بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 31 مارس 2010

نبذ من كتاب الروح لايبن القيم/3

وقد شرع النبي الصوم عن الميت مع أن الصوم لا تدخله النيابة وشرع للأمة أن ينوب بعضهم عن بعض في أداء فرض الكفاية فإذا فعله واحد ناب عن الباقين في فعله وسقط عنهم المأثم وشرع لقيم الطفل الذي لا يعقل أن ينوب عنه في الإحرام وأفعال المناسك وحكم له بالأجر بفعل نائبه
وقد قال أبو حنيفة
رحمه الله يحرم الرفقة عن المغمى عليه فجعلوا إحرام رفقته بمنزلة إحرامه وجعل الشارع إسلام الأبوين بمنزلة إسلام أطفالهما وكذلك إسلام السابي والمالك على القول المنصوص فقد رأيت كيف عدت هذه الشريعة الكاملة أفعال البر من فاعلها إلى غيرهم فكيف يليق بها أن تحجر على العبد أن ينفع والديه ورحمه وإخوانه من المسلمين في أعظم أوقات حاجاتهم بشيء من الخير عليه الشارع في ثواب عمله أن يصرف منه ما شاء إلى من شاء من المسلمين والذي أوصل ثواب الحج والصدقة والعتق هو بعينه الذي يوصل ثواب الصيام والصلاة والقراءة والاعتكاف وهو إسلام المهدى وتبرع المهدى وإحسانه وعدم حجر الشارع عليه في الإحسان بل ندبه إلى الإحسان بكل طريق وقد تواطأت رؤيا المؤمنين وتواترت أعظم تواتر على أخبار الأموات لهم بوصول ما يهدونه إليهم من قراءة وصلاة وصدقة وحج وغيره ولو ذكرنا ما حكى لنا من أهل عصرنا وما بلغنا عمن قبلنا من ذلك لطال جدا وقد قال النبي أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر فأعتبر تواطؤ رؤيا المؤمنين وهذا كما يعتبر تواطؤ روايتهم لما شاهدوه فهم لا يكذبون في روايتهم ولا في رؤياهم إذا تواطأت
فصل وأما رد حديث رسول الله وهو قوله من مات وعليه صيام
صام عنه وليه بتلك الوجوه التي ذكرتموها فنحن ننتصر لحديث رسول الله ونبين موافقته للصحيح من تلك الوجوه وأما الباطل فيكفينا بطلانه من معارضته للحديث الصحيح الصريح ! الذي لا تغمز قناته ولا سبيل إلى مقابلته إلا بالسمع والطاعة والإذعان والقبول وليس لنا بعده الخيرة بل الخيرة وكل الخيرة في التسليم له والقول به ولو خالفه من بين المشرق والمغرب
فأما قولكم نرده بقول مالك في موطئه لا يصوم أحد عن أحد فمنازعوكم يقولون بل نرد قول مالك هذا بقول النبي فأي الفريقين أحق بالصواب وأحسن ردا

وأما قوله وهو أمر مجمع عليه عندنا لا خلاف فيه فمالك رحمه الله لم يحك إجماع الأمة من شرق الأرض وغربها وإنما حكى قول أهل المدينة فيما بلغه ولم يبلغه خلاف بينهم وعدم اطلاعه رحمه الله على الخلاف في ذلك لا يكون مسقطا لحديث رسول الله بل لو أجمع عليه أهل المدينة كلهم لكان الأخذ بحديث المعصوم أولى من الأخذ بقول أهل المدينة الذين لم تضمن لنا العصمة في قولهم دون الأمة ولم يجعل الله ورسوله أقوالهم حجة يجب الرد عند التنازع إليها بل قال الله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا
وان كان مالك وأهل المدينة قد قالوا لا يصوم أحد عن أحد فقد روى الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أفتى في قضاء رمضان يطعم عنه وفي النذر يصام عنه
وهذا مذهب الإمام أحمد وكثير من أهل الحديث وقول أبى عبيد وقال أبو ثور يصام عنه النذر وغيره وقال الحسن بن صالح في النذر يصوم عنه وليه
فصل أما قولكم ابن عباس هو راوي حديث الصوم عن الميت وقد قال
لا يصوم أحد عن أحد فغاية هذا أن يكون الصحابي قد أفتى بخلاف ما رواه وهذا لا يقدح في روايته فإن روايته معصومة وفتواه غير معصومة ويجوز أن يكون نسى الحديث أو تأوله أو اعتقد له معارضا راجحا في ظنه أو لغير ذلك من الأسباب على أن فتوى ابن عباس غير معارضة للحديث فإنه أفتى في رمضان أنه لا يصوم أحد عن أحد وأفتى في النذر أنه يصام عنه وليس هذا بمخالف لروايته بل حمل الحديث على النذر
ثم إن حديث من مات وعليه صيام صام عنه وليه هو ثابت من رواية عائشة رضى الله عنها فهب أن ابن عباس خالفه فكان ماذا فخلاف ابن عباس لا يقدح في رواية أم المؤمنين بل رد قول ابن عباس برواية عائشة رضى الله عنها أولى من رد روايتها بقوله
وأيضا فإن ابن عباس رضى الله عنهما قد اختلف عنه في ذلك وعنه روايتان فليس إسقاط الحديث للرواية المخالفة له عنه أولى من إسقاطها بالرواية الأخرى بالحديث
فصل وأما قولكم انه حديث اختلف في إسناده فكلام مجازف لا يقبل قوله
فالحديث صحيح ثابت متفق على صحته رواه صاحبا الصحيح ولم يختلف في إسناده

قال ابن البر ثبت عن النبي أنه قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه وصححه الإمام أحمد وذهب إليه وعلق الشافعي القول به على صحته فقال وقد روى عن النبي في الصوم عن الميت شيء فإن كان ثابتا صيم عنه كما يحج عنه وقد ثبت بلا شك فهو مذهب الشافعي كذلك قال غير واحد من أئمة أصحابه قال البيهقى بعد حكايته هذا اللفظ عن الشافعي قد ثبت جواز القضاء عن الميت برواية سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعن عكرمة عن ابن عباس وفي رواية أكثرهم إن امرأة سألت فأشبه أن تكون غير قصة أم سعد وفي رواية بعضهم صومي عن أمك وسيأتي تقرير ذلك عند الجواب عن كلامه رحمه الله
وقولكم أنه معارض بنص القرآن وهو قوله وأن ليس للإنسان إلا ما سعى إساءة أدب في اللفظ وخطأ عظيم في المعنى وقد أعاذ الله رسوله أن تعارض سنته لنصوص القرآن بل تعاضدها وتؤيدها ويالله ما يصنع التعصب ونصرة التقليد وقد تقدم من الكلام على الآية ما فيه كفاية وبينا أنها لا تعارض بينها وبين سنة رسول الله بوجه وإنما يظن التعارض من سوء الفهم وهذه طريقة وخيمة ذميمة وهي رد السنن الثابتة بما يفهم من ظاهر القرآن والعلم كل العلم تنزيل السنن على القرآن فإنها مشتقة منه ومأخوذة عمن جاء به وهي بيان له لا أنها مناقضة له
وقولكم أنه معارض بما رواه النسائي عن النبي انه قال لا يصلى أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه كل يوم مد من حنطة فخطأ قبيح فإن النسائي رواه هكذا أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حجاج الأحول حدثنا أيوب بن موسى عن عطاء بن أبى رباح عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لا يصلى أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مد من حنطة هكذا رواه قول ابن عباس لا قول رسول الله فكيف يعارض قول رسول الله بقول ابن عباس ثم يقدم عليه مع ثبوت الخلاف عن ابن عباس رضى الله عنهما ورسول الله لم يقل هذا الكلام قط وكيف يقوله وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه وكيف يقوله وقد قال في حديث بريدة الذي رواه مسلم في صحيحه أن امرأة قالت له إن أمى ماتت وعليها صوم شهر قال صومي عن أمك
وأما قولكم انه معارض بحديث ابن عمر رضى الله عنهما من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه فمن هذا النمط فإنه حديث باطل على رسول الله

قال البيهقى حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبي من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه لا يصح ومحمد بن عبد الرحمن كثير الوهم وإنما رواه أصحاب نافع عنه نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما من قوله
وأما قولكم أنه معارض بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة فإن أحدا لا يفعلها عن أحد
فلعمر الله انه لقياس جلى البطلان والفساد لرد سنة رسول الله الصحيحة الصريحة له وشهادتها ببطلانه وقد أوضحنا الفرق بين قبول الإسلام عن الكافر بعد موته وبين انتفاع المسلم بما يهديه إليه أخوه المسلم من ثواب صيام أو صدقة أو صلاة ولعمر الله إن الفرق بينهما أوضح من أن يخفي وهل في القياس أفسد من قياس انتفاع المسلم بعد موته بما يهديه إليه أخوه المسلم من ثواب عمله على قبول الإسلام عن الكافر بعد موته أو قبول التوبة عن المجرم بعد موته
فصل وأما كلام الشافعي
رحمه الله في تغليط راوي حديث ابن عباس رضى
الله عنهما أن نذر أم سعد كان صوما فقد أجاب عنه أنصر الناس له هو البيهقى ونحن نذكر كلامه بلفظه قال في كتاب المعرفة بعد أن حكى كلامه قد ثبت جواز القضاء عن الميت برواية سعيد ابن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما وفي رواية أكثرهم أن امرأة سألت فأشبه أن تكون غير قصة أم سعد وفي رواية بعضهم صومي عن أمك قال وتشهد له بالصحة رواية عبد الله بن عطاء المدني قال حدثني عبد الله بن بريدة الأسلمى عن أبيه قال كنت عند النبي فأتته امرأة فقالت يا رسول الله إني كنت تصدقت بوليدة على أمي فماتت وبقيت الوليدة قال قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث قالت فإنها ماتت وعليها صوم شهر قال صومي عن أمك قالت وإنها ماتت ولم تحج قال فحجى عن أمك رواه مسلم في صحيحه من أوجه عن عبد الله بن عطاء انتهي
قلت وقد روى أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صيام شهر أفأقضيه عنها فقال النبي لو كان عليها دين أكنت قاضيه عنها قال نعم قال فدين الله أحق أن يقضى

ورواه أبو خيثمة حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن الأعمش فذكره
ورواه النسائي عن قتيبة بن سعيد حدثنا عبثر عن الأعمش فذكره
فهذا غير حديث أم سعد إسنادا ومتنا فان قصة أم سعد رواها مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضى الله عنهما أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله فقال إن أمي ماتت وعليها نذر فقال النبي اقضه عنها هكذا أخرجاه في الصحيحين
فهب أن هذا هو المحفوظ في هذا الحديث أنه نذر مطلق لم يسم فهل يكون هذا في حديث الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير على أن ترك استفصال النبي لسعد في النذر هل كان صلاة أو صدقة أو صياما مع أن الناذر قد ينذر هذا وهذا يدل على أنه لا فرق بين قضاء نذر الصيام والصلاة وإلا لقال له ما هو النذر فان النذر إذا انقسم إلى قسمين نذر يقبل القضاء عن الميت ونذر لا يقبله لم يكن من الاستفصال
فصل ونحن نذكر أقوال أهل العلم في الصوم عن الميت لئلا يتوهم أن
في المسألة إجماعا بخلافه
قال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما يصام عنه في النذر ويطعم عنه في قضاء رمضان وهذا مذهب الإمام أحمد
وقال أبو ثور يصام عنه النذر والفرض وكذلك قال داود بن على وأصحابه يصام عنه نذرا كان أو فرضا
وقال الأوزاعى يجعل وليه مكان الصوم صدقة فان لم يجد صام عنه وهذا قول سفيان الثوري في إحدى الروايتين عنه
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام يصام عنه النذر ويطعم عنه في الفرض
وقال الحسن إذا كان عليه صيام شهر فصام عنه ثلاثون رجلا يوما واحدا جاز
فصل وأما قولكم أنه يصل إليه في الحج ثواب النفقة دون أفعال المناسك
فدعوى مجردة بلا برهان والسنة تردها فان النبي قال حج عن أبيك وقال للمرأة حجى عن أمك فأخبر أن الحج نفسه عن الميت ولم يقل إن الإنفاق هو الذي يقع عنه

وكذلك قال للذي سمعه يلبى عن شبرمة حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة
ولما سألته المرأة عن الطفل الذي معها فقالت ألهذا حج قال نعم ولم يقل إنما له ثواب الإنفاق بل أخبر أن له حجا مع أنه لم يفعل شيئا بل وليه ينوب عنه في أفعال المناسك
ثم إن النائب عن الميت قد لا ينفق شيئا في حجته غير نفقة مقامه فما الذي يجعل نفقة ثواب نفقة مقامه للمحجوج عنه وهو لم ينفقها على الحج بل تلك نفقته أقام أم سافر فهذا القول ترده السنة والقياس والله أعلم
فصل فإن قيل فهل تشترطون في وصول الثواب ان يهديه ! بلفظه أم يكفي
في وصوله مجرد نيه العامل أن يهديها إلى الغير
قيل السنة لم تشترط التلفظ بالإهداء في حديث واحد بل أطلق الفعل عن الغير كالصوم والحج والصدقة ولم يقل لفاعل ذلك وقل اللهم هذا عن فلان ابن فلان والله سبحانه يعلم نية العبد وقصده بعمله فان ذكره جاز وإن ترك ذكره واكتفي بالنية والقصد وصل إليه ولا يحتاج أن يقول اللهم إني صائم غدا عن فلان ابن فلان ولهذا والله أعلم اشترط من اشترط نية الفعل عن الغير قبله ليكون واقعا بالقصد عن الميت
فأما إذا فعله لنفسه ثم نوى أن يجعل ثوابه للغير لم يصر الغير بمجرد النية كما لو نوى أن يهب أو يعتق أو يتصدق لم يحصل ذلك بمجرد النية
وبما يوضح ذلك أنه لو بنى مكانا بنية أن يجعله مسجدا أو مدرسة أو ساقية ونحو ذلك صار وقفا بفعله مع النية ولم يحتج إلى تلفظ
وكذلك لو أعطى الفقير مالا بنية الزكاة سقطت عنه الزكاة وإن لم يتلفظ بها
وكذلك لو أدى عن غيره دينا حيا كان أو ميتا سقط من ذمته وإن لم يقل هذا عن فلان
فإن قيل فهل يتعين عليه تعليق الإهداء بأن يقول اللهم إن كنت قبلت هذا العمل وأثبتنى عليه فاجعل ثوابه لفلان أم لا
قيل لا يتعين ذلك لفظا ولا قصدا بل لا فائدة في هذا الشرط فان الله سبحانه إنما يفعل هذا سواء شرطه أو لم يشرطه فلو كان سبحانه يفعل غير هذا بدون الشرط كان في الشرط فائدة
وأما قوله اللهم إن كنت اثبتنى على هذا فاجعل ثوابه لفلان فهو بناء على ان الثواب ! يقع للعامل ثم ينتقل منه إلى من أهدى له وليس كذلك بل إذا نوى حال الفعل

انه عن فلان وقع الثواب أولا عن المعمول له كما لو أعتق عبده عن غيره لا نقول ان الولاء يقع للمعتق ثم ينتقل عنه إلى المعتق عنه فهكذا هذا وبالله التوفيق
فإن قيل فما الأفضل انه يهدى إلى الميت قيل الأفضل ما كان أنفع في نفسه فالعتق عنه والصدقة أفضل من الصيام عنه وأفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق عليه وكانت دائمة مستمرة ومنه قول النبي افضل الصدقة سقى الماء وهذا في موضع يقل فيه الماء ويكثر فيه العطش وإلا فسقى الماء على الأنهار والقنى لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة وكذلك الدعاء والاستغفار له إذا كان بصدق من الداعي وإخلاص وتضرع فهو في موضعه افضل من الصدقة عنه كالصلاة على الجنازة والوقوف للدعاء على قبره
وبالجملة فأفضل ما يهدى إلى الميت العتق والصدقة والاستغفار له والدعاء له والحج عنه
وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعا بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج
فإن قيل فهذا لم يكن معروفا في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير ولا أرشدهم النبي وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه
فالجواب أن مورد هذا السؤال إن كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار
قيل له ما هذه الخاصية التي منعت بوصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات وان لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع
وأما السبب الذي لأجله يظهر ذلك في السلف فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدى إلى الموتى ولا كانوا يعرفون ذلك البتة ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم ولا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم

ثم يقال لهذا القائل لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال اللهم ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت فإن القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر فلم يكونوا ليشهدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم
فإن قيل فرسول الله أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج دون القراءة
قيل هو يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم فهذا سأله عن الحج عن ميته فإذن له وهذا سأله عن الصيام عنه فإذن له وهذا سأله عن الصدقة فإذن له ولم يمنعهم مما سوى ذلك
وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك بين وصول ثواب القراءة والذكر
والقائل أن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل مالا علم له به فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعمله فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه بل يكفي اطلاع علام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم لا سيما والتلفظ بنية الإهداء لا يشترط كما تقدم
وسر المسألة أن الثواب ملك العامل فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن وحجر على العبد أن يوصله إلى أخيه وهذا عمل سائر الناس حتى المنكرين في سائر الإعصار والأمصار من غير نكير من العلماء
فإن قيل فما تقولون في الإهداء إلى رسول الله قيل من الفقهاء المتأخرين من استحبه ومنهم من لم يستحبه ورآه بدعة فان الصحابة لم يكونوا يفعلونه وأن النبي له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شيء لأنه هو الذي دل أمته على كل خير وأرشدهم ودعاهم إليه ومن دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء وكل هدى وعلم فإنما نالته أمته على يده فله مثل أجر من اتبعه أهداه إليه أول لم يهده والله أعلم

المسألة السابعة عشرة
وهي هل الروح قديمة أو محدثة مخلوقة
وإذا كانت محدثة مخلوقة وهي من أمر الله فكيف يكون أمر الله محدثا مخلوقا وقد أخبر سبحانه أنه نفخ في آدم من روحه فهذه الإضافة إليه هل تدل على أنها قديمة أم لا وما حقيقة هذه الإضافة فقد أخبر عن آدم أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه فأضاف اليد والروح إليه إضافة واحدة
فهذه مسألة زل فيها عالم وضل فيها طوائف من بنى آدم وهدى الله اتباع رسوله فيها للحق المبين والصواب المستبين فأجمعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة هذا معلوم بالاضطرار من دين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كما يعلم بالاضطرار من دينهم أن العالم حادث وأن معاد الأبدان واقع وأن الله وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق له وقد انطوى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون الفضيلة على ذلك من غير اختلاف بينهم في حدوثها وأنها مخلوقة حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنة فزعم أنها قديمة غير مخلوقة واحتج بأنها من أمر الله وأمره غير مخلوق وبأن الله تعالى أضافها إليه كما أضاف إليه علمه وكتابه وقدرته وسمعه وبصره ويده وتوقف آخرون فقالوا لا نقول مخلوقة ولا غير مخلوقة
وسئل عن ذلك حافظ أصبهان أبو عبد الله بن منده فقال أما بعد فإن سائلا سألني عن الروح التي جعلها الله سبحانه قوام نفس الخلق وأبدانهم وذكر أن أقواما تكلموا في الروح وزعموا أنها غير مخلوقة وخص بعضهم منها أرواح القدس وأنها من ذات الله قال وأنا أذكر اختلاف أقاويل متقدميهم وأبين ما يخالف أقاويلهم من الكتاب والأثر وأقاويل الصحابة والتابعين وأهل العلم وأذكر بعد ذلك وجوه الروح من الكتاب والأثر وأوضح خطأ المتكلم في الروح بغير علم وأن كلامهم يوافق قول جهم وأصحابه فنقول وبالله التوفيق أن الناس اختلفوا في معرفة الأرواح ومحلها من النفس
فقال بعضهم الأرواح كلها مخلوقة وهذا مذهب أهل الجماعة والأثر واحتجوا بقول النبي الأرواح جنود مجنده فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة
وقال بعضهم الأرواح من أمر الله أخفي الله حقيقتها وعلمها عن الخلق واحتجوا بقول الله تعالى قل الروح من أمر ربى

وقال بعضهم الأرواح نور من أنوار الله تعالى وحياة من حياته واحتجت بقول النبي إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره ثم ذكر الخلاف في الأرواح هل تموت أم لا وهل تعذب مع الأجساد في البرزخ وفي مستقرها بعد الموت وهل هي النفس أو غيرها
وقال محمد بن نصر المروزى في كتابه تأول صنف من الزنادقة وصنف من الروافض في روح آدم ما تأولته النصارى في روح عيسى وما تأوله قوم من أن الروح انفصل من ذات الله فصار في المؤمن فعبد صنف من النصارى عيسى ومريم جميعا لأن عيسى عندهم روح من الله صار في مريم فهو غير مخلوق عندهم
وقال صنف من الزنادقة وصنف من الروافض أن روح آدم مثل ذلك أنه غير مخلوق وتأولوا قوله تعالى ونفخت فيه من روحي وقوله تعالى ثم سواه ونفخ فيه من روحه فزعموا إن روح آدم ليس بمخلوق كما تأول من قال إن النور من الرب غير مخلوق قالوا ثم صاروا بعد آدم في الوصي بعده ثم هو في كل نبي ووصى إلى أن صار في على ثم في الحسن والحسين ثم في كل وصى وإمام فيه يعلم الإمام كل شيء ولا يحتاج أن يتعلم من أحد
ولا خلاف بين المسلمين أن الأرواح التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من بنى آدم كلها مخلوقة لله خلقها وأنشأها وكونها واخترعها ثم أضافها إلى نفسه كما أضاف إليه سائر خلقه قال تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية روح الآدمي مخلوقة مبدعة بإتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين مثل محمد ابن نصر المروزى الإمام المشهور الذي هو من أعلم أهل زمانه بالإجماع ولا اختلاف وكذلك أبو محمد بن قتيبة قال في كتاب اللفظ لما تكلم على الروح قال النسم الأرواح قال وأجمع الناس على أن الله تعالى هو فالق الحبة وبارىء النسمة أي خالق الروح وقال أبو إسحاق ابن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة سألت رحمك الله عن الروح مخلوقة هي أو غير مخلوقة قال وهذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب أن الروح من الأشياء المخلوقة وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ وردوا على من يزعم إنها غير مخلوقة وصنف الحافظ أبو عبد الله بن منده في ذلك كتابا كبيرا وقبله الإمام محمد بن نصر المروزى وغيره والشيخ أبو سعيد الخراز وأبو يعقوب النهر جوري والقاضي أبو يعلى وقد نص على ذلك الأئمة الكبار واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم فكيف بروح

غيره كما ذكره الإمام أحمد فيما كتبه في مجلسه في الرد على الزنادقة والجهمية ثم أن الجهمى ادعى أمرا فقال أنا أجد آية في كتاب الله مما يدل على أن القرآن مخلوق قول الله تعالى إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وعيسى مخلوق قلنا له إن الله تعالى منعك الفهم للقرآن ان عيسى تجرى عليه ألفاظ لا تجرى على القرآن لأنا نسميه مولودا وطفلا وصبيا وغلاما يأكل ويشرب وهو مخاطب بالأمر والنهي يجرى عليه الخطاب والوعد والوعيد ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم فلا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى فهل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى ولكن المعنى في قوله تعالى إن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو كن ولكن كان بكن فكن من الله قول وليس كن مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا روح هذه الخرقة من هذا الثواب قلنا نحن أن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة وإنما الكلمة قول الله تعالى كن وقوله وروح منه يقول من أمره كان الروح فيه كقوله تعالى وسخر لكم ما في السموات وما الأرض جميعا منه يقول من أمره وتفسير روح الله إنما معناها بكلمة الله خلقها كما يقال عبد الله وسماء الله وأرض الله فقد صرح بأن روح المسيح مخلوقة فكيف بسائر الأرواح وقد أضاف الله إليه الروح الذي أرسله إلى مريم وهو عبده ورسوله ولم يدل على ذلك أنه قديم غير مخلوق فقال تعالى فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا فهذا الروح هو روح الله وهو عبده ورسوله
وسنذكر إن شاء الله تعالى أقسام المضاف إلى الله وأنى يكون المضاف صفة له قديمة وإني يكون مخلوقا وما ضابط ذلك
فصل والذي يدل على خلقها وجوه الوجه الأول قول الله تعالى
الله خالق كل شيء فهذا اللفظ عام لا تخصيص فيه بوجه ما ولا يدخل في ذلك صفاته فإنها داخلة في مسمى بإسمه فالله سبحانه هو الإله الموصوف بصفات الكمال فعلمه وقدرته وحياته وإرادته وسمعه وبصره وسائر صفاته داخل في مسمى اسمه ليس داخلا في الأشياء المخلوقة كما لم تدخل ذاته فيها فهو سبحانه وصفاته الخالق وما سواه مخلوق

ومعلوم قطعا أن الروح ليست هي الله ولا صفة من صفاته وإنما هي مصنوع من مصنوعاته فوقوع الخلق عليها كوقوعه على الملائكة والجن والإنس
الوجه الثاني قوله تعالى زكريا وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا وهذا الخطاب لروحه وبدنه ليس لبدنه فقط فإن البدن وحده لا يفهم ولا يخاطب ولا يعقل وإنما الذي يفهم ويعقل ويخاطب هو الروح
الوجه الثالث قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون
الوجه الرابع قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وهذا الإخبار إنما يتناول أرواحنا وأجسادنا كما يقوله الجمهور واما أن يكون واقعا على الأرواح قبل خلق الأجساد كما يقوله من يزعم ذلك وعلى التقدير فهو صريح في خلق الأرواح
الوجه الخامس النصوص الدالة على أنه سبحانه ربنا ورب آبائنا الأولين ورب كل شيء وهذه الربوبية شاملة لأرواحنا وأبداننا فالأرواح مربوبة له مملوكة كما ان الأجسام كذلك وكل مربوب مملوك فهو مخلوق
الوجه السادس أول سورة في القرآن وهي الفاتحة تدل على أن الأرواح مخلوقة من عدة أوجه أحدها قوله تعالى الحمد لله رب العالمين والأرواح من جملة العالم فهو ربها
الثاني قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين فالأرواح عابدة له مستعينة ولو كانت غير مخلوقة لكانت معبودة مستعانا بها
الثالث إنها فقيرة إلى هداية فاطرها وربها تسأله أن يهديها صراطه المستقيم
الرابع أنها منعم عليها مرحومة ومغضوب عليها وضالة شقية وهذا شأن المربوب والمملوك لا شأن القديم غير المخلوق
الوجه السابع النصوص الدالة على أن الإنسان عبد بجملته وليست عبوديته واقعة على بدنه دون روحه بل عبوديته الروح أصل وعبودية البدن تبع كما أنه تبع لها في الأحكام وهي التي تحركه وتستعمله وهو تبع لها في العبودية
الوجه الثامن قوله تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا فلو كانت روحه قديمة لكان الإنسان لم يزل شيئا مذكورا فإنه إنما هو إنسان بروحه لا ببدنه فقط كما قيل
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

الوجه التاسع النصوص الدالة على أن الله سبحانه كان ولم يكن شيء غيره كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران حصين أن أهل اليمن قالوا يا رسول الله جئناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر فقال كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء فلم يكن مع الله أرواح ولا نفوس قديمة يساوى وجودها وجوده تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا بل هو الأول وحده لا يشاركه غيره في أوليته بوجه
الوجه العاشر النصوص الدالة على خلق الملائكة وهم أرواح مستغنية عن أجساد تقوم بها وهم مخلوقون قبل خلق الإنسان وروحه فإذا كان الملك الذي يحدث الروح في جسد ابن آدم بنفخته مخلوقا فكيف تكون الروح الحادثة بنفخه قديمة وهؤلاء الغالطون يظنون ان الملك يرسل إلى الجنين بروح قديمة أزلية ينفخها فيه كما يرسل الرسول بثوب إلى الإنسان يلبسه إياه وهذا ضلال وخطأ وإنما يرسل الله سبحانه إليه الملك فينفخ فيه نفخة تحدث له الروح بواسطة تلك النفخة فتكون النفخة هي سبب حصول الروح وحدوثها له كما كان الوطء والإنزال سبب تكوين جسمه والغذاء سبب نموه فمادة الروح من نفخة الملك ومادة الجسم من صب الماء في الرحم فهذه مادة سماوية وهذه مادة أرضية فمن الناس من تغلب عليه المادة السماوية فتصير روحه علوية شريفة تناسب الملائكة ومنهم من تغلب عليه المادة الأرضية فتصير روحه سفلية ترابية مهينة تناسب الأرواح السفلية فالملك أب لروحه والتراب أب لبدنه وجسمه
الوجه الحادي عشر حديث أبى هريرة رضى الله عنه الذي في صحيح البخاري وغيره عن النبي الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة وهذا الحديث رواه عن النبي أبو هريرة وعائشة أم المؤمنين وسلمان الفارسي وعبد الله بن عباس وعبد الله ابن مسعود وعبد الله بن عمرو وعلى بن أبى طالب وعمرو بن عبسة رضى الله عنهم
الوجه الثاني عشر أن الروح توصف بالوفاة والقبض والإمساك والإرسال وهذا شأن المخلوق المحدث المربوب قال الله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون والأنفس ها هنا هي الأرواح قطعا وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن أبى قتادة الأنصاري عن أبيه قال سرنا مع رسول الله في سفر ذات ليلة فقلنا يا رسول الله لو عرست بنا فقال إني أخاف أن تناموا فمن يوقظنا للصلاة فقال بلال أنا يا رسول الله فعرس بالقوم فاضطجعوا واستند بلال إلى راحلته فغلبته عيناه فاستيقظ

رسول الله وقد طلع جانب الشمس فقال يا بلال أين ما قلت لنا فقال والذي بعثك بالحق ما ألقيت على نومة مثلها فقال رسول الله ان الله قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء فهذه الروح المقبوضة هي النفس التي يتوفاها الله حين موتها وفي منامها التي يتوفاها ملك الموت وهي التي تتوفاها رسل الله سبحانه وهي التي يجلس الملك عند رأس صاحبها ويخرجها من بدنه كرها ويكفنها بكفن من الجنة أو النار ويصعد بها إلى السماء فتصلى عليها الملائكة أو تلعنها وتوقف بين يدي ربها فيقضى فيها أمره ثم تعاد إلى الأرض فتدخل بين الميت وأكفانه فيسأل ويمتحن ويعاقب وينعم وهي التي تجعل في أجواف الطير الخضر تأكل وتشرب من الجنة وهي التي تعرض على النار غدوا وعشيا وهي التي تؤمن وتكفر وتطيع وتعصى وهي الأمارة بالسوء وهي اللوامة وهي المطمئنة إلى ربها وأمره وذكره وهي التي تعذب وتنعم وتسعد وتشقى وتحبس وترسل وتصح وتسقم وتلذ وتألم وتخاف وتحزن وما ذاك إلا سمات مخلوق مبدع وصفات منشأ مخترع وأحكام مربوب مدبر مصرف تحت مشيئة خالقه وفاطره وبارئه وكان رسول الله يقول عند نومه اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها لك مماتها ومحياها فإن أمسكتها فإرحمها وإن أرسلتها فأحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين وهو تعلى بارىء النفوس كما هو بارىء الأجساد قال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير قيل من قبل أن نبرأ المصيبة وقيل من قبل أن نبرأ الأرض وقيل من قبل أن نبرأ الأنفس وهو أولى لأنه أقرب مذكور إلى الضمير ولو قيل يرجع إلى الثلاثة أي من قبل أن نبرأ المصيبة والأرض والأنفس لكان أوجه
وكيف تكون قديمة مستغنية عن خالق محدث مبدع لها وشواهد الفقر والحاجة والضرورة أعدل شواهد على أنها مخلوقة مربوبة مصنوعة وأن وجود ذاتها وصفاتها وأفعالها من ربها وفاطرها ليس لها من نفسها إلا العدم فهي لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لا تستطيع أن تأخذ من الخير إلا ما أعطاها وتتقى من الشر إلا ما وقاها ولا تهتدي إلى شيء من صالح دنياها وأخراها إلا بهداه وتصلح إلا بتوفيقه لها وإصلاحه إياها ولا تعلم إلا ما علمها ولا تتعدى ما ألهمها فهو الذي خلقها فسواها وألهمها فجورها وتقواها فأخبر سبحانه أنه خالقها ومبدعها وخالق أفعالها من الفجور والتقوى خلافا لمن يقول إنها ليست مخلوقة ولمن يقول إنها وإن كانت مخلوقة فليس خالقا لأفعالها بل هي التي تخلق أفعالها وهما قولان لأهل الضلال والغي

ومعلوم أنها لو كانت قديمة غير مخلوقة لكانت مستغنية بنفسها في وجودها وصفاتها وكمالها وهذا من ابطل الباطل فإن فقرها إليه سبحانه في وجودها وكمالها وصلاحها هو من لوازم ذاتها ليس معللا بعلة فإنه أمر ذاتي لها كما أن غنى ربها وفاطرها ومبدعها من لوازم ذاته ليس معللا بعلة فهو سبحانه الغنى بالذات وهي الفقيرة إليه بالذات فلا يشاركه سبحانه في غناه مشارك كما لا يشاركه في قدمه وربوبيته وملكه التام وكماله المقدس مشارك فشواهد الخلق والحدوث على الأرواح كشواهده على الأبدان
قال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد وهذا الخطاب بالفقر إليه للأرواح والأبدان ليس هو للأبدان فقط وهذا الغنى التام لله وحده لا يشركه فيه غيره وقد أرشد الله سبحانه عباده إلى أوضح دليل على ذلك بقوله فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين أي فلولا ان كنتم غير مملوكين ومقهورين ومربوبين ومجازين بأعمالكم تردون الأرواح إلى الأبدان إذا وصلت إلى هذا الموضع أو لا تعلمون بذلك أنها مدينة مملوكة مربوبة محاسبة مجزية بعملها
وكلما تقدم ذكره في هذا الجواب من أحكام الروح وشأنها ومستقرها بعد الموت فهو دليل على أنها مخلوقة مربوبة مدبرة ليست بقديمة
وهذا الأمر أوضح من أن تساق الأدلة عليه ولولا ضلال من المتصوفة وأهل البدع ومن قصر فهمه في كتاب الله وسنة رسوله فأتى من سوء الفهم لا من النص تكلموا في أنفسهم وأرواحهم بما دل على أنهم من أجهل الناس بها وكيف يمكن من له أدنى مسكة من عقل أن ينكر أمرا تشهد عليه به نفسه وصفاته وأفعاله وجوارحه وأعضاؤه بل تشهد به السموات والأرض والخليقة فلله سبحانه في كل ما سواه آية بل آيات تدل على أنه مخلوق مربوب وانه خالقه وربه وبارؤه ومليكه ولو جحد ذلك فمعه شاهد عليه
فصل وأما ما احتجت به هذه الطائفة فأما ما أتوا به من اتباع
متشابه القرآن والعدول ! عن محكمة فهذا شأن كل ضلال ومبتدع
فمحكم القرآن من أوله إلى آخره يدل على أن الله تعالى خالق الأرواح ومبدعها
وأما قوله تعالى قل الروح من أمر ربى فمعلوم قطعا أنه ليس المراد ها هنا بالأمر الطلب الذي هو أحد أنواع الكلام فيكون المراد أن الروح كلامه الذي يأمر به وإنما المراد

بالأمر ها هنا المأمور وهو عرف مستعمل في لغة العرب وفي القرآن منه كثير كقوله تعالى أتى أمر الله أي مأمور الذي قدره وقضاه وقال له كن فيكون وكذلك قوله تعالى فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك أي مأموره الذي أمر به من إهلاكهم وكذلك قوله تعالى وما أمر الساعة إلا كلمح البصر وكذلك الخلق يستعمل بمعنى المخلوق كقوله تعالى للجنة أنت رحمتي فليس في قوله تعالى قل الروح من أمر ربى ما يدل على أنها قديمة غير مخلوقة بوجه ما وقد قال بعض السلف في تفسيرها جرى بأمر الله في أجساد الخلق وبقدرته استقر
وهذا بناء على أن المراد بالروح في الآية روح الإنسان وفي ذلك خلاف بين السلف والخلف وأكثر السلف بل كلهم على أن الروح المسئول عنها في الآية ليست أرواح بنى آدم بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة وهو ملك عظيم وقد ثبت في الصحيح من حديث الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال بينا أنا أمشى مع رسول الله في حرة المدينة وهو متكىء على عسيب فمررنا على نفر من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح وقال بعضهم لا تسألوه عسى أن يخبر فيه بشيء تكرهونه وقال بعضهم نسأله فقام رجل فقال يا أبا القاسم ما الروح فسكت عنه رسول الله فعلمت أنه يوحي إليه فقمت فلما تجلى عنه قال ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
ومعلوم أنهم إنما سألوه عن أمر لا يعرف إلا بالوحي وذلك هو الروح الذي عند الله لا يعلمها الناس
وأما أرواح بنى آدم فليست من الغيب وقد تكلم فيها طوائف من الناس من أهل الملل وغيرهم فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة
فإن قيل فقد قال أبو الشيخ حدثنا الحسين بن محمد بن إبراهيم أنبأنا إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن السدى عن أبى مالك عن ابن عباس قال بعثت قريش عقبة بن أبى معيط وعبد الله ابن أبى أمية بن المغيرة إلى يهود المدينة يسألونهم عن النبي فقالوا لهم انه قد خرج فينا رجل يزعم أنه نبي وليس على ديننا ولا على دينكم قالوا فمن تبعه قالوا سفلتنا والضعفاء والعبيد ومن لا خير فيه وأما أشراف قومه فلم يتبعوه فقالوا انه قد أظل زمان نبي يخرج وهو على ما تصفون من أمر هذا الرجل فائتوه فاسألوه عن ثلاث خصال نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي صادق وإن لم يخبركم بهن فهو كذاب سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم فإن قال لكم هي من الله فقولوا كيف يعذب الله في النار شيئا هو

منه فسأل جبريل عنها فأنزل الله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى يقول هو خلق من خلق الله ليس هو من الله الله ثم ذكر باقي الحديث
قيل مثل هذا الإسناد لا يحتج به فإنه من تفسير السدى عن أبى مالك وفيه أشياء منكرة وسياق هذه القصة في السؤال من الصحاح والمسانيد كلها تخالف سياق السدى وقد رواها الأعمش والمغيرة بن مقسم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال مر النبي على ملأ من اليهود وأنا أمشى معه فسألوه عن الروح قال فسكت فظننت أنه يوحي إليه فنزلت ويسألونك عن الروح يعنى اليهود قل الروح من أمر ربى وما أوتوا من العلم إلا قليلا
وكذلك هي في قراءة عبد الله فقالوا كذلك نجد مثله في التوراة أن الروح من أمر الله
تعالى رواه جرير بن عبد الحميد وغيره عن المغيرة
وروى يحيى بن زكريا بن أبى زائدة عن داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال أتت اليهود إلى النبي فسألوه عن الروح فلم يجبهم النبي بشيء فأنزل الله
تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من امر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
فهذا يدل على ضعف حديث السدى وأن السؤال كان بمكة فإن هذا الحديث وحديث ابن مسعود صريح في أن السؤال كان بالمدينة مباشرة من اليهود ولو كان قد تقدم السؤال والجواب بمكة لم يسكت النبي ولبادر إلى جوابهم بما تقدم من إعلام الله له وما أنزله عليه
وقد اضطربت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أعظم اضطراب فأما أن تكون من قبل الرواة أو تكون أقواله قد اضطربت فيها ونحن نذكر فقد ذكرنا رواية السدى عن أبى مالك عنه ورواية داود بن أبى هند عن عكرمة عنه تخالفها وفي رواية داود بن أبى هند هذه اضطراب فقال مسروق بن المرزبان وإبراهيم بن أبى طالب عن يحيى ابن زكريا عنه أن اليهود أتت النبي الحديث
وقال محمد بن نصر المروزى حدثنا إسحاق أنبأنا يحيى بن زكريا عن داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح فنزلت ويسألونك عن الروح الآية

وهذا يخالف الرواية الأخرى عنه وحديث ابن مسعود
وعن ابن عباس رواية ثالثة قال هشيم حدثنا أبو بشر عن مجاهد عن ابن عباس قل الروح أمر من أمر الله
تعالى وخلق من خلق الله وصور مثل صور بنى آدم وما نزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح وهذا يدل على أنها غير الروح التي في ابن آدم
وعنه رواية رابعة قال ابن منده روى عبد السلام بن حرب عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى قد نزل من القرآن بمنزلة كن نقول كما قال تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى ثم ساق من طريق خصيف عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان لا يفسر أربعة أشياء الرقيم والغسلين والروح
وقوله تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه
وعنه رواية خامسة رواها جويبر عن الضحاك عنه أن اليهود سألوا رسول الله عن الروح فقال قال الله تعالى قل الروح من أمر ربى يعنى خلقا من خلقي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا يعنى لو سئلتم عن خلق أنفسكم وعن مدخل الطعام والشراب ومخرجهما ما وصفتم ذلك حق صفته وما اهتديتم لصفتها
وعنه رواية سادسة روى عبد الغنى بن سعيد حدثنا موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وعن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى ويسألونك عن الروح وذلك أن قريشا اجتمعت فقال بعضهم لبعض والله ما كان محمد يكذب ولقد نشأ فينا بالصدق والأمانة فأرسلوا جماعة إلى اليهود فاسألوهم عنه وكانوا مستبشرين به ويكثرون ذكره ويدعون نبوته ويرجون نصرته موقنين بأنه سيهاجر إليهم ويكونون له أنصارا فسألوهم عنه فقالت لهم اليهود سلوه عن ثلاث سلوه عن الروح وذلك أنه ليس في التوراة قصته ولا تفسيره إلا ذكر اسم الروح فأنزل الله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى يريد من خلق ربى
تعالى
والروح في القرآن على عدة أوجه
أحدها الوحي كقوله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وقوله تعالى يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده وسمى الوحي روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح
الثاني القوة والثبات والنصرة التي يؤيد بها من شاء من عباده المؤمنين كما قال أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه

الثالث جبريل كقوله تعالى نزل به الروح الأمين على قلبك وقال تعالى من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك وهو روح القدس قال تعالى قل نزله روح القدس
الرابع الروح التي سأل عنها اليهود فأجيبوا بأنها من أمر الله وقد قيل أنها الروح المذكورة في قوله تعالى يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون وأنها الروح المذكور في قوله تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم
الخامس المسيح ابن مريم قال تعالى إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأما أرواح بنى آدم فلم تقع تسميتها في القرآن إلا بالنفس قال تعالى يا أيتها النفس المطمئنة وقال تعالى ولا أقسم بالنفس اللوامة وقال تعالى إن النفس لأمارة بالسوء وقال تعالى أخرجوا أنفسكم وقال تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وقال تعالى كل نفس ذائقة الموت وأما في السنة فجاءت بلفظ النفس والروح
والمقصود أن كونها من أمر الله لا يدل على قدمها وأنها غير مخلوقة
فصل وأما استدلالهم بإضافتها إليه سبحانه بقوله تعالى
ونفخت فيه من روحي فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله سبحانه نوعان صفات لا تقوم بأنفسها كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها فعلمه وكلامه وإرادته وقدرته وحياته وصفات له غير مخلوقة وكذلك وجهه ويده سبحانه
والثاني إضافة أعيان منفصلة عنه كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه ومصنوع إلى صانعه لكنها إضافة تقتضي تخصيصا وتشريفا يتميز به المضاف عن غيره كبيت الله وإن كانت البيوت كلها ملكا له وكذلك ناقة الله والنوق كلها ملكه وخلقه لكن هذه إضافة إلى إلهيته تقتضي محبته لها وتكريمه وتشريفه بخلاف الإضافة العامة إلى ربوبيته حيث تقتضي خلقه وإيجاده فالإضافة العامة تقتضي الإيجاد والخاصة تقتضي الاختيار والله يخلق ما يشاء ويختار مما خلقه كما قال تعالى وربك يخلق ما يشاء ويختار وإضافة الروح إليه من هذه الإضافة الخاصة لا من العامة ولا من باب إضافة الصفات فتأمل هذا الموضع فإنه يخلصك من صلالات كثيرة وقع فيها من شاء الله من الناس فإن قيل فما تقولون في قوله تعالى ونفخت فيه من روحي فأضاف النفخ إلى نفسه وهذا يقتضي المباشرة منه تعالى كما في قوله خلقت بيدي ولهذا فرق بينهما في الذكر في الحديث الصحيح في قوله

فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فذكروا لآدم أربع خصائص اختص بها عن غيره ولو كانت الروح التي فيه إنما هي من نفخة الملك لم يكن له خصيصة بذلك وكان بمنزلة المسيح بل وسائر أولاده فإن الروح حصلت فيهم من نفخة الملك وقد قال تعالى فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فهو الذي سواه بيده وهو الذي نفخ فيه من روحه
قيل هذا الموضع الذي أوجب لهذه الطائفة أن قالت بقدم الروح وتوقف فيها آخرون ولم يفهموا مراد القرآن فأما الروح المضافة إلى الرب فهي روح مخلوقة أضافها إلى نفسه إضافة تخصيص وتشريف كما بينا وأما النفخ فقد قال تعالى في مريم التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وقد أخبر في موضع آخر أنه أرسل إليها الملك فنفخ في فرجها وكان النفخ مضافا إلى الله أمرا وإذنا وإلى الرسول مباشرة
يبقى ها هنا أمران
أحدهما أن يقال فإذا كان النفخ حصل في مريم من جهة الملك وهو الذي ينفخ الأرواح في سائر البشر فما وجه تسمية المسيح روح الله وإذا كان سائر الناس تحدث أرواحهم من هذه الروح فما خاصية المسيح
الثاني أن يقال فهل تعلق الروح بآدم كانت بواسطة نفخ هذا الروح هو الذي نفخها فيه بإذن الله كما نفخها في مريم أم الرب تعالى هو الذي نفخها بنفسه كما خلقه بيده قيل لعمر الله انهما سؤالان مهمان فأما الأول فالجواب عنه أن الروح الذي نفخ في مريم هو الروح المضاف إلى الله الذي اختصه لنفسه وأضافه إليه وهو روح خاص من بين سائر الأرواح وليس بالملك الموكل بالنفخ في بطون الحوامل من المؤمنين والكفار فإن الله سبحانه وكل بالرحم ملكا ينفخ الروح في الجنين فيكتب رزق المولود وأجله وعمله وشقاوته وسعادته
وأما هذا الروح المرسل إلى مريم فهو روح الله الذي اصطفاه من الأرواح لنفسه فكان لمريم بمنزلة الأب لسائر النوع فان نفخته لما دخلت في فرجها كان ذلك بمنزلة لقاح الذكر للأنثى من غير أن يكون هناك وطء وأما ما اختص به آدم فإنه لم يخلق كخلقة المسيح من أم ولا كخلقة سائر النوع من أب وأم ولا كان الروح الذي نفخ الله فيه منه هو الملك الذي ينفخ الروح في سائر أولاده ولو كان كذلك لم يكن لآدم به اختصاص وإنما ذكر في الحديث ما اختص به على غيره وهو أربعة أشياء خلق الله له بيده ونفخ فيه من روحه واسجاد ملائكته له وتعليمه أسماء كل شيء فنفخه فيه من روحه يستلزم نافخا ونفخا ومنفوخا منه فالمنفوخ منه هو الروح المضافة إلى الله فمنها سرت النفخة في طينة آدم والله تعالى هو الذي نفخ في طينته من

تلك الروح هذا هو الذي دل عليه النص وأما كون النفخة بمباشرة منه سبحانه كما خلقه بيده أن أنها حصلت بأمره كما حصلت في مريم عليها السلام فهذا يحتاج إلى دليل والفرق بين خلق الله له بيده ونفخه فيه من روحه أن اليد غير مخلوقة والروح مخلوقة والخلق فعل من أفعال الرب وأما النفخ فهل هو من أفعاله القائمة به أو هو مفعول من مفعولاته القائمة بغير المنفصلة عنه وهذا مما لا يحتاج إلى دليل وهذا بخلاف النفخ في فرج مريم فإنه مفعول من مفعولاته وأضافه إليه لأنه بإذنه وأمره فنفخه في آدم هل هو فعل له أو مفعول وعلى كل تقدير فالروح الذي نفخ منها في آدم روح مخلوقة غير قديمة وهي مادة روح آدم فروحه أولى أن تكون حادثة مخلوقة وهو المراد
المسألة الثامنة عشرة
وهي تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخر خلقها عنها
فهذه المسألة للناس فيها قولان معروفان حكاهما شيخ الإسلاح وغيره وممن ذهب إلى تقدم خلقها محمد بن نصر المروزى وأبو محمد بن حزم وحكاه ابن حزم إجماعا ونحن نذكر حجج الفريقين وما هو الأولى منها بالصواب
قال من ذهب إلى تقدم خلقها على خلق البدن قال الله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا قالوا ثم للترتيب والمهلة فقد تضمنت الآية أن خلقها مقدم على أمر الله للملائكة بالسجود لآدم ومن المعلوم قطعا أن أبداننا حادثة بعد ذلك فعلم أنها الأرواح قالوا ويدل عليه قوله سبحانه وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى قالوا وهذا الاستنطاق والإشهاد إنما كان لأرواحنا إذ لم تكن الأبدان حينئذ موجودة ففي الموطأ حدثنا مالك عن زيد ابن أبى أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهنى أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم فقال سمعت رسول الله يسأل عنها فقال خلق الله آدم ثم مسح ظهره بيمينه فإستخرج منه ذريته فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون وخلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله إن الله إذا خلق الرجل للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار قال الحاكم هذا حديث على شرط مسلم

وروى الحاكم أيضا من طريق هشام بن سعد عن زيد أسلم عن أبى صالح عن أبى هريرة مرفوعا لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نمسة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال من هؤلاء يا رب قال هؤلاء ذريتك فرأي رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه فقال يا رب من هذا فقال هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم قال كم جعلت له من العمر قال ستين سنة قال يا رب زده عمري أربعين سنة فقال الله تعالى إذا يكتب ويختم فلا يبدل فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت قال أو لم يبق من عمرى أربعون سنة فقال أو لم تجعلها لأبنك داود قال قال فجحد فجحدت ذريته ونسى فنسيت ذريته وخطىء فخطئت ذريته قال هذا على شرط مسلم ورواه الترمذى وقال هذا حديث حسن صحيح ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال لما نزلت آية الدين قال رسول الله ان أول من جحد آدم وزاد محمد بن سعد ثم أكمل الله لآدم ألف سنة ولداود مائة سنة
وفي صحيح الحاكم أيضا من حديث أبى جعفر الرازي حدثنا الربيع بن أنس عن أبى العالية عن أبى بن كعب في قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم الآية قال جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أرواحا ثم صورهم واستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين قال فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فلا تشركوا بي شيئا فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي فقالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ورفع لهم أبوهم آدم فرأي فيهم الغنى والفقير وحسن الصورة وغير ذلك فقال رب لو سويت بين عبادك فقال إني أحب أن أشكر ورأي فيهم الأنبياء مثل السرج وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله وإذا خذنا ! من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وهو قوله تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله وهو قوله تعالى هذا نذير من النذر الأولى وقوله تعالى وما وجدنا لأكثرهم من عهد وان وجدنا أكثرهم لفاسقين وكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فدخل من فيها وهذا إسناد صحيح

فقال إسحاق بن راهوية حدثنا بغية بن الوليد قال أخبرني الزبيدى محمد بن الوليد عن راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن قتادة البصري عن أبيه عن هشام بن حكيم بن حزام ان رجلا قال يا رسول الله أتبتدأ الأعمال أم قد مضى القضاء فقال ان الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم ثم أقاض بهم في كفيه فقال هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار
قال إسحاق وأنبأنا النضر حدثنا أبو معشر عن سعيد المقبرى ونافع مولى الزبير عن أبى هريرة قال لما أراد الله أن يخلق آدم فذكر خلق آدم فقال له يا آدم أي يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها فقال يمين ربى وكلتا يدي ربى يمين فبسط يمينه فإذا فيها ذريته كلهم ما هو خالق إلى يوم القيامة الصحيح على هيئته والمبتلى على هيئته والأنبياء على هيئتهم فقال ألا أعفيتهم كلهم فقال أنى أحب ان أشكر وذكر الحديث
وقال محمد بن نصر حدثنا محمد بن يحيى حدثنا سعيد بن أبى مريم أخبرنا الليث بن سعد حدثني ابن عجلان عن سعد بن أبى سعيد المقبرى عن أبيه عن عبد الله بن سلام قال خلق الله آدم ثم قال بيديه فقبضهما فقال اختر يا آدم فقال اخترت يمين ربى وكلتا يديه يمين فبسطها فإذا فيها ذريته فقال من هؤلاء يا رب قال من قضيت أن اخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة
قال واخبرنا إسحاق حدثنا جعفر بن عون أنبأنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي قال لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة
وحدثنا إسحاق وعمر بن زرارة أخبرنا إسماعيل عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم الآية قال مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هذا الذي رواه عرفة فأخذ ميثاقهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا
ورواه أبو جمرة الضبعى ومجاهد وحبيب بن أبى ثابت وأبو صالح وغيرهم عن ابن عباس وقال إسحاق أخبرنا جرير عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو في هذه الآية قال أخذهم كما يؤخذ المشط بالرأس
وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن الزبير بن موسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال إن الله ضرب منكبه الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية فقال هؤلاء أهل الجنة ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة لنار سوداء فقال

هؤلاء أهل النار ثم أخذ عهده على الإيمان به والمعرفة له ولأمره والتصديق به وبأمره من بنى آدم كلهم وأشهدهم على أنفسهم فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقروا
وذكر محمد بن نصر من تفسير السدى عن أبى مالك وأبى صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمدانى عن ابن مسعود عن أناس من أصحاب النبي في قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم الآية لما أخرج الله آدم من الجنة قبل ان يهبط من السماء مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ وكهيئة الذر فقال لهم ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حيث يقول وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال ألست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن الله ربه ولا مشرك إلا وهو يقول إنا وجدنا آباءنا على أمة فذلك قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم وقوله تعالى وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وقوله تعالى فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين قال يعنى يوم أخذ عليهم الميثاق
قال إسحاق وأخبرنا روح بن عبادة حدثنا موسى بن عبيدة الربذى قال سمعت محمد بن كعب القرظى يقول في هذه الآية وإذ أخذ ربك من بنى آدم الآية أقروا له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل أن يخلق أجسادها
قال حدثنا الفضل بن موسى عن عبد الملك عن عطاء في هذه الآية قال اخرجوا من صلب آدم حين أخذ منهم الميثاق ثم ردوا في صلبه
قال إسحاق وأخبرنا على بن الأجلح عن الضحاك قال ان الله أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى أن تقوم الساعة فأخرجهم مثل الذر فقال ألست بربكم قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ثم قبض قبضة بيمينه فقال هؤلاء في الجنة وقبض أخرى فقال هؤلاء في النار
قال إسحاق وأخبرنا أبو عامر العقدي وأبو نعيم الملائى قال حدثنا هشام بن سعد عن يحيى وليس بابن سعيد قال قلت لابن المسيب ما تقول في العزل قال إن شئت حدثتك حديثا هو حق إن الله سبحانه لما خلق آدم أراه كرامة لم يرها أحدا من خلق الله أراه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة فمن حدثك أن يزيد فيهم شيئا أو ينقص منهم فقد كذب ولو كان لي سبعون ما باليت

وفي تفسير ابن عيينة عن الربيع بن أنس عن أبى عالية وله اسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها قال يوم أخذه الميثاق
قال إسحاق فقد كانوا في ذلك الوقت مقرين وذلك أن الله
تعالى أخبر أنه قال ألست بربكم قالوا بلى والله تعالى لا يخاطب إلا من يفهم عنه المخاطبة ولا يجيب إلا من فهم السؤال فأجابتهم إياه بقولهم دليل على أنهم قد فهموا عن الله وعقلوا عنه استشهاده إياهم ألست بربكم فأجابوه من بعد عقل منهم للمخاطبة وفهم لها بأن قالوا بلى فأقروا له بالربوبية
فصل واحتجوا أيضا بما رواه أبو عبد الله بن منده اخبرنا محمد بن
صابر البخاري حدثنا محمد ابن المنذر بن سعد الهروى حدثنا جعفر بن محمد بن هارون المصيصى حدثنا عتبة بن السكن حدثنا أرطأة بن المنذر حدثنا عطاء بن عجلان عن يونس بن حلبس عن عمرو بن عبسة قال سمعت رسول الله يقول ان الله خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فهذا بعض ما احتج به هؤلاء
قال الآخرون الكلام معكم في مقامين أحدهما ذكر الدليل على الأرواح إنها خلقت بعد خلق الأبدان الثاني الجواب عما استدللتم به
فأما المقام الأول فقد قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وهذا خطاب للإنسان الذى هو روح وبدن فدل على أن جملته مخلوقة بعد خلق الأبوين واصرح منه قوله يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الآية وهذا صريح في أن خلق جملة النوع الإنساني بعد خلق اصله
فإن قيل فهذا لا ينفي تقدم خلق الأرواح على أجسادها وإن خلقت بعد خلق أبى البشر كما دلت عليه الآثار المتقدمة
قيل سنبين إن شاء الله تعالى أن الآثار المذكورة لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا وغايتها أن تدل بعد صحتها وثبوتها على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسم وقدر خلقها وآجالها وأعمالها واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا ثم استمرت موجودة حية عالمة ناطقة كلها في موضع واحد ثم ترسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة كما قاله

أبو محمد بن حزم فهل تحمل الآثار مالا طاقة لنا به نعم الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذى سبق به التقدير أولا فيجىء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق كشأنه تعالى في جميع مخلوقاته فانه قدر لها أقدارا وآجالا وصفات وهيئات ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير الذى قدره لها لا تزيد عليه ولا تنقص منه
فالآثار المذكورة إنما تدل على إثبات القدر السابق وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة وأما مخاطبتهم واستنطاقهم وإقرارهم له بالربوبية وشهادتهم على أنفسهم بالعبودية فمن قاله من السلف فإنما هو بناء منه على فهم الآية والآية لم تدل على هذا بل دلت على خلافه
وأما حديث مالك فقال أبو عمر هو حديث منقطع مسلم بن يسار لم يلق عمر بن الخطاب وبينهما في هذا الحديث نعيم بن ربيعة وهو أيضا مع هذا الإسناد لا يقوم به حجة ومسلم ابن يسار هذا مجهول قيل أنه مدني وليس بمسلم بن يسار البصري قال ابن أبى خيثمة قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا عن زيد بن أبى أنيسة فكتب بيده على مسلم بن يسار لا يعرف
ثم ساقه أبو عمر من طريق النسائي أخبرنا محمد بن وهب حدثنا محمد بن سلمة قال حدثني أبو عبد الرحيم قال حدثني زيد بن أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة
ثم ساقه من طريق سخبرة حدثنا أحمد بن عبد الملك بن واقد حدثنا محمد بن سلمة عن أبى عبد الرحيم عن زيد بن أبى أنيسة عن عبد الحميد عن مسلم عن نعيم قال أبو عمرو وزيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة أن الذى لم يذكره احفظ وإنما الزيادة من الحافظ المتقن
وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعا غير معروفين بحمل العلم ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي من وجوه كثيرة ثابت يطول ذكرها من حديث عمر بن الخطاب وغيره وجماعة يطول ذكرهم
ومراد أبو عمر الأحاديث الدالة على القدر السابق فإنها هي التي ساقها بعد ذلك فذكر حديث عبد الله بن عمر في القدر وقال في آخره وسأله رجل من مزينة أو جهينة فقال يا رسول

الله ففيم العمل فقال أن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ييسرون لعمل أهل النار
قال وروى هذا المعنى في القدر عن النبي عن على بن أبى طالب وأبى بن كعب وعبد الله بن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو سريحة الغفارى وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين وعائشة وأنس بن مالك وسراقة ابن جعشم وأبو موسى الأشعرى وعبادة بن الصامت وأكثر أحاديث هؤلاء لها طرق شتى ثم ساقي ! كثيرا منها بإسناده
وأما حديث أبى صالح عن أبى هريرة فإنما يدل على استخراج الذرية وتمثلهم في صور الذر وكان منهم حينئذ المشرق والمظلم وليس فيه أنه سبحانه خلق أرواحهم قبل الأجساد وأقرها بموضع واحد ثم يرسل كل روح من تلك الأرواح عند حدوث بدنها اليه نعم هو سبحانه يخص كل بدن بالروح التي قدر أن تكون له في ذلك الوقت وأما أنه خلق نفس ذلك البدن في ذلك الوقت وفرغ من خلقها وأودعها في مكان معطلة عن بدنها حتى إذا أحدث بدنها أرسلها إليه من ذلك المكان فلا يدل شيء من الأحاديث على ذلك البتة لمن تأملها
وأما حديث أبى بن كعب هو عن النبي وغايته لو صح ولم يصح أن يكون من كلام أبى وهذا الإسناد يروى به أشياء منكرة جدا مرفوعة وموقوفة وأبو جعفر الرازي وثق وضعف وقال على بن المدينى كان ثقة وقال أيضا كان يخلط وقال ابن معين هو ثقة وقال أيضا يكتب حديثه إلا أنه يخطئ وقال الإمام أحمد ليس بقوى في الحديث وقال أيضا صالح الحديث وقال الفلاس سيء الحفظ وقال أبو زرعة ييهم كثيرا وقال ابن حبان ينفرد بالمناكير عن المشاهير
ومما ينكر من هذا الحديث قوله فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فدخل في فيها ومعلوم إن الروح الذى أرسل إلى مريم ليس هو روح المسيح بل ذلك الروح نفخ فيها فحملت بالمسيح قال تعالى فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا فروح المسيح لا يخاطبها عن نفسه بهذه المخاطبة قطعا وفي بعض طرق حديث أبى جعفر هذا أن روح المسيح هو الذى خطابها وهو الذى أرسل إليها

وها هنا أربع مقامات
أحدها أن الله سبحانه استخرج صورهم وأمثالهم فميز شقيهم وسعيدهم ومعافاهم من مبتلاهم
الثاني أن الله سبحانه أقام عليهم الحجة حينئذ وأشهدهم بربوبيته واستشهد عليهم ملائكته
الثالث أن هذا هو تفسير قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم
الرابع أنه أقر تلك الأرواح كلها بعد إخراجها بمكان وفرغ من خلقها وإنما يتجدد كل وقت إرسال جملة منها بعد جملة إلى أبدانها فأما المقام الأول فالآثار متظاهرة به مرفوعة وموقوفة
فأما المقام الثاني فإنما أخذ من أخذه من المفسرين من الآية وظنوا أنه تفسيرها وهذا قول جمهور المفسرين من أهل الأثر قال أبو إسحاق جائز أن يكون الله سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به كما قال قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم وقد سخر مع داود الجبال تسح معه والطير
وقال ابن الأنبارى مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم في صور الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون فاعترفوا بذلك وقبلوا وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب وكما فعل ذلك بالبعير لما سجد والنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت
وقال الجرجانى ليس بين قول النبي إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وبين الآية اختلاف بحمد الله لأنه
تعالى إذا أخذهم من ظهر آدم فقد أخذهم من ظهور ذريته لأن ذرية آدم لذريته بعضهم من بعض وقوله تعالى ان تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أي عن الميثاق المأخوذ عليهم فإذا قالوا ذلك كانت الملائكة شهودا عليهم بأخذ الميثاق قال وفي هذا دليل على التفسير الذى جاءت به الرواية من أن الله تعالى قال للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا قال وزعم بعض أهل العلم أن الميثاق إنما أخذ على الأرواح دون الأجساد إن الأرواح هي التي تعقل وتفهم ولها الثواب وعليها العقاب والأجساد أموات لا تعقل ولا تفهم قال وكان إسحاق بن راهوية يذهب إلى هذا المعنى وذكر أنه قول أبى هريرة قال إسحاق وأجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد

أستنطقهم وأشهدهم قال الجرجانى واحتجوا بقوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء والأجساد قد بليت وضلت في الأرض والأرواح ترزق وتفرح وهي التي تلذ وتألم وتفرح وتحزن وتعرف وتنكر وبيان ذلك في الأحلام موجود أن الإنسان يصبح وأثر لذة الفرح وألم الحزن باق في نفسه مما تلاقى الروح دون الجسد قال وحاصل الفائدة في هذا الفصل أنه سبحانه قد أثبت الحجة على كل النفوس ممن يبلغ وممن لم يبلغ بالميثاق الذى أخذه عليهم وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها في نفسه وفي العالم وبالرسل المنفذة إليهم مبشرين ومنذرين وبالمواعظ بالمثلات المنقولة إليهم أخبارها غير أنه تعالى لا يطالب أحدا منهم من الطاعة إلا بقدر ما لزمه من الحجة وركب فيهم من القدرة وآتاهم من الأدلة وبين سبحانه ما هو عامل في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي وحجب عنا علم ما قدره في غير البالغين إلا أنا نعلم أنه عدل لا يجوز في حكمه وحكيم لا تفاوت في صنعه وقادر لا يسأل عما يفعل له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين
فصل ونازع هؤلاء غيرهم في كون هذا معنى الآية وقالوا معنى قوله
وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم أي إخرجهم وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم بما أظهر لهم من آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم فليس من أحد إلا وفيه من صنعة ربه ما يشهد على أنه بارئه ونافذ الحكم فيه فلما عرفوا ذلك ودعاهم كل ما يرون ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته كما قال في غير هذا الموضع شاهدين على أنفسهم بالكفر يريدهم بمنزلة الشاهدين وإن لم يقولوا نحن كفرة كما تقول كما شهدت جوارحي بقولك تريد قد عرفته فكأن جوارحى لو استشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت ومن هذا إعلامه وتبيينه أيضا شهد الله أن لا إله إلا هو يريد أعلم وبين فأشه ذلك شهادة من شهد عند الحكام وغيرهم هذا كلام ابن الأنبارى
وزاد الجرجاني بيانا لهذا القول فقال حاكما عن أصحابه أن الله لما خلق الخلق ونفذ علمه فيهم بما هو كائن وما لم يكن بعد مما هو كائن كالكائن إذ علمه بكونه مانع من غير كونه شائع في مجاز العربية أن يوضع ما هو منتظر بعد مما لم يقع بعد موقع الواقع لسبق علمه بوقوعه كما قال
تعالى في مواضع من القرآن كقوله تعالى ونادى أصحاب النار ونادى أصحاب الجنة ونادى أصحاب الأعراف قال فيكون تأويل قوله وإذ أخذ ربك وإذ يأخذ ربك وكذلك قوله

وأشهدهم على أنفسهم أي ويشهدهم مما ركبه فيهم من العقل الذى يكون به الفهم ويجب به الثواب والعقاب وكل من ولد وبلغ الحنث وعقل الضر والنفع وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب صار كأن الله تعالى أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل وأراه من الآيات والدلائل على حدوثه وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره ليس كمثله وليس من مخلوق يبلغ هذا المبلغ ولم يقدح فيه مانع من فهم إلا إذا حز به أمر يفزع إلى الله تعالى حين يرفع رأسه إلى السماء ويشير إليها بإصبعه علما منه بأن خالقه تعالى فوقه وإذا كان العقل الذى منه الفهم والإفهام مؤديا إلى معرفة ما ذكرنا ودالا عليه فكل من بلغ هذا المبلغ فقد أخذ عليه العهد والميثاق وجائز أن يقال له قد أقر وأذعن وأسلم كما قال الله تعالى ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها
قال واحتجوا بقوله رفع القلم عن ثلاث عن الصبى حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى ينتبه وقوله
تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ثم قال تعالى وحلمها الإنسان الأمانة ها هنا عهد وميثاق فامتناع السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة لأجل خلوها من العقل الذى يكون به الفهم والإفهام وحمل الإنسان إياها لمكان العقل فيه قال وللعرب فيها ضروب نظم فمنها قوله
ضمن القنان الفقعس بثباتها ... ان القنان لفقعس لا يأتلى
والفنان جبل فذكر أنه قد ضمن لفقعس وضمانه لها أنهم كانوا إذا حزبهم أمر من هزيمة أو خوف لجأوا إليه فجعل ذلك كالضمان لهم ومنه قول النابغة
كأرجاف الجولان هلل ربه ... وجوران منها خاشع متضائل
وأرجاف الجولان جبالها وجوران الأرض التي إلى جانبها وقال هذا القائل إن في قوله تعالى أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا

من قبل وكنا ذرية من بعدهم دليلا على هذا التأويل لأنه تعالى أعلم أن هذا الأخذ للعهد عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين والغفلة ها هنا لا تخلو من أحد وجهين أما أن تكون عن يوم القيامة أو عن أخذ الميثاق فأما يوم القيامة فلم يذكر سبحانه في كتابه أنه أخذ عليهم عهدا وميثاقا بمعرفة البعث والحساب وإنما ذكر معرفته فقط وأما أخذ الميثاق فالأطفال والإسقاط إن كان هذا العهد مأخوذا عليهم كما قال المخالف فهم لم يبلغوا بعد أخذ هذا الميثاق عليهم مبلغا يكون منهم غفلة عنه فيجحدونه وينكرونه فمتى تكون هذه الغفلة منهم وهو تعالى لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم وذكر ما لا يجوز ولا يكون محال وقوله تعالى أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فلا يخلو هذا الشرك الذى يؤاخذون به أن يكون منهم أنفسهم أو من آبائهم فان كان منهم فلا يجوز أن يكون ذلك إلا بعد البلوغ وثبوت الحجة عليهم إذ الطفل لا يكون منه شرك ولا غيره وان كان من غيرهم فالأمة مجمعة على أن لا تزر وازرة وزر أخرى كما قال تعالى في الكتاب وليس هذا بمخالف لما روى عن النبي أن الله مسح ظهر آدم وأخرج منه ذريته فأخذ عليهم العهد لأنه اقتص قول الله تعالى فجاء مثل نظمه فوضع الماضي من اللفظ موضع المستقبل قال وهذا شبيه القصة بقصة قوله تعالى وإذ أخذ ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لنؤمن به فجعل سبحانه ما أنزل على الأنبياء من الكتاب والحكمة ميثاقا أخذه من أممهم بعدهم يدل على ذلك قوله تعالى ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ثم قال للأمم أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فجعل سبحانه الأمم كتابه المنزل على أنبيائهم حجة كأخذ الميثاق عليهم وجعل معرفتهم به إقرارا منهم قلت وشبيه به أيضا قوله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا فهذا ميثاقه الذى أخذه عليهم بعد إرسال رسله إليهم بالإيمان به وتصديقه ونظيره قوله تعالى والذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق وقوله تعالى ألم أعهد إليكم يا بنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وأن اعبدونى هذا صراط مستقيم فهذا عهده إليهم على السنة رسله ومثله قوله تعالى لبنى إسرائيل وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ومثله وإذ أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس ولا تكتمونه وقوله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا فهذا ميثاق أخذه منهم بعثهم كما أخذ من أممهم بعد إنذارهم

وهذا الميثاق الذى لعن سبحانه من نقضه وعاقبه بقوله تعالى فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية فإنما عاقبهم بنقضهم الميثاق الذى أخذه عليهم على ألسنة رسله وقد صرح به في قوله تعالى وأذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ولما كانت هذه الآيه ونظيرها في سورة مدنية خاطب بالتذكير بهذا الميثاق فيها أهل الكتاب فإنه ميثاق أخذه عليهم بالإيمان به ويرسله ولما كانت هذه آية الأعراف في سورة مكية ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام لجميع المكلفين ممن أقر بربوبيته ووحدانيته وبطلان الشرك وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة وينقطع به العذر وتحل به العقوبة ويستحق بمخالفته الإهلاك فلا بد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته وأنه ربهم وفاطرهم وانهم مخلوقين مربوبون ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم مما في فطرهم وعقولهم ويعرفونهم حقه عليهم وأمره ونهيه ووعده ووعيده
ونظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة
أحدها أنه قال وإذ أخذ ربك من بنى آدم ولم يقل آدم وبنو آدم غير آدم
الثاني أنه قال من ظهورهم ولم يقل ظهر وهذا يدل بعض من كل أو بدل اشتمال وهو أحسن
الثالث أنه قال ذرياتهم ولم يقل ذريته
الرابع أنه قالا وأشهدهم على أنفسهم أي جعلهم شاهدين على أنفسهم فلا بد أن يكون الشاهد ذاكرا لما شهد به إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار لا يذكر شهادة قبلها
الخامس أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
السادس تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ومعلوم أنهم غافلون بالإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت فهذا لا يذكره أحد منهم
السابع قوله تعالى أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فذكر حكمتين في هذا التعريف والإشهاد إحداهما أن لا يدعوا الغفلة والثانية أن لا يدعوا التقليد فالغافل لا شعور والمقلد متبع في تقليده لغيره
الثامن قوله تعالى أفتهلكنا بما فعل المبطلون أي لو عذبهم بجحودهم وشركهم

لقالوا ذلك وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون وإنما يهلكهم بعد الأعذار والإنذار
التاسع أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله فأنى يؤفكون أي فكيف يصرفون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن الله ربهم وخالقهم وهذا كثير في القرآن فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقوله تعالى أفي الله شك فاطر السموات والأرض فالله تعالى إنما ذكرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة ولم يذكرهم قط بإقرار سابق على إيجادهم ولا أقام به عليهم حجة
العاشر أنه جعل هذا آيه وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول وهذا شأن آيات الرب تعالى فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به فقال تعالى وكذلك نفصل الآيات أي مثل هذا التفصيل والتبيين نفصل الآيات لعلهم يرجعون من الشرك إلى التوحيد ومن الكفر إلى الإيمان وهذه الآيات التي فصلها هي التي بينها في كتابه من أنواع مخلوقاته وهي آيات أفقية وحسية آيات في نفوسهم وذواتهم وخلقهم وآيات في الأقطار والنواحي مما يحدثه الرب تبارك وتعالى مما يدل على وجوده ووحدانيته وصدق رسله وعلى المعاد والقيامة ومن أبينها ما أشهد به كل واحد على نفسه من أنه ربه وخالقه ومبدعه وأنه مربوب مخلوق مصنوع حادث بعد أن لم يكن ومحال أن يكون حدث بلا محدث أو يكون هو المحدث لنفسه فلا بد له من موجد أو جده ليس كمثله شيء وهذا الإقرار والمشاهدة فطرة فطروا عليها ليست بمكتسبة وهذه الآية وهي قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم مطابقة لقول النبي كل مولود يولد على الفطرة ولقوله تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه
ومن المفسرين من لم يذكر إلا هذا القول فقط كالزمخشري ومنهم من يذكر إلا القول الأول فقط ومنهم من حكى القولين كابن الجوزى والواحدي والماوردى وغيرهم
قال الحسن بن يحيى الجرجاني فإن اعتراض معترض في هذا الفصل بحديث يروى عن النبي أنه قال أن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد ثم ردهم في ظهره وقال إن هذا مانع من جواز التأويل الذي ذهبت إليه لامتناع ردهم في الظهر

إن كان أخذ الميثاق عليه بعد البلوغ وتمام العقل قيل له أن معنى ثم ردهم في ظهره ثم يردهم في ظهره كما قلنا إن معنى أخذ ربك يأخذ ربك فيكون معناه ثم يردهم في ظهره بوفاتهم لأنهم إذا ماتوا ردوا إلى الأرض للدفن وآدم خلق منها ورد فيها فإذا ردوا فيها فقد ردوا في آدم وفي ظهره إذ كان آدم خلق منها وفيها رد وبعض الشيء من الشيء وفيما ذهبتم إليه من تأويل هذا الحديث على ظاهره تفاوت بينه وبين ما جاء به القرآن في هذا المعنى إلا أن يرد تأويله إلى ما ذكرنا لأنه تعالى قال وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ولم يذكر آدم في القصة إنما هو هاهنا مضاف إليه لتعريف ذريته أنهم أولاده وفي الحديث أنه مسح ظهر آدم فلا يمكن رد ما جاء في القرآن وما جاء في الحديث إلى الاتفاق إلا بالتأويل الذى ذكرناه
قال الجرجاني وأنا أقول ونحن إلى ما روى في الآية عن رسول الله وما ذهب إليه أهل العلم من السلف الصالح أمثل وله أقبل وبه آنس والله ولي التوفيق لما هو أولى وأهدى على أن بعض أصحابنا من أهل السنة قد ذكر في الرد على هذا القائل معنى يحتمل ويسوغ في النظم الجاري ومجاز العربية بسهولة وإمكان من غير تعسف ولا استكراه وهو أن يكون قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم مبتدأ خبر من الله
تعالى عما كان منه في أخذ العهد عليهم وإذ تقتضي جوابا يجعل جوابه قوله تعالى قالوا بلى وانقطع هذا الخبر بتمام قصته ثم ابتدأ تعالى خبرا آخر بذكر ما يقوله المشركون يوم القيامة فقالوا شهدنا يعني نشهد كما قلا الحطيئة
شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
بمعنى يشهد الحطيئة يقول تعالى نشهد أنكم ستقولون يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أي عما هم فيه من الحساب والمناقشة والمؤاخذة بالكفر ثم أضاف إليه خبرا آخر فقال أو تقولوا بمعنى وأن تقولوا لأن أو بمعنى واو النسق مثل قوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا فتأويله ونشهد أن تقولوا يوم القيامة إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أي أنهم أشركوا وحملونا على مذهبهم في الشرك في صبانا فجرينا على مذاهبهم وافتدينا بهم فلا ذنب إذ كنا مقتدين بهم والذنب في ذلك لهم قولوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون يدل على ذلك قولهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون أي حملهم إيانا على الشرك فتكون القصة الأولى خبرا عن جميع المخلوقين بأخذ الميثاق عليهم والقصة الثانية خبر عما يقول المشركون يوم القيامة من الاعتذار
وقال فيما ادعاه المخالف أنه تفاوت فيما بين الكتاب والخبر لاختلاف ألفاظهما فيهما قولا يجب قبوله بالنظائر والعبر التي تأيد بها لمخالفته فقال إن الخبر عن رسول الله

إن الله مسح ظهر آدم أفاد زيادة خبر كان في القصة التي ذكر الله تعالى في الكتاب بعضها ولم يذكر كلها ولو أخبر بسوى هذه الزيادة التي أخبر بما مما عسى أن يكون قد كان في ذلك الوقت الذي أخذ فيه العهد مما لم يضمنه الله كتابه لما كان في ذلك خلاف ولا تفاوت بل كان زيادة في الفائدة وكذلك الألفاظ إذا اختلفت في ذاتها كان مرجعها إلى أمر واحد لم يوجب ذلك تناقضا كما قال تعالى في كتابه في خلق آدم فذكر مرة أنه خلق من تراب ومرة أنه خلق من حمأ مسنون ومرة من طين لازب ومرة من صلصال كالفخار فهذه الألفاظ مختلفة ومعانيها أيضا في الأحوال مختلفة أن الصلصال غير الحمأة والحمأة غير التراب إلا أن مرجعها كلها في الأصل إلى جوهر واحد وهو التراب ومن التراب تدرجت هذه الأحوال
فقوله سبحانه وتعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وقوله أن الله مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته معنى واحد في الأصل إلا أن قوله مسح ظهر آدم زيادة في الخبر عن الله
تعالى ومسحه تعالى ظهر آدم واستخراج ذريته من مسح لظهور ذريته واستخراج ذرياتهم من ظهورهم كما ذكر تعالى لأنا قد علمنا أن جميع ذرية آدم لم يكونوا من صلبه لكن لما كان الطبق الأول من صلبه ثم الثاني من صلب الأول ثم الثالث من صلب الثاني جاز أن ينسب ذلك كله إلى ظهر آدم لأنهم فرعه وهو أصلهم
وكما جاز أن يكون ما ذكر الله
تعالى أنه استخرجه من ظهور ذرية آدم من ظهر آدم جاز أن يكون ما ذكر انه استخرجه من ظهر آدم من ظهور ذريته إذ الأصل والفرع شيء واحد وفيه أيضا أنه تعالى لما أضاف الذرية إلى آدم في الخبر احتمل أن يكون الخبر عن الذرية وعن آدم كما قال تعالى فظلت أعناقهم لها خاضعين والخبر في الظاهر عن الأعناق والنعت للأسماء المكنية فيها وهو مضاف إليها كما كان آدم مضافا إليه هناك وليسا جميعا بالمقصودين في الظاهر بالخبر ولا يحتمل أن يكون قوله خاضعين للأعناق لأن وجه جمعها خاضعات ومنه قول الشاعر
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم فالصدر المذكر وقوله شرقت أنث لاضافة الصدر الى القناة

فصل فهذا بعض كلام السلف والخلف في هذه الآية وعلى كل تقدير فلا
تدل على خلق الأرواح قبل الأجساد خلقا مستقرا وإنما غايتها أن تدل على إخراج صورهم وأمثالهم في صور الذر واستنطاقهم ثم ردهم إلى أصلهم أن صح الخبر بذلك والذي صح إنما هو إثبات القدر السابق وتقسيمهم إلى شقي وسعيد وأما استدلال أبى محمد بن حزم بقوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فما أليق هذا الاستدلال بظاهريته لترتيب الأمر بالسجود لآدم على خلقنا وتصويرنا والخطاب للجملة المركبة من البدن والروح وذلك متأخر عن خلق آدم ولهذا قال ابن عباس ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم لذريته ومثال هذا ما قاله مجاهد خلقناكم يعني آدم وصورناكم في ظهر آدم وإنما قال خلقناكم بلفظ الجمع وهو يريد آدم كما تقول ضربناكم وإنما ضربت سيدهم
واختار أبو عبيد في هذه الآية قول مجاهد لقوله تعالى بعد ثم قلنا للملائكة اسجدوا وكان قوله تعالى للملائكة اسجدوا قبل خلق ذرية آدم وتصويرهم في الأرحام وثم توجب التراخي والترتيب فمن جعل الخلق والتصوير في هذه الآية لأولاد آدم في الأرحام يكون قد راعى حكم ثم في الترتيب إلا أن يأخذ بقول الأخفش فإنه يقول ثم ها هنا في معنى الواو قال الزجاج وهذا خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه قال أبو عبيد وقد بينه مجاهد حين قال إن الله تعالى خلق ولد آدم وصورهم في ظهره ثم أمر بعد ذلك بالسجود قال وهذا بين في الحديث وهو أنه أخرجهم من ظهره في صور الذر
قلت والقرآن يفسر بعضه بعضا ونظير هذه الآية قوله تعالى يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة فأوقع الخلق من تراب عليهم وهو لأبيهم آدم إذ هو أصلهم والله سبحانه يخاطب الموجودين والمراد آباؤهم كقوله تعالى وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد الآية وقوله تعالى وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها وقوله تعالى وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور وهو كثير في القرآن يخاطبهم والمراد به آباؤهم فهكذا قوله ولقد خلقناكم ثم صورناكم
وقد يستطرد سبحانه من ذكر الشخص إلى ذكر النوع كقوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين فالمخلوق من سلالة من طين آدم والمجعول نطفة في قرار مكين ذريته

وأما حديث خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فلا يصح إسناده ففيه عتبة بن السكن قال الدار قطني متروك وأرطأة بن المنذر قال ابن عدي بعض أحاديثه غلط
فصل وأما الدليل على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق أبدانها فمن وجوه
أحدها أن خلق أبى البشر وأصلهم كان هكذا فإن الله سبحانه أرسل جبريل فقبض قبضة من الأرض ثم خمرها حتى صارت طينا ثم صوره ثم نفخ فيه الروح بعد أن صوره فلما دخلت الروح فيه صار لحما ودما حيا ناطقا ففي تفسير أبى مالك وأبى صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي لما فرغ
تعالى من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس ملكا على سماء الدنيا وكان من الخزان قلبه من ملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم خزان خزان أهل الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في صدره وقال ما أعطاني الله هذا إلا لمزيد لي وفي لفظ لمزية لي على الملائكة فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه فقال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا ربنا وما يكون حال الخليفة وما يصنعون في الأرض قال الله تكون له ذرية يفسدونه في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالوا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون يعني من شأن إبليس فبعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تقبض مني فرجع ولم يأخذ وقال رب إنها عاذت بك فأعذتها فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد فأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ولذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به قبل الرب تعالى حتى عاد طينا لازبا واللازب هو الذي يلزق بعضه ببعض ثم قال للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فخلقه الله بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم منه فزعا إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار تكون له صلصة فذلك حين يقول من صلصال كالفخار ويقول لأمر ما خلقت ودخل من فيه فخرج من دبره فقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف لئن سلطت عليه لأهلكنه فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة

إذا نفخت ! فيه من روحي فأسجدوا له فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله فقال الحمد لله فقال له الله يرحمك ربك فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل في جوفه اشتهي الطعام قبل أن يبلغ الروح رجليه فنهض عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول خلق الإنسان من عجل وذكر باقي الحديث
وقال يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب حدثنا ابن زيد قال لما خلق الله النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا وقالوا ربنا لم خلقت هذه النار ولأي شيء خلقتها قال لمن عصاني من خلقي
ولم يكن لله يومئذ خلق إلا الملائكة والأرض ليس فيها خلق إنما خلق آدم بعد ذلك وقرأ قوله تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا قال عمر بن الخطاب يا رسول الله ليت ذلك الحين ثم قال وقالت الملائكة ويأتي علينا دهر نعصيك فيه لا يرون له خلقا غيرهم قال لا إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وذكر الحديث قال ابن إسحاق فيقال والله أعلم خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار ولم تمسسه نار فيقال والله أعلم لما انتهي الروح إلى رأسه عطس فقال الحمد لله وذكر الحديث
والقرآن والحديث والآثار تدل على أنه سبحانه نفخ فيه من روحه بعد خلق جسده فمن تلك النفخة حدثت فيه الروح ولو كانت روحه مخلوقة قبل بدنه مع جملة أرواح ذريته لما عجبت الملائكة من خلقه ولما تعجبت من خلق النار وقالت لأي شيء خلقتها وهي ترى أرواح بني آدم فيهم المؤمن والكافر والطيب والخبيث
ولما كانت أرواح الكفار كلها تبعا لإبليس بل كانت الأرواح الكافرة مخلوقة قبل كفره فإن الله سبحانه إنما حكم عليه بالكفر بعد خلق بدن آدم وروحه ولم يكن قبل ذلك كافرا فكيف تكون الأرواح قبله كافرة ومؤمنة وهو لم يكن كافرا إذ ذاك وهل حصل الكفر للأرواح إلا بتزيينه وإغوائه فالأرواح الكافرة إنما حدثت بعد كفره إلا أن يقال كانت كلها مؤمنة ثم ارتدت بسببه والذي احتجوا به على تقديم خلق الأرواح يخالف ذلك
وفي حديث أبى هريرة في تخليق العالم الأخبار عن خلق أجناس العالم تأخر خلق آدم إلى يوم الجمعة ولو كانت الأرواح مخلوقة قبل الأجساد لكانت من جملة العالم المخلوق في ستة أيام فلما لم يخبر عن خلقها في هذه الأيام علم أن خلقها تابع لخلق الذرية وأن خلق آدم وحده هو الذي وقع في تلك الأيام الستة وأما خلق ذريته فعلى الوجه المشاهد المعاين

ولو كان للروح وجود قبل البدن وهي حية عالمة ناطقة لكانت ذاكرة لذلك في هذا العالم شاعرة به ولو بوجه ما
ومن الممتنع أن تكون حية عالمة ناطقة عارفة بربها وهي بين ملأ من الأرواح ثم تنتقل إلى هذا البدن ولا تشعر بحالها قبل ذلك بوجه ما
وإذا كانت بعد المفارقة تشعر بحالها وهي في البدن على التفصيل وتعلم ما كانت عليه ها هنا مع أنها اكتسبت بالبدن أمورا عاقتها عن كثير من كمالها فلان تشعر بحالها الأول وهي غير معوقة هناك بطريق الأولى إلا أن يقال تعلقها بالبدن واشتغالها بتدبيره منعها من شعورها بحالها الأول فيقال هب أنه منعها من شعورها به على التفصيل والكمال فهل يمنعها عن أدنى شعور بوجه ما مما كانت عليه قبل تعلقها بالبدن ومعلوم أن تعلقها بالبدن لم يمنعها عن الشعور بأول أحوالها وهي في البدن فكيف يمنعها من الشعور بما كان قبل ذلك
وأيضا فإنها لو كانت موجودة قبل البدن لكانت عالمة حية ناطقة عاقلة فلما تعلقت بالبدن سلبت ذلك كله ثم حدث لها الشعور والعلم والعقل شيئا فشيئا وهذا لو كان لكان أعجب الأمور أن تكون الروح كاملة عاقلة ثم تعود ناقصة ضعيفة جاهلة ثم تعود بعد ذلك إلى عقلها وقوتها فأين في العقل والنقل والفطرة ما بدل على هذا وقد قال تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون فهذه الحال التي أخرجنا عليها هي حالنا الأصلية والعلم والعقل والمعرفة والقوة طارىء علينا حادث فينا بعد أن لم يكن ولم نكن نعلم قبل ذلك شيئا البتة إذ لم يكن لنا وجود نعلم ونعقل به
وأيضا فلو كانت مخلوقة قبل الأجساد وهي على ما هي الآن من طيب وخبث وكفر وإيمان وخير وشر لكان ذلك ثابتا لها قبل الأعمال وهي إنما اكتسبت هذه الصفات والهيئات من أعمالها التي سعت في طلبها واستعانت عليها بالبدن فلم تكن لتصف بتلك الهيئات والصفات قبل قيامها بالأبدان التي بها عملت تلك الأعمال
وإن كان قدر لها قبل إيجادها ذلك ثم خرجت إلى هذه الدار على ما قدر لها فنحن لا ننكر الكتاب والقدر السابق لها من الله ولو دل دليل على أنها خلقت جملة ثم أودعت في مكان حية عالمة ناطقة ثم كل وقت تبرز إلى أبدانها شيئا فشيئا لكنا أول قائل به فالله سبحانه على كل شيء قدير ولكن لا نخبر عنه خلقا وأمرا إلا بما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله ومعلوم أن الرسول لم يخبر عنه بذلك وإنما أخبر بما في الحديث الصحيح أن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح فالملك وحده يرسل إليه

فينفخ فيه فإذا نفخ فيه كان ذلك سبب حدوث الروح فيه ولم يقل يرسل الملك إليه بالروح فيدخلها في بدنه وإنما أرسل إليه الملك فأحدث فيه الروح بنفخته فيه لا أن الله سبحانه أرسل إليه الروح التي كانت موجودة قبل ذلك بالزمان الطويل مع الملك ففرق بين أن يرسل إليه ملك ينفخ فيه الروح وبين أن يرسل إليه روح مخلوقة قائمة بنفسها مع الملك وتأمل ما دل عليه النص من هذين المعنيين وبالله ! التوفيق
المسألة التاسعة عشرة
وهي ما حقيقة النفس هل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم مساكن له مودع فيه أو جوهر مجرد وهل هي الروح أو غيرها وهل الإمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أم هي ثلاث أنفس
فالجواب أن هذه مسائل قد تكلم الناس فيها من سائر الطوائف واضطربت أقوالهم فيها وكثر فيها خطؤهم وهدى الله أتباع الرسول أهل سنته لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم فنذكر أقوال الناس وما لهم وما عليهم في تلك الأقوال ونذكر الصواب بحمد الله وعونه
قال أبو الحسن الأشعري في مقالاته اختلف الناس في الروح والنفس والحياة وهل الروح هي الحياة أو غيرها وهل الروح جسم أم لا فقال النظام الروح هي جسم وهي النفس وزعم أن الروح حي بنفسه وأنكر أن تكون الحياة والقوة معنى غير الحي القوي وقال آخرون الروح عرض
وقال قائلون منهم جعفر بن حرب لا ندري الروح جوهر أو عرض كذا قال واعتلوا في ذلك بقوله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ولم يخبر عنها ما هي لا أنها جوهر ولا عرض قال وأظن جعفرا أثبت أن الحياة غير الروح أثبت أن الحياة عرضا
وكان الجبائي يذهب إلى أن الروح جسم وأنها غير الحياة والحياة عرض ويعتل بقول أهل اللغة خرجت روح الإنسان وزعم أن الروح لا تجوز عليها الأعراض

وقال قائلون ليس الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع ولم يرجعوا من قولهم اعتدال إلا إلى المعتدل ولم يثبتوا في الدنيا شيئا إلا الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة
وقال قائلون أن الروح معنى خامس غير الطبائع الأربع وأنه ليس في الدنيا إلا الطبائع الأربع والروح واختلفوا في أعمال الروح فثبتها بعضهم طباعا وثبتها بعضهم اختيارا وقال قائلون الروح الدم الصافي الخالص من الكدر والعفونات وكذلك قالوا في القوة
وقال قائلون الحياة هي الحرارة الغريزية وكل هؤلاء الذين حكينا أقوالهم في الروح من أصحاب الطبائع يثبتون أن الحياة هي الروح
وكان الأصم لا يثبت للحياة والروح شيئا غير الجسد ويقول ليس أعقل إلا الجسد الطويل العريض العميق الذي أراه وأشاهده وكان يقول النفس هي هذا البدن بعينه لا غير وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد بحقيقة الشيء لا على أنها معنى غير البدن
وذكر عن أرسططا ليس أن النفس معنى مرتفع عن الوقوع تحت التدبير والنشوء والبلى غير دائرة وأنها جوهر بسيط منبث في العالم كله من الحيوان على جهة الأعمال له والتدبير وأنه لا تجوز عليه صفة قلة ولا كثرة قال وهي على ما وصفت من انبساطها في هذا العالم غير منقسمة الذات والبنية وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير
وقال آخرون بل النفس معنى موجود ذات حدود وأركان وطول وعرض وعمق وأنها غير مفارقة في هذا العالم لغيرها مما يجري عليه حكم الطول والعرض والعمق وكل واحد منهما يجمعهما صفة الحد والنهاية وهذا قول طائفة من الثنوية يقال لهم المثانية
وقالت طائفة أن النفس موصوفة بما وصفها هؤلاء الذين قدمنا ذكرهم من معنى

الحدود والنهايات إلا أنها غير مفارقة لغيرها مما لا يجوز أن يكون موصوفا بصفة الحيوان وهؤلاء الديصانية وحكى الحريري عن جعفر بن مبشر أن النفس جوهر ليس هو هذا الجسم وليس بجسم لكنه معنى بابن الجوهر والجسم
وقال آخرون النفس معنى غير الروح والروح غير الحياة والحياة عنده عرض وهو أبو الهذيل وزعم أنه قد يجوز أن يكون الإنسان في حال نومه مسلوب النفس والروح دون الحياة واستشهد على ذلك بقوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها
وقال جعفر بن حرب النفس عرض من الأعراض يوجد في هذا الجسم وهو أحد الآلات التي يستعين بها الإنسان على الفعل كالصحة والسلامة وما أشبههما وأنها غير موصولة بشيء من صفات الجواهر والأجسام هذا ما حكاه الأشعري
وقالت طائفة النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس قالوا والروح عرض وهو الحياة فقط وهو غير النفس وهذا قول القاضي أبو بكر بن الباقلاني ومن اتبعه من الأشعرية
وقالت طائفة ليست النفس جسما ولا عرضا وليست النفس في مكان ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا لون ولا بعض ولا هي في العالم ولا خارجه ولا مجانبة له ولا مباينة وهذا قول المشائين وهو الذي حكاه الأشعري عن ارسططا ليس وزعموا أن تعلقها بالبدن لا بالحلول فيه ولا بالمجاورة ولا بالمساكنة ولا بالالتصاق ولا بالمقابلة وإنما هو التدبير له فقط واختار هذا المذهب البسنجي ومحمد بن النعمان الملقب بالمفيد ومعمر بن عباد الغزالي وهو قول ابن سينا وأتباعه وهو أردى المذاهب وأبطلها وأبعدها من الصواب
قال أبو محمد بن حزم وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالمعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان جثة متحيزة مصرفة للجسد قال وبهذا نقول قال والنفس والروح اسمان مترادفان لمعنى واحد ومعناهما واحد
وقد ضبط أبو عبد الله بن الخطيب مذاهب الناس في النفس فقال ما يشير إليه كل إنسان بقوله إنا إما أن نكون جسما أو عرضا ساريا في الجسم أو لا جسما ولا عرضا ساريا فيه أما القسم الأول وهو أنه جسم فذلك الجسم إما أن يكون هذا البدن وإما أن يكون جسما مشاركا لهذا البدن وإما أن يكون خارجا عنه وأما القسم الثالث وهو أن نفس الإنسان

عبارة عن جسم خارج عن هذا البدن فهذا لم يقله أحد وأما القسم الأول وهو أن الإنسان عبارة عن هذا البدن والهيكل المخصوص فهو قول جمهور الخلق وهو المختار عند أكثر المتكلمين
قلت هو قول جمهور الخلق الذين عرف الرازي أقوالهم من أهل البدع وغيرهم من المضلين وأما أقوال الصحابة والتابعين وأهل الحديث فلم يكن له بها شعور البتة ولا أعتقد أن لهم في ذلك قولا على عادته في حكاية المذاهب الباطلة في المسألة والمذهب الحق الذي دل عليه القرآن والسنة وأقوال الصحابة لم يعرفه ولم يذكره وهذا الذي نسبه إلى جمهور الخلق من أن الإنسان هو هذا البدن المخصوص فقط وليس وراءه شيء هو من ابطل الأقوال في المسألة بل هو أبطل من قول ابن سينا وأتباعه بل الذي عليه جمهور العقلاء أن الإنسان هو البدن والروح معا وقد يطلق اسمه على أحدهما دون الآخر بقرينة
فالناس لهم أربعة أقوال في مسمى الإنسان هل هو الروح فقط أو البدن فقط أو مجموعهما أو كل واحد منهما وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه هل هو اللفظ فقط أو المعنى فقط أو مجموعهما أو كل واحد منهما فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه
قال الرازي وأما القسم الثاني وهو أن الإنسان عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن فالقائلون بهذا القول اختلفوا في تعيين ذلك الجسم على وجوه
الأول أنه عبارة عن الأخلاط الأربعة التي منها يتولد هذا البدن
والثاني انه الدم
والثالث أنه الروح اللطيف الذي يتولد في الجانب الأيسر من القلب وينفذ في الشريانات إلى سائر الأعضاء
والرابع أنه الروح الذي يصعد في القلب إلى الدماغ ويتكيف بالكيفية الصالحة لقبول قوة الحفظ والفكرة والذكر
والخامس أنه جزء لا يتجزأ في القلب
والسادس أنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نور أنى علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية

وإذا فسدت هذه الأعضاء بسب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح
وهذا القول هو الصواب في المسألة هو الذي لا يصح غيره وكل الأقوال سواه باطلة وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة ونحن نسوق الأدلة عليه على نسق واحد
الدليل الأول قوله تعالى الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى نفي الآية ثلاثة أدلة الأخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها
الرابع قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم اخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون إلى قوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة
وفيها أربعة أدلة
أحدها بسط الملائكة أيديهم لتناولها !
الثاني وصفها بالإخراج والخروج
الثالث الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم
الرابع الإخبار عن مجيئها إلى ربها فهذه سبعة أدلة
الثامن قوله تعالى وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم إلى قوله تعالى حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون وفيها ثلاثة أدلة
أحدها الإخبار بتوفي الأنفس بالليل
الثاني بعثها إلى أجسادها بالنهار
الثالث توفي الملائكة له عند الموت فهذه عشرة أدلة
الحادي عشر قوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وادخلي جنتي وفيها ثلاثة أدلة
أحدها وصفها بالرجوع

الثاني وصفها بالدخول
الثالث وصفها بالرضا
واختلف السلف هل يقال لها ذلك عند الموت أو عند البعث أو في الموضعين على ثلاثة أقوال وقد روى في حديث مرفوع أن النبي قال لأبي بكر الصديق أما أن الملك سيقولها لك عند الموت قال زيد بن أسلم بشرت بالجنة عند الموت ويوم الجمع وعند البعث وقال أبو صالح ارجعي إلى ربك راضية مرضية هذا عند الموت فأدخلي عبادي وادخلي جنتي قال هذا يوم القيامة فهذه أربعة عشر دليلا
الخامس عشر قوله إن الروح إذا قبض تبعه البصر ففيه دليلان
أحدهما وصفه بأنه يقبض
الثاني أن البصر يراه
السابع عشر ما رواه النسائي حدثنا أبو داود عن عفان عن حماد عن أبى جعفر عن عمارة بن خزيمة أن أباه قال رأيت في المنام كأني أسجد على جبهة النبي فأخبرته بذلك فقال إن الروح ليلقى الروح فأقنع رسول الله هكذا قال عفان برأسه إلى حلقه فوضع جبهته على جبهة النبي فأخبر أن الأرواح تتلاقى في المنام وقد تقدم قول ابن عباس تلتقي أرواح الأحياء والأموات في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله أرواح الموتى
الثامن عشر قوله في حديث بلال إن الله قبض أرواحكم وردها إليكم حين شاء ففيه دليلان وصفها بالقبض والرد
العشرون قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة وفيه دليلان
أحدهما كونها طائرا
الثاني تعلقها في شجر الجنة وأكلها على اختلاف التفسيرين
الثاني والعشرون قوله أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث

شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش فأطلع إليهم ربك اطلاعة فقال أي شيء تريدون الحديث وقد تقدم وفيه ستة أدلة
أحدها كونها مودعة في جوف طير
الثاني أنها تسرح في الجنة
الثالث أنها تأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها
الرابع أنها تأوي إلى تلك القناديل أي تسكن إليها
الخامس أن الرب تعالى خاطبها واستنطقها فأجابته وخاطبته
السادس أنها طلبت الرجوع إلى الدنيا فعلم أنها مما يقبل الرجوع فإن قيل هذا كله صفه الطير لا صفة الروح قيل بل الروح المودعة في الطير قصد وعلى الرواية التي رجحها أبو عمر وهي قوله أرواح الشهداء كطير ينفي السؤال بالكلية
التاسع والعشرون قوله في حديث طلحة بن عبيد الله أردت مالي بالغابة فأدركني الليل فأويت إلى قبر عبد الله بن عمرو بن حزام فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها فقال رسول الله ذاك عبد الله ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها التي كانت وفيه أربعة أدلة سوى ما تقدم
أحدها جعلها في القناديل
الثاني انتقالها من حيز إلى حيز
الثالث تكلمها وقراءتها في القبر
الرابع وصفها بأنها في مكان
الثالث والثلاثون حديث البراء بن عازب وقد تقدم سياقه وفيه عشرون دليلا
أحدها قول ملك الموت لنفسه يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وهذا الخطاب لمن يفهم ويعقل
الثاني قوله اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان
الثالث قوله فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء

الرابع قوله فلا يدعونها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه
الخامس قوله حتى يكفنوها في ذلك الكفن ويحنطوها بذلك الحنوط فأخبر أنه تكفن وتحنط
السادس قوله ثم يصعد بروحه إلى السماء
السابع قوله ويوجد منها كأطيب نفحة مسك وجدت
الثامن قوله فتفتح له أبواب السماء
التاسع قوله ويشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى الرب تعالى
العاشر قوله فيقول تعالى ردوا عبدي إلى الأرض
الحادي عشر قوله فترد روحه في جسده
الثاني عشر قوله في روح الكافر فتفرق في جسده فيجذبها فتنقطع منها العروق والعصب
الثالث عشر قوله ويوجد لروحه كأنتن ريح وجدت على وجه الأرض
الرابع عشر قوله فيقذف بروحه عن السماء وتطرح طرحا فتهوى إلى الأرض
الخامس عشر قوله فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب وما هذا الروح الخبيث
السادس عشر قوله فيجلسان ويقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل فإن كان هذا للروح فظاهر وإن كان للبدن فهو بعد رجوع الروح إليه من السماء
السابع عشر قوله فإذا صعد بروحه قيل أي رب عبدك فلان
الثامن عشر قوله أرجعوه فأروه ماذا أعددت له من الكرامة فيرى مقعده من الجنة أو النار
التاسع عشر قوله في الحديث إذا خرجت روح المؤمن صلى عليها كل ملك لله بين السماء والأرض فالملائكة تصلى على روحه وبني آدم يصلون على جسده
العشرون قوله فينظر إلى مقعده من الجنة أو النار حتى تقوم الساعة والبدن قد تمزق وتلاشى وإنما الذي يرى المقعدين الروح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"