بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 17 ديسمبر 2010

فوائد ودروس وعبر

فوائد ودروس وعبر

أولاً: المعجزات الحسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

ظهرت خلال مرحلة حفر الخندق معجزات حسية للنبي صلى الله عليه وسلم, منها تكثير الطعام الذي أعده جابر بن عبد الله، فعن جابر بن عبد الله t قال: إنا يوم الخندق مُحفِّر([1]), فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: «أنا نازل» ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب في الكدية فعاد كثيبًا أهيل([2]) أو أهيم([3]).

قال جابر: فقلت: يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ما كان في ذلك صبر, فعندك شيء؟ فقالت: عندي شعير وعناق([4]), فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم بالبرمة([5]), ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي([6]). قد كادت أن تنضج، فقلت: طُعَيمٌ لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: «كم هو؟» فذكرت له، فقال «كثير طيب», قال: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي. فقال: «قوموا»، فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحكِ جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم, قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال «ادخلوا ولا تضاغطوا»([7]) فجعل يكثر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه, ويقرب إلى أصحابه, ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية، قال: «كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة»([8]).

وهذه ابنة بشير بن سعد تقول: دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية، اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما،
قالت: فأخذتها فانطلقت بها, فمررت برسول الله
صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي, فقال: تعالي يا بنية ما هذا معك؟ فقلت: يا رسول الله، هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغذيانه، قال: هاتيه، قالت: فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط له ثم دعا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغذاء، فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب([9]).

ففي هذين الخبرين معجزات حسية ظاهرة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما يظهر دور المرأة المسلمة في مشاركة المسلمين في جهادهم، فعندما اشتغل المسلمون بحفر الخندق تركوا أعمالهم، وبعدت عنهم أرزاقهم، وقل عنهم القوت, وأصاب الناس جوع وحرمان حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه يشدون على بطونهم الحجارة من شدة الجوع، فكانت المرأة المسلمة تعين المسلمين بإعداد ما قدرت عليه من الطعام([10]).

ومن دلائل النبوة أثناء حفر الخندق إخباره صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر- وهو يحفر معهم الخندق- بأن ستقتله الفئة الباغية, فقتل في صفين وكان في جيش علي([11])، وعندما اعترضت صخرة الصحابة وهم يحفرون، ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات فتفتتت قال إثر الضربة الأولى: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة»، ثم ضربها الثانية فقال: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض»، ثم ضرب الثالثة، وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة»([12]). وقد تحققت هذه البشارة التي أخبرت عن اتساع الفتوحات الإسلامية والإخبار عنها في وقت كان المسلمون فيه محصورين في المدينة يواجهون المشاق والخوف والجوع والبرد القارس([13]).

ثانيًا: بين التصور والواقع:

قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله وصحبتموه؟ قال: نعم، يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال: فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا، فقال حذيفة: يا ابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالخندق([14])، ثم ذكر حديث تكليفه بمهمة الذهاب إلى معسكر المشركين.

هذا تابعي يلتقي بالصحابي حذيفة ويتخيل أنه لو وجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستطاع أن يفعل ما لم يفعله الصحابة الكرام، والخيال شيء والواقع شيء آخر، والصحابة رضي الله عنهم بشر، لهم طاقات البشر، وقدراتهم، وقد قدموا كل من يستطيعون، فلم يبخلوا بالأنفس فضلا عن المال والجهد، وقد وضع صلى الله عليه وسلم الأمور في نصابها بقوله: «خير القرون قرني» فبين أن عملهم لا يعدله عمل.

إن الذين جاءوا من بعد، فوجدوا سلطان الإسلام ممتدًا، وعاشوا في ظل الأمن والرخاء والعدل، بعيدين عن الفتنة والابتلاء، هم بحاجة إلى نقلة بعيدة يستشعرون من خلالها أجواء الماضي بكل ما فيه من جهالات وضلالات وكفر، وبعد ذلك يمكنهم تقدير الجهد المبذول من الصحابة حتى قام الإسلام في الأرض([15]).

ثالثًا: سلمان منا أهل البيت([16]):

قال المهاجرون يوم الخندق: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول
الله
صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت([17])، وهذا الوسام النبوي الخالد لسلمان يشعر بأن سلمان من المهاجرين؛ لأن أهل البيت من المهاجرين([18]).

رابعًا: الصلاة الوسطى:

قال صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس»([19]).

وقد استدل طائفة من العلماء بهذا الحديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، كما هو منصوص عليه، وألزم القاضي الماوردي مذهب الشافعي بهذا لصحة الحديث، وقد استدل طائفة من العلماء بهذا الصنيع على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال كما هو مذهب مكحول والأوزاعي([20]).

قال الدكتور البوطي: لقد فاتت النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر كما رأيت في هذه الموقعة، لشدة انشغاله، حتى صلاها قضاء بعدما غربت الشمس. وفي روايات أخرى غير الصحيحين أن الذي فاته أكثر من صلاة واحدة، صلاها تباعًا بعدما خرج وقتها وفرغ لأدائها، وهذا يدل على مشروعية قضاء الفائتة، ولا ينقض هذه الدلالة ما ذهب إليه البعض من أن تأخير الصلاة لمثل ذلك الانشغال كان جائزًا إذ ذاك ثم نسخ حينما شرعت صلاة الخوف للمسلمين رجالاً وركبانًا عند التحام القتال بينهم وبين المشركين، إذ النسخ على فرض صحته ليس واردًا على مشروعية القضاء، وإنما هو وارد على صحة تأخير الصلاة بسبب الانشغال, أي أن نسخ صحة التأخير ليس نسخًا لما كان قد ثبت من مشروعية القضاء أيضًا، بل هي مسكوت عنها, فتبقى على مشروعيتها السابقة([21]).

خامسًا: الحلال والحرام:

عرضت قريش فداء مقابل جثة عمرو بن ود، فقال صلى الله عليه وسلم: «ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية فلم يقبل منهم شيئًا».

حدث هذا والمسلمون في ضنك من العيش، ومع ذلك فالحلال حلال والحرام حرام، إنها مقاييس الإسلام في الحلال والحرام، فأين هذا من الناس المحسوبين على المسلمين الذين يحاولون إيجاد المبررات لأكل الربا وما شابهه؟([22])

سادسًا: شجاعة صفية عمة الرسول صلى الله عليه وسلم:

كان صلى الله عليه وسلم قد وضع النساء والأطفال في حصن فارع وهو حصن قوي، حماية لهم؛ لأن المسلمين في شغل عن حمايتهم لمواجهتهم جيوش الأحزاب, فعندما نقض يهود بني قريظة عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت يهوديًّا ليستطلع وضع الحصن الذي فيه نساء المسلمين وأطفالهم, فأبصرته صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت عمودًا ونزلت من الحصن فضربته بالعمود فقتلته، فكان هذا الفعل من صفية رادعًا لليهود من التحرش بهذا الحصن الذي ليس فيه إلا النساء والأطفال، حيث ظنت يهود بني قريظة أنه محمي من قبل الجيش الإسلامي، أو أن فيه على الأقل من يدافع عنه من الرجال([23]), ففي هذا الخبر دليل للمرأة في الدفاع عن نفسها إن لم تجد من يدافع عنها([24]).

سابعًا: عدم صحة ما يروى عن جبن حسان t:

ففي قصة صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلها لليهودي جاء في رواية سندها ضعيف([25]) أن صفية -رضي الله عنها- قالت لحسان بن ثابت: إن هذا اليهودي يطيف بالحصن كما ترى، ولا آمنه أن يدل على عورتنا من ورائنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله، فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت صفية: فلما قال ذلك، احتجزت عمودًا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت الحصن، فقلت: يا حسان انزل فاستلبه، فإنه لم يمنعني أن استلبه إلا أنه رجل، فقال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب([26]).

وهذا الخبر لا يصح لأمور منها:

1- من حيث الإسناد فالخبر ليس مسندًا, وهو ساقط لا يصح ولا يجوز أن يروى، فيساء إلى صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينافح عن الدعوة وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمره كله.

2- لو كان حسان بن ثابت t معروفًا بالجبن الذي ذكر عنه لهجاه أعداؤه ومبغضوه بهذه الخصلة الذميمة, لا سيما الذين كان يهاجيهم، فلم يسلم من هجائه أحد من زعماء الجاهلية، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤيده ويدعو له، ويشجعه على هجاء زعماء المشركين([27]).

ثامنًا: أول مستشفى إسلامي حربي:

أنشأ المسلمون أول مستشفى إسلامي حربي في غزوة الأحزاب, فقد ضرب الرسول صلوات الله وسلامه عليه خيمة في مسجده الشريف في المدينة، عندما دارت رحى غزوة الأحزاب, فأمر صلى الله عليه وسلم أن تكون رفيدة الأسلمية الأنصارية رئيسة ذلك المستشفى النبوي الحربي، وبذلك أصبحت أول ممرضة عسكرية في الإسلام([28]), وجاء في السيرة النبوية لابن هشام:... وكان صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رفيدة، في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من به ضيعة من المسلمين، وكان صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصاب سعد بن معاذ السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب»([29]).

ويفهم من النص السابق أن من أصيب من المسلمين إن كان له أهل اعتنى به أهله، وإن لم يكن له أهل، جيء به إلى المسجد حيث ضربت خيمة فيه لمن كانت به ضيعة من المسلمين، وسعد بن معاذ الأوسي، ليس به ضيعة، ولكن لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم الاطمئنان عليه باستمرار، جعله في تلك الخيمة التي أعدت لمن به ضيعة وليس له أهل، ذلك أن هؤلاء هم في رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإلا فلم ضربت الخيمة في المسجد، وكان بالإمكان ضربها في أي مكان آخر؟

إن سعد بن معاذ يكرم لمآثره وما بذله في سبيل الله تعالى، فيكون هذا التكريم أن يجعل في خيمة أعدت لمن به ضيعة، وهكذا حينما يرتفع السادة يجعلون مع المغمورين الذين أخلصوا أعمالهم لله تعالى فاستحقوا أن يكونوا في رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم([30]), وهذا منهج نبوي كريم أصبح دستورًا للمسلمين على مدى الزمن.

تاسعًا: المسلم يقع في الإثم ولكنه يسارع في التوبة:

أرسل بنو قريظة إلى أبي لبابة بن عبد المنذر -وكانوا حلفاءه- فاستشاروه في النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأشار إلى حلقه يعني الذبح، ثم ندم فتوجه إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فارتبط به حتى تاب الله عليه، وقد ظل مرتبطًا بالجذع في المسجد ست ليالٍ تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط في الجذع([31])، وقد قال أبو لبابة: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليَّ مما صنعت: قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك فقلت: مم تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنك. قال: تيب على أبي لبابة، قالت: قلت: أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئتِ، فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك قالت: فثار الناس ليطلقوه فقال: لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده. فلما مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجًا إلى صلاة الصبح أطلقه([32]). وذلك في الاعتراف بالذنب والتوبة النصوح، وإن موطن العبرة في هذا الموقف يكمن في تصرف أبي لبابة بعدما وقعت منه هذه الزلة التي أفشى بها سرًّا حربيًّا خطيرًا، فأبو لبابة لم يحاول التكتم على ما بدر منه والظهور أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بمظهر الرجل الذي أدى مهمته بنجاح, وأنه لم يحصل منه شيء من المخالفات، وكان بإمكانه أن يخفي هذا الأمر حيث لم يطلع عليه أحد من المسلمين، وأن يستكتم اليهود أمره، ولكنه تذكر رقابة الله عليه وعلمه بما يسر ويعلن، وتذكر حق رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيم عليه وهو الذي ائتمنه على ذلك السر، ففزع لهذه الزلة فزعًا عظيمًا([33])، وأقر بذنبه واعترف به وبادر إلى العقوبة الذاتية التلقائية، دون انتظار التحقيق وتوقيع العقوبة الواجبة، إنها صورة تطبيقية لقوله تعالى: ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) [النساء: 17].

إنها صورة فريدة لتوقيع العقوبة من الإنسان نفسه على نفسه... ولا يفعل ذلك إلا أهل الإيمان، وما ذلك إلا من آثار الإيمان العميق الراسخ، الذي لا يرضى لصاحبه أن يخالطه إثم أو فسوق. وقد فرح الصحابة وفرح النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، بتوبة الله على أبي لبابة، وتسابقوا إلى تهنئته حتى كانت أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم هي التي بادرت بالتهنئة بعد الإذن فبشرته
بقبول الله توبته([34]). وقد أنزل الله تعالى في أبي لبابة قوله تعالى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [الأنفال: 27]. ونزل في توبته قوله تعالى: ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة: 102]([35]).

عاشرًا: من فضائل سعد بن معاذ t:

ظهرت لسعد بن معاذ t في هذه الغزوة فضائل كثيرة تدل على فضله ومنزلته عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم منها:

* استجابة الله تعالى لدعائه عندما قال: (اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك صلى الله عليه وسلم وأخرجوه، اللهم فإن بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك)، وقد استجيب دعاؤه فتحجر جرحه، وتماثل للشفاء([36]) حتى كانت غزوة بني قريظة، وكان سعد قد دعا أيضًا: (ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة([37])، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إليه، فحكم فيهم بالحق ولم تأخذه في الله لومة لائم, وهذا دليل على تجرد قلبه لله تعالى([38]).

* ومن إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله للأنصار عندما جاء سعد للحكم في بني قريظة: «قوموا إلى سيدكم»([39]). وهذا تكريم لسعد، وتقدير لشجاعته حيث سماه سيدًا، وأمر بالقيام له([40]).

* وعندما نفذ حكم الله في يهود بني قريظة رفع سعد يده يدعو الله ثانية يقول: اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم (يعني قريشًا والمشركين), فإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها([41]), وقد استجيب دعاؤه فانفجر جرحه تلك الليلة ومات رحمه الله([42]). ومن خلال دعائه الأول والثاني، نلحظ هذا الدعاء العجيب، دعاء العظماء الذين يعرفون أن رسالتهم في الحياة ليست الاستشهاد فقط، بل متابعة الجهاد إلى اللحظة الأخيرة، فهو المسؤول عن نصرة الإسلام في قومه وأمته([43]).

* ونرى من سيرته أنه لو أقسم على الله لأبره، فهو وجيه في السماوات والأرض، فقد شاءت إرادة المولى تعالى أن يعيد الأمر في بني قريظة كله إليه، وأن يطلب بنو قريظة أن يكون الحكم فيهم لسعد بن معاذ.

* إنه لم يحرص كثيرًا على الحياة، بعد انتهاء الجهاد، وانتهاء المسئولية وتأدية الأمانة المناطة به في قيادة قومه لحرب الأحمر والأسود من الناس، فإذا انتهت الحروب ووضعت بين المسلمين وقريش, وشفى غيظ قلبه في الحكم في بني قريظة، وبدا قطف الثمار للإسلام فلا ثمرة أشهى من الشهادة (فافجر جرحى واجعل موتي فيه)([44]).وقد تحققت آماله، فقد أصدر حكمه في بني قريظة وشهد مصرع حلفاء الأمس أعداء اليوم، وها هو جرحه ينفجر([45]). وعندما انفجر جرحه نقله قومه فاحتملوه إلى بني عبد الأشهل إلى منازلهم، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: انطلقوا فخرج وخرج معه الصحابة، وأسرع حتى تقطعت شسوع نعالهم، وسقطت أرديتهم، فقال: إني أخاف أن تسبقنا الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة، فانتهى إلى البيت وهو يغسل، وأمه تبكيه وتقول:

ويل أم سعد سعدًا حزامــــة وجــــــدًّا

فقال: كل نائحة تكذب إلا أم سعد، ثم خرج به, وقال: يقول له القوم: ما حملنا يا رسول الله ميتًا أخف علينا منه قال: «وما يمنعه أن يخف؟ وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط قبل يومهم قد حملوه معكم»([46]).

وقد جاء في النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما عدد الملائكة الذين شاركوا في تشييع جنازة سعد فقد قال صلى الله عليه وسلم: «هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش، وفُتحت أبواب السماء، وشهده سبعون ألفًا من الملائكة, لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك، لقد ضم ضمة ثم أفرج عنه»([47]) يعني سعدًا.

وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع سعدًا كما روى عبد الله بن شداد: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكيد نفسه فقال: «جزاك الله خيرًا من سيد قوم، فقد أنجزت ما وعدته، ولينجزك الله ما وعدك»([48]).

* لقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العبد الصالح بعد موته كثيرًا أمام الصحابة ليتعرف الناس على أعماله الصالحة فيتأسوا به([49])، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ»([50]) وفي حديث البراء بن عازب t قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يلمسونه ويعجبون من لينها، فقال: «أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين»([51]).

ومع كل هذه المآثر والمحاسن والأعمال الجليلة التي قدمها لخدمة دين الله، فقد تعرض لضمة القبر: لما انتهوا إلى قبر سعد t نزل فيه أربعة: الحارث بن أوس، وأسيد بن الحضير، وأبو نائلة سلكان، وسلمة بن سلامة بن وقش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف، فلما وضع في قبره، تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبح ثلاثًا، فسبح المسلمون حتى ارتج البقيع ثم كبَّر ثلاثًا، وكبَّر المسلمون، فسئل عن ذلك فقال: «تضايق على صاحبكم القبر، وضم ضمة لو نجا منها أحد لنجا هو، ثم فرج الله عنه»([52]).

إن هذا الصحابي الجليل قد استُشهد وهو في ريعان شبابه، فقد كان في السابعة والثلاثين من عمره، يوم وافته منيته، وهذا يعني أنه قاد قومه إلى الإسلام وهو في الثلاثين من عمره، فقد كانت هذه السيادة في العشرينيات من عمره، وقبل أن يكون على مشارف الثلاثين، وإنما تنفجر الطاقات الكامنة والمواهب بعد سن الأربعين التي هي غاية الرشد قال تعالى: ( وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) [الأحقاف: 15]. فأي طراز هذا الذي حفل تاريخه بهذه المآثر، واستبشر أهل السماوات بقدومه, واهتز عرش الرحمن فرحًا لوفاته، من دون خلق الله أجمعين([53]). كان سعد بن معاذ، رجلا أبيض، طوالاً، جميلاً، حسن الوجه، أعين، حسن اللحية([54]), رحمة الله عليه ورضي عنه، وأعلى ذكره في المصلحين.

حادي عشر: مقتل حيي بن أخطب وكعب بن أسد:

1- مقتل حيي بن أخطب النضري:

روى عبد الرزاق في مصنفه بالسند إلى سعيد بن المسيب، فذكر بعض خبر الأحزاب وقريظة إلى أن قال: فلما فض الله جموع الأحزاب انطلق -يعني حيي- حتى إذا كان بالروحاء ذكر العهد والميثاق الذي أعطاهم، فرجع حتى دخل معهم، فلما أقبلت بنو قريظة أتي به مكتوفًا بعد، فقال حيي للنبي صلى الله عليه وسلم: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يُخذل، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فضربت عنقه([55]). ثم أنه أقبل على الناس قبل تنفيذ حكم الإعدام وقال لهم: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه([56]).

وفي مقتل حيي بن أخطب دروس وعبر منها:

أ- لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله: فقد ألَّب القبائل العربية واليهودية على محاربة الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم, وأقنع بني قريظة بضرورة نقض العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم وطعْنه من الخلف، فجعل الله كيده في نحره وكبته، وفي النهاية قادته محاولاته إلى حتفه. إن الله لا يهمل الظالمين، ولكن يمهلهم ويستدرجهم حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فكان أخذه أليمًا شديدًا
قال
صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»([57]) ثم تلا قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) [هود: 102].

ب- التجلد في مواطن الشدة: لقد تجلد حيي وتقدم لتضرب عنقه حتى لا يشمت فيه شامت, وهو يعرف أنه على باطل، ظالم لنفسه، قد أوردها موارد الهلاك، ومع هذا يموت على ذلك، والعزة بالإثم تأخذه إلى جهنم وبئس المصير؛ لأنه يعبد هواه، ولا يعبد ربه, قال تعالى: ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) [الجاثية: 23].

ج- من يخذل الله يخذل: إن الله تعالى إذا خذل أحدًا ليس له نصير يمنعه أو يدفع عنه، قال سبحانه: ( إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [آل عمران: 160].

كما أن عداوة حيي للرسول صلى الله عليه وسلم باعثها الحسد والحقد؛ ولذلك عبر حيي صراحة أن الله لم يكن معه يومًا من الأيام، بل كان حيي في شق الشيطان عدوًّا لأولياء الرحمن، يشاقق الله، فالله خاذله ومُسْلِمه لكل ما يؤذيه ويتعبه، ولا توجد قوة في الأرض ولا في السماء تنصره وتحول بينه وبين الهزيمة؛ لأن إرادة الله هي النافذة, وقدره هو الكائن، لا رادَّ لقضائه، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء([58]). قال تعالى: ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الأنعام: 17].

2- مقتل كعب بن أسد القرظي:

وجيء برئيس بني قريظة كعب بن أسد، وقبل أن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنقه جرى بينه وبين كعب الحوار التالي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كعب بن أسد؟». قال كعب بن أسد: نعم يا أبا القاسم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدقًا بي، أما أمركم باتباعي، وإن رأيتموني تقرئوني منه السلام؟». قال كعب: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكني على دين يهود. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه فضربت([59]).

ومما ترويه كتب السيرة النبوية عن يهود بني قريظة أنهم كانوا يرسلون طائفة تلو طائفة لتضرب أعناقهم، وقد سألوا زعيمهم كعب بن أسد فقالوا: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذُهب به منكم لا يرجع؟ هو والله القتل([60]).

ونلحظ خبر مقتل كعب بن أسد، أنه كان متعصبًا ليهوديته وهو يعلم بطلانها, وأنه على علم بصدق رسالة رسولنا صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يؤمن ولم يدخل الإسلام خوفًا من أن تعيره يهود بأنه جزع من السيف، فعدم إيمانه وبقاؤه على الكفر كان نتيجة ريائه، وحبه للثناء وخوفه من ذمه وتعييره، وهذا دليل على السفه والحمق وخذلان الله لهذا اليهودي المخادع([61]).

ثاني عشر: شفاعة ثابت بن قيس في الزبير بن باطا، وسلمى بنت قيس في رفاعة بن سمؤال:

1- شفاعة ثابت بن قيس في الزبير بن باطا:

أقبل ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هب لي الزبير اليهودي أجزه, فقد كانت له عندي يد يوم بعاث، فأعطاه إياه، فأقبل ثابت حتى أتاه فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفني؟ فقال: نعم، وهل ينكر الرجل أخاه، قال ثابت: أردت أن أجزيك اليوم بيد لك عندي يوم بعاث، قال: فافعل، فإن الكريم يجزي الكريم، قال: قد فعلت، قد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبك لي، فأطلق عنه إساره، فقال الزبير: ليس لي قائد، وقد أخذتم امرأتي وابني، فرجع ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوهبه امرأته وبنيه فوهبهم له، فرجع ثابت إلى الزبير فقال: رد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتك وبنيك، فقال الزبير: حائط لي فيه أعذق، وليس لي ولا لأهلي عيش إلا به، فرجع ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبه له، فرجع ثابت إلى الزبير فقال: قد رد إليك رسول الله أهلك ومالك، فأسلم تسلم، قال: ما فعل الجليسان؟([62]) وذكر رجال قومه، قال ثابت: قد قتلوا وفُرغ منهم، ولعل الله تبارك وتعالى أن يكون أبقاك لخير، قال الزبير: أسألك بالله يا ثابت وبيدي التي عندك يوم بعاث إلا ألحقتني بهم، فليس في العيش خير بعدهم، فذكر ذلك ثابت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالزبير فقُتل([63]).

2- شفاعة سلمى بنت قيس في رفاعة بن سمؤال القرظي:

كانت سلمى بنت قيس وكنيتها أم المنذر أخت سليط بن قيس، وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد صلت معه القبلتين، وبايعته بيعة النساء, سألته رفاعة ابن سمؤال القرظي، وكان رجلا قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك فقالت: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، هب لي رفاعة، فإنه قد زعم أنه سيصلي ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها، فاستحيته([64]). وفي هذا الخبر دليل على أن الإسلام يكرم المرأة ويعتبر شفاعتها، هذه هي معاملة المرأة في هذا الدين، إنه يكرمها، ويساعدها ويشجعها على فعل الخير([65]).

ثالث عشر: من أدب الخلاف:

في اختلاف الصحابة في فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»([66]), فبعضهم فهم منه المراد الاستعجال، فصلى العصر لما دخل وقته, وبعضهم أخذ بالظاهر فلم يصل إلا في بني قريظة, ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا منهم أو عاتبه، ففي ذلك دلالة هامة على أصل من الأصول الشرعية الكبرى وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كل من المتخالفين معذورًا ومثابًا، كما أن فيه تقريرًا لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية، وفيه ما يدل على أن استئصال الخلاف في مسائل الفروع التي تنبع من دلالات ظنية أمر لا يمكن أن يتصور أو يتم([67]).

إن السعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل، إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما دام دليلها ظنيًّا محتملاً؟... ولو أمكن ذلك أن يتم في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان أولى الناس بألا يختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما رأيت؟([68]) وفي الحديث السابق من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث نبوي أو آية من كتاب الله، كما لا يعاب من استنبط من النص معنى يخصه، وفيه أيضا أن المختلفين في الفروع من المجتهدين لا إثم على المخطئ, فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد»([69]).

وحاصل ما وقع أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت وقت الصلاة توجيهًا لهذا النهي الخاص على النهي العام عن تأخير الصلاة عن وقتها([70]).

وقد علق الحافظ ابن حجر على هذه القصة فقال: ثم الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد, فيستفاد منه عدم تأثيمه، وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النص على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحًا للنهي الثاني على النهي الأول، وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق، والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة، وأنه كناية على الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة، وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدًا من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم([71]).

رابع عشر: توزيع غنائم بني قريظة وإسلام ريحانة بنت عمرو:

1- جمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم التي خلفها بنو قريظة، فكانت من السيوف ألفًا وخمسمائة سيف، ومن الرماح ألفي رمح، ومن الدروع ثلاثمائة درع، ومن التروس ألفًا وخمسمائة ترس وجحفة، كما تركوا عددًا كبيرًا من الشياه والإبل وأثاثًا كثيرًا وآنية كثيرة، ووجد المسلمون دنانًا من الخمر، فوزعت الغنائم وهي الأموال المنقولة كالسلاح والأثاث وغيرها بين المحاربين من أنصار ومهاجرين ممن شهدوا الغزوة، فأعطي أربعة أخماس الغنائم لهم، إذ جعل للفرس سهمين، وللراجل سهمًا، فالفارس يأخذ ثلاثة أسهم له ولفرسه، وغير الفارس يأخذ سهمًا واحدًا له، والخمس المتبقي هو سهم الله ورسوله المقرر في كتابه تعالى([72]).

وأما ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من الخمر عند بني قريظة فقد أراقوه ولم يأخذوا منه شيئًا، ولم ينتفعوا به كذلك، وقد أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لسويد بن خلاد الذي قتلته المرأة اليهودية بالرحى، وأعطى سهمه لورثته([73]), ولصحابي آخر مات أثناء حصار بني قريظة([74]), كما رضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء اللواتي حضرن ولم يسهم لهن، منهن: صفية بنت عبد المطلب، وأم عمارة، وأم سليط، وأم العلاء، والسميراء بنت قيس، وأم سعد بن معاذ([75]), وأما الأموال غير المنقولة كالأراضي والديار فقد أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين دون الأنصار، وأمر المهاجرين أن يردوا إلى الأنصار ما أخذوه منهم من نخيل
وأرض، وكانت على سبيل العارية، ينتفعون بثمارها([76]), قال تعالى عن تلك
الأراضي والديار:
( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) [الأحزاب: 27].

قال الأستاذ محمد دروزة: أما عبارة «وأرضا لم تطؤوها» فقد قال المفسرون: إنها أرض خيبر، وإن الجملة بشرى سابقة لفتحها، غير أن الذي تلهم روح الآية ومضمونها على ما يتبادر لنا أنها أرض لبني قريظة بعيدة عن مساكنهم، آلت إلى المسلمين دون حرب أو حصار، ونتيجة للمصير الذي صار إليه أصحابها([77]). هذا وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة t بالخمس من الذرية والنساء إلى الشام فباعها، واشترى بالثمن سلاحًا وخيلاً ليستعين به المسلمون في معاركهم مع الأعداء من يهود ومشركين، وكذلك بعث إلى نجد سعد بن زيد فباع سبيًا واشترى سلاحًا([78]).

2- إسلام ريحانة رضي الله عنها: وكان من بين السبي ريحانة بنت عمرو بن خنافة إحدى نساء بني عمرو من بني قريظة قد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها بعد أن تسلم، فترددت، وبقيت وقتًا على دينها، ثم شرح الله صدرها للإسلام فأسلمت، فبعثها إلى بيت أم منذر بنت قيس حتى حاضت ثم طهرت، فجاءها وخيَّرها: أيعتقها ويتزوجها أو تكون في ملكه صلى الله عليه وسلم؟ فاختارت أن تكون في ملكه رضي الله عنها([79]).

خامس عشر: الإعلام الإسلامي في غزوة الأحزاب:

قام شعراء الصحابة بدورهم الجهادي، فقالوا قصائد رائعة وضحوا بها موقف المسلمين في غزوة الأحزاب, نقتطف منها أبياتًا منها كنماذج لهذه القصائد، فمن ذلك قول كعب بن مالك، أخو بني سلمة:

ولو شهدت رأتنا صابرينا

وسائلة تسائل ما لقينا

على ما نابنا متوكلينا

صبرنا لا نرى لله عدلاً

به نعلو البرية أجمعينا

وكان لنا النبي وزير صدقٍ

وكانوا بالعداوة مرصدينا([80])

نقاتل معشرا ظلموا وعقوا

بضرب يعجل المتسرعينا

نعالجهم إذا نهضوا إلينا

كغدران الملا متسربلينا([81])

ترانا في فضافض سابغات

إلى أن قال:

نكون عباد صدق مخلصينا

لننصر أحمدًا والله، حتى

وأحزاب أتوا متحزبينا

ويعلم أهل مكة حين ساروا

وأن الله مولى المؤمنينا

بأن الله ليس له شريك

فإن الله خير القادرينا

فإما تقتلوا سعدًا سفاها

تكون مقامة للصالحينا
ا

سيدخله جنانا طيبات

بغيظكم خزايا خائبينا

كما قد ردكم فلا شريدًا

وكدتم أن تكونوا دامرينا

خزايا لم تنالوا ثم خيرًا

فكنتم تحتها متكمِّهينا([82])

بريح عاصف هبت عليكم

* * *




([1]) محفر: اسم فاعل من حفَّر.

([2]) أهيل: رملاً سائلاً. انظر: النهاية في غريب الحديث (5/289).

([3]) أهيم: الرمل الذي لا يتمالك، انظر: لسان العرب (3/858).

([4]) العناق: الأنثى من أولاد الماعز، انظر: النهاية في غريب الحديث (3/310).

([5]) البرمة: هي القدر مطلقًا، انظر: النهاية في غريب الحديث (1/121).

([6]) الأثافي: الحجارة التي تنصب ويجعل القدر عليها، انظر: القاموس المحيط (3/120)

([7]) ولا تضاغطوا: أي لا تزاحموا. انظر: لسان العرب (2/537).

([8]) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق (5/55) رقم 4101.

([9]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/241). (2) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص175.

([11]) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص448.

([12])المصدر نفسه، ص449. (5) انظر: نضرة النعيم (1/325).

([14]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/255)

([15]) انظر: من معين السيرة للشامي، ص291.

([16]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/247).

([17]) المصدر نفسه (3/247) ضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير.

([18]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/108).

([19]) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق رقم 4111.

([20]) انظر: الأساس في السنة (2/682).

([21]) انظر: فقه السيرة النبوية، ص223. (2) انظر: من معين السيرة، ص294.

([23]) انظر: الرحيق المختوم، ص283، 284.

([24]) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/246).

([25]) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص365. (4) المصدر نفسه، ص365.

(1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص365. (2) انظر: غزوة الأحزاب، الدكتور أبو فارس.

([28]) انظر: المستشفيات الإسلامية، الدكتور عبد الله السعيد، ص43.

([29]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/263).

([30]) انظر: من معين السيرة، ص294. (2) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/286).

([32]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/262).

([33]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/165).

([34]) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص261.

([35]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، (3/262).

([36]) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص228.

([37]) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود (3/1389) رقم 1769.

([38]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/170).

([39]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/263).

([40]) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص265.

([41]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/275).

([42]) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص228. (2) انظر: التربية القيادية (3/70).

([44]) انظر: التربية القيادية (4/71). (4) المصدر نفسه (4/74).

([46]) انظر: سير أعلام النبلاء (1/287) إسناده حسن.

([47]) انظر: سير أعلام النبلاء (1/295) إسناد صحيح، أخرجه النسائي (4/100) في الجنائز.

([48]) انظر: سير أعلام النبلاء (1/288) رجاله ثقات. (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/171).

([50]) مسلم، فضائل الصحابة رقم 2466. (4) مسلم، فضائل الصحابة، رقم 2468.

([52]) انظر: التربية القيادية (4/77)، نقلا عن مسند الإمام أحمد (6/141).

([53]) انظر: القيادة الربانية (4/78). (6) انظر: سير النبلاء (1/290).

([55]) انظر: مصنف عبد الرزاق (5/371) رقم 9727.

([56]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/265).

([57]) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (2/112).

([58]) انظر: الصراع مع اليهود (2/113، 114). (2،3) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/368).

(4) انظر: الصراع مع اليهود (2/115).

([62]) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/372). (2،3) المصدر نفسه (1/373).

(4) انظر: الصراع مع اليهود (2/116).

([66]) البخاري، كتاب المغازي، (5/60) رقم 4119. (6) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص226.

(1) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص226. (2) سنن أبي داود (3557).

([70]) المستفاد من قصص القرآن (2/286). (4) اختصار من فتح الباري (7/473).

([72]) انظر: الصراع مع اليهود (2/96، 97).

([73]) المصدر نفسه (2/97).

([74]،2) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/375).

([76]) انظر: الصراع مع اليهود (2/98). (4) انظر: سيرة الرسول لعزة دروزة (2/202).

([78]) انظر: الصرع مع اليهود (2/98). (6) المصدر نفسه (2/99).

([80]) المرصد: المعد للأمر عدته.

([81]) متسربلينا: بلبسون الدروع

([82]) متكمهينا: العمى الذين لا يبصرون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"