بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 6 مايو 2013



الأكاديمية الإسلامية المفتوحة
الدورة العلمية الثالثة
مقاصد الشريعة (5)
د. عمر بن عمر


تحدثنا في سبق عن المصلحة وتعريفها، ومراتبها، وضوابط المصلحة المعتبرة شرعًا، وأنه لا يُلتفت إلى المصلحة التي لم يعتبرها الشارع، حتى ولو زين لنا الشيطان، أو زينت لنا أهواؤنا بأن هذه مصلحة؛ فلا ينبغي أن يُلتفت إليها، وإنما المصلحة هي التي حددها الشارع، وبينها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه، أوبينها رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في سنته، أو اجتهد فيها العلماء، وبيَّنَّا كذلك شروط وضوابط مَن أراد أن ينظر في الأفعال هل هي من قبيل المصالح أو ليست من قبيل المصالح.
وانتهى بنا الحديث إلى شروط المصلحة، وقلنا: شروطها تتمثل في أيش؟
1- أن تكون ضرورية.
2- كليَّة.
3- قطعيَّة.
4- لا تتعارض مع النص الشرعي.
5- لا تفوِّت مصلحة أعلى.
إن شاء الله نكون من أصحاب اليمين، وإن شاء الله كما اجتمعنا هنا نجتمع على حوض نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ونشرب منه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا. قولوا آمين.
قلنا الشرط الخامس: ألا تفوت مصلحة أكبر منها.
إمامنا الشاطبي -رحمه الله- ذكر قصد الشارع -أو مقاصد الشريعة- وحصرها في أربعة، وهي:
- قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً: وهذ ما يعني به المصلحة، وما يتعلق بالمصلحة.
- ثم بعد ذلك قال: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام: أي أن الشارع ما وضع هذه الشريعة إلا ليفهمها الناس.
ولهذا كما قال الله -سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4].
فهذه الشريعة جاءت لتُفهَم، ولهذا جاءت باللغة العربية وهي مفهومة، والقرآن حمَّال أوجه، ممكن أنت تفهم من هذه الآية شيئًا، والآخر يفهم منها شيئًا آخر، لا حرج.
ولهذا عندما ننظر في تفسير سادتنا العلماء -رحمهم الله- نجد أشياء كثيرة، وكل واحد يفسر بما أوصله الله إليه.
- القصد الثالث، قال: وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها.
- والقصد الرابع قال: وضع الشريعة لإخراج المكلف -هذا فيما معناه- عن داعية أهوائه: أي أن هذه الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن أهوائهم، لأن النفس -كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: 53]، فالنفس -كما يُقال في الأمثال: "النفس طماعة فعودها القناعة".
ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى ثالث، وما يملأ بطن ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب».
فهذه كما ذكرنا المقاصد الأربعة، هذه التي ذكرها الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات، لكن اليوم -بإذن الله- سنتحدث عن قصد المكلف، أي قصد المكلفين، تحبون المقاصد في أربعة أيام! 45×4 = 180 أي ثلاث ساعات، تحبون تأخذون المقاصد كلها في ثلاث ساعات؟!
ما شاء الله! الناس جلست عليها سنوات حتى تأخذ هذا العلم، فهذا يحتاج إلى طول وقت وإلى صبر وإلى مصابرة حتى نفهم أيش هي مقاصد ديننا وكذا، ولكن ما لا يُدرك كله لا يُترك جُلَّه، معناها: ما لم نستطع إعطاؤه إياكم ؛ نعطيكم في هذا الدرس المبارك في هذا المبارك مع هذه الوجوه المباركة؛ نعطي نوع من الومضات للمقاصد، وبعد ذلك كل منكم يغرف -إن شاء الله- من بحر المقاصد من كتب المقاصد، وإذا ما فهمتوا شيء رقبتي سدَّادة، خذوا التليفون واعملوا دعاية للتليفونات، واسألوا ونجاوبكم.
فنتحدث اليوم -إن شاء الله- عن مقاصد المكلفين.
لأن إخوتي الكرام لماذا مقاصد المكلف؟ لماذا اختيار هذا الموضوع؟
لأن مقاصد الشريعة تظل مجرد شعارات ومجر نظريات إذا لم يكن قصد المكلف موافقًا لقصد الشارع، لابد أن نحسن قصدنا، لابد أن يكون قصدنا حسن، وأن يكون قصدنا صالح حتى يتوافق قصدنا مع قصد الشارع، فالذي يهمنا في هذا الكلام أن قصد المكلف ينبغي أن يكون موافقًا لقصد الشارع، وإذا لم يكن موافقًا لقصد الشارع فمعنى هذا أننا لا نستطيع أن نحقق من قصد الشارع شيئًا.
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله: "لا ينبغي للمكلف أن يخالف ما قصده الشارع".
وقصد الشارع أيش هو؟
قصد الشارع هو: تحصيل الضروريات وما يكملها.
أيش يكملها؟
الحاجيات والتحسينيات.
فقصد الشارع هو المحافظة على هذه الضروريات وما يكملها، وكل من ابتغى في تكاليف الشريعة ما يُناقدها فهو يناقض الشريعة.
ربي قال: الصلاة. والصلاة كما بيَّن القرآن أن المقصد منها أيش؟
النهي -بارك الله فيكم جميعًا- عن الفحشاء والمنكر، كما قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45].
فإذا كان قصد المكلف من هذه الصلاة ليس هذا القصد، وليس هذا الهدف، وليست هذه الغاية؛ وإنما قصده أن يُقال فلان مصلي ما شاء الله عليه!
أحكي لكم نكتة: قال: واحد كان يصلي في المسجد، ففيه اثنين جالسين يرياه يصلي، فالتفوا لبعضهما وقالا: ما شاء الله ما شاء الله! ما أحلى صلاته!
فالتفت لهم وهو يصلي وقال: ومع ذلك فأنا صائم.
يعني زيدوا واشكروا لي.
صلى وصام لأمر أردا أن يقضيه، فلما قضاه فلا صلى ولا صام، فيه ناس هدفهم الرياء -والعياذ بالله.
ولذا حذرنا منه نبينا -صلى الله عليه وسلم- «إياكم والشرك الأصغر».
قالوا: وما الشرك الأصغر؟
قال: «الرياء».
والحديث يطول في الرياء، فلهذا لابد أن يكون قصد المكلف موافقًا لقصد الشارع.
وما الدليل على أن الشارع اهتمَّ بقصد المكلفين؟
في القرآن وفي السنة، قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]، وآية ثانية: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام 162، 163].
أي حياتي كلها لله، فيه أنشودة اسمها حياتي كلها لله، ما عندنا وقت! ولو كان عندنا وقت لكنا جئنا بواحد وقلنا له يقول لنا بيتين.
فقصد الإنسان لابد من الاهتمام به، أن حياتك يا مسلم كلها ينبغي أن تتوجه لله -سبحانه وتعالى.
يقول معاذ في جلسة مع أبي موسى الأشعري -والحديث في البخاري- يقول له: "إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي".
ما معنى احتسب نومتي؟
أي أحتسب أجرها عند الله -سبحانه وتعالى-، ونحن إن شاء الله -كما ذكرنا- على أبواب رمضان، ونسأل الله أن يبلغنا رمضان، وإن شاء الله نصومه بالصحة والعافية جميعًا.
فيقول المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا»، ما معنى «واحتسابًا»؟
أي يحتسب أجره عن الله، ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9].
فقال: "إني أحتسب نومتي"، أي حتى النوم.
النوم مباح أو لا؟ أو واجب؟
مباح، تحب ترقد؛ ارقد، ما تحب أن ترقد؛ فلا ترقد، نعم.
والأكل مباح في الكل، وهذا موضوع مهم في الموافقات لطلبة العلم، وأن يطلعوا عليه في الجزء الأول عندما تكلم عن المباح، لأن الأحكام التكليفية -إخوتي الكرام- خمسة: الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والمحرم.
وعند الحنفية سبعة، زادوا "الفرض" قبل "الواجب"، والواجب، وبعده المندوب، وبعده المباح، وبعده المكروه تنزيهًا، وزادوا المكروه تحريمًا، والمحرم، صاروا سبعة.
فالمباح حكم من الحكام التكليفية، فهو: ما لا يُثاب فاعله، ولا يُعاقب تاركه.
تحب تلبس جبَّة بيضاء؛ البس، تحب تلبس جبَّة خضراء؛ البس، لا يأتي واحد يحاسبني يقول لي: لماذا لبست؟!
تحب تلبس غترة -والغترة عند السعوديين بيضاء- تحب تعمل شماغ أحمر؛ اعمل، مباح، كله يدخل في دائرة الإباحة.
تحب تأكل مكرونة؛ كل، تحب تأكل كسكسي؛ كل؛ فهذه كله مباح.
هذا المباح يقول الإمام الشاطبي: "قد يتحول المباح بصالح القصد -والكلام بمعناه ليس بلفظه- إلى عبادة وقربة"، أي أن هذا المباح تحول من شيء لا يؤجر عليه الإنسان إلى شيء يؤجر عليه ويثاب، بماذا؟
بالنية، بالقصد الحسن، بالقصد الصالح.
ولذا يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
«إنما الأعمال بالنيات»، معناها يا طلبة العلم: هذا فيه موضوع وفيه قاعدة أصولية، وهي دلالة الاقتضاء.
لأن أنواع الدلالات:
- دلالة العبارة.
- ودلالة الإشارة.
- ودلالة النص.
- ودلالة الاقتضاء.
معناها أننا نفهم النصوص، ولهذا إخواننا تبحروا في العلم، اقرؤوا ولا تتعبوا، وما تقول: قرأت كلمتين، أو قرات حديث أو حديثين، حتى لو حفظت القرآن كاملًا؛ لابد لفهم هذا القرآن من علوم، وهي التي يسمونها علوم الآلة، مثل النجار، أليس النجار عنده آلاته أو لا؟
فهذه آلات الصنعة، لازم يكون عندك أيها الطلب للعلم أداوت -آلات- حتى تفهم النص، لأن غدًا ستجلس في هذا المجلس -إن شاء الله- وستجلس في محلس اعلى منه، وتخاطب الناس وتفتي الناس، ستفتي الناس بأيش؟
لازم يكون عندك فهم لما قرره سادتنا العلماء من أول ما جاؤوا من عهد الصحابة، صحيح أصول الفقه لم يكن مدونًا في عهد صحابة رسول الله، وإنما كانوا يفهمونه بالسَّليقة، مثل الشعراء أيام زمان كانوا يقولون الشعر بالسَّليقة حتى جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي فوضوع علم الشعر الذي يسمونه علم العَروض.
الأصول ظل كذلك، بالسَّليقة الناس تفهم أن هذا ناسخ وهذا منسوخ، أن هذا مطلق وهذا مقيد، وأن هذا عام وهذا خاص خصصه، إلى غير ذلك، تفهمها بالسليقة، حتى جاء مَن؟
الإمام الشافعي فكتب كتابه الرسالة، فتعتبر الرسالة هي أول مؤلف ألف في أصول الفقه.
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما الأعمال »، هل معناها أنه لا عمل بدون نية؟
فيه أعمال بدون نية، طيب كيف الرسول قال: «إنما العمال بالنيات»؟
معناها: كأن قال: ما فيه عمل إلا بالنية.
فهذا الكلام يقتضي كلامًا، أي كأنه قال -صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما العمال المتقبلة ما كانت مصحوبة بنية".
ولهذا قال معاذ: "إني احتسب نومتي كما احتسب قومتي"، ما معنى "قومتي"؟
أي قيام الليل.
معناها: اعتبر هذه النومة التي يرقدها -وهي مباحة- قال أعتبر أجرها كاعتبار أجر صلاة ركعات في الليل.
فانت أيها المسلم إذا حسن وصلح قصدك فهذه الأعمال المباحة تتحول إلى ماذا؟
إلى عبادة.
لما تأتي تأكل لازوم تنوي، أنا آكل لماذا؟
حتى أمشي أهد جبالًا؟! آكل حتى أتقوى على طاعة الله.
أنا سأنام؛ سأنام لماذا؟
لأتقوى على العبادة.
لما نشتري لعبة، أو نشتري حلوى، أو نشتري حاجة؛ نقول: حتى أدخل السرور على إخوتي، أو على أولادي، أو على أحفادي، أو على أبناء إخواني، أو نحو ذلك؛ فتكون هذه هي هدية، ولكنها مصحوبة بنية وبقصد صالح، فتثاب على ذلك.
لما تميط الأذى من الطريق، وكما مرَّ معنا في دروس سابقة للشيخ، نذكركم بانونات الخمسة أم نسيتموها؟
قثال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»، هل إماطة الأذى من الطريق تؤجر عليها إذا لم تكن بقصد حسن وبنية صالحة؟
لا، والله أنا في الطريق رأيت هاذ وقلت والله دعه حتى يقولوا معناه كذا وكذا، أحيانًا تلقى الطالب يقول لك: صباح الخير يا أستاذ، السلام عليكم يا أستاذ، أينما ألتفت يأتي يسلم عليَّ، بعد ما أكمل الفصل وما عاد يقرأ عندي؛ يراني يدور وجهه كأنه ما رآني.
طيب، هو يسلم عليَّ لماذا؟!
فيه بعض الطلبة تلقاه مع زميله ما يكلمك طوال العام، لكن قبل الامتحانات أهلا يا فلان، كيف أحوالك؟
خير إن شاء الله، تستغرب! وإذا به بعد قليل يقول: والله أت -ما شاء الله- تحضر الكثير، لو تعطيني الملخص للدروس أوصرها.
فالسلام كان لماذا؟
هل كان لقصد صالح -أي لقصد أخروي- أو لقصد دنيوي؟
وإنما كان لقصد دنيوي، فإذا كان لقصد دنيوي هذا يدخل في حديث الرسول: «فمن كان هجرته لدنيا»، فانت سلامك وتحيتك لأخيك، أو إماطة الأذى أو صلاتك ما كانت لله!
تعرفون -إخوتي الكرام- أول ما تسعر النار يوم القيامة على مَن؟
ثلاثة أصناف، من هم؟
1- عالم، يا لطيف! بدأتم بالعالم ولا حول ولا قوة إلا بالله، الله يعطينا المقصد الحسن.
2- المجاهد.
3- المتصدِّق.
فيؤتى بالعالم، ما فعلت؟
فيقول: يا رب، تعلمت العلم فيك وعلمته.
فيُقال له: كذبت، وإنما تعلمت العلم حتى يُقال فلان عالم وقد قيل، أخذت أجرك في الدنيا، ويؤمر ويُسحب إلى النار -والعياذ بالله.
ثم يؤتى بالمجاهد: ماذا فعلت؟
فيقول: يا ربِّ، جاهدت فيك حتى قتلت.
فيقال له: كذبت، وإنما جاهدت حتى يقال فلان شجاع، وقد قيل، ويُسحب إلى النار.
الثالث: الجواد الكريم المتصدق، فيُسأل فيقول: يا رب تصدقت فيك.
فيُقال له: كذبت، وإنما تصدقت ليُقال فلان جواد، أو فلان كريم، وقد قيل.
وقد ورد في الأثر: "كل الناس هلكى إلا العالمون، وكل العالِمين هلكى إلا العاملون"، والعلم وحده لا يكفي، فلازم من العمل، ولهذا ربي قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف 2، 3].
"فكل الناس هلكى إلا العالمون، وكل العالِمين هلكى إلا العاملون، وكل العاملين هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على وجل"، يا سترك يا رب! الله يخلص النية إن شاء الله.
فهذا قصد مهم بالنسبة للإنسان، فالآن الإمام العز على ذكر هذا يقول: "كل تصرفٍ لم يُحصِّل مقصوده فهو باطل" قاعدة ذهبية.
"كل تصرفٍ لم يُحصِّل مقصوده فهو باطل"، أي كل عمل ما فيه تحقيق لقصد الشرع فهو باطل.
ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى- عن الكفار لأن قصدهم لم يكن قصدًا صالحًا، قال: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23].
ننتقل الآن إلى علاقة قصد المكلف بالأفعال التي يقوم بها:
قد يقصد المكلف الموافقة -ما معنى الموافقة؟ أي موافقة الشرع- فيأتي الفعل موافقًا، فهذا لا خلاف في صحته.
نحن نحكم بالصحة، بعض الناس تأتي تسأل ويقول: يا شيخ، صلاتي مقبولة إذا صليت كذا وكذا؟
أقول له: القبول عند الله، وإنما أنا أقول لك أن صلاتك صحيحة أو صلاتك باطلة.
الجمهور لا يفرقون بين الباطل والفاسد، بينما الحنفية يفرقون بين الباطل والفاسد في المعاملات، لكن في العبادات لا فرق، مثلهم كمثل الجمهور، الجمهور كل المذاهب ما عدا الحنفية، الحنفية يفرقون بين الباطل والفاسد في مسألة المعاملات، أما العبادة باطلة أو فاسدة مثل بعض، طيب.
فالإنسان توجه إلى الله -سبحانه وتعالى- بصلاته فجاءت صلاته صحيحة؛ فهذا لا خلاف في صحته.
طيب، إنسان يقصد المخالفة فجاء فعله مخالفًا؛ فهذا لا خلاف في بطلانه، هو من الأول نواها للشر فجاء الشر -والعياذ بالله- نواها مفسدة فجاءت مفسدة.
طيب، الثالث: نوى -أو قصد، لأن النية والقصد مثل بعض- الموافقة فجاء فعله مخالفًا.
خرج للغابة يصطاد، فرأى سوادًا أمامه ظنه غزالة أو حيوان أو شيء، ورمى وإذا به إنسان.
هو نوى ماذا؟ قصده صالح أو غير صالح؟
صالح، لكن جاء الفعل مخالفًا.
مرة في منطقة في بلد خارج البلد هذا على ما أذكر، فكانت الشرطة تطلق النار على الكلاب، دخلت بعض الكلاب المدينة فأطلقوا عليها النار، فسبحان الله! الشرطي أطلق النار، فانطلقت الرصاصة فدخلت في ثقب من الباب فدخلت إلى ولد في بيته فتوفاه الله، فهذا قصده صالح أو فاسد؟
صالح، ولكن جاء الفعل مخالفًا.
فالشاطبي يقسم هذا النوع إلى أنه يعلم أنه خالف أو لا يعلم؟
فهذا نقول باختصار حتى لا نطيل عليم ولا نتشعب في المسألة: أن هذا يُعامل على قصده ونيته.
الرابع: نوى المخالفة فجاء الفعل موافقًا.
يعني مثلًا شاب من الشباب يغازل أو نحو كذا، وإذا بها زوجته! يا ويله!
فهذا يعامل على أيش؟
هل اعتدى على حقوق الناس؟
ما اعتدى على حق أحد، ولكن قصده كان المخالفة، فيُحاسب على الفعل، وإنما يُحاسب على القصد، لأن الأصل في المؤمن ألا يهمَّ ولا يفكر إلا فيما فيه خير، إلا فيما أمر الشرع به.
ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم: «من همَّ -أي من فكر، من قصد- بحسنة ففعلها كُتبت له حسنة إلى عشر أمثالها، ومن همَّ بحسنة ولم يفعلها كتبت له حسنة، ومن همَّ بسيئة وفعلها كتبت له سيئة، ومن هم بسيئة ولم يفعلها كتبت له حسنة»، لكن كتبت له حسنة مباشرة؟
فيه تفصيل، ماذا يقول المثل عندنا؟
"القط إذا ما لحق الشحمة يقول ما أنتنها!".
معناه: أن القط أراد أن يأكل الشحمة -أو اللحمة- فلم يصل إليها، حاول ولم يصل إليه، فلما لم يصل إليه قال: ما أنتنها من لحمة! ما تصلح هذه!
فقد يحاول الإنسان اشلر أو المفسدة، ولكن الحال حال الله، ربي أراد به الخير فلم يصل لها؛ فهذا يُكتب له على النية -على القصد- ولكنه لم يصل.
اما متى تكتب له الحسنة؟
إذا همَّ بسيئة أو بمفسدة ولم يفعلها بإرادته، فهذا تُكتب له حسنة.
ولعلكم تذكرون القصة التي رواها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الثلاثة نفر الذين آواهم المبيت إلى غار، فمن بينهم رجل له ابنة عمٍّ راودها عن نفسها فأبت، حتى جاءت سنة من السنوات العجاف احتاجت إلى مال، فطلبت منه المال فرادوها عن نفسها، قال: ما أعطيكِ المال إلا بكذا، فاستجابت، حتى إذا جلس منها مجلس الرجل من زوجته قالت له: يا فلان، اتقِ الله.
سمعتم الكلمة؟
نحن لما يأتي واح وتقول له: اتقِ الله.
يقول: أنا كفرت؟!
قالت: اتقِ الله، ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقِّه -أي بالزواج.
قال: قمت عنها وتركت لها المال، اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك ففرج عنَّا ما نحن فيه، فتزحزحت الصخرة.
فهذا الرجل معناها لما ترك المعصية تركها لماذا؟
لأنه لم يقدر عليها؟ أو كان أقدر ما يكون عليها؟
كان أقدر ما يكون عليها، ولكنه تركها لله -عز وجل.
ولهذا مريم عندما جاءها جبريل قالت: ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ [مريم: 18].
وساعات واحد يناديك: يا حاج، يا حاج. لماذا؟
حتى يذكرك بطاعة ربك، فانتبه!
فهذا تقريبًا ما وفقنا الله إليه، والحديث هذا لعل فيه شيء.
سؤال:
أحسن الله إليك، المخطئ الذي قصد النية الحسنة لا يحاسب؟ والله يقول: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ [النساء: 92] ؟
لا يُحاسب، لأنه قتله هنا، هل يحاسبة ربي -سبحانه وتعالى؟ أين الحساب؟ ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ [النساء: 92]، هل قال: "في عذاب جهنم" أم ماذا قال له وبماذا أمره؟
بالدية، والدية هذه هل هي حق لله أو حق للعباد؟
دائمًا خذوا القاعدة: "أن حقوق العباد مبنية على المشاحة، وحقوق الله مبينة على المسامحة".
فالله سامح في حقه لأنه قتله خطأً ولم يقصد قتله، وإنما حتى لا يذهب دم المؤمن هدرًا أوجب فيه الدية، والدية ليست عليه، وإنما الدية على العاقلة -أي على أقاربه.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يخلص أعمالنا، وأن يجعل قصودنا حسنة، ونياتنا صالحة، وألا نفكر إلا فيما يرضي ربنا، وألا يخطر ببالنا إلا ما يرضي ربنا.
أقول قولي هذا وأستسمح إخوتي الطلاب لأني قصرت بعض الشيء في حقهم، ولو كنا في قاعات الدرس لكان لنا كلام آخر، ولتعمقنا في هذه الدروس، ولكن بحضرة هذه الوجوه النيرة حاولنا -كما يقولون- "نضرب عصفورين بحجر"، لكن أنتم أحببنا نؤكلكم ونؤكل الطلبة بعض الشيء، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفع بنا وبكم، ويوفقنا وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغعفروه إنه هو الغفور الرحيم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"