قتال مانعي الزكاة
وكذلك في قتال مانعي الزكاة قال عمر لأبي بكر : كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله وسلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله ألا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها ] فقال له أبو بكر رضي الله عنه : ألم يقل : [ إلا بحقها ] فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى اللله عليه وسلم لقتلتهم على منعها قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق
مرتبة الصديق ومرتبة المحدث
ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر مع أن عمر رضي الله عنه محدث فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم
لا ولاية لمن خالف الكتاب والسنة
ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة ويقرهم على منازعته ولا يقول لهم : أنا محدث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني فأي أحد ادعى أو ادعى له أصحابه أنه ولي لله وأنه مخاطب يجب على أتباعه ان يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة فهو وهم مخطئون ومثل هذا أضل الناس فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه وهو أمير المؤمنين وكان المسلمون ينازعونه ويعرضون ما يقوله - وهو وهم - على الكتاب والسنة وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأنبياء وحدهم يطاعون في كل ما يأمرون به
وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الايمان بجميع ما يخبرون به عن الله تعالى وتجب طاعتهم فيما يأمرون به بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به ولا الايمان بجميع ما يخبرون به بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله وما خالف الكتاب والسنة كان مردودا وإن كان صاحبه من أولياء الله وكان مجتهدا معذورا فيما قاله له أجر على اجتهاده ولكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئا وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع فإن الله تعالى يقول : { فاتقوا الله ما استطعتم }
معنى : اتقوا الله حق تقاته
وهذا تفسير قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته }
قال ابن مسعود وغيره : حق تقاته : أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر أي بحسب استطاعتكم فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها كما قال تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } وقال تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } وقال تعالى : { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها }
كيف يكفر أدعياء الولاية
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الايمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع كقوله تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } وقال تعالى : { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } وقال تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون }
وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة هو مما اتفق عليه أولياء الله تعالى ومن خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه الذين أمر الله باتباعهم بل إما ان يكون كافرا وإما ان يكون مفرطا في الجهل
أقوال لأبي سليمان الداراني و الجنيد
وهذا كثير في كلام المشايخ كقول الشيخ أبي سليمان الداراني : انه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين : الكتاب والسنة
وقال أبو القاسم الجنيد رحمه الله عليه : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا أو قال : لا يقتدى به
وقال أبو عثمان النيسابوري : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم : { وإن تطيعوه تهتدوا }
وقال أبو عمر بن نجيد : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل
غلط الناس في اتباع من خالف السنة والكتاب
وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل مايفعله وإن خالف الكتاب والسنة فيوافق ذلك الشخص له ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر وجعله الفارق بين أوليائه واعدائه وبين أهل الجنة وأهل النار وبين السعداء والأشقياء فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولا إلى البدعة والضلال وآخر إلى الكفر والنفاق ويكون له نصيب من قوله تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } وقوله تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا }
مشابهتم للنصارى
وقوله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب * إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار }
وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }
وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسيره هذه الاية لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال : ما عبدوهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم [ احلو عليهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم وكانت هذه عبادتهم إياهم ] ولهذا قيل في مثل هؤلاء : إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول فإن أصل الأصول تحقيق الايمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد من الايمان بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم عربهم وعجمهم علمائهم وعبادهم ملوكهم وسوقتهم وأنه لاطريق إلى الله تعالى لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطنا وظاهرا حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه كا قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }
ميثاق الله على الأنبياء للايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهن أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وقد قال تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا * وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما * فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }
الاغترار بالمكاشفات والتصرفات الخارقة للعادة
وكل من خالف شيئا مما جاء به الرسول مقلدا في ذلك لمن يظن أنه ولي لله فإنه بنى أمره على أنه ولي الله وان ولي الله لا يخالف في شيء ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة فكيف إذا لم يكن كذلك ؟ ! وتجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت أويطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أو يمشي على الماء أحيانا أو يملأ إبريقا من الهواء أو ينفق بعض الأوقات من الغيب أو يختفي أحيانا عن أعين الناس أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته او يخبر الناس بما سرق لهم أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك من الأمور وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي الله بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يعتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه
معنى الكرامة
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله فقد يكون عدوا لله فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع وتكون من الشياطين فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ويعرفون بنور الايمان والقرآن وبحقائق الايمان الباطنة وشرائع الاسلام الظاهرة
مثال ذلك أن الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة بل يكون ملابسا للنجاسات معاشرا للكلاب يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية ولا يتنظف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ولا كلب ] وقال عن هذه الأخلية : [ إن هذه الحشوش محتضرة ] أي يحضرها الشيطان وقال : [ من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ]
وقال : [ إن الله طيت لا يقبل إلا طيبا ] وقال : [ إن الله نظيف يحب النظافة ] وقال : [ خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية والفأرة والحدأة والكلب العقور ]
وفي رواية : [ الحية والعقرب ] وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلاب وقال : [ من أقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط ] وقال : [ لا تصحب الملائكة رفقة معه كلب ] وقال : [ إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب ]
وقال تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون }
علامات أولياء الشيطان
فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها أو يسجد إلى ناحية شيخه ولا يخلص الدين لرب العالمين أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة أو يأوي إلى المقابر ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن فهذه علامات اولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله وإن كان يبعض القرآن فهو يبغض الله ورسوله
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله تعالى
وقال ابن مسعود : الذكر ينبت الايمان في القلب كما ينبت الماء البقل والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وإن كان الرجل خبيرا بحقائق الايمان الباطنة فارقا بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية فيكون قد قذف الله في قلبه من نوره كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم } وقال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فهذا من المؤمنين الذين جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ] قال الترمذي حديث حسن
المؤمن يفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخاري وغيره قال فيه : [ لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ( فبي يسمع وبي بيصر وبي يبطش وبي يمشي ) ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ( ولا بد له منه ) ]
فإذا كان العبد من هؤلاء فرق بين حال أولياء الرحمن وحال أولياء الشيطان كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبي الكذاب فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول رب العالمين وموسى والمسيح وغيرهم وبين مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطلحة الأسدي والحارث الدمشقي وباباه الرومي وغيرهم من الكذابين وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين
لكل نبي شرعة ومنهاج
فصل والحقيقة حقيقة الدين دين رب العالمين : هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاج فالشرعة : هي الشريعة قال الله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } وقال تعالى : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين } والمنهاج : هو الطريق قال تعالى : { وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا * لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا }
فالشرعة بنزله الشريعة للنهر والمنهاج هو الطريق الذي سلك فيه والغاية المقصودة هي حقيقة الدين وهي عبادة الله وحده لا شريك له وهي حقيقة دين الاسلام وهي أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا يستسلم لغيره فمن استسلم لغيره كان مشركا والله { لا يغفر أن يشرك به } ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }
الإسلام دين الأنبياء
ودين الاسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين وقوله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } عام في كل زمان ومكان
فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون كلهم دينهم الاسلام الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له قال الله تعالى عن نوح : { يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم } إلى قوله : { وأمرت أن أكون من المسلمين } وقال تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال تعالى : { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين }
وقال السحرة : { ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين }
وقال يوسف عليه السلام : { توفني مسلما وألحقني بالصالحين }
وقالت بلقيس : { أسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وقال تعالى : { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار } وقال الحواريون : { آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون }
دين واحد وشرائع منوعة
فدين الأنبياء واحد وإن تنوعت شرائعهم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إنا معشر الأنبياء ديننا واحد ] قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون }
الأنبياء أفضل من الأولياء بالاتفاق
فصل
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب فقال تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا }
أفضل الناس بعد الأنبياء أبو بكر
وفي الحديث : [ ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر ] وأفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } وقال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند : [ أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ]
خير القرون
وأفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرن الأول
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال : [ خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ] وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه
أفضل السابقين الأولين
وفي الصحيحين أيضا عنه صلى الله عليه وسم انه قال : [ لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا مابلغ مد أحدهم ولا نصيفه ]
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة
قال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } وقال تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } والسابقون الأولون : الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والمراد بالفتح : صلح الحديبية فإنه كان من أول فتح مكة وفيه أنزل الله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } فقالوا : يا رسول الله أو فتح هو ؟ قال : [ نعم ]
وأفضل السابقين الأولين الخلفاء الأربعة وأفضلهم أبو بكر ثم عمر وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها وقد دلت على ذلك دلائل بسطناها في منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية
وبالجملة اتفقت طوائف السنة والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به فهو أفضل أولياء الله إذاكانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه
الكلام على خاتم الأولياء
وقد ظن طائفة غالطة أن خاتم الأولياء أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي فإنه صنف مصنفا غلط فيه في مواضع ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته
مزاعم ابن عربي
كما زعم ذلك ابن عربي صاحب كتاب الفتوحات المكية وكتاب الفصوص فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأولياءه كما يقال لمن قال : فخر عليهم السقف من تحتهم : لا عقل ولا قرآن
وذلك أن الأنبياء أفضل في زمان من أولياء هذه الأمة والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء فكيف الأنبياء كلهم ؟ ! والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم ثبت بالنصوص الدالة على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : [ أنا سيد آدم ولا فخر ] وقوله : [ آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد فيقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ]
احتياج شريعة عيسى عليه السلام إلى النبوات السابقة
وليلة المعراج رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم فكان احقهم بقوله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } إلى غير ذلك من الدلائل كل منهم يأتيه الوحي من الله لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجا إلى غيره فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق بخلاف المسيح احالهم في أكثر الشريعة على التوراة وجاء المسيح فكملها ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور وتمام الأربع وعشرين نبوة وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدثين بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدث بل جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء فكان ما فضله الله بما به أنزله إليه وأرسله إليه لا بتوسط بشر
وهذا بخلاف الأولياء فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسل إليه
هل للولي طريق لا يحتاج فيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم
ومن ادعى أن من الأولياء بالذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد وإذا قال : أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا : إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض فكانوا كفار بذلك
إيمان الأولياء بين الباطن والظاهر
وكذلك هذا الذي يقول : إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر وهو أكفر من أولئك لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الايمان الباطنة وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الاسلام الظاهرة
كفر من يدعي ان محمدا صلى الله عليه وسلم علم من الأمور ظاهرها وان الأولياء علموا باطنها
فإذا ادعى المدعي أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الايمان وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر وهذا شر ممن يقول : أومن ببعض وأكفر ببعض ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين
لا مثيل لولاية محمد صلى الله عليه وسلم على الاطلاق
وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولاية أفضل من النبوة ويلبسون على الناس فيقولون : ولايته أفضل من نبوته وينشدون :
( مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي )
ويقولون : نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته وهذا من أعظم ضلالهم فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى فضلا عن أن يماثله فيها هؤلاء الملحدون
وكل رسول نبي ولي فالرسول نبي ولي ورسالته متضمنة لنبوته ونبوته متضمنة لولايته وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع فإنه حال إنبائه إياه ممتنع أن يكون إلا وليا لله ولا تكون مجردة عن ولايته ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلا للرسول في ولايته
ادعاؤهم بوحدة معدن الأنبياء والأولياء
وهؤلاء قد يقولون كما يقول صاحب الفصوص ابن عربي : إنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول وذلك أنهم اعتقدوا عقيدة المتفلسفة ثم أخرجوها في قالب المكاشفة وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا : إن الأفلاك قديمة أزلية لها علة تتشبه بها كما يقوله أرسطو وأتباعه : أولها موجب بذاته كما يقوله متأخروهم كابن سينا وأمثاله ولايقولون : إنها لرب خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته ولا يعلم الجزيئات بل إما أن ينكروا علمه مطلقا كقول أرسطو أو يقولوا : إنما يعلم في الأمور المتغيرة كلياتها كما يقول ابن سينا وحقيقة هذا القول إنكار علمه بها فان كل موجود في الخارج فهو معين جزئي الافلاك كل معين منها جزئي وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان
والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر في رد تعارض العقل والنقل وغيره فإن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى بل ومشركي العرب فإن جميع هؤلاء يقولون : إن الله خلق السماوات والأرض وإنه خلق المخلوقات بمشيئته وقدرته
و أرسطو ونحو من المتفلسفة واليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام وهم لا يعرفون الملائكة والانبياء وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك وإنما غالب علوم القوم الأمور الطبيعية
فساد تلفيق ابن سينا في الأمور الإلهية
وأما الأمور الإلهية فكل منهم فيها قليل الصواب كثير الخطأ واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل اعلم بالهيئات منهم بكثير ولكن متأخروهم كابن سينا ( غيره ) أرادوا أن يلفقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل فأخذوا أشياء من أصول الجهمية والمعتزلة وركبوا مذهبا قد يعتزى إليه متفلسفة اهل الملل وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا الموضع
وهؤلاء لما رأوا أمر الرسل كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قد بهر العالم واعترفوا بالناموس الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ناموس طرق العالم ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن أرادوا ان يجمعوا بين ذلك وبين أقوال سلفهم اليونان الذين أبعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأولئك قد أثبتوا عقولا عشرة يسمونها : المجردات والمفارقات
وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن وسموا تلك : المفارقات لمفارقتها المادة وتجردها عنها وأثبتوا الأفلاك لكل فلك نفسا وأكثرهم جعلوها أعراضا وبعضهم جعلوها جواهر
خصائص النبوة عند ابن سينا وغيره من المتفلسفة
وهذه المجردات التي أثبتوها ترحع عند التحقيق إلى أمور موجودة في الأذهان لا في الأعيان ( كما أثبت أصحاب فيثاغورس أعدادا مجردة و ) كما أثبت أصحاب أفلاطون الأمثال الافلاطونية المجردة أثبتوا هيولى مجردة عن الصورة ومدة وخلاء مجردين وقد اعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كابن سينا أن يثبت أمر النبوات على أصولهم الفاسدة زعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من اتصف بها فهو نبي :
ا - أن تكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية ينال بها العلم بلا تعلم
2 - وأن يكون له قوة تخيلية تخيل له ما يعقل في نفسه بحيث يرى في نفسه صورا أو يسمع في نفسه أصواتا كما يراه النائم ويسمعه ولا يكون لها وجود في الخارج وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله وتلك الأصوات هي كلام الله تعالى 3 - وأن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولى العالم وجعلوا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق السحرة هي ( من ) قوى الأنفس فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم من قلب العصا حية دون انشقاق القمر ونحو ذلك فإنهم ينكرون وجود هذا
نقد آراء ابن سينا
وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع وبينا أن كلامهم هذا أفسد الكلام وأن هذا الذي جعلوه من خصائص النبي يحصل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأتباع الأنبياء وأن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله وهم كثيرون كما قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وليسوا عشرة ولسوا أعراضا لا سيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو العقل الأول وعنه صدر كل ما دونه والعقل الفعال العاشر رب كل ما تحت فلك القمر
كذب الحديث الذي ذكروه في العقل ونقضه لغة وشرعا
وهذا كله يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل فليس أحج من الملائكة مبدع لكل ما سوى الله وهؤلاء يزعمون أن العقل المذكور في حديث يروى : [ إن أول ما خلق الله العقل فقال له : أقبل فأقبل فقال له : أدبر فأدبر فقال : وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب ] ويسمونه أيضا القلم لما روي [ إن أول ما خلق الله القلم ] الحديث رواه الترمذي
والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك أبو حاتم البستي و الدارقطني و ابن الجوزي وغيرهم وليس في شيء من دواوين الحديث التي يعتمد عليها ومع هذا فلفظه لو كان ثابتا حجة عليهم فإن لفظة [ أول ما خلق الله تعالى العقل ] قال : - ويروى - [ لما خلق الله العقل قال له ] فمعنى الحديث : أنه خاطبه في أول أوقات خلقه وليس معناه أنه أول المخلوقات ( وأول ) منصوب على الظرف كما في اللفظ الآخر ( لما ) وتمام الحديث [ ما خلقت خلقا أكرم علي منك ] فهذا يقتضي أنه خلق قبل غيره ثم قال : [ فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب ] فذكر اربعة أنواع من الأعراض وعندهم ان جميع جواهر العالم العلوي والسفلي صدر عن ذلك العقل فأين هذا من هذا ؟
وسبب غلطهم أن لفظ العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونان فإن العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا كما في القرآن { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } ويراد بالعقل الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعقل بها
وأما أولئك فالعقل عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل وليس هذا مطابقا للغة الرسل والقرآن وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم الأجسام : العقل والنفوس فيسميها عالم الأمر وقد يسمي ( العقل ) عالم الجبروت ( والنفوس عالم الملكوت ) و ( الأجسام ) عالم الملك ويظن من لم يعرف لغه الرسل ولم يعرف معنى الكتاب والسنة أن ما في الكتاب والسنة من ذكر الملك والملكوت والجبروت موافق لهذا وليس الأمر كذلك
التحقيق في المخلوق والمحدث والقديم الأزلي
وهؤلاء يلبسون على المسلمين تلبيسا كثيرا كإطلاقهم أن الفلك محدث أي معلول مع أنه قديم عندهم والمحدث لا يكون إلا مسبوقا بالعدم ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلي : محدثا والله قد أخبر أنه خالق كل شيء وكل مخلوق فهو محدث وكل محدث كائن بعد أن لم يكن لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبر به الرسول ولا أحكموا فيها قضايا العقول فلا للاسلام نصروا ولا للأعداء كسروا وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة فصار قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك كما قد بسط في غير هذا الموضع
ما بناه ابن عربي على فساد الفلاسفة من وهم وما اجترحه من خلط في أمر النبوة
وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون جبريل هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والخيال تابع للعقل فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة وزعموا أنهم أولياء الله وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة كابن عربي صاحب الفتوحات و الفصوص فقال : إنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول والمعدن عنده هو العقل والملك هو الخيال والخيال تابع للعقل وهو بزعمه يأخذ عن الذي هو أصل الخيال والرسول يأخذ عن الخيال فلهذا صار عند نفسه فوق النبي ولو كان خاصة النبي ما ذكروه ولم يكن هو من جنسة فضلا عن أن يكون فوقه فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين ؟ ! والنبوة أمر وراء ذلك فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة ليسوا من صوفية أهل العلم فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض و إبراهيم بن أدهم و أبي سليمان الداراني و معروف الكرخي و الجنيد ابن محمد و سهل بن عبد الله التستري وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين
صفات الملائكة في القرآن
والله سبحانه وتعالى قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء كقوله تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } وقال تعالى : { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال تعالى : { وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون }
نفي صفة الخيال عن جبريل
وقد أخبر أن الملائكة جاءت إبراهيم عليه السلام في صورة البشر وأن الملك تمثل لمريم بشرا سويا وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي ويراه الناس كذلك
وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بأنه ذو قوة { عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين } وأن محمدا صلى الله عليه وسلم { رآه بالأفق المبين } ووصفه بأنه { شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى }
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ير جبريل في صورته التي خلق عليها غير مرتين يعني المرة الأولى بالأفق الأعلى والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى ووصف جبريل عليه السلام في موضع آخر بأن الروح الأمين وأنه روح القدس إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء والعقلاء وأنه جوهر قائم بنفسه ليس خيالا في نفس النبي كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة والمدعون ولاية الله وأنهم أعلم من الأنبياء
الكشف عن غاية المتصوفة من الفلاسفة من أفكار أصول الإيمان ومجد الخالق
وغاية حقيقة هؤلاء إنكار أصول الأيمان بأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وحقيقة أمرهم جحد الخالق فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق
نقد فكرتي الحلول ووحدة الوجود
وقالوا : الوجود واحد ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع فإن الموجودات تشترك في مسمى الوجود كما تشترك الأناسي في مسمى الانسان والحيوانات في مسمى الحيوان ولكن هذا المشترك الكلي لا يكون مشتركا كليا إلا في الذهن وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الانسان ليست هي الحيوانية القائمة بالفرس ووجود السماوات ليس هو بعينه وجود الانسان فوجود الخالق جل جلاله ليس هو كوجود مخلوقاته
وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطل الصانع فإنه لم يكن منكرا هذا الموجود والمشهود لكن زعم أنه موجود بنفسه لا صانع له وهؤلاء وافقوه في ذلك لكن زعموا بأنه هو الله فكانوا أضل منه وإن كان قوله هذا هو أظهر فسادا منهم ولهذا جعلوا عباد الاصنام ما عبدوا إلا الله وقالوا : لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف - وإن جاز في العرف الناموس - لذلك قال : أنا ربكم الأعلى - أي وأن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منكم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم
قالوا : ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله أقروا له بذلك وقالوا : { اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة } قالوا : فصح قول فرعون : { أنا ربكم الأعلى }
وكان فرعون عين الحق ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة خاصة الخاصة من أهل ولاية الله وأنهم أفضل من الأنبياء وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم
وليس هذا موضع بسط إلحاد هؤلاء ولكن لما كان الكلام في أولياء الله والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وكان هؤلاء من أعظم الناس ادعاء لولاية الله وهم أعظم الناس ولاية للشيطان نبهنا على ذلك ولهذا عامة كلامهم إنما هو في الحالات الشيطانية ويقولون ما قاله صاحب الفتوحات ( باب أرض الحقيقة ) ويقولون : هي أرض الخيال
فتعرف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال ومحل تصرف الشيطان فإن الشيطان يخيل للأنسان الأمور بخلاف ما هي
كيف تتلبسهم الشياطين فيظنونها ملائكة
قال تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين * ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } وقال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } إلى قوله : { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } وقال تعالى : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم } وقال تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب }
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : أنه رأى جبريل يزع الملائكة والشياطين إذا رأت ملائكة الله التي يؤيد بها عباده هربت منهم والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته
قال تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } وقال تعالى : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها } وقال تعالى : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين }
كذاب ثقيف ومبيرها
وهؤلاء تأتيهم أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم وهي جن وشياطين فيظنونها ملائكة كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام
وكان من أول ما ظهر من هؤلاء في الاسلام : المختار ابن أبي عبيدالذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ سيكون في ثقيف كذاب ومبير ] وكان الكذاب : المختار ابن أبي عبيد والمبير : الحجاج بن يوسف فقيل لابن عمر وابن عباس إن المختار يزعم أنه ينزل إليه فقالا : صدق قال تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم }
وقال الآخر : وقيل له : إن المختار يزعم أنه يوحي إليه فقال : قال الله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم }
تفنيد مزاعم ابن عربي
وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه ألقى إليه ذلك الكتاب ولهذا يذكر أنواعا من الخلوات بطعام معين وشيء معين وهذه مما تتفتح لصاحبها اتصالا بالجن والشياطين فيظنون ذلك من كرامات الأولياء
احواله الشيطانية
وإنما هو من الأحوال الشيطانية وأعرف من هؤلاء عددا ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به ومنهم من كاتت تدله على السرقات بجعل يحصل له من الناس أو لعطاء يعطونه إذا دلهم على سرقاتهم ونحوذلك
ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يوجد في كلام صاحب الفتوحات المكية و الفصوص
مدحه الكفار
وأشباه ذلك يمدح الكفار مصل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم وينتقص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وهارون ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين كالجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهما ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية
عقيدته في القديم والمحدث
فإن الجنيد - قدس الله روحه - كان من أئمة الهدى فسئل عن التوحيد فقال : التوحيد إفراد الحدوث عن القدم فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث وبين الخالق والمخلوق
وصاحب الفصوص أنكر هذا وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له : يا جنيد ! هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما ؟ فخطأ الجنيد في قوله : إفراد الحدوث عن القدم لأن قوله هو : إن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قاله في فصوصه : ومن أسمائه الحسنى : ( العلي ) على من ؟ وما ثم إلا هو وعن ماذا ؟ وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو إلى أن قال :
هو عين ما بطن وهو عين ماظهر وما ثم من يراه غيره وما ثم من ينطق عنه سواه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من الأسماء المحدثات
فيقال لهذا الملحد : ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثا غيرهما فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره وليس هو ثالثا فالعبد يعرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده كما نطق بذلك القرآن غير غير موضع والاستشهاد بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطنا وظاهرا
زعمهم أن القرآن شرك لأنه خالف الفصوص
وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم وهو أحذقهم في اتحادهم - لما قرىء عليه الفصوص فقيل له القرآن يخالف فصوصكم فقال : القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا فقيل له : فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما ؟ فقال : الكل عندنا حلال ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام فقلنا : حرام عليكم
نقد فكرة وحدة الوجود
وهذا مع كفره العظيم متناقض ظاهر فإن الوجود إذا كان واحدا فمن المحجوب ومن الحاجب ؟ ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده : من قال لك : إن في الكون سوى الله فقد كذب فقال له مريده : فمن هو الذي يكذب ؟ قالوا لآخر : هذه مظاهر فقال لهم : المظاهر غير المظاهر أم هي ؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالنسبة وإن كانت إياها فلا فرق
وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في موضع آخر وبينا حقيقة قول كل واحد منهم وإن صاحب الفصوص يقول : المعدوم شيء ووجود الحق فاض عليهما فيفرق بين الوجود والثبوت
والمعتزلة الذين قالوا : المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه فإن أولئك قالوا : إن الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجودا ليس هو وجود الرب وهذا زعم أن عين وجود الرب فاض عليه فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق وصاحبه الدرالقونوي يفرق بين المطلق والمعين لأنه كان أقرب إلى الفلسفة فلم يقر بأن المعدوم شيء لكن جعل الحق هو الوجود المطلق وصنف مفتاح غيب الجمع والوجود
القول في تعطيلهم الخالق القول في تعميم الألوهية
وهذا القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه فإن المطلق بشرط الأطلاق وهو الكلي العقلي لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان والمطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي وإن قيل : إنه موجود في الخارج فلا يوجد إلى معينا وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته في الخارج فيلزم أن يكون وجود الرب إما منتفيا في الخارج وإما أن يكون جزءا من وجود المخلوقات وإما أن يكون عين وجود المخلوقات وله يخلق الجزء الكل أم يخلق الشيء نفسه ؟ أم العدم يخلق الوجود ؟ أو يكون بعض الشيء خالقا لجميعه ؟
وهؤلاء يفرون من لفظ الحلول لأنه يقتضي حالا ومحلا ومن لفظ الاتحاد لأنه يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر وعندهم الوجود واحد ويقولون : النصارى إنما كفروا لما خصصوا المسيح بأنه هو الله ولو عمموا لما كفروا
وكذلك يقولون في عباد الأصنام : إنما أخطأوا لما عبدوا بعض الظاهر دون بعض فلو عبدوا الجميع لما أخطأوا عندهم والعارف المحقق عندهم لا يضره عبادة الأصنام
القول في طلبهم ترك العقل و الشرع
وهذا ما فيه من الكفر العظيم ففيه ما يلزمهم دائما من التناقض لأنه يقال لهم : فمن المخطىء ؟ لكنهم يقولون : إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التبي يوصف بها المخلوق ويقولون : إن المخلوقات يوصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق ويقولون ما قاله صاحب الفصوص : فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا أو عقلا أو شرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة وهم مع كفرهم هذا لا يندفع عنهم التناقض فإنه معلوم بالحس والعقل أن هذا ليس هو ذاك وهؤلاء يقولون ماكان يقوله التلمساني إنه ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل ويقولون من أراد التحقيق - يعني تحقيقهم - فيترك العقل والشرع
وقد قلت لمن خاطبته منهم : ومعلوم أن كشف الأنبياء أعظم وأتم من كشف غيرهم وخبرهم أصدق من خبر غيرهم والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته لا بما يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع فيخبرون بمجازات العقول لا بمحالات العقول ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض صريح العقول ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا فكيف بمن ادعى كشفا يناقض صريح الشرع والعقل ؟ !
وهؤلاء قد لا يتعمدون الكذب لكم يخيل لهم أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج لكن يظنونها من كرامات الصالحين وتكون من تلبيسات الشياطين
تقديمهم الأولياء على الأنبياء وقولهم بعدم انقطاع النبوة
وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة قد يقدمون الأولياء على الأنبياء ويذكرون أن النبوة لم تنقطع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق