بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 30 سبتمبر 2010

دراسات في التفكير العلمي/2

التفكير العلمي هو التفكير المنسوب الى العلم، و لكي يصح نسب تفكير ما الى العلم بحيث يوصف بانه علمي لابد ان يكون تفكيرا مستهديا و متسما بروح العلم و ملتزما بمنهجه و أسسه و مقولاته المعتمدة . و لكن ما هو العلم؟
العلم بمعناه اللغوي الواسع هو نقيض الجهل . و هو بهذا المعنى يشمل الخطأ و الصواب و الظني و اليقيني و الجزئي و الكلي مما يتحقق به او يتحصل منه معرفة ايا كان موضوعها. على ان العلم بمعناه اللغوي الخاص يقتصر عادة على ما تبين صوابه و يقينيته و سلامته.
اما اصطلاحا، فلا يبدو ان هناك تعريف اصطلاحي متفق عليه للعلم، حيث تتبنى اتجاهات متباينة مفاهيم متباينة بل متناقضة للعلم. بيد ان الشائع في الثقافة الغربية الحديثة هو حصر معنى العلم على ما شاعت تسميته بالعلم الطبيعي او التجريبي أي ما يدرك او يثبت، او يمكن اثباته، عن طريق المنهج التجريبي القائم أساسا على الملاحظة الحسية و الاستقراء المبني على قانوني العلية والاطراد . و بينما يتسع لما يعرف بالعلوم الاساسية كالفيزياء و الكيمياء و التطبيقية كالطب فان العلم بهذا المعنى الاصطلاحي التجريبي يضيق عن ليس فقط الوحى أي المعرفة المتلقاة عن الله عن طريق رسله و انما ايضا عن سائر ما يعرف بالعلوم الانسانية و التي ما زالت مستعصية على محاولات بنائها على ذات اسس و متطلبات العلم التجريبي . وقد أثار ما عرف بالعلوم الصورية ،و خاصة علما الرياضيات و المنطق، و التي تعذر حتى الان اخضاعها لمتطلبات العلم بمعناه الاصطلاحي التجريبي السائد في الغرب بينما- في نفس الوقت- من الصعب انكار علميتها حرجا للقائلين بالمفهوم الاصطلاحي التجريبي للعلم مما اضطر البعض الى الدعوة الى توسيع هذا المفهوم ليتسع لعلمي الرياضيات و المنطق. و يلاحظ انه بينما يصر هذا المفهوم على ان معيار العلم هو فقط المنهج التجريبي المشار اليه فان من الواضح انه- أي المفهوم نفسه- لا يستوفي ذات المعيار الذي يصر عليه. و عموما ينطوي هذا المفهوم على عيوب عدة جعلته عرضة للنقد
و الظاهر ان نفس المفهوم الاصطلاحي التجريبي للعلم و السائد في الغرب هو ما يتبادر – عند سماع كلمة العلم- الى ذهن القطاع الاوسع من خريجى التعليم النظامي العربي و القائم حتى الان على التشعيب الى قسمين تعكس و تكرس تسميتهما بــ "القسم العلمي و القسم الادبي" ذات المفهوم الاصطلاحي التجريبي للعلم و الذي ينفي علمية الاداب او العلوم الادبية.
و الى جانب هذا المفهوم الاصطلاحي التجريبي الذي- احسبه - يحظى بالسيادة والغلبة يمكن تمييز مفاهيم اصطلاحية ثلاثة اخرى في العالم العربي و هي:
المفهوم الأصولي: و هو مفهوم يوسع معنى العلم ليتسع، بالاضافة الى المعنى الاصطلاحي التجريبي للعلم، لكل معرفة مصدرها الوحى او تثبت عن طريق المنهج العقلي. و يتمثل هذا المفهوم اساسا في المفهوم الذي تكرسه تعريفات العلم السائدة في علم اصول الفقه الاسلامي و الذي اعتنى كثيرا بتعريف العلم و تمييزه عن المفاهيم المشابهة او المتقاطعة مثل الظن و الوهم و الفكر و المعرفة و..الخ كما اعتنى بتعريف المفاهيم ذات الصلة كالدليل و البرهان و الحجة و الامارة و..الخ . وعلى سبيل المثال فقط نجد الامام الشوكاني في محاولته لتعريف العلم يستعرض، مناقشا و منتقدا، عشر تعريفات اصولية للعلم قبل ان يدلي بتعريفه او اختياره القائل ان العلم " صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما"
[14] بينما يعرف اصولي اخر العلم بانه " اعتقاد الشئ على ما هو به ، مع سكون النفس اليه، اذا وقع عن ضرورة او دليل"[15] . و لغرض التمييز فقط يمكن تسمية هذا المفهوم بالمفهوم الاصولي او البياني او أي اسم اخر انسب.
المفهوم العرفاني: و هو مفهوم يضيق معنى العلم و يكاد يحصره في المعرفة المكتسبة اساسا بغير طريقة إعمال العقل كطريقة الرياضة النفسية الموصلة الى ما يسميه القائلين به كشف الحجاب. و يغلب على هذا المفهوم انه – مع وجود استثناءات تحاول الجمع بين العرفاني و العقلاني و العلمي- يحتقر و قد ينفي تماما علمية المعرفة العقلية و التجريبية الحسية و كثيرا ما يقلل من مصداقية العلم الفقهي باعتباره علما ظاهريا. و السائد هو تسمية هذا المفهوم بالعلم العرفاني و قد يسمى العلم الباطني او علم الاسرار او العلم اللدني و احيانا العلم الاشراقي وان كانت هنالك بعض الفروق بين دلالات هذه التسميات.
المفهوم الحديثي: وهو مفهوم يكاد يحصر معنى العلم،عند التحري، في نصوص الوحي أي – في اطار الدين الاسلامي- القرآن و السنة النبوية و، الى حد ما، العلوم المساعدة او الضرورية لفهم الوحي. و ربما امكن تسمية هذا المفهوم بـــالمفهوم الحديثي للعلم او المفهوم الفروعي( = غير الاصولي) للعلم.
و اذا كان التفكير العلمي هو ، كما تقدم، التفكير الذي يتصف بصفة العلم ويستوفي معاييره فان مما يتبادر للذهن في ضوء ما سبق عن تعدد مفاهيم العلم السؤال حول أي تلك المفاهيم، او غيرها، ينبغي الاعتماد عليه في تحديد معنى العلم/التفكير العلمي الذي يتعين البحث عن معوقاته في التراث الثقافي العربي؟
من الواضح ان تحديد ما اذا كانت هناك معوقات للتفكير العلمي في التراث الثقافي العربي و ما هي هذه المعوقات سيختلف باختلاف ما قد يتبناه المرء من مفهوم للعلم. و على سبيل المثال فان معوقات العلم بمفهومه الحديثي في العالم العربي يختلف كثيرا ، كما و نوعا، عن معوقات العلم بمفهومه التجريبي في العالم العربي.
و إذا كان مما قد يكون محل اتفاق أوسع انه لابد للعلم الذي يمكن اثبات علميته للاخر من دليل يسنده و يتيح مرجعا او معيارا مشتركا للاتفاق او الاختلاف عليه لان من المتعذر اثبات علمية معرفة لا تقوم على دليل يمكن التحقق منه فقد يكون مقبولا على نطاق واسع فهم العلم بانه ما قام على دليل يمكن التحقق منه وبالتالي يمكن فهم التفكير العلمي بانه تفكير يقوم على دليل.
على ان هذا الحديث عن المعوقات الموروثة للتفكير العلمي سينبني أساسا ليس على المفهوم الوارد آنفا و انما على نفس المفهوم الاصطلاحي التجريبي للعلم و التفكير العلمي الوارد سابقا ليس اقتناعا بانه المفهوم الاصح او الامثل و ليس لانه يمثل المفهوم المتبادر للذهن و خاصة في اوساط جمهور التعليم الرسمي و الاعلام الجماهيري في العالم العربي و انما نظرا لــ - اولا- كونه يبدو انه هو ما يمثل صلب مفهوم هذه الندوة للتفكير العلمي او الثقافة العلمية و – ثانيا- انه هو المفهوم السائد للتفكير العلمي في ادبيات نقد العقل/ التراث العربي و التي يتأسس عليها هذا الحديث و لن تجدي الا قليلا محاولة مناقشة تلك الادبيات بمفهوم اخر غير مشترك للعلم.
و لعل في ما سبق توضيحه من اطار عام للتراث و مفهوم اصطلاحي تجريبي للتفكير العلمي ما يتيح اساسا مشتركا لإمكان الحوار او الحديث المشترك عن العلاقة بين التراث و الفكر او التفكير العلمي.
تأثير التراث على الفكر:
لعل من الواضح ان ما ذهبت اليه أدبيات نقد العقل العربي من وجود عناصر ثقافية سلبية( معوقات) في التراث الثقافي العربي تعيق او تؤثر سلبا على التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر مبني على مقدمة ضمنية مفادها ان للتراث تأثير على الفكر لأنه ما لم تصح هذه المقدمة الضمنية لا يعد هناك اساس منطقي لاحتمال وجود عناصر في التراث الثقافي العربي تعيق التفكير العلمي. فما حقيقة و طبيعة و قوة علاقة التراث بالفكر؟
ان تأثير التراث على تفكير الورثة أمر تدعمه الملاحظة، و ربما تسنى التثبت من بعض هذا التأثير، كالتأثير الذي مصدره التراث الجيني، من خلال التجارب او البحوث العلمية. و الملاحظ في سائر المجتمعات ان عناصر التراث الثقافي، بما فيها طرق و انماط التفكير، تظل تنتقل من جيل الى جيل و ان كانت درجة ثبات او تغير هذه العناصر على مدار الزمن تختلف من مجتمع الى اخر و من جيل او عصر الى اخر. و لعل من اوضح حالات استمرار التراث و ما يتضمنه من افكار و انماط تفكير في فكر الورثة ما هو ملحوظ من استمرار الاجيال( الورثة) في الالتزام بذات التفكير الديني الذي كان سائدا لدى الاجيال التي ورثت عنها تراثها. و هو ما يعكسه بوضوح ما يلاحظ من انه رغم اختلاف او تماثل الظروف يظل ورثة التراث الاسلامي في الغالب مسلمين و ، الى حد ما، إسلاميي التفكير كما يظل ورثة التراث المسيحي في الغالب مسيحيين و مسيحيي التفكير وورثة التراث البوذي بوذيين و بوذيي التفكير. و بالاضافة الى الملاحظة هناك بعض النصوص الدينية ، و في مقدمتها بعض ايات القران الكريم، التي تدعم القول بان التراث الفكري الديني يؤثر على التفكير الديني للورثة .
و الارجح ان تأثير التراث الثقافي/الفكري على تفكير الورثة لا يقتصر على التفكير الديني بل يمتد، و ان بدرجات متفاوتة، الى سائر مناحي التفكير بما فيها التفكير الاجتماعي و التفكير المهني و التفكير العلمي بل و التفكير المنطقي حيث مثلا تشير بعض الدراسات
[16] الى ان ورثة التراث الطاوي / الصيني تظل طريقة تفكيرهم متميزة عن طريقة تفكير ورثة التراث الارسطي/ الغربي.
على ان التسليم بان التراث الثقافي يؤثر على تفكير الورثة لا يعني ابدا ان هذا التأثير تأثير حتمي او انه تأثير مطلق او كلي اذ لو كان الامر كذلك لما كان ما هو مشاهد من التغير التدريجي و احيانا التحول الكبير و المفاجئ في فكر الاجيال المتتالية ضمن نفس المجموعة الثقافية. و لو لم يكن مثل هذا التغير او التحول الفكري الذي يتنافى مع حتمية و كلية تأثير التراث على الفكر امرا ممكنا لبدت التدابير الالهية و الرسالات السماوية التي تتالت طلبا للتغيير عبثا يتعذر تعقله و لما كان هنالك معنى لدعوات و حركات التغيير الثقافي التي شهدها و يشهدها المجتمع البشري.
و العلاقة بين التراث و الفكر ليس علاقة احادية الاتجاه، اذ كما يؤثر التراث في الفكر كذلك يؤثر الفكر في التراث. و لعل من اوضح شواهد تأثير الفكر على التراث ما نشاهده في مختلف المجتمعات من احلال متواصل للفكر و الثقافة المكتسبين ( من ثقافة العصر) محل الفكر و الثقافة الموروثين و ما يترتب على مثل هذا الإحلال من اشكاليات او صراعات من قبيل ما انشغل المجتمع العربي طويلا في القرن الماضي ببعضها كصراع او اشكالية الاصالة- المعاصرة و اشكالية الجديد- القديم او من قبيل ما يؤرق اليوم المجتمع الدولي عموما كاشكالية زوال بعض الثقافات الموروثة باكملها.
و أمر آخر، لا يقل اهمية عما تقدم،هو ان التأثير المتبادل بين التراث و الفكر لا يعد، من المنظور القيمي او التقييمي، سلبيا بالضرورة و لا ايجابيا بالضرورة في أي اتجاه كان التأثير. و رغم ان هذه الحقيقة من الوضوح بحيث يغني عن ضرب الامثلة الا انها كثيرا ما يطويها النسيان او التناسي/ التجاهل في غمرة البحث عن، او الرغبة في دعم، مقولات او نظريات عامة تنحو الى تصوير التأثير احادي الاتجاه و احادي القيمة.
و اذا ترجح ان العلاقة بين الفكر و التراث الثقافي علاقة ثنائية الاتجاه ثنائية القيمة و ان هذا التأثير المتبادل هو، في كلتا الحالتين، ليس تأثيرا مطلقا بل هو تأثير يتفاوت شدة و ضعفا و سعة و ضيقا و سلبا و ايجابا و وجودا و عدما، ترجح ايضا انه لابد ان هذا التأثير يرتبط بعوامل او ظروف ما تملي ذلك التفاوت. فما هي تلك العوامل التي ترتبط بتأثير التراث الثقافي على الفكر او التفكير العلمي؟
العوامل الثقافية المتصلة بتأثير التراث على الفكر:
الارجح، كما سبقت الاشارة، ان التراث الثقافي انما يؤثر في فكر الورثة في وجود عوامل عديدة منها الثقافية و غير الثقافية و التراثية و غير التراثية . و تتفاوت هذ العوامل من حيث قوة و طبيعة علاقتها بتأثير التراث على الفكر اذ منها ما يعد عوامل ثانوية (مساعدة او معيقة) لا يتوقف عليها تحقق علاقة التراث بالفكر و منها ما يعد عوامل اساسية حيث ان توفرها ضروري لتحقق( او انتفاء) تأثير التراث على الفكر بينما عدم توفرها لتراث ما او لبعض عناصره يترتب عليه ضعف و، ربما، انتفاء تأثير ذلك التراث او العنصر المعني على فكر الورثة. و ليس من اليسير التحديد الدقيق و الشامل للعوامل الاساسية التي ترتبط او تقترن بتأثير التراث الثقافي على فكر الورثة سلبا و ايجابا. و اذا ما صرفنا الحديث الى التأثير السلبي فقط للتراث على الفكر، و ذلك التزاما بالموضوع المحدد، و اكتفينا بذكر بعض العوامل دون محاولة الاستدلال لها ليس قط لان المقام ليس مقام تفصيل و انما ايضا لان المقصود الاساسي هنا هو بيان ارتبط تأثير التراث على الفكر بعوامل معينة ايا كانت هذه العوامل، يمكن القول ان العوامل الثقافية التي ترتبط بالتأثير السلبي لعناصر تراثية ثقافية على تفكير الورثة تتضمن:
ان تكون تلك العناصر عناصر سلبية لان الأرجح في العناصر الايجابية ان يكون تأثيرها ايجابيا و إن كان من المتصور إمكان تحويل او تحول تأثير عنصر سلبي او ايجابي في حد ذاته الى نقيضه.
حضور تلك العناصر السلبية في وعي/لاوعي الورثة ، ذلك انه ليس كل العناصر السلبية في التراث تنتقل الى ورثته و ما لم ينتقل الى الورثة لا يتوقع منه ان يؤثر على تفكيرها. و كلما كان حضور العنصر السلبي مقترنا بالاعتقاد في مضامينه و خلفياته الثقافية و الرمزية و العقدية السلبية كلما كان تأثيره السلبي على الفكر اكبر اما اذا كان الحضور يفتقر لمثل ذلك الاعتقاد فان تأثيره على الفكر يقل وقد ينتفي، و لعل ذلك هو حال الكثير من العادات السلوكية المتوارثة التي تجردت من او انقطعت عن ابعادها الاعتقادية و الرمزية السلبية و كذا حال بعض الحكايات التراثية و المواد الخرافية التي تستذكر او تستعاد احيانا من قبل الورثة لمجرد التسلية او الدراسة العلمية. و ليس من المستبعد تماما في مثل هذه الحالة ان يتحول تأثير العنصر المعني من تأثي سلبي محتمل الى تأثير ايجابي محتمل.
غياب و عي فاعل يؤمن نجاح الو رثة في مقاومة التأثر بالعنصر السلبي المعني لسبب او آخر كالاعتقاد في ضرره او الايمان بعدم صحته او تعارضه مع عنصر اخر مرغوب و قوي الحضور.
ذلك عن تأثير العنصر التراثي السلبي على مطلق، او أي جانب من جوانب، التفكير عند الورثة كالتأثير على، مثلا، مدى الاقبال على التفكير و حجم الانتاج الفكري او نوعه. اما التأثير السلبي على ، تحديدا، الجانب او البعد العلمي للتفكير فيرجح انه يرتبط بعوامل اضافية لعل اهمها:
1. وجود تناقض او تنافر إقصائي بين العنصر المعني و مبدأ التفكير القائم على الدليل او دليل معين أي التفكير العلمي . و الغالب ان تناقض العنصر السلبي مع التفكير القائم على الدليل يكون مقتصرا على التفكير القائم على دليل او ادلة معينة دون دليل او ادلة اخرى كأن يتناقض العنصر السلبي مثلا مع الدليل المنطقي الارسطي بينما لا يتناقض مع الدليل التجريبي او العكس. و قد لا يكون التناقض من العمق و الوسع بحيث يكون على مستوى الدليل بل قد يكون تناقضا محصورا على حقيقة او حقائق علمية معينة.
2. وعي الوارث، سواء على المستوى الجماعي او الفردي، بوجود تناقض اقصائي بين العنصر السلبي و دليل ما او حقيقة علمية معينة و انحيازه، أي الوارث، الى العنصر السلبي في محل التناقض.
إذن، الظاهر ان اشتمال تراث على عناصر ثقافية سلبية مظن اعاقة التفكير العلمي لا يعني بالضرورة ان تلك العناصر فعلا اعاقت او تعيق التفكير العلمي لدى المجتمع الوارث بل يظل تأثير كل عنصر ثقافي سلبي رهنا بعوامل قد و قد لا تتوافر له. و اذا كان ذلك كذلك، فهل ان العناصر التي سبق ذكرها مما اوردته ادبيات نقد العقل العربي كمعوقات ثقافية للعلم و التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر توافرت لها العوامل المطلوبة؟ و هل انها فعلا أعاقت و تعيق ، و الى أي مدى، التفكير العلمي لدى المجتمع العربي المعاصر؟
الاجابة على السؤال المذكور تمثل مناقشة لجانب مهم، و ان كان فرعيا، من تصور ادبيات نقد العقل العربي للمعوقات الثقافية الموروثة للتفكير العلمي في المجتمع العربي. و لكن يستحسن ان نبدأ الاجابة بنظرة اكثر شمولية.

مراجعة تصور ادبيات نقد العقل لمعوقات التفكير العلمي

المتأمل في تصور ادبيات نقد العقل العربي للمعوقات الثقافية للتفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر، في ضوء مجمل ما تقدم من حديث، يجد ان هناك حاجة ماسة الى :

1. على المستوى المفهومي: مراجعة تلك العناصر المحددة كمعوقات ثقافية للتفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر من حيث مفاهيمها و دلالاتها لانه بدون بلورة توافق عام على مفاهيم اكثر وضوحا و دقة لتلك العناصر يصعب بل يتعذر قيام خطاب مشترك و حوار متبادل حولها .
2. على المستوى العلائقي/ التفاعلي: التحقق اكثر من طبيعة و اتجاه و قوة ما تفترضها ضمنيا او تصرح بها تلك الادبيات من علاقات بين تلك العناصر/ المعوقات و كل من التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر و التراث الثقافي العربي وكذلك علاقة تلك العناصر مع بعضها البعض.
3. على المستوى الاحصائي: التحقق- في ضوء (2) اعلاه – مما اذا كانت المعوقات التي اوردتها تلك الادبيات تشمل كل المعوقات الثقافية المهمة او، على الاقل، المعوقات الثقافية الاولى بالتركيز عليها، وهل ان المعوقات الثقافية عموما اكبر تأثيرا و اكثر اهمية في المجتمع العربي المعاصر من – ان كانت هناك- المعوقات غير الثقافية .
من ينظر في العناصر التي اوردتها الادبيات كمعوقات، على المستوى المفهومي يجد، مثلا، ان مفهومي اكثر عنصرين يترددان فيها كمعوقين اساسين للتفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر و هما الخرافة و اللاعقلانية ( المنهج اللاعقلاني) يكتنفهما الكثير من الضبابية و الهلامية. فمفهوم الخرافة يتسع عند البعض لكل ما لم يؤكد العلم التجريبي ثبوته او نفيه أي ان كل ما يقع خارج نطاق المعرفة البشرية التجريبية، بما فيه مثلا وجود الخالق ووجود كائنات كالملائكة، يعتبر من الخرافة او مدلولاتها؛ ثم يضيق المفهوم قليل عند البعض ليعني كل ما انتفى فقط ثبوته بمعنى ان كل خبر او فكرة ثبت كذبها او خطأها يعتبر خرافة، ثم يضيق اكثر ليعني ليس كل ما انتفي ثبوته و انما فقط ما انتفى ثبوته مما يشتمل على خيال او مبالغة او تهويل كبعض الحكايات الشعبية؛ ثم يضيق اكثر فاكثر ليعني ليس كل ما انتفي ثبوته مما فيه خيال و مبالغة و انما فقط ما يتعلق منه بما وراء الطبيعة كقصص الالهة. و لان مفهوم الخرافة يعوزه تحديد دقيق متفق عليه فان العلاقة بينها وبين المفاهيم المشابهة او ذات الصلة كالاسطورة و الغيبيات و ...الخ ظلت تتفاوت بين مستويات او علاقات التطابق و الاشتمال و التقاطع و التمايز.
كذلك مفهوم اللاعقلاني، في ادبيات نقد العقل عموما، يتعدد بقدر تعدد مفاهيم العقلاني/ العقلانية. و اذا كان من الشائع في ادبيات نقد العقل اعتبار الدين، كل دين، خرافة او لا عقلانية فانه حتى العلوم التجريبية لم تسلم من اعتبارها علوما لا تستوفي شرط العقلانية وفقا لبعض مفاهيم العقلانية بينما- في المقابل- ذهب بعض العقلانيين الى انه لا فرق بين المعرفة الدينية و المعرفة العقلانية. و من اشكاليات هذا المفهوم، اي اللاعقلاني، بالاضافة الى التعدد المربك تقريبا، انه كثيرا ما يستخدم للإيحاء بان الموصوف به يعد امرا خطأ مع انه– في اصطلاح البعض- ليس كل لاعقلاني خطأ و ليس كل عقلاني صواب. كذلك كثيرا ما يطلق وصف اللاعقلاني، و الى حد ما وصف الخرافة، بناء على معايير ذاتية / نفعية او ايديولوجية و ليس معايير موضوعية ، و مما قد يذكر بهذا الخصوص ما يقال من ان مجموعة من العلماء، من بينهم 52 من حملة جائزة نوبل، نشرت في حزيران 1993 بيانا تحذر فيه من علم البيئة بوصفه " ايديولوجيا غير عقلانية"
[17]
و كما مفهوما الخرافة و اللاعقلاني، كذالك مفهوم الدين يثير خلافا إذ يوسعه البعض بحيث لا يعد هناك انسان ، مؤمن او ملحد، الا وله دين بينما يضيقه البعض ليشير فقط الى الاديان المعروفة بشعائر تعبدية معينة. و لا يخفى ما للمفهومين و للمفاهيم المندرجة بينهما من تبعات متباينة. و بالمثل يتضح مما سبق ان مفهوم التفكير العلمي ايضا يحتاج الى اعادة نظر وتحديد . و الواقع ان من اهم مصادر الخلل/ الاختلاف في تحديد مفهومي الخرافة و اللاعقلاني هو الخلل/ الاختلاف في تحديد مفهومي العلمي و العقلاني اذ انها مفاهيم مترابطة مع بعضها البعض. واذا كان السائد في ادبيات نقد التراث العربي ان معيار التفكير العلمي هو معيار المنهج التجريبي فقد سبقت الاشارة الى بعض الاوجه التي تقدح في سلامة هذا المعيار. و معلوم ان من شأن اعتلال المعيار ان يضع كل ما بني عليه موضع الشك حتى يثبت العكس. و مع ان البعض قد يختار معيارا اوسع نسبيا مثل معيار البرهان العقلي الا انه كثيرا ما يتم تضييق مفهوم العقل بحيث لا يعد يتسع لأكثر من العقل الوضعي او الديكارتي.
و هكذا، يبدو انه لابد من تمحيص و تحقيق دلالات و مفاهيم العناصر التي تساق كمعوقات ثقافية للتفكير العلمي، و الذي يحتاج هو الاخر الى تحديد مفهومه، قبل ان يتسنى اجراء حوار او حديث مشترك علمي او عقلاني فعال.
و من شأن عدم و ضوح او عدم دقة او اختلاف المفاهيم ان ينعكس سلبا على تصور او تحديد العلاقة بين تلك المفاهيم بينما من شأن التوافق على دلالات و مفاهيم اكثر دقة و ادعى للتوافق عليها ان يساعد على حسن فهم و تحديد مختلف جوانب العلاقات بينها. و مع ذلك فان اشكالية المفاهيم ليس الا مصدرا واحدا من مصادر اشكالية تصور ادبيات نقد العقل العربي للعلاقة بين التفكير العلمي و العناصر التراثية التي اوردتها كمعوقات لها.
فبينما يبدو انه كما ان تاثير التراث على الفكر لا يبدو تأثيرا كليا مطلقا فكذلك العناصر التراثية التي اوردتها الادبيات كمعوقات للتفكير العلمي ليست علاقتها بالتفكير العلمي علاقة بالضرورة علية مطلقا، اكتفت أدبيات نقد العقل العربي عموما بالوجود المتزامن او الاقتران الظاهري بين ما لاحظته في المجتمع العربي من ضعف او تعثر التفكير العلمي و انتشار تلك العناصر التراثية التي هي مظن التأثير السلبي على التفكير العلمي فيه كمقدمة كافية للاستنتاج بان العناصر المذكورة هي السبب الاساسي او سبب ضعف او تعثر التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر و ، بالتالي، صنفتهاعلى انها المعوقات الثقافية للتفكير العلمي في المجتمع العربي. و بغض النظر عن صحة او عدم صحة هذه العلاقة العلية( المستنتجة) فان منهج الادبيات لتقريرها منهج معيب لان مجرد التزامن او الاقتران لا يكفي للحكم بالعلية و ان كان ذلك هو ما كان سائدا في الفكر الانساني في مراحله البدائية. و من الواضح ان الادبيات قد بنت تصوراتها على الحكم بان ما لاحظته من علاقة التزامن و الاقتران هي علاقة عليه تفيد اعاقة تلك العناصر للتفكير العلمي من دون ايراد ما يكفي من الادلة لاثبات تلك العلية و دون- مثلا- ان تولي اهتماما يذكر للتحقق من توافر او عدم توافر العوامل المطلوبة- ربما بما فيها المذكورة سابقا- لتمكن تلك العناصر من التأثير السلبي على التفكير العلمي بل و دون- للمفارقة- اخضاع هذا الحكم او الاستنتاج لمعيار المنهج التجريبي الذي حددته اكثرها كمعيار أوحد للعلم و التفكير العلمي و الحقيقة العلمية.
و نحسب ان تركيز الادبيات على علية تلك العلاقة جعلها تغفل او تهمل الجوانب الاخرى المحتملة لتلك العلاقة مما جعلها، او بعضها، احيانا تسئ التقدير او الحكم . و، على سبيل المثال، ربما ما كان لبعض أدبيات نقد العقل العربي ان تضخم كثيرا دور الخرافة/ اللاعقلاني في إعاقة العلم/ التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر لو انها أخذت في الاعتبار ان تلك العلاقة قد لا تكون، على الاقل احيانا او في بعض الحالات،علية و ان هنالك جوانب تتضمن احتمالات اخرى للعلاقة بين الخرافة/ اللاعقلاني و بين العلم/ التفكير العلمي، و من تلك الجوانب- مثلا :
1- ظاهرة تعايش الخرافة/ اللاعقلاني مع العلم ليس فقط على مستوى المجتمع او العقل الجماعي و انما حتى على مستوى الفرد. و هذا التعايش ما انفك ملحوظا حتى في سائر الحضارات الاكثر عطاء علميا بما فيها اقدم الحضارات المعروفة كالبابلية و الإغريقية أو أوسطها كالإسلامية أو أحدثها ممثلة في الحضارة الغربية المعاصرة. فمجتمع الحضارة البابلية الذي- من جانب- بلغ ، وفقا لبعض المراجع، شأوا كبيرا في علوم الرياضيات و الفلك و الطب و التقويم حتى ان بعض نظمهم التقويمية ما زالت متبعة في التقويم المعاصر كان – في الجانب الآخر- مجتمعا غارقا في الخرافة و اللاعقلاني بما فيها العرافة و السحر و الشعوذة حتى قيل ان البابليين كانوا " حقا ارباب العلم المقدس او علم الهيئة و العرافة حيث يمتزج الدين بالسحر"
[18] . و يبدو ان المجتمع البابلي لم يكن يمانع و لا يرى تناقضا في الجمع بين هذين الجانبين حتى انه يقال ان الطبيب و المعزم[19] كانا يرافقان بعضهما و يذهبان سويا الى المريض للتعاون في معالجته. و مجتمع الحضارة الاغريقية بقدر ما عرف بعلم المنطق و الفلسفة و الاهتمام بالعلم الطبيعي عرف ايضا بأشهر الاساطير. و حتى على المستوى الفردي نجد اشهر فلاسفة مجتمع الحضارة الاغريقية و علمائه يجمعون بين العلم و الخرافة و العقلاني و اللاعقلاني، فالفيلسوف ارسطو، اب المنطق، يقدس الكواكب و الفيلسوف افلاطون يستعين بالاساطير بينما- في الحضارة الرومانية- جالينوس الذي اشتهر بطبه حتى ضرب به المثل لم يكن يرى تناقضا في ان تجمع وصفاته الطبية بين العقاقير العلمية و التعاويذ السحرية. و مجتمع الحضارة الاسلامية الذي يقر له الكثير بالفضل في تأسيس او تطوير المنهج التجريبي لم يصنه لا تفكيره العلمي و لا توحيده العقدي من تغلغل مختلف اشكال و صور الخرافة و اللاعقلانية – التي نشكوا من امتداداتها اليوم- فيه غالبا، و هنا المفارقة، تحت مسمى العلم و مباركة التأويل الديني!. اما مجتمع الحضارة الغربية المعاصرة فلا شيء فيه يبدو اغرب مما لوحظ بشكل اوضح مؤخرا من اقتران التقدم المذهل للعلم و فتوحاته المتسارعة بالصعود المتنامي للاعقلانية و الخرافة و التين يبدو ان المجتمع الغربي يشهد بمختلف فئاته و شرائحه ردة جامحة اليهما. و اذا جاز ان نقارن الاحصائيات المتاحة – رغم تسليمنا بضعف وثوقيتها- كمؤشرات تقريبية لا يبدو ان المجتمع الغربي المشهور بعلمه احسن حالا كثيرا في هذا الجانب من المجتمع العربي / الشرقي المشهور بخرافيته و لاعقلانيته. فاذا كان المجتمع المصري يصرف على العرافة و التنجيم عشرة مليار جنيه سنويا[20] فان المجتمع الفرنسي يصرف لنفس الغرض سبعة مليار فرنك فرنسي سنويا[21] بينما يقال ان المجتمع الايطالي صرف على السحرة عام 1988مليار دولارا[22]. اما المجتمع الامريكي الاوفر حظا من الاختراعات العلمية فلا يبدو انه اقل حظا من غرائب الخرافة و الدجل و اللاعقلاني حيث يقال مثلا ان دخل مركز ميتافيزيقي واحد يبيع و يؤجر المراجع الروحية و التعاويذ و الابخرة يزيد على مائتى الف دولارا في الشهر الواحد[23]. و اذا ما كان الحكام في الحضارات القديمة و بعض حكام الشرق المعاصرين اتخذوا من العراف او المنجم معاونا رسميا او مستشارا سريا فكذلك فعل و يفعل بعض حكام الغرب المعاصرين. تلك بعض الامثلة/ الوقائع عن ظاهرة تعايش العلم / التفكير العلمي مع الخرافة/ اللاعقلاني سواء على مستوى المجتمع او الفرد.
2- لا تقف العلاقة بين العلم/ التفكير العلمي و الخرافة/ اللاعقلاني عند حد امكان التعايش على المستوي الجماعي و الفردي بل بينهما علاقة مباشرة و تداخل ملحوظ و امتدادات متشابكة و تبادل للمواد. و اذا كان من المألوف بهذا الصدد تحول بعض ما بدت حقائق بل اكتشافات علمية، كإكتشاف اشعة أن ( n ) ، الى مجرد اوهام يصدق عليها مفهوم البعض للخرافة فان – في المقابل- بعض ما كانت توصم بالخرافة و الغيبيات من مثل التنويم المغناطيسي و ظاهرة التليباثي بدأ العلم يعيد النظر في الحكم بخرافيتها و غيبيتها تماما كما اعاد النظر في بعض ما كان قد سلم بها لقرون عديدة كحقائق علمية مطلقة مثل مبدأ السببية و قانون الجاذبية . و اذا كانت الاساطير الخرافية لا تخلوا من بعض الحقائق- او انها كما يزعم البعض كانت في الاصل حقائق ثم حرفت و شوهت الى اساطير- فان بعض النظريات المقبولة علميا على نطاق واسع تشتمل او مبنية على اجزاء او أسس تصدق عليها بعض مفاهيم الخرافة او الاسطورة. و ليس بخاف، مثلا، ان نظرية فرويد الشهيرة في الاوساط العلمية تتبنى عقدة اوديب التي لا تقل عنها شهرة في الاوساط المعنية بالاساطير . و ربما مثل هذا التداخل المربك احيانا و النقد المتواصل الذي تتعرض له اسس العلم الطبيعي و منهج المعرفة التجريبية هما مما جعل البعض يتحدث عن "خرافة العلم" بينما تنبأ البعض الاخر بـ "نهاية او موت العلم" في الوقت الذي بدأ فيه البعض يدعو الى رد الاعتبار الى العلوم الغيبية و العرفانية و الروحية. و الواقع- في ما نقدر- ان الصعوبة التي تواجهها المعرفة البشرية في التمييز الفوري و النهائي بين ما هو علم و ما هو غير علم من الخرافات و الاساطير و غيرها لا يعنى بالضرورة عدم وجود حد او فاصل موضوعي بينهما بيد انه يبدو ان هذا الحد ليس حدا مستقيما ونهائيا و ثابتا بل سيظل، في نطاق المعرفة البشرية الحالية، حدا متمعجا و متحركا مع تذبذب و تحرك المعرفة البشرية.
3- رغم الاختلاف و التباين بينهما فان الخرافة/ اللاعقلاني، كما العلم/ التفكير العلمي، مصدره العقل- العقل كعملية- أي ان المصدر واحد. كذلك فان الخرافة/ اللاعقلاني، كما العلم/ التفكير العلمي، الدافع اليه هو حب الانسان للمعرفة و شغفه بالتفسير أي ان الدافع اليهما واحد.
و اذا ما بدا ان العلاقة بين العلم/ التفكير العلمي و الخرافة/ اللاعقلاني علاقة تعايش و تداخل و اشتراك في المصدر و الدافع، فهل لابد ان تكون هذه العلاقة دائما علاقة علية احادية الاتجاه سلبية التأثير؟
نظريا يمكن القول ان التعايش يمكن ان يكون تعايشا سلبيا يضر بأحد او كلا الطرفين، او ايجابيا يفيد احد او كلا الطرفين، او سلبيا- ايجابيا ينطوي على ضرر و نفع لاحد او كلا الطرفين، و لكنه يمكن ان يكون ايضا تعايشا منقطعا لا يضر و لا ينفع ايا من الطرفين. و بالمثل يمكن ان يكون التداخل عنيفا او رفيقا او خليطا منهما. ويمكن ان يصح هذا القول ليس فقط على مستوى البشر و مؤسساتهم او على مستوى الكائنات الحية عموما و انما ايضا – الى حد ما- على مستوى المفاهيم المجردة حتى ما كانت، او بدت، منها متقابلة كالحق و الباطل و القديم و الجديد. و اذا كان ذلك كذلك أي ان الاصل هو تعدد صور و احتمالات التعايش و التداخل عموما ليس من الموضوعية ان نفترض كون التعايش و التداخل بين العلم/ التفكير العلمي و الخرافة/ اللاعقلاني هما بالضرورة على صورة واحدة او احتمال واحد دون ايراد ما يكفي من الادلة التي تنفي او تستبعد الصور و الاحتمالات الاخرى.
و لعله لا خلاف في ما تؤكد عليه ادبيات نقد العقل العربي من الانتشار الواسع لظاهرة الخرافة/ اللاعقلاني في المجتمع العربي المعاصر و اقتران او تزامن هذه الظاهرة مع ظاهرة تعثر و ضعف العلم / التفكير العلمي التجريبي في المجتمع العربي المعاصر فكلتاهما ظاهرتان واقعيتان ربما لا يشك فيهما احد. و لكن ما يتطلب المزيد من التحقيق و الدراسة هو ما يفهم غالبا من تلك الادبيات من ان العلاقة بين الظاهرتين المذكورتين علاقة تتخذ صورة واحدة هي الصورة العلية و قيمة واحدة هي القيمة السلبية و اتجاها احاديا هو اتجاه الخرافة/ اللاعقلاني ← العلم / التفكير العلمي بمعنى ان العلاقة هي فقط علاقة علية سلبية تؤدي الى اضرار الخرافة / اللاعقلاني بالعلم/ التفكير العلمي و هو اضرار يتم التعبير عنه غالبا بالإعاقة او مفاهيم مماثلة. و مما يستدعي مثل هذا التحقيق او الدراسة:
1. منطقيا، ليس هناك، مبلغ فهمنا، ما يستلزم ان تكون العلاقة بين العناصر التراثية التي اوردتها الادبيات كمعوقات و التفكير العلمي التجريبي حتما علاقة علية. فليس الخرافة او اللاعقلاني او الدين مانعا كافيا من التفكير العلمي التجريبي في كل الحالات كما انه ليس انتفاء الخرافة و اللاعقلاني و الدين سببا كافيا لقيام و ازدهار التفكير العلمي التجريبي. و لعل من الملاحظات الاولية ( =غير الثابتة علميا) التي ربما امكن الاستئناس بها لمثل هذا النفي انه لا يبدو، في الواقع، ان المجتمع او الفرد الاكثر خرافة او لاعقلانية او تدينا هو بالضرورة اقل ابداعا او انتاجا علميا ( العلم التجريبي/ الطبيعي) من المجتمع او الفرد الاقل خرافة و لاعقلانية و تدينا او – افتراضا- يخلو منها و منه تماما، بسبب العبء الزائد من الخرافة/ اللاعقلاني/ التدين( أي بافتراض ثوابت العوامل الاخرى). و لا اعلم بهذا الخصوص عن أي دراسة ميدانية اثبتت ان- مثلا- المجتمع او الفرد الملحد( و بالتالي الخالي، وفقا لبعض المفاهيم، من خرافة الدين و الغيبيات) اكثر إبداعا او انتاجا علميا من المجتمع او الفرد المؤمن ( وبالتالي المكبل بخرافة الدين و الغيبيات). و لا ادري ان كانت هنالك دراسات اثبت ان- مثلا- الجماعات الشيوعية/ الملحدة ( التي لا تؤمن بخرافة الدين و الغيبيات) اكثر او احسن ابداعا علميا من الجماعات المؤمنة او ان العالم الملحد الغربي او الشرقي اكثر انتاجا علميا من نظيره المؤمن. على ان عدم ثبوت علاقة علية حتمية او ضرورية و كلية بين متغيرين او اكثر لا يعني عدم وجود علاقة علية احتمالية بينهما. و لذلك يبقى وجود علاقة علية احتمالية بين العناصر المذكورة و التفكير العلمي وارد منطقيا، و لعل الملاحظات الاولية العامة ذات الصلة ترجح وجود هذه العلاقة
2. نظريا، قد تكون وقد لا تكون العلاقة بين الخرافة/ اللاعقلي و العلم/ التفكير العلمي( بالمفهوم التجريبي) في واقع المجتمع العربي المعاصر كما حددتها ادبيات نقد العقل العربي بيد انه لا يمكن التأكد من مصداقية وواقعية ذلك التحديد دون البحث الموضوعي في الاحتمالات الاخرى( المشار اليها آنفا) للعلاقة و التأكد من انتفائها او عدم اهميتها واقعيا وهو ما لم اقف عليه في تلك الادبيات. و ربما امكن التغاضي عن عدم اهتمام ادبيات نقد العقل العربي بدراسة و التأكد من انتفاء او عدم اهمية الاحتمالات الاخرى للعلاقة بين الخرافة/ اللاعقلي و العلم/ التفكير العلمي في واقع المجتمع العربي لو ان هناك دراسات او ادبيات اخرى تحققت عمليا من انتفاء او عدم اهمية مثل تلك الاحتمالات في المجتمعات الاخرى و خاصة الشبيهة بالمجتمع العربي.
3. ان التأكد من انتفاء او عدم اهمية الاحتمالات الاخرى للعلاقة بين الخرافة/ اللاعقلي و العلم/ التفكير العلمي و ان كان ضروريا الا انه لا يكفي علميا لإثبات الاحتمال غير المنفي والمتمثل في هذه الحالة- وفقا لأدبيات نقد العقل العربي- في تعويق الخرافة/ اللاعقلاني للعلم/ التفكير العلمي. اذ مما يتطلبه التثبت من تعويق الخرافة/ اللاعقلاني للعلم و التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر التأكد من توافر الثقافة/ المجتمع العربي المعاصر او – تحديدا- العناصر التي هي مظن اعاقة التفكير العلمي على ما يلزم لتحقق مثل هذه الاعاقة من متطلبات او عوامل ذات صلة سبق لنا ان ذكرنا بعضها. و الحال، كما سبقت الاشارة، ان ادبيات نقد العقل العربي لا تتوافر على مناقشة كافية لمثل تلك المتطلبات والعوامل.
4. تضخيم ادبيات نقد العقل العربي لدور اللاعقلاني و الخرافة في اعاقة العلم و التفكير العلمي التجريبي في المجتمع العربي المعاصر بثير بعض الملاحظات التي تبدو غير منسجمة مع مثل ذلك التضخيم . و من تلك الملاحظات التي لفتت نظري انه بناء على ما تؤكده ذات الادبيات من تغلغل وانتشار اللاعقلاني و الخرافة في مجتمع الحضارة الاسلامية و تتبعها لمدى حضور ذلك اللاعقلاني و الخرافة في اذهان و آثار مختلف شخصيات الحضارة الاسلامية نجد ان اكثر من نبغوا في العلم التجريبي بما فيه علوم الطب و الفلك و الرياضيات و الكيمياء وكذا المنطق و الفلسفة لم يكونوا هم العلماء الابعد او الاقل حظا من اللاعقلاني مثل- وفقا لتصنيفات بعض تلك الادبيات- الفقهاء و انما هم العلماء الاكثر حظا و اقوى تأثرا باللاعقلاني مثل- وفقا لتصنيفات تلك الادبيات ايضا- العرفانيينّّ و بعض الفلاسفة !!. و لعل ظاهر مثل هذه الملاحظة يغرى باستنتاج يناهض بل يناقض ما ذهبت اليه تلك الادبيات من تضخيم لدور اللاعقلاني و الخرافة في اعاقة العلم/التفكير العلمي في المجتمع العربي و– في المقابل- قد يذكّر بما يراه البعض من ان للاساطير الخرافية دور ايجابي في نشوء/ تقدم الفلسفة التي تسمى احيانا ام العلوم في اشارة الى ما يقال بان العلوم الاخرى تفرعت عنها كما يذكر بدور محتمل لبعض الخرافات، كخرافة تحويل المعادن الى ذهب،في تطوير بعض العلوم التجريبية كعلم الكيمياء.
و اذا بدا ما يوحي به ذلك من احتمال وجود علاقة ايجابية بين العلم / التفكير العلمي و اللاعقلاني/ الخرافة في مجتمع الحضارة الاسلامية أمرا غريبا و ربما- عند البعض- لاعقلانيا و خرافيا يبقى هنالك ايحاء اخر هو احتمال ان العلاقة كانت علاقة انقطاعية على مستوى اولئك العلماء بمعنى ان وجود اللاعقلاني و الخرافة عند نبغاء العلم ( التجريبي) في الحضارة الاسلامية لم يكن له أي تأثير على علمهم وانما تواجد فقط لملء الفراغ المعرفي الذي عجز تفكيرهم العلمي عن ملئه باجابات و افكار علمية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"