رسالة في تحقيق الشكر
فصل يتعلق بالشكر
اعلم أن أهل البدع القدرية من الجهمية المجبرة والقدرية النافية لا يحمدون الله ولا يشكرونه كما أنهم لا يعبدونه وأما أهل الإلحاد من المتفلسفة والباطنية فهم أبعد عن حمده وشكره
وذلك أن المجبرة حقيقة قولهم أنه ليس برحيم ولا منعم بل ولا إله يستحق أن يعبد ويحب بل صدور الإحسان عنه كصدور الإساءة وإنما هو يفعل بمحض مشيئة ترجح الشيء على مثله لا لمرجح وكل الممكنات عندهم متماثلة فلا فرق بين أن يريد رحمة الخلق ونفعهم والإحسان إليهم أو يريد فسادهم وهلاكهم وضرارهم يقولون هذا كله عنده سواء
ومعلوم أن الإنعام إنما يكون إنعاما إذا قصد به المنعم نفع المنعم عليه دون إضراره وأما إذا قصد الأمرين فهذا ليس جعله منمعما مصلحا بأولى من جعله معتديا مفسدا كمن بيده سيف يضرب به صديق الإنسان تارة وعدوه أخرى أو معه دراهم يقوى بها تارة ويقويه بها تارة فهذا ليس كونه محسنا إليه بأولى من كونه ضارا له ومحسنا إلى عدوه
وأما النافية فعندهم أن هذا كله واجب عليه البيان وخلق القدرة وإزاحة العلل والجزاء ومن فعل الواجب الذي يستحقه غيره عليه لم يستحق الشكر المطلق
وأيضا إنعامه بالهدى على المؤمنين والكفار سواء فشكر المؤمنين له على الهدى كشكر الكفار عليه إذ لم ينعم على المؤمنين بنفس الهدى بل هم اهتدوا بقدرتهم ومشيئتهم وإذن كان إنعامه على النوعين سواء ولكن هؤلاء هم الذين فعلوا ما يسعدون به
والمتفلسفة أرسطو وأتباعه عندهم أنه لا يفعل شيئا ولا يريد شيئا ولا يعلم شيئا ولا يخلق شيئا فعلى أي شيء يشكر أم على أي شيء يحمد ويعبد
والباطنية باطنية الشيعة والمتصوفة كابن سبعين وابن عربي هم في الباطن كذلك بل يقولون الوجود واحد وجود المخلوق هو وجود الخالق فيجب عندهم أن يكون كل موجود عابدا لنفسه شاكرا لنفسه حامدا لنفسه
وابن عربي يجعل الأعيان ثابتة في العدم وقد صرح بأن الله لم يعط أحدا شيئا وأن جميع ما للعباد فهو منهم لا منه وهو مفتقر إليهم لظهور وجوده في أعيانهم وهم مفتقرون إليه لكون أعيانهم ظهرت في وجوده فالرب إن ظهر
فهو العبد والعبد إن بطن فهو الرب ولهذا قال لا تحمد ولا تشكر إلا نفسك فما في أحد من الله شيء ولا في أحد من نفسه شيء ولهذا قال إنه يستحيل من العبد أن يدعوه لأنه يشهد أحدية العين فالداعي هو المدعو فكيف يدعو نفسه وزعم أن هذا هو خلاصة غاية الغاية فما بعد هذا شيء وقال فلا تطمع أن ترقى في أعلى من هذه الدرج فما ثم شيء أصلا وإن هذا إنما يعرفه خلاصة خلاصة الخاصة من أهل الله
فصرح بأنه ليس بعد وجود المخلوقات وجود يخلق ويرزق ويعبد ولهذا كان صاحبه القاضي يقول ... ما الأمر إلا نسق واحد ... ما فيه من حمد ولا ذم ... وإنما العادة قد خصصت ... والطبع والشارع بالحكم ...
وقد قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر
فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم الآية سورة النحل 53 54 إلى قوله سبحانه ولهم ما يشتهون الآية 57 وهذه الآيات كما تناولت ذم الذين جعلوا له شريكا وولدا فتناولها لذم هؤلاء الملاحدة أعظم فإن القائلين بقدم العالم وأنه معلول جعلوه كله والدلالة قديما أزليا معه وهذا أعظم من قول أولئك والذين لم يجعلوه معلولا له قالوا إنه قديم معه واجب الوجود مماثل له بل وجعلوا الفلك هو الذي تحدث عنه الحوادث لكن حركته للشبه به وهذا أعظم من كل شرك في العالم ومن شرك المجوس والحرنانيين فإن أولئك وإن جعلوا معه قديما إما الظلمة وهي إبليس عند المجوس وإما النفس والهيولي عند الحرنانيين فهم يقولون إنه أحدث العالم وأنه ركبه من النفس والهيولي القدمين ورحبه من أجزاء النور والظلمة
ولهذا ذكر محمد بن كعب وغيره عن المجوس والصابئة أنهم قالوا عن الله لولا أولياؤه لذل فأنزل الله تعالى ولم يكن له ولي من الذل سورة الإسراء 111 فإنهم يجعلونه محتاجا إلى من يعاونه إذ كان
مغلوبا من وجه مع القدماء معه كما هو غالب من وجه
وكفر أولئك أعظم فإنهم لم يجعلوا له تأثيرا في الفلك ولا تصرفا بوجه من الوجوه فهؤلاء تنقصوه وسلبوه الربوبية والإلهية أعظم من أولئك وجعلوه مع الفلك مغلوبا من كل وجه لا بقدر أن يفعل فيه شيئا وكقول عبدة الأوثان هو أجل من أن نعبده بل نعبد الوسائط وهو أجل من أن يبعث بشرا رسولا فجحدوا توحيده ورسالته على وجه التعظيم له وكذلك المجوس الثنوية أثبتوا الظلمة تنزيها له عن فعل الشر والحرنانيون أثبتوا معه النفس والهبلوي قديمين تنزيها له عن إحداث العالم بلا سبب فالأمم كلهم يعظمونه لكن تعظيما يستلزم شبهة وسبة
والمقصود هنا قوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله سورة النحل 53 وقوله تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه سورة الجاثية 13 فالأمر ضد ما قاله هؤلاء الملاحدة ابن عربي ونحوه حيث قالوا ما في أحد من الله شيء فيقال لهم بل كل ما بالخلق من نعمة فمن الله وحده
قال النبي صلى الله عليه وسلم من قال إذا أصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر ذلك اليوم ومن قال إذا أمسى اللهم ما أمسى بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر تلك الليلة رواه أبو داود وغيره
فكل ما بالخلق من النعم فمنه وحده لا شريك له ولهذا هو سبحانه يجمع بين الشكر والتوحيد ففي الصلاة أول الفاتحة الحمد لله رب العالمين وأوسطها إياك نعبد وإياك نستعين والخطب وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم وعن ابن عباس إذا قلت لا إله إلا الله فقل الحمد لله فإن الله يقول فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين سورة غافر 65
وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال حين يصبح الحمد لله ربي لا أشرك به شيئا أشهد أن لا إله إلا الله ظل تغفر له ذنوبه حتى يمسي ومن قالها حين يمسي غفرت له ذنوبه حتى يصبح رواه أبان المحاربي عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره ابن عبدالبر وغيره
فالحمد أول الأمر كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم والتوحيد نهايته ولهذا كان النصف من الفاتحة الذي هو لله أوله حمد وآخره توحيد إياك نعبد
والحمد رأس الشكر فالحامد يشكره أولا على نعمه ثم يعبده وحده فإن العبد أول ما يعرف ما يحصل له من النعمة مثل خلقه حيا وخلق طرق العلم السمع والبصر والعقل
وقد تنازع الناس في أول ما أنعم الله على العبد فقيل هو خلقه حيا أو خلق الحياة كما قال ذلك من قاله من المعتزلة وقيل بل إدراك اللذات ونيل الشهوات كما يقوله الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره كالقاضي أبي يعلى في أحد قوليه ومن أصحاب أحمد وغيرهم من قال بل أولها هو الإيمان ولم يجعل ما قبل الإيمان نعمة بناء على أن تلك لا تصير نعما إلا بالإيمان وأن الكافر ليس عليه نعمة وهذا أحد قولي الأشعري وأحد القولين لمتأخري أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الفرج
والصحيح أن نعمة الله على كل أحد على الكفار وغيرهم لكن النعمة المطلقة التامة هي على الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين أمرنا أن نقول في صلاتنا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم فإن جعلت غير صفة لا استثناء فيها لم يدخل المغضوب عليهم ولا الضالون في المنعم عليهم وإن جعلت استثناء فقد دخلوا في المنعم عليهم لكن رجحوا الأول فقالوا واللفظ للبغوي غير ههنا بمعنى لا ولا بمعنى غير ولذلك جاز العطف عليها كما يقال فلان يغر محسن ولا مجمل فإذا كان غير بمعنى سوى فلا يجوز العطف عليها بلا لا يجوز في الكلام عندي سوى عبدالله ولا زيد وقد روى عن عمر أنه قرأ صراط من أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم وغير الضالين
وهذا قد ذكره غير واحد من أهل العربية ومثلوه بقول القائل إنى لأقر بالصادق غير الكاذب قالوا وغير هنا صفة ليست للإستثناء وأصل غير أن تكون صفة وهي في الآية صفة ولهذا خفضت كأنه قيل صراط المنعم عليهم المغايرين لهؤلاء وهؤلاء
هذه هي النعمة المطلقة التامة والقرآن مملوء من ذكر نعمه على الكفار وقد قال تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم سورة البقرة 28 فالحياة نعمة وإدراك اللذات نعمة وأما الإيمان فهو أعظم النعم وبه تتم النعم
فالإنسان بجبلته يطلب ما يوافقه ويتنعم به من الغذاء وغيره على هذا فطر فيعرف النعمة فيعرف المنعم فيشكره فلهذا كان الحمد هو الإبتداء فإن شعوره بنفسه وبما يحتاج إليه ويتنعم به قبل شعوره بكل شيء وهو من حين خرج من بطن أمه شعر باللبن الذي يحتاج إليه ويتنعم به وبما يخرج منه وهو الثدي فلهذا تعرف الله إليه بالنعم ليشكره وشكره ابتداء معرفته بالله فإذا عرف الله أحبه فعبده وتنعم بعبادته وحده لا شريك له وعرف ما في التأله له من اللذة العظيمة التي لا يعد لها لذة فلهذا كان التوحيد نهايته أوله الحمد وآخره إياك نعبد
وكذلك في الجنة كما في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزياده فالنظر إليه أكمل اللذات وآخرها كما قال فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولهذا قيل أطيب ما في الدنيا معرفته وأطيب ما في الآخرة مشاهدته
وعبادته وحده بمحبته وقصد رؤيته هو لأهل السنة الذين يقرون بإلاهيته وحكمته وأنه يستحق المحبة وأن يكون هو أحب إلى العبد من كل شيء
وأما الجهمية والمعتزلة فينكرون محبته وحقيقة إلاهيته وعلى قولهم تمتنع عبادته لكن المعتزلة تقر بالنعمة ووجوب الشكر وعلى هذا بنوا دينهم وغاية الواجبات هي الشكر ولهذا قالوا الشكر يجب عقلا وأما العبادة والمحبة فلم يعرفوها ولم يصلوا إليها بل أنكروها
وأما الجهمية المجبرة لا هذا ولا هذا لكن يعترفون بقدرته وأنه يفعل ما يشاء ولهذا كانوا في الواجبات وترك المحرمات أبعد من المعتزلة فإنهم مرجئة مجبرة فلا يجزمون بالوعيد وهذا نصف الحرف الباعث على العمل ويقلون بالجبر وهذا نصف الإعتراف بحق الله على العبد ووجوب شكره فتضعف دواعيهم من جهة الخوف ومن جهة الشكر لا يشكرون نعمه الماضية
ولا يخافون عقوبته المستقبلة ولكن لما آمن من آمن منهم بالرسل صار عندهم خوف ما ورجاء وصاروا يوجبون الشكر شرعا وعندهم داعي الرجاء فالرجاء عندهم أغلب من الخوف وهو أحد المعنيين في تسميتهم مرجئة قيل إنه من الرجاء أي يجعلون الناس راجين فهم مرجية لا مخيفة لكن الصحيح أنهم مرجئة بالهمز من الإرجاء لكن يشارك الرجاء في الإشتقاق الأكبر
ولهذا قيل من عبدالله بالرجاء وحده فهو مرجىء ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالحب فهو زنديق ومن عبده بالخوف والرجاء والحب فهو مؤمن موحد
وذلك أن الحب الذي ليس معه رجاء ولا خوف يبعث النفس على اتباع هواها وصاحبه إنما يحب في الحقيقة نفسه وقد اتخذ إلاهه هواه فلهذا كان زنديقا ومن هنا دخلت الملاحدة الباطنية كالقائلين بوحدة الوجود فإن هؤلاء سلوكهم عن هوى ومحبة فقط ليس معه رجاء ولا خوف ولهذا يتنوعون
فهم من الذين قال الله فيهم أفرأيت من اتخذ إلهه هواه سورة الجاثية 23 ولهذا يجوزون الشرك كما قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها الآية وما بعدها إلى قوله كل حزب بما لديهم فرحون سورة الروم 30 32
وهم في الحقيقة ينكرون محبة الله ولكن يقولون الحكمة هي التشبه به ولهذا كان ابن عربي يجعل الولي هو المتشبه به في التخلق بأسمائه وينكر اللذة بالمشاهدة والخطاب ويقول ما التذ عارف قط بالمشاهدة لأنها على أصله مشاهدة وجود مطلق ولا لذة فيها
ووقع بينه وبين شهاب الدين السهروردي منازعة هل حين يتجلى لهم يخاطبهم فأثبت شهاب الدين ذلك كما جائت به الآثار وأنكر ذلك ابن عربي وقال مسكين هذا السهروردي نحن نقول له عن تجلي الذات وهو يقول عن تجلي الصفات
وهذا بناء على أصله الفاسد وهو أن الذات وجود مطلق لا تقوم به صفات لا كلام ولا غيره فيستحيل عند تجليها خطاب
وشهاب الدين كان أتبع للسنة والشرع منه ولهذا كان صاحبهما ابن حمويه يقول ابن عربي بحر لا تكدره الدلاء ولكن نور المتابعة المحمدية على وجه الشيخ شهاب الدين شيء آخر لكنه كان ضعيف الإثبات للصفات والعلو لما فيه من التجهم الأشعري وكان يقول عن الرب لا إشارة ولا تعيين
وهؤلاء مخانيث الجهمية وابن عربي من ذكورهم فهم يستطيلون على من دخل معهم في التجهم وإنما يقهرهم أهل السنة المثبتون العارفون بما جاء به الرسول وبمخالفتهم له وببطلان ما يناقصن السنة من المعقولات الفاسدة ولم يكن السهروردي من هؤلاء وكذلك الحريري قال كنت أثبت المحبة أولا ثم رأيت أن المحبة ما تكون إلا من غير لغير وما ثم غير
فهؤلاء منتهاهم إنكار المحبة التي يستحقها الرب ولهذا لا يتابعون رسوله ولا يجاهدون في سبيله والله وصف المؤمنين بهذا وبهذا فمحبة هؤلاء تجر إلى الزندقة
وأيضا فقد يقولون إن المحب لا تضره الذنوب وصنف ابن حمويه في ذلك مصنفا بناه على ما يقال إذا أحب الله عبدا لا تضره الذنوب وهذا إذا قاله المحق فقصده أنه لا يتركه مصرا عليها بل يتوب عليه منها فلا تضره فأخذه هؤلاء وقالوا إن الذنوب لا تضر المحبوبين وأحدهم يقول عن نفسه إنه محجوب فلا تضره الذنوب فصاروا مثل اليهود والنصارى الذين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه سورة المائدة 18 فصار فيهم زندقة من هذا الوجه ومن غيره
وقد قال تعالى عن يوسف كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين سورة يوسف 24 وقال تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به سورة النساء 123 وسيد المحبين المحبوبين خاتم الرسل وقد قال إني أعلمكم بالله واشدكم خشية له
وهو سبحانه لا يحب إلا الحسنات ولا يحب السيئات وهو يحب المتقين والمحسنين والصابرين والتوابين والمتطهرين ولا يحب كل مختال فخور ولا يحب
الفساد ولا يرضى لعباده الكفر فإذا أحب عبدا وأذنب كان من التوابين المتطهرين
وبعض الناس يقول الشاب التائب حبيب الله والشيخ التائب عتيقه وليس كذلك بل كل من تاب فهو حبيب الله سواء كان شيخا أو شابا وقد روى أهل ذكرى أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أويسهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب
وهذا فعله مع عباده إذا أذنبوا إما أن يتوب عليهم وإما أن يبتليهم بما يطهرهم إذا لم يجعل السيئات تخفص درجتهم وإن لم يكن هذا ولا هذا انخفضت درجتهم بحسب سيئاتهم عن درجات من ساواهم في الحسنات وسلم من تلك السيئات كما قال سبحانه ولكل درجات مما عملوا سورة الأنعام 132 لأهل الجنة ولأهل النار درجات من أعمالهم بحسبها كما قد بسط في غير هذا الموضع
والعبد هو فقير دائما إلى الله من كل وجه من جهة أنه معبوده وأنه مستعانه فلا يأتي بالنعم إلا هو ولا يصلح حال العبد إلا بعبادته وهو مذنب أيضا لا بد له من الذنوب فهو دائما فقير مذنب فيحتاج دائما وإلى الغفور الرحيم الغفور الذي يغفر ذنوبه والرحيم الذي يرحمه فينعم عليه ويحسن إليه فهو دائما بين إنعام الرب وذنوب نفسه كما قال أبو إسماعيل الأنصاري إنه يسير بين مطالعة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل وكما قال ذلك العارف للحسن البصري إني أصبح بين نعمة وذنب فأريد أن أحدث للنعمة شكرا وللذنب استغفارا
وفي سيد الإستغفار أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي وفي الحديث الإلهي فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وكان يقول في خطبته الحمد لله نستعينه ونستغفره وفي القنوت اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك إلى آخره وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يحمد الله ثم يستغفره فيقول ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي ما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
والإستغفار مقرون بالحمد كما قرن بالتوحيد وكما قرن الحمد بالتحميد وقد جمعت الثلاثة في مثل كفارة المجلس سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
وكان المقصود أن الجهمية المجبرة لما آمن منهم من آمن بالرسل صار عندهم خوف ما ورجاء ما وصاروا يوجبون الشكر شرعا فالداعي عندهم جزء من الشرع وأما داعي المعتزلة فهو أقوى من داعيهم فهم أحسن أعمالا وأعبد وأطوع وأورع كأهل السنة والمعرفة فهم يعبدونه مع الخوف والرجاء والشكر بداعي المحبة ومعرفة الحكمة والإلهية وهذه ملة إبراهيم الخليل فهم فوق هؤلاء كلهم والله تعالى أعلم
آخره والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وسلم
| | | |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق