ومنها قوله تعالى ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون فشبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون الكلمة الطيبة هي
شهادة أن لا إله إلا الله فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة فكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال كلمة طيبة شهادة أن لا إله إلا الله كشجرة طيبة وهو المؤمن أصلها ثابت قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن وفرعها في السماء يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء وقال الربيع بن أنس كلمة طيبة هذا مثل الإيمان فالإيمان الشجرة الطيبة وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه وفرعه في السماء خشية الله والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوا التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقوقها ومراعاتها حق رعايتها
فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلاما كثيرا طيبا يقارنه عمل صالح فيرفع العمل الصالح إلى الكلم الطيب كما قال تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحا كل وقت
والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا وإثباتا متصفا بموجبها قائما قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد أصلها ثابت راسخ في قلبه وفروعها متصلة بالسماء وهي مخرجة لثمرتها كل وقت
ومن السلف من قال إن الشجرة الطيبة هي النخلة ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح ومنهم من قال هي المؤمن نفسه كما قال محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة يعني بالشجرة الطيبة المؤمن ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ عمله وقوله السماء وهو في الأرض وقال عطية العوفي في قوله ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة قال ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله وقال الربيع بن أنس أصلها ثابت وفرعها في السماء قال ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له أصلها ثابت قال أصل عمله ثابت في الأرض وفرعها في السماء قال ذكره في السماء ولا اختلاف بين القولين والمقصود بالمثل المؤمن والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك ومن قال من السلف إنها شجرة في الجنة فالنخلة من أشرف أشجار الجنة
حكمة تشبيه المؤمن بالشجرة
وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به ويقتضيه علم الذي تكلم به وحكمته
فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر فكذلك
شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به فعروقها العلم والمعرفة واليقين وساقها الإخلاص وفروعها الأعمال وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدى والدل المرضي فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله والإخلاص قائم في القلب والأعمال موافقة للأمر والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار
ومنها أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر وإلا أوشك أن تيبس وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ص - إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب فجددوا أيمانكم وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم
ومنها أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له أو يضعف الأصل
ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به فإنه يفوته ربح كثير وهو لا يشعر فالمؤمن دائما سعيه في شيئين سقي هذه الشجرة وتنقية ما حولها فبسقيها تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم والله المستعان وعليه التكلان
فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الوقفة وقلوبنا المخطئة وعلومنا القاصرة وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار وإلا فلو طهرت منا القلوب وصفت الأذهان وزكت النفوس وخلصت الأعمال وتجرت الهمم للتلقي عن الله ورسوله لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم وتتلاشى عنده معارف الخلق وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ومن يختص برحمته
فصل ضرب المثل للكافر
ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فلا عرق ثابت ولا فرع عال ولا ثمرة زاكية فلا ظل ولا جنى ولا ساق قائم ولا عرق في الأرض ثابت فلا أسفلها مغدق ولا أعلاها مونق ولا جنى لها ولا تعلو بل تعلي
وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكسبهم وجده كذلك فالخسران الوقوف معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه
قال الضحاك ضرب الله مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض
ما لها من قرار يقول ليس لها أصل ولا فرع وليس لها ثمرة ولا فيها منفعة كذلك الكافر لا يعمل خيرا ولا يقوله ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة
وقال ابن عباس ومثل كلمة خبيثة وهي الشرك كشجرة خبيثة يعني الكافر اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ولا يقبل الله مع الشرك عملا فلا يقبل عمل المشرك ولا يصعد إلى الله فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء يقول ليس له عمل صالح في السماء ولا في الأرض
وقال الربيع بن أنس مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع ولا يستقر قوله ولا عمله على الأرض ولا يصعد إلى السماء
وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم فقال له ما تقول في الكلمة الخبيثة قال ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة
وقوله اجتثت أي استؤصلت من فوق الأرض ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين أصحاب الكلم الطيب والكلم الخبيث فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة وأنه يضل الظالمين وهم المشركون عن القول الثابت فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم
وتحت قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة كنز عظيم من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم ومن حرمه فقد حرم وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله ولو أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا
وقال تعالى لأكرم خلقه إذا يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا وفي الصحيحين من حديث البجلي قال وهو يسألهم ويثبتهم وقال تعالى لرسوله وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك فالخلق كلهم قسمان موفق بالتثبيت ومخذول بترك التثبيت ومادة التثبيت أصله ومنشأه من القول الثابت وفعل ما أمر به العبد فبهما يثبت الله عبده فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا قال تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا والقول الثابت هو القول الحق والصدق وهو ضد القول الباطل الكذب فالقول نوعان ثابت له حقيقة وباطل لا حقيقة له وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا وأقلهم ثباتا وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار وشجاعته ومهابته ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة
وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به فقال والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل فما منح العبد أفضل من منحة القول الثابت ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي ص - أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر
سؤال القبر
وقد جاء هذا مبينا في أحاديث صحاح فمنها ما في المسند من حديث داود ابن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال كنا مع النبي ص - في جنازة فقال يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال ما تقول في هذا
الرجل فإن كان مؤمنا قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له هذا منزلك لو كفرت بربك فأما إذا آمنت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له فيقال له اسكن ثم يفسح له في قبره وأما الكافر والمنافق فيقال له ما تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري فيقال له لا دريت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذا كفرت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين قال بعض أصحابه يا رسول الله ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك فقال رسول الله ص - يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء
وفي المسند نحوه من حديث البراء بن عازب وروى المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء قال قال رسول الله ص - وذكر قبض روح المؤمن فقال يأتيه آت يعني في قبره فيقول من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد ص - قال فينتهره فيقول ما ربك وما دينك وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حيث يقول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد فيقال له صدقت وهذا حديث صحيح وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله ص - يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين قال إذا قيل له في القبر من ربك وما دينك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي
محمد جاءنا بالبينات من عند الله فآمنت به وصدقت فيقال له صدقت على هذا عشت وعليه مت وعليه تبعث قال الأعمش عن المنهال بن عمرو وعن زاذان عن البراء بن عازب قال قال رسول الله ص - وذكر قبض روح المؤمن قال فترجع روحه في جسده ويبعث إليه ملكان شديدا الاتنهار فيجلسانه وينتهرانه ويقولان من ربك فيقول الله وما دينك فيقول الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل أو النبي الذي بعث فيكم فيقول محمد رسول الله فيقولان له وما يدريك قال فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فذلك قول الله تبارك وتعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة رواه ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد وفي صحيحه أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه قال إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولولن عنه مدبرين فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه وكان الصيام عن يساره وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة ما قبلي مدخل فيؤتى عن يساره فيقول الصيام ما قبلي مدخل فيؤتى من عند رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل فيقال له اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس قد دنت للغروب فيقال له أخبرنا عما نسألك عنه فيقول دعوني حتى أصلي فيقال إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك فيقول وعم تسألوني فيقال له أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد به عليه فيقول أمحمد ص - فيقال نعم فيقول أشهد أنه رسول الله وأنه جاء بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفسح له قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ثم يفتح
له باب إلى الجنة فيقال له انظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم تجعل نسمته في النسم الطيب وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة ويعاد الجسد إلى ما بدأ منه من التراب وذلك قوله تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا تستطل هذا الفصل المعترض في المفتي والشاهد والحاكم بل وكل مسلم أشد ضرورة إليه من الطعام والشراب والنفس وبالله التوفيق
فصل
ومنها قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في هذا التشبيه أمران أحدهما أن تجعله تشبيها مركبا ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة فصور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير في الهوى فتمزق مزقا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به والثاني أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه فمنها هبط إلى الأرض وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي تخطف أعضاءه وتمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه وتؤزه أزا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء
فصل
ومنها قوله تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذوه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات والغنى عن جميع المخلوقات وأن يصمد إلى الرب في جميع الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات فأعطوها صورا وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الآلهة الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه
وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء إلا هيتهم أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف
والعجز بقوله ضعف الطالب والمطلوب قيل الطالب العابد والمطلوب المعبود فهو عاجز متعلق بعاجز وقيل هو تسوية بين السالب والمسلوب وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز وعلى هذا فقيل الطالب الإله الباطل والمطلوب الذباب يطلب منه ما استلبه منه وقيل الطالب الذباب والمطلوب الإله فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع فضعف العابد والمعبود والمستلب والمستلب فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه
فصل
ومنها قوله تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون فتضمن هذا المثل ناعقا أي مصوتا بالغنم وغيرها ومنعوقا به وهو الدواب فقيل الناعق العابد وهو الداعي للصنم والصنم المنعوق به المدعو وإن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه هذا قول طائفة منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره
واستشكل صاحب الكشاف وجماعة معه هذا القول وقالوا قوله إلا دعاء ونداء لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء
وقد أجيب عن هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة
أحدها أن إلا زائدة والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء قالوا وقد ذكر ذلك الأصمعي في قول الشاعر ... حراجيح ما تنفك إلا مناخة
أي ما تنفك مناخة وهذا جواب فاسد فإن إلا لا تزاد في الكلام
الجواب الثاني أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء لا في خصوصيات المدعو
الجواب الثالث أن المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه هو في دعاء ونداء وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء
وقيل المعنى ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت فالراعي هو داعي الكفار والكفار هم البهائم المنعوق بها
قال سيبويه المعنى ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به وعلى قوله فيكون المعنى ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الغنم والناعق بها
ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب وأن تجعله من التشبيه المفرق فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء وإن جعلته من التشبيه المفرق فالذين كفروا بمنزلة البهائم ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق والله أعلم
فصل
ومنها قوله تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم شبه سبحانه نفقة المنفق في سبيله سواء كان المراد بها الجهاد
أو جميع سبل الخير من كل بر بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة منه سبع سنابل اشتملت كل سنبلة على مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه ونفع نفقته وقدرها ووقوعها موقعها فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص والتثبيت عند النفقة وهو إخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره بإخراجه وسمحت به نفسه وخرج من قلبه قبل خروجه من يده فهو ثابت القلب عند إخراجه غير جزع ولا هلع ولا متبعه نفسه ترجف يده وفؤاده ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه بمواقعه وبحسب طيب المنفق وزكاته
وتحت هذا المثل من الفقه أنه سبحانه شبه الإنفاق بالبذر فالمنفق ماله الطيب لله لا لغيره باذر ماله في أرض زكية فمغلة بحسب بذره وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقي ونفي الدغل والنبات الغريب عنه فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم تحرق الزرع نار ولا لحقته جائحة جاء أمثال الجبال وكان مثله كمثل جنة بربوة وهي المكان المرتفع الذي تكون الجنة فيه نصب الشمس والرياح فتتربى الأشجار هناك أتم تربية فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر متتابع فرواها ونماها فآتت أكلها ضعفي ما يؤتيه غيرها بسبب ذلك الوابل فإن لم يصبها وابل فطل مطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها يزكو على الطل وينمى عليه مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل
فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا ومنهم من يكون إنفاقه طلا والله لا يضيع مثقال ذرة فإن عرض لهذا العامل ما يغرق أعماله ويبطل حسناته كان بمنزلة رجل له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت فإذا كان يوم استيفاء الأعمال وإحراز الأجور وجد هذا العامل عمله قد أصابه ما أصاب صاحب هذه الجنة فحسرته حينئذ أشد من حسرة هذا على جنته
فهذا مثل ضربه الله سبحانه في الحسرة لسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها
مع عظم قدرها ومنقتها والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبر والضعف فهو أحوج ما كان إلى نعمته ومع هذا فله ذرية ضعفاء لا يقدرون على نفعه والقيام بمصالحة بل هم في عياله فحاجته إلى نعمته حينئذ أشد ما كانت لضعفه وضعف ذريته فكيف يكون حال هذا إذا كان له بستان عظيم فيه جميع الفواكه والثمر وسلطان ثمره أجل الفواكه وأنفعها وهو ثمر النخيل والأعناب فمغله يقوم بكفايته وكفاية ذريته فأصبح يوما وقد وجده محترقا كله كالصريم فأي حسرة أعظم من حسرته
قال ابن عباس هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره وقال مجاهد هذا مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت وقال السدي هذا مثل المرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه وسأل عمر بن الخطاب الصحابة يوما عن هذه الآية فقالوا الله أعلم فغضب عمر وقال قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين قال قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك قال ضرب مثلا لعمل قال لأي عمل قال لرجل غني يعمل بالحسنات ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها قال الحسن هذا مثل قل والله من يعقل من الناس شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا
فصل ما يبطل الأعمال من المن والأذى والرياء
فإن عرض لهذه الأعمال من الصدقات ما يبطلها من المن والأذى والرياء فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب والمن والأذى يبطل الثواب الذي كانت سببا له فمثل صاحبها وبطلان عمله كمثل صفوان وهو الحجر الأملس عليه تراب فأصابه وابل وهو المطر الشديد فتركه صلدا لا شيء عليه وتأمل أجزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء الممثل به تعرف عظمة القرآن وجلالته فإن
الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي والمان والمؤذي فقلبه في قسوته عن الإيمان والإخلاص والإحسان بمنزلة الحجر والعمل الذي عمله لغير الله بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر فقسوة ما تحته وصلابته تمنعه من النبات والثبات عند نزول الوابل فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلأ وكذلك قلب المرائي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر فإذا نزل عليه وابل الوحي انكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه فبرز ما تحته حجرا صلدا لا نبات فيه وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرائي ونفقته لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء منه أحوج ما كان إليه وبالله التوفيق
فصل
ومنها قوله تعالى إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر لا يبتغون به وجه الله وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره فأصابته ريح شديدة البرد جدا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته
واختلف في الصر فقيل البرد الشديد وقيل النار قاله ابن عباس قال ابن الأنباري وإنما وصفت النار بأنها صر لتصريتها عند الالتهاب وقيل الصر الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها والأقوال الثلاثة
متلازمة فهو برد شديد محرق يبسه للحرث كما تحرقه النار وفيه صوت شديد
وفي قوله أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة حتى أهلكت زرعهم وأيبسته فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها
فصل
ومنها قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعملون
هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحد فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحون والرجل المتشاكس الضيق الخلق فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين
والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد قد سلم له وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليه لمصالحه فهل يستوي هذان العبدان
وهذا من أبلغ الأمثال فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون
فصل
ومنها قوله تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذا قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال مثل للكفار ومثلين للمؤمنين فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو صلة صهر أو سبب من أسباب الاتصال فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوصلة التي كانت بين لوط ونوح وامرأتيهما فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا قيل ادخلا النار مع الداخلين
قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله وخالف أمره ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال فلا اتصال فوق اتصال البنوة الأبوة والزوجية ولم يغن نوح عن ابنه ولا إبراهيم عن أبيه ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من الله شيئا قال الله تعالى لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم وقال تعالى يوم لا تملك نفس لنفس شيئا وقال تعالى واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا وقال واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولولد هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق وهذا كله تكذيب
لأطماع المشركين الباطلة أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة أو يجيرهم من عذاب الله أو هو يشفع لهم عند الله وهذا أصل ضلالة بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله وهو الذي بعث الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم
فصل
وأما المثلان اللذان للمؤمنين فأحدهما امرأة فرعون ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله فتأتي عامة فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين
المثل الثاني للمؤمنين مريم التي لا زوج لها لا مؤمن ولا كافر فذكر ثلاثة أصناف من النساء المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها والثانية لا تضرها وصلتها وسببها والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئا
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي ص - والتحذير من تظاهرهن عليه وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله ص - كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة
قال يحيى بن سلام ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة
وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضا اعتبار آخر وهو أنها لم يضرها عند
الله شيئا قذف أعداء الله اليهود لها ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأهما الله عنه مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه وفي هذا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي ص - فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون
قالوا فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل والقياس والجمع والفرق واعتبار العلل والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرا واستدلالا
الاستفادة من ضرب الأمثال
قالوا قد ضرب الله سبحانه الأمثال وصرفها قدرا وشرعا ويقظة ومناما ودل عباده على الاعتبار بذلك وعبورهم من الشيء إلى نظيره واستدلالهم بالنظير على النظير بل هذا أهل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ونوع من أنواع الوحي فإنها مبنية على القياس والتمثيل واعتبار المعقول بالمحسوس
تأويل الرؤيا
ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقمص تدل على الدين فما كان فيها من طول أو قصر أو نظافة أو دنس فهو في الدين كما أول النبي ص - القميص بالدين والعلم والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله بين الناس فالقميص يستر بدنه والعلم والدين يستر روحه وقلبه ويجمله بين الناس
ومن هذا تأويل اللبن بالفطرة لما في كل منهما من التغذية الموجبة للحياة وكمال النشأة وأن الطفل إذا خلي وفطرته لم يعدل عن اللبن فهو مفطور على إيثاره على ما سواه وكذلك فطرة الإسلام التي فطر الله عليها الناس
ومن هذا تأويل البقر بأهل الدين والخير الذين بهم عمارة الأرض كما أن البقر كذلك مع عدم شرها وكثرة خيرها وحاجة الأرض وأهلها إليها ولهذا لما رأى النبي ص - بقرا تنحر كان ذلك نحرا في أصحابه
ومن ذلك تأويل الزرع والحرث بالعمل لأن العامل زارع للخير والشر ولا بد أن يخرج له ما بذره كما يخرج للباذر زرع ما بذره فالدنيا مزرعة والأعمال البذر ويوم القيامة يوم طلوع الزرع للباذر وحصاده
ومن ذلك تأويل الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين والجامع بينهما أن المنافق لا روح فيه ولا ظل ولا ثمر فهو بمنزلة الخشب الذى هو كذلك ولهذا سبه الله تعالى المنافقين بالخشب المسندة لأنهم أجسام خالية عن الإيمان والخير وفي كونها مسندة نكتة أخرى وهي أن الخشب إذا انتفع به جعل في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع وما دام متروكا فارغا غير منتفع به جعل مسندا بعضه إلى بعض فشبه المنافقين بالخشب في الحالة التي لا ينتفع فيها بها
ومن ذلك تأويل النار بالفتنة لإفساد كل منهما ما يمر عليه ويتصل به فهذه تحرق الأثاث والمتاع والأبدان وهذه تحرق القلوب والأديان والإيمان
ومن ذلك تأويل النجوم بالعلماء والأشراف لحصول هداية أهل الأرض بكل منهما ولارتفاع الأشراف بين الناس كإرتفاع النجوم
ومن ذلك تأويل الغيث بالرحمة والعلم والقرآن والحكمة وصلاح حال الناس
ومن ذلك خروج الدم في التأويل يدل على خروج المال والقدر المشترك أن قوام البدن بكل واحد منهما
ومن ذلك الحدث في التأويل يدل على الحدث في الدين فالحدث الأصغر ذنب صغير والأكبر ذنب كبير
ومن ذلك أن اليهودية والنصرانية في التأويل بدعة في الدين فاليهودية تدل على فساد القصد واتباع غير الحق والنصرانية تدل على فساد العلم والجهل والضلال
ومن ذلك الحديد في التأويل وأنواع السلاح يدل على القوة والنصر بحسب جوهر ذلك السلاح ومرتبته
ومن ذلك الرائحة الطيبة تدل على الثناء الحسن وطيب القول والعمل والرائحة الخبيثة بالعكس والميزان يدل على العدل والجراد يدل على الجنود والعساكر والغوغاء الذين يموج بعضهم في بعض والنحل يدل على من يأكل طيبا ويعمل صالحا والديك رجل عالي الهمة بعيد الصيت والحية عدو أو صاحب بدعة يهلك بسمه والحشرات أوغاد الناس والخلد رجل أعمى يتكفف الناس بالسؤال والذئب رجل غشوم ظلوم غادر فاجر والثعلب رجل غادر مكار محتال مراوغ عن الحق والكلب عدو ضعيف كثير الصخب والشر في كلامه وسبابه أو رجل مبتدع متبع هواه مؤثر له على دينه والسنور العبد والخادم الذي يطوف على أهل الدار والفأرة امرأة سوء فاسقة فاجرة والأسد رجل قاهر مسلط والكبش الرجل المنيع المتبوع
ومن كليات التعبير أن كل ما كان وعاء للماء فهو دال على الأثاث وكل ما كان وعاء للمال كالصندوق والكيس والجراب فهو دال على القلب وكل مدخول بعضه في بعض وممتزج ومختلط فدال على الاشتراك والتعاون أو النكاح وكل سقوط وخرور من علو إلى سفل فمذموم وكل صعود وارتفاع فمحمود إذا لم يجاوز العادة وكان ممن يليق به وكل ما أحرقته النار فجائحة
وليس يرجى صلاحه ولا حياته وكذلك ما انكسر من الأوعية التي لا ينشعب مثلها وكل ما خطف وسرق من حيث لا يرى خاطفه ولا سارقه فإنه ضائع لا يرجى وما عرف خاطفه أو سارقه أو مكانه أو لم يغب عن عين صاحبه فإنه يرجى عوده وكل زيادة محمودة في الجسم والقامة واللسان والذكر واللحية واليد والرجل فزيادة خير وكل زيادة متجاوزة للحد في ذلك فمذمومة وشر وفضيحة وكل ما رأى من اللباس في غير موضعه المختص به فمكروه كالعمامة في الرجل والخف في الرأس والعقد في الساق وكل من استقضي أو استخلف أو أمر أو استوزر أو خطب ممن لا يليق به ذلك نال بلاء من الدنيا وشرا وفضيحة وشهرة قبيحة وكل ما كان مكروها من الملابس فخلقه أهون على لابسه من جديده والجوز مال مكنوز فإن تفقع كان قبيحا وشرا ومن صار له ريش أو جناح صار له مال فإن طار سافر وخروج المريض من داره ساكتا يدل على موته متكلما يدل على حياته والخروج من الأبواب الضيقة يدل على النجاة والسلامة من شر وضيق هو فيه وعلى توبة ولا سيما إن كان الخروج إلى فضاء وسعة فهو خير محض والسفر والنقلة من مكان إلى مكان انتقال من حال إلى حال بحسب حال المكانين ومن عاد في المنام إلى حال كان فيها في اليقظة عاد إليه ما فارقه من خير أو شر وموت الرجل دل على توبته ورجوعه إلى الله لأن الموت رجوع إلى الله قال تعالى ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق والمرهون مأسور بدين أو بحق عليه لله أو لعبيده ووداع المريض أهله أو توديعهم له دال على موته
وبالجملة فما تقدم من أمثال القرآن كلها أصول وقواعد لعلم التعبير لمن أحسن الاستدلال بها وكذلك من فهم القرآن فإنه يعبر به الرؤيا أحسن تعبير وأصول التعبير الصحيحة إنما أخذت من مشكاة القرآن فالسفينة تعبر بالنجاة
لقوله تعالى فأنجيناه وأصحاب السفينة وتعبر بالتجارة والخشب بالمنافقين والحجارة بقساوة القلب والبيض بالنساء واللباس أيضا بهن وشرب الماء بالفتنة وأكل لحم الرجل بغيبته والمفاتيح بالكسب والخزائن والأموال والفتح يعبر مرة بالدعاء ومرة بالنصر وكالملك يرى في محله لا عادة له بدخولها يعبر بإذلال أهلها وفسادها والحبل يعبر بالعهد والحق والعضد والنعاس قد يعبر بالأمن والبقل والبصل والثوم والعدس يعبر لمن أخذه بأنه قد استبدل شيئا أدنى بما هو خير منه من مال أو رزق أو علم أو زوجة أو دار والمرض يعبر بالنفاق والشك وشهوة الرياء والطفل الرضيع يعبر بالعدو لقوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا والنكاح بالبناء والرماد بالعمل الباطل لقوله تعالى مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح والنور يعبر بالهدى والظلمة بالضلال ومن ههنا قال عمر بن الخطاب لحابس بن سعد الطائي وقد ولاه القضاء فقال له يا أمير المؤمنين إني رأيت الشمس والقمر يقتتلان والنجوم بينهما نصفين فقال عمر مع أيهما كنت قال مع القمر على الشمس قال كنت مع الآية الممحوة اذهب فلست تعمل لي عملا ولا تقتل إلا في لبس من الأمر فقتل يوم صفين وقيل لعابر رأيت الشمس والقمر دخلا في جوفي فقال تموت واحتج بقوله تعالى فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر وقال رجل لابن سيرين رأيت معي أربعة أرغفة خبز فطلعت الشمس فقال تموت إلى أربعة أيام ثم قرأ قوله تعالى ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا وأخذ هذا التأويل أنه حمل رزقه أربعة أيام وقال له آخر رأيت كيسي مملوءا أرضة فقال أنت ميت ثم قرأ فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض والنخلة تدل على الرجل المسلم وعلى الكلمة الطيبة والحنظلة تدل على ضد ذلك والصنم يدل
على العبد السوء الذي لا ينفع والبستان يدل على العمل واحتراقه يدل على حبوطه لما تقدم في أمثال القرآن ومن رأى أنه ينقض غزلا أو ثوبا لعبيده مرة ثانية فإنه ينقض عهدا وينكثه والمشي سويا في طريق مستقيم يدل على استقامته على الصراط المستقيم والأخذ في بنيات الطريق يدل على عدوله عنه إلى ما خالفه وإذا عرضت له طريقان ذات يمين وذات شمال فسلك أحدهما فإنه من أهلها وظهور عورة الإنسان له ذنب يرتكبه ويفتضح به وهروبه وفراره من شيء نجاة وظفر وغرقه في الماء فتنة في دينه ودنياه وتعلقه بحبل بين السماء والأرض تمسكه بكتاب الله وعهده واعتصامه بحبله فإن انقطع به فارق العصمة إلا أن يكون ولي أمرا فإنه قد يقتل أو يموت
فالرؤيا أمثال مضروبة يضربها الملك الذي قد وكله الله بالرؤيا ليستدل الرائي بما ضرب له من المثل على نظيره ويعبر منه إلى شبهه ولهذا سمي تأويلها تعبيرا وهو تفعيل من العبور كما أن الاتعاظ يسمى اعتبارا وعبرة لعبور المتعظ من النظير إلى نظيره ولولا أن حكم الشيء حكم مثله وحكم النظير حكم نظيره لبطل هذا التعبير والاعتبار ولما وجد إليه سبيل ولقد أخبر سبحانه أنه ضرب الأمثال لعباده في غير موضع من كتابه وأمر باستماع أمثاله ودعا عباده إلى تعقلها والتفكير فيها والاعتبار بها وهذا هو المقصود بها
التساوي بين المتماثلين في الأحكام الشرعية
وأما أحكامه الأمرية الشرعية فكلها هكذا تجدها مشتملة على التسوية يبن المتماثلين وإلحاق النظير بنظيره واعتبار الشيء بمثله والتفريق بين المختلفين وعدم تسوية أحدهما بالآخر وشريعته سبحانه منزهة من أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو مثلها أو أزيد منها فمن جوز ذلك على الشريعة فما عرفها حق معرفتها ولا قدرها حق قدرها وكيف يظن بالشريعة أنها تبيح شيئا لحاجة المكلف إليه ومصلحته ثم تحرم
ما هو أحوج إليه والمصلحة في إباحته أظهر وهذا من أمحل المحال ولذلك كان من المستحيل أن يشرع الله ورسوله من الحيل ما يسقط به ما أوجبه أو يبيح به ما حرمه ولعن فاعله وآذنه بحربه وحرب رسوله وشدد فيه الوعيد لما تضمنه من المفسدة في الدنيا والدين ثم بعد ذلك يسوغ التوصل إليه بأدنى حيلة ولو أن المريض اعتمد هذا فيما يحميه منه الطبيب ويمنعه منه لكان معينا على نفسه ساعيا في ضرره وعد سفيها مفرطا وقد فطر الله سبحانه عباده على أن الحكم النظير حكم نظيره وحكم الشيء حكم مثله وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين وعلى إنكار الجمع بين المختلفين والعقل والميزان الذي أنزله الله سبحانه شرعا وقدرا يأبى ذلك
الجزاء من جنس العمل
لذلك كان الجزاء مماثلا للعمل من جنسه في الخير والشر فمن ستر مسلما ستره الله ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن أقال نادما أقاله الله عثرته يوم القيامة ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن ضار مسلما ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه ومن خذل مسلما في موضع يجب نصرته فيه خذله الله في موضع يجب نصرته فيه ومن سمح سمح الله له والراحمون يرحمهم الرحمن وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ومن أنفق أنفق عليه ومن أوعى أوعى عليه ومن عفا عن حقه عفا الله له عن حقه ومن جاوز تجاوز الله عنه ومن استقصى استقصى الله عليه فهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير واعتبار المثل بالمثل
القرآن يعلل الأحكام
لهذا يذكر الشارع العلة والأوصاف المؤثرة والمعاني المعتبرة في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية ليدل بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت واقتضائها لأحكامها وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ويوجب تخلف أثرها عنها كقوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله وقوله ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم
وإن يشرك به تؤمنوا ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة وباللام تارة وبأن تارة وبمجموعهما تارة وبكي تارة ومن أجل تارة وترتيب الجزاء على الشرط تارة وبالفاء المؤذنة بالسببية تارة وترتيب الحكم على الوصف المقتضي له تارة وبلما تارة وبأن المشددة تارة وبلعل تارة وبالمفعول له تارة فالأول كما تقدم واللام كقوله ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات . ما الأرض وأن كقوله أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ثم قيل التقدير لئلا تقولوا وقيل كراهة أن تقولوا وأن واللام كقوله لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وغالب ما يكون هذا النوع في النفي فتأمله وكي كقوله كي لا يكون دولة والشرط والجزاء كقوله وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا والفاء كقوله فكذبوه فأهلكناهم فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا وترتيب الحكم على الوصف كقوله يهدي به الله من اتبع رضوانه وقوله يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقوله إنا لا نضيع أجر المصلحين ولا نضيع أجر المحسنين والله لا يهدي كيد الخائنين ولما كقوله فلما آسفونا انتقمنا منهم فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين وإن المشددة كقوله إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ولعل كقوله لعله يذكر أو يخشى لعلكم تعقلون لعلكم تذكرون والمفعول له كقوله وما لأحد عنده من نعمة يجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى
أي لم يفعل ذلك جزاء نعمة أحد من الناس وإنما فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى ومن أجل كقوله ومن أجل ذلك كتبنا عن بني إسرائيل
النبي يعلل الأحكام
وقد ذكر النبي ص - علل الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها ليدل على ارتباطها بها وتعديها بتعدي أوصافها وعللها كقوله في نبيذ التمر تمرة طيبة وماء طهور وقوله إنما جعل الاستئذان من أجل البصر وقوله إنما نهيتكم من أجل الدافة وقوله في الهرة ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ونهيه عن تغطية رأس المحرم الذي وقصته ناقته وتقريبه الطيب وقوله فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا وقوله إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ذكره تعليلا لنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها وقوله تعالى يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض وقوله في الخمر والميسر إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون وقوله ص - وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم فنهى عنه وقوله لا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه وقوله إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخرة دواء وإنه يتقي بالجناح الذي فيه الداء وقوله إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس وقال وقد سئل عن مس الذكر هل ينقض الوضوء فقال هل هو إلا بضعة منك وقوله في ابنة حمزة إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة وقوله في الصدقة إنها لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس
وقد قرب النبي ص - الأحكام إلى أمته بذكر نظائرها
وأسبابها وضرب لها الأمثال فقال له عمر صنعت اليوم يا رسول الله أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال له رسول الله ص - أرأيت لو تمضمت بماء وأنت صائم فقلت لا بأس بذلك فقال رسول الله ص - فصم ولولا أن حكم المثل حكم مثله وأن المعاني والعلل مؤثرة في الأحكام نفيا وإثباتا لم يكن لذكر هذا التشبيه معنى فذكره ليدل به على أن حكم النظير حكم مثله وأن نسبة القبلة التي هي وسيلة إلى الوطء كنسبة وضع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلى شربه فكما أن هذا الأمر لا يضر فكذلك الآخر وقد قال ص - للرجل الذي سأله فقال إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه قال أنت أكبر ولده قال نعم قال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان يجزىء عنه قال نعم قال فحج عنه فقرب الحكم من الحكم وجعل دين الله سبحانه في وجوب القضاء أو في قبوله بمنزلة دين الآدمي وألحق النظير بالنظير وأكد هذا المعنى بضرب من الأولى وهو قوله اقضوا الله فالله أحق بالقضاء ومنه الحديث الصحيح أن رسول الله ص - قال وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان يكون عليه وزر قالوا نعم قال فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر وهذا من قياس العكس الجلي البين وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لثبوت ضد علته فيه ومنه الحديث الصحيح أن أعرابيا أتى رسول الله ص - فقال إني امرأتي ولدت غلاما أسود وإني أنكرته فقال له رسول الله ص - هل لك من إبل قال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق قال إن فيها لورقا قال فإنى ترى ذلك جاءها قال يا رسول الله عرق نزعه قال ولعل هذا عرق نزعه ولم يرخص له في الاتنفاء منه ومن تراجم
البخاري على هذا الحديث باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السائل ثم ذكر بعده حديث ابن عباس أن امرأة جاءت إلى النبي ص - فقالت إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته قالت نعم فقال اقضوا الله فإن الله أحق بالوفاء
الناس طرفان ووسط في القياس
وهذا الذي ترجمه البخاري هو فصل النزاع في القياس لا كما يقوله المفرطون فيه ولا المفرطون فإن الناس فيه طرفان ووسط فأحد الطرفين من ينفي العلل والمعاني والأوصاف المؤثرة ويجوز ورود الشريعة بالفرق بين المتساويين والجمع بين المختلفين ولا يثبت أن الله سبحانه شرع الأحكام لعلل ومصالح وربطها بأوصاف مؤثرة فيها مقتضية لها طردا وعكسا وأنه قد يوجب الشيء ويحرم نظيره من كل وجه ويحرم الشيء ويبيح نظيره من كل وجه وينهى عن الشيء لا لمفسدة فيه ويأمر به لا لمصلحة بل لمحض المشيئة المجردة عن الحكمة والمصلحة وبإزاء هؤلاء قوم أفرطوا فيه وتوسعوا جدا وجمعوا بين الشيئين اللذين فرق الله بينهما بأدنى جامع من شبه أو طرد أو وصف يتخيلونه علة يمكن أن يكون علته وأن لا يكون فيجعلونه هو السبب الذي علق الله ورسوله عليه الحكم بالخرص والظن وهذا هو الذي أجمع السلف على ذمه كما سيأتي إن شاء الله تعالى
والمقصود أن النبي ص - يذكر في الأحكام العلل والأوصاف المؤثرة فيها طردا وعكسا كقوله للمستحاضة التي سألته هل تدع الصلاة زمن استحاضتها فقال لا إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فأمرها أن تصلي مع هذا الدم وعلل بأنه دم عرق وليس بدم حيض وهذا قياس يتضمن الجمع والفرق
قد تغني العلة عن ذكر الأصل
فإن قيل فشرط صحة القياس ذكر الأصل المقيس عليه ولم يذكر في الحديث
قيل هذا من حسن الاختصار والاستغناء بالوصف الذي يستلزم ذكر الأصل المقيس عليه فإن المتكلم قد يعلل بعلة يغني ذكرها عن الأصل ويكون تركه لذكر الأصل أبلغ من ذكره فيعرف السامع الأصل حين يسمع ذكر العلة فلا يشكل عليه ورسول الله ص - حين علل عدم وجوب الصلاة مع هذا الدم بأنه عرق صار الأصل الذي يرده إليه هذا الكلام معلوما فإن كل سامع سمع هذا يفهم منه أن دم العرق لا يوجب ترك الصلاة ولو قال هو عرق فلا يوجب ترك الصلاة كسائر دم العروق لكان عيا وعد من الكلام الركيك ولم يكن لائقا بفصاحته وإنما يليق هذا بعجرفة المتأخرين وتكلفهم وتطويلهم
ونظير هذا قوله ص - لمن سأله عن مس ذكره هل هو إلا بضعة منك فاستغنى بهذا عن تكلف قوله كسائر البضعات
ومن ذلك قوله ص - للمرأة التي سألته هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال نعم فقالت أم سليم أو تحتلم المرأة يا رسول الله فقال رسول الله ص - إنما النساء شقائق الرجال
فبين أن النساء والرجال شقيقان ونظيران لا يتفاوتان ولا يتباينان في ذلك وهذا يدل على أنه من المعلوم الثابت في فطرهم أن حكم الشقيقين والنظيرين حكم واحد سواء كان ذلك تعليلا منه ص - للقدر أو للشرع أو لهما فهو دليل على تساوي الشقيقين وتشابه القرينين وإعطاء أحدهما حكم الآخر
فصل حديث معاذ في القياس
وقد أقر النبي ص - معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله فقال شعبة حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ عن معاذ أن رسول الله ص - لما بعثه إلى اليمن قال كيف تصنع إن عرض لك قضاء قال أقضي بما في كتاب الله قال فإن لم يكن في كتاب الله قال فبسنة رسول الله ص - قال فإن لم يكن في سنة رسول الله ص - قال أجتهد رأيي لا آلو قال فضرب رسول الله ص - صدري ثم قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله ص - فهذا حديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث وقد قال بعض أئمة الحديث إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به قال أبو بكر الخطيب وقد قيل إن عبادة بن نسى رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله ص - لا وصية لوارث وقوله في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وقوله إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع وقوله الدية على العاقلة وإن كانت هذه الأحاديث
لا تثبت من جهة الإسناد ولكن ما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له انتهى كلامه
وقد جوز النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحاكم أن يجتهد رأيه وجعل له على خطئه في اجتهاد الرأي أجرا واحدا إذا كان قصده معرفة الحق واتباعه
فصل الصحابة يجتهدون ويقيسون
وقد كان أصحاب رسول الله ص - يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض ويعتبرون النظير بنظيره
قال أسد بن موسى ثنا شعبة عن زبيد اليامي عن طلحة بن مصرف عن مرة الطبيب عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة كل قوم على بينة من أمرهم ومصلحة من أنفسهم يزرون على من سواهم ويعرف الحق بالمقايسة عند ذوي الألباب وقد رواه الخطيب وغيره مرفوعا ورفعه غير صحيح
وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي ص - في كثير من الأحكام ولم يصنفهم كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق وقال لم يرد منا التأخير وإنما أراد سرعة النهوض فنظروا إلى المعنى واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلا نظروا إلى اللفظ وهؤلاء سلف أهل الظاهر وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس
ولما كان علي رضي الله تعالى عنه باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام فقال كل منهم هو ابني فأقرع علي بينهم فجعل الولد للقارع وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية فبلغ النبي ص - فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي رضي الله عنه
واجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة وحكم فيهم باجتهاده فصوبه النبي ص - وقال لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات
واجتهد الصحابيان اللذان خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فصوبهما وقال للذي لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للآخر لك الأجر مرتين
ولما قاس مجزز المدلجي وقاف وحكم بقياسه وقيافته على أن أقدام زيد وأسامة ابنه بعضها مع بعض سر بذلك رسول الله ص - حتى برقت أسارير وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق وكان زيد أبيض وابنه أسامة أسود فألحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم
وقد تقدم قول الصديق رضي الله عنه في الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد فلما استخلف عمر قال إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر وقال الشعبي عن شريح قال قال لي عمر اقض بما استبان لك من كتاب الله فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله ص - فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله ص - فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح وقد اجتهد ابن مسعود في المفوضة وقال أقول فيها برأيي ووفقه الله للصواب وقال سفيان عن عبد الرحمن الأصبهاني عن عكرمة قال أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين فقال للزوج النصف وللأم الثلث ما بقي وللأب
بقية المال فقال تجده في كتاب الله أو تقوله برأيك قال أقوله برأيي ولا أفضل أما على أب وقايس علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت في المكاتب وقايسه في الجد والإخوة وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع وقال عقلها سواء اعتبروها بها
اجتماع الفقهاء على مسائل في القياس
قال المزني الفقهاء من عصر رسول الله ص - إلى يومنا وهلم جرا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم قال وأجمعوا بأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها
قال أبو عمر بعد حكاية ذلك عنه ومن القياس المجمع عليه صيد ما عدا المكلب من الجوارح قياسا على الكلاب بقوله وما علمتم من الجوارح مكلبين قال تعالى والذين يرمون المحصنات فدخل في ذلك المحصنون قياسا وكذلك قوله في الإماء فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فدخل في ذلك العبد قياسا عند الجمهور إلا من شذ ممن لا يكاد يعد قوله خلافا وقال في جزاء الصيد المقتول في الإحرام ومن قتله منكم متعمدا فدخل فيه قتل الخطأ قياسا عند الجمهور إلا من شذ وقال يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فدخل في ذلك الكتابيات قياسا وقال في الشهادة في المداينات فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء فدخل في معنى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى قياسا المواريث والودائع والغصوب وسائر الأموال
وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسا على الأختين وقال عمن أعسر
بما بقي عليه من الربا وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة فدخل في ذلك كل معسر بدين حلال وثبت ذلك قياسا
ومن هذا الباب توريث الذكر ضعفي ميراث الأنثى منفردا وإنما ورد النص في اجتماعهما بقوله يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقال وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ ا لأنثيين ومن هذا الباب أيضا قياس التظاهر بالبنت على التظاهر بالأم وقياس الرقبة في الظهر على الرقبة في القتل بشرط الإيمان وقياس تحريم الأختين وسائر القرابات من الإماء على الحرائر في الجمع في التسري قال وهذا لو تقصيته لطال به الكتاب
الرد على من ينفون القياس
قلت بعض هذه المسائل فيها نزاع وبعضها لا يعرف فيها نزاع بين السلف وقد رام بعض نفاة القياس إدخال هذه المسائل المجمع عليها في العمومات اللفظية فأدخل قذف الرجال في قذف المحصنات وجعل المحصنات صفة للفروج لا للنساء وأدخل صيد الجوارح كلها في قوله وما علمتم من الجوارح وقوله مكلبين وإن كان من لفظ الكلب فمعناه مغرين لها على الصيد قاله مجاهد والحسن وهو رواية عن ابن عباس وقال أبو سليمان الدمشقي مكلبين معناه معلمين وإنما قيل لهم مكلبين لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب
وهؤلاء وإن أمكنهم ذلك في بعض المسائل كما جزموا بتحريم أجزاء الخنزير لدخوله في قوله فإنه رجس وأعادوا الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع وهم مضطرون فيها ولا بد إلى القياس أو القول بما لم يقل به غيرهم ممن تقدمهم فلا يعلم أحد من أئمة الفتوى يقول في قول النبي ص - وقد سئل عن فأرة وقعت في سمن ألقوها وما حولها وكلوه إن ذلك مختص بالسمن دون سائر الأدهان والمائعات هذا مما يقطع بأن الصحابة والتابعين وأئمة الفتيا
لا يفرقون به بين السمن والزيت والشيرج والدبس كما لا يفرق بين الفأرة والهرة في ذلك وكذلك نهى النبي ص - عن بيع الرطب بالتمر لا يفرق عالم يفهم عن الله ورسوله بين ذلك وبين بيع العنب بالزبيب ومن هذا أن الله سبحانه قال في المطلقة ثلاثا فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله أي إن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا والمراد به تجديد العقد وليس ذلك مختصا بالصورة التي يطلق فيها الثاني فقط بل متى تفارقا بموت أو خلع أو فسخ أو طلاق حلت للأول قياسا على الطلاق ومن ذلك قول النبي ص - لا تأكلوا في آنية من الذهب والفضة ولا تشربوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة وقوله الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم وهذا التحريم لا يختص بالأكل والشرب بل يعم سائر وجوه الانتفاع فلا يحل له أن يغتسل بها ولا يتوضأ بها ولا يدهن فيها ولا يتكحل منها وهذا أمر لا يشك فيه عالم ومن ذلك نهى النبي ص - المحرم عن لبس القميص والسراويل والعمامة والخفين ولا يختص ذلك بهذه الأشياء فقط بل يتعدى النهي إلى الجباب والدلوق والمبطنات والفراجي والأقبية والعرقشينات وإلى القبع والطاقية والكوفية والكلوثة والطيلسان والقلنسوة وإلى الجوربين والجرموقين والزربول ذي الساق وإلى التبان ونحوه
ومن هذا قول النبي ص - إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فلو ذهب معه بخرقة وتنظف أكثر من الأحجار
أو قطن أو صوف أو خز ونحو ذلك جاز وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز وأولى
ومن ذلك أن النبي ص - نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو يخطب على خطبته ومعلوم أن المفسدة التي نهى عنها في البيع والخطبة موجودة في الإجارة فلا يحل له أن يؤجر على إجارته وإن قدر دخول الإجارة في لفظ البيع العام وهو بيع المنافع فحقيقتها غير حقيقة البيع وأحكامها غير أحكامه
ومن ذلك قوله سبحانه في آية التيمم وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدكم منكم الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فألحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها بالغائط والآية لم تنص من أنواع الحدث الأصغر إلا عليه وعلى اللمس على قول من فسره بما دون الجماع وألحقت الاحتلام بملامسة النساء وألحقت واجد ثمن الماء بواجده وألحقت من خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بالعادم فجوزت له التيمم وهو واجد للماء وألحقت من خشي المرض من شدة برد الماء بالمريض في العدول عنه إلى البدل وإدخال هذه الأحكام وأمثالها في العمومات المعنوية التي لا يستريب من له فهم عن الله ورسوله في قصد عمومها وتعليق الحكم به وكونه متعلقا بمصلحة العبد أولى من إدخالها في عمومات لفظية بعيدة التناول لها ليست بحرية الفهم مما لا ينكر تناول العمومين لها فمن الناس من يتنبه لهذا ومنهم من يتنبه لهذا ومنهم من يتفطن لتناول العمومين لها
ومن ذلك قوله تعالى وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة وقاست الأمة الرهن في الحضر على الرهن في السفر والرهن مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه فإن استدل على ذلك بأن النبي ص - رهن
درعه في الحضر فلا عموم في ذلك فإنما رهنها على شعير استقرضه من يهودي فلا بد من القياس إما على الآية وإما على السنة ومن ذلك أن سمرة بن جندب لما باع خمر أهل الذمة وأخذه في العشور التي عليهم فبلغ عمر فقال قاتل الله سمرة أما علم أن رسول الله ص - لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها وهذا محض القياس من عمر رضي الله عنه فإن تحريم الشحوم على اليهود كتحريم الخمر على المسلمين وكما ثمن الشحوم المحرمة فكذلك يحرم ثمن الخمر الحرام
ومن ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا العبد على النصف من الحر في النكاح والطلاق والعدة قياسا على ما نص الله عليه من قوله فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب قال عبد الرزاق أنا سفيان بن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ينكح العبد اثنيتن
وقال عبد الرزاق أنبأنا سفيان الثوري وابن جريج قالا ثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة قال ينكح العبد اثنتين
وذكر الإمام أحمد عن محمد بن سيرين قال سأل عمر بن الخطاب الناس كم يتزوج العبد فقال عبد الرحمن بن عوف اثنتين وطلاقه ثنتان وهذا كان بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد
وقال محمد بن عبد السلام الخشني حدثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن ليث بن أبي سليم عن عطاء قال أجمع أصحاب رسول الله ص - أن العبد لا يجمع بين النساء فوق اثنتين
وروى حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس أن عمر قال
لو أستطيع أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا لفعلت فقال رجل يا أمير المؤمنين فاجعلها شهرا ونصف فسكت
وقال عبد الله بن عتبة عن عمر عدة الأمة إذا لم تحض شهران كعدتها إذا حاضت حيضتين
وروى ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة عن عمر ينكح العبد امرأتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة حيضتين وإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهرا ونصفا وقال علي عدة الأمة حيضتان فإن لم تكن تحيض فشهر ونصف
والمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم نصفوا ذلك قياسا على تنصيف الله سبحانه الحد على الأمة
ومن ذلك أن الصحابة قدموا الصديق في الخلافة وقالوا رضيه رسول الله ص - لديننا أفلا نرضاه لدنيانا فقاسوا الإمامة الكبرى على إمامة الصلاة وكذلك اتفاقهم على كتابة المصحف وجمع القرآن فيه وكذلك اتفاقهم على جمع الناس على مصحف واحد وترتيب واحد وحرف واحد وكذلك منع عمر وعلي من بيع أمهات الأولاد برأيهما وكذلك تسوية الصديق بين الناس في العطاء برأيه وتفضيل عمر برأيه وكذلك إلحاق عمر حد الخمر بحد القذف برأيه وأقره الصحابة وكذلك توريث عثمان بن عفان رضي الله عنه المبتوتة في مرض الموت برأيه ووافقه الصحابة وكذلك قول ابن عباس في نهي النبي ص - عن بيع الطعام قبل قبضه قال أحسب كل شيء بمنزلة الطعام وكذلك عمر وزيد لما ورثا الأم ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين قاسا وجود الزوج على ما إذا لم يكن زوج فإنه حينئذ يكون للأب ضعف ما للأم فقدرا أن الباقي بعد الزوج والزوجة كل المال وهذا من أحسن القياس فإن قاعدة الفرائض أن الذكر والأنثى إذا اجتمعا وكانا في درجة واحدة فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى كالأولاد وبني الأب
وإما أن تساويه كولد الأم وأما أن الأنثى تأخذ ضعف ما يأخذ الذكر مع مساواته لها في درجته فلا عهد به في الشريعة فهذا من أحسن الفهم عن الله ورسوله وكذلك أخذ الصحابة في الفرائض بالعول وإدخال النقص على جميع ذوي الفروض قياسا على وإدخال النقص على الغرماء إذا ضاق مال المفلس عن توفيتهم وقد قال النبي ص - للغرماء خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك وهذا محض العدل على أن تخصيص بعض المستحقين بالحرمان وتوفية بعضهم بأخذ نصيبه ليس من العدل
اتفاق في قياس حد الشرب على حد القذف
وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن أيوب السختياني عن عكرمة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الناس في حد الخمر وقال إن الناس قد شربوها واجترءوا عليها فقال له علي كرم الله وجهه إن السكران إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فاجعله حد الفرية فجعله عمر حد الفرية ثمانين ورواه مالك عن ثور بن زيد الديلي أن عمر شاور الناس ورواه وكيع حدثنا ابن أبي خالد عن الشعبي قال استشارهم عمر فذكره ولم ينفرد علي بهذا القياس بل وافقه عليه الصحابة قال الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن ابن عوف عن وبرة الصلي قال بعثني خالد بن الوليد إلى عمر فأتيته وعنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف متكئون في المسجد فقلت له إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الناس انبسطوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فما ترى فقال عمر هم هؤلاء عندك قال فقال علي أراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون فاجتمعوا على ذلك فقال عمر بلغ صاحبك ما قالوا فضرب خالد ثمانين وضرب عمر ثمانين قال وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنتهك في الشراب ضربه ثمانين وإذا أتى بالرجل الذي كان منه الزلة الضعيف ضربه أربعين وجعل ذلك عثمان أربعين وثمانين وهذه مراسيل ومسندات من وجوه متعددة يقوي بعضها بعضا وشهرتها تغني عن إسنادها
الصحابة يقيسون في فرص الجد مع الإخوة
وقال عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن عيسى بن أبي عيسى الخياط عن الشعبي قال كره عمر الكلام في الجد حتى صار جدا وقال إنه كان من رأي أبي بكر أن الجد أولى من الأخ وذكر الحديث وفيه فسأل عنها زيد بن ثابت فضرب له مثلا بشجرة خرجت ولها أغصان قال فذكر شيئا لا أحفظه فجعل له الثلث قال الثوري وبلغني أنه قال يا أمير المؤمنين شجرة نبتت فانشعب منها غصن فانشعب من الغصن غصنان فما جعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني وقد خرج الغصنان من الغصن الأول قال ثم سأل عليا فضرب له مثلا واديا سال فيه سيل فجعله أخا فيما بينه وبين ستة فأعطاه السدس وبلغني أن عليا كرم الله وجهه حين سأله عمر جعله سيلا قال فانشعب منه شعبة ثم انشعبت شعبتان فقال أرأيت لو أن هذه الشعبة الوسطى تيبس أما كانت ترجع إلى الشعبتين جميعا قال الشعبي فكان زيد يجعله أخا حتى يبلغ ثلاثة هو ثالثهم فإن زادوا على أعطاه الثلث وكان على يجعله أخا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم ويعطيه السدس فإن زادوا على ستة أعطاه السدس وصار ما بقي بينهم وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث الجد والإخوة قال زيد وكان رأيي يومئذ أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد وعمر بن الخطاب يرى يومئذ أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة فضربت له في ذلك مثلا فقلت لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك الغصن خوطان ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الأصل
ويغذوهما ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الأصل قال زيد فأنا أعذله وأضرب له هذه الأمثال وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الإخوة ويقول والله لو أني قضيته اليوم لبعضهم لقضيت به للجد كله ولكن لعلى لا أخيب منهم أحدا ولعلهم أن يكونوا كلهم ذوى حق وضرب على وابن عباس لعمر يومئذ مثلا معناه لو أن سيلا سال فخلج منه خليج ثم خلج من ذلك الخليج شعبتان
ورأى الصديق أولى من هذا الرأي وأصح في القياس لعشرة أوجه ليس هذا موضع ذكرها
والجواب عن هذه الأمثلة أن المقصود أن الصحابة رضى الله عنهم كانوا يستعملون القياس في الأحكام ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر ولا يلتفت إلى من يقدح في كل سند من هذه الأسانيد وأثر من هذه الآثار فهذه في تعددها واختلاف وجوهها وطرقها جارية مجرى التواتر المعنوي الذي لا يشك فيه وإن لم يثبت كل فرد فرد من الأخبار به
وقال عبد الرزاق حدثنا ابن جريج قال أخبرني عمرو قال أخبرني حي بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يقول وذكر قصة الذي قتلته امرأة أبيه وخليلها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أن اقتلهما فلو اشترك فيه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم قال ابن جريج فأخبرني عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعا إن عمر كان يشك فيها حتى قال له علي يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا أكنت قاطعهم قال نعم قال وذلك حين استخرج له الرأي
قياس ابن عباس في مناقشته مع الخوارج
وقال عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عمن حدثه عن ابن عباس قال أرسلني علي إلى الحرورية لأكلمهم فلما قالوا لا حكم إلا لله قلت أجل صدقتم لا حكم إلا لله وإن الله حكم في رجل وامرأته وحكم
في قتل الصيد فالحكم في رجل وامرأته والصيد أفضل أم الحكم في الأمة يرجع بها ويحقن دماءها ويلم شعثها
وقال عبد الله بن المبارك حدثنا عكرمة بن عمار ثنا سماك الحنفي قال سمعت ابن عباس يقول قال علي لا تقاتلوهم حتى يخرجوا فإنهم سيخرجون قال قلت يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فإني أريد أن أدخل عليهم فأسمع من كلامهم وأكلمهم فقال علي أخشى عليك منهم قال وكنت رجلا حسن الخلق لا أوذي أحدا قال فلبست أحسن ما يكون من اليمنية وترجلت ثم دخلت عليهم وهم قائلون فقالوا لي ما هذا اللباس فتلوت عليهم القرآن قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ولقد رأيت رسول الله ص - يلبس أحسن ما يكون من اليمنية فقالوا لا بأس فما جاء بك فقلت أتيتكم من عند صاحبي وهو ابن عم رسول الله ص - وختنه وأصحاب رسول الله ص - أعلم بالوحي منكم وعليهم نزل القرآن أبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم فما الذي نقمتم فقال بعضهم إن قريشا قوم خصمون قال الله تعالى بل هم قوم خصمون فقال بعضهم كلموه فانتحى لي رجلان رجلان أو ثلاثة فقالوا إن شئت تكلمت وإن شئت تكلمنا فقلت بل تكلموا فقالوا ثلاث نقمناهن عليه جعل الحكم إلى الرجال وقال الله إن الحكم إلا لله فقلت قد جعل الله الحكم من أمره إلى الرجال في ربع درهم في الأرنب وفي المرأة وزوجها فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها أفخرجت من هذه قالوا نعم قالوا وأخرى محا نفسه أن يكون أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فأمير الكافرين هو فقلت لهم أرأيتم إن قرأت من كتاب الله عليكم وجئتكم به من سنة رسول الله ص - أترجعون قالوا نعم قلت قد سمعتم أو أراه قد بلغكم أنه لما كان يوم الحديبية جاء سهيل بن عمرو إلى رسول الله ص - فقال النبي ص - لعلي اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ص - فقالوا لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك فقال رسول الله ص - لعلي
امح يا علي أفخرجت من هذه قالوا نعم قال وأما قولكم قتل ولم يسب ولم يغنم أفتسبون أمكم وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها فإن قلتم نعم فقد كفرتم بكتاب الله وخرجتم من الإسلام فأنتم بين ضلالتين وكلما جئتهم بشيء من ذلك أقول أفخرجت منها فيقولون نعم قال فرجع منهم ألفان وبقي ستة آلاف وله طرق عن ابن عباس وقياسه المذكور من أحسن القياس وأوضحه
وقد أنكر ابن عباس على زيد بن ثابت مخالفته للقياس في مسألة الجد والإخوة فقال ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا وهذا محض القياس
ولما خص الصديق أم الأم بالميراث دون أم الأب قال له بعض الأنصار لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت فشرك بينهما
قال عبد الرزاق أخبرنا ابن عيينة عن يحي بن سعيد عن القاسم بن محمد قال جاءت جدتان إلى أبي بكر فأعطى الميراث أم الأم دون أم الأب فقال له رجل من الأنصار من بني حارثة يقال له عبد الرحمن بن سهل يا خليفة رسول الله قد أعطيت الميراث التي لو ماتت لم يرثها فجعل الميراث بينهما
ولما شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة بن شعبة بالحد ولم يكملوا النصاب حدهم عمر قياسا على القاذف ولم يكونوا قذفه بل شهودا وقال عثمان لعمر إن نتبع رأيك فرأيك أسد وإن نتبع رأي من قبلك فلنعلم ذو الرأي كان وقال علي اجتمع رأيي ورأي عمر في بيع أمهات الأولاد أن لا يبعن ثم رأيت بيعهن فقال له قاضيه عبيدة السلماني يا أمير المؤمنين رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة
ولما أرسل عمر إلى المرأة فأسقطت جنينها استشار الصحابة فقال له عبد الرحمن بن عوف وعثمان إنما أنت مؤدب ولا شيء عليك وقال له علي أما المأثم فأرجو أن يكون محطوطا عنك وأرى عليك الدية فقاسه عثمان
وعبد الرحمن على مؤدب امرأته وغلامه وولده وقاسه علي على قاتل الخطأ فاتبع عمر قياس علي
ولما احتضر الصديق رضي الله عنه أوصى بالخلافة إلى عمر رضى الله عنه وقاس ولايته لمن بعده إذ هو صاحب الحل و العقد على ولاية المسلمين له إذا كانوا هم أهل الحل و العقد و هذا من أحسن القياس
رآى الصحابة في المرآة المخيرة وقال على كرم الله وجهه سألني أمير المؤمنين عمر عن الخيار فقلت إن اختارت زوجها فهي واحدة وهو أحق بها وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة فقال ليس كذلك إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها وإن اختارت زوجها فلا شيء فاتبعته على ذلك فلم خلص الأمر إلى وعلمت أنى أسأل عن الفروج عدت إلى ما كنت أرى فقال له زاذان لأمر جامعت عليه أمير المؤمنين و تركت رأيك له أحب إلينا من أمر انفردت به فضحك وقال أما إنه قد أرسل إلى زيد بن ثابت و خالفني وإياه وقال إن اختارت زوجها فهى واحدة وزوجها أحق بها وإن اختارت نفسها فهي ثلاث وهذا رأى منهم كلهم رضى الله عنهم ورأى عمر رضى الله عنه أقوى وأصح
وقال عمر لعلى إني قد رأيت في الجد رأيا فاتبعوني فقال على رضى الله عنه إن نتبع رأيك فرأيك رشيد وإن نتبع رأى من قبلك فنعم ذو الرأي كان وهل مع زيد بن ثابت في مسائل الجد والأخوة والمعادة والأكدرية نص من القرآن أوسنة أو إجماع إلا مجرد الرأي
ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لامرأته أنت على حرام فقال شيخا الإسلام وبصرا الدين وسمعه أبو بكر وعمر هو يمين وتبعهما حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس وقال سيف الله على كرم الله وجهه وزيد هو طلاق ثلاث وقال ابن مسعود طلقة واحدة وهذا من الاجتهاد والرأي
الصحابة أول من قاسوا واجتهدوا
فالصحابة رضى الله عنهم مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله وهل يستريب عاقل في أن النبي ص - لما قال لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه ويمنعه من كمال الفهم ويحول بينه وبين استيفاء النظر ويعمى عليه طريق العلم والقصد فمن قصر النهى على الغضب وحده دون الهم المزعج والخوف المقلق والجوع والظمأ الشديد وشغل القلب المانع من الفهم فقد قل فقهه وفهمه والتعويل في الحكم على قصد المتكلم والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني والتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم ومراده يظهر من عموم لفظه تارة ومن عموم المعنى الذي قصده تارة وقد يكون فهمه من المعنى أقوى وقد يكون من اللفظ أقوى وقد يتقاربان كما إذا قال الدليل لغيره لا تسلك هذا الطريق فإن فيها من يقطع الطريق أو هي معطشة مخوفة علم هو وكل سامع أن قصده أعم من لفظه وأنه أراد نهيه عن كل طريق هذا شأنها فلو خالفه وسلك طريقا أخرى عطب بها حسن لومه ونسب إلى مخالفته ومعصيته ولو قال الطبيب للعليل وعنده لحم ضأن لا تأكل الضأن فإنه يزيد في مادة المرض لفهم كل عاقل منه أن لحم الإبل والبقر كذلك ولو أكل منهما لعد مخالفا والتحاكم في ذلك إلى فطر الناس وعقولهم ولو من عليه غيره بإحسانه فقال والله لا أكلت له لقمة ولا شربت له ماء يريد خلاصه من منته عليه ثم قبل منه الدراهم والذهب والثياب والشاة ونحوها لعده العقلاء واقعا فيما هو أعظم مما حلف عليه ومرتكبا لذروة سنامه ولو لامه عاقل على كلامه لمن لا يليق به محادثته من امرأة أوصي فقال والله لا كلمته ثم رآه خاليا به يواكله ويشاربه ويعاشره ولا يكلمه لعدوه مرتكبا لأشد مما حلف عليه وأعظمه
العمل بالقياس فطرة فطر الله عليها الناس
وهذا مما فطر الله عليه عباده ولهذا فهمت الأمة من قوله تعالى إن اللذين يأكلون أموال اليتامى ظلما جميع وجوه الانتفاع من اللبس والركوب والمسكن وغيرها
وفهمت من قوله تعالى ولا تقل لهما أف إرادة النهي عن جميع أنواع الأذى بالقول والفعل وإن لم ترد نصوص أخرى بالنهي عن عموم الأذى فلو بصق رجل في وجه والديه وضربهما بالنعل وقال إني لم أقل لهما أف لعده الناس في غاية السخافة والحماقة والجهل من مجرد تفريقه بين التأفيف المنهي عنه وبين هذا الفعل قبل أن يبلغه نهي غيره ومنع هذا مكابرة للعقل والفهم والفطرة فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده والألفاظ لم تقصد لذواتها وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة لا يخل بها أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره ومشبهه فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ويكره هذا ويحب هذا ويبغض هذا وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه لما لا يوجد في كلامه صريحا وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة
العبرة بالإرادة لا باللفظ
وهذا أمر يعم أهل الحق والباطل لا يمكن دفعه فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة فإذا دعي إلى
غداء فقال والله لا أتغدى أو قيل له نم فقال والله لا أنام أو اشرب هذا الماء فقال والله لا أشرب فهذه كلها ألفاظ عامة نقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يقطع السامع عند سماعها بأنه لم يرد النفي العام إلى آخر العمر والألفاظ ليست تعبدية والعارف يقول ماذا أراد واللفظي يقول ماذا قال كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي ص - يقولون ماذا قال آ نفا وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا فذم من لم يفقه كلامه والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم من كلامه وهذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم
وقد كان الصحابة يستدلون على إذن الرب تعالى وإباحته بإقراره وعدم إنكاره عليهم في زمن الوحي وهذا استدلال على المراد بغير لفظ بل بها عرف من موجب أسمائه وصفاته وأنه لا يقر على باطل حتى يبينه وكذلك استدلال الصديقة الكبرى أم المؤمنين خديجة بما عرفته من حكمة الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته ورحمته أنه لا يخزي محمدا ص - فإنه يصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق وإن من كان بهذه المثابة فإن العزيز الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإله رب العالمين لا يخزيه ولا يسلط عليه الشيطان وهذا استدلال منها قبول ثبوت النبوة والرسالة بل استدلال على صحتها وثبوتها في حق من هذا شأنه فهذا معرفة منها بمراد الرب تعالى وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته المحسن بإحسانه وأنه لا يضيع أجر المحسنين وقد كانت الصحابة أفهم الأمة لمراد نبيها وأتبع له وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده ولم يكن أحد منهم يظهر له مراد رسول الله ص - ثم يعدل عنه إلى غيره البتة
كيف يعرف مراد المتكلم
والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه وتارة من عموم علته
والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر
أغلاط أصحاب الألفاظ وأصحاب المعاني
وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها وهضمها تارة وتحميلها فوق ما أريد بها تارة ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين
ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك ليعتبر به غيره فنقول
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون فلفظ الخمر عام ففي كل مسكر فإخرج بعض الأشربة المسكرة عن شمول اسم الخمر لها تقصير به وهضم لعمومه بل الحق ما قاله صاحب الشرع كل مسكر خمر وإخراج بعض أنواع الميسر عن شمول اسمه لها تقصير أيضا به وهضم لمعناه فما الذي جعل النرد الخالي عن العوض من الميسر وأخرج الشطرنج عنه مع أنه من أظهر أنواع الميسر كما قال غير واحد من السلف إنه ميسر وقال كرم الله وجهه هو ميسر العجم
وأما تحميل اللفظ فوق ما يحتمله فكما حمل لفظ قوله تعالى يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقوله في آية البقرة إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها تديرونها بينكم مسألة العينة التي هي ربا بحيلة وجعلها من التجارة لعمر الله إن الربا الصريح تجارة للمرابي وأي تجارة وكما حمل قوله تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره على مسألة التحليل وجعل التيس المستعار الملعون على لسان رسول الله ص - داخلا في اسم الزوج وهذا في التجارة يقابل الأول في التقصير
ولهذا كان معرفة حدودها ما أنزل الله على رسوله أصل العلم وقاعدته وأخيته التي يرجع إليها فلا يخرج شيئا من معاني ألفاظه عنها ولا يدخل فيها ما ليس منها بل يعطيها حقها ويفهم المراد منها
ومن هذا لفظ الإيمان والحلف أخرجت طائفة منه الإيمان الالتزامية التي يلتزم صاحبها بها إيجاب شيء أو تحريمه وأدخلت طائفة فيها التعليق المحض الذي لا يقتضي حضا ولا منعا والأول نقص من المعنى والثاني تحميل له فوق معناه
ومن ذلك لفظ الربا أدخلت فيه طائفة ما لا دليل على تناول اسم الربا له كبيع الشيرج بالسمسم والدبس بالعنب والزيت بالزيتون وكل ما استخرج من ربوي وعمل منه بأصله وإن خرج عن اسمه ومقصوده وحقيقته وهذا لا دليل عليه يوجب المصير إليه من من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا ميزان صحيح وأدخلت فيه من مسائل مد عجوة ما هو أبعد شيء عن الربا وأخرجت طائفة أخرى منه ما هو من الربا الصحيح حقيقة قصدا وشرعا كالحيل الربوية التي هي أعظم مفسدة من الربا الصريح ومفسدة الربا البحت الذي لا يتوصل إليه بالسلاليم أقل بكثير وأخرجت منه طائفة بيع الرطب بالتمر وإن كان كونه من الربا أخفى من كون الحيل الربوية منه فإن التماثل موجود فيه في الحال دون المآل وحقيقة الربا في الحيل الربوية أكمل وأتم منها في العقد الربوي الذي لا حيلة فيه
ومن ذلك لفظ البينة قصرت بها طائفة فأخرجت منه الشاهد واليمين وشهادة العبيد العدول الصادقين المقبولي القول على الله ورسوله وشهادة النساء منفردات في المواضع التي لا يحضرهن فيه الرجال كالأعراس والحمامات وشهادة الزوج في اللعان إذا نكلت المرأة وأيمان المدعين الدم إذا ظهر اللوث ونحو ذلك ما يبين الحق أعظم من بيان الشاهدين وشهادة القاذف وشهادة الأعمى على ما يتيقنه وشهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلم وشهادة الحال في تداعي الزوجين متاع البيت وتداعي النجار والخياط آلتهما ونحو ذلك وأدخلت فيه طائفة ما ليس منه كشهادة مجهول الحال الذي لا يعرف بعدالة ولا فسق وشهادة وجوه الأجر ومعاقد القمط ونحو ذلك والصواب أن كل ما بين الحق فهو بينة ولم يعطل الله ولا رسوله حقا بعدما تبين بطريق
من الطرق أصلا بل حكم الله ورسوله الذي لا حكم له سواه أنه متى ظهر الحق ووضح بأي طريق كان وجب تنفيذه ونصره وحرم تعطيله وإبطاله وهذا باب يطول استقصاؤه ويكفي المستبصر التنبيه عليه وإذا فهم هذا في جانب اللفظ فهم نظيره في جانب المعنى سواء
الظاهرية وأصحاب الرأي مفرطون
وأصحاب الرأي والقياس حملوا معاني النصوص فوق ما حملها الشارع وأصحاب الألفاظ والظواهر قصروا بمعانيها عن مراده فأولئك قالوا إذا وقعت قطرة من دم في البحر فالقياس أنه ينجس ونجسوا بها الماء الكثير مع أنه لم يتغير منه شيء البتة بتلك القطرة وهؤلاء قالوا إذا بال جرة من بول وصبها في الماء لم تنجسه وإذا بال في الماء نفسه ولو أدنى شيء نجسه ونجس أصحاب الرأي والمقاييس القناطير المقنطرة ولو كانت ألف ألف قنطار من سمن أو زيت أو شيرج بمثل رأس الإبرة من البول و الدم والشعرة الواحدة من الكلب والخنزير عند من ينجس شعرهما وأصحاب الظواهر والألفاظ عندهم لو وقع الكلب والخنزير بكماله أو أي ميتة كانت في أي ذائب كان من زيت أو شيرج أو خل أو دبس أو ودك غير السمن ألقيت الميتة فقط وكان ذلك المائع حلالا طاهرا كله فإن وقع ما عدا الفأرة في السمن من كلب أو وخنزير أو أي نجاسة كانت فهو طاهر حلال ما لم يتغير
ومن ذلك أن النبي ص - قال لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين يعني في الإحرام فسوى بين يديها ووجها في النهي عما صنع على قدر العضو ولم يمنعها من تغطية وجهها ولا أمرها بكشفه البتة ونساؤه ص - أعلم الأمة بهذه المسألة وقد كن يسدلن على وجوههن إذا حاذاهن الركبان فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن وروى وكيع عن شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة العدوية قالت سألت عائشة ما تلبس المحرمة فقالت لا تنتقب ولا تتلثم وتسدل الثوب على وجهها فجاوزت طائفة ذلك
ومنعتها من تغطية وجهها جملة قالوا وإذا سدلت على وجهها فلا تدع الثوب يمس وجهها فإن مسه افتدت ولا دليل على هذا البتة وقياس قول هؤلاء إنها إذا غطت يدها افتدت فإن النبي ص - سوى بينهما في النهي وجعلهما كبدن المحرم فنهى عن لبس القميص والنقاب والقفازين هذا للبدن وهذا للوجه وهذا لليدين ولا يحرم ستر البدن فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها من جلبابها لئلا تعرف ويفتتن بصورتها ولولا أن النبي ص - قال في المحرم ولا يخمر رأسه لجاز تغطيته بغير العمامة
وقد روى الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة عثمان وابن عباس وعبد الله ابن الزبير وزيد بن ثابت وجابر أنهم كانوا يخمرون وجوههم وهم محرمون فإذا كان هذا في حق الرجل وقد أمر بكشف رأسه فالمرأة بطريق الأولى والأحرى
وقصرت طائفة أخرى فلم تمنع المحرمة من البرقع ولا اللثام قالوا إلا أن يدخلا في اسم النقاب فتمنع منه وعذر هؤلاء أن المرجع إلى ما نهى عنه النبي ص - ودخل في لفظ المنهي عنه فقط والصواب النهي عما عما دخل في عموم لفظه وعموم معناه وعلته فإن البرقع واللثام وإن لم يسميا نقابا فلا فرق بينهما وبينه بل إذا نهيت عن النقاب فالبرقع واللثام أولى ولذلك منعتها أم المؤمنين من اللثام
ومن ذلك لفظ الفدية أدخل فيها طائفة خلع الحيلة على فعل المحلوف عليه مما هو ضد الفدية إذ المراد بقاء النكاح بالخلاص من الحنث وهي إنما شرعت لزوال النكاح عند الحاجة إلى زواله وأخرجت منه طائفة ما فيه حقيقة الفدية ومعناها واشترطت له لفظا معنيا وزعمت أنه لا يكون فدية وخلعا إلا به
وأولئك تجاوزوا به وهؤلاء قصروا به والصواب أن كل ما دخله المال فهو فدية بأي لفظ كان والألفاظ لم ترد لذواتها ولا تعبدنا بها وإنما هي وسائل إلى المعاني فلا فرق قط بين أن تقول اخلعني بألف أو فادني بألف لا حقيقة ولا شرعا ولا لغة ولا عرفا وكلام ابن عباس والإمام أحمد عام في ذلك لم يقيده أحدهما بلفظ ولا استثنى لفظا دون لفظ بل قال ابن عباس عامة طلاق أهل اليمن الفداء وقال الإمام أحمد الخلع فرقة وليس بطلاق وقال الخلع ما كان من جهة النساء وقال ما أجازه المال فليس بطلاق وقال إذا خالعها بعد تطليقتين فإن شاء راجعها فتكون معه على واحدة
وقال في رواية أبي طالب الخلع مثل حديث سهلة إذا كرهت المرأة الرجل وقالت لا أبرأ لك قسما ولا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة فقد حل له أن يأخذ منها ما أعطاها لأن النبي ص - قال أتردين عليه حديقته قلت وقد قال في الحديث اقبل الحديقة وطلقها تطليقة وجعل أحمد ذلك فداء
وقال ابن هانىء سئل أبو عبد الله عن الخلع أفسخ أم طلاق هو أم تذهب إلى حديث ابن عباس كان يقول فرقة وليس بطلاق فقال أبو عبد الله كان ابن عباس يتأول في هذه الآية الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به وكان ابن عباس يقول هو فداء قال ابن عباس ذكر الله الطلاق في أول الآية والفداء في وسطها وذكر الطلاق بعد فالفداء ليس هو بطلاق وإنما هو فداء فجعل ابن عباس وأحمد الفداء فداء لمعناه لا للفظه وهذا هو الصواب فإن الحقائق لا تتغير بتغير الألفاظ وهذا باب يطول تتبعه
والمقصود أن الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يتجاوز بألفاظها ومعانيها ولا يقصر بها ويعطي اللفظ حقه والمعنى حقه وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه وأخبرهم أنهم أهل العلم ومعلوم أن الاستباط إنما هو استنباط المعاني والعلل ونسبة بعضها إلى بعض فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله ومشبهه ونظيره ويلغي ما لا يصح هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط
قال الجوهري الاستنباط كالاستخراج ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم والله سبحانه ذم من سمع ظاهرا مجردا فأذاعه وأفشاه وحمد من استنبط من أولى العلم حقيقته ومعناه
يوضحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفي على غير مستنبطه ومنه استنباط الماء من أرض البئر والعين ومن هذا قول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل هل خصكم رسول الله ص - بشيء دون الناس فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه
ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره ومراد المتكلم بكلامه ومعرفة حدود كلامه بحيث لا يدخل فيها غير المراد ولا يخرج منها شيء من المراد
وأنت إذا تأملت قوله تعالى إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي ص - وأن هذا القرآن جاء من عند الله وأن الذي جاء به روح مطهر فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل ووجدت الآية أخت قوله وما تنزلت به الشياطين
وما ينبغي لهم وما يستطيعون ووجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر ووجدتها دالة أيضا بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به وعمل به كما فهمه البخاري من الآية فقال في صحيحه في ذباب قل فأتوا بالتوراة فاتلوها لا يمسه لا يجد طعمه ولا نفعه إلا من آمن بالقرآن ولا يحمله بحقه إلا المؤمن لقوله تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا وتجد تحته أيضا أنه لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي إلا القلوب الطاهرة وان القلوب النجسة ممنوعة من فهمه مصروفة عنه فتأمل هذا النسب القريب وعقد هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسن وجه وأبينه فهذا من الفهم الذي أشار إليه علي رضي الله عنه
وتأمل قوله تعالى لنبيه وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم كيف يفهم منه أنه إذا كان وجود بدنه وذاته فيهم دفع عنهم العذاب وهم أعداؤه فكيف وجود سره والإيمان به ومحبته ووجود ما جاء به إذا كان في قوم أو كان في شخص أفليس دفعه العذاب عنهم بطريق الأولى والأحرى
وتأمل قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم كيف تجد تحته بألطف دلالة وأدقها وأحسنها أنه من اجتنب الشرك جميعه كفرت عنه كبائره وأن نسبة الكبائر إلى الشرك كنسبة الصغائر إلى الكبائر فإذا وقعت الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر تقع مكفرة باجتناب الشرك وتجد الحديث الصحيح كأنه مشتق من هذا المعنى وهو قوله ص - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى ابن آدم إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة وقوله إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه بل محو التوحيد الذي هو توحيد الكبائر أعظم من محو اجتناب الكبائر للصغائر
وتأمل قوله تعالى وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون كيف نبههم بالسفر الحسي على السفر إليه وجمع لهم بين السفرين كما جمع لهم الزادين في قوله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى فجمع لهم بين زاد سفرهم وزاد معادهم وكما جمع بين اللباسين في قوله يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا ليواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون فذكر سبحانه زينة ظواهرهم وبواطنهم ونبههم بالحسي على المعنوي وفهم هذا القدر زائد على فهم مجرد اللفظ ووضعه في أصل اللسان والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله
فصل أدلة نفاة القياس
قد أتينا على ذكر فصول نافعة وأصول جامعة في تقرير القياس والاحتجاج به لعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب ولا بقريب منها فلنذكر مع ذلك ما قابلها من النصوص والأدلة الدالة على ذم القياس وأنه ليس من الدين وحصول الاستغناء عنه والاكتفاء بالوحيين وها نحن نسوقها مفصلة مبينة بحمد الله
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وأجمع المسلمون على أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول ص - هو الرد إليه في حضوره وحياته وإلى سنته في غيبته وبعد مماته والقياس ليس بهذا ولا هذا
ولا يقال الرد إلى القياس هو من الرد إلى الله ورسوله لدلالة كتاب الله
وسنة رسوله عليه السلام كما تقدم تقريره لأن الله سبحانه إنما ردنا إلى كتابه وسنة رسوله ولم يردنا إلى قياس عقولنا وآرائنا قط بل قال تعالى لنبيه ص - وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقال إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولم يقل بما رأيت أنت وقال ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وقال تعالى اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وقال تعالى وأنزلنا إليك الكتاب تبيانا لكل شيء وقال أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون وقال قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي فلو كان القياس هدى لم ينحصر الهدى في الوحي وقال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده وهو تحكيمه في حال حياته وتحكيم سنته فقط بعد وفاته وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله أي لا تقولوا حتى يقول
قال نفاة القياس والإخبار عنه بأنه حرم ما سكت عنه أو أوجبه قياسا على ما تكلم بتحريمه أو إيجابه تقدم بين يديه فإنه إذا قال حرمت عليكم الربا في البر فقلنا ونحن نقيس على قولك البلوط فهذا محض التقدم
قالوا وقد حرم سبحانه أن نقول عليه ما لا نعلم فإذا فعلنا ذلك فقد واقعنا هذا المحرم يقينا فإنا غير عالمين بأنه أراد من تحريم الربا في الذهب والفضة تحريمه في القديد من اللحوم وهذا قفو منا ما ليس لنا به علم وتعد لما حد لنا ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه والواجب أن نقف عند حدوده ولا نتجاوزها ولا نقصر بها
ولا يقال فإبطال القياس وتحريمه والنهي عنه تقدم بين يدي الله ورسوله
وتحريم لما لم ينص على تحريمه وقفو ممنكم ما ليس لكم به علم لأنا نقول الله سبحانه وتعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا وأنزل علينا كتابه وأرسل إلينا رسوله يعلمنا الكتاب والحكمة فما علمناه وبينه لنا فهو من الدين وما لم يعلمناه ولا بين لنا أنه من الدين فليس من الدين ضرورة وكل ما ليس من الدين فهو باطل فليس بعد الحق إلا الضلال وقد قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم فالذي أكمله الله سبحانه وبينه هو ديننا لا دين لنا سواه فأين فيما أكمله لنا قيسوا ما سكت عنه على ما تكلمت بإيجابه أو تحريمه أو إباحته سواء كان الجامع بينهما علة أو دليل علة أو وصفها شبهيا فاستعملوا ذلك كله وانسبوه إلي وإلى رسولي وإلى ديني واحكموا به علي
قالوا وقد أخبر سبحانه أن الظن لا يغني من الحق شيئا وأخبر رسوله أن الظن أكذب الحديث ونهى عنه ومن أعظم الظن ظن القياسيين فإنهم ليسوا على يقين أن الله سبحانه وتعالى حرم بيع السمسم بالشيرج والحلوى بالعنب والنشا بالبر وإنما هي ظنون مجردة لا تغني من الحق شيئا
قالوا وإن لم يكن قياس على السلام عليكم من الظن الذي نهينا عن اتباعه وتحكيمه وأخبرنا أنه لا يغني من الحق شيئا فليس في الدنيا ظن باطل فأين الضراط من السلام عليكم وإن لم يكن قياس الماء الذي لاقى الأعضاء الطاهرة الطيبة عند الله في إزالة الحدث على الماء الذي لاقى أخبث العذرات والميتات والنجاسات ظنا فلا ندري ما الظن الذي حرم الله سبحانه القول به وذمه في كتابه وسلخه من الحق وإن لم يكن قياس أعداء الله ورسوله من عباد الصلبان واليهود الذي هم أشد الناس عدواة للمؤمنين على أوليائه وخيار خلقه وسادات الأمة وعلمائها وصلحائها في تكافؤ دمائهم وجريان القصاص بينهم فليس في الدنيا ظن يذم اتباعه
قالوا ومن العجب أنكم قستم أعداء الله على أوليائه في جريان القصاص
بينهم فقلتم ألف ولي لله قتلوا نصارنيا واحدا يجاهرهم بسب الله ورسوله وكتابه علانية ولم تقيسوا من ضرب رأس رجل بدبوس فنثر دماغه بين يديه على من طعنه بمسلة فقتله
قالوا وسنبين لكم من تناقض أقيستكم واختلافها وشدة اضطرابها ما يبين أنها من عند غير الله
قالوا والله تعالى لم يكل بيان شريعته إلى آرائنا وأقيستنا واستنباطنا وإنما وكلها إلى رسوله المبين عنه فما بينه عنه وجب اتباعه وما لم يبينه فليس من الدين ونحن نناشدكم الله هل اعتمادكم في هذه الأقيسة الشبيهة والأوصاف الحدسية التخمينية على بيان الرسول أم على آراء الرجال وظنونهم وحدسهم قال الله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم فأين بين النبي ص - أني إذا حرمت شيئا أو أوجبته أو أبحته فاستخرجوا وصفا ما شبهبا جامعا بين ذلك وبين جميع ما سكت عنه فألحقوه به وقيسوا عليه
قالوا والله تعالى قد نهى عن ضرب الأمثال له فكما لا تضرب له الأمثال لا تضرب لدينه وتمثيل ما لم ينص على حكمه بما نص عليه لشبه ما ضرب الأمثال لدينه وهذا بخلاف ما ضربه رسول الله ص - من الأمثال في كثير من الأحكام التي سئل عنها كما أمرهم بقضاء الصلاة التي ناموا عنها فقالوا ألا نصليها لوقتها من الغد فقال أينهاكم عن الربا ويقبله منكم وكما قال لعمر وقد سأله عن القبلة للصائم أرأيت لو تمضمت بماء ثم مججته وكما قال لمن سألته عن الحج عن أبيها أرأيت لو كان على أبيك دين وكما قال لمن سأله هل يثاب على وطء زوجته أرأيتم لو وضعها في الحرام
أمثال ضربها صاحب الشرع
ومن أحسن هذه الأمثال وأبلغها وأعظمها تقريبا إلى الأفهام ما رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي ص - قال
إن الله سبحانه أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات ليعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وإنه كاد أن يبطىء بها فقال عيسى إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم فقال يحيى أخشى إن سبقتني أن يخسف بي أو أعذب فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرف فقال إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن أولاهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك وكلهم يعجبه ريحها وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال أنا أفتدي منكم بكل بقليل وكثير ففدى نفسه منهم وأمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدوا في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله قال النبي ص - وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه إلا أن يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من حثاء جهنم قالوا يا رسول الله وإن صلى وإن صام فقال وإن صلى وإن صام فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله حديث صحيح
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله ص - قال أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا لا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا
ومثل ص - المؤمن القارىء للقرآن بالأترجة في طيب الطعم والريح وضده بالحنظلة والمؤمن الذي لا يقرأ بالتمرة في طيب الطعم وعدم الريح والفاجر لا القارىء بالريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المؤمن بالخامة من الزرع لا تزال الرياح تميلها ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل ا لمنافق بشجرة الأرز وهي الصنوبرة لا تهتز ولا تميل حتى تقطع مرة واحدة ومثل المؤمن بالنخلة في كثرة خيرها ومنافعها وحاجة الناس إليها وانتيابهم لها لمنافعهم بها وشبه أمته بالمطر في نفع أوله وآخره وحياة الوجود به ومثل أمته والأمتين الكتابيتين قبلها فيما خص الله به أمته وأكرمها به بأجراء عملوا بأجر مسمى لرجل يوما على أن يوفيهم أجورهم فلم يكملوا بقية يومهم وتركوا العمل من أثناء النهار فعملت أمته بقية النهار فاستكملوا أجر الفريقين وضرب الله ولأمته جبريل وميكائيل مثل ملك اتخد دارا ثم ابتنى فيها بيتا ثم جعل مائدة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله هو الملك والرسول محمد الداعي والدار الإسلام والبيت الجنة فمن أجابه دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل دار الملك وأكل منها ومن لم يجبه لم يدخل داره ولم يأكل منها وفي المسند والترمذي من حديث النواس بن سمعان قال قال رسول الله ص - إن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما على كنفي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعرجوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم
الله فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم فليتأمل العارف قدر هذا المثل وليتدبره حق تدبره ويزن به نفسه وينظر أين هو منه وبالله التوفيق وقال مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون لولا موضع تلك اللبنة فكنت أنا موضع تلك اللبنة رواه مسلم وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عنه ص - إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعل الدواب والفراش يقعن فيها فأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تقتحمون فيها ومثل من وقع في الشبهات بالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه وقال الحافظ أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي حدثنا أبو سعيد الحراني ثنا يحيى بن عبد الله البابلتي ثنا صفوان بن عمرو قال حدثني سليم ابن عامر قال قال رسول الله ص - نصرت بالرعب مسيرة شهر وأوتيت جوامع الكلم وأوتيت الحكمة وضرب لي من الأمثال مثل القرآن وإني بينا أنا نائم إذا أتاني ملكان فقام أحدهما عند رأسي وقام الآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي اضرب مثلا وأنا أفسره فقال الذي عند رأسي وأهوى إلي لتنم عينك ولتسمع أذنك وليع قلبك قال فكنت كذلك أما الأذن فتسمع وأما القلب فيعي وأما العين فتنام قال فضرب مثلا فقال بركة فيها شجرة ثابتة وفي الشجرة غصن خارج فجاء ضارب فضرب الشجرة فوقع الغصن ووقع معه ورق كثير كل ذلك في البركة لم يعدها ثم ضرب الثانية فوقع ورق كثير كل ذلك في البركة لم يعدها ثم ضرب الثالثة فوقع ورق كثير لا أدري ما وقع فيها أكثر أو ما خرج منها قال ففسر الذي عند رجلي فقال أما البركة فهي الجنة وأما الشجرة فهي الأمة وأما الغصن فهو النبي ص - وأما الضارب فملك الموت ضرب الضربة الأولى
في القرن الأول فوقع النبي ص - وأهل طبقتة وضرب الثانية في القرن فوقع كل ذلك في الجنة ثم ضرب الثالثة في القرن الثالث فلا أدري ما وقع فيها أكثر أم ما خرج منها وفي المسند من حديث جابر كان النبي ص - إذا خطب احمرت عيناه وعلى صوته واشتد غضبه حتى كأنه نذير جيش يقول صبحكم ومساكم ثم يقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى وفي حديث المستورد بعثت في نفس الساعة سبقتها كما سبقت هذه هذه وأشار بإصبعيه وفي المسند عنه إن مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان فالنجاء فأطاعه طائفة منهم فأدلجوا على مهلهم فنجوا وكذبته طائفة فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم وكذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق وفي الصحيحين عنه مثلي ومثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وزرعوا وسقوا وأصاب طائفة أخرى منها هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به
وفي الصحيحين عنه ص - أنه خطب الناس فقال والله ما الفقر أخشى عليكم وإنما أخشى عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا فقال رجل يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر فصمت رسول الله ص - ثم قال كيف قلت فقال يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر فقال رسول الله ص - إن الخير لا يأتي إلا بالخير وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس
فثلطت وبالت ثم اجترت وعادت فأكلت فمن أخذ مالا بحقه يبارك له فيه ومن أخذ ملا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع
وقالت ميمونة قال رسول الله ص - لعمر بن العاص الدنيا خضرة حلوة فمن اتقى الله فيها وأصلح وإلا فهو كالذي يأكل ولا يشبع وبين الناس في ذلك كبعد الكوكبين أحدهما يطلع في المشرق والآخر يغيب في المغرب ومثل نفسه ص - في الدنيا براكب مر بأرض فلاة فرأى شجرة فاستظل تحتها ثم راح وتركها وفي المسند والترمذي عنه ما الدنيا في الآخرة إلا كما يصنع أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ومر مع الصحابة بسخلة منبوذة فقال أترون هذه هانت على أهلها فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها وقال إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء لا يدرون ما قطعوا منها أكثر أو ما بقي منها فحسرت ظهورهم ونفذ زادهم وسقطوا بين ظهري المفازة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه فقالوا إن هذا لحديث عهد بريف فانتهى إليهم فقال يا هؤلاء ما شأنكم فقالوا ما ترى كيف حسرت ظهورنا ونفدت أزوادنا بين ظهري هذه المفازة لا ندري ما قطعنا منها أكثر أم ما بقي فقال ما تجعلون لي إن أوردتكم ماء رواء ورياضا خضرا قالوا حكمك قال تعطوني عهودكم ومواثيقكم ألا تعصوني ففعلوا فمال بهم فأوردهم ماء رواء ورياضا خضرا فمكث يسيرا ثم قال هلموا إلى رياض أعشب من رياضكم هذه وماء أروى من مائكم هذا فقال جل القوم ما قدرنا على هذا حتى كدنا أن لا نقدر عليه وقالت طائفة منهم ألستم قد جعلتم لهذا الرجل عهودكم ومواثيقكم أن لا تعصوه فقد صدقكم في أول حديثه فآخر حديثه مثل أوله فراح وراحوا
معهم فأوردهم رياضا خضرا وماء رواء وأتى الآخرين العدو من ليلتهم فأصبحوا ما بين قتيل وأسير وقال مثل المؤمن كمثل النحلة أكلت طيبا ووضعت طيبا وإن مثل المؤمن كمثل القطعة الجيدة من الذهب أدخلت في النار فنفخ عليها فخرجت جيدة وروى ليث عن مجاهد عن ابن عمر يرفعه مثل المؤمن مثل النخلة أو النحلة إن شاورته نفعك وإن ماشيته نفعك وإن شاركته نفعك
وقال مثل المؤمن والإيمان كمثل الفرس في آخيته يجول ما يجول ثم يرجع إلى أخيته وكذلك المؤمن يفترق ما يفترق ثم يرجع إلى الإيمان وقال مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى شيء منه تداعى سائره بالسهر والحمى وقال مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تكر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة وقال مثل القرآن كمثل الإبل المعلقة إن تعهد صاحبها عقلها أمسكها وإن أغفلها ذهبت وإذا قام صاحب القرآن به ذكره وإذا لم يقم به نسيه وقال موسى بن عبيدة عن ماعز بن سويد العرجي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي ص - قال مثل المؤمن الذي لا يتم صلاته مثل المرأة التي حملت حتى إذا دنا نفاسها أسقطت فلا حامل ولا ذات رضاع ومثل المصلي كمثل التاجر لا يخلص له الربح حتى يخلص له رأس المال وكذلك المصلي لا يقبل الله له نافلة حتى يؤدي الفريضة وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة يرفعه مثل الذي يسمع الحكمة ولا يحمل إلا شرها كمثل رجل أتى راعيا فقال
آجرني شاة من غنمك فقال انطلق فخذ بأذن شاة منها فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم وقال عبد الله بن المبارك ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني أبو هريرة قال سمعت معاوية يقول على هذا المنبر سمعت رسول الله ص - يقول إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة وإنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله
وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر عن النبي ص - أن رجلا كان فيمن كان قبلكم استضاف قوما فأضافوه ولهم كلبة تنبح قال فقالت الكلبة والله لا أنبح ضيف أهلي الليلة قال فعوى جراؤها في بطنها فبلغ ذلك نبيا لهم أو قيلا لهم فقال مثل هذه مثل أمة تكون بعدكم يقهر سفهاؤها حكماءها ويغلب سفهاءها علماءها وفي صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير أن النبي ص - قال مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن هم تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا وفي المعجم الكبير عنه من حديث سهل بن سعد قال إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وهذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه وفي المسند من حديث أبي بن كعب يرفعه إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلا للدنيا فانظر ما يخرج من ابن آدم وإن فرخه وملحه قد علم إلى ما يصير وقال أبو محمد ابن خلاد ثنا عبد الله بن أحمد بن معدان ثنا يوسف بن مسلم المصيصي ثنا حجاج الأعور عن أبي بكر الهذلي عن الحسن عن أبي بن كعب عن رسول الله ص - قال إني ضربت للدنيا مثلا ولابن آدم عند الموت
مثله مثل رجل له ثلاثة أخلاء فلما حضره الموت قال لأحدهم إنك كنت لي خليلا وكنت أبر الثلاثة عندي وقد نزل بي من أمر الله ما ترى فماذا عندك قال يقول وماذا عندي وهذا أمر الله قد غلبني ولا أستطيع أن أنفس كربتك ولا أفرج غمك ولا أؤخر ساعتك ولكن ها أنذا بين يديك فخذني زادا تذهب به معك فإنه ينفعك قال ثم دعا الثاني فقال إنك كنت لي خليلا وكنت أبر الثلاثة عندي وقد نزل بي من أمر الله ما ترى فماذا عندك قال يقول وماذا عندي وهذا أمر الله غلبني ولا أستطيع أن أنفس كربتك ولا أفرج غمك ولا أؤخر ساعتك ولكن سأقوم عليك في مرضك فإذا مت أنقيت غسلك وجددت كسوتك وسترت جسدك وعورتك قال ثم دعا الثالث فقال قد نزل بي من أمر الله ما ترى وكنت أهون الثلاثة علي وكنت لك مضيعا وفيك زاهدا فما عندك قال عندي أني قرينك وحليفك في الدنيا والآخرة أدخل معك قبرك حين تدخله وأخرج منه حين تخرج منه ولا أفارقك أبدا فقال النبي ص - هذا ماله وأهله وعمله أما الأول الذي قال خذني زادا فماله والثاني أهله والثالث عمله وقد رواه أيضا بسياق آخر من حديث أبي أيضا ولفظه أن رسول الله ص - قال يوما لأصحابه أتدرون ما مثل أحدكم ومثل ماله وأهله وعمله قالوا الله ورسوله أعلم فقال إنما مثل أحدكم ومثل أهله وماله وعمله كمثل رجل له ثلاثة إخوة فلما حضرته الوفاة دعا بعض إخوته فقال إنه قد نزل بي من الأمر ما ترى فما لي عندك وما لديك فقال لك عندي أن أمرضك ولا أزايلك وأن أقوم بشأنك فإذا مت غسلتك وكفنتك وحملتك مع الحاملين أحملك طورا وأميط عنك طورا فإذا رجعت أثنيت عليك بخير عند من يسألني عنك هذا أخوه الذي هو أهله فما ترونه قالوا لا نسمع طائلا يا رسول الله ثم يقول للأخ الآخر أتري ما قد نزل بي فما لي لديك وما لي عندك فيقول ليس عندي غناءإلا وأنت في الأحياء
فإذا مت ذهب بك مذهب وذهب بي مذهب هذا أخوه الذي هو ماله كيف ترونه قالوا لا نسمع طائلا يا رسول الله ثم يقول لأخيه الآخر أترى ما قد نزل بي وما رد علي أهلي ومالي فما لي عندك وما لي لديك فيقول أنا صاحبك في لحدك وأنيسك في وحشتك وأقعد يوم الوزن في ميزانك فأثقل ميزانك هذا أخوه الذي هو عمله كيف ترونه قالوا خير أخ وخير صاحب يا رسول الله قال فإن الأمر هكذا وقال رسول الله ص - مثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك إما أن يحذيك وإما أن يبيعك وإما أن تجد منه ريحا طيبة ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من شروره أصابك من ريحه وفي الصحيح عنه أنه قال مثل المنفق والبخيل مثل رجلين عليهما جبتان أو جنتان من حديد من لدن ثديهما إلى تراقيهما فإذا أراد المنفق أن ينفق سبغت عليه حتى يجر بنانه ويعفو أثره وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت ولزمت كل حلقة موضعها فهو يوسعها ولا تتسع وقال مثل الذين يغزون من أمتي ويتعجلون أجورهم كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها
فصل ضرب الأمثال يوضح المعنى
قالوا فهذه وأمثالها من الأمثال التي ضربها رسول الله ص - لتقريب المواد وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثل به فإنه قد يكون أقرب إلى تعقله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس التام وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره وكلما ظهرت له الأمثال ازداد المعنى ظهورا ووضوحا فالأمثال
شواهد المعنى المراد ومزكية له فهي كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه وهي خاصة العقل ولبه وثمرته
الفرق بين المثل والقياس
ولكن أين في الأمثال التي ضربها الله ورسوله على هذا الوجه فهمنا أن الصداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة قياسا وتمثيلا على أقل ما يقطع فيه السارق هذا بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالأمثال المضروبة للفهم كما قال إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في جامعه الصحيح باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السامع فنحن لا ننكر هذه الأمثال التى ضربها الله ورسوله ولا نجهل ما أريد بها وإنما ننكر أن يستفاد وجوب الدم على من قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربع من قوله تعالى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وأن الآية تدل على ذلك وأن قوله ص - في صدقة الفطر صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من أقط أو صاع من بر أو صاع من زبيب يفهم منه أنه لو أعطى صاعا من إهليج جاز وأنه يدل على ذلك بطريق التمثيل والاعتبار وأن قوله ص - الولد للفراش يستفاد منه ومن دلالته أنه لو قال له الولي بحضرة الحاكم زوجتك ابنتي وهو بأقصى الشرق وهي بأقصى الغرب فقال قبلت هذا التزويج وهي طالق ثلاثا ثم جاءت بعد ذلك بولد لأكثر من ستة أشهر أنه ابنه وقد صارت فراشا بمجرد قوله قبلت هذا التزويج ومع هذا لو كانت له سرية يطأها ليلا ونهارا لم تكن فراشا له ولو أتت بولد لم يلحقه نسبه إلا أن يدعيه ويستلحقه فإن لم يستلحقه فليس بولده وأين يفهم من قوله ص - إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل أنه لو ضربه بحجر المنجنيق أو بكور الحداد
أو بمزراب الحديد العظام حتى خلط دماغه بلحمه وعظمه إن هذا خطأ شبه عمد لا يوجب قودا وأين يفهم من قوله ص - ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن يكن له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطىء في العفو خير له من أن يخطىء في العقوبة أن من عقد على أمه أو ابنته أو أخته ووطئها فلا حد عليه وأن هذا مفهوم من قوله ادرءوا الحدود بالشبهات فهذا في معنى الشبه التي تدرأ بها الحدود وهي الشبة في المحل أو في الفاعل أو في الاعتقاد ولو عرض هذا على فهم من فرض من العالمين لم يفهمه من هذا اللفظ بوجه من الوجوه وأن من يطأ خالته أو عمته بملك اليمين فلا حد عليه مع علمه بأنها خالته أو عمته وتحريم الله لذلك ويفهم هذا من ادرءوا الحدود بالشبهات وأضعاف أضعاف هذا مما لا يكاد ينحصر
فهذا التمثيل والتشبيه هو الذي ننكره وننكر أن يكون في كلام الله ورسوله دلالة على فهمه بوجه ما
قالوا ومن أين يفهم من قوله تعالى وإن لكم في الأنعام لعبرة ومن قوله فاعتبروا تحريم بيع الكشك باللبن وبيع الخل بالعنب ونحو ذلك
قالوا وقد قال تعالى وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ولم يقل إلى قياساتكم وآرائكم ولم يجعل الله آراء الرجال وأقيستها حاكمة بين الأمة أبدا
وقالوا وقد قال تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم فإنما منعهم من الخيرة عند حكمه وحكم رسوله لا عند آراء الرجال وأقيستهم وظنونهم وقد أمر سبحانه رسوله باتباع ما أوحاه إليه خاصة وقال أن اتبع إلا ما يوحى إلي وقال وأن احكم بينهم بما انزل الله وقال تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن
به الله قالوا فدل هذا النص على أن ما لم يأذن به الله من الدين فهو شرع غيره الباطل
قالوا وقد أخبر النبي ص - عن ربه تبارك وتعالى أن كل ما سكت عن إيجابه أو تحريمه فهو عفو عفا عنه لعباده يباح إباحة العفو فلا يجوز تحريمه ولا إيجابه قياسا على ما أوجبه أو حرمه بجامع بينهما فإن ذلك يستلزم رفع هذا القسم بالكلية وإلغاءه إذ المسكوت عنه لا بد أن يكون بينه وبين المحرم شبه ووصف جامع أو بينه وبين الواجب فلو جاز إلحاقه به لم يكن هناك قسم قد عفي عنه ولم يكن ما سكت عنه قد عفا عنه بل يكون ما سكت عنه قد حرمه قياسا على ما حرمه وهذا لا سبيل إلى دفعه وحينئذ فيكون تحريم ما سكت عنه تبديلا لحكمه وقد ذم تعالى من بدل غير القول الذي أمر به فمن بدل غير الحكم الذي شرع له فهو أولى بالذم وقد قال النبي ص - إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته فإذا كان هذا فيمن تسبب إلى تحريم الشارع صريحا بمسألته عن حكم ما سكت عنه فكيف بمن حرم المسكوت عنه بقياسه وبرأيه
يوضحه أن المسكوت عنه لما كان عفوا عفا الله لعباده عنه وكان البحث عنه سببا لتحريم الله إياه لما فيه من مقتضى التحريم لا لمجرد السؤال عن حكمه وكان الله قد عفا عن ذلك وسامح به عباده كما يعفو عما فيه مفسدة من أعمالهم وأقوالهم فمن المعلوم أن سكوته عن ذكر لفظ عام يحرمه يدل على أنه عفو عنه فمن حرمه بسؤاله عن علة التحريم وقياسه على المحرم بالنص كان أدخل في الذم ممن سأله عن حكمه لحاجته إليه فحرم من أجل مسألته بل كان الواجب عليه أن لا يبحث عنه ولا يسأل عن حكمه اكتفاء
بسكوت الله عن عفوه عنه فهكذا الواجب عليه أن لا يحرم المسكوت عنه بغير النص الذي حرم الله أصله الذي يلحق به
قالوا وقد دل على هذا كتاب الله حيث يقول يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين وقد قال النبي ص - في الحديث الصحيح ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم فأمرهم أن يتركوه من السؤال ما تركهم ولا فرق في هذا بين حياته وبعد مماته فنحن مأمورون أن نتركه ص - وما نص عليه فلا نقول له لم حرمت كذا لنلحق به ما سكت عنه بل هذا أبلغ في المعصية من أن نسأله عن حكم شيء لم يحكم فيه فتأمله فإنه واضح
ويدل عليه قوله في نفس الحديث وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فجعل الأمور ثلاثة لا رباع لها مأمور به فالفرض عليهم فعله بحسب الاستطاعة ومنهي عنه فالفرض عليهم اجتنابه بالكلية ومسكوت عنه فلا يتعرض للسؤال والتفتيش عنه وهذا حكم لا يختص بحياته فقط ولا يخص الصحابة دون من بعدهم بل فرض علينا نحن امتثال أمره بحسب الاستطاعة واجتناب نهيه وترك البحث والتفتيش عما سكت عنه وليس ذلك الترك جهلا وتجهيلا لحكمه بل إثبات لحكم العفو وهو الإباحة العامة ورفع الحرج عن فاعله فقد استوعب الحديث أقسام الدين كلها فإنها إما واجب وإما حرام وإما مباح والمكروه والمستحب فرعان على هذه الثلاثة غير خارجين عن المباح وقد قال تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه فوكل بيانه إليه سبحانه لا إلى القياسيين والآرائيين وقال تعالى
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون فقسم الحكم إلى قسمين قسم أذن فيه وهو الحق وقسم افتري عليه وهو ما لم يأذن فيه فأين أذن لنا أن نقيس البلوط على التمر في جريان الربا فيه وأن نقيس القصدير على الذهب والفضة والخردل على البر فإن كان الله ورسوله وصانا بهذا فسمعا وطاعة لله ورسوله وإلا فإنا قائلون لمنازعينا أم كنتم شهداء إذا وصاكم الله بهذا فما لم تأتنا به وصية من عند الله على لسان رسوله ص - فهو عين الباطل وقد أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله ص - فلم يبح لنا قط أن نرد ذلك إلى رأي ولا قياس ولا تقليد إمام ولا منام ولا كشوف ولا إلهام ولا حديث قلب ولا استحسان ولا معقول ولا شريعة الديوان ولا سياسة الملوك ولا عوائد الناس التي ليس على شرائع المسلمين أضر منها فكل هذه طواغيت من تحاكم إليها أو دعا منازعة إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت
وقال تعالى فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون قالوا ومن تأمل هذه الآية حق التأمل تبين له أنها نص على إبطال القياس وتحريمه لأن القياس كله ضرب الأمثال للدين وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه نص ومن مثل ما له ينص الله على تحريمه أو إيجابه بما حرمه أو أوجبه فقد ضرب لله الأمثال ولو علم سبحانه أن الذي سكت عنه مثل الذي نص عليه لأعلمنا به ولما أغفله سبحانه وما كان ربك نسيا ولبين لنا ما نتقي كما أخبر نفسه بذلك إذ يقول سبحانه وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حق يبين لهم ما يتقون ولما وكله إلى آرائنا ومقاييسنا التي ينقض بعضها بعضا فهذا يقيس ما يذهب إليه على ما يزعم أنه نظيره فيجيء منازعه فيقيس ضد قياسه من كل وجه ويبدي من الوصف الجامع مثل ما أبداه منازعوه أو أظهر منه ومحال أن يكون القياسان معا عند الله وليس أحدهما أولى من الآخر فليسا من عنده وهذا وحده كاف في إبطال القياس
وقد قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم وقال لتبين للناس ما نزل إليهم فكل ما بينه رسول الله ص - فعن ربه سبحانه بينه بأمره وأذنه وقد علمنا يقينا وقوع كل اسم في اللغة على مسماه فيها وأن اسم البر لا يتناول الخردل واسم التمر لا يتناول البلوط واسم الذهب والفضة لا يتناول القزدير وأن تقدير نصاب السرقة لا يدخل فيه تقدير المهر وأن تحريم أكل الميتة لا يدل على أن المؤمن الطيب عند الله حيا وميتا إذا مات صار نجسا خبيثا وأن هذا عن البيان الذي ولاه الله ورسوله وبعثه به أبعد شيء وأشده منافاة له فليس هو مما بعث به الرسول قطعا فليس إذا من الدين
وقد قال النبي ص - ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ولو كان الرأي والقياس خيرا لهم لدلهم عليه وأرشدهم إليه ولقال لهم إذا أوجبت عليكم شيئا وحرمته فقيسوا عليه ما كان بينه وبينه وصف جامع أو ما أشبهه أو قال ما يدل على ذلك أو يستلزمه ولما حذرهم من ذلك أشد الحذر كما ستقف عليه إن شاء الله وقد أحكم اللسان كل اسم على مسماه لا على غيره وإنما بعث الله سبحانه محمد ص - بالعربية التي يفهمها العرب من لسانها فإذا نص سبحانه في كتابه أو نص رسوله على اسم من الأسماء وعلق عليه حكما من الأحكام وجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم ولا يتعدى به الوضع الذي وضعه الله ورسوله فيه ولا يخرج عن ذلك الحكم شيء مما يقتضيه الاسم فالزيادة على ذلك زيادة في الدين والنقص منه نقص في الدين فالأول القياس والثاني التخصيص الباطل وكلاهما ليس من الدين ومن لم يقف مع النصوص فإنه تارة يزيد في النص ما ليس منه ويقول هذا قياس ومرة ينقص منه بعض
ما يقتضيه ويخرجه عن حكمه ويقول هذا تخصيص ومرة يترك النص جملة ويقول ليس العمل عليه أو يقول هذا خلاف القياس أو خلاف الأصول
قالوا ولو كان القياس من الدين لكان أهله أتبع الناس للأحاديث وكان كلما توغل فيه الرجل كان أشد اتباعا للأحاديث والآثار
قالوا ونحن نرى أن كلما اشتد توغل الرجل فيه اشتدت مخالفته للسنن ولا نرى خلاف السنن والآثار إلا عند أصحاب الرأي والقياس فلله كم من سنة صحيحة صريحة قد عطلت به وكم من أثر درس حكمه بسببه فالسنن والآثار عند الآرائيين والقياسيين خاوية على عروشها معطلة أحكامها معزولة عن سلطانها وولايتها لها الاسم ولغيرها الحكم لها السكة والخطبة ولغيرها الأمر والنهي وإلا فلماذا ترك حديث العرايا وحديث قسم الابتداء وأن للزوجة حق العقد سبع ليال إن كانت بكرا وثلاثا إن كانت ثيبا ثم يقسم بالسوية وحديث تغريب الزاني غير المحصن وحديث الاشتراط في الحج وجواز التحلل بالشرط وحديث المسح على الجوربين وحديث عمران بن حصين وأبي هريرة في أن كلام الناسي والجاهل لا يبطل الصلاة وحديث دفع اللقطة إلى من جاء فوصف وعاءها ووكاءها وعفاصها وحديث المصراة وحديث القرعة بين العبيد إذا أعتقوا في المرض ولم يحملهم الثلث وحديث خيار المجلس وحديث إتمام الصوم لمن أكل ناسيا وحديث إتمام صلاة الصبح لمن طلعت عليه الشمس وقد صلى منها ركعة وحديث الصوم عن الميت وحديث الحج عن المريض المأيوس من برئه وحديث الحكم بالقافة وحديث من وجد متاعه عند رجل قد أفلس وحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر وحديث بيع المدبر وحديث القضاء بالشاهد مع اليمين وحديث الولد للفراش إذا كان من أمة وهو سبب
الحديث وحديث تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا وحديث قطع السارق ربع دينار وحديث رجم الكتابيين في الزنا وحديث من تزوج من امرأة أبيه أمر بضرب عنقه وأخذ ماله وحديث لا يقتل مؤمن بكافر وحديث لعن الله المحلل والمحلل له وحديث لا نكاح إلا بولي وحديث المطلقة ثلاثا لا سكنى لها ولا نفقة وحديث أعتق صفية وجعل عتقها صداقها وحديث أصدقها ولو خاتما من حديد وحديث إباحة لحوم الخيل وحديث كل مسكر حرام وحديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وحديث المزارعة والمساقاة وحديث ذكاة الجنين ذكاة أمه وحديث الرهن مركوب ومحلوب وحديث النهي عن تخليل الخمر وحديث قسمة الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة وحديث لا تحرم المصة والمصتان وأحاديث حرمة المدينة وحديث إشعار الهدى وحديث إذا لم يجد المحرم الإزار فليلبس السراويل وحديث منع الرجل من تفضيل بعض ولده على بعض وأنه جور لا تجوز الشهادة عليه وحديث أنت ومالك لأبيك وحديث القسامة وحديث الوضوء من لحوم الإبل وأحاديث المسح على العمامة وحديث الأمر بإعادة الصلاة لمن صلى خلف الصف وحده وحديث من دخل والإمام يخطب يصلي تحية المسجد وحديث الصلاة على الغائب وحديث الجهر بآمين في الصلاة وحديث جواز رجوع الأب فيما وهبه لولده ولا يرجع غيره وحديث الكلب الأسود يقطع الصلاة وحديث الخروج إلى العيد من الغد إذا علم بالعيد بعد الزوال وحديث نضح بول الغلام الذي لم يأكل الطعام وحديث الصلاة على القبر وحديث من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته وحديث بيع جابر بعيره واشتراط ظهره وحديث النهي عن جلود السباع وحديث لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره وحديث أن أحق الشروط أن توفوا بما استحللتم به الفروج وحديث من باع عبدا وله مال
فماله للبائع وحديث إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء وحديث الوتر على الراحلة وحديث كل ذي ناب من السباع حرام وحديث من السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وحديث لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه من ركوعه وسجوده وأحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه وأحاديث الاستفتاح وحديث كان للنبي ص - سكتتان في الصلاة وحديث تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وحديث حمل الصبية في الصلاة وأحاديث القرعة وأحاديث العقيقة وحديث لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذنك وحديث أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل وحديث إن بلالا يؤذن بليل وحديث النهي عن صوم يوم الجمعة وحديث النهي عن الذبح بالسن والظفر وحديث صلاة الكسوف والاستسقاء وحديث النهي عن عسب الفحل وحديث المحرم إذا مات لم يخمر رأسه ولم يقرب طيبا إلى أضعاف ذلك من الأحاديث التي كان تركها من أجل القول بالقياس والرأي فلو كان القياس حقا لكان أهله أتبع الأمة للأحاديث ولا حفظ لهم ترك حديث واحد إلا لنص ناسخ له فحيث رأينا كل من كان أشد توغلا في القياس والرأي كان أشد مخالفة للأحاديث الصحيحة الصريحة علمنا أن القياس ليس من الدين وإن شيئا تترك له السنن لأبين شيء منافاة للدين فلو كان القياس من عند الله لطابق السنة أعظم مطابقة ولم يخالف أصحابه حديثا واحدا منها ولكانوا أسعد بها من أهل الحديث فليروا أهل الحديث والأثر حديثا واحدا صحيحا قد خالفوه كما أريناهم آنفا ما خالفوه من السنة بجريرة القياس
قالوا وقد أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب وعلينا بعدهم أن لا نقول على الله إلا الحق فلو كانت هذه الأقيسة المتعارضة المتناقضة التي ينقض بعضها بعضا بحيث لا يدري الناظر فيها أيها الصواب حقا لكانت متفقة يصدق بعضها بعضا كالسنة
التي يصدق بعضها بعضا وقال تعالى ويحق الله الحق بكلماته لا بآرائنا ولا مقايسينا وقال والله يقول الحق وهو يهدي السبيل فما لم يقله سبحانه ولا هدى إليه فليس من الحق وقال تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم فقسم الأمور إلى قسمين لا ثالث لهما إتباع لما دعا إليه الرسول واتباع الهوى
فصل نهى الرسول عن القياس ولم يدع إليه
والرسول ص - لم يدع أمته إلى القياس قط بل قد صح عنه أنه أنكر عمر وأسامة محض القياس في شأن الحلتين اللتين أرسل بهما إليهما فلبسها أسامة قياسا للبس على التملك والانتفاع والبيع وكسوتها لغيره وردها عمر قياسا لتملكها على لبسها فأسامة أباح وعمر حرم قياسا فأبطل رسول الله ص - كل واحد من القياسين وقال لعمر إنما بعثت بها إليك لتستمع بها وقال لأسامة إني لم أبعثها إليك لتلبسها ولكن بعثتها إليك لتشققها خمرا لنسائك والنبي ص - إنما تقدم إليهم في الحرير بالنص على تحريم لبسه فقط فقاسا قياسا أخطآ فيه فأحدهما قاس اللبس على الملك وعمر قاس التملك على اللبس والنبي ص - بين أن ما حرمه من اللبس لا يتعدى إلى غيره وما أباحه من التملك لا يتعدى إلى اللبس وهذا عين إبطال القياس
وصح عنه ما رواه أبو ثعلبة الخشني قال قال رسول الله ص - إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها وهذا الخطاب كما يعم أوله للصحابة ولمن بعدهم فهكذا آخره فلا يجوز أن نبحث عما سكت عنه ليحرمه أو يوجبه
وقال عبد الله بن المبارك ثنا عيسى بن يونس عن جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال رسول الله ص - تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال
قال قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ثنا نعيم بن حماد ثنا عبد الله فذكره
وهؤلاء كلهم أئمة ثقات حفاظ إلا جرير بن عثمان فإنه كان منحرفا عن علي ومع هذا فاحتج به البخاري في صحيحه وقد روى عنه أنه تبرأ مما نسب إليه من الانحراف عن علي ونعيم بن حماد إمام جليل وكان سيفا على الجهمية روى عنه البخاري في صحيحه
وقد صح عنه صحة تقرب من التواتر أنه قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فتضمن هذا الحديث أن ما أمر به أمر إيجاب فهو واجب وما نهى عنه فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو مباح فبطل ما سوى ذلك والقياس خارج عن هذه الوجوه الثلاثة فيكون باطلا والمقيس مسكوت عنه بلا ريب فيكون عفوا بلا ريب فإلحاقه بالمحرم تحريم لما عفا الله عنه وفي قوله ذروني ما تركتكم بيان جلي أن ما لا نص فيه بحرام ولا واجب ودل الحديث على ان أوامره على الوجوب حتى يجيء ما يرفع ذلك أو يبين أن مراده الندب وأن ما لا نستطيعه فساقط عنا
وقد روى ابن المغلس ثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ثنا أبو قلابة الرقاشي ثنا أبو الربيع الزهراني ثنا سيف بن هارون البرجمي عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان رضي الله عنه قال سئل النبي ص - عن أشياء فقال الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله وما
سكت عنه فهو مما عفا عنه وهذا إسناد جيد مرفوع والله المستعان وعليه التكلان
فصل الصحابة ينهون عن القياس
وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد قال أبو هريرة لابن عباس إذا جاءك الحديث عن رسول الله ص - فلا تضرب له الأمثال
وفي صحيح مسلم من حديث سمرة بن جندب قال قال رسول الله ص - أحب الكلام إلى الله تعالى أربع فذكر الحديث وفي آخره لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول أثم هو فيقال لا إنما هن أربع فلا تزيد علي
قالوا فلم يجز سمرة أن ينهي عما عدا الأربع قياسا عليها وجعل ذلك زيادة فلم يزد على الأربع بالقياس التسمية بسعد وفرج وخير وبركة ونحوها ومقتضى قول القاسيين أن الأسماء التي سكت عنها النص أولى بالنهي فيكون إلحاقها بقياس الأولى أو مثله
فإن قيل فلعل قوله إنما هن أربع فلا تزيدن علي مرفوع من نفس كلام النبي ص - ولعل سمرة أراد بها إنما حفظت هذه الأربع فلا تزيدن علي في الرواية
قيل أما السؤال الأول فصريح في إبطال القياس فإن المعنى واحد ومع هذا فخص النهي بالأربع وأما السؤال الثاني فقوله إنما هن أربع يقتضي تخصيص الرواية والحكم بها ونفي الزيادة عليها رواية وحكما فلا تنافي بين الأمرين
وقال شعبة سمعت سليمان بن عبد الرحمن قال سمعت عبدة بن فيروز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق