بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 4 أبريل 2010

نبذ من "اعلام الموقعين" لابن القيم/5

فصل من تقبل شهادته
قوله فإن الله تبارك وتعالى تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والإيمان يريد بذلك أن من ظهرت لنا منه علانية خير قبلنا شهادته ووكلنا سريرته إلى الله سبحانه فإن الله سبحانه لم يجعل أحكام الدنيا على السرائر بل على الظواهر والسرائر تبع لها وأما أحكام الآخرة فعلى السرائر والظواهر تبع لها
وقد احتج بعض أهل العراق بقول عمر هذا على قبول شهادة كل مسلم لم تظهر منه ريبة وإن كان مجهول الحال فإن قال والمسلمون عدول بعضهم على بعض ثم قال فإن الله تعالى تولى من عباده السرائر وستر عليهم الحدود ولا يدل كلامه على هذا المذهب بل قد روى أبو عبيد ثنا الحجاج عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن قال قال عمر بن الخطاب لا يوسر أحد في الإسلام بشهداء السوء فإنا لا نقبل إلا العدول وثنا أسحاق بن على بن مالك بن انس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه والله لا يوسرن رجل في الإسلام بغير العدول ثنا إسماعيل بن ابراهيم الجريري عن أبي نضرة عن أبي فراس أن عمر بن الخطاب قال في خطبته من أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه
وقوله وستر عليهم الحدود يعني المحارم وهي حدود الله التي نهى عن قربانها والحد يراد به الذنب تارة والعقوبة أخرى
وقوله إلا بالبينات يريد البينات الأدلة والشواهد فإنه قد صح عنه الحد في الزنا بالحبل فهو بينة صادقة بل هو أصدق من الشهود

وكذلك رائحة الخمر بينة على شربها عند الصحابة وفقهاء أهل المدينة وأكثر فقهاء الحديث
وقوله والأيمان يريد بها أيمان الزوج في اللعان وأيمان أولياء القتيل في القسامة وهي قائمة مقام البينة
فصل في القياس معناه وأقسامه
وقوله ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق هذا أحد ما اعتمد عليه القياسيون في الشريعة وقالوا هذا كتاب عمر إلى أبي موسى ولم ينكره أحد من الصحابة بل كانوا متفقين على القول بالقياس وهو أحد أصول الشريعة ولا يستغني عنه فقيه
القياس في القرآن
وقد أرشد الله تعالى عباده إليه في غير موضع من كتابه فقاس النشأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان وجعل النشأة الأولى أصلا والثانية فرعا عليها وقاس حياة الأموات بعد الموت على حياة الأرض بعد موتها بالنبات وقاس الخلق الجديد الذي أنكره أعداؤه على خلق السموات والأرض وجعله من قياس الأولى كما جعل قياس النشأة الثانية على الأولى من قياس الأولى وقاس الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم وضرب الأمثال وصرفها في الأنواع المختلفة وكلها أقيسة عقلية ينبه بها عباده على أن حكم الشيء حكم مثله فإن الأمثال كلها قياسات يعلم منها حكم الممثل من الممثل به وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم

وقال تعالى وتلك أمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون فالقياس في ضرب الأمثال من خاصة العقل وقد ركز الله في فطر الناس وعقولهم التسوية بين المتماثلين وإنكار التفريق بينهما والفرق بين المختلفين وإنكار الجميع بينهما
قالوا ومدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين فإنه إما استدلال بمعين علي معين أو بمعين على عام أو بعام على معين أو بعام على عام فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال
فالاستدلال بالمعين على المعين هو الاستدلال بالملزوم على لازمه فكل ملزوم دليل على لازمه فإن كان التلازم بين الجانبين كان كل منهما دليل على الآخر ومدلولا له وهذا النوع ثلاثة أقسام أحدهما الاستدلال بالمؤثر على الأثر والثاني الاستدلال بالأثر على المؤثر والثالث الاستدلال بأحد الأثرين على الآخر فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق والثاني كالاستدلال بالحريق على النار والثالث كالاستدلال بالحريق على الدخان ومدار ذلك كله على التلازم فالتسوية بين المتماثلين هو الاستدلال بثبوت أحد الأثرين على الآخر وقياس الفرق هو الاستدلال بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه فلو جاز التفريق بين المتماثلين لانسدت طرق الاستدلال وغلقت أبوابه
قالوا وأما الاستدلال بالمعين على العام فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين إذ لو جاز الفرق لما كان هذا المعين دليلا على الأمر العام المشترك بين الأفراد ومن هذا أدلة القرآن بتعذيب المعينين الذين عذبهم على تكذيب رسله وعصيان أمره على أن هذا الحكم عام شامل على من سلك سبيلهم واتصف بصفتهم وهو سبحانه قد نبه عباده على نفس هذا الاستدلال وتعدية هذا الخصوص إلى العموم كما قال تعالى عقيب أخباره عن عقوبات الأمم المكذبة لرسلهم وما حل بهم أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر فهذا محض

تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة وإلا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ولا تمت الحجة ومثل هذا قوله تعالى عقيب أخباره عن عقوبة قوم عاد حين رأوا العارض في السماء فقالوا هذا عارض ممطرنا فقال تعالى بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ثم قال ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لكم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذا كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما به يستهزئون فتأمل قوله ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه كيف تجد المعنى أن حكمكم كحكمهم وإنا إذا كنا قد أهلكناهم بمعصية رسلنا ولم يدفع عنهم ما مكنوا فيه من أسباب العيش فأنتم كذلك تسوية بين المتماثلين وأن هذا محض عدل الله بين عباده
ومن ذلك قوله تعالى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله
وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير في الأرض سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب أو السير المعنوي بالتفكير والاعتبار أو كان اللفظ يعمها وهو الصواب فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يجل بالمخاطبين ما حل بأولئك ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حل بالمكذبين ولولا أن حكم النظير حكم نظيره حتى تعبر العقول منه إليه لما حصل الاعتبار وقد نفى الله سبحانه عن حكمه وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم فقال تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون فأخبر أن هذا حكم باطل في الفطر والعقول لا تليق نسبته إليه سبحانه وقال تعالى أم حسب الذين اجترحوا

السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وقال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار أفلا تراه كيف ذكر العقول ونبه الفطر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره وعدم التسوية بين الشيء ومخالفه في الحكم وكل هذا من الميزان الذي أنزله الله مع كتابه وجعله قرينه ووزيره فقال تعالى الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وقال لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وقال تعالى الرحمن علم القرآن فهذا الكتاب ثم قال والسماء رفعها ووضع الميزان والميزان يراد به العدل والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده والقياس الصحيح هو الميزان فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به فإنه يدل على العدل وهو اسم مدح واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان بخلاف اسم القياس فإنه ينقسم إلى حق وباطل وممدوح ومذموم ولهذا لم يجيء في القرآن مدحه ولا ذمه ولا الأمر به ولا النهي عنه فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد
تقسيمات للقياس فالصحيح هو الميزان الذي أنزله مع كتابه
والفاسد ما يضاده كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية وقياس الذين قاسوا الميتة على المذكى في جواز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح هذا بسبب من الآدميين وهذا بفعل الله ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين وتجد في كلامهم استعماله والاستدلال به وهذا حق وهذا حق كما سنبينه إن شاء الله تعالى
والأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة قياس علة وقياس دلالة وقياس شبه وقد وردت كلها في القرآن

قياس العلة
فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله
تعالى في مواضع منها قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فأخبر تعالى أن عيسى نظير آدم في التكوين بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات وهو مجيئها طوعا لمشيئته وتكوينه فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يقر بوجود آدم من غير أب ولا أم ووجود حواء من غير أم فآدم وعيسى نظيران يجمعهما المعنى الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به
ومنها قوله تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين أي قد كان من قبلكم أمم أمثالكم فانظروا إلى عواقبهم السيئة واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله وهم الأصل وأنتم الفرع والعلة الجامعة التكذيب والحكم الهلاك
ومنها قوله تعالى ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فذكر سبحانه إهلاك من قبلنا من القرون وبين أن ذلك كان لمعنى القياس وهو ذنوبهم فهم الأصل ونحن الفرع والذنوب العلة الجامعة والحكم الهلاك فهذا محض قياس العلة وقد أكده سبحانه بضرب من الأولى وهو أن من قبلنا كانوا أقوى منا فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حل بهم
ومنه قوله تعالى كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذي من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون
وقد اختلف في محل هذا الكاف وما يتعلق به فقيل هو رفع خبر مبتدأ

محذوف أي أنتم كالذين من قبلكم وقيل نصب بفعل محذوف تقديره فعلتم كفعل الذين من قبلكم والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل وقيل إن التشبيه في العذاب ثم قيل العامل محذوف أي لعنهم وعذبهم كما لعن الذين من قبل وقيل بل العامل ما تقدم أي وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم ولعنهم كلعنهم ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم
والمقصود أنه سبحانه ألحقهم بهم في الوعيد وسوى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال وكونهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا فرق غير مؤثر فعلق الحكم بالوصف الجامع المؤثر وألغى الوصف الفارق ثم نبه على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء فقال فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع وقوله أولئك حبطت أعمالهم هو الحكم والذين من قبل هم الأصل والمخاطبون الفرع
قال عبد الرزاق في تفسيره أنا معمر عن الحسن في قوله فاستمتعوا بخلاقهم قال بذنبهم ويروي عن أبي هريرة
وقال ابن عباس استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا وقال آخرون بنصيبهم من الدنيا
وحقيقة الأمر أن الخلاق هو النصيب والحظ كأنه الذي خلق للإنسان وقدر له كما يقال قسمه الذي قسم له ونصيبه الذي نصب له أي أثبت وقطه الذي قط له أي قطع
ومنه قوله تعالى وماله في الآخرة من خلاق وقول النبي ص

إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة والآية تتناول ما ذكره السلف كله فإنه سبحانه قال كانوا أشد منكم قوة فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة وكذلك الأموال والأولاد وتلك القوة والأموال والأولاد هي الخلاق فاستمتعموا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة من الخلاق الذي استمتعموا به ولو أرادوا بذلك الله والدار الآخرة لكان لهم خلاق في الآخرة فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة وهذا حال من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان عمله من جنس العبادات أو غيرها ثم ذكر سبحانه حال الفروع فقال فاستمتعم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم فدل هذا على أن حكمهم حكمهم وأنه ينالهم ما نالهم لأن حكم النظير حكم نظيره
ثم قال وخضتم كالذي خاضوا فقيل الذي صفة لمصدر محذوف أي كالخوض الذي خاضوا وقيل لموصوف محذوف أي كخوض القوم الذي خاضوا وهو فاعل الخوض وقيل الذي مصدرية كما أي كخوضهم وقيل هي موضع الذين
البدع واتباع الهوى جالبة لكل شر
والمقصود أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به وهو الخوض أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق فالأول البدع والثاني اتباع الهوى وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء وبهما كذبت الرسل وعصي الرب ودخلت النار وحلت العقوبات فالأول من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات ولهذا كان السلف يقولون احذروا من الناس صنفين صاحب هوى فتنه هواه وصاحب دنيا أعجبته دنياه

وكانوا يقولون احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم
وفي صفة الإمام أحمد
رحمه الله عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم الله في كتابه بقوله وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات قال تعالى وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وقوله تعالى واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار
وفي بعض المراسيل إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
فقوله تعالى فاستمتعتم بخلاقكم إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة وقوله وخضتم كالذي خاضوا إشارة إلى الشبهات وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات وكثيرا ما يجتمعان فقل من تجده فاسد الاعتقاد إلا وفساد اعتقاده يظهر في عمله
والمقصود أن الله أخبر أن في هذه الأمة من يستمتع بخلاقه كما استمتع الذين من قبله بخلاقهم ويخوض كخوضهم وأنهم لهم من الذم والوعيد كما للذين من قبلهم ثم حضهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم فقال ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
فتأمل صحة هذا القياس وإفادته لمن علق عليه من الحكم وأن الأصل

والفرع قد تساويا في المعنى الذي علق به العقاب وأكده كما تقدم بضرب من الأولى وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد فإذا لم يتعذر على الله عقاب الأقوى منهم بذنبه فكيف يتعذر عليه عقاب من هو دونه
ومنه قوله تعالى وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم من يشاء كم أنشأكم من ذرية قوم آخرين فهذا قياس جلي يقول سبحانه إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم فذكر أركان القياس الأربعة علة الحكم وهي عموم مشيئته وكمالها والحكم وهو إذهابه بهم وإتيانه بغير والأصل وهو من كان من قبل والفرع وهم المخاطبون
ومنه قوله تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين فأخبر أن من قبل المكذبين أصل يعتبر به والفرع نفوسهم فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة
ومن قوله تعالى إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا فأخبر سبحانه أنه أرسل محمدا ص - إلينا كما أرسل موسى إلى فرعون وأن فرعون عصى رسوله فأخذه أخذا وبيلا فهكذا من عصى منكم محمدا ص - وهذا في القرآن كثير جدا فقد فتح لك بابه
فصل قياس الدلالة
وأما قياس الدلالة فهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة وملزومها ومنه قوله تعالى ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء

اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير فدل سبحانه عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحققوه وشاهدوه على الإحياء الذي استبعدوه وذلك قياس إحياء على إحياء واعتبار الشيء بنظيره والعلة الموجبة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته وإحياء الأرض دليل العلة
ومنه قوله تعالى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون فدل بالنظير على النظير وقرب أحدهما من الآخر جدا بلفظ الإخراج أي يخرجون من الأرض أحياء كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي
ومنه قوله تعالى أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحي الموتى
فبين سبحانه كيفية الخلق واختلاف أحوال الماء في الرحم إلى أن صار منه الزوجان الذكر والأنثى وذلك أمارة وجود صانع قادر على ما يشاء والله سبحانه عباده بما أحدثه في النطفة المهينة الحقيرة من الأطوار وسوقها في مراتب الكمال من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها حتى صارت بشرا سويا في أحسن خلق وتقويم على أنه لا يحسن به أن يترك هذا البشر سدى مهملا معطلا لا يأمره ولا ينهاه ولا يقيمه في عبوديته وقد ساقه في مراتب الكمال من حين كان نطفة إلى أن صار بشرا سويا فكذلك يسوقه في مراتب كماله طبقا بعد طبق وحالا بعد حال إلى أن يصير جاره في داره يتمتع بأنواع النعيم وينظر إلى وجهه ويسمع كلامه
ومنه قوله سبحانه وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه إلى بلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب يخرج نباته بإذن

ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون فأخبر سبحانه أنهما إحياءان وأن أحدهما معتبر بالآخر مقيس عليه ثم ذكر قياسا آخر أن من الأرض ما يكون أرضا طيبة فإذا أنزلنا عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها ومنها ما تكون أرضا خبيثة لا تخرج نباتها إلا نكدا أي قليلا غير منتفع به فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة فشبه سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض بحصول الحياة بهذا وهذا وشبه القلوب بالأرض إذا هي محل الأعمال كما أن الأرض محل النبات وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي ولا يزكو عليه ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر ولا تخرج نباتها به إلا قليلا لا ينفع وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله وتدبره بان أثره عليه فشبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب ويحسن أثر المطر عليه فينبت من كل زوج كريم والمعرض عن الوحي عكسه والله الموفق
ومنه قوله تعالى يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا يقول سبحانه إن كنتم في ريب من البعث فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى فهما نظيران في الإمكان والوقوع فإعادتكم بعد الموت خلقا جديدا كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها
وقد أعاد الله سبحانه هذا المعنى وأبداه في كتابه وبأوجز العبارات وأدلها

وأفصحها وأقطعها للعذر وألزمها للحجة كقوله تعالى أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون فدلهم بالنشأة الأولى على الثانية وأنهم لو تذكروا لعلموا أن لا فرق بينهما في تعلق بكل واحدة منهما وقد جمع سبحانه بين النشأتين في قوله وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى وفي قوله ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى إلى قوله أليس ذلك بقادر على أن يحي الموتى وفي قوله وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون فتضمنت هذه الآيات عشر أدلة أحدها قوله أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فذكره مبدأ خلقه ليدله به على النشأة الثانية ثم أخبر أن هذا الجاحد لو ذكر خلقه لما ضرب المثل بل لما نسي خلقه ضرب المثل فتحت قوله ونسي خلقه ألطف جواب وأبين دليل وهذا كما تقول لمن جحدك أن تكون قد أعطيته شيئا فلان جحدني الإحسان إليه ونسي الثياب التي عليه والمال الذي معه والدار التي هو فيها حيث لا يمكنه جحد أن يكون ذلك منك ثم أجيب عن سؤاله بما يتضمن أبلغ الدليل على ثبوت ما جحده فقال قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فهذا جواب واستدلال قاطع ثم أكد هذا المعنى بالإخبار بعموم علمه لجميع الخلق فإن تعذر الإعادة عليه إنما يكون لقصور علمه أو قصور في قدرته ولا قصور في علم من هو بكل خلق عليم ولا قدرة فوق قدرته من خلق السموات والأرض وإذا أراد شيئا قال له كن

فيكون وبيده ملكوت كل شيء فكيف تعجز قدرته وعلمه عن إحيائكم بعد مماتكم ولم تعجز عن النشأة الأولى ولا عن خلق السموات والأرض
ثم أرشد عباده إلى دليل واضح جلي متضمن للجواب عن شبه المنكرين بألطف الوجوه وأبينها وأقربها إلى العقل فقال الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون فإذن فهذا دليل على قدم قدرته وإخراج الأموات من قبورهم كما أخرج النار من الشجرة الخضراء وفي ذلك جواب عن شبهة من قال من منكري المعاد الموت بارد يابس والحياة طبعها الرطوبة والحرارة فإذا حل الموت بالجسم لم يمكن أن تحل فيه الحياة بعد ذلك لتضاد ما بينهما وهذه شبهة تليق بعقول المكذبين الذين لا سمع لهم ولا عقل فإن الحياة لا تجامع الموت في المحل الواحد ليلزم ما قالوا بل إذا أوجد الله فيه الحياة وطبعها ارتفع الموت وطبعه وهذا الشجر الأخضر طبعه الرطوبة والبرودة تخرج منه النار الحارة اليابسة
ثم ذكر ما هو أوضح للعقول من كل دليل وهو خلق السموات والأرض مع عظمهما وسعتهما وأنه لا نسبة للخلق الضعيف إليهما ومن لم تعجز قدرته وعلمه عن هذا الخلق العظيم الذي هو أكبر من خلق الناس كيف تعجز عن إحيائهم بعد موتهم ثم قرر هذا المعنى بذكر وصفين من أوصافه مستلزمين لما أخبر به فقال بلى وهو الخلاق العليم فكونه خلاقا عليما يقتضي أن يخلق ما يشاء ولا يعجزه ما أرداه من الخلق ثم قرر هذا المعنى بأن عموم إرادته وكمالها لا يقصر عنه ولا عن شيء أبدا فقال إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فلا يمكنه الاستعصاء عليه ولا يتعذر عليه بل يأتي طائعا منقادا لمشيئته وأرادته ثم زاده تأكيدا وإيضاحا بقوله فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء فنزه نفسه عما نطق به أعداؤه المنكرون للمعاد معظما لها بأن ملك كل شيء بيده يتصرف فيه تصرف المالك الحق في مملوكه الذي لا يمكنه الامتناع عن أي تصرف شاءه فيه ثم ختم السورة بقوله وإليه ترجعون كما أنهم ابتدأوا منه

هو فكذلك مرجعهم إليه فمنه المبدأ وإليه المعاد وهو الأول والآخر وأن إلى ربك المنتهى
ومنه قوله تعالى ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فتأمل تضمن هذه الكلمات على اختصارها وإيجازها وبلاغتها للأصل والفرع والعلة والحكم
ومنه قوله تعالى وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا فرد عليهم سبحانه ردا يتضمن الدليل القاطع على قدرته على إعادتهم خلقا جديدا فقال قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فلما استبعدوا أن يعيدهم الله خلقا جديدا بعد أن صاروا عظاما ورفاتا قيل لهم كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم سواء كان الموت أو السماء أو الأرض أو أي خلق استعظمتموه وكبر في صدوركم ومضمون الدليل أنكم مربوبون مخلوقون مقهورون على ما يشاء خالقكم وأنتم لا تقدرون على تغيير أحوالكم من خلقة إلى خلقة لا تقبل الاضمحلال كالحجارة والحديد ومع ذلك فلو كنتم على هذه الخلقة من القوة والشدة لنفذت أحكامي فيكم وقدرتي ومشيئتي ولم تسبقوني ولم تفوتوني كما يقول القائل لمن هو في قبضته اصعد إلى السماء فإني لاحقك أي لو صعدت إلى السماء لحقتك وعلى هذا فمعنى الآية لو كنتم حجارة أو حديدا أو أعظم خلقا من ذلك لما أعجزتموني ولما فتموني وقيل المعنى كونوا حجارة أو حديدا عند أنفسكم أي صوروا أنفسكم وقدروها خلقا لا يضمحل ولا ينحل فإنا سنميتكم ثم نحييكم ونعيدكم خلقا جديدا وبين المعنيين فرق لطيف فإن المعنى الأول يقتضي أنكم لو قدرتم على نقل خلقتكم من حالة إلى حالة هي أشد منها وأقوى لنفذت مشيئتنا وقدرتنا فيكم ولم تعجزونا فكيف وأنتم عاجزون عن ذلك

والمعنى الثاني يقتضي أنكم صوروا أنفسكم وأنزلوها هذه المنزلة ثم انظروا أتفوتونا وتعجزونا أم قدرتنا ومشيئتنا محيطة بكم ولو كنتم كذلك وهذا من أبلغ البراهين القاطعة التي لا تعرض فيها شبهة البتة بل لا تجد العقول السليمة عن الإذعان والانقياد لها بدا فلما علم القوم صحة هذا البرهان وأنه ضروري انتقلوا إلى المطالبة بمن يعيدهم فقالوا من يعيدنا وهذا سواء كان سؤالا منهم عن تعيين المعيد أو إنكارا منهم له فهو من أقبح التعنت وأبينه ولهذا كان جوابه قل الذي فطركم أول مرة ولما علم القوم أن هذا جواب قاطع انتقلوا إلى باب آخر من التعنت وهو السؤال عن وقت هذه الإعادة فأنغضوا إليه رءوسهم وقالوا متى هو فقال تعالى قل عسى أن يكون قريبا فليتأمل اللبيب لطف موقع هذا الدليل واستلزامه لمدلوله استلزاما لا محيد عنه وما تضمنه من السؤالات والجواب عنها أبلغ جواب وأصحه وأوضحه فلله ما يفوت المعرضين عن تدبر القرآن المتعوضين عنه بزبالة الأذهان ونخالة الأفكار
ومنه قوله تعالى وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وقوله تعالى ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير جعل الله سبحانه إحياء الأرض بعد موتها نظير إحياء الأموات وإخراج النبات منها نظير إخراجهم من القبور ودل بالنظير على نظيره وجعل ذلك آية ودليلا على خمسة

مطالب أحدها وجود الصانع وأنه الحق المبين وذلك يستلزم إثبات صفات كماله وقدرته وإرادته وحياته وعلمه وحكمته ورحمته وأفعاله الثاني أنه يحي الموتى الثالث عموم قدرته على كل شيء الرابع إتيان الساعة وأنه لا ريب فيها الخامس أنه يخرج الموتى من القبور كما أخرج النبات من الأرض
وقد كرر سبحانه ذكر هذا الدليل في كتابه مرارا لصحة مقدماته ووضوح دلالته وقرب تناوله وبعده من كل معارضة وشبهة وجعله تبصرة وذكرى كما قال تعالى والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل هبد منيب فالمنيب إلى ربه يتذكر بذلك فإذا تذكر تبصر به فالتذكر قبل التبصر وإن قدم عليه في اللفظ كما قال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون والتذكر تفعل من الذكر وهو حضور صورة من المذكور في القلب فإذا استحضره القلب وشاهده على وجهه أوجب له البصيرة فأبصر ما جعل دليلا عليه فكان في حقه تبصرة وذكرى والهدى مداره على هذين الأصلين التذكر والتبصر
وقد دعا سبحانه الإنسان إلى أن ينظر في مبدأ خلقه ورزقه ويستدل بذلك على معاده وصدق ما أخبرت به الرسل فقال في الأول فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فالدافق على بابه ليس فاعلا بمعنى مفعول كما يظنه بعضهم بل هو بمنزلة ماء جار وواقف وساكن ولا خلاف أن المراد بالصلب صلب الرجل واختلف في الترائب فقيل المراد به ترائبه أيضا وهي عظام الصدر ما بين الترقوة إلى الثندوة وقيل المراد ترائب المرأة والأول أظهر لأنه سبحانه قال يخرج من بين الصلب والترائب ولم يقل يخرج من الصلب والترائب فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجا من بين هذين المختلفين

كما قال في اللبن يخرج من بين فرث ودم وأيضا فإنه سبحانه أخبر أنه خلقه من نطفة في غير موضع والنطفة هي ماء الرجل كذلك قال أهل اللغة قال الجوهري والنطفة الماء الصافي قل أو كثر والنطفة ماء الرجل والجمع نطف وأيضا فإن الذي يوصف بالدفق والنضح إنما هو ماء الرجل ولا يقال نضحت المرأة الماء ولا دفقته والذي أوجب لأصحاب القول الآخر ذلك أنهم رأوا أهل اللغة قالوا الترائب موضع القلادة من الصدر قال الزجاج أهل اللغة مجمعون على ذلك وأنشدوا لامرىء القيس ... مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل ...
وهذا لا يدل على اختصاص الترائب بالمرأة بل بطلق على الرجل والمرأة قال الجوهري الترائب عظام الصدر ما بين الترقوة والثندوة
وقوله إنه على رجعه لقادر الصحيح أن الضمير يرجع على الإنسان أي أن الله على رده إليه لقادر يوم القيامة وهو اليوم الذي تبلى فيه السرائر ومن قال أن الضمير يرجع على الماء أي إن الله على رجعه في الإحليل أو في الصدر أو حبسه عن الخروج لقادر فقد أبعد وإن كان الله سبحانه قادرا على ذلك ولكن السياق يأباه وطريقة القرآن وهي الاستدلال بالمبدأ والنشأة الأولى على المعاد والرجوع إليه وأيضا فإنه قيده بالظرف وهو يوم تبلى السرائر والمقصود أنه سبحانه دعا الإنسان أن ينظر في مبدأ خلقه ورزقه فإن ذلك يدله دلالة ظاهرة على معاده ورجوعه إلى ربه

وقال تعالى فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا فجعل سبحانه نظره في إخراج طعامه من الأرض دليلا على إخراجه هو منها بعد موته استدلالا بالنظير على النظير
ومن ذلك قوله سبحانه ردا على الذين قالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم أي مثل هؤلاء المكذبين والمراد به النشأة الثانية وهي الخلق الجديد وهي المثل المذكور في غير موضع وهم هم بأعيانهم فلا تنافي في شيء من ذلك بل هو الحق الذي دل عليه العقل والسمع ومن لم يفهم ذلك حق فهمه تخبط عليه أمر المعاد وبقي منه في أمر مريج والمقصود أنه دلهم سبحانه بخلق السموات والأرض على الإعادة والبعث وأكد هذا القياس بضرب من الأولى وهو أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس فالقادر على خلق ما هو أكبر وأعظم منكم أقدر على خلقكم وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته فليس مع المكذبين بالقيامة إلا مجرد تكذيب الله ورسوله وتعجيز قدرته ونسبة علمه إلى القصور والقدح في حكمته ولهذا يخبر الله سبحانه عمن أنكر ذلك بأنه كافر بربه جاحد له لم يقر برب العالمين فاطر السموات والأرض كما قال تعالى وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وقال المؤمن للكافر الذي قال وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا فقال له أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا فمنكر المعاد كافر برب العالمين وإن زعم أنه مقر به
ومنه قوله تعالى قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشأ النشأة الآخرة يقول تعالى انظروا كيف بدأت الخلق فاعتبروا الإعادة بالابتداء

ومنه قوله تعالى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون وقوله تعالى فانظروا إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير
وقوله ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج وقال تعالى يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول خلق نعيده ودعا علينا والسجل الورق المكتوب فيه والكتاب نفس المكتوب واللام بمنزلة على أي نطوي السماء كطي الدرج على ما فيه من السطور المكتوبة ثم استدل على النظير بالنظير فقال كما بدأنا أول خلق نعيده
فصل قياس الشبه
وأما قياس الشبه فلم يحكمه الله سبحانه إلا عن المبطلين فمنه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصواع في رحل أخيهم إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فلم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة ولا دليلها وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف فقالوا هذا مقيس على أخيه بينهما شبه من وجوه عديدة وذاك قد سرق فكذلك هذا وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي وهو قياس فاسد والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كانت حقا ولا دليل على التساوي فيها فيكون الجمع لنوع شبه خال عن العلة ودليلها

ومنه قوله تعالى إخبارا عن الكفار أنهم قالوا ما نراك إلا بشرا مثلنا فاعتبروا صورة مجرد الآدمية وشبه المجانسة فيها واستدلوا بذلك على أن حكم أحد الشبهين حكم الآخر فكما لا نكون نحن رسلا فكذلك أنتم فإذا تساوينا في هذا الشبه فأنتم مثلنا لا مزية لكم علينا وهذا من أبطل القياس فإن الواقع من التخصيص والتفضيل وجعل بعض هذا النوع شريفا وبعضه دنيا وبعضه مرءوسا وبعضه رئيسا وبعضه ملكا وبعضه سوقة يبطل هذا القياس كما أشار سبحانه إلى ذلك في قوله أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون وأجابت الرسل عن هذا السؤال بقولهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وأجاب الله سبحانه عنه بقوله الله أعلم حيث يجعل رسالاته وكذلك قوله سبحانه وقال الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون فاعتبروا المساواة في البشرية وما هو من خصائصها من الأكل والشرب وهذا مجرد قياس شبه وجمع صوري ونظير هذا قوله ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا
ومن هذا قياس المشركين الربا على البيع بمجرد الشبه الصوري ومنه قياسهم الميتة على الذكي في إباحة الأكل بمجرد الشبه
وبالجملة فلم يجىء هذا القياس في القرآن إلا مردودا مذموما ومن ذلك قوله تعالى إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم

أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها فبين الله سبحانه أن هذه الأصنام أشباح وصور خالية عن صفات الإلهية وأن المعنى المعتبر معدوم فيها وأنها لو دعيت لم تجب فهي صورة خالية عن أوصاف ومعان تقتضي عبادتها وزاد هذا تقريرا بقوله ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها أي أن جميع ما لهذه الأصنام من الأعضاء التي نحتتها أيديكم إنما هي صور عاطلة عن حقائقها وصفاتها لأن المعنى المراد المختص بالرجل هو مشيها وهو معدوم في هذه الرجل والمعنى المختص باليد هو بطشها وهو معدوم في هذه اليد والمراد بالعين إبصارها وهو معدوم في هذه العين ومن الأذن سمعها وهو معدوم فيها والصور في ذلك كله ثابتة موجودة وكلها فارغة خالية من الأوصاف والمعاني فاستوى وجودها وعدمها وهذا كله مدحض لقياس الشبه الخالي عن العلة المؤثرة والوصف المقتضي للحكم والله أعلم
فصل معنى المثل وحكمة ذكره في القرآن
ومن هذا ما وقع في القرآن من الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون فإنها تشبيه شيء بشيء في حكمه وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر كقوله تعالى في حق المنافقين مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت إلى قوله إن الله على كل شيء قدير فضرب للمنافقين بحسب حالهم مثلين مثلا ناريا ومثلا مائيا لما في النار والماء من الإضاءة والإشراق والحياة فإن النار مادة النور

والماء مادة الحياة وقد جعل الله سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء متضمنا لحياة القلوب واستنارتها ولهذا سماه روحا ونورا وجعل قابليه أحياء في النور ومن لم يرفع به رأسا أمواتا في الظلمات وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي وأنهم بمنزلة من استوقد نارا لتضيء له وينتفع بها وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاءوا به وانتفعوا به وآمنوا به وخالطوا المسلمين ولكن لما ألم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طفىء عنهم وذهب الله بنورهم ولم يقل بنارهم فإن النار فيها الإضاءة والإحراق فذهب الله بما فيها من الاضاءة وأبقى عليهم ما فيها من وتركهم في ظلمات لا يبصرون فهذا حال من أبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه فهو لا يرجع ولهذا قال فهم لا يرجعون ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي فشبههم بأصحاب صيب وهو المطر الذي يصوب أي ينزل من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق فلضعف بصائرهم وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق فلضعفه وخوره جعل أصبعيه في أذنيه وغمض عينيه خشية من صاعقة تصيبه وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثير من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ويقول مخنثهم سدوا عنا هذا الباب واقرأوا شيئا غير هذا وترى قلوبهم مولية وهو يجمحون لثقل معرفة الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم وكذلك المشركون على اختلاف شركهم إذا جرد لهم التوحيد وتليت عليهم النصوص المبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم وثقلت عليهم ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا ولذلك تجد أعداء أصحاب رسول الله ص - إذا سمعوا نصوص الثناء على الخلفاء

الراشدين وصحابة رسول الله ص - ثقل ذلك عليهم جدا وأنكرته قلوبهم وهذا كله شبه ظاهر ومثل محقق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه الله لهم بالماء فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم
فصل المثل في حق المؤمن
وقد ذكر الله المثلين المائي والناري في سورة الرعد ولكن في حق المؤمنين فقال تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات وشبه القلوب بالأودية فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير فسالت أودية بقدرها واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتمل غثاء وزبدا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه فيتكدر بها شاربه وهي من تمام نفع الدواء فإنه أثارها ليذهب بها فإنه لا يجامعها ولا يشاركها وهكذا يضرب الله الحق والباطل ثم ذكر المثل الناري فقال ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتخرجه النار وتميزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطرح ويذهب جفاء

فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يستقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم كذلك يستقر في قرار القبل وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما و يعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما والله الموفق
فصل
ومنها قوله تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها وتعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتعشب ويحسن نباتها ويروق منظرها للناظر فيغتر به ويظن أنه قادر عليها مالك لها فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة فتصبح كأن لم تكن قبل فيخيب ظنه وتصبح يداه صفرا منها فكذا حال الدنيا والواثق بها سواء وهذا من أبلغ التشبيه والقياس ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها قال والله يدعو إلى دار السلام فسماها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا فعم بالدعوة إليها وخص بالهداية من يشاء فذاك عدله وهذا فضله

فصل
ومنها قوله تعالى مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون فإنه سبحانه ذكر الكفار ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن وجعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه فشبهه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء وسمعه أصم عن سماع الأصوات والفريق الآخر بصير القلب سميعه كبصير العين وسميع الأذن فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله هل يستويان مثلا
ومنها قوله تعالى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون فذكر سبحانه أنهم ضعفاء وأن الذين اتخذوهم أولياءهم أضعف منهم فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتا وهو من أوهن البيوت وأضعفها وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفا كما قال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وقال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب

فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به ويتكبر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده وفي القرآن أكثر من ذلك وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده
فإن قيل فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فكيف نفي عنهم علم ذلك بقوله لو كانوا يعلمون
فالجواب أنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا فلو علموا ذلك لما فعلوه ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا وقدرة فكان الأمر بخلاف ما ظنوه
فصل
ومنها قوله تعالى والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
ذكر سبحانه للكافرين مثلين مثلا بالسراب ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان أحدهما من يظن انه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له وهكذا

الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك وهذه هي الأعمال التي قال الله تعالى فيها وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات والعالم فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها والسراب لا حقيقة له وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى وتأمل ما تحت قوله يحسبه الظمآن والظمآن الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجده شيئا بل خانه أحوج ما كان إليه فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول ولغير الله جعلت كالسراب فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا ووجدوا الله سبحانه ثم فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ص - في حديث التجلي يوم القيامة ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب فيقال لليهود ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد عزير ابن الله فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون قالوا نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم ثم يقال للنصارى ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون فيقولون نريد أن تسقينا فيقال لهم اشربوا فيتساقطون وذكر الحديث وهذه حال كل صاحب باطل فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه فإن الباطل لا حقيقة له وهو كاسمه باطل فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة كالعمل لغير الله أو على غير أمره بطل العمل ببطلان غايته وتضرر عامله ببطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا له ولا عليه بل صار معذبا بفوات نفعه وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى

فصل
النوع الثاني أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال فتراكمت عليهم ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين وظلمة اتباع الغنى والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج ومن فوقه سحاب مظلم فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهو الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين الذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين وهو المثل المائي والمثل الناري وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له وحظهم الظلمات المتراكمة وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى وآثروا الباطل على الحق وعموا عنه بعد أن أبصروه وجحدوه بعد أن عرفوه فهذا حال المغضوب عليهم والأول حال الضالين وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح إلى قوله ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم وهم أهل النور

والضالين هم أصحاب السراب والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة والله أعلم
فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع والمثل الثاني لأصحاب العلم الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم وهكذا أمواج الشكوك والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين يعرف عظمة القرآن وجلالته وأنه تنزيل من حكيم حميد
وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورا بل تركهم في على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر أن النبي ص - قال إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحي به قلبه وروحه كما يحي بدنه بالروح التي ينفخها فيه فهما حياتان حياة البدن بالروح وحياة الروح والقلب بالنور ولهذا سمى سبحانه الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه كما قال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده وقال يلفني الروح من أمره على من يشاء من عباده وقال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فجعل وحيه روحا ونورا فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات ما له من نور

فصل
ومنها قوله تعالى أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا فشبه أكثر الناس بالأنعام والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له وجعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق فلا تحيد عنها يمينا ولا شمالا والأكثرون يدعوهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتتجنبه وما ينفعها فتؤثره والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها ولا ألسنة تنطق بها وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل إليه أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه
فصل
ومنها قوله تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون وهذا دليل قياس احتج الله سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم لا يحتاجون فيها إلى غيرهم ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها معلوم لها فقال هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك

سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه وقال ابن عباس تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا والمعنى هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعفولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبيد لي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول
فصل قياس الطرد وقياس العكس
ومنها قوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو و من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه فإن القياس نوعان قياس طرد يقتضي إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه وقياس عكس يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه فالمثل الأول ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان فالله سبحانه هو المالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا وليلا ونهارا يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء فكيف يجعلونها شركاء لي ويعبدونها من دوني

مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين هذا قول مجاهد وغيره وقال ابن عباس هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء والقول الأول أشبه بالمراد فإنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسبا بقوله ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ثم قال ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموجد كمن رزقه منه رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء فهذا ما نبه عليه المثل وأرشد إليه فذكره ابن عباس منبها على إرادته لا أن الآية اختصت به فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره فيحكيه قوله
فصل
وأما المثل الثاني فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبد من دونه أيضا فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان قد عدم النطق القلبي واللساني ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير ولا يقضي لك حاجة والله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد فإن أمره بالعدل وهو الحق يتضمن أنه

سبحانه عالم به معلم له راض به آمر لعباده به محب لأهله لا يأمر بسواه بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل بل أمره وشرعه عدل كله وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه وهو المجاورون له عن يمينه على منابر من نور وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما كما في الحديث الصحيح اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك فقضاؤه هو أمره الكوني فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فلا يأمر إلا بحق وعدل وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فالقضاء غير المقضي والقدر غير المقدر ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم وهذا نظير قول رسوله شعيب إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فقوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها نظير قوله ناصيتي بيدك وقوله إن ربي على صراط مستقيم نظير قوله عدل في قضاؤك فالأول ملكه والثاني حمده وهو سبحانه له الملك وله الحمد وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي يقضى على العبد بما يكون ظالما له به ولا يأخذه بغير ذنبه ولا ينقصه من حسناته شيئا ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله
قال محمد بن جرير الطبري وقوله إن ربي على صراط مستقيم يقول

إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته لا يظلم أحدا منهم شيئا ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به ثم حكى عن مجاهد من طريق شبل بن أبي نجيح عنه إن ربي على صراط مستقيم قال الحق وكذلك رواه ابن جريج عنه
وقالت فرقة هي مثل قوله إن ربك لبالمرصاد وهذا اختلاف عبارة فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته
وقالت فرقة في الكلام حذف تقديره إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم فقد أصابوا
وقالت فرقة أخرى معنى كونه على صراط مستقيم أن مراد العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه فهو حق
وقالت فرقة أخرى معناه كل شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية وقد فرق شعيب بين قوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وبين قوله إن ربي على صراط مستقيم فهما معنيان مستقلان
فالقول قول مجاهد وهو قول أئمة التفسير ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز

أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم ...
وقد قال تعالى من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله وبالله التوفيق
فصل
وفي الآية قول ثان مثل الأية سواء أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقد تقدم ما في هذا القول وبالله التوفيق
فصل
ومنها قوله تعالى في تشبيه من أعرض عن كلامه وتدبره فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد أو الرماة ففرت منه وهذا من بديع القياس والتمثيل فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسوله كالحمر وهي لا تعقل شيئا فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور وهذا غاية الذم لهؤلاء فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضه على النفور فإن في الاستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد فكأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه ومن قرأها بفتح الفاء فالمعنى أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته

فصل
ومنها قوله تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين فقاس من حمله سبحانه كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه ثم خالف ذلك ولم يحمله إلا على ظهر قلب فقراءته بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له ولا تحكيم له وعمل بموجبه كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها وحظه منها حمله على ظهره ليس إلا فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته
فصل
ومنها قوله تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحم عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون فشبه سبحانه من أتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به واتبع هواه وآثر سخط الله على رضاه ودنياه على آخرته والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات وأوضعها قدرا وأخسها نفسا وهمته لا تتعدى بطنه وأشدها شرها وحرصا ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض بتشمم ويستروح حرصا وشرها ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه وإذا رميت

إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم الطري والعذرة أحب إليه من الحلوى وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هر عليه وقهره لحرصه وبخله وشرهه ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال زرية نبحه وحمل عليه كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة وضع له خطمه بالأرض وخضع له ولم يرفع إليه رأسه
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سر بديع وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى قال ابن جريج الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع قلت مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عنها وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء وإذا عطش أكل الثرى من العطش وإن كان فيه صبر على الجوع وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا يلهث قائما وقاعدا وماشيا وواقفا وذلك لشدة حرصه فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث فهكذا مشبهه شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهف فإن حملت عليه

الموعظة والنصيحة فهو يلهف وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف قال مجاهد وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به وقال ابن عباس إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يهتد إلى خير كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث وقال الحسن هو المنافق لا يثبت على الحق دعي أو لم يدع وعظ أو لم يوعظ كالكلب يلهث طرد أو ترك وقال عطاء ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه وقال أبو محمد بن قتيبة كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا ا لكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته وقال إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث ونظيره قوله سبحانه وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون
وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعنى فمنها قوله آتيناه آياتنا فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه فأضافها إلى نفسه ثم قال فانسلخ منها أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه ومنها قوله سبحانه فأتبعه الشيطان أي لحقه وأدركه كما قال في قوم فرعون فأتبعوهم مشرقين وكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرة وخطفة فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء ومنها أنه سبحانه قال ولو شئنا لرفعناه بها فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم فإن هذا كان من العلماء وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به

فنعوذ بالله من علم لا ينفع وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم وإن لم يرفعه الله فهو موضوع لا يرفع أحد به رأسا فإن الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه والمعنى لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه قال ابن عباس ولو شئنا لرفعناه بعمله بها وقالت طائفة الضمير في قوله لرفعناه عائد على الكفر والمعنى لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا قال مجاهد وعطاء لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه وهذا المعنى حق والأول هو مراد الآية وهذا من لوازم المراد وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها وقوله ولكنه أخلد إلى الأرض قال سعيد بن جبير ركن إلى الأرض وقال مجاهد سكن وقال مقاتل رضي بالدنيا وقال أبو عبيدة لزمها وأبطأ والمخلد من الرجال هو الذي يبطيء مشيته ومن الدواب التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته وقال الزجاج خلد وأخلد وأصله من الخلود وهو الدوام والبقاء ويقال أخلد فلان بالمكان إذا أقام به قال مالك بن نويرة ... بأبناء حي من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا ...
قلت ومنه قوله تعالى يطوف عليهم ولدان مخلدون أي قد خلقوا للبقاء لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون وهم على سن واحد أبدا وقيل هم المقرطون في آذانهم والمسورون في أيديهم وأصحاب هذا القول فسروا اللفظة ببعض لوازمها وذلك أمارة التخليد على ذلك السن فلا تنافي بين القولين وقوله واتبع هواه قال الكلبي اتبع مسافل الأمور وترك معاليها وقال أبو روق اختار الدنيا على الآخرة وقال عطاء أراد الدنيا وأطاع شيطانه وقال ابن دريد كان هواه مع القوم يعني الذين حاربوا موسى وقومه وقال يمان اتبع امرأته لأنها هي التي حملته على ما فعل

فإن قيل الاستدراك بلكن يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها أو ينفي ما أثبت كما تقول لو شئت لأعطيته لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته فالاستدراك يقتضي ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ أو لم نرفع فكيف استدرك بقوله ولكنه أخلد إلى الأرض بعد قوله ولو شئنا لرفعناه بها
قيل هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أن مضمون قوله ولو شئنا لرفعناه بها أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات من إيثار الله ومرضاته على هواه ولكنه آثر الدنيا وأخلد إلى الأرض واتبع هواه
وقال الزمخشري المعنى لو لزم آياتنا لرفعناه بها فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل ولو لزمها لرفعناه بها قال ألا ترى إلى قوله ولكنه أخلد فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون ولو شئنا في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال لو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ فهذا منه شنشنة نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا قدريا فأين قوله ولو شئنا من قوله ولو لزمها ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله وهو الحق بطل أصله وقوله إن مشيئة الله تابعة للزومه الآيات من أفسد الكلام وأبطله بل لزومه لآياته تابع لمشيئة الله فمشيئة الله سبحانه متبوعة لا تابعة وسبب لا مسبب وموجب مقتض لا مقتضى فما شاء الله وجب وجوده ولم لم يشأ امتنع وجوده
فصل
ومنها قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض

الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم وهذا من أحسن القياس التمثيلي فإنه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه ولما كان المرتاب يمزق عرض أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت ولما كان المغتاب عاجزا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبا عن ذمه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن كان ذلك نظير تقطيع لحم أخيه والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه ولما كان المغتاب متمتعا بعرض أخيه متفكها بغيبته وذمه متحليا بذلك شبه بآكل لحم أخيه بعد تقطيعه ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به شبه بمن يحب أن يأكل لحم أخيه ميتا ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه
فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه ومطابقة المعقول فيه المحسوس وتأمل إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا ووصفهم بذلك في آخر الآية والإنكار عليهم في أولها أن يحب أحدهم ذلك فكما أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم وهم أشد شيء نفرة عنه فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا أشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه وبالله التوفيق
فصل
ومنها قوله تعالى مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد

فشبه تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان وكونها لغير الله تعالى وعلى غير أمره برماد طيرته الريح العاصف فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه فلذلك قال لا يقدرون مما كسبوا على شيء لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء فلا يرون له أثرا من ثواب ولا فائدة نافعة فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه موافقا لشرعه والأعمال أربعة فواحد مقبول وثلاثة مردودة فالمقبول الخالص الصواب فالخالص أن يكون لله لا لغيره والصواب أن يكون مما شرعه الله على لسان رسوله والثلاثة مردودة ما خالف ذلك
وفي تشبيهها بالرماد سر بديع وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا فكانت الأعمال التي لغير الله وعلى غير مراده طعمة للنار وبها تسعر النار على أصحابها وينشىء الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارا وعذابا كما ينشىء لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"