بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 10 أكتوبر 2010

الحرية/೨/مادة التواصل الشفوي

· المفهوم الإشكالي للحريّة


:هل صحيحٌ أنَّّ الحريّةَ تُقاومُ التّحليل لأنّّها "مفهومٌ موضعُ مساءلةٍ في جوهره " كما يُقالُ أحياناً ؟(1) ألم تقترفُ جرائم كثيرة باسم الحريّة في أوج عهد الإرهاب أثناء الثّورة الفرنسيّة ، على حدّ تعبير السّيدة رولان ؟!(2) . هل نحن أحرار ؟ ما العلاقة بين الحريّة والعبوديّة ؟ أليست الحريّة مسؤوليّة ؟ هل حرّيّتنا مطلقة أم مقيّدة ؟ وهل بوسعنا الوقوف على تحديداتها النّظريّة وإشكالاتها العمليّة ؟ للإجابة على ذلك يجدر بنا اقتحام عالم الحريّة ، والوقوف على ماهيّتها ، بحيثُ تُصبحُ مفهوماً مُتَعَقّلاً ، لا لغزاً مبهماً . صحيحُ أنَّ التّعاريف الفلسفيّة للحريّة تعدّدت ، إلى حدّ لا نكاد نقع فيه على تعريفٍ جامعٍ مانعٍ لها ، إلاَّ أنَ فهمها وتحديدَ ماهيّتها ، ليسا بالأمر المستحيل ، إذا أمكن لنا النّفاذ إلى العالم الّذي توجد فيه ، ألا وهو عالم الإنسان ، باعتبارها حاجةً إنسانيّة أصيلة ، وجزءاً مُكوّناً لشخصيّته الإنسانيّة . ولعلَّ الوقوف على بعض المفاهيم والتّعريفات الفلسفيّة لكبار الفلاسفة والمفكّرين ، يُشكّلُ مدخلاً صحيحاً للدّخول إلى عالمها والوقوف على ماهيّتها . من هذه المفاهيم والتّعاريف : ما قاله الفيلسوف الإنجليزي (جون ستيورت مِل) " أنَّ في حياة الفرد منطقة حرام لا يجوز للمجتمع أن يطأ ساحتها، هي موطن الحريّة الصّحيحة ، وتتمثّل في تصرّفات الفرد الّتي تمسّ الآخرين ، فإن مسّتهم جاء هذا بمحض اختيارهم ، ونعبّر عنها بحريّة الضّمير ، والفكر والوجدان ، وهي تتضمّن حريّة التّعبير والنّشر ، ثمَّ حرّيتنا في تشكيل حياتنا على الوجه الّذي يلائمنا ، وحريّة الرّاشدين في اجتماع بعضهم ، ببعض للتّعاون على أمرٍ لا يضرّ أحداً ." (3) ، وفي معجم علم الأخلاق نقع على تعريف لحريّة الإرادة : " مقولة فلسفيّة تعني قدرة الإنسان على تحديد تصرّفاته بنفسه ، تبعاً للرّؤية الّتي يتبنّاها ، قدرته على الفعل استناداً إلى قراره الذّاتي . وهي تعني كمقولة في الإطيقا _الأخلاق_ أنَّ الإنسان حين يقوم بالتّصرّف ، يختار (الاختيار) بين الخير والشّرّ ، بين الأخلاقي واللاّ أخلاقي ."( 4). الحريّة من بين أكثر المفردات اللغويّة جماليّةً ووجدانيّة ، لذا استحقّت اتّخاذها شعاراً للحركات الثّوريّة ، وقوى التّحرّر ، والأحزاب السّياسيّة ، والعديد من الدّول ، ومنظّمات حقوق الإنسان في العالم ، بوصفها قيمةً إنسانيّة سامية ، تنطوي على مزيجٍ من العناصر الأخلاقيّة ، والاجتماعيّة والوجدانيّة والجماليّة . غير أنّها من بين أكثر المصطلحات اللغويّة والفلسفيّة إشكاليّةً ، يفهمها بعضُ النّاس بشكلٍ لا يعبّر عن حقيقة المعنى الكلّيّ للمصطلح ، فحريّة التّعبير عن الرّأي ، وإزالة العبوديّة ، وجميع العقبات الضّارة بحياة الإنسان ، وتمتّعه الكامل بالحقوق المدنيّة ، هو المعنى المقصود بالحريّة الإنسانيّة . من ناحية ثانية يُشكّلُ تصوَّر البعض للحريّة بأنّها ترك الفرد يعيش حياته الشّخصيّة وفاقاً لحالته الطّبيعيّة الحرّة ، بما تنطوي عليه من ميول ورغبات وعواطف وغرائز دون قيد أو ضابط – أي تمتّع الفرد بالحرية المطلقة - انقلاباً علـى الحريـة الإنسانيّة * دكتوراه في الفلسفة من جامعة دمشقذاتها ، فالحريّة التي ينشدها الإنسان في مجتمعه ليست حريّة مطلقة بالقطع ، إنّما حريّة مشروطة تحدّها ضوابط وقيود إنسانيّة صارمة ،غير مسموحٍ للفرد بتجاوزها ،فثمّة قيود أخلاقيّة وسياسيّة وقانونيّة واجتماعيّة وثقافيّة واقتصاديّة تحدّد المعنى الفلسفيّ للحريّة الإنسانيّة . وفي هذا السّياق نذكر بعض التّعاريف والمعاني الفلسفيّة للحريّة في سياق نشأة المفهوم وتبلوره لدى كبار الفلاسفة عبر العصور والأزمنة : الحريّة ما قبل ظهور المعنى الفلسفي :ارتبطت الحريّة عند اليونان قبل سقراط بفكرة المصير ، وبفكرة الضّرورة ، وبفكرة الصّدفة ، وفي العصر الهوميروسي ( القرن الحادي عشر والعاشر ق.م ) يُطلق لفظ حرّ على الإنسان الّذي يعيش بين شعبه وعلى أرض وطنه ، دون أن يخضع لسيطرة أحدٍ عليه ، أمّا في العصر التّالي لعصر الهوميروس صارت الكلمة من لغة "المدينة" فالمدينة حرّة ومن يعيش فيها فهو حرّ ، حيث يسود قانون يوفّق بين القوّة وبين الحقّ ، والمقابل "للحرّ " حينئذٍ ليس "العبد " بل الغريب أو الأجنبيّ ، أي من ليس يونانيّاً ، والآلهة هي الّتي قرّرت " الحريّة " ولهذا كانت الحريّة موضوعاً للعبادة .. من جهةٍ ثانية وُجِدَ إلى جانب فكرة الحريّة المدنيّة معنى تدلُّ عليه كلمة مختار " هو من يجعل قانون العالم الإلهيّ قانونه " (5) .ظهور المعنى الفلسفي للحريّة :عند السّفسطائيّين : المعنى الفلسفي لكلمة حرّة وحرّ عند السفسطائيّين ناجمٌ عن التضاد بين الطبيعة والقانون ، فالحرّ " هو من يسلك وفقاً للطّبيعة ، وغير الحرّ هو من يخضع للقانون " ، أمّا عند (سقراط) فالحريّة تعني " فعل الأفضل" وهذا يفترض معرفة ما هو الأحسن " فاتّخذت الحريّة معنى التّصميم الأخلاقيّ وفقاً لمعايير الخير" ( 6) ، وأمّا عند (أفلاطون ) فتعني " وجود الخير " والخير هو الفضيلة ، والخير محض ويُرادُ لذاته ، ولا يحتاج إلى شيء آخر ، والحرّ هو من يتوجّه فعلهُ نحو الخير ، ومع ظهور (أرسطو) يبدأ المعنى الأدقّ للحريّة في الظّهور ،إذ يربطها بالاختيار : " إنَّ الاختيار ليس عن المعرفة وحدها ، بل أيضاً عن الإرادة .. والاختيار اجتماع العقل مع الإرادة معاً " (7). عند الكتّاب المسيحيّين :الفكرة الأبرز لدى الكتّاب المسيحيّين ، ربط الحريّة بالخطيئة ، فالإنسان قبل سقوطه في الخطيئة كان حرّاً ، من كلّ أنواع القسر الخارجيّ ومن كلّ سلطة عدا سلطة الله ، لكنَّ الخطيئة أفسدته ، فأصبح خاضعاً لسلطة الغرائز والأهواء والشّهوات ، وبالتّالي فربط الحريّة بالاختيار مشروطٌ بفعل الخير لأنَّه بوسع الإنسان أن يختار بين فعل الشّرّ أو فعل الخير ، لهذا ألحَّ الكتّاب المسيحيّون ـ على حدّ قول الدكتور عبد الرحمن بدوي _ على فكرة اللّطف الإلهي ، لعلّة فساد الطّبيعة الإنسانيّة بفعل الخطيئة ، " فلا بدَّ من اللّطف الإلهيّ ، كي تستطيع فعل الخير ، فلا يكفي معرفة الإنسان للخير ، بل المهمّ أكثر ، أن يقدر على جعل الإرادة تميل نحو الخير ، يقول (القديس بولس ) في أصحاح 7 عبارة 15 : " حقّاً أنا لا أفهم ما أفعله ، لأنّني لا أفعل ما أريد ، بيد أنّي أفعل ما أكره .." أمّا (القديس أوغسطين ) فيرى أنَّ التّوفيق ممكن بين القول بحريّة الإرادة الإنسانيّة وبين القول بعلم الله السّابق .. فإنَّ الله يعلم أنَّ الإنسان سيفعل بإرادته هذا أو ذاك ، وهذا لا يستبعد أن يفعل الإنسان بإرادته واختياره ، فعلم الله لا يحيل الأفعال من حرّة إلى مجبورٍ عليها . (8) . من ناحية ثانية يرى القديس (أوغسطين) بوصفه أحد آباء الكنيسة وفلاسفتها الكبار بأن حرية إرادة الإنسان مَرَدُّها إلى ملازمة النعمة الإلهية لها، وإذا ما افتقدت النعمة الإلهية فإنها تفقد قدرتها على الاختيار، فتصبح عرضة للوقوع في الإثم والخطيئة ، بمعنى أدق إن حرية الإرادة بقوتها الخاصة لا قدرة لها سوى السّقوط، ولا منافع منها سوى الخطيئة، وهو ما جعل (أوغسطين) يطلق عليها (إرادة عبده) .أيضاً القدّيس (برنار) يعتقد أننا خاضعون لنير عبودية الإرادة، فنحن في نظر العبودية بؤساء ،وفي نظر الإرادة غير معذورين لأنها عرضة لعبودية الخطيئة ولكونها مقيدة بالنـزوع إليها.(9 ) . كذلك (القديس توما الأكويني ) يُعرّف الحريّة بـ " القدرة على اختيار أمر أو نقيضه " ( 10) ، وفي القرن السّادس عشر يردّ المصلح الإنجيليّ (مارتن لوثر) على أفكار (أرازموس ) الواردة في مؤلّفه (حول حريّة الإرادة) الصّادر في العام 1524 ، بإصداره كتاباً بعنوان ( عبودية الإرادة ) فبينما يعتقد (أرازموس) أنه بوسع حريّة الإرادة أن تحرز للإنسان كسباً كبيراً فيما يتعلق بالمسائل الصلاحية والتقوية والخلاص باعتبارها "ملكة من ملكات الحرية البشرية ، وصفة من صفاتها الملازمة ، بها يستطيع الإنسان أن يأتي كل ما يفضي به إلى الخلاص أو الهلاك الأبدي" (11) ، يمضي (لوثر) إلى النقيض من ذلك تماماً، بتقريره أنَّ حريّة الإرادة لا تشكّل ضامناً لنيل الخلاص بالاعتماد على نفسها ، ما لم تقترن بملازمة النّعمة الإلهية لها ، من جهة أخرى يتخذ مفهوم الحريّة المسيحية لدى (لوثر) صورة جدلية، تكون فيها الحرية مرتبطة بالعبودية الرّوحية. بل أن العبودية تصبح الشرط الضروري لنيل الحرية وعليه فالإنسان المسيحي هو سيدٌ حُرٌّ في علاقته بالأشياء وهو عبدٌ مطيعٌ وخادمٌ أمين لله بآن معاً. والإنسان المسيحيّ هو الإنسان الروحي الّذي يكون حًرّاً وبمقدوره الاستقامة والصلاح، لأنه متحرر من الجسد والخطيئة، ويدخل في دائرة من العبودية الإلهية تكون منبع حريته وصلاحه . أمّا (جون كالفن) فيرى أنّهُ "لا يمكن للحرية أن تتحقق إلا بالامتثال التام والحقيقي لأوامر الله وشرائعه، فبمقدار ما تتحرر الذات من سلطة الناموس فإنها تحظى بنصيب أوفر من الحرية بدخولها مملكة الله، فالقيد الإلهي على الحرية هو الضامن الوحيد والأكيد لنيل الحرية . مع عدم إنكاره للحريّة الدنيوية الّتي يتمتّع بها الإنسان ، في نطاق معاملاته اليومية ، هذه الحريّة تجعل من الإنسان سيّداً على الأشياء لا عبداً لها ، بقوّة الإيمان والعقل لا بقوّة المحبّة الّتي يصير بموجبها عبداً لا سيّداً ، لكنَّ هذا النّوع من الحريّة ينبغي أن يتلازم مع وجود عنصرين آخرين هما الانعتاق من سيطرة النّاموس والإذعان الذّاتي لسلطة الله . فالانعتاق من سيطرة الناموس، والإذعان الذاتي لسلطة الله، والسيادة على الأشياء. هي المكوّنات الرّئيسة للحريّة عند الإنسان (12) .عند المسلمين :يندرج الحديث عن الحريّة عند الفلاسفة المسلمين ، في باب الحديث عن القدر ، والجبر والاختيار ، وفيما إذا كان الإنسان مخيّراً أم مسيّراً . يذكر (عبد الرحمن بدوي) في موسوعته الفلسفيّة بأنَّ ( ابن حزم ) يلخّص مختلف آراء الفرق الإسلاميّة بقوله :" اختلف النّاس في هذا الباب ( باب القدر) . فذهبت طائفة إلى أنَّ الإنسان مجبرٌ على أفعاله ، وأنّهُ لا استطاعة له أصلاً ـ وهو قول جهم بن صفوان ، وطائفة من الأزارقة ، وذهبت طائفةٌ أخرى إلى أنَّ الإنسان ليس مجبراً ، وأثبتوا له قوّة واستطاعة ، بها يفعل ما اختار فعله ، ثمَّ افترقت هذه الطّائفة على فرقتين ، فقالت إحداهما : الاستطاعة الّتي يكون بها الفعل لا تكون إلاّ مع الفعل و لا تتقدّمه البتّة ، وهذا قول طوائف من أهل الكلام ومن وافقهم ، كالنّجّار والأشعريّ ومحمد بن عيسى برغوث الكاتب ، وبشر بن غياث المريسي ، وأبي عبد الرّحمن العلوي ، وجماعة من المرجئة والخوارج ، وهشام بن الحكم ، وسليمان بن جرير ، وأصحابهما ، وقالت الأخرى إنَّ الاستطاعة الّتي يكون بها الفعل هي مثل الفعل موجودة في الإنسان ، وهو قول المعتزلة وطوائف من المرجئة ، كمحمد بن رشد ، ومؤنس بن عمران ، وصالح قبة ، والنّاشر وجماعة من الخوارج والشّيعة (13) ، ثمَّ افترق هؤلاء على فِرق : فقالت طائفة إنَّ الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل أيضاً : للفعل ولتركه ، وهو قول بشر بن المعتمر البغدادي ، وضرار بن عمر الكوفي ، وعبد الله بن غطفان ، ومعمّر بن عمرو العطّار البصري وغيرهم من المعتزلة . وقال أبو الهذيل بن الهذيل العبدي البصري العلاّف : لا تكون الاستطاعة مع الفعل البتة ، ولا تكون إلاَّ قبله ، ولا بدّ وتفنى مع أوّل وجود الفعل (14) .

هناك تعليقان (2):

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"