بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 30 سبتمبر 2010

دراسات في التفكير العلمي/1

التراث و التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر

جاء عنوان الموضوع الذي كلفت بالكتابة فيه في صيغة تساؤل يقول"هل يوجد في التراث العربي أي معوقات تحول دون التفكير العلمي؟". و رغبة في التركيز على نطاق أضيق رأيت ، مسترشدا بعنوان الندوة و اهدافها، ان يتركز البحث في التراث العربي الثقافي النظري فقط وليس كل التراث العربي، و ان يكون المعني بالمعوقات هو فقط المعوقات الثقافية التي تعيق او تؤثر سلبا في و لكن ليس بالضرورة ، و ان كانت قد، تحول دون التفكير العلمي. و من المفترض ان المعني بالتفكير العلمي هو التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر.
و حيث ان الموضوع محل البحث تناولته دراسات عدة سابقة عنيت بموضوع العقل او التراث العربي الاسلامي فقد آثرنا ان ننظر فيه من خلال ما جاء في تلك الدراسات، و خاصة أدبيات نقد العقل/ التراث العربي الاسلامي او الشرقي، أملا في ان يسهم ذلك في تعزيز التراكم و البناء المعرفي في مجال دراسات العقل/ التراث العربي الاسلامي .

معوقات التفكير العلمي في ادبيات نقد العقل العربي

المتأمل في الأدبيات التي تتناول، بشكل رئيسي او عرضي، نقد العقل/ التراث العربي الاسلامي او الشرقي عموما(
[1]) يجد ان اكثرها تركز ، في ما يشبه الاجماع، على تأكيد ان التفكير العربي المعاصر مثقل بالتراث مشدود اليه بل- عند البعض- خاضع له تماما بينما هذا التراث مثقل بدوره بالكثير من العناصر السلبية التي تعيق او تحول دون، التفكير العلمي. و ربما امكننا ان نجمل اهم ما تورده تلك الادبيات من ما اعتبرته معوقات ثقافية موروثة للتفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر في :
الخرافة:
تنحو بعض الادبيات(2) الى ان آفة التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر هو هيمنة الخرافة المستمدة من التراث العربي على هذا التفكير. و للتدليل على مدى تغلغل الخرافة الموروثة في التفكير العربي المعاصر تشير الدراسات الى الانتشار الواسع للاساطير وممارسات الشعوذة والدجل و التنجيم و التبريج و تعاطي السحر و الطير و الايمان بالاشباح و الاعتقاد في الاموات و الاولياء و دعاوى امتلاك و تسخير الجن و قصص تلبس الجن بالبشر و زواجهم منهم و استيلائهم على مساكنهم. و تؤكد ذات الادبيات ان تلك الممارسات و المعتقدات الخرافية لا تقتصر على التجمعات البدائية او الريفية و الشرائح الدنيا من المجتمع العربي بل تتجاوزها الى التجمعات الحضرية و الشرائح المتعلمة من الذكور و الاناث صعودا الى النخبة العليا الثقافية و السياسية في قمة المجتمع العربي.
و مما يدعم ما ذهبت اليه تلك الادبيات من انتشار الخرافة و الشعوذة و الدجل في المجتمع العربي المعاصر ما اوردته بعض المصادر
[3] - نقلا عن دراسة ميدانية اجراها الدكتور محمد عبدالعظيم، من مركز البحوث الجنائي في القاهرة- من مؤشرات احصائية تفيد ان العرب ينفقون سنويا زهاء خمسة مليارات دولارا امريكيا على الشعوذة و ان هناك 250 الف أي ربع مليون يمارسون مهنة الشعوذة في العالم العربي
و لم أقف في ما اتيح لي الاطلاع عليه من ادبيات نقد العقل على دراسة علمية تفصل، على نحو شامل، كيف تعيق الخرافة التفكير العلمي و ما هي الطرق و الآليات التي من خلالها تؤثر الخرافة الموروثة على التفكير العربي العلمي المعاصر. بيد ان من المتصور ان تتضمن طرق و اليات و اوجه تأثير الخرافة على التفكير العلمي :
- تقدم الخرافة لضحاياها معتقدات غير علمية تسعفهم بتفاسير و تعليلات جاهزة خرافية لما يواجهونه من مشكلات او يلاحظونه من ظواهر على نحو يصرفهم عن البحث و التفكير العلمي في تفسير و تحليل تلك المشكلات و الظواهر. و من ذلك ما يتردد احيانا من التفسير الديني او الاخلاقي لبعض الظواهر و الكوارث الطبيعية كالزلازل و الكسوف او الأوبئة القاتلة
- تقدم الخرافة لضحاياها او تعدهم بحلول و معالجات مغرية لمشكلاتهم و همومهم و رغباتهم فلا يجدون حاجة للتفكير العلمي وتعلم العلم او توظيفه لحل مشكلاتهم و تحقيق رغباتهم. و من ذلك اللجوء لأعمال السحر و الشعوذة و التنجيم ليس فقط لمحاولة علاج الامراض و حل المشكلات الزوجية و انما ايضا لأغراض اخرى عديدة من قبيل محاولة تكهن المستقبل السياسي و التعيينات السياسية و تكوين الثروة ( مباشرة بإستكثار او استنساخ الدولارات باستخدام الزئبق الاحمر تماما كما حاول بعض السلف استكثار الذهب بتحويل المعادن) بل و حتى تحقيق الغلبة في المنافسات الرياضية. و من الواضح انه كلما توسعت و ازدادت اهداف ومجالات اللجوء للخرافة كلما تقلصت الحاجة للتفكير العلمي في تلك المجالات و ازداد، تبعا لذلك، عدد العلوم التي يقل الاقبال على تعلمها او توظيفها
- العائد المادي المجزي، الفعلي و المتوقع، لممارسة المهن التي توظف الخرافة يدفع البعض الى العزوف عن تعلم المهن العلمية او حتى تركها بعد تعلمها و الاتجاه الى تعلم و ممارسة المهن المرتبطة بالخرافة.
- الأموال و الجهد و الوقت الذي يستهلكه الانشغال بالخرافة من قبل ممارسيها و عملائهم يمثل خصما مقدرا على الأموال و الجهد و الوقت الذي كان يمكن ان يوجه لاكتساب العلم و تطويره و اشاعة التفكير العلمي.
- ما يشاع عن بعض الانجازات و النجاحات للمهن التي توظف الخرافة، و خاصة في بعض المجالات و الحالات التي تعجز فيها المهن العلمية او بعض ممارسيها، يعزز ايمان البعض بالخرافات بينما يضعف اكثر الثقة في العلم عند ضحايا الخرافة و يولد او يكرس عند البعض الاخر الشك في العلم و قدراته فيقل اجتهادهم في العلم و كسبهم له و ربما رغب بعضهم عن العلم و التفكير العلمي الى الخرافة. و – للمفارقة- من ما يسهم في الدعاية للخرافة ما تتكشف عنه بعض الدراسات و البحوث العلمية من اقبال واسع على الخرافة و الدجل حتى في المجتمعات المتقدمة و تخبط بعض اشد منتقدي الخرافة و الدجل من "العقلانيين" في تفسير ما ينسب للخرافة من نجاحات و انجازات بمثل عزو بعضهم لها الى مجرد الصدفة.
الدين:
يذكر البعض الدين كأحد المعوقات الموروثة للتفكير العلمي في الفكر العربي. و تتعدد الاوجه و الاعتبارات التي بسببها يعد الدين معوقا من معوقات التفكير العلمي، حيث يشير او يصرح هؤلاء البعض الى واحد او اكثر من الاوجه و الاعتبارات التالية:
- الدين اسطورة/ خرافة: يتراوح القول في اعتبار الدين اساطير او خرافة بين القول بان الدين- كل دين- اساطير/خرافة و بان من الدين ما هو اساطير/ خرافة او ممزوج بالاساطير/الخرافة. و وفقا لذلك فان كل او بعض الديانات الموجودة في المجتمع العربي بما فيها الاسلام و المسيحية بل و الوحي مطلقا بما فيه القرآن الكريم يعد اساطير باطلة او خرافة. و تصنيف الدين ضمن فئة الاساطير الباطلة/ الخرافة يعني ان اديان المحتمع العربي تعيق التفكير العلمي في المجتمع العربي على ذات الاوجه التي تعيق بها الخرافة التفكير العلمي.
- يتضمن الدين، سواء على مستوى نصوصه الاساسية او الفقه او الخطاب المنسوب اليها، عناصر يثبط و يقاوم التفكير العلمي او يكرس التفكير اللاعلمي. و من تلك العناصر:
أ‌- انكار الدين عموما قدرة العقل البشري على تمييز الخطأ من الصواب و معرفة ما يفيد او يضر الانسان دون الاستعانة بالوحي و الالتزام بمقرراته
ب‌- حظر الدين التفكير العلمي الحر في مجالات عدة مع إعلائه لسلطة الفقهاء على غيرهم من العلماء و المفكرين الامر الذي مكن الفقهاء و- من خلالهم- الحكام من سوء توظيف سلطة الفتاوى الفقهية في اضطهاد العلماء و المفكرين و ارهابهم و احيانا صرف العامة عن طلب العلم غير الديني او منع تدريس او تعليم مواد علمية معينة او الترغيب عن الاستفادة من بعض التقنيات العلمية. و معلوم حملات التكفير التي طالت بعض المفكرين العرب بل و حتى بعض الفقهاء و ما ظل يواجهه تدريس بعض المواد كالفلسفة من ممانعة او قيود في بعض المؤسسات التعليمية العربية و ما يتردد عن مواقف و ربما فتاوى ترغب عن استخدام بعض التقنيات كالتلفاز مثلا.
ت‌- طلب الدين من اتباعه التسليم بمقولات لاعقلانية تتناقض مع قواعد العلم و المنطق البشريين او حقائق التاريخ.
- تشجيع الدين الزهد في الدنيا و، بالتالي، في علومها المتعلقة بالكون و المجتمع و المعاش و صحة البشر و..الخ.
المنهج المعرفي اللاعقلاني:
يشير مفهوم المنهج المعرفي اللاعقلاني هنا الى مجمل الاتجاهات المعرفية التي تقلل من، او تنفي كليا، قدرة او صلاحية الادراك العقلي و التفكير العقلي في الوصول الى المعرفة الحقيقية و خاصة، و لكن ليس فقط، في المجال الديني او الغيبي و ترى امكان او لزوم التحول عن طريق العقل الى طريق او طرق اخرى لإدراك او معرفة الحقيقة مثل رياضة النفس و الأشخاص المعصومين. و مما يدرج ضمن هذه الاتجاهات ما سماهم الشهرستاني
[4] قديما باصحاب الروحانيات و اصحاب الهياكل و الاشخاص و الحرنانية، و منها[5] الاتجاه الغنوصي و الاتجاه العرفاني و الاشراقي و غير ذلك من اتجاهات اللامعقول التي نشطت او تنشط داخل الثقافة العربية الاسلامية. و ربما ادرج البعض ضمن هذه الاتجاهات الاتجاه الاشعري لما ينسب اليه من انكار السببية التي تعد مسلمة اساسية لقيام المنهج العلمي. و تؤكد ادبيات نقد العقل العربي ان هذه الاتجاهات او سلالات متولدة او متفرعة عنها ما زالت تشكل حضورا مقدرا في التفكير العربي الاسلامي.
و يعاب على هذه الاتجاهات انها تقلل الثقة في العقل و تشكك في قدراته الادراكية سواء عن طريق التأمل و التفكير المنطقي او الادراك الحسي و هو ما ينعكس سلبا على كل العلوم الطبيعية و التطبيقية و الانسانية و الفلسفية و التي تعتمد اساسا الادراك العقلي.
سمات و ميول لاعلمية:
يذهب البعض من العرب و غيرهم الى ان الثقافة او الذهنية العربية الاسلامية تتسم بسمات او ميول عامة تقلل او تحد من علميتها عموما و تؤثر سلبا على جانب او اخر من تفكيرها العلمي. و يبدو من أقوالهم أنهم يرون ان هذه السمات و الميول متأصلة و ربما - عند بعضهم- فطرية في الذهنية العربية و متوارثة عبر الاجيال. و بعض تلك السمات و الميول لوحظت و سجلت منذ امد بعيد . و من تلك السمات و الميول:
- ينقل الشهرستاني عن بعض من لم يسمهم قولهم " ان العرب و الهند يتقاربان على مذهب واحد ، و اكثر ميلهم الى تقرير خواص الاشياء و الحكم باحكام الماهيات و الحقائق، و استعمال الامور الروحانية. و الروم و العجم يتقاربان على مذهب واحد ، واكثر ميلهم الى تقرير طبائع الاشياء و الحكم باحكام الكيفيات و الكميات، و استعمال الامور الجسمانية"
[6]. و اذا كان اصحاب هذا الرأي يرون ان العرب جبلوا على الميل الى علم الماهيات أي العلم الالهي/ الروحاني و العزوف عن علم الكيفيات و الكميات أي العلوم الطبيعية و الرياضية يبدو ا ن ابن خلدون يرى ان العرب ظلوا ضعيفي الحظ من العلم عموما " ان الصنائع من منتحل الحضر و ان العرب ابعد الناس عنها فصارت لذلك العلوم حضرية و بعد عنها العرب"[7] . و ضعف حظ العرب من العلم لا يقتصر عند ابن خلدون على علم معين كالعلوم الطبيعية و الرياضية و انما يشمل العلم كله بما فيه- و هو ما اثار استغراب ابن خلدون- العلوم الدينية " من الغريب الواقع ان حملة العلم في الملة الاسلامية اكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية و لا من العلوم العقلية الا من القليل النادر وان كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته و مرباه و مشيخته مع ان الملة عربية و صاحب شريعتها عربي"[8] .على ان ابن خلدون لا يعزو ذلك – كما ذهب البعض- الى اسباب عرقية او عنصرية و انما الى اسباب ثقافية كبدوية ثقافة العرب و أنفتهم من الصنائع عموما بما فيها صنعة العلم و الانشغال بالرئاسة أي شئون السياسة و الحكم في الدولة العربية الاسلامية.
- يورد المستشرق البروفسور جيب- ربما نقلا عن غيره- على العقل العربي مآخذ ربما كان اشهرها وصفه العقلية العربية بانها عقلية جزئية( ذرية) " ان عقلية العرب سواء باحتكاكها مع العالم الخارجي او بعمليات الفكر لا يمكن ان تتحرر من هذا الميل الذي لا يقاوم الى مراقبة الاحداث الملموسة بشكلها الافرادي و بصورة مجزأة"
[9] و قد ترتب على ذلك في رايه " نفور المسلمين من طرائق التفكير العقلانية"[10] و " ان العرب و المسلمين بصورة عامة اضطروا الى الحذرمن المفاهيم الهامة الشاملة المجردة "[11] و بالرغم من ان " تمركز التفكير العربي حول الاحداث الفردية حمل المسلمين الى توسيع الطريقة التجريبية العلمية ... الا ان علماء الاسلام شعروا بالحرج نتيجة لذات الصفات و الخصائص التي يتحلون بها فيما يتعلق بالمظهر الاخر للعلم الذي ينحصر في مقارنة نتائج الملاحظة و التجربة و استنباط القوانين الثابتة التي تتماسك و تترابط نتيجة لتطبيق مفهوم القانون الطبيعي"[12]
اللغة العربية:
يردد البعض احيانا مقولات تفيد بان لغة العرب نفسها أي اللغة العربية لا تساعد على التفكير العلمي. و معلوم ما بين اللغة و الفكر من علاقة هي محل جدل واسع و معلوم ايضا ما يذهب اليه البعض من ان اللغة تضع او تمارس قيودا على الفكر و لكني لم اقف على تعليل مفصل لهذه الدعوى التي تخص اللغة العربية بمعوقات بنيوية اساسية للتفكير العلمي لا توجد في اللغات الاخري او بعضها، غير انه قد يكون من تعليلاتهم ما يشير اليه البعض من ان اللغة العربية لغة تغري بالاهتمام و التأثر بشعرية و موسيقية الخطاب اكثر من مضمون الخطاب و معناه . و لعل مما يشير الى بعض ذلك مقولة البروفسور جيب " الخطبة الفنية تثير مخيلة العربي بشكل آلي، و الكلمات تذهب بشكل مباشر الى ادراكه دون ان تمر باية مصفاة منطقية او فكرة يمكن ان تضعف او تقتل تأثير الكلمة في مخيلته."
[13]
تلك بعض، و ربما اهم، ما يورد كمعوقات ثقافية تعيق التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر. و سيتركز حديثنا حول هذ المعوقات على المعوقات الثلاث الاولي، أي الخرافة و اللاعقلاني و الدين، باعتبارها الاكثر ورودا في الادبيات العربية لنقد العقل/ التراث العربي . و نمهد لذلك في ما يلي بتناول بعض جوانب العلاقة بين التراث و الفكر عموما و خاصة في بعدها السلبي.

التراث - الفكر:العلاقة المتبادلة

العلاقة بين التراث العربي و التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر هي بعض العلاقة بين التراث و الفكر عموما الا انها تأخذ خصوصيتها من خصوصية التراث العربي و خصوصية المجتمع العربي المعاصر و تفكيره العلمي. و يستدعي الحديث عن العلاقة بين أي طرفين تحديد هذبن الطرفين اولا من خلال تعريفهما او بيان مفهومهما:
مفهوم التراث العربي:
لعله يصح لغة القول بان المعنى المشترك لمفاهيم لفظ التراث يتمحور حول ما انتقل الى لاحق ممن سبقه. و يرتبط تعدد و تباين مفاهيم التراث بتعدد الفهم او التحديد لعناصر المعني المشترك المشار اليه و خاصة عنصر المادة المنتقلة و عنصر الانتقال أي كيفيته و طريقته و عنصر الجهة السابقة أي مصدر المادة المنتقلة. و عموما فان الميل السائد هو حصر مفهوم التراث على بعض ما ينتقل ببعض الطرق من بعض الجهات او المصادر السابقة مع تباين و اختلاف في تحديد هذا البعض من كل عنصر. و لا احسب ان المقام يتيح، او يستلزم، تفصيل القول في ذلك و تبني تعريف محدد للتراث. بيد انه قد يحسن بنا هنا ان نستعيد الى أذهاننا بإيجاز مجمل المكونات الرئيسية للتراث، باوسع معانيه، من منظور تأثيرها المحتمل على الفكر. و لعل من اهم تلك المكونات:
التراث المعنوي: و يشمل المعتقدات كالاديان و الاساطير، و الخرافة، و الحكايات الشعبية، و الفنون كالرقص و الموسيقي، و العلوم ،و المؤلفات، و المفاهيم ، و طرق و مناهج التفكير وغيرها بالاضافة الى اللغة و العادات و الاعراف السلوكية و ..الخ.
التراث المادي: و يشمل الاثار المادية من تماثيل و دور و سدود و ادوات و الات و اجهزة و اموال و اوعية المؤلفات
التراث الجيني: و نعني به الجينات "المورثات" التي يورثها الاباء للابناء و تشكل عاملا اساسيا و احيانا محددا في تحديد ليس فقط الصفات و الملامح الخارجية للورثة و انما ايضا التكوين النفسي و العصبي و الذهني و الحسي و غير ذلك مما يساهم في تشكيل الاساس البيولوجي/ المادي للادراك العقلي عند الورثة.
التراث البيئي: و مدلول البيئة هنا يشمل البيئة الطبيعية و البيئة الاجتماعية. و صحيح ان أصل البيئة الطبيعية ليس من خلق البشر و لكن، كما هو واضح اليوم بجلاء اكثر مما مضى، كل جيل يحدث في البيئة اثرا ما و تتراكم الاثار من جيل الى جيل محدثة تغييرات طفيفة او كبيرة و احيانا خطيرة على البيئة الطبيعية مما يعني ان البيئة التي يرثها الاحفاد عن اسلافهم ليس هي ذات البيئة الطبيعية الاصلية و انما هي البيئة التي شكلها الاباء. و البيئة الاجتماعية تضم البيئة الاقتصادية او المعاشية والبيئة السياسية.
و غالبا ما تندر، و كثيرا ما تغيب تماما، الاشارة الى التراث الجيني و- الى حد ما- التراث البيئي عند الحديث عن مفهوم التراث و لكن من الواضح انهما مما يورثه السابقون للاحقين و – الاهم- لهما تأثير على فكر و انماط تفكير اللاحقين او الورثة لا يقل دائما عن تأثير التراث المعنوي.
إذن، التراث العربي يشمل تراث العرب المعنوي و المادي و البيئي و الجيني و ...الخ . بيد ان ما يعنى به و يركز عليه هذا الموضوع هو- وفقا لما تحدد آنفا- فقط التراث العربي المعنوي و تحديدا ما يندرج منه ضمن ما يسمى احيانا بالثقافة النظرية كالمعتقدات و الاداب و انماط التفكير.
وقد يجادل البعض لضرورة التمييز في التراث العربي الثقافي بين ما هو عربي اصيل و ما هو دخيل او وافد و حصر مفهوم التراث العربي الثقافي على ما هو عربي اصيل فقط. و في ما نقدر فان محاولة التمييز في التراث العربي المعنوي او التراث العربي الثقافي النظري بين ما هو عربي اصيل أي عربي الاصل و المنشأ و ما هو معرب مما هو وافد غير عربي المنشأ هي – اولا- عملية يصعب و ربما يستحيل انجازها على نحو دقيق و معتمد و – ثانيا- تنطوي على تبعيض لا يستلزمه الهدف من هذا البحث و المتمثل في استجلاء تأثير التراث العربي الثقافي على التفكير العربي العلمي المعاصر. و لعل بعض التراث المعرب اكثر تأثيرا على الفكر/ التفكير العلمي العربي المعاصر من بعض التراث العربي الاصيل.
و عليه فان الاولى بالحديث عن المعوقات التراثية ان يمتد ليشمل التراث العربي عموما دون تمييز. بيد ان من الضرورات المفهومية و العملية ان يتركز الحديث عن التراث في نطاق زمني محدد. و قد يكون مناسبا ان يتحدد الطرف الادنى او الاقرب لهذا النطاق ببدايات النهضة العربية الفكرية الحديثة و التواصل الثقافي المعاصر مع الاخر الثقافي الحديث في القرن التاسع عشر و بحيث ان ما كان بعد التاريخ المذكور لا يدرج ضمن التراث الثقافي العربي ( القديم) و يمكن النظر اليه بمثابة عينة ثقافية لاختبار مدى التفاعل بين الموروث و المكتسب في الثقافة العربية الحديثة/ المعاصرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"