بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 29 مايو 2010

التوحيد/1

التوحيد لغةً: العلم بأن الشىء واحد.

وشرعاً: إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتاً وصفات وأفعالاً.

قال الحافظ ابن حجر فى الفتح: وأما أهل السنة ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل، ومن ثم قال الجنيد فيما حكاه أبو القاسم القشيري: التوحيد إفراد القديم من المحدث، وقال أبو القاسم التميمي فى كتاب الحجة: التوحيد مصدر وَحَّدَ يُوَحِّدُ ومعنى وحدت الله اعتقدته منفرداً بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه وقيل وَحَّدْتُهُ علمته واحداً وقيل سلبت عنه الكيفية والكمية فهو واحد فى ذاته لا انقسام له وفى صفاته لا شبيه له وفى ألهيته وملكه وتدبيره لا شريك له ولا رب سواه ولا خالق غيره، وقال ابن بطال: تضمنت ترجمة الباب: إن الله ليس بجسم لأن الجسم مركب من أشياء مؤلفة وذلك يرد على الجهمية فى زعمهم أنه جسم، قال الحافظ كذا وجدت فيه ولعله أراد أن يقول المشبهة، واما الجهمية فلم يختلف أحد ممن صنف فى المقالات أنهم ينفون الصفات حتى نسبوا إلى التعطيل وثبت عن أبى حنيفة أنه قال: بالغ جهم فى نفى التشبيه حتى قال إن الله ليس بشىء. انتهى (ج13 ص 357 ).

وقال الزبيدي فى شرح الإحياء: أكثر العلماء أن الواحد والأحد بمعنى واحد، وقال الأزهري الفرق بين الواحد والأحد فى صفاته تعالى أن الأحد بني لنفى ما يذكر معه العدد، والواحد اسم لمفتتح العدد، تقول ما أتاني منهم واحد وجاءني منهم واحد، والواحد بني لانقطاع النظير وعوز المثل، وقال بعضهم الواحد فى الحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة ثم يطلق فى كل موجود حتى انه ما من عدد إلا ويصح وصفه به فيقال عشرة واحدة ومائة واحدة، وقال الراغب: الواحد لفظ مشترك يستعمل فى خمسة أوجه:

الأول: ما كان واحدا فى الجنس أو فى النوع كقولنا الإنسان والفرس واحد فى الجنس وزيد وعمر واحد فى النوع.
الثاني: ما كان واحداً بالاتصال إما من حيث الخلقة كقولنا شخص واحد، وإما من حيث الصناعة كقولنا حرفة واحدة.
الثالث: ما كان واحداً لعدم نظيره إما فى الخلقة كقولنا الشمس واحدة وإما فى دعوى الفضيلة كقولنا فلان واحد دهره مثل نسيج وحده.

الرابع: ما كان واحدا لامتناع التجزيء فيه إما لصغره كالهباء وإما لصلابته كالألماس.

الخامس: للمبدأ إما لمبدأ الأعداد كقولنا واحد اثنان أو لمبدأ الخط كقولنا النقطة الواحدة والوحدة فى كلها عارضة، قال وإذا وصف الله تعالى به فمعناه أنه لا يجرى عليه التجزي ولا التكثر، وقال المصنف فى المقصد الاسنى الواحد هو الذي لا يتجزأ ولا يتثنى، أما الذي لا يتجزأ فكالجوهر الواحد الذي لا ينقسم فيقال إنه واحد بمعنى أنه لا جزء له وكذلك النقطة لا جزء لها والله تعالى واحد بمعنى أنه يستحيل تقدير الانقسام فى ذاته، وأما الذي لا يتثنى فهو الذي لا نظير له كالشمس مثلاً فإنها وإن كانت قابلة للانقسام بالفعل بتجزئة فى ذاتها لأنها من قبيل الأجسام فهي لا نظير لها إلا أنه يمكن أن يكون لها نظير فإن كان فى الوجود موجود ينفرد ويتوحد بخصـوص وجـوده تفرداً أو وحدة"لا شَرِيكَ لَهُ" أي لا يتصور أن يشاركه غيره فيه أصلاً، فهو الواحد المطلق أزلاً وأبداً، والعبد إنما يكون واحداً إذا لم يكن له فى أبناء جنسه نظير فى خصلة من خصال الخير وذلك بالإضافة إلى أبناء جنسه وبالإضافة إلى الوقت إذ يمكن أن يظهر فى وقت آخر مثله وبالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع فلا وحدة على الإطلاق إلا لله عز وجل. أهـ

وذكر الشيخ أبو منصور البغدادي فى الفرق بين الواحد والأحد أقوالاً منها قد تقدم ذكرها آنفاً، ومنها ما لم يذكر، فمن ذلك قال بعض المتكلمين أنه واحد فى ذاته أحد فى صفاته، وقال آخرون أنه واحد بلا كيف أحد بلا حيث، وقال آخرون وصفه بأنه الواحد يدل على أوليته وأزليته لأن الواحد فى العدد أول الأعداد والأحد فى ذاته إشارة إلى توحيده فى صفاته، وقال آخرون أنه واحد بلا شريك فى الصنع لانفراده بالخلق والاختراع ولذلك قال الله تعالى:"أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" أحد بنفي الابتداء والانتهاء والتشبيه عنه لقوله تعالى:"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ" فلما نفى الشرك من الصنع والاختراع وصف نفسـه بأنه واحد، ولما نفى عن نفسـه الابتداء والانتهاء ونفى التشبيه وصف نفسه بأنه أحد (ج2 ص19- 20)0

قال الرازي: التوحيد ثلاثة: توحيد الحق لنفسه تعالى وهو علمه بأنه واحد وإخباره بأنه واحد، وتوحيد العبد للحق وهو بهذا المعنى أيضاً أى علمه بأن الله واحد وإخباره بأنه تعالى واحد، وتوحيد الحق للعبد وهو إعطاؤه إياه التوحيد وتوفيقه له. انتهى0 خطط السداد والرشد للتتائى رحمه الله (ج1 ص 14 ـ 15 ) هامش الدر الثمين.

قال الحافظ وقال الكرماني الجهمية فرقة من المبتدعة ينتسبون إلى جهم بن صفوان مقدم الطائفة القائلة أن لا قدرة للعبد أصلاً وهم الجَبرية (بفتح الجيم وسكون الموحدة) ومات مقتولاً فى زمن هشام بن عبد الملك. انتهى ثم قال: وليس الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إلا إنكار الصفات حتى قالوا ان القرآن ليس كلام الله وأنه مخلوق الخ (ج13 ص 357 ) 0

قلت: وما ذكر الكرمانى من أنه مات مقتولاً فى عهد هشام بن عبد الملك فهو كذلك، وسنفصله حين نتحدث عن جهم فى مبحث يخصه انتهى.

يعرف التوحيد بمعنى الفن المدون بأنه علم يبحث فيه عن معرفة العقائد الدينية. وهى التي يجب على كل مكلف ذكر أو أنثى حر أو عبد أن يعتقدها. فيجب عليه أن يعرف الصفات الواجبة لله تعالى والمستحيلة والجائزة فى حقه تعالى، وأن يعرف الصفات الواجبة للأنبياء والرسل والمستحيلة عليهم والجائزة فى حقهم عليهم الصلاة والسلام، وأن يعرف ما جاء فى الكتاب والسنة من أحوال الموت والقبر وما بعدهما. ومن لم يعـرف ذلك كله فليس بمسلم ويخلد فى نار جهنم إن مات على جهله أو تقليده غير المطابق للحق على رأى جمهور أهـل السنـة.

والمعرفة: هي الإدراك الجازم المطابق للواقع الناشئ عن دليل.

والواجب: هو الأمر الثابت الذي لا يقبل الانتفاء ككون الجسم متحركاً أو ساكناً وكونه صغيراً أو كبيراً وكونه ناعماً أو خشنا ونحوه مما لابد للجسـم منـه، وفى جـانب الحـق تعـالى هو ما لا يتصور فى العقل عدمه أو زواله.

والمستحيل: هو الأمر المنفي الذي لا يقبل الثبوت ككون الجسم متحركاً ساكناً أو طويلاً قصيراً، أو حيواناً جماداً فى آنٍ واحدٍ، وفي جانب الحق هو ما لا يتصور فى العقل وجوده أو ثبوته.

والجائز: هو ما يقبل الثبوت والانتفاء ككون الجسم صغيراً فى وقت كبيراً فى وقت آخر، وكونه قصيراً فى وقت طويلاً فى وقت آخر، وكونه حياً فى وقت ميتا فى وقت آخر من صور الإمكان وأحواله.

المعرفة بالله

وبعد كل هذا نعلم أن المعرفة بالله هي أول الواجبات على المكلف وطريقها النظر في الأدلة النقلية والعقلية وهل الواجب هو النظر أو القصد إليه محل خلاف بين العلماء والنظار ومعنى المعرفة هو الجزم المطابق عن دليل.

هذا واتفق الجمهور من أهل السنة على أن معرفة الله وتوحيده بالطريقة التى تقدمت واجبة على كل مكلف قال الله تعالى:" فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ" محمد:آية 20.

والعلم بما تضمنته هذه الكلمة المشرفة يعنى اعتقاده في القلب والتعبير عنه باللسان والعمل بمقتضى ذلك بالأركان، هو المعرفة المطلوبة وهذه هي صورة عقيدة أهل السنة والعقيدة فعيلة من العقد وهو الربط لغة ثم نقل لتصميم القلب على إدراك تصوري أو تصديقي، والمراد بالعقيدة هنا ما يدين الإنسان به واعتقد كذا عقد عليه قلبه وضميره قاله الزبيدي فى الإتحاف.

وخلاصة القول أن عنوان ذلك النطق بالكلمة نطقاً يواطىء القلب فيه اللسان بان يشهد أَنَّ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مقترنة بضميمتها التي لا تجدي بدونها وهى محمد رسول الله ومعنى لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أى لا معبود بحق إلا الله، وقيل: لا مستغنى عن كل ما سواه ومفتقرٌ إليه كل ما عداه إلا الله، ويطلق على هاتين الكلمتين مجتمعتين{كلمة الشهادة} لارتباط إحداهما بالأخرى.

قال الزبيدى: وكلمتا الشهادة هي لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن محمدا رسول الله وهى أحد مباني الإسلام إشارة إلى حديث بُني الإسلام على خمس فذكر شهادة أن لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن محمداً رسول الله، وقد تقدم الحديث وما فيه مفصلاً فى كتاب العلم، وإنما اقتصر على هاتين الكلمتين لاشتمالهما على جميع مسائل التوحيد كما أشار له السنوسي وغيره، وتفصيل ذلك أن معنى لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لا مستغني عن كل ما سواه ومفتقر إليه كل ما عداه إلا الله. ومعنى الإلوهية استغناء الإله عن كل ما سواه وافتقار كل ما عداه إليه انتهى ( ج2 ص 17). فهو الواحد أي المتفرد بكل كمال المنزه عن كل نقص.

قال أبو المعالي: - الواحد - معناه المتوحد عن الانقسام أهـ، والقشيري يرى ان الواحد هو الذي لا قسيم له ولا يستثنى منه أهـ.

قلت: الأول نفى التركيب في الذات والثاني نفى المثلية والتركيب معاً0

واشترط أهل السنة هذا النطق وهو مذهب جمهورهم فمن آمن بقلبه ولم ينطق بلسانـه فمات أو لم يمت وهو قادر فهو كافر لا يعتد بإيمانه بقلبه دون أن يعبر عنه لسانه، ولكن عارض في ذلك عدد من العلماء فقال القاضي أبو بكر الباقلاني: لا يشترط وبه، قال ابن رشد: وهو ظاهر قول المدونة لو أجمع على الإسلام بقلبه فاغتسل أجزأه وان لم ينو الجنابة لأنه نوى الطهر، قال التتائي فى خطط السداد والرشد على نظم مقدمة ابن رشد: ولما كان ظاهرها مخالفاً للجمهور نسب ذلك ابن الحاجب للمدونة بقوله :- وفيها- يعنى المدونة – لو أجمع على الإسلام فاغتسل له أجزأه وإن لم ينو الجنابة لأنه نوى الطهر، وأردفها بقوله وهو مشكل انتهى.

قلت: إن الذي عقد العزم على الإسلام واغتسل للإسلام فمثله يكون عازماً على النطق فينفعه ذلك، وأما إذا كان المانع له شىء آخر فالظاهر أن أمره مشكل خصوصاً إذا كان المانع له مجرد الحياء أو عدم الاهتمام أو التردد0

وقال ابن فورك: الواحد فى وصفه عز وجل له ثلاث معان: أنه لا قسيم لذاته لأنه غير متبعض ولا متحيز.

ثانيها: أنه لا شبيه له تقول العرب فلان واحد فى عصره أى لا نظير له.

ثالثها: أنه لا شريك له فى أفعاله يقال فلان متوحد فى هذا الأمر لا يشاركه فيه أحد ولا يعاونه.

والأولون قالوا هذه المعاني الثلاثة مستحقة له تعالى ولكن لفظ التوحيد فيه حقيقـة في نفي القسمة مجاز فى الباقي فإذا اعْتُقِدَ أن لا إله غيره فكل شيء سواه حادث.

" تنبيه " اعْلَمْ أن من الناس من لم يفرق بين الواحد والأحد فى المعنى، ومنهم من فرق وقال الواحد اسم لافتتاح العدد يقال واحد اثنان ثلاثة والأحد اسم لنفي ما يذكر معه من العدد، وقيل الأحد يذكر مع الجحد، يقال ما جاءني أحد، فمعناه نفى مجيء الواحد فما فوقه أيضاً، ويقال جاءني واحد ولا يقال جاءني أحد، وقيل الأحد إنما يذكر فى الإثبات فى صفة الله تعالى على وجه التخصيص، يقال هو الله الأحد ولا يقال هو الرجل الأحد ولا رجل أحد، ويقال فى وصف غيره وحيد وأوحد ولا يطلـق عليه ذلك فى وصفه وان كان أبلغ لعدم التوقيف.

وجوب النظر في الأدلة

قال الحافظ أبو بكر ابن العربي: النظر هو الفكر المرتب في النفس على طريق تفضي إلى العلم يطلب به من قام به علما في العلميات أو غلبة ظن في المظنونات.

وقال البيضاوي حقيقة النظر ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى استعلام ما ليس بمعلوم، وقيل غير ذلك وهل الربط بين الدليل والنتيجة عادي فيمكن تخلفه أو عقلي فلا يمكن عند نفى الآفات العامة كالموت ونحوه من أسباب التخلف أو بالتولد أو بالإيجاب؟ أربعة أقوال: الأول مذهب الأشعري، والثاني لإمام الحرمين وهو الصحيح وللقاضي القولان، والثالث مذهب المعتزلة والرابع مذهب الحكماء: والمعرفة هي الجزم المطابق عن دليل وللشيخ في شرح الكبرى تقسيم عجيب لابد من إيراده لمسيس الحاجة إليه واشتماله على فوائد.

قال رحمه الله: أعلم أن الحكم الحادث ينشأ عن أمور خمسة: علم واعتقاد وظن وشك ووهم، لأن الحاكم بأمر على أمر ثبوتاً أو نفياً إما أن يجد في نفسه الجزم بذلك الحكم أولاً، والأول إما أن يكون لسبب وأعنى به ضرورة أو برهاناً أولاً، وغير الجزم إما أن يكون راجحاً على مقابله أو مرجوحاً أو مساوياً، فأقسام الجزم اثنان وأقسام غير الجزم ثلاثة، ويسمى الأول من قسمي الجزم علماً ومعرفة ويقينا والثاني اعتقاداً ويسمى الأول من أقسام غير الجزم ظنا والثاني وهما والثالث شكاً.

فإذا عرفت هذا فالإيمان إن حصل عن أقسام غير الجزم الثلاثة فالإجماع على بطلانه وإن حصل عن القسم الأول من قسمي الجزم وهو العلم فالإجماع على صحته، وأما القسم الثاني وهو الاعتقاد فينقسم إلى قسمين مطابق في نفس الأمر ويسمى الاعتقاد الصحيح كاعتقاد عامة المؤمنين المقلدين وغير مطابق ويسمى الاعتقاد الفاسد والجهل المركب كاعتقاد الكافرين فالفاسد أجمعوا على كفر صاحبه وأنه آثم غير معذور مخلد في النار اجتهد أو قلد ولا يعتد بخلاف من خالف في ذلك من المبتدعة، واختلفوا في الاعتقاد الصحيح الذي حصل بمحض التقليد فالذي عليه الجمهور والمحققون من أهل السنة كالشيخ الأشعري والقاضي والأستاذ وإمام الحرمين وغيرهم من الأئمة، أنه لا يصح الاكتفاء به في العقائد الدينية وهو الحق الذي لاشك فيه، وقد حكى غير واحد الإجماع عليه وكأنه لم يعتد بخلاف الحشوية وبعض أهل الظاهر إما لظهور فساده وعدم متانة علم صاحبه أو لانعقاد إجماع السلف قبله على ضده، وقد حصل ابن عرفة في المقلد ثلاثة أقوال: الأول أنه مؤمن غير عاص بترك النظر، الثاني أنه مؤمن لكنه عاص إن ترك النظر مع القدرة، الثالث أنه كافر، ثم قال وبالجملة فالذي حكاه غير واحد عن جمهور أهل السنة ومحققيهم أن التقليد لا يكفى في العقائد، ولهذا قال ابن الحاجب في العقيدة المنسوبة له بعد قوله: إن الإيمان هو التصديق وهو حديث النفس التابع للمعرفة لا المعرفة على الأصح، قال: ولا يكفى التقليد فى ذلك على الأصح أهـ الدر الثمين والمرد المعين( ص 19- 20) قلت: وفى كفر المقلد إن طابق الواقع نظر، بل الصواب صحة إيمانه. راجع فتح البارى ( ج13 ص 361 ـ 367)

وأول ما ينبغي النظر فيه برهان وجود الحق تبارك وتعالى فقد أجمع النظار والعلماء الأخيار من أهل السنة والجماعة من أهل المذاهب الأربعة ما عدا قلة قليلة من الحنابلة ممن أصيبوا ببلاء التجسيم على حدوث العالم، وهو كل ما سوى الله من الموجودات جواهر كانت أو أعراضا،ً فالجوهر يراد به ما له قيام بذاته، بمعنى أنه لا يفتقر إلى محل يقوم به، والعرض ما يفتقر إلى محل يقوم به، وقد يعبر بدل الجواهر بالأجسام وهما في اللغة بمعنى وإن كان الجسم أخص من الجوهر اصطلاحا لأنه المؤلف من جوهرين فأكثر على الخلاف في أقل ما يتركب منه الجسم ومحل بسطه المطولات والجوهر يصدق بالمؤلف وبغير المؤلف واستدلوا على حدوث العالم بالتغير الطارئ عليه فقالوا العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث والحادث يحتاج في حدوثه إلى سبب يوجده والموجد هنا هو الله قال الإمام الغزالي: من بديهة العقول أن الحادث لا يستغنى فى حدوثه عن سبب، أما قولنا إن الحادث لا يستغنى فى حدوثه عن سبب فجلي، فإن كل حادث مختص بوقت يجوز في العقل تقدير تقديمه وتأخيره فاختصاصه بوقته دون ما قبله وما بعده يفتقر بالضرورة إلى المخصص، وأما قولنا العالم حادث فبرهانه أن أجسام العالم لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ففي هذا البرهان ثلاث دعاوى:

الأولى: قولنا أن الأجسام لا تخلوا عن الحركة والسكون، وهذه مدركة بالبديهة والاضطرار فلا يحتاج فيها إلى تأمل وافتكار فان من عقل جسماً لا ساكناً ولا متحركاً كان لمتن الجهل راكباً وعن نهج العقل نابكاً.

الثانية: قولنا أنهما حادثان ويدل على ذلك تعاقبهما ووجود البعض منهما بعد البعض، وذلك مشاهد في جميع الأجسام ما شوهد منها وما لم يشاهد، فما من ساكن إلا والعقل قاض بجواز حركته، وما من متحرك إلا والعقل قاض بجواز سكونه، فالطارئ منهما حادث لطريانه والسابق حادث لعدمه لأنه لو ثبت قدمه لاستحال عدمه.

الثالثة: قولنا مالا يخلو عن الحوادث فهو محدث، وبرهانه أنه لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا أول لها ولو لم تنقض تلك الحوادث بجملتها لا تنتهي النوبة إلى وجود الحادث الحاضر في الحال- لأن الحركة اليومية المعينة مشروط وجودها بانقضاء ما قبلها، وكذلك الحركة التي قبلها مشروط بمثل ذلك وهلم جرا، وكما تشهد به العقول أن انقضاء ما لا نهاية له محال لأنك إذا لاحظت الحادث الحاضر ثم انتقلت إلى ما قبله فلاحظت وهلم جرا على الترتيب لم تفض إلى نهاية، ودخول مالا نهاية له من الحوادث في الوجود محال وإلا لم يكن عدم إفضاء إلى نهاية إذا كان تلك وهو خلاف المفروض - وعلى كل فان هذه السلسلة إما إلا تنتهي كما ذكرنا، وهو التسلسل وهو باطل، وإما أن تنتهي إلى أول ويكون كل حركة هي السبب في وجود أختها وهذا هو الدور وهو باطل، وإما أن تنتهي إلى سبب هو الأول وليس من جنسها وذلك هو المطلوب إذا بما أن العالم لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لان هذا هو حكم كل ما لا يخلو عن الحوادث فإذا ثبت حدوثه كان افتقاره إلى المحدث من المدركات بالضرورة. انتهى من الأحياء والإتحاف بتصرف راجع (ج2 ص 90-92 )0

واعلم إن تشكيك بعض الناس في عدم استحالة التسلسل لم يكن مبنياً على حجة صحيحة فإن سلسلة الحوادث يجب أن تكون داخلة في الوجود أولاً فإن كانت منحصرة في الوجود فهي منتهية بافتراض أن الحلقة الحاضرة هي بداية لما سيأتي ونهاية لما مضى وباعتبار أنها مجموعة حوادث فلا بد لها من محدث، والقول بأنها معلولة لعلة هي الأخرى معلولة لعلة أخرى إلى ما لا نهاية سفسطة لا تجدي شيئاً لأن كونها علة غير مسبوقة بعدم قول بقدمها وكونها معلولة لغيرها فهي حادثة مسبوقة بعدم وهذا تناقض، ثم إننا إذا اعتبرنا الحوادث كلها عبارة عن أشخاص تتكون منها الأنواع فقد حكمنا بحدوثها كلها إذ النوع لا وجود له إلا في أشخاصه وأفراده وهى حادثة فهو حادث ودعوى القدم فيه مغالطة ومكابرة.

ومن أقوى أدلة العلماء على إثبات حدوث سلسلة هذه الأحداث كونها ممكنة بمعلولية كل حلقة لاحقة للحلقة السابقة فإن ترجيح الممكن بلا مرجح محال وبما أن الممكن إذا تصورناه حق تصوره وجدناه عدماً محضاً لذاته والمعدوم لذاته يستحيل أن يعطى الوجود أو الفعل لغيره اتضح لنا المراد لأن فاقد الشيء لا يعطيه فكيف بالمعدوم نفسه فلا وجود للممكن ولا قيام له إلا بموجده، فكون العدم علة للوجود لا يقول به عاقل.

ومن هنا فإن التسلسل باطل مثل الدور، والحقيقة أن كل ما سوى الله تعالى من العوالم مخلوق وهذا معناه أنه مسبوق بعدم وأنه ممكن وجوده وبقاؤه في عدمه، ولكن وجد ولا يتأتى ذلك إلا بموجد رجح كفة وجوده على عدمه، ولا يجوز أن يكون ذلك الموجد المرجح مماثلاً لذلك الممكن وإلاّ لاحتاج هو أيضاً إلى مرجح كما احتاج مماثله. ومن هنا ظهر أن الاستدلال بالقـرآن على إثبات الصانع أقرب وأسهل من جميع الطرق الكلامية فقوله تعالى:"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" الشورى:آية 11، حلت هذا المشكل بكل سهولة إذا انضمت إلى قوله تعالى:"اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" الزمر:آية 62.

قال تعالى:"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"البقرة:آية 164، فالسموات في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة ونجومها الثوابت ودوائرها ومذنباتها ومجراتها وآفاقها اللامتناهية المعجزة لطموحات الإنسان وغلافهـا الجـوى الذي جعله الله واقيا للأرض وحاميا لها كما في قوله تعالى:"أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" الأنبياء:آية 30- 33.

وهذه الأرض في حركتها ودورانها وكثافتها وانخفاضها وجبالها وبراريها وبحارها وقفارها ووهادها وصحاريها وعمرانها وما جعل الله فيها من المعادن والخيرات والبركات والأقوات وما به الحياة من الخزائن التي جعلها الله سبباً لحياة الإنسان وسعادته وراحته وما سخر للإنسان فيها من تعاقب الليل والنهار باختلاف الشمس والقمر كلما ذهب هذا جاء هذا لا يتأخر ولا يتعطل ولا يتوقف على إرادة خلق ما أو أمة ما إلى غير ذلك مما تضمنته هذه الآيات لدليل كافٍ لمن عقله في الوصول إلى خالق هذا الكون وكذلك قوله تعالى:"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" آل عمــران:آيــــة 190 -191.

قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة ولي فيه عبرة" رواه ابن أبى الدنيا في كتاب التوكل والإعتبار0

وعن الحسن البصري أنه قال: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة"، وقال الفضيل قال الحسن الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك، وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور يدخل قلبك وربما تمثل بهذا البيت:

إذا المرء كانت له فكرة *** ففي كل شيء له عبرة

وقال عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله - عزّ وجلّ - حسن والفكرة في نعم الله أفضل العبادة.

وقال: بشر بن الحارث الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه، وقال الحسن عن عامر بن عبد قيس قال سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يقولون : إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر. انتهى ذكر كل ذلك الحافظ ابن كثير (ج1 ص 438 )0

قال تعالى:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" البقرة: آية21- 22.

أخرج الإمام أحمد قال حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء حدثنا يحيى بن أبى كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ ‏‏يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ‏عَلَيْهِمَا السَّلَام بخمس كلمات، أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكاد أن يبطىء بها، فقال له عيسى - عليه السلام -: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن. فقال: يا أخي، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بى قال: فجمع يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بني إسرائيل في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهنّ، "وأولهن" أن تعبـدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإن مثل ذلك مثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدى غلته إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، وآمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة، كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وآمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه وقال لهم: هل لكم أن أفتدى نفسي منكم؟ فجعل يفتدى نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه، وآمركم بذكر الله كثيراً، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله..

قال: وقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-:" وأنا آمركم بخمس ، الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم، قالوا يا رسول الله: وإن صام وصلى، فقال: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عَزَّ وَجَلَّ المسلمين المؤمنين عباد الله " قال الحافظ ابن كثير: هذا حديث حسن والشاهد منه في هذه الآية قوله:"وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" انتهى.

قلت: هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند كما تقدم سياقه وأخرجه الترمذي في كتاب الأمثال والنسائي في التفسير وفى كتاب السير من السنن الكبرى وأبو داود الطيالسى فى المسند وأبو يعلى وابن خزيمة والحاكم في المستدرك وابن حبان كما في مورد الظمآن والطبراني في الكبير، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب، قلت ولعل الغرابة هنا لا ترجع إلى الإسناد فقط وإنما ترجع إلى ما جاء فيه من قول عيسى عليه السلام لزكريا، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن الخ وذلك لأن الأنبياء لا يتصرفون من عند أنفسهم وإنما يتصرفون بأمر الله، والحديث لم يشر إلى أن عيسى قد جاءه من الله أمر بذلك والله اعلم، هذا وفى إسناد أحمد موسى بن خلف العمى البصري من كبار الصالحين وقال فيه بن معين ضعيف، وقال غيره ليس بقوى، وقال ابن حبان أكثر من المناكير، وقال ابن معين أيضا ليس به بأس، وقال أبو حاتم صالح الحديث، وقال أبو داود ليس به بأس ليس بذلك قاله الذهبي في الميزان (ج4 ص203 رقم 8857 ) ويحيى بن أبى كثير الطائي مولاهم أبو نصر اليمامي ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل قاله في التقريب ( ص 691 رقم 7632 ).

ثم قال الحافظ ابن كثير: وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل بها كثير من المفسرين - كالرازي وغيره - على وجود الصانع تعالى، وهى دالة على ذلك بطريق الأولى، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية، واختلاف أشكالها وألوانها، وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة - علم قدرة خالقها وحكمته، وعلمه وإتقانه، وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال : يا سبحان الله! إن البعرة لتدل على البعير وإن أثر الأقدام ليدل على المسير فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج ؟ ألا يدل على وجود اللطيف الخبير؟

وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك، فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات، وعن أبى حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود البارئ تعالى، فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة، فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهى مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها، وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد، فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل: فقال: ويحكم! هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي، وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة أليس لها صانع؟ فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه.

وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد، تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعرا وروثاً، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك، وهو شىء واحد.

وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال: هاهنا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره، فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح يعنى بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة، وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:

تأمـل فى نبات الأرض وانظـر

**

إلى آثـــــار ما صنــــع المليك

عيـون من لجـــين شاخصـات

**

بـأحداق هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات

**

بــــــأن الله ليس له شــريك

وقال ابن المعتز :

أم كيــــف يجحـده الجاحــد

**

فيا عجباً كيـف يعصى الإلـه
تــدل عـلى أنـــه واحــــــد ** وفى كـــل شيء لــه آيــــة

قلت : وقد نسب غير ابن كثير هذه الأبيات إلى أبى العتاهية من شعره والله اعلم فقد ورد فى ديوانه (ص102-104) ما يدل على ذلك وأول الأبيات كما فى الديوان:

أى بـنـــى آ دم خـالـــد

**

الا إننـــا كلنـــــــــا بائــــــد

وكــــــل إلى ربـــــه عائـــد

** وبدؤهم كــــان مـــن ربهم
أم كيـــف يجحده الجاحــــد ** فيا عجبا كيــف يعصى الإله
وتسكيتـة ابـــــداً شـاهـــد ** ولله فى كــــل تحـــريكــــة

ثم قال وقال آخرون: من تأمل هذه السموات في ارتفاعها واتساعها، وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم، في كل يوم وليلة دويرة، ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها، مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال تعالى:"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ *وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ" غافر 27-28.

وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة، والنبات المختلف الطعوم والأراييح، والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه، ولطفه بهم وإحسانه إليهم، وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً. انتهى (ج1 ص58 -59 )0

ولذلك جعل أولياء الله التفكر والاعتبار من أعظم أنواع العبادات عندهم فإذا تكلموا ذكروا وإذا صمتوا اعتبروا.

التفكر فى آثار رحمة الله وعجائب الخلقة البشرية

قال تعالى:"وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ" الذاريات آية :21 وقال تعالى:"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" المؤمنون:آية 12- 14.

والتفكر في عجائب خلقة النفس وفيما أعد الله في هذا الإنسان وفيما أعده لهذا الإنسان قبل قدومه إلى هذا العالم دليل قاطع على وجود الصانع ورحمته الواسعة. وفى الحديث عن عمر مرفوعاً: لله أرحم بعباده من هذه بولدها - يريد امرأة من السبى- رواه البخاري ومسلم وقال تبارك وتعالى:"وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" الأعراف:آية 156.

وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:إناللَّهَ تعالى خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ" رواه البخاري ومسلم.

وأخرج مسلم والإمام أحمد فى المسند عن سلمان مرفوعاً:"إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مِائَةَ رَحْمَةٍ كل رَحْمَةٍ طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها فى الأرض رَحْمَةً فبها تعطف الوالدة عَلَى وَلَدِهَا والْوَحْشُ والطير بعضها على بعض وَأَخَّرَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة" ورواه أحمد وابن ماجه عن أبى سعيد.

وفى لفظ لسلمان: مرفوعاً:"إن الله عز وجل خلق مِائَةَ رَحْمَةٍ فمنها رحمة يتراحم بها الخلق وبها تعطف الْوَحْشُ عَلَى أولادها َأَخَّرَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ إلى يوم القيامة" قال ابن كثير تفرد باخراجه مسلم فرواه من حديث سليمان هو ابن طرخان وداود بن أبى هند كلاهما عن أبى عثمان واسمه عبد الرحمن بن مِلِّ عن سلمان هو الفارسى عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.

قلت: وفى بعض ألفاظ حديث سلمان عند عبد الرزاق موقوفاً في قوله تعالى:"كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" قال: إنا نجد في التوراة عطفتين إن الله خلق السموات والأرض وخلق مائة رحمة أو جعل مائة رحمة قبل ان يخلق الخلق ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة وامسك عنده تِسْعًا وَتِسْعِينَ رحمة قال فبها يتراحمون وبها يتعاطفون وبها يتبادلون وبها يتزاورون وبها تحن الناقـة وبها تثج البقرة وبها تثغو الشاة وبها تتابع الطير وبها تتابع الحيتان في البحر فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى ما عنده ورحمته أفضل وأوسع.

وعن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمذا فرغ الله من القضاء بين الخلق أخرج كتاباً من تحت العرش أن رحمتى سبقت غضبى وأنا أرحم الراحمين فيقبض قبضة أو قبضتين فيخرج من النار خلقا لم يعملوا خيرا مكتوب بين أعينهم عتقاء الله" عزاه السيوطى إلى ابن مردويه.

قلت: وكذالك عبد الرزاق فى تفسيره. فإذا عرفت أن هذه هي رحمة الله العامة فانظر إلى رحمة الله الخاصة بخلقك، قال العلامة ابن عجيبة في شرح المباحث عند قول ابن البناء في نظمه:

أتدرى من أنت وكيف تدرى *** وأنت قد عزلت والى الفكر

قلت: والى الفكر هو العقل لأنه هو الذي يلي الفكر ويستعمله وعزله عن ذلك هو اشتغاله بحظوظه وهواه حتى بعد عن حضرة مولاه وهذا منه رحمه الله تنبيه وإيقاظ للغافل وتقريع وتوبيخ للجاهل يقول له أتدرى من أنت أيها الإنسان، ولماذا خلقت وما المراد منك، أنت نخبة الأكوان وأنت في الأصل قطب الزمان أنت المقصود الأعظم من هذا الكون فلو تفكرت في أمر نفسك لعلمت عظمة ربك فسارعت إليه بجسمك وقلبك، لكن عزلت عقلك عن التفكر والاعتبار وشغلت نفسك بالفضول والاغترار، فلا جرم أنك هوت نفسك في دار البوار، فلو تفكرت في عجائب نفسك لتحققت بمعرفة ربك، قال تعالى:"َوفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون" فتأمل في أول نشأتك وفى تركيب صورتك فانظر رحمك الله إلى أصلك حين كنت نطفة مهينة فقلب الحق تعالى عرق دم الحيض مددا لك في رحم أمك، ثم صرت علقة ثم مضغة ثم فصل سبحانه تلك المضغة إلى العظم واللحم والعصب والعروق والدم والجسد والظفر والشعر ووضع كل واحد منها بحكمة لولاها لاختل الجسد بحسب العادة، فالعظام منها هي عمود الجسد فضم بعضها إلى بعض بمفاصل وأقفال من العضلات والعصب ربطت بها ولم تكن عظما واحدا لأنه إذ ذاك يكون مثل الحجر أو الخشبة لا يتحرك ولا يقوم ولا يجلس ولا يركع ولا يسجد لخالقه الحي القيوم، وجعل سبحانه العصب على مقدار مخصوص ولو كان أقوى مما هو لم تصح في العادة حركة الجسم ولا تصرفه في منافعه، ثم خلق تعالى في العظام لينافى غاية الرطوبة ليرطب يبس العظام وشدتها وتتقوى العظام برطوبته ولولا ذلك لضعفت قوتها وانخرم نظام الجسد بحسب جرى العادة، ثم خلق سبحانه اللحم وأعفاه وعلاه على العظام وسد به خلل الجسد كله فصار مستوياً لحمة واحدة واعتدلت هيئة الجسد واستوت، ثم خلق سبحانه العروق في جميع الجسد جداول لجريان الغذاء فيها إلى أركان الجسد لكل موضع من الجسد عدد معلوم من العروق صغاراً وكباراً ليأخذ الصغير من الغذاء حاجته والكبير حاجته ولو كانت أكثر مما هي عليه أو أنقص أو على غير ما هي عليه من الترتيب ما صح شيء من الجسد عادة، ثم أجرى الدم في العروق سيالا خاثراً ولو كان يابساً أو أكثف مما هو عليه لم يجر في العروق ولو كان ألطف مما هو عليه لم تنفذ به الأعضاء، ثم كسى سبحانه اللحم بالجلد ستره كله كالوعاء ولولا ذلك لكان قشرا أحمر وفى ذلك هلاكه عادة، ثم كساه الشعر وقاية للجلد وزينة في بعض المواضع وما لم يكن شعر جعل له اللباس عوضاً منه وجعل أصوله مغروزة في اللحم ليتم الانتفاع به ولين أصوله ولم يجعلها يابسة مثل رؤوس الابراذ لو كانت كذلك لم يهنأ عيش وجعل الحواجب والأشفار وقاية للعينين ولولا ذلك لا هلكهما الغبار والسقط وجعلها سبحانه على وجه يتمكن بسهولة من رفعها على الناظر عند قصد النظر ومن ارخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر إلى ما تؤذى رؤيته ديناً أو دنياً وجعل شعرها صفاً واحداً لينظر من خللها، ثم خلق سبحانه شفتين ينطبقان على الفم يصونان الحلق والفم من الرياح والغبار وينفتحان بسهولة عند الحاجة إلى الانفتاح ولما فيهما أيضاً من كمال الزينة وغيرها، ثم خلق سبحانه بعدهما الأسنان ليتمكن بها من قطع مأكوله وطحنه ولم يخلق له الأسنان من أول الخلقة لئلا يضر بأمه فى حال رضاعه ولأنه يحتاج لها حينئذ لضعفه عما كثف من الأغذية فعوضه الله منها برأفته لبن أمه دافئاً فى الشتاء بارداً فى الصيف فلما قوى وصلح للغذاء الخشن خلق له الاسنان لأن الطعام لو جعل في الفم وهو قطعة واحدة لم يتيسر ابتلاعه فيحتاج إلى طاحونة يطحن بها الطعام فخلق اللحيين من عظمين وركب منهما الاسنان وطبق الأضراس من العليا على السفلى لتطحن بهما الطعام طحنا ثم الطعام تارة يحتاج إلى الكسر وتارة يحتاج إلى القطع ثم يحتاج إلى الطحن بعد ذلك فجعل سبحانه الأسنان على ثلاثة أصناف بعضها عريضة طواحن كالأضراس وبعضها حادة قواطع تصلح للقطع كالرباعية وبعضها صلبة تصلح للكسر كالأنياب، ثم جعل سبحانه مفصل اللحيين متخللا بحيث يتقدم الفك الأسفل ويتأخر حتى يكون على الفك الأعلى دوران الرحى ولولاهما لم يتم إضراب أحدهما على الآخر مثل تصفيق اليدين ثم جعل الفك الأسفل يتحرك حركة دورية واللحى الأعلى ثابت لا يتحرك فانظر إلى عجيب صنع الله تعالى فإن رحى الخلق الأعلى يدور والأسفل ثابت ورحى الله تعالى معكوسة الأسفل يتحرك والأعلى ثابت، ثم هب أنك وضعت الطعام فى الفم فكيف يتحرك الطعام إلى ما تحت الأسنان وكيف تستجره الأسنان إلى نفسها وكيف يتصرف باليد فى داخل الفم، فانظر كيف أنعم الله عليك فخلق اللسان يطوف فى جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة كالمجرفة ترد الطعام إلى الرحى هذا مع ما فيه من فائدة الذوق وعجائب قوة النطق، ثم هب أنك قطعت الطعام وطحنته وهو يابس فلا تقدر على ابتلاعه إلا بأن يزلق إلى الحلق بنوع رطوبة أنبع الله تعالى فى الفم عينا نباعة على الدوام أحلى من كل حلو وأعذب من كل عذب فيحرك اللسان الغذاء ويمزجه بذلك الماء فيعود زلقا فينحدر فى الحلق بلا مؤنة ولهذا إذا أعدم الله تلك العين من حلق المريض لم يمض على الحلق شيء وان مضى فبمشقه عظيمة ( ومن ) عجب هذه العين أنها مع عدم انقطاعها لم يكن ماؤها يملأ الفم فى كل وقت حتى يتكلف الإنسان طرحها بل جرت على وجه ألجمت فيه أن تتعدى وجه منفعتها فتبارك الله أحسن الخالقين (ثم) لما كنت تحتاج إلى مناولة الطعام وجعله فى الفم خلق الله لك اليدين ولم يجعلك كالبهيمة تأكل على فمك فأنعم عليك باليدين وهما طويلتان فتمتدان إلى الأشياء مشتملتين على مفاصل كثيرة لتتحرك فى الجهات فتمتد وتثنى إليك فلم تكن كالخشبة المنصوبة ثم جعل رأس اليدين عريضاً فخلق الكف ثم قسم رأس الكف بخمسة أقسام هى الأصابع وجعلها في صفين بحيث يكون الإبهام فى جانب يدور على الأربعة الباقية ولو كانت مجتمعة لم يحصل بها تمام غرضك ووضعها وضعاً إن بسطتها كانت مجرفة وان ضممتها وثنيتها كانت لك مغرفة وإن جمعتها كانت آلة للضرب وإن نشرتها ثم قبضتها كانت لك آلة القبض ثم خلق الله سبحانه أظفارا وأسند إليها رؤوس الأصابع لتشتد بها أطرافها لكثرة حركتها والتصرف بها فى الأمور حتى لا تتفتت وحتى تلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تأخذها الأصابع ولتحك بها جسدك ولما كان الشعر والظفر مما يطول لما فى طولهما من المصلحة لبعض الناس وفى بعض الأوقات وكان جزهما مما يحتاج إليه فى بعض الأوقات لم يجعلا كسائر الأعضاء فى تألم الإنسان بقطعهما فانظر إلى دقائق هذه النعم هل تقوم بشكرها ( ثم ) إذا نظرت إلى الطعام كيف تجذبه الحنجرة وتبلعه ثم إلى المعدة كيف تطبخه بالحرارة التى فيها ثم إذا طبخ كيف يأخذ القلب اللباب الذى صعد على وجه المعدة ثم كيف يجرى فى العروق المتصلة به من قرنك إلى قدمك ثم إلى نعمة الرجلين كيف تمشى بهما إلى حاجتك (وجدت) نفسك مغموراً بالنعم، قال تعالى:"وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا" هذه كلها نعم حسية فكيف بالنعم الباطنية كنعمة الإسلام والإيمان والمعرفة والعلم وغير ذلك مما لا يحصره العقل ولا يعده النقل "فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" ولذلك كانت عبادة التفكر قدرها عند الله عظيم إذ لا يتوصل إلى هذه العجائب إلا بالتفكر أهـ ( ص 392 395 ).

بعض آيات تعداد النعم الآلهية على الإنسان

إن مما يجدر بالإنسان أن يعود نفسه عليه قراءة بعض آيات القرآن الكريم التي تذكر بنعم الله على الإنسان في نفسه وفى الآفاق وفى الكون في الدنيا وفى الآخرة، يقول الله تبارك وتعالى:"اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ ،يسقى بماءٍ واحد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" الرعد:آية 2-4.

وكذلك يعدد الله تبارك وتعالى نعمه علينا في الإيجاد والإمداد في سورة إبراهيم حيث يقول:"قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" إبراهيم:آية 31-34 0

وفى سورة الحجر يلفت انتباه الإنسان ليطمئنه على سعة الإمدادات الإلهية عليه فيقول:" وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ" الحجر:آية 19-23

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"