بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 31 أكتوبر 2010

اتجهات الأسلوبية

اتجاهات الأسلوبية:‏
راح الأسلوبيون ـ في إطار البحث الأسلوبي ـ يدرسون النصوص الأدبية، فهناك من قارب الظاهرة الأسلوبية بدءاً بعلاقة المبدع بالنص، وهنا انصب جهدهم على دراسة مدى انعكاس شخصية المبدع في نصه، وتصبح الرسالة اللغوية حينها مطية للتعريف بشخصية المبدع، مما يدخل في إطار علم النفس اللغوية إذا اعتبرنا هذا الأخير أحد مناهج المقاربة الأسلوبية.‏
كما أننا نجد بعضهم الآخر قد حشد اهتمامه في دراسة النصوص وعلاقتها بمتلقيها، إذ يهتم بمدى استجابة القارئ للنصوص وأهميته في ذلك، حيث يعد المتلقي، من خلال ملاحظاته منطلقاً طبيعياً لفحص الرسالة اللغوي الحاملة للنص.‏
وهناك فريق آخر أقصى كلاً من المبدع والمتلقي في مقاربته للنصوص الإبداعية، وأبقى على النص وحده، إذ يرى أن النص هو الوحيد الذي باستطاعته ـ إلى حد ما ـ الكشف عن محموله الدلالي من خلال خواصه اللغوية التي تميزه عن نص آخر، أو يتميز بها كاتبه عن كاتب آخر.‏
ومن ثم نجد أن مقاربة الظواهر الأسلوبية، سواء ربطنا النص بمنشئه، أو متلقيه، أو اقتصرنا عليه دون منشئه ولا متلقيه، ـ تحتم علينا لا محالة اتخاذ الإحصاء منهجاً لرصد الظواهر الأسلوبية الكامنة في النصوص.‏
الأسلوبية التعبيرية [شارل بالي"> 1865ـ 1947:‏
وهذا ما دأب عليه شارل بالي وأتباعه من الأسلوبيّين في تعاملهم مع النصوص الأدبية، انطلاقاً من المنهج الأسلوبي الذي يدرس لغة الخطاب سبراً لأغوارها، وماكان له ذلك لو لم ينحو منحى الدراسات اللسانية الحديثة، التي امتطت العلمية الوصفية سبيلاً لمدارسة النصوص من خلال لغتها ضمن تزامنيتها في إطار النسق المغلق المتمثل في النص.‏
(الأسلوبية) أو (الأسلوبيات) أو (علم الأسلوب) كلمات مشتقة من الأسلوب، تشكل اتجاهاً نقدياً يعتني بمقاربة الجوانب الأسلوبية في النصوص الإبداعية، وقد ظهرت خلال القرن التاسع عشر في النقد الغربي، لكن ملامحها كمنهج نقدي لم يحدد إلا في بداية القرن العشرين مع "شارل بالي" (1947. 1855. C. Bally) ، بعد أن كانت متداخلة مع علم البلاغة في التراث اللغوي العالمي.‏
استفاد شارل بالي في التأسيس للأسلوبية كثيراً من أستاذه (("فردينان دي سوسير"‏
(1913.1857) وبخاصة في بعض إنجازاته اللغوية الأساسية، فوضع "شارل بالي" ـ بوصفه مؤسس الأسلوبية ورائد التعبيرية منها ـ الطابع الوجداني محدداً في عملية التواصل بين المرسل والمتلقي، ضمن الإطار اللغوي للرسالة، إذ "يعد من الرواد المؤسسين للأسلوبية، وهي تعني عنده البحث عن القيمة التأثيرية لعناصر اللغة المنظمة والفاعلية المتبادلة بين العناصر التعبيرية التي تتلاقى لتشكيل نظام الوسائل اللغوية المعبرة، وتدرس الأسلوبية عند "بالي" هذه العناصر من خلال محتواها التعبيري والتأثيري)) (28) من النص إلى المتلقي عبر اللغة.‏
اهتم "بالي" في أسلوبيته التعبيرية بالجانب الأدائي للغة الإبلاغية، من خلال تأليف المفردات والتراكيب اللغوية ورصدها جانباً إلى جنب، انطلاقاً مما يمليه وجدان المؤلف، بذلك تعتبر التراكيب اللغوية حاملة لمضمون عاطفي مشحون دلالياً يجعل المتلقي يتأثر به، عندها يبقى الخطاب من خلال لغته المشكلة لبنيته الخارجية ذا تأثير فعال فيمن يحمل إليه، مادام ((موقف التحليل الأسلوبي عند بالي هو الخطاب اللساني بصفة عامة، ولكنه يحصر مجال الأسلوبية في القيم الإخبارية التي يشتمل عليها الحدث اللغوي بأبعاده دلالية وتعبيرية وتأثيرية)) (29) إلى المتلقي للخطاب.‏
حصر "بالي" أسلوبيته في اللغة الشائعة، لغة التواصل اليومي، دون اللغة الأدبية، لغة الإبداع. "ومن هنا كان "الأسلوب" عند "بالي" هو تتبع السمات والخصائص داخل اللغة اليومية، ثم استكشاف الجوانب العاطفية والتأثيرية والانفعالية التي تميز أداء عن أداء"(30)، من شخص إلى شخص، ومن بيئة إلى بيئة.‏
ـ العلاقة بين اللغة والحديث أو بين عناصر الوراثة في اللغة وهو ما أ طلق عليه"Langue"، وبين الاستخدام الذي يزاوله الناس في الحديث "Parole"‏
ـ تحليل الرموز اللغوية، وذلك باعتبار أن المسميات اللغوية ليست سوى مفاهيم ترتبط بذهن من ينطقها.‏
ـ دراسة التركيب العام للنظام اللغوي لأن الكلمة في حد ذاتها لا تمثل بناءً لغوياً.‏
ـ آثر "دي سوسير" الفصل بين مناهج الدراسة الوصفية (سانكروني) والمناهج التاريخية (دياكروني).‏
ـ لاحظ أن العلامة اللغوية تمتاز بطابع خاص سماه (الدالّ)، وطابعٍ دلالي سماه (المدلول).‏
تميزت الأسلوبية منذ القرن العشرين ((عما هو مشترك في مفهوم الأسلوب عن البلاغة القديمة))(31)، ولذلك ركز "شارل بالي" في دراسته للأسلوب على الكلام أو الحديث اليومي باعتباره الخطاب البسيط و البعيد عن التعقيد والوعي القصدي؛ واشتغل كثيراً بالوصف اللغوي، ولهذا نعتت أسلوبيته منذ البداية بالوصفية؛ إذ هي عبارة ((عن وصف للوسائل المقدمة من اللغة، واختبار للعلاقة السنكرونية بين العبارة والوعي النفسي التحليلي))(32)، وبذلك نجد أن "شارل بالي" في أسلوبيته الوصفية يترجح بين سلطان العقل والعاطفة من أثر اللغة في المتلقي.‏
ويخلص "شارل بالي" في طرحه الأسلوبي إلى تأكيد سلطان العاطفة في العملية اللغوية، وأرجع سلطان العقل إلى المستويات الخلفية، معللاً ذلك بأن الإنسان في جوهره كائن عاطفي قبل كل شيء، وأن اللغة هي الكاشف الأكبر من هذا الإنسان.‏
يسجل الدارسون أن المنحى الذي سلكته الأسلوبية وبخاصة مع "شارل بالي" كان علمياً خالصاً، أو على أقل تقدير كانت نظرتها إلى الأسلوب تندرج في إطار علمي خاص، ويؤكد ذلك ما ذكره الأسلوبيون الفرنسيون من أمثال "بيير جيرو" و"جيرار جنجمبر"؛ إذ تسعى الأسلوبية الحديثة ـ في نظر هذا الأخير ـ إلى نظرة علمية.‏
داخل هذا الإطار توسعت المدرسة الأسلوبية الفرنسية لتشمل أعمال "شارل برينو" و"مارسيل كريسو" وأخذت تعتني بوسائل المعنى المعتمدة من المبدع في إطارها اللغوي البحت؛ ثم تطورت الأسلوبية تطوراً كبيراً وسجلت قفزة نوعية في مجال الدراسات الأدبية؛ فلم تعد لغة النص غاية في ذاتها بل أصبحت وسيلة لدراسة الأدوات التعبيرية من أجل غايات أدبية أسلوبية، وبذلك تكون الأسلوبية في مفهومها النقدي هي العلم الذي يكشف عن القيم الجمالية في الأعمال الإبداعية.‏
تجلت الأسلوبية التعبيرية في النقد العربي المعاصر، في ترجمة جزء من أعمال بالي؛ إذ ضمن الباحث شكري محمد عياد كتابه "اتجاهات البحث الأسلوبي" ترجمة لفصل من كتاب "شارل بالي" "اللغة والحياة" بعنوان "علم الأسلوب وعلم اللغة العام".‏
كما نجد عزة آغا ملك في مقال لها بعنوان "الأسلوبية من خلال اللسانية" في مجلة الفكر العربي، ع: 38 قد توصلت إلى أن كلاً من: جول ماروزو، ومرسيل كريسو، وروبرت سايس، وشيفات أولمان، قد ساروا على نهج مؤسس الأسلوبية شارل بالي.‏
ومن الذين اهتموا بالأسلوبية التعبيرية في النقد العربي المعاصر إضافة إلى من سلف ذكرهم، "صلاح فضل" في مؤلفه "علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته" ينضاف إلى ذلك "حمادي صمود" في مؤلفه: "الوجه والقفا في تلازم التراث والحداثة" 1988.‏
وكلهم حاول فهم الأسلوبية التعبيرية، كما جاءت من "شارل بالي" وأتباعه، بالإضافة ثم سعوا إلى تطبيق مقولاتها على اللغة العربية إبداعاً ونقداً في سياق معركة الحداثة التي تجتاح الحركة النقدية العربية المعاصرة.‏
الأسلوبية النفسية "ليو سبيتزر" [1960-1887"> Les Spityer‏
تضع الأسلوبية النفسية، الأثر الأدبي وسيلة للولوج إلى نفسية مبدعه، من خلال المعجم الإفرادي والمعجم تركيبي للغة الحاملة للخطاب القابع في النص الأدبي؛ وذلك كي يتسنى للباحثين في هذا الاتجاه الوصول إلى ذاتية الأسلوبي انطلاقاً من مضمون الرسالة ونسيجها اللغوي في إطار النص المبدع.‏
من رواد هذا الاتجاه في البحث الأسلوبي نجد الألماني "ليوسبيتزر" [1960-1887"> Les Spityer في مؤلفه: "دراسة في الأسلوب"؛ إذ يهتم بالذات المبدعة وخصوصية أسلوبها انطلاقاً من تفردها في الكتابة، حيث ((يتميز باحتفاله بخصوصية الذات الكاتبة... وآثر ذلك على خصوصية استعمالاتها الأسلوبية... ومن ثم يكاد "سبتزر" يجنح إلى تلامس واضح بين الجانب النفسي، لتلك الذات المنتجة، وبين ما أنتجته من كتابة معينة))(33) تختلف عن كتابات الآخرين. ينضاف إلى ذلك ربط "سبتزر" لفردية الذات المبدعة، وتفردها في الأسلوب، داخل وسط اجتماعي يتطور تاريخياً، كما ((يكاد يلامس كذلك المنحى الاجتماعي بحسبان تلك الذات جزءاً من شريحة اجتماعية ضخمة، وهي كذلك واحدة من سلاسل أفراد وجماعات لها روحها العام بجانب روح الذات الخاص))(34) مفردة ضمن سياقها الاجتماعي العام.‏
ينظر "سبتزر" إلى الأسلوب من خلال الذات المبدعة، وخصوصيتها الفردية في إطار سياق جماعي تاريخي يساهم في وسم الأسلوب بميزات خاصة تبعاً لما تمليه الظروف المختلفة؛ ((فالأسلوب خصوصية شخصية في التعبير والتي من خلالها تتعرف على الكاتب، وذلك من خلال عناصر متعددة تعمل على تكوين هذه الشخصية الذاتية))(35) من خلال ذوات أخرى تَحْيا جنباً إلى جنب معهم، في شكل جماعة تحكمها ظروف اجتماعية ونفسية وتاريخية خاصة.‏
تذهب الأسلوبية النفسية ـ من خلال طرحها في مقاربة النص ـ إلى أن علم الأسلوب ـ من منظورها ـ قادر على إدراك كل ما يتضمنه فعل الكلام من أساليب أصلية تتوفر على عناصر الفرادة أوجدتها طاقة خلاقة منبثقة من نفس مبدعة وتفرده في الإلقاء، وقدرته على القول، وتمكنه من التعبير وهنا ينصب جهد البحث الأسلوبي النفسي على تتبع التحولات اللغوية، التي أحدثها المبدع في خصوصيته وفرديته المتميزة انطلاقاً من دفقة شعورية يختص بها، لذلك قد تكون الأسلوبية النفسية أشبه بدراسة السير الذاتية للمبدعين والكتاب، وذلك بالاعتماد على استنطاق لغة النص وما تحمله من دلالات عديده، كما نادت بذلك اللسانيات الحديثة، والتي ولدت من رحمها الأسلوبية.‏
جنحت الأسلوبية النفسية إلى الانطباعية. والإغراق في ذوات المبدعين يظهر حالياً، مادامت تهتم بالجوانب النفسية، في إطار الجماعة بكل ظروفها التي تحيا ضمنها، جاعلة من أسلوب الكاتب في انحرافه عن السائد والمألوف، حقلاً للدراسة والبحث والتقصي.‏
لقد تجلت الأسلوبية النفسية كباقي الاتجاهات الأسلوبية الأخرى في النقد العربي المعاصر، فراح باحثونا يترجمون لأعلامها ساعين إلى فهم وكشف ما تحمله هذه الدراسات الأسلوبية النفسية المعتمدة على المبدع، المتفرد من خلال نصه، الذي لا يفهم إلا منه، ومن النقاد العرب الذين اهتموا بهذا الطرح الأسلوبي نجد:‏
ـ عزة آغا ملك في بحث لها بعنوان "منهجية ليوسبتزر في دراسة الأسلوب الأدبي" عن مجلة الفكر العربي عدد 36 – 1985.‏
ـ حمادي صمود في مؤلفه "الوجه والقفا في تلازم التراث والحداثة" 1988.‏
ـ عبد الفتاح المصري في بحثه "أسلوبية الفرد" عن مجلة الموقف الأدبي، عدد 135 –136، دمشق 1982.‏
ـ صلاح فضل في كتابه "علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته" 1985.‏
وهكذا ترجحت بحوث العرب في الأسلوبية النفسية بين الترجمة، ومحاولة الفهم والدراسة، إلى التطبيق والنقد في غالب الأحيان.‏
الأسلوبية والبنيوية: (الوظيفة).‏
تنطلق الأسلوبية البنيوية في بحثها من النص كنسق لغوي، متأثرة في أطروحاتها باللسانيات الحديثة، وبخاصة علوم: الصرف، والمعاني والتراكيب، لرصد ما يحمله النص من دلالات وإيحاءات بدءاً بمفرداته وتراكيبه المشكلة له، إذ تقارب الأسلوبية البنيوية الأسلوب من خلال النسيج اللغوي للنص، فتحدد العلائق اللغوية في مستوياتها الإفرادية والتركيبية المشكلة لنسيجها النصاني في تتابعها ومماثلتها، مهتمة بمقاربة الظواهر وما تولده من فروق تتولد في سياق الوقائع الأسلوبية ووظائفها في الخطاب الأدبي ذي الجودة العالية فنياً وجمالياً.‏
ينطلق البحث الأسلوبي البنيوي في تحليله للآثار الأدبية من خلال البنى اللغوية المشكلة لها، ومدى تناسقها وتضافرها داخلياً لتكوين ذلك الكل الشمولي المتمثل في النص، ((وليس النص الأدبي نتاجاً بسيطاً من العناصر المكونة، بل هو بنية متكاملة تحكم العلاقات بين عناصرها قوانين خاصة بها، وتعتمد صفة كل عنصر من العناصر على بنية الكل. وعلى القوانين التي تحكمه. ولا يمكن أن يكون للعنصر وجود ـ (فيزيولوجي أو سيكولوجي) ـ قبل أن يوجد الكل، وعلى هذا الأساس فإنه لا يمكن تعريف أي عنصر منفصل إلا من خلال علاقاته التقابلية أو التضادية مع العناصر الأخرى في إطار بنية الكل)) (36)، حينئذ يمكننا مدارسة النصوص الأدبية انطلاقاً من لغتها الحاملة لها، ومدى تفاعل الشكل المتمثل في المفردات والتراكيب في سياق نحوي ما، ناهيك عن تفاعل هذا الشكل بما تولده هذه المفردات والتراكيب والأصوات من دلالات تكتسبها ضمن علاقاتها جنباً إلى جنب لتكون النص في شكله العام.‏
تؤسس الأسلوبية البنيوية لمنهج غايته دراسة النصوص الأدبية انطلاقاً من لغتها، وما تحدثه في تجاور مفرداتها وتراكيبها، في إطار النص كنسق لغوي معزول عن كل اعتبارات تاريخية أو نفسية، لذلك لا يبحث النقاد الأسلوبيون البنيويون عن ملامح أصالة النص في محاكاته للأسيقة بكل أنواعها، بل نجد أن اهتمامهم ينصب على انسجامه النص مع نفسه، ويركزون على مقاربة وحداته التي أسست لتناميه فيبرزون جماليات مكوناته، وثراء دلالاته من خلال تناسق وانسجام أساليبه، فالنص الأدبي من هذا المنظور هو نظم لغوي يعبر عن ذاته بدءاً بانسجام مفرداته وتراكيبه، وعلاقة بعضها ببعض، ومن ثم يجب مقاربته بذاته ولذاته.‏
تركز الأسلوبية البنيوية على تناسق أجزاء النص اللغوية، ورصد مدى انسجامها علائقياً، حتى تكتسب اللغة من خلال النص صفة الأدبية زيادة على صفة الإبداعية ضمن السياق العام للغة، هذا كله ينبئ بأنها بقدر ما تهتم بالنص لذاته وبذاته، فإنها تهتم كذلك بالمتلقي كعنصر هام في تفعيل العملية الإبداعية، مادام هذا الأخير يقبل على الأثر الأدبي إذا بلغ درجة فنية راقية، تجعله يقع في نفسه موقع الاستحسان والقبول الفنيين، فيتمتع به، ويصغي إلى محمولته الدلالية، وينجذب نحو سحره الظاهر في إطار لغة فنية راقية تسمو عن التواصلية النفعية إلى التأثير الجمالي وتالياً إلى الإبداع والفن.‏
لقد كان لـ"رومان جاكبسون" الأثر الأعظم في التأسيس للتحليل الأسلوبي وبخاصة البنوي منه، إذ كان منطلقه في ذلك أن ((الأدب أبعد من المعنى، والعمل الأدبي يمثل كل طرائق الأسلوب، وأن الأسلوب هو البطل الوحيد في الأدب))(37)، ومن ثم قام بالتأسيس الأسلوبية للبنوية ذات الطرح المحايث الذي يجعل من الأسلوب الميدان الأول للبحث والمقاربة.‏
كما ركز "ميشال ريفاتير" في كتابه "مقالات في الأسلوبية البنيوية" على مقاربة المعالم الكبرى للأسلوب الفني وفقاً للطرح النقدي، مع الإدراك الواعي بما تحققه تلك المعالم من غايات وظائفية، سواء أكانت أسلوبية أم جمالية، انطلاقاً من أن النص بنية خاصة تشكل منظوراً أسلوبياً.‏
أسس هذا الطرح للتحليل الشكلاني الذي يحلل ويصنف مجموعة الأنساق التكرارية مع التركيز على ملاحظة الأداء البنائي وفق المستويات المتنوعة، مع الاهتمام بمقاربة المستوى الصوتي منه بخاصة.‏
لقد تشكل الاهتمام لدى الأسلوبية البنيوية بفن الشعر أو فن الأسلوب أكثر الاهتمام سعة وعمقاً، حتى كادت أن تعرف بدراسة الشعر دون الأجناس الأخرى؛ إلا أن هذا المدى الأسلوبي الشكلي، والذي استمد أسسه من الطابع الموضوعي المفرط في المحايثة، لم يسلم من الانتقاد المنهجي من بعض الدارسين، الذين عابوا عليه الانغماس في الطابع اللغوي الجاف متناسياً الجانب المضموني في العمل الأدبي. وهاذ ما دفع إلي بروز اتجاه آخر في الأسلوبية يركز على المناحي الانطباعية ويحاول ملامسة الجوانب الإنسانية في الأعمال الأدبية، وقد عرف بالأسلوبية الأدبية ولقي رواجاً في الدراسات الألمانية ا لتي تستند في كثير من أطروحاتها إلى الفلسفة المثالية.‏
وجد هذا الاتجاه أقلاماً نقدية عربية حاولت أن تتبنى أطروحاته وتحاول أن تؤسس لها حتى تصبح قراءة لها مجال في الممارسة النقدية العربية المعاصرة، ومن النقاد الذين سعوا إلى ذلك:‏
ـ فؤاد أبو منصور: "النقد البنيوي الحديث".‏
ـ عبد السلام المسدي: "محاولات في الأسلوبية الهيكلية".‏
ـ حمادي صمود: "الوجه والقفا في تلازم التراث والحداثة".‏
محمد العمري: "تحليل الخطاب الشعري".‏
ـ شكري محمد عياد: "اتجاهات البحث الأسلوبي".‏
ـ فؤاد زكريا: "الجذور الفلسفية للبنائية.‏
لقد ترجحت هذه البحوث بين الترجمة ومحاولات التطبيق على النصوص الأدبية العربية، وقيامهم بالنقد أحياناً.‏
4 ـ الأسلوبية الإحصائية:‏
تعتمد الأسلوبية الإحصائية، الإحصاء الرياضي مطية للدخول إلى عوالم النصوص الأدبية، دلالة منها على خصائص الخطاب الأدبي في أدواته البلاغية والجمالية إذ ((يهدف التشخيص الأسلوبي الإحصائي إلى تحقيق الوصف الإحصائي الأسلوبي للنص، لبيان ما يميزه من خصائص أسلوبية))(38) عن باقي النصوص الأخرى.‏
انصبت جهود الأسلوبيين الإحصائيين على مدارسة النصوص الإبداعية، من خلال بنياتها المشكلة لها ومراعاة عدم تكرارها، والبحث عن الصيغ والمفردات التي يركز عليها المبدع دون غيرها، وذلك للوقوف على المعجم الإفرادي والتركيبي والإيقاعي للمبدع ذاته، كما سعت إلى تبيان خصائص اللغة التي اعتمدها الكاتب محاولة منها لتأكيد أن المقاربة الإحصائية للأسلوب يقصد منها تمييز الملامح اللغوية للنص، وذلك من خلال إبراز معدلات تكرار مختلف المعاجم، سواء أكانت إفرادية أم تركيبية أم إيقاعية ونسب هذا التكرار، ولهذا النمط من المقاربة أهمية خاصة في تشخيص الاستعمال اللغوي عند المبدع، وإظهار الفروق اللغوية بينه وبين مبدع آخر، مع ذكر العلل والأسباب إلى حد ما.‏
ومن رواد المنهج الأسلوبي الإحصائي في الغرب يمكن أن نقتصر على الأسماء الآتية:‏
ـ برنلد شبلز في مؤلفه "علم اللغة والدراسات الأدبية، دراسة الأسلوب والبلاغة".‏
ـ كراهم هاف: "الأسلوب والأسلوبية".‏
ـ جون كوهن: "بنية اللغة الشعرية".‏
كما نجد تجلي الأسلوبية الإحصائية واضحاً في النقد العربي المعاصر، حيث تركز بين الترجمة والنقد ومحاولات التطبيق على النصوص الإبداعية العربية، ومن النقاد العرب الأسلوبيين الذين برزوا في هذا الاتجاه:‏
ـ محمد الهادي الطرابلسي "في منهجية الدراسة الأسلوبية"، مجلة الجامعة التونسية نوفمبر 1983.‏
ـ سعد مصلوح "الأسلوب دراسة لغوية إحصائية"، و"الدراسة الإحصائية للأسلوب، بحث في المفهوم والأجزاء والوظيفة" عالم الفكر العدد 03 أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1989.‏
ـ صلاح فضل "علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته".‏
ـ محمد العمري "تحليل الخطاب الشعري".‏
نخلص في ختام هذا البحث إلى أن البلاغيين العرب الأوائل كانوا ينظرون إلى الأسلوب من خلال سمات القوة والتناسق والجمال، مراعين في ذلك ما يقتضي الحال ا لذي يكون عليه المخاطب، أما بالنسبة للمخاطَب فيشترطون فيه إلمامه بعلوم اللغة من نحو وصرف وبيان وعروض. يشكل هذا لديهم إجماعاً وقلما نجد من أضاف إليه جديداً في مفهوم الأسلوب، مع استثناء "الجرجاني" في نظرية النظم، و"ابن خلدون" في تحديده للأسلوب على أنه صورة ذهنية، وربما نلمس أيضاً توافقهم في جعل الأسلوب توفيقاً بين أطراف الكلام.‏
لم يخرج كثير من النقاد في مطلع القرن الماضي عن مفهوم أسلافهم بشكل عام إلا أنهم طعموه بنصيب من الثقافة الأدبية والنقدية الأوروبية الحديثة وكان أبرزهم "أحمد أمين" و"أحمد حسن الزيات" ولعل الجدير بالإشارة اهتمامُهم بنظرية "بوفون" في الأسلوب وبخاصة في مجال تجسيد الأسلوب للطبيعة والنفس البشرية.‏
وتشكل نظرة الأسلوبيين للأسلوب فتحاً مهماً للدراسات النقدية، وذلك انطلاقاً من نظرتهم إلى الأسلوب على أنه انحراف عن المعيار المألوف والمتداول في نظم الكلام الإبداعي، ومن ثم تبقى الأسلوبية المنهج النقدي الذي بوسعه ـ إلى حد ما ـ رصد مكامن الفنية والجمال في النصوص الإبداعية، انطلاقاً من اللغة الحاملة لها، من خلال ماتوفره هذه اللغة من انحرافات فنية محمودة، تجعل منها الأسلوبية حقلاً لدرسها، سعياً إلى فهم النصوص الإبداعية، وبجنوح الأسلوبية إلى الوصف العلمي الذي يبغي الابتعاد عن استصدار الأحكام التقييمية، استطاعت الساحة النقدية الحديثة محاولة الإعراض عن البلاغة وما وقعت فيه في مدارسة الأسلوب، وماكان لها ذلك لولا سيرها على نهج لسانيات دي سوسير، وما نادت به من ضرورة دراسة اللغة لذاتها وبذاتها، وإقصاء السياقات الخارجية، وحينئذٍ حققت الدراسات الأسلوبية نقلة نوعية في تعاملها مع الأسلوب بالوقوف عندما تحققه لغته من انزياحات لغوية.‏
المصادر والمراجع‏
1 ـ الأسلوبية والأسلوب/ عبد السلام المسدي، تونس: الدار العربية لكتاب، ط2، 1982م.‏
2 ـ الأسلوبية منهجاً نقدياً/ محمد عزام، دمشق: وزارة الثقافة السورية، ط1، 1989م.‏
3 ـ الأسلوبية وتحليل الخطاب/ نور الدين السدّ، الجزائر: دار هومة، ط1، 1997م.‏
4 ـ البحث الأسلوبي: معاصرة وتراث/ رجاء عيد، الاسكندرية: دار المعارف، ط1، 1993م.‏
5 ـ البلاغة والأسلوبية/ محمد عبد المطلب، مصر: الهيئة العامة للكتاب، ط1، 1984م.‏
6 ـ بنية اللغة الشعرية/ جون كوهن، ترجمة محمد الوالي ومحمد العمري، الدار البيضاء: دار توبقال، ط1، 1986م.‏
7 ـ تاج العروس/ الزبيدي، بنغازي: دار ليبيا للنشر والتوزيع.‏
8 ـ حول الأسلوبية الإحصائية/ محمد عبد العزيز الوافي، مجلة علامات، مج11، ج42، ديسمبر 2001م.‏
9 ـ دلائل الإعجاز/ الجرجاني، بيروت: دار الكتب العلمية.‏
10 ـ شفرات النص: دراسة سيميولوجية/ د.صلاح فضل، بيروت: دار الآداب، ط1، 1999م.‏
11 ـ عيار الشعر/ ابن طباطبا، تحقيق عباس عبد الستار، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1983م.‏
12 ـ القاموس المحيط/ الفيروز أبادي ، بيروت: المؤسسة العربية للطباعة والنشر.‏
13 ـ لمن النص اليوم، للكاتب أم للقارئ؟/ حسن غزالة، مجلة علامات، عدد 392، مج10، مارس 2001م.‏
14 ـ مختار الصحاح/ الرازي، بيروت: مكتبة لبنان، 1988م.‏
15 ـ المقدمة/ ابن خلدون، بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1967م.‏
16- G.Gengembre. Les Grands Courants Littéraire.‏
* أستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ جامعة سيدي بلعباس ـ الجزائر.‏
(1) ـ تاج العروس / الزبيدي ـ 1/ 302.‏
(2) ـ القاموس المحيط / الفيروز أبادي ـ 1/ 86.‏
(3) ـ مختار الصحاح / الرازي ، ص130.‏
(4) ـ عيار الشعر/ ابن طباطبا، ص 11.‏
(5) ـ المرجع السابق، ص11.‏
(6) ـ نفسه، ص11.‏
(7) ـ دلائل الإعجاز/ عبد القاهر الجرجاني، ص64.‏
(8) ـ المرجع السابق.‏
(9) ـ مقدمة ابن خلدون، ص 352.‏
(10)ـ المرجع السابق، ص 353، 354.‏
(11) ـ البلاغة والأسلوب/ محمد عبد المطلب، ص 130.‏
(12) ـ الأسلوبية والأسلوب/عبد السلام المسدي، ص20.‏
(13) ـ ينظر لمن النص اليوم للكاتب أم القارئ/ حسن غزالة، مجلة علامات، ع: 392، مج10، مارس/2001، ص 130 ـ 132.‏
(14) ـ البلاغة والأسلوبية ، مرجع سابق، ص268.‏
(15) ـ البحث الأسلوبي معاصرة وتراث/ رجاء عيد/ دار المعارف، مصر، ط01/ 1993، ص25.‏
(16) ـ المرجع السابق، ص 55.‏
(17) ـ الأسلوب والأسلوبية، مرجع سابق، ص51.‏
(18) ـ البلاغة والأسلوبية، ص 268.‏
(19) ـ البحث الأسلوبي، ص33.‏
(20) ـ البلاغة والأسلوبية، ص 129.‏
(21) ـ شفرات النص: دراسة سيميولوجية في شعرية القصد والقصيد/ صلاح فضل، دار الآداب، بيروت، ط1/1999، ص 80.‏
(22) ـ البحث الأسلوبي معاصرة وتراث، ص 120.‏
(23) ـ البلاغة والأسلوبية، ص 101.‏
(24) ـ الأسلوبية وتحليل الخطاب/ نور الدين السدّ، ص169.‏
(25) ـ البحث الأسلوبي، ص 49.‏
(26) ـ بنية اللغة الشعرية، جون كوهن، تر: محمد الوالي ومحمد العمري، ص 15.‏
(27) ـ المرجع السابق، ص 101.‏
(28) ـ الأسلوبية وتحليل الخطاب، ص 60.‏
(29) ـ المرجع السابق، ص 64.‏
(30) ـ البحث الأسلوبي، ص 31.‏
(31) ـ G.Gengembre.Les Grands Courants Littéraire. P:40.‏
(32) ـ Idemp:40.‏
(33) ـ البحث الأسلوبي ، ص 52 –53.‏
(34) ـ المرجع السابق، ص 53.‏
(35) ـ نفسه، ص 126.‏
(36) ـ الأسلوبية منهجاً نقدياً/ محمد عزام، ص 110.‏
(37) ـ البحث الأسلوبي، ص 48.‏
(38) ـ حول الأسلوبية الإحصائية، محمد عبد العزيز الوافي/ مجلة علامات/ج42/مج11/ديسمبر 2001، ص122.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم "قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"