بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 1 يونيو 2011

شروط الديون الخارجية

"لا توجد وجبة مجانية".. هذا شعار أصبح يسيطر على العلاقات الاقتصادية الدولية في مختلف المجالات، ومنها تدفق رؤوس الأموال سواء في صورة استثمارات أو في صورة معونات أو في صورة قروض، ففي الغالب يفرض الطرف الأقوى (المقدم لهذه الأموال) شروطه على الطرف الأضعف (المتلقي لهذه الأموال)، ويأتي في هذا السياق شروط المديونية الخارجية سواء كان الحصول على هذه الديون من حكومات صديقة أو شقيقة أو من الصناديق العربية للتنمية أو من بنوك تجارية حكومية أو غير حكومية، أو من مؤسسات تمويل دولية وإقليمية مثل البنك الدولي والبنك الإسلامي وغيرها.

فما هي هذه الشروط؟ وما مدى اختلافها باختلاف الجهات الدائنة؟ وما آليات ضمان التزام البلدان العربية المدينة بهذه الشروط؟ وأخيرا ما آثار هذه الشروط على الاقتصاديات العربية؟

السطور التالية تحاول الإجابة على هذه الأسئلة بصورة مبسطة حتى تتضح الصورة لغير المتخصص قبل المتخصص.

تطور الشروط
طرأت العديد من التغيرات على الشروط المصاحبة للاقتراض الخارجي منذ عام 1982، حيث بلغت مديونية البلدان النامية في هذا العام حوالي 575 مليار دولار مقابل 109 مليارات فقط عام 1973، وهو الأمر الذي يرجعه البعض إلى تراكم المدخرات في البنوك ومؤسسات التمويل في فترة السبعينيات مما جعلها تتساهل في شروط إعطاء القروض من حيث سعر الفائدة وآجال السداد وغيرها من الشروط، وفي ظل هذا التساهل سقطت معظم الدول النامية في فخ المديونية.

وقد انتهى زمن هذا التساهل في شروط القروض الخارجية دون رجعة بعد أن تجرأت بعض الدول النامية في أميركا اللاتينية على إنكار ديونها الخارجية وإعلان التوقف عن السداد بسبب تفاقم الاختلالات الاقتصادية التي عرفت بأزمة المديونية العالمية عام 1982، وما صاحب ذلك من إغواء لدول نامية أخرى للتوقف عن سداد الديون الخارجية، وهو ما كان بداية لإعادة النظر في شروط الاستدانة الخارجية، واتجاه هذه الشروط نحو مزيد من التشدد، وخاصة الديون التي يكون الصندوق والبنك الدوليان طرفا فيها عند الحصول عليها أو عند إعادة جدولتها.

ولم تكن الدول العربية بعيدة عن هذه الشروط عند حصولها على ديون خارجية (325 مليار دولار) أو عند دخولها في مفاوضات لإعادة جدولة هذه الديون. وسنحاول في هذه المقاول الحديث على المحاور الآتية:

- الشروط التقليدية للديون الخارجية
- الشروط في ظل العون الإنمائي العربي
- شروط صندوق النقد والبنك الدوليين
- مستقبل مشروطية الديون في ظل العولمة

الشروط التقليدية للديون الخارجية

تختلف شروط الديون الخارجية وفقا لعدة معايير، وأهم هذه المعايير ما يلي:

أ - من حيث الجهة التي تقدم الديون:
وهذه الجهات إما أن تكون الحكومات أو مؤسسات تمويل إقليمية أو دولية أو بنوكا تجارية، ففي حالة القروض من الحكومات تتوقف الشروط على طبيعة العلاقة بين حكومة الدولة المقترضة والدولة المقرضة، وبطبيعة المصالح الاقتصادية والسياسية بينهما، وفي الغالب تدور الشروط حول سعر الفائدة وآجال السداد والضمانات وفترات السماح، ويمكن أن تمتد لتشمل ربط القروض باستيراد منتجات معينة من الدولة الدائنة أو نقل هذه الواردات على سفنها أو قصر تنفيذ المشروعات التي تمولها هذه القروض على شركات الدولة المقرضة.

أما في حالة المؤسسات الإقليمية والدولية فإن الشروط تتفاوت، ومن أشهر هذه المؤسسات البنك الدولي الذي يشترط أن تكون القروض لتمويل مشروعات التعمير والتنمية في الدولة المدينة، وأن تكون للحكومات أو للجهات التابعة لها أو لجهات تضمنها الدولة، كما يشترط ألا يكون للدولة مصدر آخر للتمويل.

أما في حالة البنوك التجارية فإن الشروط تتركز على سعر الفائدة والضمانات التي يقدمها المدين لهذه البنوك.

ب - من حيث الأهداف:
فما الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها الجهات الدائنة؟ وهل هي تحقيق الأرباح بمعناها المالي والنقدي أو تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية؟ فإذا كان هدف الجهة المقرضة الربح يتم التركيز على الفائدة وفترات السداد والضمانات، وهي شروط تقليدية. أما إذا كانت هناك أهداف أخرى فإن الجهة الدائنة تركز عليها عند الاتفاق على القرض مثل زيادة الصادرات للدولة الدائنة وذلك عن طريق حصول الدولة المدينة على جزء من هذه الديون في صورة سلع ومنتجات من الدولة الدائنة، وقد تكون الشروط في صورة إلزام الدولة المدينة بسياسات اقتصادية معينة كما في حالة الصندوق والبنك الدوليين.

وإلى جانب ما سبق تتأثر شروط الديون بطول فترة سداد الدين، وكذلك تتأثر بالظروف الدولية التي تتم فيها هذه الديون، وبالسمعة الاقتصادية للدولة المقترضة (الجدارة الائتمانية) وقدرتها على السداد في المستقبل.

ومن أغرب الشروط التي وضعها الدائنون الشرط الذي وضعه البنك الدولي عند طلب الأردن لقرض لتمويل بناء سد على نهر الأردن، فقد اشترط البنك موافقة إسرائيل على بناء السد وتعهدها بعدم تدميره، وهو ما منع إتمام القرض أو إتمام بناء السد. وربما حدث أمر شبيه بذلك مع مصر عند طلبها تمويل بناء السد العالي من البنك الدولي في الستينيات، حيث كان هناك شرط ضمني بضرورة موافقة الولايات المتحدة الأميركية، وهو الشرط الذي لم يتوفر، وبذلك لم يمول البنك بناء السد العالي.

الشروط في ظل العون الإنمائي العربي

من المعروف أن العون الإنمائي العربي من أهم الملامح التي تميز تجربة التعاون الاقتصادي العربي عن بقية التجارب الدولية، وقد كانت بداية هذا العون مع الطفرة التي حدثت في أسعار النفط في السبعينيات وترتب عليها إنشاء المؤسسات والصناديق المقدمة لهذا العون.

ويتمثل هذا العون في القروض والمنح والهبات والمعونات الفنية التي تساعد على تنمية الدول العربية التي تحتاج إلى هذا التمويل. ويقدم هذا التمويل من جانب صناديق التمويل العربية (قطرية أو متعددة الأطراف)، أو بالتنسيق بين هذه الصناديق العربية ومؤسسات تمويل دولية وإقليمية غير عربية.

وقد بلغ إجمالي التمويل الذي قدمته هذه الصناديق العربية حتى بداية عام 2001 حوالي 108.9 مليارات دولار استفادت منها 127 دولة عربية وغير عربية، وبلغ نصيب الدول العربية منها 60.9%، في حين بلغ نصيب الدول النامية من أميركا اللاتينية 1.5% والدول الآسيوية 21.1% والدول الأفريقية 15.8%.

مزايا شروط تمويل الصناديق العربية
بسبب سهولة وبساطة شروط التمويل الذي يقدم من هذه الصناديق فقد زاد اتجاه الدول العربية للحصول عليه، ويعتبر أهم مزايا شروط هذا التمويل ما يلي:

- انخفاض أسعار الفائدة، وطول فترتي السماح والسداد.
- ارتفاع عنصر المنحة في القروض المقدمة في إطار هذا التمويل، حيث توضح البيانات أن عنصر المنحة في هذه القروض يبلغ حوالي 40% بالنسبة لقروض مؤسسات العون الإنمائي العربي، وحوالي 70% في إطار العون العربي الثنائي.
- عدم وجود شروط من جانب الصناديق العربية تلزم الدول التي تحصل على هذا التمويل بشراء واردات من جهات معينة، أو بإسناد تنفيذ المشروع المقدم له التمويل لشركات معينة، ولكن في الغالب يترك لهذه الدول الحرية في ذلك، وهو عكس ما هو معمول به في القروض التي تحصل عليها الدول العربية من جهات أجنبية أخرى.
- عدم وجود شروط متعلقة بحق الأطراف المقدمة لهذا التمويل في التدخل في السياسات الاقتصادية للدول المتلقية لهذا التمويل كما يحدث في حالة الصندوق والبنك الدوليين.

ملاحظات على شروط الصناديق العربية
ورغم هذه الشروط الميسرة المعروفة عن الاقتراض من الصناديق العربية فإن الواقع العملي أظهر بعض الملاحظات التي تشير إلى جوانب الاختلاف في هذا المجال والتي تقلل من يسر الشروط الخاصة بهذه النوعية من القروض، وأهم هذه الملاحظات ما يلي:

- تمويل في إطار صندوق النقد الدولي
تحرص دائما المؤسسات المقدمة للعون الإنمائي العربي على تقديم تمويلها وتسهيلاتها للدول في إطار ما يقرره صندوق النقد الدولي وفي إطار ما يطالب به من سياسات اقتصادية تصحيحية في الدول المدينة، وكان هذا الحرص من تلك المؤسسات أكبر من حرصها على إتمام عمليات الإقراض في إطار العمل على تعزيز العمل الاقتصادي العربي المشترك ودفع التكامل الاقتصادي إلى الأمام. ويمكن التدليل على ذلك بالوقوف على أهم المجالات التي أولاها العون الإنمائي العربي أهمية في قروضه للدول العربية، فقد تركزت عمليات التمويل على مشاريع التنمية البشرية وبرامج مكافحة الفقر والآثار الاجتماعية الناجمة عن برامج الإصلاح الاقتصادي التي ت***اها الدول العربية في إطار توجهاتها لإعادة جدولة الديون مع الصندوق والبنك الدوليين، كما اهتمت عمليات التمويل بإقراض صناديق التنمية الاجتماعية في الدول العربية التي أنشئت أساسا في إطار برامج الإصلاح الاقتصادي وفي ظل ما يعرف "بشبكات الأمان الاجتماعي"، وأيضا تم تمويل برامج الصناعات الصغيرة وبرامج البنية الأساسية في الريف العربي وهي كلها مجالات يهتم بها الصندوق والبنك الدوليان، وقد لوحظ التنسيق بين الصناديق العربية المقرضة في هذا المجال في إطار ما عرف "بمجموعة التنسيق العربية" التي تضم صندوق أبو ظبي للتنمية وصندوق أوبك للتنمية الدولية والصندوق السعودي للتنمية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية والمصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا والبنك الإسلامي للتنمية.

عدم اقتصار التعاون والتنسيق في مجال الإقراض بين صناديق التنمية العربية على التنسيق في إطار مجموعة التنسيق العربية السابق الإشارة إليها فقط، بل تعدى هذا ليشمل مؤسسات التمويل الدولية الدائنة والحكومات الأجنبية ومؤسساتها التمويلية الدائنة، وهو ما يعني أن الصناديق العربية تأخذ بشروط الاستدانة التي تفرضها هذه المؤسسات الدولية عند قيامها بعمليات تمويل مشترك للدول العربية التي تطلب القروض من هذه المؤسسات.

ويكفي أن نشير هنا إلى أن إجمالي عمليات التمويل المشترك بين الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي ومؤسسات التمويل العربية الوطنية والإقليمية الدولية في الفترة من 1974-2000 بلغ حوالي 17.4 مليار دولار، بلغ نصيب الصناديق العربية منها 53.5%، وبلغت حصة مؤسسات التمويل الدولية (البنك الدولي والصندوق الدولي للتنمية الزراعية إيفاد والبنك الأفريقي للتنمية) حوالي 17%، في حين بلغت حصة الحكومات الأجنبية ومؤسساتها التمويلية الدائنة 21.5%.

- موافقة سياسات الدول العربية الممولة
خضوع القروض والتسهيلات التي تقدمها الصناديق العربية لما يمكن أن نطلق عليه "مبدأ الثواب والعقاب"، وهو أمر يستند إلى شروط سياسية في المقام الأول، وذلك بمعنى أن التسهيلات التي تقدمها هذه الصناديق استخدمت في الغالب لمكافأة أو معاقبة الدول العربية المتلقية لهذه التسهيلات على مواقفها السياسية من القضايا التي تهم الدول الممولة لهذه الصناديق. وقد يؤكد صحة ذلك أمران:

الأول: سيطرة الدول الممولة على عمليات التمويل التي تقدمها هذه الصناديق وبعيدا عن إشراف أو توجيه مؤسسات العمل العربي المشترك.

الثاني: ما يمكن أن يوضحه تطور نصيب بعض الدول العربية من هذه التسهيلات والقروض في الفترة من عام 1973 حتى عام 2002. وعلى سبيل المثال يلاحظ أن نصيب دولة مثل مصر من تمويل هذه الصناديق لم يتجاوز 1.1% من إجمالي عمليات هذه الصناديق عقب إبرام مصر لاتفاقية السلام مع إسرائيل، في حين بلغ نصيب سوريا في ذلك الوقت حوالي 27.1%، والأردن حوالي 26.1%، ولكن بداية من عام 1990 وبعد الموقف المصري من حرب الخليج الثانية حصلت مصر على نصيب الأسد حيث بلغت حصتها في الفترة 1990/1999 حوالي 39.5%، في حين بلغ نصيب سوريا 4.7%، والأردن 6.2%، هذا إلى جانب قيام دول الخليج بالتنازل عن ديونها لدى مصر التي بلغت حوالي 6.2 مليارات دولار عقب حرب الخليج الثانية.

ولذلك يمكن القول إن الديون في إطار العون الإنمائي العربي تتم ما بين مانح ومتلق وليس في إطار أسرة عربية واحدة، فرغم ما تتسم به من شروط ميسرة مقارنة بغيرها من الديون فإنها لا تخلو من شروط، وفي بعض الأحوال ت***ى شروط الصندوق والبنك الدوليين، ولكن رغم ذلك فإنه لا يجب التقليل من الدور الذي تلعبه صناديق التمويل العربية في دعم برامج التنمية في معظم البلدان العربية.

شروط صندوق النقد والبنك الدوليين

تظل شروط الديون الخارجية شروطا عادية طالما التزمت الدول المدينة بها وطالما كانت هذه الدول مواظبة على سداد خدمة هذه الديون (الأقساط والفوائد) في وقتها، ولكن إذا تعثرت الدولة المدينة في السداد لأسباب داخلية أو خارجية تكون أمام خيارين كلاهما مر:

الخيار الأول:
إنكار الدين والتوقف عن السداد، وهو أمر في غاية الخطورة على الجدارة الائتمانية والسمعة الاقتصادية للدولة، وقد يعرضها لعقوبات اقتصادية وسياسية وربما لتدخل عسكري ضدها.

الخيار الثاني:
اللجوء إلى عملية إعادة جدولة للديون الخارجية، وتعني قيام الدولة بطرق أبواب الصندوق والبنك الدوليين للاتفاق مع الدول الدائنة على كيفية وشروط إعادة الجدولة إذ تلجأ الدول الدائنة إلى الصندوق والبنك للقيام بدور الوسيط بينها وبين الدول المدينة فتذهب إلى نادي باريس حيث تبدأ رحلتها مع شروط جديدة لإعادة جدولة ديونها تختلف تماما عن الشروط الأصلية التي تمت على أساسها هذه الديون، ويتم وضع هذه الشروط والاتفاق عليها خلال خطوتين هما:

- الخطوة الأولى: اتفاق الدولة المدينة على برنامج إصلاح اقتصادي وتصحيح هيكلي مع صندوق النقد الدولي، وهذا البرنامج يضم في الغالب وصفة علاجية في صورة حزمة من السياسات الاقتصادية تتعهد الدولة المدينة بالالتزام بها على مراحل، وكلما أنجزت مرحلة حصلت على تسهيل من الصندوق لاستكمال المرحلة التالية، ورغم التحفظات على مفردات هذه البرامج فإنها تعتبر من قبل الصندوق والدول الدائنة بمثابة التزكية لسلامة الإدارة الاقتصادية في الدولة المدينة، وتسعى في الأساس إلى ضمان قدرة الدولة المدينة على سداد التزاماتها تجاه الدول الدائنة، بغض النظر عن أثر الأخذ بهذه البرامج على المستقبل الاقتصادي للدولة المدينة أو على مستوى معيشة مواطنيها، وتمثل هذه الخطوة الشرط الأول للدخول في مفاوضات مع الدول الدائنة الأعضاء في نادي باريس لإعادة جدولة المديونية.
- الخطوة الثانية: الحصول على موافقة جماعية من الدول الأعضاء بنادي باريس على شروط إعادة الجدولة، وهي الشروط التي ستدور حولها المفاوضات الثنائية بعد ذلك بين المدين وكل دولة دائنة على حدة، وذلك لأن الدول الدائنة تعتبر أن إعادة جدولة الديون تضحية من جانبها لصالح المدين، وعليه فهي ترفض أن تتحمل هذه التضحية دون أن تعرف مقدار التضحية التي سيقدمها الدائنون الآخرون، وهنا يكون شرط المساواة في المعاملة من قبل المدين تجاه جميع الدائنين.

وقد مرت الدول العربية التي لجأت إلى إعادة جدولة ديونها بهذه المراحل وقبلت هذه الشروط، وأهمها مصر ولبنان وتونس والمغرب، وبعد قبول واستيفاء الشروط يتم توقيع اتفاقية مع نادي باريس تحدد شروط التصرف المالي والاقتصادي في الديون من قبل الدولة المدينة، ومن هنا يبدأ التدخل في الشؤون الاقتصادية للدولة المدينة، وذلك عبر السياسات التي تعتبر آليات لتنفيذ هذه الشروط.

آليات تنفيذ شروط الصندوق والبنك الدوليين
توجد ثلاثة محاور أساسية في قروض برامج الإصلاح الاقتصادى والتكيف الهيكلي التي لجأت إليها البلدان العربية عند إعادة جدولة ديونها، وهذه المحاور الثلاثة تعتبر بمثابة آليات لتنفيذ شروط إعادة جدولة الديون، أو شروط الحصول على التسهيلات المرتبطة بعملية الجدولة، وهذه المحاور أو الآليات الثلاثة هي:

- تحرير الأسعار: ويتضمن التزام الدولة المدينة بتحرير أسعار السلع والخدمات ومستلزمات الإنتاج، والحد من تدخل الدولة في تحديد الأسعار أو التسليم الإجباري للمحاصيل، وكذلك تحرير أسعار الفائدة حتى يكون سعر الفائدة الحقيقي موجب وتحرير وتوحيد أسعار الصرف، وكذلك إلغاء وجود حد أدنى للأجور، وهذا التحرير للأسعار يؤدي في الغالب إلى ارتفاع الأسعار والإضرار ببعض فئات المجتمع وخاصة محدودي الدخل.

- سياسة الخصخصة: وهو المحور الذي يسعى إلى زيادة دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي على حساب تراجع دور الدولة والتخلص من الاحتكارات العامة، وذلك عن طريق تصفية المشروعات العامة الخاسرة وبيعها للقطاع الخاص لتشغيلها على أساس تجاري يهدف إلى الربح، وهو الأمر الذي يكون على حساب تسريح العمالة ورفع أسعار السلع والخدمات التي يقدمها القطاع العام.

- تحرير التجارة الخارجية: فالبنك الدولي يطالب الدول المدينة بتخفيض سعر الصرف للعملة المحلية، وإلغاء القيود على المدفوعات الخارجية، وإلغاء اتفاقيات التجارة والدفع، والسماح بعمل الوكالات التجارية الأجنبية في الأسواق المحلية، وخفض الرسوم الجمركية، وإلغاء القيود الكمية على الواردات، والعمل على تشجيع التصدير، وعدم اتباع سياسة تقوم على إحلال الواردات عن طريق الحماية للصناعات المحلية.

وبغض النظر عن الدخول في تفاصيل أكثر بالنسبة لبرامج الإصلاح الاقتصادي التي اتبعتها الدول العربية بعد أن لجأت إلى الصندوق والبنك الدوليين لإعادة جدولة ديونها، فالمهم هو أن هذه البرامج قامت على ما يمكن أن نطلق عليه سياسة "الامتصاص والاقتناص"، أي امتصاص فائض الطلب وزيادة الاحتياطات الرسمية من العملات الأجنبية كضمان لسداد الديون ولرفع الجدارة الائتمانية للدولة، واقتناص فرصة تعثر الدولة المدينة لإلزامها باتباع آليات السوق وسياسات التحرير الاقتصادي في جميع المجالات حتى يتوافق إيقاعها الاقتصادي مع إيقاع الدول الرأسمالية الدائنة ومع سياسات الصندوق والبنك الدوليين.

وبصفة عامة يمكن القول إن أخذ الدول العربية بسياسات الصندوق في مجال الإصلاح الاقتصادي أدى إلى تغيير ملامح الاقتصاديات العربية تماما من الناحية الاقتصادية والمؤسسية والتشريعية، وهو تغيير يصب باتجاه مزيد من الانفتاح الاقتصادي، وإعمال آليات السوق، وتحقيق مزيد من الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي.

آثار الأخذ بشروط الصندوق والبنك الدوليين
الملاحظ أن أخذ البلدان العربية بشروط إعادة جدولة الديون مع الصندوق والبنك الدوليين وخاصة ما يتعلق منها ببرامج الإصلاح الاقتصادي أثر في جميع نواحي ومفردات الاقتصاديات في تلك الدول، كما أن هذه الآثار لم تكن جميعها في صالح الدول العربية، وبالتالي لم تكن جميعها في صالح المواطن العربي الذي يعتبر هدف ووسيلة التنمية، تلك التنمية التي قامت الدول العربية بالاستدانة من أجل دفعها للأمام، ويمكن إيجاز هذه الآثار في الآتي:

أولاً: الآثار السلبية
- تزايد معدلات البطالة في الدول العربية حيث وصلت هذه النسبة في بعض الدول العربية إلى حوالي 15%.
- انخفاض درجة إشباع الاحتياجات الأساسية للمواطن العربي بسبب ارتفاع الأسعار.
- تزايد تدهور أحوال الفقراء ومحدودي الدخل في البلدان العربية.
- التأثير السلبي لبرامج الصندوق في فئات الطبقة الوسطى في المجتمع العربي.

وهذه الآثار تعرف بالآثار الاجتماعية لبرامج الصندوق والبنك الدوليين والتي تحاول الدول العربية التغلب عليها عن طريق ما يعرف بشبكات الأمان الاجتماعي، خاصة عبر ما يعرف بالصندوق الاجتماعي للتنمية، وهى التجربة التي أخذت بها مصر، وهناك محاولات للاستفادة بها في اليمن وسوريا والأردن.

وإلى جانب الآثار السابقة فقد حدث تراجع في دور الدولة في البلدان العربية لصالح تزايد دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، حيث أصبحت نسبة مساهمة القطاع الخاص العربي في النشاط الاقتصادي حوالي 76% في المتوسط، وأصبح يعول عليه بأن يقوم بالدور الرئيسي في عمليات الإنتاج والتصدير والتوظيف، وحتى أصبح يعول عليه بأن يقوم بدور رئيسي في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي.

ثانياً: الآثار الإيجابية
رغم الآثار السلبية السابقة لا يمكن إنكار الآثار الإيجابية التي صاحبت الأخذ بسياسات البنك والصندوق الدوليين كشروط لإعادة جدولة الديون العربية وأهم هذه الآثار الإيجابية:

- تراجع العجز في الموازنات العامة للدول العربية، حيث أصبحت حوالي 0.15% عام 2000 مقابل 5.47% عام 1995 (للدول العربية كمجموعة).
- تراجع العجز في موازين المدفوعات للدول العربية كمجموعة وتحولها من حالة عجز إلى فائض في عام 2000.
- تزايد الاحتياطات الرسمية في البلدان العربية لتغطي واردات حوالي 8.5 أشهر عام 2000 مقابل 5.2 أشهر عام 1995، وهو ما يعني زيادة الجدارة الائتمانية العربية ككل.
- تراجع نسبة إجمالي الدين العربي الخارجي من 73.3% من الناتج المحلي العربي الإجمالي عام 1995 إلى 49.5% عام 2000.
- تراجع نسبة خدمة الدين العام الخارجي للدول العربية إلى الصادرات من السلع والخدمات من 18.1% عام 1995 إلى 15.5% عام 2000.

وخلاصة القول في الآثار المترتبة على أخذ الدول العربية بشروط إعادة جدولة الديون التي وضعها الصندوق والبنك الدوليان أنها أدت إلى تحقيق نتائج جيدة على الصعيد المالي والنقدي (الاقتصاد الرمزي) فقط، أي انخفض معدل التضخم وانخفض عجز الموازنة العامة وانخفض عجز ميزان المدفوعات وارتفعت الاحتياطيات من العملات الأجنبية، ولكن مقابل ذلك ارتفعت معدلات البطالة وتفاقمت مشاكل أسعار الصرف وزادت مظاهر الركود وتباطؤ الأسواق وزاد عدد الفقراء وارتفعت أسعار السلع والخدمات، ويمكن عزو ذلك إلى أن معظم البلدان العربية نفذت برامج الصندوق كحزمة متكاملة من السياسات ودون النظر في مدى ملاءمتها لظروفها الاقتصادية الخاصة.

مستقبل مشروطية الديون في ظل العولمة

من خلال متابعة تطور شروط الاستدانة طوال القرن الماضي يمكن القول إن هذه الشروط في تطور مستمر، وإن هذا التطور يتجه بهذه الشروط نحو التشدد في غير صالح الدول المدينة ولصالح ضمان حقوق ومصالح الدول الدائنة، كما يلاحظ أن هذه الشروط تتأثر بالدور الذي تلعبه بعض المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، إذ إن معظم الشروط التي تصاحب إعادة جدولة الديون تصب في صالح تحقيق أهداف وبرامج هذه المؤسسات والدول المسيطرة عليها، ولأن هذه المؤسسات تخضع لسيطرة بعض القوى الاقتصادية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية ولأن دور هذه المؤسسات في تطور باستمرار فإن مستقبل شروط المديونية الخارجية للدول النامية ومنها الدول العربية سيتأثر بعاملين أساسيين هما:

1- المصالح الاقتصادية للقوى الاقتصادية الدولية الفاعلة داخل هذه المؤسسات.

2- التغيير الذي سيطرأ على دور هذه المؤسسات في المستقبل وخاصة في ظل إعادة النظر التي تتم حاليا بشأن دور الصندوق والبنك الدوليين، وكذلك في ظل التعاون الجديد بين جميع المؤسسات الاقتصادية الدولية في تحقيق التنمية ومحاربة الفقر الذي تم النص عليه في فقرات متعددة من "بيان الدوحة للتنمية" الذي صدر عن المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في الدوحة خلال الفترة من 9-13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001.


وقد بدأ ظهور بعض المؤشرات التي تعكس زيادة تدخل وتأثير الدول الكبرى في تشديد شروط المديونية الخارجية، خاصة مع الدول النامية التي تطلب قروضا أو تسهيلات مالية أو معونات، وذلك عن طريق تشددها في هذه الشروط بالنسبة للقروض التي تقدمها حكومات هذه الدول أو مؤسساتها المالية، أو عن طريق التدخل لدى مؤسسات التمويل الدولية مثل الصندوق والبنك الدوليين واستخدام نفوذها في هذه المؤسسات لتمارس ضغوطا وتشدد شروطها على تقديم قروضها للدول النامية ومنها البلاد العربية.

وفي السنوات الأخيرة بدأنا نسمع عن شروط لمكافحة الفساد، وتوفير مبادئ الديمقراطية أو مبادئ الحكم الرشيد، وحماية حقوق الأقليات السياسية أو الدينية. وبعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول بدأت هذه الدول تلوح بإجراءات مكافحة الإرهاب التي تقوم بها الدول كشرط لتدفق رؤوس الأموال إليها سواء في صورة معونات أو قروض، وقد جسد الرئيس بوش هذه الشروط في خطابه أمام مؤتمر الأمم المتحدة لتمويل التنمية الذي عقد في المكسيك في الفترة من 18-22 مارس/آذار 2002 حيث أكد أن "تدفق رؤوس الأموال إلى الدول النامية والفقيرة سيتوقف على احترام هذه الدول لحقوق الإنسان واتخاذها إجراءات فعالة لاقتلاع جذور الإرهاب والفساد فضلا عن فتح أسواقها والاعتناء بنظام التعليم والرعاية الصحية، وإن الولايات المتحدة ستتعامل بشكل صارم مع ذلك".

هذه التوجهات الأميركية جعلت البعض يصف هذه الشروط بأنها محاولة لابتزاز الدول النامية والفقيرة واستغلال ظروفها الاقتصادية الصعبة لإجبارها على انتهاج سياسات تحقق مصالح الدول الصناعية الكبرى.

كما أن الإصلاحات داخل المؤسسات الاقتصادية الدولية وخاصة الصندوق والبنك الدوليين بدأت المناقشة حولها بعد أن تسببا في إرهاق الكثير من اقتصاديات دول العالم التي لجأت إليهما للاقتراض أو لإعادة جدولة ديونها، وبعد أن تفاقمت الآثار الاجتماعية بصورة خطيرة في الدول التي ***ت برامج الصندوق للإصلاح الاقتصادي ومنها الدول العربية، وكذلك بعد الانتقادات العنيفة التي تتعرض لها سياسات الصندوق والبنك الدوليين.

والملاحظ أن هناك اختلافا على التوجهات التي تحكم عملية إصلاح هذه المؤسسات، وهل تتجه نحو مزيد من الضوابط والشروط على منح القروض وإدارة الديون الخارجية في الدول النامية، أم نحو التسهيل في هذه الشروط لصالح تقليل الفقر وزيادة الرفاهية في الدول النامية وتجميل الوجه القبيح للصندوق والبنك الدوليين. وقد يكون من السابق لأوانه حاليا أن نقطع بتغلب أحد الاتجاهين على الآخر لأن الأمر ما زال في مرحلة النقاش.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"