بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 2 مايو 2013


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله ولي الصالحين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
الحمد لله الذي منَّ علينا بالإسلام، وأكرمنا بالقرآن، وجعلنا من أتباع المصطفى -عليه الصلاة والسلام.
اللهم لك الحمد حمدًا طيبًا مباركًا يملأ السماء وأقطارها، والأرض، والبر، والبحر، لك الحمد حمدًا سرمديًّا، يقل مداد البحر عن كتبه حصرًا، لك الحمد مقرونًا بشكرك دائمًا، لك الحمد في الأولى، لك الحمد في الأخرى.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، وخيرته من خلقه الرسول المرتضى، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى مَن سلك سبيلهم أو سار أو استنار بهدي محمد -صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة والأخوات، أقول لكم في مطلع هذا اللقاء:
أهلًا وسهلًا والسلام عليكمُ


وتحية منَّا تُزفُّ إليكمُ

إخواننا من أجمل الدنيا بكم


لا تقبح الدنيا وفيها أنتمُ

فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم -كما جمعنا في هذا المكان المبارك- أن يجمعنا في دار كرامته، وفي مستقر رحمته في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أيها الأحبة، مَن مثلنا اليوم؟! مَن أسعد منَّا مجلسًا اليوم؟! نجتمع في بيت من بيوت الله، نلتقي على شهادة ألا إله إلا الله، عليها ولاؤنا، وعليها براؤنا، نوالي من أجلها، ونعادي من أجلها، إنها كلمة التوحيد الخالدة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
مَن مثلنا -أيها الأحبة- نجني في هذا المجلس الخير، نجني قول نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وهنيئًا لنا الأجر إذا أخلصنا النية لله -جل وعلا- يقول سيدي -صلى الله عليه وسلم: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده».
فأسأل الله -عز وجل- أن يذكرنا فيمن عنده، وأن ينظر إلينا بنظر الرحمة والرضى، وأن يجعلنا وإياكم وإخواننا وأخواتنا وجميع مَن يتابعونا ممن يُقال لهم في نهاية المجلس: انصرفوا مغفورًا لكم، اللهم آمين.
أيها الأحبة، نجتمع في هذه الدورة العلمية، نجتمع لننهل من معين العلم، لستُ بأعلمكم، ولا بأفقهكم، وهنا في هذا المجلس المبارك من علماء الزيتونة ومن مشايخنا مَنْ هم أحق بالحديث؛ لكن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بوَّب في كتابه باب: حديث المفضول في حضرة الفاضل.
فيطرح المسلم ما لديه تذكيرًا لإخوانه، والله -جل وعلا- يقول: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55].
اسمحوا لي -أيها الأحبة- في مطلع هذا اللقاء أن أتحدث ببعض الآيات والأحاديث في فضل العلم ومكانة أهله، في فضل العلم الذي نجتمع جميعًا عليه، ونتحلَّق جميعًا عليه، نرجو -بإذن الله جل وعلا- أن يجعلنا الله -سبحانه- ممن فقَّههم في هذا الدين العظيم.
يأتي عبد الله بن عباس -حَبْرُ الأمة وبحرها وحِبْرُها وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه- فيُقدَّم للنبي -صلى الله عليه وسلم- غلامًا صغيرًا، فيأخذه -عليه الصلاة والسلام- فيُحنَّكَه بريقه -صلى الله عليه وسلم- ثم يدعو له بهذه الدعوات المباركة.
فيقول له -عليه الصلاة والسلام: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل».
ثم تأملوا إلى قول الله -سبحانه وتعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18].
من الذي يشهد؟
إنه الله -جل وعلا.
شهد الله بأعظم شهادة، وهي شهادة الوحدانية لله رب العالمين، ثم الله -جل وعلا- أشهد ملائكته، ثم أشهد أهل العلم، فأهل العلم أشهدهم الله -جل وعلا- وهذا يدل على فضلهم ومكانتهم ومنزلتهم، ثم أشهدهم الله على أعظم مشهود، وهي شهادة التوحيد الخالدة "لا إله إلا الله".
ثم تأملوا -يا رعاكم الله- إلى قول نبينا -صلى الله عليه وسلم: «مَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».
ورد في بعض الأحاديث -وفيها طعن في صحتها: «ومن لم يُرد الله به خيرًا لم يُبالِ به»، لكن الإمام ابن حجر -رحمه الله- قال: "إن الحديث ضعيف، لكن معناه صحيح".
مَن لم يهتم بالعلم، مَن لم يتعلم كيف يُصلي، كيف يزكي، كيف يعبد الله، كيف يُحب الله، كيف يخشع لله؛ فإنه قد قصَّر في حق نفسه، فأعظم أمرٍ يتقرب به العبد إلى الله بعد توحيده وشهادة أن لا إله إلا الله: هو أن يطلب العلم الشرعي.
ثم تأملوا إلى قول نبينا -صلى الله عليه وسلم- اسمع إلى هذا الحديث العظيم: خمس أمور جعلها نبينا -صلى الله عليه وسلم- لمن سلك طريق العلم -نسأل الله أن يجعلنا جميعًا من أهل العلم- يقول سيدي -صلى الله عليه وسلم- كما في سنن أبي داوود عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال -عليه الصلاة والسلام: «مَن سلك» -واحسب معي- «طريقًا يلتمس فيه» تجارة؟! رزقاً؟!- «يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة» هذه واحدة.
«مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة»، ونسأل الله أن يجعلنا جميعًا من أهل هذا الطريق.
«وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع».
قال العلماء: من تواضع الملائكة لأهل العلم أنها تبسط أجنحتها بالدعاء لمعلم الناس الخير.
قال: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».
هنا سؤال يطرحه -كما يقول شيخنا الشيخ محمد حسان- إمامنا ابن القيم، قال: لماذا شبَّه الله -جل وعلا- العالمَ بضوء القمر ولم يشبهه بالشمس مع أن ضوء الشمس أشد؟
قال: لهذا سببان:
الأول: أن العالم لمَّا كان يستمد نوره من الوحي كان كالقمر الذي يستمد نوره من الشمس.
أما الآخر: فلأن القمر يختلف، فالقمر تارة يكون محاقًا، وتارة يكون هلالًا، وتارة يكون بدرًا، وكذلك العلماء، منهم مَن هو كالبدر في تمامه، ومنهم مَن هو دون ذلك، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأنعام: 132].
قال في نهاية الحديث: «وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر».
أتى الصحابي الجليل أبو هريرة -رضي الله عنه- فدخل إلى السوق، فقال للناس وهم يبيعون ويشترون: أنتم ها هنا تبيعون وتشترون وميراث محمد -صلى الله عليه وسلم- يُقسَّم؟!
قالوا: أين يا أبا هريرة؟
قال: في مسجد رسول الله.
ذهب الناس ودخلوا إلى مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فوجودا الناس ما بين تالٍ للقرآن، وما بين عالم، مما بين معلم، مما بين مصلٍّ، قالوا: أين ميراث محمد يا أبا هريرة؟
قال: هذا ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم- فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر.
ما الذي نجنيه؟
إذا تعلمنا العلم؛ لكل شيء ثمرة، فما ثمرة تعلم العلم؟
أول هذه الثمار: الحياة الطيبة التي ننشدها جميعًا، كل واحد منَّا ينشد راحة البال. وطمأنينة النفس واستقرارها، ألسنا كلنا كذلك؟
يقول الله -جل وعلا: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
من أعظم ما يجلب لك الطمأنينة: العلم؛ لأن العلم يكشف الله -عز وجل- به الشبهات، ولأن العلم يعرفك بالله -جل وعلا-، من كان بالله أعلم كان لله أخشى وأتقى له -سبحانه وتعالى.
استمع إلى قول الله -سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97].
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله: "إن العلم حياة ونور، وإن الجهل موت وظلمة، والشر كله بسبب عدم الحياة والنور، والخير كله بسبب الحياة والنور".
ولهذا يجب على المسلم أن يحرص جاهدًا على أن يتعلم العلم وأن يتعلم مع العلم أدبه. ما الأدب؟
طالب العلم مميَّز، مميز في كلامه، مميز في قوله، مميز في عبادته، لابد أن يكون متميزًا عن الآخرين؛ لأن العلم إذا لم يكن صاحبه به عاملًا، فإنه يكون عليه وبالًا، وكم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه -والعياذ بالله.
لا بد أن تحرص على العلم، يقول الإمام أحمد -رحمه الله: "ما استمعتُ إلى حديث صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا عملت به ولو مرة واحدة حتى لا يكون حجة عليَّ عند الله -سبحانه وتعالى".
أدب طالب العلم ثلاثة أنواع، وهذه من الكنوز العظيمة التي يقررها العلماء:
- أعظم الأدب: الأدب مع الله.
- ثم الأدب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
- ثم الأدب مع خلق الله.
كيف يكون الأدب مع الله؟
يقول العلماء: الأدب مع الله بثلاثة أمور:
الأمر الأول: صيانة معاملته أن يشوبها نقيصة، إذا قمت إلى الصلاة فأدِّ الصلاة كما أمر الله -جل وعلا.
الله يقول في كتابه: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]. فأدِّ العبادة كما أمر الله، وأدِّها كما أمر رسول الله، قال -صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
إذن هذا الأمر الأول: صيانة معاملته أن يشوبها نقيصة.
الأمر الآخر: صيانة القلب أن يتلفت إلى غير الله.
انظر إلى قلبك عند الشدائد وعند الرجاء، هل قلبك مع الله أم مع غير الله -جل وعلا؟
إن كان قلبك مع الله فقد تأدبت مع الله -جل وعلا-، إذا نزلت بك المضائق ونزلت بك الشدائد؛ فاجعل رجاءك وتعلقك بالله -سبحانه وتعالى.
الأمر الثالث: صيانة إرادته أن تتعلَّق بما يمقتك عليه، لا تكون إرادات الإنسان وشهواته دائمًا مع نفسه، وإنما تكون لله -سبحانه وتعالى.
الأمر الآخر: الأدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم: يقول الله -جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات: 2].
كان إمام دار الهجرة؛ الإمام مالك -رحمه الله-، كان -رحمه الله- إذا أراد أن يذهب إلى مسجد رسول الله ليعلم الناس حديث رسول الله، اغتسل -رحمه الله- وتبخَّر وتطيَّب، فإذا رفع أحد صوته في مجلسه نهره، وقال: "ترفع صوتك فوق صوت حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟!".
فكان هذا أدبهم مع رسولنا -صلى الله عليه وسلم.
اسمع إلى الأدب: العباس بن عبد المطلب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- قيل له: مَن أكبر؛ أنت أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟
قال: "رسول الله أكبر مني، وأنا أسنُّ منه".
كان الصحابة يقرعون باب النبي -صلى الله عليه وسلم- بأظفارهم أدبًا مع رسول الله -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
وهكذا يجب أن يكون الأدب مع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم.
كيف يعرف المسلم أنه تأدب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟
بثلاثة أمور:
- أولًا: طاعته فيما أمر.
- ثانيًا: اجتناب ما عنه نهى وزجر.
- ثالثًا: ألا يُعبَد الله إلا بما شرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة: فيجب أن يكون أدب العالم وطالب العلم كما أمر الله -عز وجل.
يقول الإمام الجرجاني -رحمه الله:
يَقُولونَ لِيْ فِيْكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّما


رَأَوا رَجلاً عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا

أَرَى النَّاسَ مَن دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهمْ


وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا

وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إِنْ كانَ كُلَّمَا


بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُلَّمَا

إلى أن قال:
ولو أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهَمْ


ولو عَظَّمُوهُ في النُّفُوسِ لَعُظِّمَا

الأمر الآخر: وهو الحديث عن موضوع هذا الدرس، وهو العقيدة، عقيدة الإمام مالك -رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وقبل هذا أقدم بمقدمة عن أهمية هذه العقيدة.
الله -جل وعلا- خلقنا في هذه الحياة، وأوجدنا فيها لحكمة عظيمة وغاية نبيلة، وهي توحيد الله -سبحانه وتعالى.
يقول الله -جل وعلا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، فالله -سبحانه وتعالى- ما خلق الناس سدًى، وما تركهم هملًا لا يُؤمرون ولا يُنهون؛ وإنما خلقهم لحكمة عظيمة وهي عبادة الله -سبحانه وتعالى.
نبينا -صلى الله عليه وسلم- مكث في مكة ثلاثة عشرة سنة، منها ثلاث سنين في دعوته السرية، ثم عشرٌ في دعوته الجهرية، كانت هذه الدعوة منصبة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة -سبحانه وتعالى.
بل إن دعوة الأنبياء جميعًا هي إلى هذا الأصل العظيم.
قال الله في قوم عاد وثمود: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59].
وقال -عز وجل: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أنا أولى بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، الأنبياء إخوة لعلَّات، أمهاتهم شتى -يعني شرائعهم- ودينهم واحد».
ما هو دين الأنبياء؟
الإسلام.
دين محمد -صلى الله عليه وسلم: الإسلام، ودين إبراهيم: الإسلام، ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132].
وقال الله -جل وعلا- عن بلقيس: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 44].
فالإسلام بمعناه العام هو دين جميع الأنبياء والمرسلين -عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم.
بعث الله -جل وعلا- محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؛ ليدعو الناس إلى عبادة الله -جل وعلا- وكان يقول لهم: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59]، وكانت هذه الكلمة وهذه الشهادة تعني أن يتخلى أهل مكة عن عبادة الأصنام والأوثان وعن عبادة غير الله -جل وعلا.
لما أتى أبو جهل والأخنس بن شُريك وسادة أهل مكة إلى عم النبي -صلى الله عليه وسلم- أبي طالب، قالوا: يا أبا طالب، والله ما عدنا نصبر على فعل ابن أخيك، فإما أن تكفه عنَّا أو ننازلك أنت وإياه.
فاستدعى ابن أخيه، وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم.
قال: ما تريد من قومك؟
قال: «أريد منهم كلمة واحدة، إذا قالوها خضعت لهم العرب ودانت لهم العجم، ودفعوا الجزية عن ذلٍّ وهم صاغرون».
قال أبو جهل: وربك عشر كلمات -ليست كلمة، كلمة وتأتي بهذا الخير؟!- لك عشر كلمات.
قال: «قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا».
فقال: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا، إن هذا لشيء عجاب.
كان الناس في جاهلية عمياء، ومن ذلك الرجل الذي كان يعبد صنمًا في أرض الكنانة، يعبد صنمًا يُقال له "سعد"، فكان من عادة العرب قبل الإسلام أن مَن رُزقَ بمائة ناقة يذهب بها إلى هذا الصنم ليُباركها، فرُزِقَ بمائة ناقة، فذهب إلى الصنم، فلما رأت الإبلُ الصنمَ ندَّت وشردت في كل مكان.
فذهب الأعرابي يجمع إبله من هنا ومن هنا حتى غربت الشمس، فلما جمع إبله أراد أن ينصرف، لكنه أراد أن يُعاقب مَن تسبب في هذا الأمر؛ فعاد إلى الصنم فأخذ صخرة وفلع بها رأسه وقال -وكان اسم الصنم سعد:
أَتَيْنَا إِلَـى سَعْدٍ لِيَجْمَـعَ شَمْلَنَـا


فَشَتَّتَنَا سَعْدٌ فَلا كَانَ مِنْ سَعدِ

وَهَلْ سَعْـدُ إِلا صَخْـرَةٌ بِتَنْوفَـةٍ


مِنَ الأَرْضِ لا تَدْعُو إلى غَيٍّ وَلا رُشْدِ

بنو حنيفة كان لهم صنم من تمر فإذا جاعوا أكلوه، فقال عنهم الشاعر:
أَكَلَتْ حَنِيفَةُ رَبَّهَا


زَمَنَ التَّقَحُّمِ والمَجَاعَة

لَمْ يَحْذَرُوا مِن رَبِّهِمْ


سُوءَ العَوَاقِبِ والتِّبَاعَه

فالحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام، ومنَّ علينا بالقرآن.
وهذا التوحيد هو أعظم نعمة على الإطلاق منَّ الله -جل وعلا- بها علينا، أعظم نعمة أن الله -جل وعلا- جعلك من أبوين مُسلمين، وتخرج وتعي وأنت تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
هل تعلمون -أيها الإخوة- أنه في هذا الزمان لا زال هناك مَن يعبد الأصنام؟ هل تعلمون أنه في هذا الزمان مَن لا زال يعبد الفئران؟
هناك مَن يعبد الفئران من دون الله -جل وعلا-، وهناك مَن يعبد الخمور مَن دون الله، ومعابد تُبنى لهذا الأمر، أنت من بين الخلائق جميعًا جعلك الله -عز وجل- من عباده المؤمنين.
الإمام بشر الحافي -رحمه الله- كان يومًا مع تلاميذه يُسامرهم ويجالسهم، فهمَّ أن يخرج في ليلة شاتية، فتتح الباب وأخرج إحدى رجليه ووقف وقوفًا طويلًا، فظن تلاميذه أن سوءً أصابه، فذهبوا إليه قالوا: ما لك -رحمك الله- أصابك مكروه؟ أحل بك شيء؟
قال: "لا، ولكنني تذكرتُ -هو اسمه ماذا؟ بشر- في وقوفي هذا بشرًا اليهودي، وبشرًا النصراني، وبشرًا المجوسي، ثم تذكرتُ نعمة الله عليَّ بأن جعلني بشرًا المسلم من غير حول مني ولا قوة، فأحمد الله على هذه النعمة".
الحمد لله على نعمة الإسلام، اشكروه على هذه النعمة فهي من أعظم النعم على الإطلاق، نسأل الله أن يُميتنا على الإسلام وأن يحيينا على الإسلام، وأن يبعثنا وهو راضٍ عنَّا غير غضبان، إنه جواد كريم.
هذه العقيدة وهذا التوحيد الذي أتى به محمد -صلى الله عليه وسلم- الأصل فيه ومصدر التلقي فيه هو كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النساء: 59]. وقال -سبحانه وتعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [المائدة: 92]. وآيات كثيرة كلها تؤكد على هذا المعنى العظيم وهو وجوب طاعة الله، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
يقول -عليه الصلاة والسلام- واسمع، النبي كان يضرب الأمثال من أجل أن يَنْشَط أصحابه ويوصل لهم المعنى الذي يريد -عليه الصلاة والسلام- قال -صلى الله عليه وسلم: «إنما مثلي ومثلكم: كمثل رجل أتى إلى قومه فقال لهم: يا قوم يا قوم؛ إني رأيت الجيش بعيني، وإنه مصبحكم، وأنا النذير العُريان، فالنجاة النجاة. قال: فأطاعه قوم، فساروا على مهل فنجوا، وعصاه آخرون، فناموا فصبحهم الجيش فأهلكهم، فكذلك مثل مَن أطاعني فيما جئت به ومثل مَن عصاه -صلى الله عليه وسلم».
وهذا التوحيد -أيها الأحبة- على ثلاثة أنواع:
التوحيد الأول: توحيد الله -جل وعلا- في ربوبيته.
والثاني: توحيد الله في ألوهيته.
والثالث: توحيد الله في أسمائه وصفاته.
وعُلمت هذه الأنواع الثلاثة باستقراء كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
ومن أول من استنبط، من أقدم العلماء الذين استنبطوا هذا المعنى الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- في تفسيره.
ما هو توحيد الربوبية؟
توحيد الربوبية: أن نوحِّد الله بأفعاله -سبحانه وتعالى- من خلقنا؟
الله.
من رزقنا؟
الله.
من أحيانا؟
الله.
مَن يميتنا؟
الله.
إنه الله -جل وعلا- هذا هو توحيد الربوبية.
وهذا التوحيد لا يُعلم أحد أنه ضل فيه، حتى فرعون الذي قال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38] ؛ قال حينما أدركه الغرق: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 90].
قال الله -جل وعلا: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 91].
التوحيد الآخر: توحيد الألوهية.
وهو أن نوحد الله بأفعالنا، صلواتنا، زكاتنا، عبادتنا، خشوعنا، كلها يجب أن تكون خالصة لله -سبحانه وتعالى.
الآخر: أن نؤمن بأسماء الله -جل وعلا- وصفاته ونثبتها كما أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ بل نؤمن كما قال الله -جل وعلا- بأنه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
أخيرًا -أيها الأحبة: هذا التوحيد الذي نتعلمه يجب أن يكون له أثر في حياتنا، كيف تعرف أنك وقد وحدت الله؟
لا بد أن يكون لهذا التوحيد أثر، وأثر التوحيد يتأتى من خلال تعظيمنا لله -سبحانه وتعالى.
من نحن؟!
لا شيء أمام ملكوت الله -جل وعلا.
اسمعوا -أيها الأحبة- إلى حديث العباس بن عبد المطلب: يقول العباس -رضي الله عنه وأرضاه: قال -صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون كم بين السماء والأرض؟».
الأرض التي نحن عليها والسماء الدنيا التي نبصرها بأعيننا؛ كم بينها؟
قال -صلى الله عليه وسلم: «بينهما مسيرة خمسمائة سنة، وبين كل سماء وسماء -وكم عددها؟ سبع- مسيرة خمسمائة سنة، وكِثَف كل سماء -يعني سمك السماء الواحدة- مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة وعرش الرحمن -جل وعلا- بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله -جل وعلا- فوق ذلك لا يخفى عليه شيء من كلام بني آدم».
أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تقول: "سبحان مَن وسع سمعه الأصوات، والله لقد أتت المجادِلة -خولة رضي الله عنها- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تجادله في زوجها، وما بيني وبنها إلا جدار، فخفي عليَّ بعض كلامها، وسمعها رب العالمين من فوق سبع سماوات، فأنزل الله: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ [المجادلة: 1]".
تعظيم الله -جل وعلا- يظهر للعبد في أثناء قوله، فلا يقول قولًا إلا أذن الله به، ولا يعمل عملًا إلا ما أمر الله به، ولا يترك نهيًا إلا إذا نهاه الله -جل وعلا.
قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي رافع الخشني، وهو من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرَّم حرمات فلا تنتهكوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها».
فالحمد لله أولًا أن جعلنا من أهل الإسلام، ونسأله ثانيًا أن يجعلنا من المعظمين لله -جل وعلا- رب العالمين، إنه -سبحانه وتعالى- جواد كريم.
أنتم بشوق وأنا كذلك بشوق إلى أن نستمع لفضيلة الشيخ محمد حسان، فيتحفنا بما أجاده الله -عز وجل-، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- بمنِّه وكرمه أن يجزيكم خير الجزاء، وكما جمعنا في هذه الحياة على طاعته أن نجتمع في مستقر رحمته في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
بارك الله فيكم، والآن مع الشيخ -بارك الله فيه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"