بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 5 مايو 2013


الأكاديمية الإسلامية المفتوحة
الدورة العلمية الثالثة
مقاصد الشريعة (4)
د. عمر بن عمر


بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والصلاة والسلام على رسوله الكريم.
 ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 53] ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32] اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمًا، وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم.
أحييكم بتحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد، فتحدثنا في الدرس السابق عن المصالح وما هي المصالح، ومَن الذي يحدد المصالح، ووصل بنا الحديث إلى وجوب ضبط الناظر في تحديد المصالح، أن الذي يريد أن يُحدد هذا الفعل مصلحة أو ليس بمصلحة؛ لابد أن تتوافر فيه جملة من الشروط، ذكرنا منها:
- الاجتهاد: أن يكون على علم.
- وبينَّا كذلك لابد من إطالة التأمل التثبت والتروي.
- ثم الحذر من الوهم، والحذر من الهوى.
بقي لنا في هذه النقطة كذلك: أنه إذا التبس الأمر على الإنسان ولم يستبن هل هذا مصلحة أو ليس بمصلحة؛ فالواجب عليه في هذه الحالة الاستشارة، وتعلمون عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ومن قبله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- كان إذا نزلت بهما نازلة نظرا في كتاب الله، فإن وجدا فالحمد لله قضيا به، وإن لم يجدا نظرا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فإن وجدا عملا به، وإلا سألا الناس: هل منكم من احد سمع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه المسألة شيئًا؟
وكما ذكر الشيخ محمد حسان أنه ليس بالضرورة أن كل صحابي يحفظ الحديث، وقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعضهم يحفظ بعض الأحاديث، والآخر يحفظ أحاديث أخرى، حتى إذا جُمعت الأحاديث ودُوِّنت كان لنا رحمة من الله ونعمة أن نجد أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- اليوم مدونة جميعًا، ويكفي بضغطة زرٍّ أو بكملة تكتبها على الشبكة التي يسمونها العنكبوتية، وإنما المراد به الإنترنت هذا، فيكفي أن تكتب كلمة ليعطيك جميع الأحاديث التي وردت فيها تلك الكلمة، وهذا فضل من الله عظيم ونعمة، ونقابلها بشكر الله -سبحانه وتعالى- وأن نستفيد من هذه الأحاديث ونعمل بها.
فكانا يسألان، فإذا بلغهما حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عملا به، وإلا اجتهدا وجمعا الناس، كان أبو بكر يجمع الناس وكذلك عمر للاستشارة.
الشاهد: أن الطريق الآخر من طرق معرفة المصلحة هي: المشاورة.
والمشاورة في شرعنا أمر مهم، ماذا يقول الله -سبحانه وتعالى- بالنسبة للمسلمين؟
 ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38].
وكذلك في آية أخرى ماذا قال لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو المعصوم الذي يتنزل عليه الوحي: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159].
حتى في المسائل العائلة، وفي مسائل الحل والربط، في مسألة الطلاق أيش قال ربي -سبحانه وتعالى؟
 ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 35].
فيه آية أخرى للتشاور: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾ [البقرة: 233] يعني المسألة كلها تحتاج إلى تشاور، حياتنا مبنية على الشورى، والاستبداد في شرع الله مرفوض، معناه أنه لا يُقبل لا في حكم ولا في سياسة ولا في اقتصاد ولا في اجتماع؛ لابد من المشاورة.
ولهذا قالوا في الأمثال: "ما خاب من استخار، وما ندم مَن استشار". ما معنى استخار؟
معناه: يستخير الله -سبحانه وتعالى.
وصلاة الاستخارة -أيها الإخوة الكرام، أيتها الخوات الكريمات- معروفة، ويكفي أن تكتبوا: صلاة الاستخارة؛ ويأتي الدعاء بعد ما تصلي ركعتين تقول الدعاء «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك...»، الحديث معروف حتى لا نطيل.
فما خاب من استخار، وما ندم مَن استشار، معناها: أن الإنسان الذي يستشير ما يندم، فالإنسان يشاور. فهذا طريق من الطرق.
والطريق الآخر كذلك في هذه المسألة من طرق الكشف عن المصالح هو الطريق الول والطريق الأخير وهو: الاستعانة بالله -سبحانه وتعالى.
 ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [هود: 88] والله -سبحانه وتعالى- يعين مَن استعان به، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]، فالله -سبحانه وتعالى- يهديك السبيل إن توكلت عليه واستعنت به، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3] توكل على الله وقل: يا ربِّ إن شاء الله هذا خير أو كذا، فالله -سبحانه وتعالى- كما أخبر قال: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: 29].
فالشاهد: ﴿يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾، هذا الفرقان الذي تستطيعون أن تفرقوا به بين الحق والباطل، بين المصلحة والمفسدة، فاتقِ الله يا عبد الله، فاتقي الله با أمة الله، والله -سبحانه وتعالى- ينير لك السبيل.
هذه تقريبًا جملة من الضوابط لمن أراد أن ينظر في الفعل أمصلحة هو أم لا، وهذا لا يكفي كذلك؛ بل لابد من النظر إلى هذا الفعل، حتى إذا كان مصلحة، قد يكون مصلحة آنيَّة، ولكن في عاقبة أمره قد يكون مفسدة، قد يجر الويل على الأمة، قد يجر الدمار على الأمة، إذا اليون نستدين، نستدين، نستدين؛ مصلحة، ولكن بعدما استدنت بالربا هذا مخالف للنص، سنتحدث عنه -إن شاء الله- لكن بعد هذا الدين تتراكم عليَّ ديون أخرى، فيتكون مفسدة.
فلابد من النظر -كما قال الإمام الشاطبي: "لابد من النظر في مآلات ذلك الفعل"، النظر في مآلات الأفعال، أيش معناها مآلات الأفعال؟
أي ما ستؤول إليه هذه الأفعال من مصلحة أو مفسدة، ممكن هو في ظاهره مصلحة، ولكنه يجر مفسدة.
من منكم يذكر لي دليلًا من القرآن في هذا الأمر؟
يا فتَّاح يا عليم، يا رزَّاق يا كريم!
 ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216] ممكن تكره في الأول، ولكن بعد منها يكون مصلحة،
لا، فيه آية صريحة ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216] لكن لم يبين المآل.
الآية، يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108] سبّ آلهة الكفار فيها منفعة أو ما فيها؟
بالنسبة لنا معناها الأصنام، تدفع وتضر؟
ما لها حتى قيمة، لو سببتها ما فيها مشكلة، لكن هذا السب إلى ماذا سيؤول؟
أنك إن سببت آلهتم فإنهم سيسبون الله -سبحانه وتعالى.
ولهذا قال الله: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108].
كذلك عندما قال الله -سبحانه وتعالى- لعباده ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ [البقرة: 104] هذا توجيه من الله -سبحانه وتعالى- لعباده.
لماذا؟
لأن اليهود كانوا يستعملون هذه الكلمة "راعنا" من الرعونة، ياعنا يا محمد، أي أنت أرعن -حاشاه صلى الله عليه وسلم- معناها: أحمق.
فكانوا يستعملونها كسبَّة يسبُّون بها النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما علم الله -سبحانه وتعالى- مكرهم وخبثهم نهى عباده أن يقولوا هذه الكلمة حتى لا يُسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من اليهود ومن المافقين، فمن يقولوها معروف بكفره لأنه لا يلتزم شرع الله -سبحانه وتعالى: ﴿لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ [البقرة: 104].
وكذلك من المآلات عندما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ﴾ [البقرة: 183]، أي المآل، أي أن هذا الصيام يؤول بكم إلى ماذا؟
التقوى.
وكذلك الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45] فإذا صلاتك -أيها المسلم، أيتها المسلمة- لم تنهك عن المنكر؛ فاجع حساباتك، معناها صلاتك فيها مرض، معناها صلاتك غير كاملة، أما تصلي معناها صلاة ناقصة، إذا دخل أحدكم في الصلاة الدنيا كلها تأتي أمامه، وتأتي المشاكل كلها أمامه، ويصلي بنا الإمام لو نعمل سبر آراء ونوقف واحد ونقول له: شيخنا وأخونا الإمام يصلي بنا العشاء بـ "قل هو الله أحد" و"قل أعوذ برب الفلق"، وتوقف واحد عند الباب وتسأله بماذا صلى الإمام؟
ممكن أكثر الناس يقول لك: والله ما أدري!
والرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث قال: «يُكتب للمرء من صلاته نصفها...، ثلثها...، ربعها...، سدسها، وليس للمرء من صلاته إلا ما عقل»، أو كما قال -صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذن لابد عندما ننظر في الفعل أمصلحة هو أم لا، لا يكفي أن ننظر إليه نظرة آنيَّة؛ وإنما لابد أن ننظر إليه نظرة مآليَّة، أي ما سيؤول إليه هذا الفعل من بعد.
وقد فعل هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك في سنته عندما أراد أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم، ولكنه لم يفعل لماذا؟
لأنهم كانوا حديثي عهد بإسلام، ما زال إسلامهم ضعيف، فخاف أن يرتدوا فترك.
قيل له -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل المنافقين، فأبى -صلى الله عليه وسلم- لماذا؟
قال: «حتى لا يُقال إن محمد يقتل أصحابه».
نكون بهذا نكون قد انتهينا من ضوابط النظر في المصلحة.
ونتحدث اليوم -إن شاء الله- عن مراتب هذه المصلحة وضوابطها.
المصلحة كما حددها العلماء ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أعلاها، وهي ما يسمونها الضروريات.
والمرتبة الثانية: أوسطها، وهي الحاجيات.
والثالثة: الكماليات.
ما شاء الله عليكم! الكماليات تعرفون معناها، لأنكم كلكم تبحثون عن الكماليات.
فالكماليات أو التحسينيات أو التتمات، ثلاث مراتب.
هذه المراتب تختلف في الدرجات، وعندما قسمها العلماء هكذا قسموها لهدف، وهي أنك أيها المسلم في حياتك عندما تعترضك بعض المصالح لابد أن تنظر في هذه المصلحة فتقدم الأعلى على الأدنى، لا يُعقل أن نهتم بالحاجيات ونضيع الروريات، لازم نبدأ بأيش؟
بالضروريات، ثم بعد ذلك ننتقل إلى لحاجيات، ثم إلى التحسينيات.
أيش هي الضروريات؟
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله: "هي ما لابد منه من قيام مصالح الدارين"، أي الشيء الذي يُحتاج إليه للقيام بمصلحة الدنيا وبمصلحة الآخرة، وبدون هذه المصالح قد تفقد الحياة، وقد يُفقد كذلك في الآخرة النعيم، إذا ضيعت الضروريات في الدنيا قد لا تتنعم في الآخرة.
أيش هي الضروريات؟ سميت بالضروريات تعرفون لماذا؟
من عكسها، لأن بفقدها يحصل الضرر، وبعض هذه الضروريات العلماء يسميها: المقاصد. لماذا؟
لأن جميع احكام الشريعة تخدم هذه المقاصد، أو هذه الضروريات.
وبعضهم كذلك سماها: الكليَّات. لماذا؟
لأن جميع احكام الشريعة مندرجة تحت هذه الضروريات.
إذن فما هي هذه الضروريات؟ تعرفونها أو لا؟
سيارة فارهة، وقصر!
1- حفظ الدين.
2- حفظ النفس.
3- حفظ العقل.
4- حفظ المال.
5- حفظ النسل.
بعضهم زاد: العِرض.
وبعضهم قال: العِرض يندرج في النسل، على خلاف بين العلماء في ترتيب هذه المصالح.
الدين، النفس، النسل، العقل، المال؛ فهذه الكليات الخمس، وإلا المقاصد الخمس، وإلا الضروريات الخمس.
شيخ الإسلام ابن تيمية في حديثه عن هذه الكليات وكذلك الإمام العز بن عبد السلام -سلطان العلماء وبائع الملوك- فكأنهما عابا على مَن تقدم من العلماء لحصر المقاصد الشرعية -أو الكليات أو الضروريات- في خمس، فأضافا ما يتعلق بأحوال القلوب، وما يتعلق بتزكية النفوس، قالوا هذه أين؟
وفي رسالتي للدكتوراة وكان عنوانها: مقصد الشريعة عند الإمام العزي بن عبد السلام، باعتباره هو مؤسس هذه المقاصد قبل الشاطبي، فلما تعرضت لهذه المسألة كأني اعتذرت لهما لأن في حقيقة الأمر الأحوال وأفعال القلوب وتزكية النفوس في حقيقة الأمر هذه ترجع إلى ماذا؟
ترجع إلى حفظ الدين.
ما معناها إذا القلب خرِب وواحد يصلي أو يصوم؟
معناها كما قال الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن لم يدع قول الزور والعمل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، فالقضية هي تزكية، الدين هذا جاء لتزكية نفوسنا، ولهذا ربي قال: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس 7-10].
فتزكية النفس هي في حقيقة المر ترجع إلى مصلحة الدين.
بعض علمائنا المحدثين اليوم -المعاصرين- تكلموا كذلك في جملة من اللمقاصد وقالوا: هذه مقاصد جديدة، فمن بين هذه المقاصد مثلًا كتب الدكتور عبد المجيد النجار: مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، وكتب قبله جمال عطية كتابًا: نحو تفعيل المقاصد.
فأشار إلى جملة من المقاصد كالحرية، والكرامة، وعمارة الأرض، وحفظ البيئة؛ هذه مقاصد، وهي مقاصد فعلًا من المقاصد، ولكن عندما نمعن النظر نجد أن هذه المقاصد ترجع لماذا؟
إذا قلنا المحافظة لى البيئة؛ ترجع إلى الحفاظ على النفس، لأنه إذا كان فيه تلوث، وإذا كان فيه خراب في البيئة؛ معناه أن الإنسان نفسه معرضة للخطر، وربي -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195] وفي آية أخرى قال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29].
ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- مرَّ ووجد -حاشا قدركم- نخمة -وهو ما يخرجه الإنسان من صدره خاصة في أيام الزكمة، أو البلغم- فماذا فعل؟
فدفنها، بيَّن أن كفَّارة النخمة في المسجد أيش هي؟
دفنها.
أيام زمان كان تدفن، أما اليوم تدفنها أين؟! تحت السجاد؟!
تعملها في طرف ثيابك ولا تبصق في المسجد. فهمنا؟
فهذا عناية بماذا؟
عناية بالبيئة، لأن هذه قد يكون فيها جراثيم قد تؤثر على الغير، فلابد من الحفاظ على البيئة.
كذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما جاء إلى عمارة الأرض مقصد، وهذا يرجع إلى ماذا؟
إلى حفظ المال، نعمر الأرض معناها أننا نحافظ على اموالنا. كيف نحافظ على أموالنا؟
بعمارة الأرض.
ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها قبل أن تقوم ليه الساعة»، لو هو يموت، طيب أنا أيش أستفيد منها؟!
ولكن انظروا إلى ديننا وإلى إسلامنا كيف يحثُّ على العمل!
قال: زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون.
واحد من الخلفاء مرَّ برجل كبير فوجده يزرع نخلًا، قال له: أنت تزرع! أنت تأكل منها؟!
قال: ما ضرني إذا غرستها وأكل منها غيري فجاءني أجرها؟
انظروا للبعد! انظروا للفهم! كيف أن ديننا يحثنا على العمل ويحثنا على أنه لا "نفسي نفس" لا، المسلمون -كما ذكرنا في أول درس- أمة واحدة، «ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
قال: أيش يضرني إذا غرستها ولا آكل منها، لكن سيأتيني أجرها.
لماذا؟
لأن أي مخلوق أكل من تلك النخلة أو من تلك الشجرة، أو من ذاك الزرع؛ فإنما تؤجر عليه، لو جاءت دابَّة أو نملة فأكلت حبة من الشعير أو من القمح، أو عصوفر أو حمامة؛ تؤجر على ذلك.
قالوا: أو لنا في الدواب أجر؟ حتى في الدواب أجر؟
قال: «إن لك في كل ذات كبدٍ رطبٍ أجر».
هذا ديننا، فهذه هي الضروريات الخمس.
فالحرية كذلك إلامَ ترجع؟
الله أعلم! ترجع إلى حفظ العقل، وترجع إلى حفظ النفس، لأن إنسان بدون حرية هو أيش؟
هو عبد، هو ميت، معناها لا يقدر يتكلم، لا يقدر يتحرك، لا يقدر يُخرج، لا يقدر يدخل، لا يقدر يقول ما يشاء، فمعنى هذا أنه ليس بإنسان -والعياذ بالله.
فحفظ النفس وحفظ حياة الإنسان بما فيها من كرامة، بما فيها من حرية، وقد قال عمر -رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم امهتم أحرارًا"، فهذا ديننا، فديننا يشمل هذه المقاصد كلها، مع الاعتذار لإخواننا المفكرين والعلماء الذين اجتهدوا في هذا، ونُسدد اجتهادهم ونثمِّنه، ولكن هو في حقيقة الأمر يدخل في هذه الضروريات.
الحاجيات.
وقبل ما نأتي إلى الحاجيات، الضروريات اليوم تنوعت وأصبحت ضروريات متنوعة، كلمة، كلمتين، هذا ضروري، السيارة ضرورية، كذا ضروري، كل حاجة ضروريات.
طيب، نحن عندنا في القواعد الفقهية: الضرورات تبيح المحظورات.
فمعناه أنه قد يأتي الربا فيُبيح المحظور لأن هذا ضروري، ننبه هنا -يا إخوتي الكرام، أخواتي الكريمات- إلى أمر: أن الضرورات نوعان:
- إما ضرورة شرعية.
- أو ضرورة عرفية.
أيش معناها "عرفية"؟
أي في أعراف الناس، فاعراف الناس تتغير بتغير الأزمان والأماكن، فبتغير الزمان والمكان تتغير الأعراف، وكل واحد وعرفه، ولهذا طولبنا بأن نراعي أعراف الناس عند الفتوى، وعند استنباط الأحكام، وإذا جاء مَن يستفيتك فأجره على عرف بلده.
لو جاءنا أخونا الدكتور راشد وقال لي: يا شيخ أقمست الله ألا آكل العيش.
عندكم العيش أو لا؟
وجاءني واحد جربي قال: أقسمت ما آكل عيش.
عندنا الجربي يعرف العيش أو لا؟
ما هو العيش؟
العيش هو العصيدة عندنا، والعيش عندهم الخبز، وعندنا إخواننا في الإمارات تعرفون العيش ما هو؟
الرُّز.
فلو جاءني قال لي: أقسمت بالله ألا آكل عيش؛ فأكل خبزًا؛ أقول له: كفِّر عن يمينك.
وجداءني الجربي وقال: أقمست ألا آكل عيشًا فأكلت خبزًا؛ أقول له: لا تكفر عن يمينك، لأنك أنت يا جربي ابن عمي، وهذا سعودي!
فتوى صحيحة أو غير صحيحة؟
صحيحة، لأن العرف عندهم أن العيش هي العصيدة عندنا، نعم.
ولو جاءني إماراتي وقال: أقمست ألا آكل عيشًا فأكل خبزًا، أقول له: لا تكفِّر عن يمينك.
لماذا؟
لأن العيش عندهم الرُّز.
فقد تختلف الفتوى باختلاف الأعراف.
كذلك الضروريات تختلف بأعراف الناس، والأحكام تجري بحسب الحقائق الشرعية، وليس الحقائق العرفية، ممكن في أعراف الناس اليوم أصبحت السيارة ضرورية، لكن لا نقول له هنا الضرورات تبيح المحظورات، لأنه إذا عاش بدون سيارة لن يموت، قد يدخل في حرج وهذه من الحاجيات وهي المرتبة الثانية.
فالحاجيات هي ما لابد منها حتى يعيش الناس في بحبوحة ويبعدون عن الحرج، يقول الإمام الشاطبي: "هي ما يدور على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والتخفيف على الناس"، معناها فيها تيسير.
كلامه -رحمه الله- يقول: "هي ما يدور على التوسعة والتيسير ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى المشقة والحرج".
أعيد: "ما يدور على التوسعة والتيسير ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى المشقة والحرج".
معناها: أن إنسان قد يعيش بدون سيارة، لكن يتعب ويقف في المحطة وينتظر تاكسي حتى يأخذه، أو يمشي -أكرمكم الله- على حمار.
كنت أدرِّس مرة في الزكاة فقلت لهم: زكاة الغنم، والغنم يشمل الماعز والضأن.
فقالوا: أيش هو الماعز.
ذهبت للعم جوجل وصورت الماعز وصورت لهم الضأن حتى يفرقون بين الماعز والضأن.
كذلك لما جئت أشرح الشعير والقمح، قالوا: والله ما نعرف لا شعير ولا قمح! أيش الشعير؟
صورت الشعير وصورت القمح، وممكن بعضنا ما يعرف الحمار، ما عدنا نراه.
فقد يصل الإنسان إلى بغيته، ولمن بمشقة، ورغم هذه المشقة يعيش.
المرتبة الأخيرة هي: التحسينيات.
ومقولة ابن عاشور مهمة هنا، قال: "ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرآى بقية الأمم"، أي بقية الأمم ترى هذه الأمة لها وزنها، وعندها قيمتها.
قال: "ولها بهجة منظر المجتمع في مرآى بقية الأمم، حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوبًا في الاندماج فيها"، الناس يتمنون أن يندمجوا فيها، لكن بعذ شبابنا اليوم يقول: يا ليتني عندي الجنسية الأمريكة، أو عندي الجنسية الفرنسية! يتمنى لو كان أمريكي أو فرنسي، أو ما أدري!
"على قدر أهل العزم تأتي العزائم".
ومن كانت الدنيا همه، فهذا الذي يفكر فيه، اما مَن كانت الآخرة همه فلا يفكر إلا فيما يرضي الله.
قال: "ومرغوبًا في الاندماج فيها، أو التقرب إليها".
لو أخذنا على وجه السرعة مثالًا: لو قلنا حفظ الدين، أيش هو الضروري؟ أيش هو الحاجي؟ أيش هو التحسيني؟
الضروري هو: ما فرضه الله -سبحانه وتعالى- الفروض، الشعائر التعبدية هذه ضرورية، ما فيها كلام، لا جدال فيها.
طيب، بعدها: الحاجيات.؟
الحاجيات تاتي في هذه العبادات الزائدة، التي زادها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لو أخذنا الصلاة؛ فهذه السنن التي نسميها سنن الرواتب -بارك الله فيك- وهي اثنا عشرة ركعة في اليوم غير الفريضة، فهذه سنن رواتب حاجيَّة.
فالجاحيات أيش هي؟
الحاجيات مثل صلاة الضحى، صلاة ركعتين تحية مسجد، تصلي ركعتين قيام ليل، مثل هذا.
فهذه الضروريات الثلاثة أو المراتب الثلاثة تخدم بعضها بعضًا، وهي مرتابطة، فالحاجيات تخدم الضروريات، والتحسينيات تخدم الحاجيات، وكلها في خدمة الضروريات، وفي هذا يقول الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما يرويه عن ربه، يقول: «من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنَّه»، أو كما قال -صلى الله عليه وآله وسلم.
لو جئنا لحفظ النفس في الأكل مثلًا:
الضروري أيش هو؟
أملأها للضيق؟!
«بحسب ابن آدم لقيمات»، هذه ضرورية.
الحاجي: الثالث، «وإن كان ولابد فاعل فثلث لطعامه».
التحسيني: وما تضحك! أنت متزوج؟
لو تأتي لك زوجتك بسلطة وتضع لك عليه حبة طماطم وتضع عليه ورقة نعناع، فهذه المقبِّلات -أو المفتِّحات- وكذلك الحلويات؛ فهذه كلها تدخل في إطار التحسينيات.
وأختم حديثي -إخوتي الكرام، أخواتي الكرام- بذكر سريع لضوابط المصلحة، وقد أشرنا إليها في ثنايا حديثنا، وهي:
1- أن تكون المصلحة كلية.
ما معنى كلية؟
أي أن تجمع أكثر عدد ممكن من الناس، فالإسلام مثلما يُراعي المصلحة العامة فإنه يراعي المصلحة الخاصة.
2- أن تكون قطعية.
ما معنى قطعة؟
أي أن تكون هذه المصلحة مصلحة مؤكدة، وليست بمصلحة موهومة.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- مرة جاءة الأعمى عبد الله بن أم مكتوم يسأله، وجاءه في نفس الوقت رجال قريش وساداتها، فماذا فعل -صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي؟
قدَّم سادة قريش على هذا الأعمى؛ فهذه مصلحة موهومة، ظنًّا منه -صلى الله عليه وسلم- أن في إسلامهم خير كثير، ولكن الله -سبحانه وتعالى- أنزل عتابًا وأنزل سورة.
فقد تكون المصلحة موهومة كما مصالح كثير من الناس اليوم، قال لك: ما نطبق الحدود لأن كذا وكذا؛ وهذه حرية الإنسان، وهذه كذا، إلى غير ذلك؛ فهذه كلها مصالح موهومة. فتكون قطعية وليست بموهومة.
3- أن تكون ضرورية.
ما معنى ضرورية؟
أي تخدم ضرورة من الضروريات الخمس، فإذا كانت كذلك فهي مصلحة، أما إذا كانت خراجة فلا تعتبر مصلحة.
4- ألا تخالف نصًّا من النصوص الشرعية.
إذا جاءت تخالف نصًّا فاضرب بالمصلحة عرض الحائط واتَّبع كلام ربك.
5- كذلك ألا تفوت مصلحة أكبر منها.
إذا تعارضت مصلحة مع مصلحة فالتفت إلى المصلحة الأعلى ولا تلتفت إلى الدنى.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"