بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 19 أبريل 2010

نبذ من كتاب "بداية المجتهد"/لابن رشد

بداية المجتهد ونهاية المقتصد
الجزء الأول
( 2 من 28 )







الجزء الأول‏.‏

مقدمة المؤلف‏.‏

-بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

أما بعد حمد الله بجميع محامده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وآله وأصحابه، فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي ‏(‏في نسخة فاس‏:‏ التنبيه لنفسي بدل أن أثبت‏)‏ ‏(‏انظر ترجمة المؤلف آخر الكتاب‏)‏ على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها، والتنبيه على نكت الخلاف فيها، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق بالمنطوق به تعلقا قريبا، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد‏.‏

وقبل ذلك فلنذكر كم أصناف الطرق التي تتلقي منها الأحكام الشرعية، وكم أصناف الأحكام الشرعية، وكم أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف بأوجز ما يمكننا في ذلك‏.‏ فنقول‏:‏

إن الطرق التي منها تلقيت الأحكام عن النبي عليه الصلاة والسلام بالجنس ثلاثة‏:‏ إما لفظ، وإما فعل، وإما إقرار‏.‏ وأما ما سكت عنه الشارع من الأحكام فقال الجمهور‏:‏ إن طريق الوقوف عليه هو القياس‏.‏ وقال أهل الظاهر‏:‏ القياس في الشرع باطل، وما سكت عنه الشارع فلا حكم له‏.‏ ودليل العقل يشهد ثبوته ‏[‏أي ثبوت القياس‏.‏ دار الحديث‏]‏، وذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى‏.‏

وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة‏:‏ ثلاثة متفق عليها، ورابع مختلف فيه‏.‏ أما الثلاثة المتفق عليها فلفظ عام يحمل على عمومه، أو خاص يحمل على خصوصه، أو لفظ عام يراد به الخصوص، أو لفظ خاص يراد به العموم، وفي هذا يدخل التنبيه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، وبالمساوي على المساوى؛ فمثال الأول قوله تعالى ‏{‏حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير‏}‏ فإن المسلمين اتفقوا على أن لفظ الخنزير متناول لجميع أصناف الخنازير ما لم يكن مما يقال عليه الاسم بالاشتراك، مثل خنزير الماء، ومثال العام يراد به الخاص قوله تعالى ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏ فإن المسلمين اتفقوا على أن ليست الزكاة واجبة في جميع أنواع المال، ومثال الخاص يراد به العام قوله تعالى ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه يفهم من هذا تحريم الضرب والشتم وما فوق ذلك، وهذه إما أن يأتي المستدعى بها فعله بصيغة الأمر، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به الأمر، وكذلك المستدعي تركه، إما أن يأتي بصيغة النهي، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به النهي، وإذا أتت هذه الألفاظ بهذه الصيغ، فهل يحمل استدعاء الفعل بها على الوجوب أو على الندب على ما سيقال في حد الواجب والمندوب إليه، أو يتوقف حتى يدل الدليل على أحدهما، فيه بين العلماء خلاف مذكور في كتب أصول الفقه، وكذلك الحال في صيغ النهي هل تدل على الكراهية أو التحريم، أو لا تدل على واحد منهما، فيه الخلاف المذكور أيضا، والأعيان التي يتعلق بها الحكم إما أن يدل عليها بلفظ يدل على معنى واحد فقط، وهو الذي يعرف في صناعة أصول الفقه بالنص، ولا خلاف في وجوب العمل به، وإما أن يدل عليها بلفظ يدل على أكثر من معنى واحد، وهذا قسمان‏:‏ إما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء، وهو الذي يعرف في أصول الفقه بالمجمل، ولا خلاف في أنه لا يوجب حكما، وإما أن تكون دلالته على بعض تلك المعاني أكثر من بعض، وهذا يسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أكثر ظاهرا، ويسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أقل محتملا، وإذا ورد مطلقا حمل على تلك المعاني التي هو أظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على المحتمل، فيعرض الخلاف للفقهاء في أقاويل الشارع، لكن ذلك من قبل ثلاثة معان‏:‏ من قبل الاشتراك في لفظ العين الذي علق به الحكم، ومن قبل الاشتراك في الألف واللام المقرونة بجنس تلك العين، هل أريد بها الكل أو البعض‏؟‏ ومن قبل الاشتراك الذي في ألفاظ الأوامر والنواهي‏.‏ وأما الطريق الرابع فهو أن يفهم من إيجاب الحكم لشيء ما نفي ذلك الحكم عما عدا ذلك الشيء أو من نفى الحكم عن شيء ما إيجابه لما عدا ذلك الشيء الذي نفي عنه، وهو الذي يعرف بدليل الخطاب، وهو أصل مختلف فيه، مثل قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏في سائمة الغنم الزكاة‏"‏ فإن قوما فهموا منه أن لا زكاة في غير السائمة، وأما القياس الشرعي فهو إلحاق الحكم الواجب لشيء ما بالشرع بالشيء، المسكوت عنه لشبهه بالشيء الذي أوجب الشرع له ذلك الحكم أو لعلة جامعة بينهما، ولذلك كان القياس الشرعي صنفين قياس شبه، وقياس علة؛ والفرق بين القياس الشرعي واللفظ الخاص يراد به العام‏:‏ أن القياس يكون على الخاص الذي أريد به الخاص، فيلحق به غيره، أعني أن المسكوت عنه يلحق بالمنطوق به من جهة الشبه الذي بينهما لا من جهة دلالة اللفظ لأن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من جهة تنبيه اللفظ ليس بقياس، وإنما هو من باب دلالة اللفظ، وهذان الصنفان يتقاربان جدا لأنهما إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به، وهما يلتبسان على الفقهاء كثيرا جدا، فمثال القياس إلحاق شارب الخمر بالقاذف في الحد والصداق بالنصاب في القطع، وأما إلحاق الربويات بالمقتات أو بالمكيل أو بالمطعوم فمن باب الخاص أريد به العام، فتأمل هذا فإن فيه غموضا‏.‏ والجنس الأول هو الذي ينبغي للظاهرية أن تنازع فيه، وأما الثاني فليس ينبغي لها أن تنازع فيه لأنه من باب السمع، والذي يرد ذلك يرد نوعا من خطاب العرب، وأما الفعل فإنه عند الأكثر من الطرق التي تتلقي منها الأحكام الشرعية، وقال قوم الأفعال‏:‏ ليست تفيد حكما إذ ليس لها صيغ، والذين قالوا إنها تتلقي منها الأحكام اختلفوا في نوع الحكم الذي تدل عليه، فقال قوم‏:‏ تدل على الوجوب، وقال قوم‏:‏ تدل على الندب، والمختار عند المحققين أنها إن أتت بيانا لمجمل واجب دلت على الوجوب، وإن أتت بيانا لمجمل مندوب إليه دلت على الندب؛ وإن لم تأت بيانا لمجمل، فإن كانت من جنس القربة دلت على الندب وإن كانت من جنس المباحات دلت على الإباحة، وأما الإقرار فإنه يدل على الجواز فهذه أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام أو تستنبط‏.‏

وأما الإجماع فهو مستند إلى أحد هذه الطرق الأربعة، إلا أنه إذا وقع في واحد منها ولم يكن قطعيا نقل الحكم من غلبة الظن إلى القطع وليس الإجماع أصلا مستقلا بذاته من غير استناد إلى واحد من هذه الطرق، لأنه لو كان كذلك لكان يقتضي إثبات شرع زائد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان لا يرجع إلى أصل من الأصول المشروعة‏.‏ وأما المعاني المتداولة المتأدية من هذه الطرق اللفظية للمكلفين، فهي بالجملة‏:‏ إما أمر بشيء وإما نهي عنه، وإما تخيير فيه‏.‏ والأمر إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بتركه سمي واجبا، وإن فهم منه الثواب على الفعل وانتفى العقاب مع الترك سمي ندبا‏.‏ والنهي أيضا إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بالفعل سمي محرما ومحظورا،وإن فهم منه الحث على تركه من غير تعلق عقاب بفعله سمي مكروها، فتكون أصناف الأحكام الشرعية الملتقاة من هذه الطرق الخمس‏:‏ واجب، ومندوب، ومحظور، ومكروه، ومخير فيه وهو المباح‏.‏ وأما أسباب الاختلاف بالجنس فستة‏:‏ أحدها تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع‏:‏ أعني بين أن يكون اللفظ عاما يراد به الخاص، أو خاصا يراد به العام، أو عاما يراد به العام، أو خاصا يراد به الخاص، أو يكون له دليل خطاب، أو لا يكون له‏.‏ والثاني الاشتراك الذي في الألفاظ، وذلك إما في اللفظ المفرد كلفظ القرء الذي ينطلق على الأطهار وعلى الحيض، وكذلك لفظ الأمر هل يحمل على الوجوب أو الندب، ولفظ النهي هل يحمل على التحريم أو على الكراهية، وإما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ فإنه يحتمل أن يعود على الفاسق فقط، ويحتمل أن يعود على الفاسق والشاهد، فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف‏.‏ والثالث اختلاف الإعراب‏.‏ والرابع تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز، التي هي‏:‏ إما الحذف، وإما الزيادة، وإما التقديم وإما التأخير، وإما تردده على الحقيقة أو الاستعارة‏.‏ والخامس إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة، مثل إطلاق الرقبة في العتق تارة، وتقييدها بالإيمان تارة‏.‏ والسادس التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي يتلقى منها الشرع الأحكام بعضها مع بعض وكذلك التعارض الذي يأتي في الأفعال أو في الإقرارات، أو تعارض القياسات أنفسها،أو التعارض الذي يتركب من هذه الأصناف الثلاثة‏:‏ أعني معارضة القول للفعل أو للإقرار أو للقياس، ومعارضة الفعل للإقرار أو للقياس، ومعارضة الإقرار للقياس‏.‏

قال القاضي رضي الله عنه‏:‏

وإذ قد ذكرنا بالجملة هذه الأشياء، فلنشرع فيما قصدنا له، مستعينين بالله، ولنبدأ من ذلك بكتاب الطهارة على عاداتهم‏.‏

كتاب الطهارة من الحدث‏.‏

-فنقول‏:‏ إنه اتفق المسلمون على أن الطهارة الشرعية طهارتان‏:‏ طهارة من الحدث، وطهارة من الخبث، واتفقوا على أن الطهارة من الحدث ثلاثة أصناف‏:‏ وضوء، وغسل، وبدل منهما وهو التيمم، وذلك لتضمن ذلك آية الوضوء الواردة في ذلك، فلنبدأ من ذلك بالقول في الوضوء، فنقول‏:‏

كتاب الوضوء‏.‏

-إن القول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر في خمسة أبواب‏:‏ الباب الأول في الدليل على وجوبها، وعلى من تجب ومتى تجب‏.‏ الثاني في معرفة أفعالها‏.‏ الثالث في معرفة ما به تفعل وهو الماء‏.‏ الرابع في معرفة نواقضها‏.‏ الخامس في معرفة الأشياء التي تفعل من أجلها‏.‏

الباب الأول‏.‏

-فأما الدليل على وجوبها فالكتاب والسنة والإجماع‏.‏ أما الكتاب فقوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق‏}‏ الآية‏.‏ فإنه اتفق المسلمون على أن امتثال هذا الخطاب واجب على كل من لزمته الصلاة إذا دخل وقتها‏.‏ وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول‏"‏ وقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ‏"‏ وهذان الحديثان ثابتان عند أئمة النقل‏.‏ وأما الإجماع، فإنه لم ينقل عن أحد من المسلمين في ذلك خلاف، ولو كان هناك خلاف لنقل، إذ العادات تقتضي ذلك‏.‏ وأما من تجب عليه فهو البالغ العاقل، وذلك أيضا ثابت بالسنة والإجماع‏.‏ أما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏رفع القلم عن ثلاث، فذكر‏:‏ الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق‏"‏ وأما الإجماع، فإنه لم ينقل في ذلك خلاف، واختلف الفقهاء هل من شرط وجوبها الإسلام أم لا‏؟‏ وهي مسألة قليلة الغناء في الفقه، لأنها راجعة إلى الحكم الأخروي‏.‏ وأما متى تجب فإذا دخل وقت الصلاة، أو أراد الإنسان الفعل الذي الوضوء شرط فيه، وإن لم يكن ذلك متعلقا بوقت، أما وجوبه عند دخول وقت الصلاة على المحدث فلا خلاف فيه لقوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ الآية، فأوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة، ومن شروط الصلاة دخول الوقت، وأما دليل وجوبه عند إرادة الأفعال التي هو شرط فيها فسيأتي ذلك عند ذكر الأشياء التي يفعل الوضوء من أجلها واختلاف الناس في ذلك‏.‏

الباب الثاني‏.‏

-وأما معرفة فعل الوضوء فالأصل فيه ما ورد من صفته في قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين‏}‏ ‏.‏ وما ورد من ذلك أيضا في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في الآثار الثابتة، ويتعلق بذلك مسائل اثنتا عشرة مشهورة تجري مجرى الأمهات، وهي راجعة إلى معرفة الشروط والأركان وصفة الأفعال وأعدادها وتعيينها وتحديد محال أنواع أحكام جميع ذلك‏.‏

-‏(‏المسألة الأولى من الشروط‏)‏‏:

اختلف علماء الأمصار هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات لقوله تعالى ‏{‏وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين‏}‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إنما الأعمال بالنيات‏"‏ الحديث المشهور‏.‏ فذهب فريق منهم إلى أنها شرط، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وأبي ثور وداود‏.‏ وذهب فريق آخر إلى أنها ليست بشرط، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري‏.‏ وسبب اختلافهم تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة‏:‏ أعني غير معقولة المعنى، وإنما يقصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين، ولذلك وقع الخلاف فيه، وذلك أنه يجمع عبادة ونظافة، والفقه أن ينظر بأيهما هو أقوى شبها فيلحق به‏.‏

-‏(‏المسألة الثانية من الأحكام‏)‏‏:‏

اختلف الفقهاء في غسل اليد قبل إدخالها في إناء الوضوء، فذهب قوم إلى أنه من سنن الوضوء بإطلاق، وإن تيقن طهارة اليد، وهو مشهور مذهب مالك والشافعي‏.‏ وقيل إنه مستحب للشاك في طهارة يده؛ وهو أيضا مروي عن مالك‏.‏ وقيل إن غسل اليد واجب على المنتبه من النوم، وبه قال داود وأصحابه‏.‏ وفرق قوم بين نوم الليل ونوم النهار، فأوجبوا ذلك في نوم الليل ولم يوجبوه في نوم النهار، وبه قال أحمد، فتحصل في ذلك أربعة أقوال‏:‏ قول إنه سنة بإطلاق، وقوله إنه استحباب للشاك وقول إنه واجب على المنتبه من نوم وقول أنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون نوم النهار، والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في مفهوم الثابت من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده‏"‏ وفي بعض رواياته ‏"‏فليغسلها ثلاثا‏"‏ فمن لم ير بين الزيادة الواردة في هذا الحديث على ما في آية الوضوء معارضة، وبين آية الوضوء حمل لفظ الأمر ههنا على ظاهره من الوجوب، وجعل ذلك فرضا من فروض الوضوء، ومن فهم من هؤلاء من لفظ البيات نوم الليل أوجب ذلك من نوم الليل فقط، ومن لم يفهم منه ذلك وإنما فهم منه النوم فقط أوجب ذلك على كل مستيقظ من النوم نهارا أو ليلا، ومن رأى أن بين هذه الزيادة والآية تعارضا إذ كان ظاهر الآية المقصود منه حصر فروض الوضوء كان وجه الجمع بينهما عنده أن يخرج لفظ الأمر عن ظاهره الذي هو الوجوب إلى الندب، ومن تأكد عنده هذا الندب لمثابرته عليه الصلاة والسلام على ذلك قال إنه من جنس السنن، ومن لم يتأكد عنده هذا الندب قال إن ذلك من جنس المندوب المستحب، وهؤلاء غسل اليد عندهم بهذه الحال إذا تيقنت طهارتها‏:‏ أعني من يقول إن ذلك سنة، من يقول إنه ندب، ومن لم يفهم من هؤلاء من هذا الحديث علة توجب عنده أن يكون من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده مندوبا للمستيقظ من النوم فقط، ومن فهم منه علة الشك وجعله من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده للشاك، لأنه في معنى النائم، والظاهر من هذا الحديث أنه لم يقصد به حكم اليد في الوضوء، وإنما قصد به حكم الماء الذي يتوضأ به، إذا كان الماء مشترطا فيه الطهارة وأما من نقل من غسله صلى الله عليه وسلم يديه قبل إدخالهما في الإناء في أكثر أحيانه، فيحتمل أن يكون من حكم اليد على أن يكون غسلها في الابتداء من أفعال الوضوء، ويحتمل أن يكون من حكم الماء، أعني أن لا ينجس أو يقع فيه شك إن قلنا إن الشك مؤثر‏.‏

-‏(‏المسألة الثالثة من الأركان‏)‏‏:‏

اختلفوا في المضمضة والاستنشاق في الوضوء على ثلاثة أقوال‏:‏ قول إنهما سنتان في الوضوء، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، وقول إنهما فرض فيه، وبه قال ابن أبي ليلى وجماعة من أصحاب داود، وقول إن الاستنشاق فرض والمضمضة سنة، وبه قال أبو ثور وأبو عبيدة وجماعة من أهل الظاهر، وسبب اختلافهم في كونها فرضا أو سنة اختلافهم في السنن الواردة في ذلك، هل هي زيادة تقتضي معارضة آية الوضوء أو لا تقتضي ذلك؛ فمن رأى أن هذه الزيادة إن حملت على الوجوب اقتضت معارضة الآية، إذ المقصود من الآية تأصيل هذا الحكم وتبيينه أخرجها من باب الوجوب إلى باب الندب، ومن لم ير أنها تقتضي معارضة حملها على الظاهر من الوجوب ومن استوت عنده هذه الأقوال والأفعال في حملها على الوجوب لم يفرق بين المضمضة والاستنشاق، ومن كان عنده القول محمولا على الوجوب والفعل محولا على الندب فرق بين المضمضة والاستنشاق، وذلك أن المضمضة نقلت من فعله عليه الصلاة والسلام ولم تنقل من أمره وأما الاستنشاق فمن أمره عليه الصلاة والسلام وفعله، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر‏"‏ خرجه مالك في موطئه، والبخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة‏.‏

-‏(‏المسألة الرابعة من تحديد المحال‏)‏‏:‏

اتفق العلماء على أن غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء لقوله تعالى ‏{‏فاغسلوا وجوهكم‏}‏ واختلفوا منه في ثلاثة مواضع‏:‏ في غسل البياض الذي بين العذار والأذن، وفي غسل ما انسدل من اللحية، وفي تخليل اللحية، فالمشهور من مذهب مالك أنه ليس البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه، وقد قيل في المذهب بالفرق بين الأمرد والملتحي فيكون في المذهب في ذلك ثلاثة أقوال‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ هو من الوجه‏.‏ وأما ما انسدل من اللحية، فذهب مالك إلى وجوب إمرار الماء عليه، ولم يوجبه أبو حنيفة ولا الشافعي في أحد قوليه؛ وسبب اختلافهم في هاتين المسئلتين هو خفاء تناول اسم الوجه لهذين الموضعين، أعني هل يتناولهما أو لا يتناولهما وأما تخليل اللحية فمذهب مالك أنه ليس واجبا، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الوضوء، وأوجبه ابن عبد الحكم من أصحاب مالك؛ وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الآثار التي ورد فيها الأمر بتخليل اللحية والأكثر على أنها غير صحيحة مع أن الآثار الصحاح التي ورد فيها صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام ليس في شيء منها التخليل‏.‏

-‏(‏المسألة الخامسة من التحديد‏)‏‏:‏

اتفق العلماء على أن غسل اليدين والذراعين من فروض الوضوء لقوله تعالى ‏{‏وأيديكم إلى المرافق‏}‏ واختلفوا في إدخال المرافق فيها؛ فذهب الجمهور ومالك والشافعي وأبو حنيفة إلى وجوب إدخالها، وذهب بعض أهل الظاهر وبعض متأخري أصحاب مالك والطبري إلى أنه لا يجب إدخالها في الغسل؛ والسبب في اختلافهم في ذلك الاشتراك الذي في حرف إلى، وفي اسم اليد في كلام العرب وذلك أن حرف إلى مرة يدل في كلام العرب على الغاية، ومرة يكون بمعنى مع، واليد أيضا في كلام العرب تطلق على ثلاثة معان على الكف فقط، وعلى الكف والذراع، وعلى الكف والذراع والعضد، فمن جعل ‏"‏إلى‏"‏ بمعنى مع ‏(‏هنا في نسخة فاس بمعنى من‏)‏، أو فهم من اليد مجموع الثلاثة الأعضاء أوجب دخولها في الغسل ‏(‏فيها هنا زيادة لأن إلى عنده تكون بمعنى من ومبدأ الشيء من الشيء‏)‏، ومن فهم من ‏"‏إلى‏"‏ الغاية ومن اليد ما دون المرفق ولم يكن الحد عنده داخلا في المحدود لم يدخلهما في الغسل، وخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم اليسرى كذلك، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل اليسرى كذلك، ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ‏.‏ وهو حجة لقول من أوجب إدخالها في الغسل، لأنه إذا تردد اللفظ بين المعنيين على السواء وجب أن لا يصار إلى أحد المعنيين إلا بدليل، وإن كانت ‏"‏إلى‏"‏ في كلام العرب أظهر في معنى الغاية منها في معنى مع، وكذلك اسم اليد أظهر فيما دون العضد منه فيما فوق العضد، فقول من لم يدخلها من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة هذا الأثر أبين، إلا أن يحمل هذا الأثر على الندب، والمسألة محتملة كما ترى، وقد قال قوم‏:‏ إن الغاية إذا كانت من جنس ذي الغاية دخلت فيه، وإن لم تكن من جنسه لم تدخل فيه‏.‏

-‏(‏المسألة السادسة من التحديد‏)‏‏:‏

اتفق العلماء على أن مسح الرأس من فروض الوضوء، واختلفوا في القدر المجزئ منه‏.‏ فذهب مالك إلى أن الواجب مسحه كله، وذهب الشافعي وبعض أصحاب مالك وأبو حنيفة إلى أن مسح بعضه هو الفرض، ومن أصحاب مالك من حد هذا البعض بالثلث، ومنهم من حده بالثلثين، وأما أبو حنيفة فحده بالربع، وحد مع هذا القدر من اليد الذي يكون به المسح، فقال‏:‏ إن مسحه بأقل من ثلاثة أصابع لم يجزه‏.‏ وأما الشافعي فلم يحد في الماسح ولا في الممسوح حدا‏.‏ وأصل هذا الاختلاف في الاشتراك الذي في الباء في كلام العرب، وذلك أنها مرة تكون زائدة مثل قوله تعالى ‏{‏تنبت بالدهن‏}‏ على قراءة من قرأ تنبت بضم التاء وكسر الباء من أنبت، ومرة تدل على التبعيض مثل قول القائل‏:‏ أخذت بثوبه وبعضده، ولا معنى لإنكار هذا في كلام العرب، أعني كون الباء مبعضة، وهو قول الكوفيين من النحويين، فمن رآها زائدة أوجب مسح الرأس كله؛ ومعنى الزائدة ههنا كونها مؤكدة، ومن رآها مبعضة أوجب مسح بعضه، وقد احتج من رجح هذا المفهوم بحديث المغيرة ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة‏"‏ خرجه مسلم‏.‏ وإن سلمنا أن الباء زائدة بقي ههنا أيضا احتمال آخر، وهو هل الواجب الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها‏.‏

-‏(‏المسألة السابعة من الأعداد‏)‏‏:‏

اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ، وإن الاثنين والثلاث مندوب إليهما، لما صح ‏"‏أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وتوضأ مرتين مرتين وتوضأ ثلاثا ثلاثا‏"‏ ولأن الأمر ليس يقتضي إلا الفعل مرة مرة، أعني الأمر الوارد في الغسل في آية الوضوء، واختلفوا في تكرير مسح الرأس هل هو فضيلة أم ليس في تكريره فضيلة‏.‏ فذهب الشافعي إلى أنه من توضأ ثلاثا ثلاثا يمسح رأسه أيضا ثلاثا، وأكثر الفقهاء يرون أن المسح لا فضيلة في تكريره؛ وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في قبول الزيادة الواردة في الحديث الواحد إذا أتت من طريق واحد ولم يرها الأكثر، وذلك أن أكثر الأحاديث التي روي فيها أنه توضأ ثلاثا ثلاثا من حديث عثمان وغيره لم ينقل فيها إلا أنه مسح واحدة فقط‏.‏ في بعض الروايات عن عثمان في صفة وضوئه أنه عليه الصلاة والسلام مسح برأسه ثلاثا، وعضد الشافعي وجوب قبول هذه الزيادة بظاهر عموم ما روي أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا، وذلك أن المفهوم من عموم هذا اللفظ وإن كان من لفظ الصحابي هو حمله على سائر أعضاء الوضوء، إلا أن هذه الزيادة ليست في الصحيحين، فإن صحت يجب المصير إليها، لأن من سكت عن شيء ليس هو بحجة على من ذكره‏.‏ وأكثر العلماء أوجب تجديد الماء لمسح الرأس قياسا على سائر الأعضاء‏.‏ وروى عن ابن الماجشون أنه قال‏:‏ إذا نفذ الماء مسح رأسه ببلل لحيته، وهو اختيار ابن حبيب ومالك والشافعي‏.‏

ويستحب في صفة المسح أن يبدأ بمقدم رأسه فيمر يديه إلى قفاه ثم يردهما إلى حيث بدأ على ما في حديث عبد الله بن زيد الثابت‏.‏ وبعض العلماء يختار أن يبدأ من مؤخر الرأس، وذلك أيضا مروي من صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام من حديث الربيع بنت معوذ، إلا أنه لم يثبت في الصحيحين‏.‏

-‏(‏المسألة الثامنة من تعيين المحال‏)‏‏:‏

اختلف العلماء في المسح على العمامة، فأجاز ذلك أحمد بن حنبل وأبو ثور والقاسم بن سلام وجماعة، ومنع من ذلك جماعة منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة، وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في وجوب العمل بالأثر الوارد في ذلك من حديث المغيرة وغيره ‏"‏أنه عليه الصلاة والسلام مسح بناصيته وعلى العمامة‏"‏ وقياسا على الخف، ولذلك اشترط أكثرهم لبسهما على طهارة، وهذا الحديث إنما رده من رده، إما لأنه لم يصح عنده، وإما لأن ظاهر الكتاب عارضه عنده، أعني الأمر فيه بمسح الرأس، وإما لأنه لم يشتهر العمل به عند من يشترط اشتهار العمل فيما نقل من طريق الآحاد وبخاصة في المدينة على المعلوم من مذهب مالك أنه يرى اشتهار العمل، وهو حديث خرجه مسلم، وقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث معلول، وفي بعض طرقه أنه مسح على العمامة ولم يذكر الناصية، ولذلك لم يشترط بعض العلماء في المسح على العمامة المسح على الناصية، إذ لا يجتمع الأصل والبدل في فعل واحد‏.‏

-‏(‏المسألة التاسعة من الأركان‏)‏‏:‏

اختلفوا في مسح الأذنين هل هو سنة أو فريضة، وهل يجدد لهما الماء أم لا‏؟‏ فذهب بعض الناس إلى أنه فريضة، وأنه يجدد لهما الماء وممن قال بهذا القول جماعة من أصحاب مالك ويتأولون مع هذا أنه مذهب مالك لقوله فيهما إنهما من الرأس‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه مسحهما فرض كذلك ‏(‏انظر هذا، فإن المقرر في مذهب أبي حنفية أن مسحهما سنة لا فرض‏)‏ إلا أنهما يمسحان مع الرأس بماء واحد‏.‏ وقال الشافعي مسحهما سنة ويجدد لهما الماء‏.‏ وقال بهذا القوم جماعة أيضا من أصحاب مالك؛ ويتأولون أيضا أنه قوله لما روي عنه أنه قال حكم مسحهما حكم المضصمضة؛ وأصل اختلافهم في كون مسحهما سنة أو فرضا اختلافهم في الآثار الواردة بذلك، أعني مسحه عليه الصلاة والسلام أذنيه هل هي زيادة على ما في الكتاب من مسح الرأس فيكون حكمهما أن يحمل على الندب لمكان التعارض الذي يتخيل بينها وبين الآية إن حملت على الوجوب، أم هي مبينة لمجمل الذي في الكتاب فيكون حكمهما حكم الرأس في الوجوب، فمن أوجبهما جعلها مبينة لمجمل الكتاب، ومن لم يوجبهما جعلها زائدة كالمضمضة، والآثار الواردة بذلك كثيرة، وإن كانت لم تثبت في الصحيحين فهي قد اشتهر العمل بها‏.‏ وأما اختلافهم في تجديد الماء لهما فسببه تردد الأذنين بين أن يكونا عضوا مفردا بذاته من أعضاء الوضوء، أو يكونا جزءا من الرأس‏.‏ وقد شذ قوم فذهبوا إلى أنهما يغسلان مع الوجه، وذهب آخرون إلى أنه يمسح باطنهما مع الرأس ويغسل ظاهرهما مع الوجه، وذلك لتردد هذا العضو بين أن يكون جزءا من الوجه أو جزءا من الرأس، وهذا لا معنى له مع اشتهار الآثار في ذلك بالمسح واشتهار العمل به‏.‏ والشافعي يستحب فيهما التكرار كما يستحبه في مسح الرأس‏.‏

-‏(‏المسألة العاشرة من الصفات‏)‏‏:

اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء، واختلفوا في نوع طهارتهما، فقال قوم‏:‏ طهارتهما الغسل، وهم الجمهور، وقال قوم‏:‏ فرضهما المسح، وقال قوم‏:‏ بل طهارتهما تجوز بالنوعين‏:‏ الغسل والمسح، وإن ذلك راجع إلى اختيار المكلف، وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء‏:‏ أعني قراءة من قرأ، وأرجلكم بالنصب عطفا على المغسول، وقراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض عطفا على الممسوح، وذلك أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح كظهور تلك في الغسل، فمن ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين إما الغسل وإما المسح ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية، وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده؛ ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها على السواء، وأنه ليست إحداهما على ظاهرها أدل من الثانية على ظاهرها أيضا جعل ذلك من الواجب المخير ككفارة اليمين وغير ذلك، وبه قال الطبري وداود‏.‏ وللجمهور تأويلات في قراءة الخفض، أجودها أن ذلك عطف على اللفظ لا على المعنى، إذ كان ذلك موجودا في كلام العرب مثل قول الشاعر‏:‏

لعب الزمان بها وغيرها * بعدي سوا في المحور والقطر‏.‏

بالخفض، ولو عطف على المعنى لرفع القطر‏.‏

وأما الفريق الثاني، وهم الذين أوجبوا المسح، فإنهم تأولوا قراءة النصب على أنها عطف على الموضع كما قال الشاعر‏:‏ فلسنا بالجبال ولا الحديدا‏.‏

وقد رجح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه عليه الصلاة والسلام إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء ‏"‏ويل للأعقاب من النار‏"‏ قال فهذا يدل على أن الغسل هو الفرض، لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب، وهذا ليس فيه حجة، لأنه إنما وقع الوعيد على أنهم تركوا أعقابهم دون غسل، ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم كما أن من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين، وقد يدل هذا على ما جاء في أثر آخر خرجه أيضا مسلم أنه قال‏:‏ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى ‏"‏ويل للأعقاب من النار‏"‏ وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدل على جوازه منه على منعه، لأن الوعيد إنما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة، بل سكت عن نوعها، وذلك دليل على جوازها، وجواز المسح هو أيضا مروي عن بعض الصحابة والتابعين، ولكن من طريق المعنى، فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل، إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالبا إلا بالغسل، وينقى دنس الرأس بالمسح وذلك أيضا غالب، والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيهما معنيين‏:‏ معنى مصلحيا، ومعنى عباديا، وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما رجع ‏"‏إلى‏"‏ زكاة النفس‏.‏ وكذلك اختلفوا في الكعبين هل يدخلان في المسح أو في الغسل عند من أجاز المسح‏؟‏ وأصل اختلافهم الاشتراك الذي في حرف إلى أعني في قوله تعالى ‏{‏وأرجلكم إلى الكعبين‏}‏ وقد تقدم القول في اشتراك هذا الحرف في قوله تعالى ‏{‏إلى المرافق‏}‏ لكن الاشتراك وقع هنالك من جهتين من اشتراك اسم اليد، ومن اشتراك حرف إلى وهنا من قبل اشتراك حرف إلى فقط‏.‏ وقد اختلفوا في الكعب ما هو، وذلك لاشتراك اسم الكعب واختلاف أهل اللغة في دلالته، فقيل هما العظمان اللذان عند معقد الشراك وقيل هما العظمان الناتئان في طرف الساق، ولا خلاف فيما أحسب في دخولهما في الغسل عند من يرى أنهما عند معقد الشراك إذا كانا جزءا من القدم، لذلك قال قوم‏:‏ إنه إذا كان الحد من جنس المحدود دخلت الغاية فيه‏:‏ أعني الشيء الذي يدل عليه حرف إلى، إذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه مثل قوله تعالى ‏{‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ ‏.‏

-‏(‏المسألة الحادية عشرة من الشروط‏)‏‏:‏

اختلفوا في وجود ترتيب أفعال الوضوء على نسق الآية‏.‏ فقال قوم‏:‏ هو سنة، وهو الذي حكاه المتأخرون من أصحاب مالك عن المذهب، وبه قال أبو حنيفة والثوري وداود‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو فريضة، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد، وهذا كله في ترتيب المفروض مع المفروض، وأما ترتيب الأفعال المفروضة مع الأفعال المسنونة فهو عند مالك مستحب؛ وقال أبو حنيفة هو سنة؛ وسبب اختلافهم شيئان‏:‏ أحدهما الاشتراك الذي في واو العطف، وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المترتبة بعضها على بعض، وقد يعطف بها غير المرتبة، وذلك ظاهر من استقراء كلام العرب، ولذلك انقسم النحويون فيها قسمين، فقال نحاة البصرة‏:‏ ليس تقتضي نسقا ولا ترتيبا، وإنما تقتضي الجمع فقط، وقال الكوفيون‏:‏ بل تقتضي النسق والترتيب؛ فمن رأى أن الواو في آية الوضوء تقتضي الترتيب قال بإيجاب الترتيب، ومن رأى أنها لا تقتضي الترتيب لم يقل بإيجابه‏.‏ والسبب الثاني اختلافهم في أفعاله عليه الصلاة والسلام، هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب‏؟‏ فمن حملها على الوجوب قال بوجوب الترتيب، لأنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ قط إلا مرتبا، ومن حملها على الندب قال إن الترتيب سنة، ومن فرق بين المسنون والمفروض من الأفعال قال‏:‏ إن الترتيب الواجب إنما ينبغي أن يكون في الأفعال الواجبة، ومن لم يفرق قال‏:‏ إن الشروط الواجبة قد تكون في الأفعال التي ليست واجبة‏.‏

-‏(‏المسألة الثانية عشرة من الشروط‏)‏‏:‏

اختلفوا في الموالاة في أفعال الوضوء، فذهب مالك إلى أن الموالاة فرض مع الذكر ومع القدرة ساقطة مع النسيان ومع الذكر عند العذر ما لم يتفاحش التفاوت‏.‏ وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن الموالاة ليست من واجبات الوضوء، والسبب في ذلك الاشتراك الذي في الواو أيضا، وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المتتابعة المتلاحقة بعضها على بعض، وقد يعطف بها الأشياء المتراخية بعضها عن بعض‏.‏ وقد احتج قوم لسقوط الموالاة بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يتوضأ في أول طهوره ويؤخر غسل رجليه إلى آخر الطهر، وقد يدخل الخلاف في هذه المسألة أيضا في الاختلاف في حمل الأفعال على الوجوب أو على الندب، وإنما فرق مالك بين العمد والنسيان، لأن الناسي الأصل فيه في الشرع أنه معفو عنه إلى أن يقوم الدليل على غير ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏رفع عن أمتي الخطأ والنسيان‏"‏ وكذلك العذر يظهر من أمر الشرع أن له تأثيرا في التخفيف، وقد ذهب قوم إلى أن التسمية من فروض الوضوء واحتجوا لذلك بالحديث المرفوع، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا وضوء لمن لم يسم الله‏"‏ وهذا الحديث لم يصح عند أهل النقل، وقد حمله بعضهم على أن المراد به النية، وبعضهم حمله على الندب فيما أحسب، فهذه مشهورات المسائل التي تجري من هذا الباب مجرى الأصول، وهي كما قلنا متعلقة إما بصفات أفعال هذه الطهارة، وإما بتحديد مواضعها، وإما بتعريف شروطها وأركانها وسائر ما ذكر، ومما يتعلق بهذا الباب مسح الخفين إذ كان من أفعال الوضوء‏.‏

‏(‏والكلام المحيط بأصوله يتعلق بالنظر في سبع مسائل‏)‏ بالنظر في جوازه، وفي تحديد محله، وفي تعيين محله، وفي صفته‏:‏ أعني صفة المحل، وفي توقيته، وفي شروطه، وفي نواقضه‏:‏

-‏(‏المسألة الأولى‏)‏‏:‏ فأما الجواز، ففيه ثلاثة أقوال‏:‏ القول المشهور أنه جائز على الإطلاق، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار‏.‏ والقول الثاني جوازه في السفر دون الحضر‏.‏ والقول الثالث منع جوازه بإطلاق وهو أشدها‏.‏ والأقاويل الثلاثة مروية عن الصدر الأول وعن مالك، والسبب في اختلافهم ما يظن من معارضة آية الوضوء الوارد فيها الأمر بغسل الأرجل للآثار التي وردت في المسح مع تأخير آية الوضوء، وهذا الخلاف كان بين الصحابة في الصدر الأول، فكان منهم من يرى أن آية الوضوء ناسخة لتلك الآثار، وهو مذهب ابن عباس، واحتج القائلون بجوازه بما رواه مسلم أنه كان يعجبهم حديث جرير، وذلك أنه روى ‏"‏أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على الخفين، فقيل له إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، فقال‏:‏ ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة‏"‏ وقال المتأخرون القائلون بجوزاه‏:‏ ليس بين الآية والآثار تعارض، لأن الأمر بالغسل إنما هو متوجه إلى من لا خف له، والرخصة إنما هي للابس الخف، وقيل إن تأويل قراءة الأرجل بالخفض هو المسح على الخفين، وأما من فرق بين السفر والحضر فلأن أكثر الآثار الصحاح الواردة في مسحه عليه الصلاة والسلام إنما كانت في السفر، مع أن السفر مشعر بالرخصة والتخفيف، والمسح على الخفين هو من باب التخفيف، فإن نزعه مما يشق على المسافر‏.‏

-‏(‏المسألة الثانية‏)‏‏:‏ وأما تحديد المحل فاختلف فيه أيضا فقهاء الأمصار، فقال قوم‏:‏ إن الواجب من ذلك مسح أعلى الخف، وإن مسح الباطن أعني أسفل الخف مستحب، ومالك أحد من رأى هذا والشافعي، ومنهم من أوجب مسح ظهورهما وبطونهما، وهو مذهب ابن نافع من أصحاب مالك، ومنهم من أوجب مسح الظهور فقط ولم يستحب مسح البطون، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وسفيان وجماعة، وشذ أشهب فقال‏:‏ إن الواجب مسح الباطن، أو الأعلى أيهما مسح ‏(‏نسخة فاس‏:‏ والأعلى مستحب‏)‏؛ وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك وتشبيه المسح بالغسل، وذلك أن في ذلك أثرين متعارضين‏:‏ أحدهما حديث المغيرة بن شعبة وفيه ‏"‏أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخف وباطنه‏"‏ والآخر حديث علي ‏"‏لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه‏"‏ وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه، فمن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين حمل حديث المغيرة على الاستحباب، وحديث علي على الوجوب، وهي طريقة حسنة‏.‏ ومن ذهب مذهب الترجيح أخذ إما بحديث علي، وإما بحديث المغيرة، فمن رجح حديث المغيرة على حديث علي رجحه من قبل القياس، أعني قياس المسح على الغسل، ومن رجح حديث علي رجحه من قبل مخالفته للقياس أو من جهة السند، والأسعد في هذه المسألة هو مالك‏.‏ وأما من أجاز الاقتصار على مسح الباطن فقط فلا أعلم له حجة، لأنه لا هذا الأثر اتبع، ولا هذا القياس استعمل، أعني قياس المسح على الغسل‏.‏

-‏(‏المسألة الثالثة‏)‏‏:‏ وأما نوع محل المسح فإن الفقهاء القائلين بالمسح اتفقوا على جواز المسح على الخفين، واختلفوا في المسح على الجوربين، فأجاز ذلك قوم ومنعه قوم، وممن منع ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة، وممن أجاز ذلك أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري‏.‏ وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الآثار الواردة عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح على الجوربين والنعلين‏.‏ واختلافهم أيضا في هل يقاس على الخف غيره أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها، فمن لم يصح عنده الحديث أو لم يبلغه، ولم ير القياس على الخف قصر المسح عليه، ومن صح عنده الأثر، أو جوز القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين، وهذا الأثر لم يخرجه الشيخان أعني البخاري ومسلما وصححه الترمذي، ولتردد الجوربين المجلدين بين الخف والجورب غير المجلد عن مالك في المسح عليهما روايتان‏:‏ إحداهما بالمنع والأخرى بالجواز‏.‏

-‏(‏المسألة الرابعة‏)‏‏:‏ وأما صفة الخف، فإنهم اتفقوا على جواز المسح على الخف الصحيح، واختلفوا في المخرق، فقال مالك وأصحابه‏:‏ يمسح عليه إذا كان الخرق يسيرا، وحدد أبو حنيفة بما يكون الظاهر منه أقل من ثلاثة أصابع‏.‏ وقال قوم بجواز المسح على الخف المنخرق ما دام يسمى خفا وإن تفاحش خرقه، وممن روى عنه ذلك الثوري، ومنع الشافعي أن يكون في مقدم الخف خرق يظهر منه القدم ولو كان يسيرا في أحد القولين عنه وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في انتقال الفرض من الغسل إلى المسح هل هو لموضع الستر أعني ستر خف القدمين، أم هو لموضع المشقة في نوع الخفين‏؟‏ فمن رآه لموضع الستر لم يجز المسح على الخف المنخرق، لأنه إذا انكشف من القدم شيء انتقل فرضهما من المسح إلى الغسل، ومن رأى أن العلة في ذلك المشقة لم يعتبر الخرق ما دام يسمى خفا‏.‏ وأما التفريق بين الخرق الكثير واليسير فاستحسان ورفع للحرج‏.‏ وقال الثوري‏:‏ كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخروق كخفاف الناس، فلو كان في ذلك حظر لورد ونقل عنهم‏.‏ قلت‏:‏ هذه المسألة هي مسكوت عنها، فلو كان فيها حكم مع عموم الابتلاء به لبينه صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى ‏{‏لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ ‏.‏

-‏(‏المسألة الخامسة‏)‏‏:‏ وأما التوقيت فإن الفقهاء أيضا اختلفوا فيه، فرأى مالك أن ذلك غير مؤقت، وأن لابس الخفين يمسح عليهما ما لم ينزعهما أو تصيبه جنابة؛ وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن ذلك مؤقت‏.‏ والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك ثلاثة أحاديث‏:‏ أحدها حديث علي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم‏"‏ خرجه مسلم‏.‏ والثاني حديث أبي بن عمارة ‏"‏أنه قال يارسول الله أأمسح على الخف‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ يوما‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ويومين‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ وثلاثة‏؟‏ قال نعم حتى بلغ سبعا، ثم قال‏:‏ امسح ما بدا لك‏"‏ خرجه أبو داود والطحاوي‏.‏ والثالث حديث صفوان بن عسال قال‏:‏ كنا في سفر فأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من بول أو نوم أو غائط ‏(‏هكذا رواية الترمذي ورواية النسائي ‏"‏ثلاثة أيام بلياليهن‏"‏ من غائط وبول ونوم إلا من جنابة‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ أما حديث علي فصحيح خرجه مسلم‏.‏ وأما حديث أبي بن عمارة فقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث لا يثبت وليس له إسناد قائم، ولذلك ليس ينبغي أن يعارض به حديث علي‏.‏ وأما حديث صفوان بن عسال فهو وإن كان لم يخرجه البخاري ولا مسلم فإنه قد صححه قوم من أهل العلم بحديث الترمذي وأبو محمد بن حزم، وهو بظاهره معارض بدليل الخطاب لحديث أبي كحديث علي، وقد يحتمل أن يجمع بينهما بأن يقال‏:‏ إن حديث صفوان وحديث علي خرجا مخرجا السؤال عن التوقيت، وحديث أبي بن عمارة نص في ترك التوقيت، لكن حديث أبي لم يثبت بعد، فعلى هذا يجب العمل بحديثي علي وصفوان، وهو الأظهر إلا أن دليل الخطاب فيهما يعارضه القياس، وهو كون التوقيت غير مؤثر في نقض الطهارة، لأن النواقض هي الأحداث‏.‏

-‏(‏المسألة السادسة‏)‏‏:‏ وأما شرط المسح على الخفين، فهو أن تكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء، وذلك شيء مجمع عليه إلا خلافا شاذا‏.‏ وقد روي عن ابن القاسم عن مالك ذكره ابن لبابة في المنتخب، وإنما قال به الأكثر لثبوته في حديث المغيرة وغيره إذا أراد أن ينزع الخف عنه، فقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتان‏"‏ والمخالف حمل هذه الطهارة على الطهارة اللغوية، واختلف الفقهاء من هذا الباب فيمن غسل رجليه ولبس خفيه ثم أتم وضوءه هل يمسح عليهما‏؟‏ فمن لم ير أن الترتيب واجب ورأى أن الطهارة تصح لكل عضو قبل أن تكمل الطهارة لجميع الأعضاء قال بجواز ذلك، ومن رأى أن الترتيب واجب وأنه لا تصح طهارة العضو إلا بعد طهارة جميع أعضاء الطهارة لم يجز ذلك، وبالقول الأول قال أبو حنيفة، وبالقول الثاني قال الشافعي ومالك، إلا أن مالكا لم يمنع ذلك من جهة الترتيب، وإنما منعه من جهة أنه يرى أن الطهارة لا توجد للعضو إلا بعد كمال جميع الطهارة، وقد قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏وهما طاهرتان‏"‏ فأخبر عن الطهارة الشرعية‏.‏ وفي بعض روايات المغيرة ‏"‏إذا أدخلت رجليك في الخف وهما طاهرتان فامسح عليهما‏"‏ وعلى هذه الأصول يتفرع الجواب فيمن لبس أحد خفيه بعد أن غسل إحدى رجليه وقبل أن يغسل الأخرى؛ فقال مالك‏:‏ لا يمسح على الخفين لأنه لابس للخف قبل تمام الطهارة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏ وقال أبو حنيفة والثوري والمزي والطبري وداود‏:‏ يجوز له المسح، وبه قال جماعة من أصحاب مالك منهم مطرف وغيره، وكلهم أجمعوا أنه لو نزع الخف الأول بعد غسل الرجل الثانية ثم لبسها جاز له المسح، وهل من شرط المسح على الخف أن لا يكون على خف آخر عن مالك فيه قولان‏.‏ وسبب الخلاف هل كما تنتقل طهارة القدم إلى الخف إذا ستره الخف، كذلك تنتقل طهارة الخف الأسفل الواجبة إلى الخف الأعلى‏؟‏ فمن شبه النقلة الثانية بالأولى أجاز المسح على الخف الأعلى، ومن لم يشبهها بها وظهر له الفرق لم يجز ذلك‏.‏

-‏(‏المسألة السابعة‏)‏‏:‏ فأما نواقض هذه الطهارة، فإنهم أجمعوا على أنها نواقض الوضوء بعينها، واختلفوا هل نزع الخف ناقض لهذه الطهارة أم لا‏؟‏ فقال قوم‏:‏ إن نزعه وغسل قدميه فطهارته باقية، وإن لم يغسلهما وصلى أعاد الصلاة بعد غسل قدميه، وممن قال بذلك مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة، إلا أن مالكا رأى أنه إن أخر ذلك استأنف الوضوء على رأيه في وجوب المولاة على الشرط الذي تقدم‏.‏ وقال قوم‏:‏ طهارته باقية حتى يحدث حدثا ينقض الوضوء وليس عليه غسل، وممن قال بهذا القول داود وابن أبي ليلى‏.‏ وقال الحسن بن حي‏:‏ إذا نزع خفيه فقد بطلت طهارته، وبكل واحد من هذه الأقوال الثلاثة قالت طائفة من فقهاء التابعين، وهذه المسألة هي مسكوت عنها‏.‏ وسبب اختلافهم هل المسح على الخفين هو أصل بذاته في الطهارة أو بدل من غسل القدمين عند غيبوبتهما في الخفين‏؟‏ فإن قلنا هو أصل بذاته فالطهارة باقية وإن نزع الخفين كمن قطعت رجلاه بعد غسلهما، وإن قلنا إنه بدل، فيحتمل أن يقال إذا نزع الخف بطلت الطهارة وإن كنا نشترط الفور، ويحتمل أن يقال إن غسلهما أجزأت الطهارة إذا لم يشترط الفور‏.‏ وأما اشتراط الفور من حين نزع الخف فضعيف، وإنما هو شيء يتخيل فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الباب‏.‏

الباب الثالث في المياه‏.‏

-والأصل في وجوب الطهارة بالمياه قوله تعالى ‏{‏وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به‏}‏ وقوله ‏{‏فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا‏}‏ وأجمع العلماء على أن جميع أنواع المياه طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها، إلا ماء البحر، فإن فيه خلافا في الصدر الأول شاذا، وهم محجوبون بتناول اسم الماء المطلق له، وبالأثر الذي خرجه مالك وهو قوله عليه الصلاة والسلام في البحر ‏"‏هو الطهور ماؤه الحل ميتته‏"‏ وهو وإن كان حديثا مختلفا في صحته، فظاهر الشرع يعضده، وكذلك أجمعوا على أن كل ما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالبا أنه لا يسلبه صفة الطهارة والتطهير إلا خلافا شاذا، روي في الماء الآجن عن ابن سيرين، وهو أيضا محجوج بتناول اسم الماء المطلق له، واتفقوا على أن الماء الذي غيرت النجاسة إما طعمه أو لونه أو ريحه أو أكثر من واحد من هذه الأوصاف أنه لا يجوز به الوضوء ولا الطهور‏.‏ واتفقوا على أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه وأنه طاهر، فهذا ما أجمعوا عليه من هذا الباب، واختلفوا من ذلك في ست مسائل تجري مجرى القواعد والأصول لهذا الباب‏.‏

-‏(‏المسألة الأولى‏)‏ اختلفوا في الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه، فقال قوم‏:‏ هو طاهر سواء كان كثيرا أو قليلا، وهي إحدى الروايات عن مالك، وبه قال أهل الظاهر، وقال قوم‏:‏ بالفرق بين القليل والكثير، فقالوا إن كان قليلا كان نجسا، وإن كان كثيرا لم يكن نجسا‏.‏ وهؤلاء اختلفوا في الحد بين القليل والكثير، فذهب أبو حنيفة إلى أن الحد في هذا هو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حركه آدمي من أحد طرفيه لم تسر الحركة إلى الطرف الثاني منه‏.‏ وذهب الشافعي إلى أن الحد في ذلك هو قلتان من هجر، وذلك نحو قلال من خمسمائة رطل، ومنهم من لم يجد في ذلك حدا، ولكن قال‏:‏ إن النجاسة تفسد قليل الماء وإن لم تغير أحد أوصافه، وهذا أيضا مروي عن مالك، وقد روي أيضا أن هذا الماء مكروه فيتحصل عن مالك في الماء اليسير تحله النجاسة اليسيرة ثلاثة أقوال‏:‏ قول إن النجاسة تفسده، وقول إنها لا تفسده إلا أن يتغير أحد أوصافه، وقول إنه مكروه‏.‏ وسبب اختلافهم في ذلك هو تعارض ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، وذلك أن حديث أبي هريرة المتقدم وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا استيقظ أحدكم من نومه‏"‏ الحديث، يفهم من ظاهره أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء، وكذلك أيضا حديث أبي هريرة الثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه‏"‏ فإنه يوهم بظاهره أيضا أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء‏.‏

وكذلك ما ورد من النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم‏.‏ وأما حديث أنس الثابت ‏"‏أن أعرابيا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ دعوه، فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب ماء فصب على بوله‏"‏ فظاهره أن قليل النجاسة لا يفسد قليل الماء، إذ معلوم أن ذلك الموضع قد طهر من ذلك الذنوب‏.‏ وحديث أبي سعيد الخدري كذلك أيضا خرجه أبو داود قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له ‏"‏إنه يتسقى من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذرة الناس، فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن الماء لا ينسجه شيء‏"‏ فرام العلماء الجمع بين هذه الأحاديث واختلفوا في طريق الجمع فاختلفت لذلك مذاهبهم؛ فمن ذهب إلى القول بظاهر حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد قال‏:‏ إن حديثي أبي هريرة غير معقولي المعنى، وامتثال ما تضمناه عبادة لا لأن ذلك الماء ينجس، حتى إن الظاهرية أفرطت في ذلك فقالت‏:‏ لو صب البول إنسان في ذلك الماء من قدح لما كره الغسل به والوضوء، فجمع بينهما على هذا الوجه من قال هذا القول، ومن كره الماء القليل تحله النجاسة اليسيرة جمع بين الأحاديث، فإنه حمل حديثي أبي هريرة على الكراهية، وحمل حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد على ظاهرهما، أعني على الإجزاء‏.‏ وأما الشافعي وأبو حنيفة، فجمعا بين حديثي أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري، بأن حملا حديثي أبي هريرة على الماء القليل، وحديث أبي سعيد على الماء الكثير‏.‏ وذهب الشافعي إلى أن الحد في ذلك الذي يجمع الأحاديث هو ما ورد في حديث عبد الله بن عمر عن أبيه، خرجه أبو داود والترمذي، وصححه أبو محمد بن حزم قال ‏"‏سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب‏؟‏ فقال‏:‏ إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا‏"‏ وأما أبو حنيفة فذهب إلى أن الحد في ذلك من جهة القياس، وذلك أنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة، فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر، لكن من ذهب هذين المذهبين فحديث الأعرابي المشهور معارض له ولا بد، فلذلك لجأت الشافعية إلى أن فرقت بين ورود الماء على النجاسة وورودها على الماء، فقالوا إن ورد عليها الماء كما في حديث الأعرابي لم ينجس، وإن وردت النجاسة على الماء كما في حديث أبي هريرة نجس‏.‏

وقال جمهور الفقهاء‏:‏ هذا تحكم، وله إذا تؤمل وجه من النظر، وذلك أنهم إنما صاروا إلى الإجماع على أن النجاسة اليسيرة لا تؤثر في الماء الكثير إذا كان الماء الكثير بحيث يتوهم أن النجاسة لا تسري في جميع أجزائه، وأنه يستحيل عينها عن الماء الكثير، وإذا كان ذلك كذلك، فلا يبعد أن قدرا ما من الماء لو حله قدر ما من النجاسة لسرت فيه ولكان نجسا، فإذا ورد ذلك الماء على النجاسة جزءا فجزءا فمعلوم أنه تفنى عين تلك النجاسة وتذهب قبل فناء ذلك الماء، وعلى هذا فيكون آخر جزء ورد من ذلك الماء قد طهر المحل لأن نسبته إلى ما ورد عليه مما بقي من النجاسة نسبة الماء الكثير إلى القليل من النجاسة، ولذلك كان العلم يقع في هذه الحال بذهاب عين النجاسة، أعني في وقوع الجزء الأخير الطاهر على آخر جزء يبقى من عين النجاسة، ولهذا أجمعوا على أن مقدار ما يتوضأ به يطهر قطرة البول الواقعة في الثوب أو البدن‏.‏

واختلفوا إذا وقعت القطرة من البول في ذلك القدر من الماء‏.‏ وأولى المذاهب عندي وأحسنها طريقة في الجمع، هو أن يحمل حديث أبي هريرة وما في معناه على الكراهية، وحديث أبي سعيد وأنس على الجواز، لأن هذا التأويل يبقى مفهوم الأحاديث على ظاهرها، أعني حديثي أبي هريرة من أن المقصود بها تأثير النجاسة في الماء؛ وحد الكراهية عندي هو ما تعافه النفس وترى أنه ماء خبيث، وذلك أن ما يعاف الإنسان شربه يجب أن يجتنب استعماله في القربة إلى الله تعالى، وأن يعاف وروده على ظاهر بدنه كما يعاف وروده على داخله، وأما من احتج بأنه لو كان قليل النجاسة ينجس قليل الماء لما كان الماء يطهر أحدا أبدا، إذ كان يجب على هذا أن يكون المنفصل من الماء عن الشيء النجس المقصود تطهيره أبدا نجسا، فقول لا معنى له، لما بيناه من أن نسبة آخر جزء يرد من الماء على آخر جزء يبقى من النجاسة في المحل نسبة الماء الكثير إلى النجاسة القليلة، وإن كان يعجب به كثير من المتأخرين، فإنا نعلم قطعا أن الماء الكثير يحيل النجاسة ويقلب عينها إلى الطهارة، ولذلك أجمع العلماء على أن الماء اللكثير لا تفسده النجاسة القليلة، فإذا تابع الغاسل صب الماء على المكان النجس أو العضو النجس، فيحيل الماء ضرورة عين النجاسة بكثرته، ولا فرق بين الماء الكثير أن يرد على النجاسة الواحدة بعينها دفعة، أو يرد عليها جزءا بعد جزء، فإذا هؤلاء إنما احتجوا بموضع الإجماع على موضع الخلاف من حيث لم يشعروا بذلك، والموضعان في غاية التباين، فهذا ما ظهر لنا في هذه المسألة من سبب اختلاف الناس فيها وترجيح أقوالهم فيها، ولوددنا لو أن سلكنا في كل مسألة هذا المسلك، لكن رأينا أن هذا يقتضي طولا وربما عاق الزمان عنه، وأن الأحوط هو أن نؤم الغرض الأول الذي قصدناه، فإن يسر الله تعالى فيه وكان لنا انفساح من العمر فسيتم هذا الغرض‏.‏

-‏(‏ المسألة الثانية‏)‏ الماء الذي خالطه زعفران أو غيره من الأشياء الطاهرة التي تنفك منه غالبا متى غيرت أحد أوصافه، فإنه طاهر عند جميع العلماء غير مطهر عند مالك والشافعي، ومطهر عند أبي حنيفة ما لم يكن التغير عن طبخ‏.‏ وسبب اختلافهم هو خفاء تناول اسم الماء المطلق للماء الذي خالطه أمثال هذه الأشياء، أعني هل يتناوله أو لا يتناوله‏؟‏ فمن رأى أنه لا يتناوله اسم الماء المطلق وإنما يضاف إلى الشيء الذي خالطه فيقال ماء كذا لا ماء مطلق لم يجز الوضوء به، إذ كان الوضوء إنما يكون بالماء المطلق، ومن رأى أنه يتناوله اسم الماء المطلق أجاز به الوضوء، ولظهور عدم تناول اسم الماء للماء المطبوخ مع شيء طاهر اتفقوا على أنه لا يجوز الوضوء به، وكذلك في مياه النبات المستخرجة منه إلا ما في كتاب ابن شعبان من أجازة طهر الجمعة بماء الورد‏.‏ والحق أن الاختلاط يختلف بالكثرة والقلة، فقد يبلغ من الكثرة إلى حد لا يتناوله اسم الماء المطلق مثل ما يقال ماء الغسل، وقد لا يبلغ إلى ذلك الحد، وبخاصة متى تغيرت منه الريح فقط، ولذلك لم يعتبر الريح قوم ممن منعوا الماء المضاف، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأم عطية عند أمره إياها بغسل ابنته ‏"‏اغسلنها بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافورا أو شيئا من كافور‏"‏ فهذا ماء مختلط ولكنه لم يبلغ من الاختلاط بحيث يسلب عنه اسم الماء المطلق، وقد روي عن مالك باعتبار الكثرة في المخالطة والقلة والفرق بينهما، فأجازه مع القلة وإن ظهرت الأوصاف، ولم يجزه مع الكثرة‏.‏

-‏(‏المسلئة الثالثة‏)‏ الماء المستعمل في الطهارة‏.‏ اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال‏:‏ فقوم لم يجيزوا الطهارة به على كل حال، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وقوم كرهوه ولم يجيزوا التيمم مع وجوده، وهو مذهب مالك وأصحابه، وقوم لم يروا بينه وبين الماء المطلق فرقا، وبه قال أبو ثور وداود وأصحابه، وشذ أبو يوسف فقال إنه نجس‏.‏ وسبب الخلاف في هذا أيضا ما يظن من أنه لا يتناوله اسم الماء المطلق حتى إن بعضهم غلا فظن أن اسم الغسالة أحق به من اسم الماء، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أصحابه يقتتلون على فضل وضوئه، ولا بد أن يقع من الماء المستعمل في الإناء الذي بقي فيه الفضل‏.‏ وبالجملة فهو ماء مطلق لأنه في الأغلب ليس ينتهي إلى أن يتغير أحد أوصافه بدنس الأعضاء التي تغسل به، فإن انتهى إلى ذلك، فحكمه حكم الماء الذي تغير أحد أوصافه بشيء طاهر، وإن كان هذا تعافه النفوس أكثر، وهذا لحظ من كرهه، وأما من زعم أنه نجس فلا دليل معه‏.‏

-‏(‏المسألة الرابعة‏)‏ اتفق العلماء على طهارة أسآر المسلمين وبهيمة الأنعام، واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافا كثيرا، فمنهم من زعم أن كل حيوان طاهر السؤر، ومنهم من استثنى من ذلك الخنزير فقط، وهذان القولان مرويان عن مالك، ومنهم من استثنى من ذلك الخنزير والكلب، وهو مذهب الشافعي ومنهم من استثنى من ذلك السباع عامة، وهو مذهب ابن القاسم، ومنهم من ذهب إلى أن الأسآر تابعة للحوم، فإن كانت اللحوم محرمة فالأسآر نجسة، وإن كانت مكروهة فالأسآر مكروهة، وإن كانت مباحة فالأسآر طاهرة‏.‏ وأما سؤر المشرك فقيل إنه نجس، وقيل إنه مكروه إذا كان يشرب الخمر، وهو مذهب ابن القاسم، وكذلك عنده جميع أسآر الحيوانات التي لا تتوقى النجاسة غالبا مثل الدجاج المخلاة والإبل الجلالة والكلاب المخلاة‏.‏ وسبب اختلافهم في ذلك هو ثلاثة أشياء‏:‏ أحدها معارضة القياس لظاهر الكتاب‏.‏ والثاني معارضته لظاهر الآثار‏.‏ والثالث معارضة الآثار بعضها بعضا في ذلك‏.‏ أما القياس فهو أنه لما كان الموت من غير ذكاة هو سبب نجاسة عين الحيوان بالشرع وجب أن تكون الحياة هي سبب طهارة عين الحيوان، وإذا كان ذلك كذلك فكل حي طاهر العين، وكل طاهر العين فسؤره طاهر‏.‏ وأما ظاهر الكتاب فإنه عارض هذا القياس في الخنزير والمشرك، وذلك أن الله تعالى يقول في الخنزير ‏{‏فإنه رجس‏}‏ وما هو رجس في عينه فهو نجس لعينه، ولذلك استثنى قوم من الحيوان الحي الخنزير فقط، ومن لم يستثنه حمل قوله ‏"‏رجس‏"‏ على جهة الذم له‏.‏ وأما المشرك ففي قوله تعالى ‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ فمن حمل هذا أيضا على ظاهره استثنى من مقتضى ذلك في القياس المشركين، ومن أخرجه مخرج الذم لهم طرد قياسه‏.‏

وأما الآثار فإنها عارضت هذا القياس في الكلب والهر والسباع‏.‏ أما الكلب فحديث أبي هريرة المتفق على صحته، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات‏"‏ وفي بعض طرقه ‏"‏أولاهن بالتراب‏"‏ وفي بعضها ‏"‏وعفروه الثامنة بالتراب‏"‏ وأما الهر فما رواه قرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين‏"‏ وقرة ثقة عند أهل الحديث‏.‏ وأما السباع فحديث ابن عمر المتقدم عن أبيه قال ‏"‏سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب فقال‏:‏ إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا‏"‏‏.‏ وأما تعارض الآثار في هذا الباب، فمنها أنه روي عنه ‏"‏أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها الكلاب والسباع، فقال ‏"‏لها ما حملت في بطونها ولكم ما غبر شرابا وطهورا‏"‏ ونحو هذا حديث عمر الذي رواه مالك في موطئه وهو قوله ‏"‏يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا‏"‏ وحديث أبي قتادة أيضا الذي خرجه مالك ‏"‏أن كبشة سكبت له وضوء فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات‏"‏

فاختلف العلماء في تأويل هذه الآثار ووجه جمعها مع القياس المذكور؛ فذهب مالك في الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء منه، إلى أن ذلك عبادة غير معللة، وأن الماء الذي يلغ فيه ليس بنجس، ولم ير إراقة ما عدا الماء من الأشياء التي يلغ فيها الكلب في المشهور عنه، وذلك كما قلنا لمعارضة ذلك القياس له، ولأنه ظن أيضا أنه إن فهم منه أن الكلب نجس العين عارضه ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى ‏{‏فكلوا مما أمسكن عليكم‏}‏ يريد أنه لو كان نجس العين لنجس الصيد بمماسته، وأيد هذا التأويل بما جاء في غسله من العدد والنجاسات ليس يشترط في غسلها العدد فقال‏:‏ إن هذا الغسل إنما هو عباده، ولم يعرج على سائر تلك الآثار لضعفها عنده‏.‏ وأما الشافعي فاستثنى الكلب من الحيوان الحي ورأى أن ظاهر هذا الحديث يوجب نجاسة سؤره، وأن لعابه هو النجس لا عينه فيما أحسب، وأنه يجب أن يغسل الصيد منه، وكذلك استثنى الخنزير لمكان الآية المذكورة‏.‏ وأما أبو حنيفة فإنه زعم أن المفهوم من هذه الآثار الواردة بنجاسة سؤر السباع والهر والكلب هو من قبل تحريم لحومها، وأن هذا من باب الخاص أريد به العام فقال‏:‏ الأسآر تابعة للحوم الحيوان، وأما بعض الناس فاستثنى من ذلك الكلب والهر والسباع على ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك‏.‏ وأما بعضهم فحكم بطهارة سؤر الكلب والهر، فاستثنى من ذلك السباع فقط‏.‏ أما سؤر الكلب فللعدد المشترط في غسله، ولمعارضة ظاهر الكتاب له ولمعارضة حديث أبي قتادة له، إذ علل عدم نجاسة الهرة من قبل أنها من الطوافين والكلب طواف‏.‏ وأما الهرة فمصيرا إلى ترجيح حديث أبي قتادة على حديث قرة عن ابن سيرين، وترجيح حديث ابن عمر على حديث عمر، وما ورد في معناه لمعارضة حديث أبي قتادة له بدليل الخطاب؛ وذلك أنه لما علل عدم النجاسة في الهرة بسبب الطواف فهم منه أن ما ليس بطواف وهي السباع فأسآرها محرمة، وممن ذهب هذا المذهب ابن القاسم،

وأما أبو حنيفة فقال كما قلنا بنجاسة سؤر الكلب، ولم ير العدد في غسله شرطا في طهارة الإناء الذي ولغ فيه لأنه عارض ذلك عنده القياس في غسل النجاسات، أعني أن المعتبر فيها إنما هو إزالة العين فقط، وهذا على عادته في رد أخبار الآحاد لمكان معارضة الأصول لها‏.‏ قال القاضي‏:‏ فاستعمل من هذا الحديث بعضا ولم يستعمل بعضا، أعني أنه استعمل منه ما لم تعارضه عنده الأصول، ولم يستعمل ما عارضته منه الأصول، وعضد ذلك بأنه مذهب أبي هريرة الذي روى الحديث، فهذه هي الأشياء التي حركت الفقهاء إلى هذا الاختلاف الكثير في هذه المسألة وقادتهم إلى الافتراق فيها، والمسألة اجتهادية محضة يعسر أن يوجد فيها ترجيح ، ولعل الأرجح أن يستثنى من طهارة أسآر الحيوان الكلب والخنزير والمشرك لصحة الآثار الواردة في الكلب ولأن ظاهر الكتاب أولى أن يتبع في القول بنجاسة عين الخنزير والمشرك من القياس، وكذلك ظاهر الحديث، وعليه أكثر الفقهاء، أعني على القول بنجاسة سؤر الكلب، فإن الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب مخيل ومناسب في الشرع لنجاسة الماء الذي ولغ فيه، أعني أن المفهوم بالعادة في الشرع من الأمر بإراقة الشيء وغسل الإناء منه هو لنجاسة الشيء، وما اعترضوا به من أنه لو كان ذلك لنجاسة الإناء لما اشترط فيه العدد، فغير نكير أن يكون الشرع يخص نجاسة دون نجاسة بحكم دون حكم تغليظا لها‏.‏ قال القاضي‏:‏ وقد ذهب جدي رحمة الله عليه في كتاب المقدمات إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ليس من سبب النجاسة‏.‏ بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كلبا، فيخاف من ذلك السم‏.‏ قال‏:‏ ولذلك جاء هذا العدد الذي هو السبع في غسله، فإن هذا العدد قد استعمل في الشرع في مواضع كثيرة في العلاج والمداواة من الأمراض، وهذا الذي قال رحمه الله هو وجه حسن على طريقة المالكية، فإنه إذا قلنا إن ذلك الماء غير نجس، فالأولى أن يعطى علة في غسله من أن يقول إنه غير معلل، وهذا طاهر بنفسه، وقد اعترض عليه فيما بلغني بعض الناس بأن قال‏:‏ إن الكلب الكلب لا يقرب الماء في حين كلبه، وهذا الذي قالوه هو عند استحكام هذه العلة بالكلاب، لا في مباديها وفي أول حدوثها، فلا معنى لاعتراضهم‏.‏ وأيضا فإنه ليس في الحديث ذكر الماء، وإنما فيه ذكر الإناء، ولعل في سؤره خاصية من هذا الوجه ضارة، أعني قبل أن يستحكم به الكلب، ولا يستنكر ورود مثل هذا في الشرع، فيكون هذا من باب ما ورد في الذباب إذا وقع في الطعام أن يغمس، وتعليل ذلك بأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء‏.‏ وأما ما قيل في المذهب من أن هذا الكلب هو الكلب المنهي عن اتخاذه أو الكلب الخضري فضعيف وبعيد من هذا التعليل، إلا أن يقول قائل‏:‏ إن ذلك أعني النهي من باب التحريج في اتخاذه‏.‏

-‏(‏المسألة الخامسة‏)‏ اختلف العلماء في أسآر الطهر على خمسة أقوال‏:‏ فذهب قوم إلى أن أسآر الطهر طاهرة بإطلاق، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة‏.‏ وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة، ويجوز للمرأة أن تتطهر بسؤر الرجل، وذهب آخرون إلى أنه يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة ما لم تكن المرأة جنبا أو حائضا، وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز لواحد منهما أن يتطهر بفضل صاحبه إلا أن يشرعا معا‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا يجوز وإن شرعا معا، وهو مذهب أحمد بن حنبل‏.‏ وسبب اختلافهم في هذا اختلاف الآثار، وذلك أن في ذلك أربعة آثار‏:‏ أحدها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة هو وأزواجه من إناء واحد، والثاني حديث ميمونة أنه اغتسل من فضلها، والثالث حديث الحكم الغفاري أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، خرجه أبو داود والترمذي‏.‏ والرابع حديث عبد الله بن سرجس قال ‏"‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان معا‏"‏‏.‏ فذهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث مذهبين‏:‏ مذهب الترجيح، ومذهب الجمع في بعض والترجيح في بعض، أما من رجح حديث اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه من إناء واحد على سائر الأحاديث، لأنه مما اتفق الصحاح على تخريجه، ولم يكن عنده فرق بين أن يغتسلا معا أو يغتسل كل منهما بفضل صاحبه، لأن المغتسلين معا كل واحد منهما مغتسل بفضل صاحبه، وصحح حديث ميمونة مع هذا الحديث ورجحه على حديث الغفاري فقال بطهر الأسآر على الإطلاق‏.‏ وأما من رجح حديث الغفاري على حديث ميمونة وهو مذهب أبي محمد بن حزم‏.‏ وجمع بين حديث الغفاري وحديث اغتسال النبي عليه الصلاة والسلام مع أزواجه من إناء واحد بأن فرق بين الاغتسال معا، وبين أن يغتسل أحدهما بفضل الآخر وعمل على هذين الحديثين فقط أجاز للرجل أن يتطهر مع المرأة من إناء واحد، ولم يجز أن يتطهر هو من فضل طهرها، وأجاز أن تتطهر هي من فضل طهره‏.‏ وأما من ذهب مذهب الجمع بين الأحاديث كلها ما خلا حديث ميمونة، فإنه أخذ بحديث عبد الله بن سرجس، لأنه يمكن أن يجتمع عليه حديث الغفاري، وحديث غسل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه من إناء واحد ويكون فيه زيادة، وهي أن لا تتوضأ المرأة أيضا بفضل الرجل، لكن يعارضه حديث ميمونة، وهو حديث خرجه مسلم، لكن قد علله كما قلنا بعض الناس من أن بعض رواته قال فيه‏:‏ أكثر ظني أو أكثر علمي أن أبا الشعثاء حدثني، وأما من لم يجز لواحد منهما أن يتطهر بفضل صاحبه ولا يشرعان معا، فلعله لم يبلغه من الأحاديث إلا حديث الحكم الغفاري وقاس الرجل على المرأة‏.‏ وأما من نهى عن سؤر المرأة الجنب والحائض فقط، فلست أعلم له حجة إلا أنه مروي عن بعض السلف أحسبه عن ابن عمر‏.‏

-‏(‏المسألة السادسة‏)‏ صار أبو حنيفة من بين معظم أصحابه وفقهاء الأمصار إلى إجازة الوضوء بنبيذ التمر في السفر لحديث ابن عباس ‏"‏أن ابن مسعود خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هل معك من ماء‏؟‏ فقال‏:‏ معي نبيذ في إداوتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اصبب فتوضأ به، وقال‏:‏ شراب وطهور‏"‏ وحديث أبي رافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن مسعود بمثله، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ثمرة طيبة وماء طهور‏"‏ وزعموا أنه منسوب إلى الصحابة علي وابن عباس، وأنه لا مخالف لهم من الصحابة، فكان كالإجماع عندهم‏.‏ ورد أهل الحديث هذا الخبر ولم يقبلوه لضعف رواته، ولأنه قد روي من طرق أوثق من هذه الطرق أن ابن مسعود لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن‏.‏ واحتج الجمهور لرد هذا الحديث بقوله تعالى ‏{‏فلم تجدوا ماء فتيموا صعيدا طيبا‏}‏ قالوا فلم يجعل ههنا وسطا بين الماء والصعيد، وبقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء إلى عشر حجج، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته‏"‏ ولهم أن يقولوا إن هذا قد أطلق عليه في الحديث اسم الماء، والزيادة لا تقتضي نسخا فيعارضها الكتاب، لكن هذا مخالف لقولهم إن الزيادة نسخ‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"