا فيبدل له ألف روح فأكثر في مقدار ساعة من الزمان فما دونها فإذا مات فلا روح تصعد إلى السماء وتعود إلى القبر وتقبضها الملائكة ويستفتحون لها أبواب السموات ولا تنعم ولا تعذب وإنما ينعم ويعذب الجسد إذا شاء الله تنعيمه أو تعذيبه رد إليه الحياة في وقت يريد نعيمه أو عذابه وإلا فلا أرواح هناك قائمة بنفسها البتة
وقال بعض أرباب هذا القول ترد الحياة إلى عجب الذنب فهو الذي يعذب وينعم وحسب
وهذا قول يرده الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقول والفطن والفطرة وهو قول من لم يعرف روحه فضلا عن روح غيره وقد خاطب الله سبحانه النفس بالرجوع والدخول والخروج ودلت النصوص الصحيحة للصريحة على أنها تصعد وتنزل وتقبض وتمسك وترسل وتستفتح لها أبواب السماء وتسجد وتتكلم وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة وتكفن وتحنط في أكفان الجنة والنار وأن ملك الموت يأخذها بيده ثم تتناولها الملائكة من يده ويشم لها كأطيب نفحة مسك أو أنتن جيفة وتشيع من سماء إلى سماء ثم تعاد إلى الأرض مع الملائكة وأنها إذا خرجت تبعها البصر بحيث يراها وهي خارجة ودل القرآن على أنها تنتقل من مكان إلى مكان حتى تبلغ الحلقوم في حركتها وجميع ما ذكرنا من جمع الأدلة الدالة على تلاقى الأرواح وتعارفها وأنها أجناد مجندة إلى غير ذلك تبطل هذا القول وقد شاهد النبي الأرواح ليلة الإسراء عن يمين آدم وشماله وأخبر النبي إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة وأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر وأخبر تعالى عن أرواح آل فرعون أنها تعرض على النار غدوا وعشيا
ولما أورد ذلك على ابن الباقلانى لج في الجواب وقال يخرج على هذا أحد وجهين إما بأن يوضع عرض من الحياة في أول جزء من أجزاء الجسم وإما أن يخلق لتلك الحياة والنعيم والعذاب جسد آخر
وهذا قول في غاية الفساد من وجوه كثيرة أي قول أفسد من قول من يجعل روح الإنسان عرضا من الأعراض تتبدل كل ساعة الوفا من المرات فإذا فارقه هذا العرض لم يكن بعد المفارقة روح تنعم ولا تعذب ولا تصعد ولا تنزل ولا تمسك ولا ترسل فهذا قول

مخالف للعقل ونصوص الكتاب والسنة والفطرة وهو قول من لم يعرف نفسه وسيأتي ذكر الوجوه الدالة على بطلان هذا القول في موضعه من هذا الجواب إن شاء الله وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة ولا من الصحابة والتابعين ولا أئمة الإسلام
فصل وأما قول من قال إن مستقرها بعد الموت أبدان أخر غير هذه
الأبدان فهذا القول فيه حق وباطل
فأما الحق فما أخبر الصادق المصدوق عن أرواح الشهداء أنها في حواصل طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش هي لها كالأوكار للطائر وقد صرح بذلك في قوله جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر
وأما قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة يحتمل أن يكون هذا الطائر مركبا للروح كالبدن لها ويكون ذلك لبعض المؤمنين والشهداء ويحتمل أن يكون الروح في صورة طائر وهذا اختيار أبى محمد بن حزم وأبى عمر بن عبد البر وقد تقدم كلام أبى عمر والكلام عليه وأما ابن حزم فانه قال معنى قوله نسمة المؤمن طائر يعلق هو على ظاهرة لا على ظن أهل الجهل وإنما أخبر أن نسمة المؤمن طائر يعلق بمعنى أنها تطير في الجنة لا أنها تمسخ فى صورة الطير قال فإن قيل إن النسمة مؤنثة قلنا قد صح عن عربي فصيح أنه قال أتتك كتابي فاستخففت بها فقيل له أتؤنث الكتاب قال أوليس صحيفة وكذلك النسمة تذكر كذلك قال وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصل طير خضر فإنها صفة تلك القناديل التي تأوي إليها والحديثان معا حديث واحد وهذا الذي قاله في غاية الفساد لفظا ومعنى فإن حديث نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة غير حديث أرواح الشهداء في حواصل طير خضر والذي ذكره محتمل في الحديث الأول وأما الحديث الثاني فلا يحتمله بوجه فإنه أخبر أن أرواحهم في حواصل طير وفي لفظ في أجواف طير خضر وفي لفظ بيض وان تلك الطير تسرح في الجنة فتأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش هي لها كالأوكار للطائر وقوله ان حواصل تلك الطير هي صفة القناديل التي تأوي إليها خطأ قطعا بل تلك القناديل مأوى لتلك الطير فهاهنا ثلاثة أمور صرح بها الحديث أرواح وطير هي في أجوافها وقناديل هي مأوى لتلك الطير والقناديل مستقرة تحت العرش لا تسرح والطير تسرح وتذهب وتجيء والأرواح في أجوافها

فإن قيل يحتمل أن تجعل نفسها في صورة طير لا أنها تركب في بدن طير كما قال تعالى في أي صورة ما شاء ركبك ويدل عليه قوله في اللفظ الآخر أرواحهم كطير خضر كذلك رواه ابن أبى شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله
قال أبو عمر والذي يشبه عندي والله أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو صورة طير لمطابقته لحديثنا المذكور يعنى حديث كعب بن مالك في نسمة المؤمن
فالجواب أن هذا الحديث قد روى بهذين اللفظين والذي رواه مسلم في الصحيح من حديث الأعمش عن مسروق فلم يختلف حديثهما أنها في أجواف طير خضر
وأما حديث ابن عباس فقال عثمان بن أبى شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن محمد ابن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله لما أصيب إخوانكم يعنى يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب مدلاة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون
وأما حديث كعب بن مالك فهو في السنن الأربعة ومسند أحمد ولفظه للترمذي أن رسول الله قال إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح ولا محذور في هذا ولا يبطل قاعدة من قواعد الشرع ولا يخالف نصا من كتاب ولا سنة عن رسول الله بل هذا من تمام إكرام الله للشهداء أن أعاضهم من أبدانهم التي مزقوها لله أبدانا خيرا منها تكون مركبا لأرواحهم ليحصل بها كمال تنعمهم فإذا كان يوم القيامة رد أرواحهم إلى تلك الأبدان التي كانت فيها في الدنيا

فان قيل فهذا هو القول بالتناسخ وحلول الأرواح في أبدان غير أبدانها التي كانت فيها
قيل هذا المعنى الذي دلت عليه السنة الصريحة حق يجب اعتقاده ولا يبطله تسميه المسمى له تناسخا كما أن إثبات ما دل عليه العقل والنقل من صفات الله
تعالى وحقائق أسمائه الحسنى حق لا يبطله تسمية المعطلين لها تركيبا وتجسيما وكذلك ما دل عليه العقل والنقل من إثبات أفعاله وكلامه بمشيئته ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة للفصل بين عباده حق لا يبطله تسمية المعطلين له حلول حوادث كما أن ما دل عليه العقل والنقل من علو الله على خلقه ومباينته لهم واستوائه على عرشه وعروج الملائكة والروح إليه ونزولها من عنده وصعود الكلم الطيب إليه وعروج رسوله إليه ودنوه منه حتى صار قاب قوسين أو أدنى وغير ذلك من الأدلة حق لا يبطله تسمية الجهمية له حيزا وجهة وتجسيما
قال الإمام أحمد لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين فان هذا شأن أهل البدع يلقبون أهل السنة وأقوالها بالألقاب التي ينفرون منه الجهال ويسمونها حشوا وتركيبا وتجسيما ويسمون عرش الرب تبارك وتعالى حيزا وجهة ليتوصلوا بذلك إلى نفي علوه على خلقه واستوائه على عرشه كما تسمى الرافضة موالاة أصحاب رسول الله كلهم ومحبتهم والدعاء لهم نصا وكما تسمى القدرية المجوسية إثبات القدر جبرا فليس الشأن في الألقاب وإنما الشأن في الحقائق والمقصود أن تسمية ما دلت عليه الصريحة من جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تناسخا لا يبطل هذا المعنى وإنما التناسخ الباطل ما تقوله أعداء الرسل من الملاحدة وغيرهم الذين ينكرون المعاد أن الأرواح تصير بعد مفارقة الأبدان إلى أجناس الحيوان والحشرات والطيور التي تناسبها وتشاكلها فإذا فارقت هذه الأبدان انتقلت إلى أبدان تلك الحيوانات فتنعم فيها أو تعذب ثم تفارقها وتحل في أبدان أخر تناسب أعمالها وأخلاقها وهكذا أبدا فهذا معادها عندهم ونعيمها وعذابها لا معاد لها عندهم غير ذلك فهذا هو التناسخ الباطل المخالف لما اتفقت عليه الرسل والأنبياء من أولهم إلى آخرهم وهو كفر بالله واليوم الآخر وهذه الطائفة يقولون أن مستقر الأرواح بعد المفارقة أبدان الحيوانات التي تناسبها وهو ابطل قول وأخبثه ويليه قول من قال إن الأرواح تعدم جملة بالموت ولا تبقى هناك روح تنعم ولا تعذب بل النعيم والعذاب يقع على أجزاء الجسد أو جزء منه أما عجب أو غيره فيخلق الله فيه الألم واللذة أما بواسطة رد الحياة

إليه كما قاله بعض أرباب هذا القول أو بدون رد الحياة كما قاله آخرون منهم فهؤلاء عندهم لا عذاب في البرزخ إلا على الأجساد ومقابلهم من يقول أن الروح لا تعاد إلى الجسد بوجه ولا تتصل به والعذاب والنعيم على الروح فقط والسنة الصريحة المتواترة ترد قول هؤلاء وهؤلاء وتبين أن العذاب على الروح والجسد مجتمعين ومنفردين
فإن قيل فقد ذكرتم أقوال الناس في مستقر الأرواح ومأخذهم فما هو الراجح من هذه الأقوال حتى نعتقده
قيل الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت فمنها أرواح في أعلى عليين في الملا الأعلى وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي ليلة الإسراء
ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلا جاء إلى النبي فقال يا رسول الله مالي إن قتلت في سبيل الله قال الجنة فلما ولى قال إلا الذين ! سارني به جبريل آنفا
ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة كما في الحديث الآخر رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة
ومنهم من يكون محبوسا في قبره كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد فقال الناس هنيئا له الجنة فقال النبي والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه نارا في قبره
ومنهم من يكون مقره باب الجنة كما في حديث ابن عباس الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية رواه أحمد وهذا بخلاف جعفر بن أبى طالب حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء
ومنهم من يكون محبوسا في الأرض لم لعل روحه إلى الملأ الأعلى فإنها كانت روحا سفلية أرضية فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية كما لا تجامعها في الدنيا والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه بل هي أرضية سفلية لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة

على محبة الله وذكره والقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها فالمرء مع من احب في البرزخ ويوم القيامة والله تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد كما تقدم في الحديث ويجعل روحه يعنى المؤمن مع النسم الطيب أي الأرواح الطيبة المشاكلة فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأخواتها وأصحاب عملها فتكون معهم هناك
ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزاني وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد بل روح في أعلى عليين وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض
وأنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك بها فضل اعتناء عرفت حجة ذلك ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا فإنها كلها حق يصدق بعضها بعضا لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها وان لها شانا غير شأن البدن وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء وتتصل بفناء القبر وبالبدن فيه وهي أسرع شيء حركة وانتقالا وصعودا وهبوطا وأنها تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية ولها بعد المفارقة صحة ومرض ولذة ونعيم والم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة وهنالك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق وما أشبه حالها في هذا البدن بحال ولد في بطن أمه وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار
فلهذه الأنفس أربع دور كل دار أعظم من التي قبلها
الدار الأولى في بطن الأم وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث
والدار الثانية هي الدار التي نشأت فيها والفتها واكتسبت فيها الخبر والشر وأسباب السعادة والشقاوة
والدار الثالثة دار البرزخ وهي أوسع من هذه الدار وأعظم بل نسبتها إليه كنسبة هذه الدار إلى الأولى
والدار الرابعة دار القرار وهي الجنة أو النار فلا دار بعدها والله ينقلها في هذه الدور طبقا بعد طبق حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها ولا يليق بها سواها وهي التي خلقت لها وهيئت للعمل الموصل لها إليها ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الأخرى فتبارك الله فاطرها ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها الذي فاوت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها كما فاوت بينها في مراتب علومها وأعمالها وقواها وأخلاقها فمن

عرفها كما ينبغي شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك كله وله الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله وله القوة كلها والقدرة كلها والعز كله والحكمة كلها والكمال المطلق من جميع الوجوه وعرف بمعرفة نفسه صدق أنبيائه ورسله وأن الذي جاءوا به هو الحق الذي تشهد به العقول وتقر به الفطر وما خالفه هو الباطل وبالله التوفيق
المسألة السادسة عشرة
وهي هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعى الأحياء أم لا
فالجواب أنها تنتفع من سعى الأحياء بأمرين مجمع عليهما بين أهل السنة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير
أحدهما ما تسبب إليه الميت في حياته
والثاني دعاء المسلمين له واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع ما الذي يصل من ثوابه هل ثواب الإنفاق أو ثواب العمل فعند الجمهور يصل ثواب العمل نفسه وعند بعض الحنفية إنما يصل ثواب الإنفاق
واختلفوا في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف وصولها وهو قول بعض أصحاب أبى حنيفة نص على هذا الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال قال قيل لأبى عبد الله الرجل يعمل الشيء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه قال أرجو أو قال الميت يصل إليه كل شيء من صدقة أو غيرها وقال أيضا اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات وقل هو الله أحد وقل اللهم إن فضله لأهل المقابر
والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن ذلك لا يصل
وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنه لا يصل إلى الميت شيء البتة لادعاء ولا غيره
فالدليل على انتفاعه بما تسبب إليه في حياته ما رواه مسلم في صحيه من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله قال إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له فاستثناء هذه الثلاث من عمله يدل على أنها منه فانه هو الذي تسبب إليها
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله

إنما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره أو ولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا إكراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته
وفي صحيح مسلم أيضا من حديث جرير بن عبد الله قال قال رسول الله من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وهذا المعنى روى عن النبي من عدة وجوه صحاح وحسان
وفي المسند عن حذيفة قال سأل رجل على عهد رسول الله فامسك القوم ثم أن رجلا أعطاه فأعطى القوم فقال النبي من سن خيرا فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ومن سن شرا فاستن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا
وقد دل على هذا قوله لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل فإذا كان هذا في العذاب والعقاب ففي الفضل والثواب أولى وأحرى
فصل والدليل على انتفاعه بغير ما تسبب فيه القرآن والسنة والإجماع
وقواعد الشرع
أما القرآن فقوله تعالى والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان فأثنى الله سبحانه عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء
وقد يمكن أن يقال إنما انتفعوا باستغفارهم لأنهم سنوا لهم الإيمان بسبقهم إليه فلما اتبعوهم فيه كانوا كالمستنين في حصوله لهم لكن قد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة
وفي السنن من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء
وفي صحيح مسلم مد حديث عوف بن مالك قال على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع

مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار
وفي السنن عن وائلة بن الأسقع قال على رجل من المسلمين فسمعته يقول اللهم إن فلانا ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك فقه من فتنة القبر وعذاب النار وأنت أهل الوفاء والحق فاغفر له وارحمه إنك الغفور الرحيم
وهذا كثير في الأحاديث بل هو المقصود بالصلاة على الميت وكذلك الدعاء له بعد الدفن
وفي السنن من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه قال كان النبي إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فانه الآن يسأل
وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم كما في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الخصيب قال كان رسول الله يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية
وفي صحيح مسلم أن عائشة رضى الله عنها سألت النبي كيف نقول إذا استغفرت لأهل القبور قال قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وانا إن شاء الله بكم للاحقون
وفي صحيحه عنها أيضا أن رسول الله خرج في ليلتها من آخر الليل إلى البقيع فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وانا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد
ودعاء النبي للأموات فعلا وتعليما ودعاء الصحابة والتابعين والمسلمين عصرا بعد عصر أكثر من أن يذكر وأشهر من أن ينكر وقد جاء ان الله يرفع درجة العبد في الجنة فيقول أنى لى هذا فيقال بدعاء ولدك لك
فصل وأما وصول ثواب الصدقة ففي الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها أن
رجلا أتى النبي فقال يا رسول الله أن أمي افتلت ! نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها قال نعم

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها فأتى النبي فقال يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت عنه قال نعم قال فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها
وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رجلا قال للنبي ان أبى مات وترك مالا ولم يوص فهل يكفى عنه أن أتصدق عنه قال نعم
وفي السنن ومسند أحمد عن سعد بن عبادة أنه قال يا رسول الله ان أم سعد ماتت فأى الصدقة أفضل قال الماء فحفر بئر وقال هذه لأم سعد
وعن عبد الله بن عمرو أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة وإن هشام بن العاص نحر خمسة وخمسين وأن عمرا سأل النبي عن ذلك فقال أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك رواه الإمام أحمد
فصل وأما وصول ثواب الصوم ففي الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها أن
رسول الله قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه
وفي الصحيحين أيضا عن ابن عباس رضى الله عنهما قلا جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها قال نعم فدين الله أحق أن يقضى
وفي رواية جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها قال أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدى ذلك عنها قالت نعم قال فصومي عن أمك وهذا اللفظ للبخاري وحده تعليقا
وعن بريدة رضى الله عنه قال بينا ! أنا جالس عند رسول الله إذ أتته امرأة فقالت إني تصدقت على أمي بجارية وأنها ماتت فقال وجب أجرك وردها عليك الميراث فقالت يا رسول الله انه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومي عنها قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجى عنها رواه مسلم وفي لفظ صوم شهرين
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله نجاها أن تصوم شهرا فنجاها الله فلم تصم حتى ماتت فجاءت بنتها أو أختها إلى رسول الله

فأمرها أن تصوم عنها رواه أهل السنن والإمام أحمد وكذلك روى عنه وصول ثواب بدل الصوم وهو الاطعام
ففي السنن عن ابن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه لكل يوم مسكين رواه الترمذى وابن ماجه قال الترمذى ولا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه والصحيح عن ابن عمر من قوله موقوفا
وفي سنن أبى داود عن ابن عباس رضى الله عنهما قال إذا مرض الرجل في رمضان ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عنه قضاء وإن نذر قضى عنه وليه
فصل وأما وصول ثواب الحج ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضى الله
عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها قال حجى عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته اقضوا الله فالله أحق بالقضاء
وقد تقدم حديث بريدة وفيه أن أمي لم تحج قط أفأحج عنها قال حجى عنها
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال إن امرأة سنان بن سلمة الجهني سألت رسول الله أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزىء أن تحج عنها قال نعم لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزىء عنها رواه النسائي
وروى أيضا عن ابن عباس رضى الله عنهما أن امرأة سألت النبي عن ابنها مات ولم يحج قال حجى عن ابنك
وروى أيضا عنه قال قال رجل يا نبي الله ان أبى مات ولم يحج أفأحج عنه قال أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فدين الله أحق وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمته ولو كان من أجنبي أو من غير تركته وقد دل عليه حديث أبى قتادة حيث ضمن الدينارين عن الميت فلما قضاهما قال له النبي الآن بردت عليه جلدته
وأجمعوا على أن الحي إذا كان له في ذمة الميت حق من الحقوق فأحله منه أنه ينفعه ويبرأ منه كما يسقط من ذمة الحي
فإذا سقط من ذمة الحي بالنص والإجماع مع إمكان أدائه له بنفسه ولو لم يرض به بل

رده فسقوطه من ذمة الميت بالابراء حيث لا يتمكن من أدائه أولى وأحرى وإذا انتفع بالإبراء والإسقاط فكذلك ينتفع بالهبة والإهداء ولا فرق بينهما فإن ثواب العمل حق المهدى الواهب فإذا جعله للميت انتقل إليه كما أن ما على الميت من الحقوق من الدين وغيره هو محض حق الحي فإذا أبرأه وصل الإبراء إليه وسقط من ذمته فكلاهما حق للحى فأي نص أو قياس أو قاعدة من قواعد الشرع يوجب وصول أحدهما ويمنع وصول الآخر
هذه النصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه وهذا محض للقياس فإن الثواب حق للعامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك كما لم يمنع من هبة ماله في حياته وإبرائه له من بعد موته
وقد نبه النبي بوصول ثواب الصوم الذي هو مجرد ترك ونية تقوم بالقلب لا يطلع عليه إلا الله وليس بعمل الجوارح على وصول ثواب القراءة التي هي عمل باللسان تسمعه الأذن وتراه العين بطريق الأولى
ويوضحه أن الصوم نية محضة وكف النفس عن المفطرات وقد أوصل الله ثوابه إلى الميت فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية بل لا تفتقر إلى النية فوصول ثواب الصوم إلى الميت فيه تنبيه على وصول سائر الأعمال
والعبادات قسمان مالية وبدنية وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصدقة قال على وصول ثواب سائر العبادات المالية ونبه بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب سائر العبادات البدنية وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار وبالله التوفيق
قال المانعون من الوصول قال الله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وقال ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون وقال لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقد ثبت عن النبي أنه قال إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية عليه أو ولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به من بعد فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب إليه في الحياة وما لم يكن قد تسبب إليه فهو منقطع عنه
وأيضا فحديث أبى هريرة رضى الله عنه المتقدم وهو قوله إن مما يلحق الميت من عمله وحسناته بعد موته علما نشره الحديث يدل على أنه إنما ينتفع بما كان قد تسبب فيه
وأيضا فحديث أبى هريرة رضى الله عنه المتقدم وهو قوله إن مما يلحق الميت من عمله وحسناته بعد موته علما نشره الحديث يدل على أنه إنما ينتفع بما كان قد تسبب فيه
وكذلك حديث أنس يرفعه سبع يجرى على العبد أجرهن وهو في قبره بعد موته من علم

علما أو أكرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا صالحا يستغفر له بعد موته
وهذا يدل على أن ما عدا ذلك لا يحصل له منه ثواب وإلا لم يكن للحصر معنى
قالوا والإهداء حوالة والحوالة إنما تكون بحق لازم والأعمال لا توجب الثواب وإنما هو مجرد تفضل الله وإحسانه فكيف يحيل العبد على مجرد الفضل الذي لا يجب على الله بل إن شاء آتاه وإن لم يشأ لم يؤته وهو نظير حوالة الفقير على من يرجو أن يتصدق عليه ومثل هذا لا يصح إهداؤه وهبته كصلة ترجى من ملك لا لتحقق حصولها
قالوا وأيضا فالإيثار بأسباب الثواب مكروه وهو الإيثار بالقرب فكيف الإيثار بنفس الثواب الذي هو غاية إذا كره الإيثار بالوسيلة فالغاية أولى وأحرى
وكذلك كره الإمام أحمد التأخر عن الصف الأول وإيثار الغير به لما فيه من الرغبة عن سبب الثواب قال أحمد في رواية حنبل وقد سئل عن الرجل يتأخر عن الصف الأول ويقدم أباه في موضعه قال ما يعجبني هو يقدر أن يبر أباه بغير هذا
قالوا أيضا لو ساغ الإهداء إلى الميت لساغ نقل الثواب والإهداء إلى الحي
وأيضا لو ساغ ذلك لساغ لهذا نصف الثواب وربعه وقيراط منه
وأيضا لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعمله لنفسه وقد قلتم أنه لا بد أن ينوى حال الفعل إهداءه إلى الميت وإلا لم يصل إليه فإذا ساغ له نقل الثواب فأي فرق بين أن ينوى قبل الفعل أو بعده
وأيضا لو ساغ الإهداء لساغ إهداء ثواب الواجبات على الحي كما يسوغ إهداء ثواب التطوعات التي يتطوع بها
قالوا وإن التكاليف امتحان وابتلاء لا تقبل البدل فإن المقصود منها عين المكلف العامل المأمور المنهي فلا يبدل المكلف الممتحن بغيره ولا ينوب غيره عنه في ذلك أن المقصود طاعته هو نفسه وعبوديته ولو كان ينتفع بإهداء غيره له من غير عمل منه لكان أكرم الأكرمين أولى بذلك وقد حكم سبحانه أنه لا ينتفع إلا بسعيه وهذه سنته تعالى في خلقه وقضاؤه كما هي سنته في أمره وشرعه فإن المريض لا ينوب عنه غيره في شرب الدواء والجائع والظمآن والعاري لا ينوب عنه غيره في الأكل والشرب واللباس قالوا ولو نفعه عمل غيره لنفعه توبته عنه

قالوا ولهذا لا يقبل الله إسلام أحد ولا صلاته عن صلاته فإذا كان رأس العبادات لا يصح إهداء ثوابه فكيف فروعها
قالوا وأما الدعاء فهو سؤال ورغبة إلى الله أن يتفضل على الميت ويسامحه ويعفو عنه وهذا إهداء ثواب عمل الحي إليه
قال المقتصرون على وصول العبادات التي تدخلها النيابة كالصدقة والحج والعبادات نوعان نوع لا تدخله النيابة بحال كالإسلام والصلاة وقراءة القرآن والصيام فهذا النوع يختص ثوابه بفاعله لا يتعداه ولا ينقل عنه كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد ولا ينوب فيه عن فاعله غيره
ونوع تدخله النيابة كرد الودائع وأداء الديون وإخراج الصدقة والحج فهذا يصل ثوابه إلى الميت لأنه يقبل النيابة ويفعله العبد عن غيره في حياته فبعد موته بالطريق الأولى والأحرى
قالوا وأما حديث من مات وعليه صيام صام عنه وليه فجوابه من وجوه
أحدها ما قاله مالك في موطئه قال لا يصوم أحد عن أحد قال وهو أمر مجمع عليه عندنا لا خلاف فيه الثاني أن ابن عباس رضى الله عنهما هو الذي روى حديث الصوم عن الميت وقد روى عنه النسائي أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حجاج الأحول حدثنا أيوب بن موسى عن عطاء بن أبى رباح عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لا يصلى أحد عن أحد
الثالث أنه حديث اختلف في إسناده هكذا قال صاحب المفهم في شرح مسلم
الرابع أنه معارض بنص القرآن كما تقدم من قوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
الخامس أنه معارض بما رواه النسائي عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي أنه قال لا يصلى أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة
السادس أنه معارض بحديث محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبي من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه

السابع أنه معارض بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة فان أحدا لا يفعلها عن أحد قال الشافعي فيما تكلم به على خبر ابن عباس لم يسم ابن عباس ما كان نذر أم سعد فاحتمل أن يكون نذر حج أو عمرة أو صدقة فأمره بقضائه عنها فأما من نذر صلاة أو صياما ثم مات فإنه يكفر عنه في الصوم ولا يصام عنه ولا يصلى عنه ولا يكفر عنه في الصلاة ثم قال فإن قيل أفأروى عن رسول الله أمر أحد أن يصوم عن أحد قيل نعم روى ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي فإن قيل فلم لا تأخذ به قيل حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي نذرا ولم يسمعه ! مع حفظ الزهري وطول مجالسه عبيد الله لابن عباس فلما جاء غيره عن رجل عن ابن عباس بغير ما في حديث عبيد الله أشبه أن لا يكون محفوظا فإن قيل فتعرف الرجل الذي جاء بهذا الحديث يغلط عن ابن عباس قيل نعم روى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس أنه قال لابن الزبير أن الزبير حل من متعة الحج فروى هذا عن ابن عباس أنها متعة النساء وهذا غلط فاحش
فهذا الجواب عن فعل الصوم وأما فعل الحج فإنما يصل منه ثواب الإنفاق وأما أفعال المناسك فهي كأفعال الصلاة إنما تقع عن فاعلها
قال أصحاب الوصول ليس في شيء مما ذكرتم ما يعارض أدلة الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ومقتضى قواعد الشرع ونحن نجيب عن كل ما ذكرتموه بالعدل والإنصاف
أما قوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فقد اختلفت طرق الناس في المراد بالآية فقالت طائفة المراد بالإنسان ها هنا الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له بالأدلة التي ذكرناها قالوا وغاية ما في هذا التخصيص وهو جائز إذا دل عليه الدليل
وهذا الجواب ضعيف جدا ومثل هذا العام لا يراد به الكافر وحده بل هو للمسلم والكافر وهو كالعام الذي قبله وهو قوله تعالى أن لا تزر وازرة وزر أخرى
والسياق كله من أوله إلى آخره كالصريح في إرادة العموم لقوله تعالى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وهذا يعم الشر والخير قطعا ويتناول البر والفاجر والمؤمن والكافر كقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وكقوله له في الحديث الإلهي يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وهو كقوله تعالى يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ولا تغتر بقود كثير من المفسرين في لفظ الإنسان في

القرآن الإنسان ها هنا أبو جهل والإنسان ها هنا عقبة ابن أبى معيط والإنسان هاهنا الوليد ابن المغيرة فالقرآن أجل من ذلك بل الإنسان هو الإنسان من حيث هو من غير اختصاص بواحد بعينه كقوله تعالى إن الإنسان لفي خسر و إن الإنسان لربه لكنود و إن الإنسان خلق هلوعا و إن الإنسان ليطغى ان رآه استغنى و إن الإنسان لظلوم كفار و وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا فهذا شأن الإنسان من حيث ذاته ونفسه وخروجه عن هذه الصفات بفضل ربه وتوفيقه له ومنته عليه لا من ذاته فليس له من ذاته إلا هذه الصفات وما به من نعمة فمن الله وحده فهو الذى حبب إلى عبده الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان وهو الذي كتب في قلبه الإيمان وهو الذي يثبت أنبياءه ورسله وأولياءه على دينه وهو الذي يصرف عنهم السوء والفحشاء وكان يرتجز بين يدي النبي
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
وقد قال تعالى وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله وقال تعالى وما يذكرون إلا أن يشاء الله وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين فهو رب جميع العالم ربوبية شاملة لجميع ما في العالم من ذوات وأفعال وأحوال
وقالت طائفة الآية أخبار بشرع من قبلنا وقد دل شرعنا على أنه له ما سعى وما سعى له وهذا أيضا أضعف من الأول أو من جنسه فان الله سبحانه أخبر بذلك أخبار مقرر له محتج به لا أخبار مبطل له ولهذا قال أم لم ينبأ بما في صحف موسى فلو كان هذا باطلا في هذه الشريعة لم يخبر به أخبار مقرر له محتج به
وقالت طائفة اللام بمعنى على أي وليس على الإنسان إلا ما سعى وهذا أبطل من القولين الأولين فإنه قول موضوع الكلام إلى ضد معناه المفهوم منه ولا يسوغ مثل هذا ولا تحتمله اللغة وأما نحو ولهم اللعنة فهي على بابها أي نصيبهم وحظهم وأما أن العرب تعرف في لغاتها لي درهم بمعنى على درهم فكلا
وقالت طائفة في الكلام حذف تقديره وان ليس للإنسان إلا ما سعى أو سعى له وهذا أيضا من النمط الأول فإنه حذف مالا يدل السياق عليه بوجه وقول على الله وكتابه بلا علم
وقالت طائفة أخرى الآية منسوخة بقوله تعالى والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وهذا منقول عن ابن عباس رضى الله عنهما وهذا ضعيف أيضا

ولا يرفع حكم الآية بمجرد قول ابن عباس رضى الله عنهما ولا غيره أنها منسوخة والجميع بين الآيتين غير متعذر ولا ممتنع فإن الأبناء تبعوا الآباء في الآخرة كما كانوا تبعا ! لهم في الدنيا وهذه التبعية هي من كرامة الآباء وثوابهم الذي نالوه بسعيهم وأما كون الأبناء لحقوا بهم في الدرجة بلا سعى منهم فهذا ليس هو لهم وإنما هو للآباء أقر الله أعينهم بإلحاق ذريتهم بهم في الجنة وتفضل على الأبناء بشيء لم يكن لهم كما تفضل بذلك على الوالدان والحور العين والخلق ألذين ينشئهم للجنة بغير أعمال والقوم الذين يدخلهم الجنة بلا خير قدموه ولا عمل عملوه فقوله تعالى أن لا تزر وازرة وزر أخرى وقوله وان ليس للإنسان إلا ما سعى آيتان محكمتان يقتضيهما عدل الرب تعالى وحكمته وكما له المقدس والعقل والفطرة شاهدان بهما فالأول تقتضي أنه لا يعاقب بجرم غيره والثانية تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله وسعيه فالأولى تؤمن العبد من أخذه بجريرة غيره كما يفعله ملوك الدنيا والثانية تقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه كما عليه أصحاب الطمع الكاذب فتأمل حسن اجتماع هاتين الآيتين
ونظيره قوله تعالى من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فحكم سبحانه لأعدائه بأربعة أحكام هي غاية العدل والحكمة
أحدها إن هدى العباد بالإيمان والعمل الصالح لنفسه لا لغيره
الثاني أن ضلاله بفوات ذلك وتخلفه عنه على نفسه لا على غيره
الثالث أن أحدا لا يؤاخذ بجريرة غيره
الرابع أنه لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه يرسله فتأمل ما في ضمن هذه الأحكام الأربعة من حكمته تعالى وعدله وفضله والرد على أهل الغرور والأطماع الكاذبة وعلى أهل الجهل بالله وأسمائه وصفاته
وقالت طائفة أخرى المراد بالإنسان ها هنا الحي دون الميت وهذا أيضا من النمط الأول في الفساد
وهذا كله من سوء التصرف في اللفظ العام وصاحب هذا التصرف لا ينفذ تصرفه في دلالات الألفاظ وحملها على خلاف موضوعها وما يتبادر إلى الذهن منها وهو تصرف فاسد قطعا يبطله السياق والاعتبار وقواعد الشرع وأدلته وعرفه وسبب هذا التصرف السيىء أن صاحبه يعتقد قولا ثم يرد كلما دل على خلافه بأي طريق اتفقت له فالأدلة المخالفة لما

اعتقده عنده من باب الصائل لا يبالي بأي شيء دفعه وأدلة الحق لا تتعارض ولا تتناقض بل يصدق بعضها بعضا
وقالت طائفة أخرى وهو جواب أبى الوفاء بن عقيل قال الجواب الجيد عندي إن يقال الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء وأولد الأولاد ونكح الأزواج وأسدى الخير وتودد إلى الناس فترحموا عليه وأهدوا له العبادات وكان ذلك أثر سعيه كما قال إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه ويدل عليه قوله في الحديث الآخر إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به من بعده وصدقة جارية عليه أو ولد صالح يدعو له ومن هنا قول الشافعي إذا بذل له ولده طاعة الحج كان ذلك سببا لوجوب الحج عليه حتى كأنه في ماله زاد وراحلة بخلاف بذل الأجنبي
وهذا جواب متوسط يحتاج إلى تمام فإن العبد بإيمانه وطاعته لله ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها كالصلاة في جماعة فإن كل واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفا لمشاركة غيره له في الصلاة فعمل غيره كان سببا لزيادة أجره كما أن عمله سبب لزيادة أجر الآخر بل قد قيل إن الصلاة يضاعف ثوابها يعدد المصلين وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى وقد قال النبي المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه ومعلوم أن هذا بأمور الدين أولى منه بأمور الدنيا فدخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم وقد أخبر الله سبحانه عن حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم واخبر عن دعاء رسله واستغفارهم للمؤمنين كنوح وإبراهيم ومحمد فالعبد بإيمانه قد تسبب إلى وصول هذا الدعاء إليه فكأنه من سعيه يوضحه أن الله سبحانه جعل الإيمان سببا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه وقد دل على ذلك قول النبي لعمرو بن العاص إن أباك لو كان أقر بالتوحيد نفعه ذلك يعنى العتق الذي فعل عنه بعد موته فلو أتى بالسبب لكان قد سعى في يعمل يوصل إليه ثواب العتق وهذه طريقة لطيفة حسنة جدا
وقالت طائفة أخرى القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره وإنما نفي ملكه لغير سعيه

وبين الأمرين من الفرق مالا يخفي فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه وأما سعى غيره فهو ملك لساعيه فإن شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها
فصل وكذلك قوله تعالى
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقوله ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون على أن هذه الآية أصرح في الدلالة على أن سياقها وإنما ينفي عقوبة العبد بعمل غيره وأخذه بجريرته فإن الله سبحانه قال فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون فنفي أن يظلم بأن يزاد عليه في سيئاته أو ينقص من حسناته أو يعاقب بعمل غيره ولم ينف أن ينتفع بعمل غيره لا على وجه الجزاء فإن انتفاعه بما يهدى إليه ليس جزاء على عمله وإنما هو صدقة تصدق الله بها عليه وتفضل بها عليه من غير سعى منه بل وهبه ذلك على يد بعض عباده لا على وجه الجزاء
فصل وأما استدلالكم بقوله إذا مات العبد انقطع عمله فاستدلال ساقط
فانه لم يقل انقطع انتفاعه وإنما أخبر عن انقطاع عمله وأما عمل غيره فهو لعامله فان وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله هو فالمنقطع شيء والواصل إليه شيء آخر وكذلك الحديث الآخر وهو قوله إن مما يلحق الميت من حسناته وعمله فلا ينفي أن يلحقه غير ذلك من عمل غيره وحسناته
فصل وأما قولكم الإهداء حوالة والحوالة إنما تكون بحق لازم فهذه حوالة
المخلوق على المخلوق
وأما حوالة المخلوق على الخالق فأمر آخر لا يصح قياسها على حوالة العبيد بعضهم على بعض وهل هذا إلا من أبطل القياس وأفسده والذي يبطله إجماع الأمة على انتفاعه بأداء دينه وما عليه من الحقوق وإبراء المستحق لذمته والصدقة والحج عنه بالنص الذي لا سبيل إلى رده ودفعه وكذلك الصوم وهذه الأقيسة الفاسدة لا تعارض نصوص الشرع وقواعده
فصل وأما قولكم الإيثار بسبب الثواب مكروه وهو مسالة الإيثار بالقرب
فكيف الإيثار الثواب بنفس الذي هو الغاية فقد أجيب عنه بأجوبة

الجواب الأول ان حال الحياة حال لا يوثق فيها بسلامة العاقبة لجواز إن يرتد الحي فيكون قد آثر بالقربة غير أهلها وهذا قد أمن بالموت فإن قيل والمهدى إليه أيضا قد لا يكون مات على الإسلام باطنا فلا ينتفع بما يهدى إليه وهذا سؤال في غاية البطلان فإن الإهداء له من جنس الصلاة عليه والاستغفار له والدعاء له فإن كان أهلا وإلا انتفع به الداعي وحده
الجواب الثاني أن الإيثار بالقرب يدل على قلة الرغبة فيها والتأخر عن فعلها فلو ساغ الإيثار بها لأفضى إلى التقاعد والتكاسل والتأخر بخلاف إبداء ثوابها فإن العامل يحرص عليها لأجل ثوابها لينتفع به أو ينفع به أخاه المسلم فبينهما فرق ظاهر
الجواب الثالث أن الله سبحانه وتعالى يحب المبادرة أو المسارعة إلى خدمته والتنافس فيها فإن ذلك ابلغ في العبودية فإن الملوك تحب المسارعة والمنافسة في طاعتها وخدمتها فالإيثار بذلك مناف لمقصود العبودية فإن الله سبحانه أمر عبده بهذه القربة أما إيجابا وأما استحبابا فإذا أثر بها ترك ما أمره وولاه غيره بخلاف ما إذا فعل ما أمر به طاعة وقربة ثم أرسل ثوابه إلى أخيه المسلم وقد قال تعالى سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض وقال فاستبقوا الخيرات ومعلوم أن الإيثار بها ينافي الاستباق إليها والمسارعة
وقد كان الصحابة يسابق بعضهم بعضا بالقرب ولا يؤثر الرجل منهم غيره بها قال عمر والله ما سابقني أبو بكر إلى خير إلا سبقني إليه حتى قال والله لا أسابقك إلى خير أبدا
وقد قال تعالى وفي ذلك فليتنافس المتنافسون يقال نافست في الشيء منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه على وجه المباراة ومن هذا قولهم شيء نفيس أي هو أهل أن يتنافس فيه ويرغب فيه وهذا أنفس مالي أي أحبه إلى وأنفسني فلان في كذا أي أرغبني فيه وهذا كله ضد الإيثار به والرغبة عنه
فصل وأما قولكم لو ساغ الإهداء إلى الميت لساغ إلى الحي فجوابه من وجهين
أحدهما أنه قد ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم قال القاضي وكلام أحمد لا يقتضي التخصيص بالميت فانه قال يفعل الخير ويجعل نصفه لأبيه وأمه ولم يفرق واعترض عليه أبو الوفاء بن عقيل وقال هذا فيه بعد وهو تلاعب بالشرع وتصرف في أمانة الله واسجال على الله سبحانه بثواب على عمل يفعله إلى غيره وبعد الموت قد جعل لنا طريقا إلى إيصال النفع كالاستغفار والصلاة على الميت

ثم أورد على نفسه سؤالا وهو فإن قيل أليس قضاء الدين وتحمل الكل حال الحياة كقضائه بعد الموت فقد استوى ضمان الحياة وضمان الموت في أنهما يزيلان المطالبة عنه فإذا وصل قضاء الديون بعد الموت وحال الحياة فإجعلوا ثواب الإهداء واصلا حال الحياة وبعد الموت
وأجاب عنه بأنه لو صح هذا وجب أن تكون الذنوب تكفر عن الحي بتوبة غيره عنه ويندفع عنه مآثم الآخرة بعمل غيره واستغفاره
قلت وهذا لا يلزم بل طرد ذلك انتفاع الحي بدعاء غيره له واستغفاره له وتصدقه عنه وقضاء ديونه وهذا حق وقد أذن النبي في أداء فريضة الحج عن الحي المعضوب والعاجز وهما حيان
وقد أجاب غيره من الأصحاب بأن حال الحياة لا نثق بسلامة العاقبة خوفا أن يرتد المهدى له فلا ينتفع بما يهدى إليه
قال ابن عقيل وهذا عذر باطل بإهداء الحي فإنه لا يؤمن أن يرتد ويموت فيحبط عمله ومن جملته ثواب ما أهدى إلى الميت
قلت هذا لا يلزمهم وموارد النص والإجماع تبطله وترده فان النبي أذن في الحج والصوم عن الميت وأجمع الناس على براءة ذمته من الدين إذا قضاه عنه الحي مع وجود ما ذكر من الاحتمال
والجواب أن يقال ما أهداه من أعمال البر إلى الميت فقد صار ملكا له فلا يبطل بردة فاعله بعد خروجه عن ملكه كتصرفاته التي تصرفها قبل الردة من عتق وكفارة بل لو حج عن معضوب ثم ارتد بعد ذلك لم يلزم المعضوب أن يقيم غيره يحج عنه فإنه لا يؤمن في الثاني والثالث ذلك
على أن الفرق بين الحي والميت أن الحي ليس بمحتاج كحاجة الميت إذ يمكنه أن يباشر ذلك العمل أو نظيره فعليه اكتساب الثواب بنفسه وسعيه بخلاف الميت
وأيضا فإنه يفضي إلى اتكال بعض الأحياء على بعض وهذه مفسدة كبيرة فان أرباب الأموال إذا فهموا ذلك واستشعروه استأجروا من يفعل ذلك عنهم فتصير الطاعات معاوضات وذلك يفضي إلى إسقاط العبادات والنوافل ويصير ما يتقرب به إلى الله يتقرب به إلى الآدميين فيخرج عن الإخلاص فلا يحصل الثواب لواحد منهما

ونحن نمنع من أخذ الأجرة على كل قربة ونحبط بأخذ الأجر عليها كالقضاء والفتيا وتعليم العلم والصلاة وقراءة القرآن وغيرها فلا يثيب الله عليها إلا لمخلص اخلص العمل لوجهه فإذا فعله للأجرة لم يثب عليه الفاعل ولا المستأجر فلا يليق بمحاسن الشرع أن يجعل العبادات الخالصة له معاملات تقصد بها المعاوضات والإكساب الدنيوية وفارق قضاء الديون وضمانها فإنها حقوق الآدميين ينوب بعضهم فيها عن بعض فلذلك جازت في الحياة وبعد الموت
فصل وأما قولكم لو ساغ إهداء نصف الثواب وربعه إلى الميت فالجواب من
وجهين
أحدهما منع الملازمة فإنكم لم تذكروا عليها دليلا إلا مجرد الدعوى
الثاني التزام ذلك والقول به نص عليه الإمام احمد في رواية محمد بن يحيى الكحال ووجه هذا أن الثواب ملك له فله أن يهديه جميعه وله أن يهدى بعضه يوضحه أنه لو أهداه إلى أربعة مثلا يحصل لكل منهم ربعه فإذا أهدى الربع وأبقى لنفسه الباقي جاز كما لو أهداه إلى غيره
فصل وأما قولكم لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعمله لنفسه وقد
قلتم انه لا بد أن ينوى حال الفعل إهداءه إلى الميت وإلا لم يصل
فالجواب ان هذه المسألة غير منصوصة عن أحمد ولا هذا الشرط في كلام المتقدمين من أصحابه وإنما ذكره المتأخرون كالقاضي وأتباعه
قال ابن عقيل إذا فعل طاعة من صلاة وصيام وقراءة قرآن وأهداها بأن جعل ثوابها للميت المسلم فإنه يصل إليه ذلك وينفعه بشرط أن يتقدم نية الهدية على الطاعة أو تقارنها
وقال أبو عبد الله بن حمدان في رعايته ومن تطوع بقربة من صدقة وصلاة وصيام وحج وعمرة وقراءة وعتق وغير ذلك من عبادة بدنية تدخلها النيابة وعبادة مالية وجعل جميع ثوابها أو بعضه لميت مسلم حتى النبي ودعا له أو استغفر له أو قضى ما عليه من حق شرعي أو واجب تدخله النيابة نفعه ذلك ووصل إليه أجره وقيل إن نواه حال فعله أو قبله وصل إليه وإلا فلا
وسر المسالة أن أو ان شرط حصول الثواب أن يقع لمن أهدى له أولا ويجوز أن يقع للعامل ثم ينتقل عنه إلى غيره فمن شرط أن ينوى قبل الفعل أو الفراغ منه وصوله قال

لو لم ينوه وقع الثواب للعامل فلا يقبل انتقاله عنه إلى غيره فإن الثواب يترتب على العمل ترتب الأثر على مؤثره ولهذا لو أعتق عبدا عن نفسه كان ولاؤه له فلو نقل ولاؤه إلى غيره بعد العتق لم ينتقل بخلاف ما لو أعتقه عن الغير فإن ولاءه يكون للمعتق عنه وكذلك لو أدى دينا عن نفسه ثم أراد بعد الأداء ان يجعله عن غيره لم يكن له ذلك وكذلك لو حج أو صام أو صلى لنفسه ثم بعد ذلك أراد أن يجعل ذلك عن غيره لم يملك ذلك ويؤيد هذا أن الذين سألوا النبي عن ذلك لم يسألوه عن إهداء ثواب العمل بعده وإنما سألوه عما يفعلونه عن الميت كما قال سعد أينفعها أن أتصدق عنها ولم يقل أن أهدى لها ثواب ما تصدقت به عن نفسي وكذلك قول المرأة الأخرى أفأحج عنها وقول الرجل الآخر أفأحج عن أبى فأجابهم بالإذن في الفعل عن الميت لا بإهداء ثواب ما عملوه لأنفسهم إلى موتاهم فهذا لا يعرف أنه صلى سئل عنه قط ولا يعرف عن أحد من الصحابة أنه فعله وقال اللهم اجعل لفلان ثواب عملي المتقدم أو ثواب ما عملته لنفسي
فهذا سر الاشتراط وهو افقه ومن لم يشترط ذلك يقول الثواب للعامل فإذا تبرع به وأهداه إلى غيره كان بمنزلة ما يهديه إليه من ماله
فصل وأما قولكم لو ساغ الإهداء لساغ إهداء ثواب الواجبات التي تجب على
الحي فالجواب أن هذا الإلزام محال على أصل من شرط في الوصول نية الفعل عن الميت فإن الواجب لا يصح أن يفعله عن الغير فإن هذا واجب على الفاعل يجب عليه أن ينوى به القربة إلى الله
وأما من لم يشترط نية الفعل عن الغير فهل يسوغ عنده أن يجعل للميت ثواب فرض من فروضه فيه وجهان قال ابو عبد الله بن حمدان وقيل إن جعل له ثواب فرض من الصلاة أو صوم أو غيرهما جاز وأجزأ فاعله
قلت وقد نقل عن جماعة أنهم جعلوا ثواب أعمالهم من فرض ونقل للمسلمين وقالوا نلقى الله بالفقر والإفلاس المجرد والشريعة لا تمنع من ذلك فالأجر ملك العامل فغن شاء أن يجعله لغيره فلا حجر عليه في ذلك والله أعلم
فصل وأما قولكم إن التكاليف امتحان وابتلاء لا تقبل البدل إذ المقصود
منها عين المكلف العامل إلى آخره

الجواب عنه أن ذلك لا يمنع إذن الشارع للمسلم أن ينفع أخاه بشيء من عمله بل هذا من تمام إحسان الرب ورحمته لعباده ومن كمال هذه الشريعة التي شرعها لهم التي مبناها على العدل والإحسان والتعارف والرب تعالى أقام ملائكته وحملة عرشه يدعون لعباده المؤمنين ويستغفرون لهم ويسألونه لهم أن يقيهم السيئات وأمر خاتم رسله أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات وبقيمة يوم القيامة مقاما محمودا ليشفع في العصاة من أتباعه وأهل سنته وقد أمره تعالى أن يصلى على أصحابه في حياتهم وبعد مماتهم وكان يقوم على قبورهم فيدعو لهم ولقد استقرت الشريعة على أن المأثم الذي على الجميع بترك فروض للكفايات يسقط إذا فعله من يحصل المقصود بفعله ولو واحد وأسقط سبحانه الارتهان وحرارة الجلود في القبر بضمان الحي دين الميت وأدائه عنه وإن كان ذلك الوجوب امتحانا في حق المكلف وأذن النبي في الحج والصيام عن الميت وإن كان الوجوب امتحانا في حقه وأسقط عن المأموم سجود السهو بصحة صلاة الإمام وخلوها من السهو وقراءة الفاتحة بتحمل الإمام لها فهو يتحمل عن المأموم سهوه وقراءته وسترته لقراءة الإمام وسترته قراءة لمن خلفه وسترة له وهل الإحسان إلى المكلف بإهداء الثواب إليه إلا تأس بإحسان الرب تعالى والله يحب المحسنين
والخلق عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله وإذ كان سبحانه يحب من ينفع عياله بشربة ماء ومذاقة لبن وكسرة خبز فكيف من ينفعهم في حال ضعفهم وفقرهم وانقطاع أعمالهم وحاجتهم إلى شيء يهدى إليهم أحوج ما كانونا اليه فأحب الخلق إلى الله من ينفع عياله في هذه الحال
ولهذا جاء أثر عن بعض السلف أنه من قال كل يوم سبعين مرة رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات حصل له من الأجر بعدد كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ولا تستبعد هذا فإنه إذا استغفر لإخوانه فقد أحسن إليهم والله لا يضيع أجر المحسنين
فصل وأما قولكم انه لو نفعه عمل غيره لنفعه توبته عنه وإسلامه عنه
فهذه الشبهة تورد على صورتين
صورة تلازم يدعى فيها اللزوم بين الأمرين ثم يبين انتفاء اللازم فينتفي ملزومه وصورتها هكذا لو نفعه علم الغير عنه لنفعه إسلامه وتوبته عنه لكن لا ينفعه ذلك فلا ينفعه عمل الغير

والصورة الثانية إن يقال لا ينتفع بإسلام الغير وتوبته عنه فلا ينتفع بصلاته وصيامه وقراءته عنه
ومعلوم أن هذا التلازم والإقران باطل قطعا
أما أولا فلانه قياس مصادم لما تظاهرت به النصوص واجتمعت عليه الأمة
وأما ثانيا فلأنه جمع بين ما فرق الله بينه فإن الله سبحانه فرق بين إسلام المرء عن غيره وبين صدقته وحجه وعتقه عنه فالقياس المسوى بينهما من جنس قياس الذين قاسوا الميتة على المذكى والربا على البيع
وأما ثالثا فإن الله سبحانه جعل الإسلام سببا لنفع المسلمين بعضهم بعضا في الحياة وبعد الموت فإذا لم يأت بسبب انتفاعه بعمل المسلمين لم يحصل له ذلك النفع كما قال النبي لعمرو إن أباك لو كان أقر بالتوحيد فصمت أو تصدقت عنه نفعه ذلك وهذا كما جعل سبحانه الإسلام سببا لانتفاع العبد مما عمل من خير فإذا فاته هذا السبب لم ينفعه خير عمله ولم يقبل منه كما جعل الإخلاص والمتابعة سببا لقبول الأعمال فإذا فقد لم تقبل الأعمال وكما جعل الوضوء وسائر شروط الصلاة سببا لصحتها فإذا فقدت فقدت الصحة وهذا شأن سائر الأسباب مع مسبباتها الشرعية والعقلية والحسية فمن سوى بني حالين وجود السبب وعدمه فهو مبطل
ونظير هذا الهوس أن يقال لو قبلت الشفاعة في العصاة لقبلت في المشركين ولو خرج أهل الكبائر من الموحدين من النار لخرج الكفار منها وأمثال ذلك من الأقيسة التي هي من نجاسات معد أصحابها ورجيع أفواههم
وبالجملة فالأولى بأهل العلم الأعراض عن الاشتغال بدفع هذه الهذيانات لولا أنهم قد سودوا بها صحف الأعمال والصحف التي بين الناس
فصل وأما قولكم العبادات نوعان نوع تدخله النيابة فيصل ثواب إهدائه
إلى الميت
ونوع لا تدخله فلا يصل ثوابه
فهذا هو نفس المذهب والدعوى فكيف تحتجون به ومن أين لكم هذا الفرق فأي كتاب أم أي سنة أم أي اعتبار دل عليه حتى يجب المصير إليه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"