بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 4 مايو 2013



الأكاديمية الإسلامية المفتوحة
الدورة العلمية الثالثة
مقاصد الشريعة (3)
د. عمر بن عمر


﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 53]، ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32].
اللهم علمنا بما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمًا، وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم.
أحييكم بتحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد، فتحدثنا البارحة عن أن هذا الدين له مقاصد، وأن ربنا -سبحانه وتعالى- ما أنزل هذه الشريعة عبثًا، وإنما أنزلها لحكمة وغاية، وبيَّن هذه الغاية في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
ونقف في هذه الليلة -بإذن الله تبارك وتعالى- في نقطة صغيرة ولكنها كبيرة، وهي الحديث عن المقصد الأول من مقاصد هذا الدين، وهو: جلب المصلحة ودرء المفسدة.
وعبَّر عنه ابن عاشور -رحمه الله- بحفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه، وهو الإنسان، أي أن هذا النظام في هذا الكون لا يصلح إلا بصلاح الإنسان.
فنقف للحظات مع المصلحة، والمصلحة ضد المفسدة.
في أحد ما يعرف يا شباب المصلحة؟ تعرفونها أو لا؟
المصلحة ضد المفسدة قالوا، إذا رجعت إلى المعاجم يقولون: المصلحة ضد المفسدة، والمفسدة ضد المصلحة.
والمصلحة هي: النفع، وهي الخير، وهي ما يحبه الإنسان ويلتذُّ به، فهذه مصلحة، وكل واحد يعرف المصلحة، إذا كلمت أي إنسان في هذا الكون وقلت له: أيش تعمل؟
يقول لك: أعمل في مصلحتي.
تمشي من هذا الطريق؛ مصلحتي في هذا الطريق. تدرس؛ أيش اخترت؟
الشريعة، مصلحتي في الشريعة، أختار الطب؛ مصلحتي في الطب.
فكل إنسان في هذا الكون إنما يتحرك بناءص على أيش؟
على تحقيق مصالحه.
حتى فرعون، وتحدثنا عنه البارحة، واليوم نتحدث عنه، وقد أكثر الله الحديث عنه وعن موسى في كتابه الكريم أكثر مما تحدث عن نبينا محمد -لنأخذ من ذلك العبرة- ففرعون عندما يتحرك وعندما يسوس قومه وعندما يتكلم، وعندما يعطي رأيًا بناءً على أيش؟
بناء على مصلحة، حتى إنه لما جاء موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- قال فرعون فيما حكاه لنا ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر: 26].
سبحان الله!
فرعون في نظر نفسه هو أيش؟
مصلح.
وموسى في نظر فرعون هو أيش؟
مفسد. لا إله إلا الله! انظر للقيم كيف انقلبت.
فرعون مصلح! ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: 29]. هذا فرعون.
لكن ربي -سبحانه وتعالى- أيش قال عنه؟
 ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ [طه: 79].
المنافقون فيما حكاه لنا ربنا -سبحانه وتعالى- ماذا يقولون؟
 ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: 11]، فالمفسد والمافق يعتبر نفسه أيش؟
مصلح.
فكل إنسان في هذا الكون يتحرك بناءً على المصلحة، ولكن هل كل مصلحة مصلحة؟
لا، المصلحة المعتبرة هي ما بينها ووضحها ربنا -سبحانه وتعالى.
لهذا عندما تحدث عن الخمر والميسر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219]. معناها: الخمر فيها منفعة، فيها مصلحة، والقمار فيه مصلحة، لكن هل هذه المصلحة معتبرة عند ربنا؟
لا، ولهذا الله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك بين أن الخمر رغم ما فيها من مصلحة، رغم ما فيها من منفعة إلا أنها في شرع الله حرام، مفسدة ينبغي تجنبها.
لماذا؟
لأن العبرة بالغالب، المصلحة أو العمل إذا امزجت فيه المصلحة مع المفسدة؛ فالعبرة كما قال الشاطبي بالغالب، ننظر إلى الجانب الغالب، لأن المصلحة -كما ذكر الشاطبي: "قلَّ أن تجد في هذه الدنيا مصلحة محضة -أي مصلحة خالصة ما فيها مفسدة".
حتى إذا جئنا للأكل؛ مصلحة أو ليس مصلحة؟
مصلحة، ولكن فيه شيء من المفسدة أو لا؟
أنت حتى تأتي بالأكل يلزمك تتعب حتى تأتي بالخبز والخضار، وتحضر، وتحضر، تتعب حتى تصنعه المرأة، وتعبت قبل ذلك حتى جمعت المهر وتزوجت، وأنت تأكل مرة تعض لسانك، مرة تأتي تأكل والطعام ساخن يحرقك، مرة يغص الإنسان بالأكل، ففيه نوع من المفسدة، ولكن الغالب عليه أيش؟
المصلحة.
ولهذا الله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: 31]، لماذا لا تسرفوا؟
لأن الإسراف ممكن تأكل وتأكل وتأكل وتملأها، قال: "املأها للضيق".
 أين الضيق؟ تعرفون الضيق أو لا؟
معناها: املأها إلى هنا.
فصاحبه يسأله: إذا ملأتها للضيق؛ ماذا تفعل بالماء؟
قال: "الماء زرق وتزريق"، أي سيجد مكانًا.
قال له: والهواء؟
قال: الله يجعل له طريق.
أنت تتكلم في الهواء؟! المهم املأها.
سيدنا -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، وإن كان ولابد فاعل فثلث لطعامه، وثلث لشاربه، وثلث لنفسه»، فقسَّمها، ولكن هذا أخونا ما فعله فيه مضرة، ولهذا نهانا الشارع عن ذلك -عن الكل الكثير.
وكما يقول الأطباء: "المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء".
ورمضان قريب، أسأل الله العلي القدير أن يبلغنا رمضان، ورمضان جعله الله لنا نوع من أنواع الحمية، تعرفون ما معنى الحمية؟
معناها بالعربي: الرِّجيم.
فربنا جعل لنا هذا الشهر حتى يتغير نظام الإنسان، وتترتاح المعدة قليلًا، ولكن لا نصوم في النهار، وفي الليل نملأها للضيق، لا تملأها للضيق، وإنما «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه».
فالشاهد: أن أي مصلحة، وضربنا مثالًا للأكل؛ فهو مصلحة، ولكن مع ذلك فيه شيء من التعب، والتعب هو المفسدة.
إذا قلنا: الصلاة مصلحة، ولكن فيها تعب أو لا؟
فيها تعب، ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45]، فالصلاة ليست هيِّنة، وإنما تحتاج الرجولة، وتحتاج إلى إرادة وعزيمة حتى يثبت عليها الإنسان ويستمر عليها، ويحافظ عليها، وما حافظ عليها إنسان إلا كما أخبر المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- «إلا كانت له نورًا وبرهانًا يوم القيامة، ومن لم يُحافظ عليها لم تكن له نور ولا برهان يوم القيامة، وحُشر مع فرعون قارون وهامان وأبي بن خلف».
الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعطانا أربعة أصناف:
- فرعون: معناها الرؤساء الذي لا يصلون، فهم مع فرعون.
- والوزراء مع هامان.
- ورجال الأعمال مع قارون، تعرفوه أو لا؟ ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ [القصص: 76]، ليست الكنوز؛ وإنما مفاتيح ديار الكنوز يتعب في حملها الرجال.
لما قالوا له: ﴿لَا تَفْرَحْ﴾ [القصص: 76]، لا تفرح هنا ليس الفحر الذي نعرفه، لا تفكرون في مجال الدهن الذي سمعتم عنه البارحة.
 ﴿لَا تَفْرَحْ﴾ هنا بمعنى: لا تتكبر، وتذكر أن هذا المال يا قارون هو مال مَن؟
مال الله، فالله -سبحانه وتعالى- هو الغني، يُغني مَن يشاء ويُفقر مَن يشاء، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فهمنا؟
فلما قيل له في ذلك أن هذا المال مال الله كما قال -سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7]، وفي آية أخرى قال: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: 33].
فالمال مال الله، والإنسان مستخلف فيه، والله -سبحانه وتعالى- مختبرك وناظر ما أنت فاعل فيه، ويم القيامة يُسأل الإنسان كما أخبر المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه -في ماذا أمضيت عمرك يا ابن آدم- وعن شبابه -فترة الشباب- فيما أبلاه، وعن علمه وما عمل فيه»، تعلمت علمًا، سمعت كلمة خير، طبقتها أم لم تطبقها، والسؤال الأخير: «وعن ماله -وفيه سؤالان- من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه».
السؤال الأول: من أين جئت بهذا المال؟ من أين اكتسبت هذا المال؟
إن كان من حلال فأبشر بالخير، وإن كان حرامًا فبئس المسعى، يتجاوز إذا كان حلالًا.
السؤال الثاني: فيمَ أنفقته؟
فإن كان في خير فأبشر، وإن كان في غير ذلك فيا خيبة الأمل.
ولهذا لما قيل لقارون: لا تفرح، لا تتكبر، فالمال مال الله، قال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [القصص: 78]، أي بفض تفكيري وتدبيري جاءني هذا المال.
والأزمة الاقتصادية الأخيرة -والعالم ما زال يعيش في أزمة- كثير من أصحاب الأموال مَن كانوا في عليين، وفي لحظة واحدة صاروا أسفل سافلين -والعياذ بالله- في الحيض، لأن هذا المال بيد الله يؤتيه مَن يشاء ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: 26]، وإذا ما فهمتم الآية الآن في ظروفنا في تونس لن تفهموها. لماذا؟
ما جرى لنا يوضح تمامًا هذه الآية، قوم كانوا أعزة -كانوا فوق- فأذلهم الله -سبحانه وتعالى- وأناس كانوا في السجون فأعزهم الله، وهذا ابتلاء لهم، والابتلاء بالخير أشد وأعظم من الابتلاء بالشر، فليتقوا الله ربهم، ولنتقِ كلنا ربنا -سبحانه وتعالى- ولنتذكر أن هذه النعمة التي نحن فيها إنما هي من عند الله، فمقابلها ماذا؟
الشكر ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7].
فهذه المصلحة، كل إنسان إذن يتحرك في إطار هذه المصلحة، لكن ربنا -سبحانه وتعالى- بين أن ليس كل مصلحة مصلحة، وإلا الربا فيه مصلحة أو ما فيه؟
نعم، أعطيك مئة دينار وترجع لي مئة وعشرين، فيها أو ما فيها؟
فيها، ولكن هل الله -سبحانه وتعالى- اعتبر هذه المصلحة مصلحة، وإنما اعتبرها حربًا على الله؟
 ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 278، 279]، إعلان الحرب -والعياذ بالله.
ونحن نتكلم عن المصلحة؛ سئُل أحدهم: هل يجوز للإنسان أن يبني بيتًا بمالٍ ربوي؟ يستدين حتى يبني بيت.
فأجاب بالإيجاب، يجوز له ذلك.
فكان عندي برنامج في إذاعة الشارقة وقناة الشارقة من فترة، فيتصل كثير من الناس: يا شيخ، ما حكم الاستدانة بالربا لبناء بيت؟
فأجيب بالتحريم، حرام.
يقولون لي: يا شيخ، فلان أفتى بكذا.
أقول له: يا أخي إذا كان الشيخ فلان أفتى لك، لماذا تأتي تستفتيني؟! اذهب للشيخ فلان، لا ناقة لي ولا جمل، لا سلطة لي علك، افعل ما تشاء، لكن هو قلبه فيه شك، ليس مرتاح للفتوى.
ولهذا سيدنا -صلى الله عليه وسلم- قال: «استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك»، وفي حديث آخر قال: «والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس».
فهو غير مرتاح للفتوى فيحب أن يسأل شيخ آخر، كما نقول "يدبسها في رأسي".
يقولون: "أقلد عالم وألقى ربي سالم"، هو يحب يحملني المسؤولية، وأنا لا أفتي بجوازه. لماذا؟
لأن هذا ربا، وهو إعلان الحرب على الله، وكما يقولون عندنا في المثل التونسي "عاش ما كسب، مات ما خلف"، ربي يوم القيامة لن يحاسبك لماذا لم تبنِ بيتًا! لا تخافون، السؤال هذا غير وارد، ولكن لو استعملت مالًا حرامًا سيسألك عليه، نعم.
فالمصلحة عندما نتحدث ما هي المصلحة، ونحب نعرف هل هذه مصلحة أو ليست بمصلحة؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "ليس العاقل مَن يعرف الخير من الشر، وإنما العاقل مَن يعرف خير الخيرين وشر الشرين".
قال: مسألة الخير والشر هذا يعرفه أي إنسان، الطلبة لما أشرحها لهم احيانًا أقول لهم: حتى القطة -ونقولها بلغتنا "القطوسة"- تعرف المصلحة من المفسدة أو لا؟ كيف ذلك؟
لما تضع طعامك ويأتي القط ويأخذ لحم من غير ما تعطيه، أيش يعمل؟
يهرب فورًا. لماذا؟
هو يعرف أنه عمل خطأ، لكن لما تعطيه أنت لحم أيش يعمل؟
يقعد بجانب ويأكل، معنى هذا أن القط يعرف أنه عمل مصلحة أو عمل مفسدة وأنت يا ابن آدم لا تعرف المصلحة من المفدجسة؟!
كل إنسان يعرفها، لكن من تلبيس إبليس، ولهذا شيخ الإسلام قال: "العاقل هو الذي يعلم ويعرف خير الخيرين وشر الشرين".
إذا كان فيه خيور كثيرة ومصالح كثيرة فاختر الأحسن، كما قال ربي -سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 18].
معناه أن كلامي فيه غثٌّ وسمين، فيه كلمة خائبة، كلمة كذا؛ فأنت أيها المستمع دورك ومسؤوليتك تنقِّي وتصفي وتغربل وتختار ما فيه الحسنى، بل ما هو أحسن وأفضل.
وهكذا في حياتنا على المسلم أن يختار، وهذا الاختيار حتى نعرف المصلحة من المفسدة كما يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله- يقول: "هو مزلة أقدام، ومضلة أفهام".
أي قد تزل القدم فينحرف عن المصلحة، وضل قليلًا فلا يختار الأصوب والأصلح، أو لا يختار المصلحة.
وهذا من توفيق الله -سبحانه وتعالى- أن يختار المسلم المصلحة دون غيرها، وقد يخطئ الإنسان -سبحان الله!- كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوَّابون»، كل إنسان يُخطئ، فأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في غزوة أحد عندما أمر الرماة بأيش؟
ألا يُغادروا المكان -الجبل- مهما كانت الظروف ولو تخطَّفتهم الطير، لكن لما انتصر المسلمون وبدأ المسلمون المجاهدون في جمع الغنائم إخواننا الذين على أعلى الجبل بعيدين عن متاع الدنيا وحطام الدنيا، بعيدين عن الغنيمة، فخافوا أن تضيع منهم، فما كان منهم إلا أن نزلوا وغادروا المكنا ظنًّا منهم أن ذلك الفعل هو مصلحة، وإلا لو كانوا يعلمون الغيب لما نزلوا مهما كانت الظروف، ولكنهم لما نزلوا ولما لم يستجيبوا لله -سبحانه وتعالى- ولرسوله حصل ما حصل في تلك الغزوة، وأصيب فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي- وكذلك استشهد فيها حمزة وغيره من الشهداء -رضي الله عنهم أجمعين.
فالله -سبحانه وتعالى- ليبين لعباده المصلحة بينها لنا في كتابه أو في سنة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- ولكن قد تكون هناك مصالح، قد تكون في زماننا مصالح، هذه المصالح لا نجد لها أيش؟
لا نجد لها ذكرًا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنجتهد، وقد حثَّنا ديننا على الاجتهاد، وفي حديث معاذ -رضي الله عنه- لما أرسله رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لليمن قال: «بِمَ تحكم؟».
قال: بكتاب الله.
قال: «فإن لم تجد؟».
قال: فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قال: «فإن لم تجد؟».
قال: أجتهد رأيي ولا آلو.
وإن كان الحديث فيه كلام إلا أن الأمة تلقته بالقبول، فأجتهد، فواجب المسلم اليوم أن يجتهد ليعلم المصلحة من المفسدة، وأن يتثبت ويتروى في المسألة كما قال الله -سبحانه وتعالى: ﴿فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾ [الحجرات: 6].
الشاهد: قوله ﴿فتبينوا﴾.
وفي آية أخرى قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6] ، وفي قراءة ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾.
فلابد من التروي والتثبت، لا تغمض عينك وتقول: هذه مصلحة وهذه مفسدة؛ لا، بالصبر، تأكد، اجتهد، واستخدم عقلك الذي ربي -سبحانه وتعالى- أعطاه إياك والذي ميَّزك به عن سائر الكائنات وبه فضلك وبه كلَّفك، فلابد أن تجتهد وتتثبت، فتطيل التأمل هل هذا الفعل فعلًا فيه مصلحة أو ليس بمصلحة
تتثبت وتتأكد لأن عدم التثبت قد يؤدي إلى أيش؟
عدم التثبت قد يؤدي إلى اعتبار المصلحة مفسدة، والمفسدة مصلحة، وإذا عكسنا معنى هذا أن المجتمع يمشي إلى هاوية. لماذا؟
لأننا قلبنا الموازين، فصارت المصلحة مفسدة والمفسدة مصلحة، وانقلبت الموازين، فمعنى هذا أن المجتمع يصسير في داهية -والعياذ بالله.
أما إذا تثبتنا وتأكدنا؛ فذلك يعني أن الأساس أساس متين، وأن المجتمع يمشي على الصراط المستقيم، ونظل -بإذن الله- كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: «لا يضرهم مَن خالفهم إلى يوم القيامة»، لأنهم يعلمون الحق من الباطل، ويعلمون المصلحة من المفسدة حتى ولو زيَّن الشيطان وأتباع الشيطان المفسدة بما شاؤوا، فالخمر مشروبات روحية! ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف: 5].
والربا فوائد! فيه أحد ما يحب الفائدة يا شباب؟! تحبون الفائدة أو لا؟
كلنا نحب الفائدة، لكن إذا انقلبت الموازين وأصبح الربا فائدة فبئست الفائدة.
فقال: لابد من الاجتهاد.
ثم الأمر الآخر: الحذر من الوهم.
أن الإنسان أحيانًا قد يتوهم أن هذا الفعل مصلحة، بناتنا ننبههن خاصَّة مع معسول الكلام، ويجيئها ويضحك عليها بكلمتين، وبيت الشعر قال:
...........** والغواني يغرهن الثناء
فتغتر بكلامه، وتتصور أنه فارس أحلامها، وأنه هو الذي جاء على حصان أبيض ويأخذها ويمشي؛ فتسلم نفسها إليه، وإذا به بعد ذلك يصبح ذئب لابس جلد خروف -نحن نقول "علوش"- صغير وديع!
وإذا كلمتها أمها تقول: أنا أعرف مصلحتي.
تعرف مصلحتها هي! صارت جامعية وتقرأ في الجامعة وأمها مسكينة ما قرأت، وإذا به بعد مدة إذا وقع الفأس في الرأس تقول: يا ليتني!
فلابد من الحذر، ولهذا ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه عندما تحدث عن مثل هذه المسألة قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور: 39].
فالأمر الثالث: الحذر من الهوى، حتى نتبين أن هذا الفعل وهذا الأمر مصلحة أو ليس بمصلحة فلابد من الحذر من الهوى، والهوى ما ذُكر في كتاب الله إلا مقرونًا بأيش؟
بالذَّم، ربي ما يُحب الهوى، فالهوى مذموم، والإنسان أحيانًا كما قيل "النفس طمَّاعة فعوِّدها القناعة"، فالنفس تميل إلى الشهوات، فممكن يلعب الهوى في النفس، وأن هذا شيخي وهذا أستاذي أو هذا مذهبي أو هذا كذا؛ فقد يلعب الهوى في النفس فينحرف الإنسان عن الحق، ينحرف عن المصلحة -والعياذ بالله.
فلابد من الحذر من الهوى، علمًا بأن الشريعة إنما أنزلت لإخراج الناس عن دواعي أهوائهم.
وإلى لقاء آخر، أستودكم الله الذي لا تضيع ودائعه، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه،وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر لنا أجمعين، وألف بين قلوبنا، ووحد على الحق كلمتنا، واجمع شملنا، وبلغ مما يرضيك آملنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات 180-182].
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"