بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 10 أكتوبر 2010

الحرية في الفلسفة الحديثة/التواصل الشفوي/3

في الفلسفة الحديثة والمعاصرة :
اتّخذت الحريّة معانٍ عديدة في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر ، فـ (مولينا (Molin قال بحريّة الاستواء ، ومفاده أنَّ الحرّ هو من يقرّر حين تُعطى كلّ الشّروط الواجب توافرها للفعل ، أن يفعل أو لا يفعل ، أو أن يفعل الشّيء أو ينقضه (15) ، أمّا (هوبز) فأعطى للحريّة معنى هو : انعدام القسر ، أي الخلوّ من القهر الماديّ( الفيزيائيّ) ، وكلّ فعلٍ يتمّ وفقاً لدوافع ، حتّى لو كان الدّافع هو الخوف من الموت ، يُعدُّ حرّاً . " والإنسان يكون حرّاً بقدر ما يستطيع التّحرّك على طرقٍ أكثر" وحريّة المواطن والعبد لا تختلف إلاّ من حيث الدّرجة فالمواطن ليس تام الحريّة والعبد ليس تام الحريّة (16) . كذلك يقدّم ( اسبينوزا ) نفس المفهوم للحريّة " الخلوّ من القسر" يقول : " هذا الشّيء يُدعى حرّاً إذا كان يوجد وفقاً لضرورة ماهيّته وحدها ، ويُعيّن ذاته بذاته بالفعل " ووفقاً لهذا التّعريف فإنَّ الله هو وحده الحرّ ، أمّا الإنسان فغير حرّ ، لأنَّ الله هو الّذي يُعيّن نفسه بنفسه . (17) . أمّا ( ليبنتس Leibinz) فيربط بين الحريّة والعقل : " الحرية تكون أوفر كلّما كان الفعل صادراً عن العقل ، وتكون أقلّ كلّما كان صادراً عن الانفعال ، ويرى أنَّ حريّة الاستواء غير ممكنة ، لأنّها تناقض مبدأ العلّة الكامنة ." (18) . وأمّا (لوك) و(كنت) و(شبنهور) و(هيجل ) و (فيورباخ) و ( هيدجر) و(سارتر) فيقدّمون عدداً من التعريفات الفلسفية للحريّة ، فـ ( لوك Locke ) يربط بين الحريّة والاختيار ، فالحريّة تعني أن نفعل أو لانفعل بحسب ما نختار أو نريد ( 19). وعند (كنت) نقع على تعريفين للحرية أحدهما سلبي والآخر إيجابي ، أمّا السّلبي فيعرّفها بأنّها :" خاصيّة الإرادة في الكائنات العاقلة لأن تفعل مستقلّة عن العلل الأجنبيّة .. فالحريّة هي الصّفة الّتي تتّصف بها الإرادة العاقلة في قدرتها على الفعل دون تأثير من الأسباب الأجنبيّة .. إنَّ حريّة الكائن تمكّنه من أن يفعل مستقلاً عن هذه الأسباب الخارجيّة " وأمّا الإيجابي فيعرّفها بأنّها : تشريع الإرادة لنفسها بنفسها" والحريّة عنده من شأن الكائنات العاقلة بما هي كذلك .. لأنَّ الكائن العاقل المزوّد بإرادة لا يمكن أن يفعل إلاّ إذا كان حرّاً :" كلّ موجود لا يستطيع أن يفعل إلاّ تحت فكرة الحريّة هو بهذا عينه ـ من النّاحية العمليّة ـ حرٌّ حقّاً " (20) . بينما يرى (شبنهور) أنّه لا توجد حريّة عمل ، بل فقط حريّة وجود ، ذلك أنَّ الإرادة القاصدة الواعية تتحدّد تحدّداً معيّناً واحداً . أمّا حريّة إرادة السّواء فلا يمكن تصوّرها " لأنَّ مبدأ العليّة .. هو الشّكل الجوهريّ لقدرتنا على المعرفة كلّها " (21) . وبالانتقال إلى (هيجل) فإنّه يقدم تصوّراً مجرّداً للحريّة هو : " قيام الذّات بنفسها وعدم الاعتماد على الغير ، ونسبة الذّات إلى ذاتها " (21). أمّا (فيورباخ) فينكر حريّة الإرادة بالقول :" إنّها تكرارٌ خاوٍ للشّيء في ذاته " ( 22) . وأمّا ( هيدجر) فيعرّف الحريّة بأنّها " القدرة الّتي ينفتح بها الموجود على الأشياء ، وهو يكتشف الوجود .. الحريّة هي الّتي تؤمّن التّوسّط بين عالم الوجود وعالم الأشياء .. الحريّة هي ما يهيئ للموجود أن يوجد ، بيد أنّها ليست موقفاً سلبيّاً ، بل هي مجهودٌ فعّال ، لأنَّ الموجود ليس شفّافاً منذ البداية للإنسان ، ولهذا فإنَّ الحريّة تنطوي دائماً على المخاطرة بالوقوع في الخطأ ، إنَّ ماهيّة الحقيقة تجد في الحريّة مقامها الأصيل ، إنَّ ماهية الحقيقة هي الحريّة ، والإنسان لا يوجد إلاَّ من حيث هو مملوكٌ للحريّة ... فالحريّة من ماهية الإنسان الجوهريّة والحريّة هي الأساس المطلق ، وهي التّأسيس وهي الوجود الأساسي (23). كذلك ( سارتر ) يرى أنَّ الحريّة نسيج الوجود الإنساني ، وأنّ الشّرط الأوّل للعقل هو الحريّة :" إنَّ الإنسان حرّ ، الإنسان حريّة ... الإنسان محكومٌ عليه أن يكون حرّاً ، محكومٌ عليه لأنّهُ لم يخلق نفسهُ بنفسه وهو مع ذلك حرٌّ لأنّه متى أُلقيَ به في العالم ، فإنّهُ يكون مسؤولاً عن كلّ ما يفعله " (24) .

· هل نحنُ أحرار ؟! :
إذا كنّا كذلك فما هي مساحة حريّتنا وما حدودها ؟ . الحقيقة أنّنا وُلِدنا في هذا العالم دون علمٍ منّا ، فوجودنا في العالم ثمرة لحريّة الآخرين واختيارهِم ، لكنَّ تلك الحريّة وذلك الاختيار ، ينتهيان لحظة بدء حدوث تخليقنا ، لذا لم نكن أحراراً في خلقنا ، ولا في اختيار نوع وشكل خلقتنا ، ولا في سني ما قبل نضج ملكاتنا العقليّة والإراديّة . فولادتنا وموتنا من النّاحية الطّبيعيّة أمران خارجان عن إرادتنا الإنسانيّة ، وبالتّالي لسنا أحراراً في حدوثهما . والسّؤال : ما مساحة وحدود حريّتنا ؟ .
يبدأ شعورنا بالحريّة منذ اللحظة الّتي نقدر فيها على الاختيار بين ما نريد و ما لا نريد ، فامتلاكنا القدرة على الاختيار بالقبول أو الرّفض ، يؤكّد امتلاكنا للحريّة . ولكن هل امتلاكنا للحريّة يعني أنّنا أحرارٌ في تقرير شؤون الحياة المختلفة ؟ تدلُّ التّجربة أنّنا نمتلكُ قدراً محدوداً من الحريّة ، يُخوّلنا القيام بأفعالٍ محدودةٍ ، تبعاً لقدراتنا وللقيود والشّروط الموضوعيّة من حولنا ، مما يعني أنَّنا مخيّرون بمقدار ومسيّرون بمقدار ؟ مخيّرون في الأمور الّتي تخضعُ لإرادتنا ، ومسيّرون إزاء تلك الّتي لا تخضع لها . من هنا يُفسَّرُ توق الإنسان إلى امتلاك قدْرٍ أكبر من الحريّة المتاحة له ، قدْراً يلبّي نزوعه الشّديد نحوها .
الحقيقة أنَّ الحرّيّة حاجةٌ فطريّةٌ لدى الإنسان ، جوهرها الاتّساق والتّوازن الذّاتيّ للشّخصيّة الإنسانيّة للأفراد ، فالنّاس وُلدوا من بطون أمّهاتهم أحراراً ، لذا فهي ليست كسباً يحرزهُ المرء بجهده الخاص ، وإن كان الحفاظُ عليها يستدعي بذل قُصارى الجهد لمواجهة التّهديدات المستمرّة الهادفة للنّيل منها ، وعليه فجميع البشر يدركون معنى الحريّة ، رغم تفاوتِ مقدار حيازتِهم لها ، وكلّما تعمّق وعيهم بها ازدادوا نزوعاً إليها ، وذادوا عنها وضحّوا في سبيلها . فثمّة عوائق تحول دون ممارستنا للحرّية على النّحو الّذي نريده كـ : انعدام العدالة ، وممارسة الاستبداد ، وإشاعة الظّلم ،وحرماننا من ممارسة الحقوق الطّبيعية ، الأمر الّذي يجعلنا نشعرُ بأنّنا لسنا أحراراً بالقدر الكافي ، وبأنّنا أسرى لتلك العوائق ، فيُصيبُنا الإحباطُ والضّيقُ والاكتئاب ، ويتولّدُ الشّعور لدينا بالحقد والكراهية حيال من سلبونا تلك الحقوق .
الحريّة والعبوديّة :
ماذا نعني بالقول أنَّ فلاناً من النّاس حرٌّ ؟ وما صلة الحريّة بالعبوديّة ؟ وهل يمكن للفرد أن يكون عبداً وحرّاً بآنٍ معاً ؟ بوسع المرء أن يكون حرّاً من النّاحية النّفسيّة وعبداً من الناحية الجسديّة ، والعكس صحيحٌ تماماً ، فالحريّةُ في المقام الأوّل حريّة نفسيّة _ أي شعورٌ نفسيٌّ بالحريّة _ ، وفي المقام النّهائيّ حريّة نفسيّة وجسديّة .
من ناحيةٍ ثانية ثمّة حرّيّة لا تتحقّق إلاّ مع العبوديّة ، ولكن ليس أيّ عبوديّة ، إنّما العبوديّة الاختياريّة النّابعة من صميم الفرد ، من عقله ووجدانه (عين عبوديّة المؤمن لربّه ، والمحبّ لمحبوبه ) ، لا العبوديّة القائمة على الإرغام والإكراه ، إذاً قدرة المرء على الاختيار والتّنفيذ هو ما نسمّيه حريّة ، بهذا المعنى لدينا نوعان من العبوديّة ، عبوديّة حرّة ، قائمة على الاختيار الحرّ ، وأخرى مستعبدة قائمة على الاستعباد القسريّ فحسب .
من ناحية أخرى يظلُّ الإنسان حرّاً طالما هو قادرٌ على ممارسة حرّيّته بوعيٍّ ومسؤوليّةٍ والتزام ، وغير حرٍّ عندما يكون مجبراً على القيام بفعل مّا رغم إرادته .
من ناحيةٍ أخرى الحديث عن الحريّة في جوهره ، حديثٌ عن الإرادة الحرّة ، فالحريّة ثمرةٌ طبيعيّة للإرادة الحرّة ، إذ لا وجود للحريّة في ظلّ انعدام الإرادة الحرّة ، والإرادة الحرّة : ملكةٌ عقليّة ونفسيّة ، وهي هبةٌ عامّة لجميع البشر ، أمّا إضعافُها أو تعطيلُها عن العمل أو فقدانها ، فمسؤوليّة الفرد نفسه في المقام الأوّل ، دون إغفالٍ لأثر العوامل الخارجيّة في ذلك . على أيّة حال تظلُّ حريّة الإنسان محدودةً بالإمكانات القابلة للتّحقّق من قبل الإنسان ذاته ، فلا وجود للحريّة المطلقة إلاَّ لدى الله ، فالله وحدهُ يملك هذا النّوع من الحريّة ، لعلّة امتلاكه القدرة المطلقة القادرة على فعل أيّ شيء .
· ماهيّةُ الحريّة الإنسانيّة :
يشير مفهوم الحريّة الإنسانيّة في جانبٍ من جوانبهِ إلى :تمتّع الفرد بكامل الحقوق والواجبات المدنيّة والاجتماعيّة المتعاقد عليها بين المواطنين أنفسِهِم عبر هيئاتِهِم وممثّليهم المنتخبين ديمقراطيّاً ، بما في ذلك التّشريعات والقوانين الّتي يضعها نوّاب الشّعب للدّولة ، فخضوع المرء للقوانين المتعاقد عليها مدنيّاً لا يعني خضوعاً قسريّاً لسلطةٍ خارجيّة عنه ، إنّمّا خضوعٌ حرٌّ لذاته المدرِكَة الواعية ، باعتباره عنصراً مشاركاً فيها ، من هنا تفتقدُ الحريّة المطلقة للفرد في إطارها الاجتماعيّ للمشروعيّة النظريّة والعمليّة معاً . لعلّة التعارض الحاصل بين الفردي والاجتماعيّ ، فالحريّة المنفلتةُ من عقالها الإنسانيّ والأخلاقيّ شرٌ ينبغي محاربته ، أمّا الحريّة الإنسانيّة الّتي تصون كرامة الفرد ، وتحافظُ على مكانته الاجتماعيّة والأخلاقيّة ، جديرة بالكفاح في سبيلها ، هذه الحريّة حرّةٌ من الانفلات والفوضى ، ومن عبوديّة الإنسان للإنسان والطّبيعة في الوقت نفسه ، حريّة ليست ميكانيكيّة ، إنّما حريّة إراديّة واعية ، تحدّد أهدافها ، ووجهة سيرها بدقّة متناهية ، بعدما عاشت لحظاتٍ من الفوضى التّلقائيّة العارمة ، إنّها شعورٌ إنسانيٌّ بمعنى الحياة ، تخضعُ لسلطة الإنسان ، يتحكّم بها ، يحدّد ماهيّتها ومواصفاتها ، تماماً كالحريّة الطّبيعيّة الخاضعة للقوانين الطّبيعيّة للطّبيعةِ ذاتها ، مع الأخذ بالحسبان ، الفارق النّوعيّ بينهما ـ [الوعيّ والتّلقائيّة] ـ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"