اتفاق الصحابة في مسائل الصفات
وقد تضمن هذا أمورا منها أن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام ولا يخرجون بذلك عن الإيمان وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال بل كلهم على إثبات ما نطق به الكاتب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم لم يسوموها تأويلا ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا ولم يبدوا لشيء منها إبطالا ولا ضربوا لها أمثالا ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها بل تلقوها بالقبول والتسليم وقابلوها بالإيمان والتعظيم وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا وأجروها على سنن واحد ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها عضين وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين مع أن اللازم لهم فيها أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه
المؤمنون لا يخرجهم تنازعهم عن الإيمان
والمقصود أن أهل الإيمان لا يخرجهم تنازعهم في بعض مسائل الأحكام عن حقيقة الإيمان إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما شرطه الله عليهم بقوله فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ولا ريب أن الحكم المعلق على شرط ينتفي عند انتفائه
الرد إلى الله ورسوله دليل على أن كل الأحكام في القرآن والسنة
ومنها أن قوله فإن تنازعتم في شيء نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقه وجله جليه وخفيه ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيا لم يأمر بالرد إليه إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع
ومنها أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه وتعالى هو الرد إلى كتابه والرد
إلى الرسول ص - هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته
انتفاء الإيمان بانتفاء الرد
ومنها أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم وأن عاقبته أحسن عاقبة ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى الطاغوت ومتابعته وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة وهم الصحابة ومن تبعهم ولا قصدوا قصدهم بل خالفوهم في الطريق والقصد معا ثم أخبر تعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك ولم يستجيبوا للداعي ورضوا بحكم غيره ثم توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول وتحكيم غيره والتحاكم إليه كما قال تعالى فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق أي بفعل ما يرضي الفريقين ويوفق بينهما كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به الرسول وبين ما خالفه ويزعم بذلك أنه محسن قاصد الإصلاح والتوفيق والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي فمحض الإيمان في هذا الحرب لا في التوفيق وبالله التوفيق
ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ولم يكتف منهم أيضا بذلك حتى يسلموا تسليما وينقادوا انقيادا قال تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله ومن تخير بعد ذلك فقد ضل ضلالا مبينا
النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم أي لا تقولوا حتى يقول ولا تأمروا حتى يأمر ولا تفتوا حتى يفتي ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة وروى العوفي عنه قال نهوا أن يتكلوا بين يدي كلامه
والقول الجامع في معنى الآية لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله ص - أو يفعل
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم
وقال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه فأولى أن يكون من لوازمه أن لا يذهبوا إلى
قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه
انتزاع العلم بموت أصحابه
وفي صحيح البخاري من حديث أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال حج علينا عبد الله بن عمرو بن العاص فسمعته يقول سمعت رسول الله ص - يقول إن الله لا ينزع العلم بعد إذا أعطاكموه انتزاعا ولكن ينزعه مع قبض العلماء بعلمهم فيبقي ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون وقال وكيع حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله ص - لا ينزع الله العلم من صدور الرجال ولكن ينزع العلم بموت العلماء فإذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وفي الصحيحين من حديث عروة بن الزبير قال قالت عائشة يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مار بنا إلى الحج فالقه فاسأله فإنه قد حمل عن النبي ص - علما كثيرا قال فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول الله ص - قال عروة فكان فيما ذكر أن النبي ص - قال إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعا ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم ويبقي في الناس رءوس جهال يفتونهم بغير علم فيضلون ويضلون قال عروة فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته قالت أحدثك أنه سمع رسول الله ص - يقول هذا قال عروة نعم حتى إذا كان عام قابل قالت لي إن ابن عمرو قد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم قال فلقيته فسألته فذكره لي نحو ما حدثني في المرة الأولى قال عروة فلما أخبرتها بذلك قالت ما أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئا ولم ينقص وقال البخاري في بعض طرقه فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون وقال فقالت عائشة والله لقد حفظ عبد الله
الوعيد على القول بالرأي
وقال نعيم بن حماد ثنا ابن المبارك ثنا عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان الزنجي ثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال رسول الله ص - تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ويحلون به ما حرم الله قال أبو عمر بن عبد البر هذا هو القياس على غير أصل والكلام في الدين بالخرص والظن ألا ترى إلى قوله في الحديث يحلون الحرام ويحرمون الحلال ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله والحرام ما في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغير علم وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة فهذا الذي قاس الأمور برأيه فضل وأضل ومن رد الفروع إلى أصولها فلم يقل برأيه
وقالت طائفة من أهل العلم من أداه اجتهاده إلى رأي رآه ولم تقم عليه حجة فيه بعد فليس مذموما بل هو معذور خالفا كان أو سالفا ومن قامت عليه الحجة فعاند وتمادى على الفتيا برأي إنسان بعينه فهو الذي يلحقه الوعيد وقد روينا في مسند عبد بن حميد ثنا عبد الرزاق ثنا سفيان الثوري عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله ص - من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار
فصل فيما روى عن صديق الأمة وأعلمها من إنكار الرأي
روينا عن عبد بن حميد ثنا أبو أسامة عن نافع عن عمر الجمحي عن ابن أبي
مليكة قال قال أبو بكر رضي الله عنه أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم
وذكر الحسن بن علي الحلواني حدثنا عارم عن حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال لم يكن أحد أهيب بما لا يعلم من أبي بكر رضي الله عنه ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر رضي الله عنه وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلا ولا في السنة أثرا فاجتهد برأيه ثم قال هذا رأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله
فصل في المنقول من ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال ابن وهب ثنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو على المنبر يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله ص - مصيبا إن الله كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف
قلت مراد عمر رضي الله عنه قوله تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله فلم يكن له رأي غير ما أراه الله إياه وأما ما رأى غيره فظن وتكلف
قال سفيان الثوري ثنا أبو إسحاق الشيباني عن أبي الضحى عن مسروق قال كتب كاتب لعمر بن الخطاب هذا ما رأى الله ورأى عمر فقال بئس ما قلت قل هذا ما رأى عمر فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر
وقال ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن أبي جعفر قال قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه السنة ما سنه الله ورسوله ص
لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة
قال ابن وهب وأخبرني ابن لهيعة عن أبي الزناد عن محمد بن إبراهيم التيمي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال أصبح أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يعوها وتفلتت منهم أن يرووها فاستبقوها بالرأي
قال ابن وهب وأخبرني عبد الله بن عباس عن محمد بن عجلان عن عبيد الله ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال اتقوا الرأي في دينكم وذكر ابن عجلان عن صدقة بن أبي عبد الله أن عمر بن الخطاب كان يقول أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم وذكر ابن الهادي عن محمد بن إبراهيم التيمي قال قال عمر بن الخطاب إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم
وقال الشعبي عن عمرو بن حرث قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة
وقال محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار حدثنا يونس بن عبيد العمري ثنا مبارك بن فضالة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر ابن الخطاب أنه قال أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فلقد رأيتني وأني لأرد أمر رسول الله ص - برأيي فأجتهد ولا آلو وذلك يوم أبي جندل والكاتب يكتب وقال اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم فقال يكتب باسمك
اللهم فرضي رسول الله ص - وأبيت فقال يا عمر تراني قد رضيت وتأبى
وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن يزيد ابن حبيب عن معمر بن أبي حبيبة مولى بنت صفوان عن عبيد بن رفاعة عن أبيه رفاعة بن رافع قال بينما أنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل عليه رجل فقال يا أمير المؤمنين هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة فقال عمر علي به فجداء زيد فلما رآه عمر فقال عمر أي عدو نفسه قد بلغت أن تفتي الناس برأيك فقال يا أمير المؤمنين والله ما فعلت ولكن سمعت من أعمامي حديثا فحدثت به من أبي أيوب ومن أبي بن كعب ومن رفاعة بن رافع فقال عمر علي برفاعة بن رافع فقال قد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم المرأة فأكسل أن يغتسل قال قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله ص - لم يأتنا فيه عن الله تحريم ولم يكن فيه عن رسول الله ص - شيء فقال عمر ورسول الله ص - يعلم ذلك قال ما أدري فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار فجمعوا فشاورهم فشار الناس أن لا غسل إلا ما كان من معاذ وعلي فإنهما قالا إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل فقال عمر هذا وأنتم أصحاب بدر قد اختلفتم فمن بعدكم أشد اختلافا فقال علي يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد أعلم بهذا من شأن رسول الله ص - من أزواجه فأرسل إلى حفصة فقالت لا علم لي فأرسل إلى عائشة فقالت إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فقال لا أسمع برجل فعل ذلك إلا أوجعته ضربا
قول ابن مسعود في ذم الرأي
قال البخاري حدثنا جنيد ثنا يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي
عن مسروق عن عبد الله قال لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله أما أني لا أقول أمير خير من أمير ولا عام أخصب من عام ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم
وقال ابن وهب ثنا شقيق عن مجالد به قال ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام ويثلم
وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال قال عبد الله بن مسعود علماؤكم يذهبون ويتخذ الناس رءوسا جهالا يقيسون الأمور برأيهم
وقال سنيد بن داود حدثنا محمد بن فضل عن سالم بن أبي حفصة عن منذر الثوري عن الربيع بن خيثم أنه قال قال عبد الله ما علماك الله في كتابه فاحمد الله وما استأثر به عليك من علم فكله إلى عالمه ولا تتكلف فإن الله تعالى يقول لنبيه قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين يروى هذا عن الربيع بن خيثم وعن عبد الله
وقال سعيد بن منصور حدثنا خلف بن خليفة ثنا أبو زيد عن الشعبي قال قال ابن مسعود إياكم وأرأيت أرأيت فإنما هلك من كان من قبلكم بأرأيت أرأيت ولا تقيسوا شيئا فتزل قدما بعد ثبوتها وإذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل لا أعلم فإنه ثلث العلم
وصح عنه في المفوضة أنه قال أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء منه
قول عثمان في ذم الرأي
قال محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن عباد عن عبيد الله بن الزبير قال أنا والله مع عثمان بن عفان بالجحفة إذ قال عثمان وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج أتموا الحج وأخلصوه في شهر الحج فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فإن الله قد أوسع في الخير فقال له علي عمدت إلى سنة رسول الله ص - ورخصة رخص الله للعباد بها في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار ثم أهل علي بعمرة وحج معا فأقبل عثمان بن عفان رضي الله عنه على الناس فقال أنهيت عنها إني لم أنه عنها إنما كان رأيا أشرت به فمن شاء أخذه ومن شاء تركه
فهذا عثمان يخبر عن رأيه أنه ليس بلازم للأمة الأخذ به بل من شاء أخذ به ومن شاء تركه بخلاف سنة رسول الله ص - فإنه لا يسع أحدا تركها لقول أحد كائنا من كان
قول علي في ذم الرأي
قال أبو داود حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء ثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد خير عن علي رضي الله عنه أنه قال لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه
قول ابن عباس في ذم الرأي
قال ابن وهب أخبرني بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عباس أنه قال من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله ص - لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله تعالى
وقال عثمان بن مسلم الصفار ثنا عبد الرحمن بن زياد حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي عن أبي فزارة قال قال ابن عباس إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله
ص - فمن قال بعد ذلك برأيه فلا أدري أفي حسناته يجد ذلك أم في سيئاته
وقال عبد الرحمن بن حميد حدثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن ليث عن بكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار
قول سهل ابن حنيف في ذم الرأي
قال البخاري حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل قال قال سهل بن حنيف أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله ص - لرددته
قول ابن عمر في ذم الرأي
قال ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار قال أخبرني طاوس عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا لم يجد في الأمر يسأل عنه شيئا قال إن شئتم أخبرتكم بالظن
وقال البخاري قال لي صدقة عن الفضل بن موسى عن موسى بن عقبة عن الضحاك عن جابر بن زيد قال لقيني ابن عمر فقال يا جابر إنك من فقهاء البصرة وتستفتي فلا تفتين إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية
وقال مالك عن نافع عنه العلم ثلاث كتاب الله الناطق وسنة ماضيه ولا أدري
قول زيد بن ثابت في ذم الرأي
قال البخاري حدثنا سنيد بن داود ثنا يحيى بن زكريا مولى ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن خالد عن الشعبي قال أتى زيد بن ثابت قوم فسألوه عن أشياء فأخبرهم بها فكتبوها ثم قالوا لو أخبرناه فأتوه فأخبروه فقال اعذرا لعل كل شيء حدثتكم خطأ إنما اجتهدت لكم برأيي
قول معاذ في ذم الرأي
قال حماد بن سلمة ثنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن يزيد بن أبي عميرة عن معاذ بن جبل قال تكون فتن فيكثر فيها المال ويفتح القرآن حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمنافق والمؤمن فيقرأه الرجل فلا يتبع فيقول والله لأقرأنه علانية فيقرأه علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله ص - فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة قاله معاذ ثلاث مرات
قول أبي موسى في ذم الرأي
قال البغوي ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن حميد عن أبي رجاء العطاردي قال قال أبو موسى الأشعري من كان عنده علم فليعلمه الناس وإن لم يعلم فلا يقولن ما ليس له به علم فيكون من المتكلفين ويمرق من الدين
قول معاوية في ذم الرأي
قال البخاري حدثنا أبو اليمان ثنا شعيب عن الزهري قال كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش فقام معاوية فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنه قد بلغني أن رجالا فيكم يتحدثون بأحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله ص - فأولئكم جهالكم
فهؤلاء من الصحابة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي ابن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وزيد ابن ثابت وسهل بن حنيف ومعاذ بن جبل ومعاوية خال المؤمنين وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم يخرجون الرأي عن العلم ويذمونه ويحذرون منه وينهون عن الفتيا به ومن اضطر منهم إليه أخبر أنه ظن وأنه ليس على ثقة منه وأنه يجوز أن يكون منه ومن الشيطان وأن الله ورسوله بريء
منه وأن غايته أن يسوغ الأخذ به عند الضرورة من غير لزوم لاتباعه ولا العمل به فهل تجد من أحد منهم قط أنه جعل رأي رجل بعينه دينا تترك له السنن الثابتة عن رسول الله ص - ويبدع ويضلل من خالفه إلى اتباع السنن
فهؤلاء برك الإسلام وعصابة الإيمان وأئمة الهدى ومصابيح الدجى وأنصح الأئمة للأمة وأعلمهم بالأحكام وأدلتها وأفقههم في دين الله وأعمقهم علما وأقلهم تكلفا وعليهم دارت الفتيا وعنهم انتشر العلم وأصحابهم هم فقهاء الأمة ومنهم من كان مقيما بالكوفة كعلي وابن مسعود وبالمدينة كعمر ابن الخطاب وابنه وزيد بن ثابت وبالبصرة كأبي موسى الأشعري وبالشام كمعاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان وبمكة كعبد الله بن عباس وبمصر كعبد الله بن عمرو بن العاص وعن هذه الأمصار انتشر العلم في الآفاق واكثر من روى عنه التحذير من الرأي من كان بالكوفة إرهاصا بين يدي ما علم الله سبحانه أنه يحدث فيها بعدهم
فصل فيما يتوهم من استعمال الصحابة الرأي
قال أهل الرأي وهؤلاء الصحابة ومن بعدهم من التابعين والأئمة وإن ذموا الرأي وحذروا منه ونهوا عن الفتيا والقضاء به وأخرجوه من جملة العلم فقد روي عن كثير منهم الفتيا والقضاء به والدلالة عليه والاستدلال به كقول عبد الله بن مسعود في المفوضة أقول فيها برأيي وقول عمر بن الخطاب لكاتبه قل هذا ما رأى عمر بن الخطاب وقول عثمان بن عفان في الأمر بإفراد العمرة عن الحج إنما هو رأي رأيته وقول علي في أمهات الأولاد اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا يبعن
وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى شريح إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض به ولا تلتفت إلى غيره وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سن
رسول الله ص - فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسن رسول الله ص - فاقض بما أجمع عليه الناس وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله ص - ولم يتكلم فيه أحد قبلك فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم وإن شئت أن تتأخر فتأخر وما أرى التأخر إلا خيرا لك ذكره سفيان الثوري عن الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر كتب إليه
طريقة أبي بكر في الحكم
وقال أبو عبيد في كتاب القضاء ثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله ص - فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به فإن أعياه ذلك سأل الناس هل علمتم أن رسول الله ص - قضى فيه بقضاء فربما قام إليه القوم فيقولون قضى فيه بكذا وكذا فإن لم يجد سنة سنها النبي ص - جمع رؤساء الناس فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به
طريقة عمر في الحكم
وكان عمر يفعل ذلك فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به وإلا جمع علماء الناس واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به
طريقة ابن مسعود في الحكم
وقال أبو عبيد ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة عن عمير عن عبد الرحمن ابن يزيد عن ابن مسعود قال أكثروا عليه ذات يوم فقال إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هناك ثم إن الله بلغنا ما ترون فمن عرض عليه قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه ص - فليقض بما قضى به الصالحون فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه ص - ولا قضى به الصالحون
فليجتهد رأيه ولا يقل إني أرى وإني أخاف فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك مشتبهات فدع ما يريبك إلا ما لا يريبك
متفرقات من آراء الصحابة
وقال محمد بن جرير الطبري حدثني يعقوب بن إبراهيم أنا هشيم أنا سيار عن الشعبي قال لما بعث عمر شريحا على قضاء الكوفة قال له انظر ما يتبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول ص - وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد فيه رأيك
وفي كتاب عمر إلى أبي موسى أعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور
وقايس علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت في المكاتب وقايسه في الجد والإخوة فشبهه علي بسيل انشعبت منه شعبة ثم انشعبت من الشعبة شعبتان وقايسه زيد على شجرة انشعب منها غصن وانشعب من الغصن غصنان وقولهما في الجد إنه لا يحجب الإخوة وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع وقال اعتبرها بها وسئل علي رضي الله عنه عن مسيره إلى صفين هل كان بعد عهده إليه رسول الله ص - أم رأي رآه قال بل رأي رأيته
وقال عبد الله بن مسعود وقد سئل عن المفوضة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله مني بريء
وقال ابن أبي خيثمة ثنا أبي ثنا محمد بن خازم عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال من عرض له منك قضاء فليقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى فيه نبيه ص - فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض فيه نبيه ص - فليقض بما قضى به الصالحون فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحي
وذكر سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال سمعت ابن عباس إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله قال به وإن لم يكن في كتاب الله
وكان عن رسول الله ص - قال به فإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله ص - وكان عن أبي بكر وعمر قال به فإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله ص - ولا عن أبي بكر وعمر اجتهد رأيه
وقال ابن أبي خيثمة حدثني أبي ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عبد الملك بن أبجر عن الشعبي عن مسروق قال سألت أبي بن كعب عن شيء فقال أكان هذا قلت لا قال فأجمعنا حتى يكون فإذا كان اجتهدنا لك رأينا
قال أبو عمر بن عبد البر وروينا عن ابن عباس أنه أرسل إلى زيد بن ثابت أفي كتاب الله ثلث ما بقي فقال أنا أقول برأيي وتقول برأيك
وعن ابن عمر أنه سئل عن شيء فعله أرأيت رسول الله ص - فعل هذا أو شيء رأيته قال بل شيء رأيته
وعن أبي هريرة أنه كان إذا قال في شيء برأيه قال هذه من كيسي ذكره ابن وهب عن سليمان بن بلال عن كثير بن زيد عن وليد بن رباح عن أبي هريرة
وكان أبو الدرداء يقول إياكم وفراسة العلماء احذروا أن يشهدوا عليكم شهادة تكبكم على وجوهكم في النار فوالله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم
قلت وأصل هذا في الترمذي مرفوعا اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين
وقال أبو عمر ثنا عبد الوارث بن سفيان ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا إبراهيم بن أبي الفياض البرقي الشيخ الصالح ثنا سليمان بن بزيع الإسكندراني ثنا مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن
المسيب عن علي قال قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة قال اجمعوا له العالمين أو قال العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد وهذا غريب جدا من حديث مالك وإبراهيم البرقي وسليمان ليسا ممن يحتج بهما
وقال عمر لعلي وزيد لولا رأيكما لاجتمع رأيي ورأي أبي بكر كيف يكون ابني ولا أكون أباه يعني الجد
وعن عمر أنه لقي رجلا فقال ما صنعت قال قضى علي وزيد بكذا قال لو كنت أنا لقضيت بكذا قال فما منعك والأمر إليك قال لو كنت أردك إلى كتاب الله اوالى وسنة نبيه ص - لفعلت ولكني أردك إلى رأي والرأي مشترك فلم ينقض ما قال علي وزيد
وذكر الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود أنه قال إن الله اطلع في قلوب العباد فرأى قلب محمد ص - خير قلوب العباد فاختاره لرسالته ثم اطلع في قلوب العباد بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح
وقال ابن وهب عن ابن لهيعة إن عمر بن عبد العزيز استعمل عروة بن محمد السعدي على اليمن وكان من صالحي عمال عمر وإنه كتب إلى عمر يسأله عن شيء من أمر القضاء فكتب إليه عمر لعمري ما أنا بالنشيط على الفتيا ما وجدت منا بدا وما جعلتك إلا لتكفيني وقد حملتك ذلك فاقض فيه برأيك
وقال محمد بن سعد أخبرني روح بن عبادة ثنا حماد بن سلمة عن الجريري أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال للحسن أرأيت ما تفتي به الناس أشيء سمعته
أم برأيك فقال الحسن لا والله ما كل ما نفتي به سمعناه ولكن رأينا لهم خير من رأيهم لأنفسهم
وقال محمد بن الحسن من كان عالما بالكتاب والسنة وبقول أصحاب رسول الله ص - وبما استحسن فقهاء المسلمين وسعه أن يجتهد برأيه فيما يبتلى به ويقضي به ويمضيه في صلاته وصيامه وحجه وجميع ما أمر به ونهى عنه فإذا اجتهد ونظر وقاس على ما أشبه ولم يأل وسعه العمل بذلك وإن أخطأ الذي ينبغي أن يقول به
فصل في تفسير الرأي وتقسيمه
ولا تعارض بحمد الله بين هذه الآثار عن السادة الأخيار بل كلها حق وكل منها وله وجه وهذا إنما يتبين بالفرق بين الرأي الباطل الذي ليس من الدين والرأي الحق الذي لا مندوحة عنه لأحد من المجتهدين فنقول وبالله المستعان
معنى الرأي
الرأي في الأصل مصدر رأي الشيء يراه رأيا ثم غلب استعماله على المرئي نفسه من باب استعمال المصدر في المفعول كالهوى في الأصل مصدر هويه يهواه هوى ثم استعمل في الشيء الذي يهوى فيقال هذا هوى فلان والعرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها فتقول رأى كذا في النوم رؤيا ورآه في اليقظة رؤية ورأى كذا لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين رأيا ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الإمارات فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرا غائبا عنه مما يحس به أنه رأيه ولا يقال أيضا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الإمارات إنه رأى وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها
أقسام الرأي
وإذا عرف هذا فالرأي ثلاثة أقسام رأي باطل بلا ريب ورأي صحيح ورأي هو موضع الاشتباه والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف فاستعملوا الرأي الصحيح وعملوا به وأفتوا به وسوغوا القول به وذموا الباطل ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله
والقسم الثالث سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بد ولم يلزموا أحد العمل به ولم يحرموا مخالفته ولا جعلوا مخالفه مخالفا للدين بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه كما قال الإمام أحمد سألت الشافعي عن القياس فقال لي عند الضرورة وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر االضرورة لم يفرطوا فيه ويفرعوه ويولدوه ويوسعوه كما صنع المتأخرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار وكان أسهل عليهم من حفظها كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه وتعسر حفظه فلم يتعدوا فى استعماله قدر الضرورة ولم يبغوا العدول إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار كما قال تعالى في المضطر إلى الطعام المحرم فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم فالباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصل إلى المذكى والعادي الذي يتعدى قدر الحاجة بأكلها
فصل في أنواع الرأي الباطل
والرأي الباطل أنواع
أحدها الراى المخالف للنص وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه ولا تحل الفتيا به ولا القضاء وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد
النوع الثاني هو الكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها فإن من جهلها وقاس برأيه فيما سئل عنه بغير علم بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما يفرق بينهما في الحكم من غير نظر إلى النصوص والآثار فقد وقع في الرأي المذموم الباطل
النوع الثالث الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة وآراءهم الباطلة وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم ومعاني النصوص التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلا فقابلوا النوع الأول بالتكذيب والنوع الثاني بالتحريف والتأويل فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده وأنكروا مباينته للعالم واستواءه على عرش وعلوه على المخلوقات وعموم قدرته على كل شيء بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجن الإنس عن تعلق قدرته ومشيئته وتكوينه لها ونفوا لأجلها حقائق ما أخبر به عن نفسه واخبر به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله وحرفوا لأجلها النصوص عن مواضعها وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته أنه ذبالة الأذهان ونخالة الأفكار وعفارة الآراء ووساوس الصدور فملأوا به الأوراق سوادا والقلوب شكوكا والعالم فسادا وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي والهوى على العقل وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق وأثبت بها من باطل وأميت بها من هدى وأحي بها من ضلالة وكم هدم بها من معقل الإيمان وعمر بها من دين الشيطان وأكثر أصحاب
الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل بل هم شر من الحمر وهم الذين يقولون يوم القيامة لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
النوع الرابع الرأي الذي أحدثت به البدع وغيرت به السنن وعم به البلاء وتربى عليه الصغير وهرم فيه الكبير
فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وإخراجه من الدين
النوع الخامس ما ذكره أبو عمر بن عبد البر عن جمهور أهل العلم أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي ص - وعن أصحابه والتابعين رضي الله عنهم أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع بعضها على بعض قياسا دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها فاستعمل فيها الرأي قبل أن ينزل وفرعت وشققت قبل أن تقع وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن قالوا وفي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله تعالى ومعانيه احتجوا على ما ذهبوا إليه بأشياء ثم ذكر من طريق أسد بن موسى ثنا شريك عن ليث عن طاوس عن ابن عمر قال لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن من يسأل عما لم يكن ثم ذكر من طريق أبي داود ثنا إبراهيم بن موسى الرازي ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية أن النبي ص - نهى عن الأغلوطات
وقال أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي بإسناده مثله وقال فسره الأوزاعي يعني صعاب المسائل وقال الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن عبادة بن قيس الصنابحي عن معاوية بن أبي سفيان أنهم ذكروا المسائل عنده فقال أتعلمون أن رسول الله ص - نهى عن عضل المسائل
وقال أبو عمر واحتجوا أيضا بحديث سهل وغيره أن رسول الله ص - كره المسائل وعابها وبأنه ص - قال إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال
وقال ابن أبي خيثمة ثنا أبي ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا مالك عن الزهري عن سهل بن سعد قال لعن رسول الله ص - المسائل وعابها قال أبو بكر هكذا ذكره أحمد بن زهير بهذا الإسناد وهو خلاف لفظ الموطأ قال أبو عمر وفي سماع أشهب سئل مالك عن قول رسول الله ص - أنهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال فقال أما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة السؤال فقد كره رسول الله ص - المسائل وعابها وقال الله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم فلا أدري أهو هذا أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء وقال الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة وددت أن حظي من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء ولا يسألوني يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم
قال واحتجوا أيضا بما رواه ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أباه يقول قال رسول الله ص - أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته وروى ابن وهب أيضا قال حدثني ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله ص - قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم وقال سفيان بن عيينة عن عمرو عن طاوس قال قال عمر بن الخطاب وهو على المنبر أحرج بالله على كل امرىء سأل عن شيء
لم يكن فإن الله قد بين ما هو كائن
وقال أبو عمر وروى جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ما رأيت قوما خيرا من أصحاب رسول الله ص - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ص - كلهن في القرآن يسألونك عن المحيض يسألونك عن الشهر الحرام يسألونك عن اليتامى ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم قال أبو عمر ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث
قلت ومراد ابن عباس بقوله ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبين لهم أحكامه بالسنة لا تكاد تحصى ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين
وقد اختلف في هذه الأشياء المسئول عنها هل هي أحكام قدرية أو أحكام شرعية على قولين فقيل إنها أحكام شرعية عفا الله عنها أي سكت عن تحريمها فيكون سؤالهم عنها سبب تحريمها ولو لم يسألوا لكانت عفوا ومنه قوله ص - وقد سئل عن الحج أفي كل عام فقال لو قلت نعم وجبت ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ويدل على هذا التأويل حديث أبي ثعلبة المذكور إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما الحديث ومنه الحديث الآخر إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت
عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها وفسرت بسؤالهم عن أشياء من الأحكام القدرية كقول عبد الله بن حذافة من أبي يا رسول الله وقول آخر أين أبي يا رسول الله قال في النار والتحقيق أن الآية تعم النهي عن النوعين وعلى هذا فقوله تعالى إن تبد لكم تسؤكم أما في أحكام الخلق والقدر فإنه يسؤهم أن يبدو لهم ما يكرهونه مما سألوا عنه وأما في أحكام التكليف فإنه يسؤهم أن يبدو لهم ما يشق عليهم تكليفه مما سألوا عنه
وقوله تعالى وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم فيه قولان أحدهما أن القرآن إذا نزل بها ابتداء بغير سؤال فسألتم عن تفصيلها وعلمها أبدى لكم وبين لكم والمراد بحين النزول زمنه المتصل به لا الوقت المقارن للنزول وكأن في هذا إذنا لهم في السؤال عن تفصيل المنزل ومعرفته بعد إنزاله ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقا والقول الثاني أنه من باب التهديد والتحذير أي ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسؤكم والمعنى لا تتعروا للسؤال عما يسوءكم بيانه وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم
وقوله عفا الله عنها أي عن بيانها خبرا وأمرا بل طوى بيانها عنكم رحمة ومغفرة وحلما والله غفور حليم فعلى القول الأول عفا الله عن التكليف بها توسعة عليكم وعلى القول الثاني عفا الله عن بيانها لئلا يسؤكم بيانها
وقوله قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين أراد نوع تلك المسائل لا أعيانها أي قد تعرض قوم من قبلكم لأمثال هذه المسائل فلما بينت لهم كفروا بها فاحذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له
ولم ينقطع حكم هذه الآية بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله ومن ههنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا صاحب الميزاب لا تخبرنا لما سأله رفيقه عن مائه أطاهر
أم لا وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره فلعله يسوءه إن أبدي له فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله فإنه سبحانه يكره إبداءها ولذلك سكت عنها والله أعلم
فصل كلام التابعين في الرأي
قالوا ومن تدبر الآثار المروية في ذم الرأي وجدها لا تخرج عن هذه الأنواع المذمومة ونحن نذكر آثار التابعين ومن بعدهم بذلك ليتبين مرادهم
قال الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان عن مجالد عن الشعبي قال لعن الله أرأيت
قال يحيى بن سعيد وثنا صالح بن مسلم قال سألت الشعبي عن مسألة من النكاح فقال إن أخبرتك برأيي فبل عليه
قالوا فهذا قول الشعبي في رأيه وهو من كبار التابعين وقد لقي مائة وعشرين من الصحابة وأخذ عن جمهورهم
وقال الطحاوي ثنا سليمان بن شعيب ثنا عبد الرحمن بن خالد ثنا مالك بن مغول عن الشعبي قال ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله ص - فخذوه وما كان رأيهم فاطرحوه في الحش
وقال البخاري حدثنا سنيد بن داود ثنا حماد بن زيد عن زيد عن عمرو بن دينار قال قيل لجابر بن زيد إنهم يكتبون ما يسمعون منك قال إنا لله وإنا إليه راجعون يكتبونه وأنا أرجع عنه غدا
قال إسحاق بن راهويه قال سفيان بن عيينة اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم لا أن يقول هو برأيه
وقال ابن أبي خيثمة ثن الحوطي ثنا إسماعيل بن عياش عن سوادة بن زياد وعمرو بن المهاجر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس إنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله ص -
قال أبو بصيرة سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول للحسن البصري بلغني أنك تفتي برأيك فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله ص -
وقال البخاري حدثني محمد بن محبوب ثنا عبد الواحد ثنا ابن الزبرقان بن عبد الله الأسيدي أن أبا وائل شفيق ابن سلمة قال إياك ومجالسة من يقول أرأيت أرأيت
وقال أبان بن عيسى بن دينار عن أبيه عن ابن القاسم عن مالك عن ابن شهاب قال دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي
وقال يونس عن أبي الأسود وهو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل سمعت عروة بن الزبير يقول ما زال أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوهم
وذكر ابن وهب عن ابن شهاب أنه قال وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن فقال إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذى بأيديهم حين اتبعوا الرآى وأخذوا فيه
وقال ابن وهب حدثني ابن لهيعة أن رجلا سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء فقال لم أسمع في هذا شيئا فقال له الرجل فأخبرني أصلحك الله برأيك فقال لا ثم أعاد عليه فقال إني أرضى برأيك فقال سالم إني لعلي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأيا غيره فلا أجدك
وقال البخاري حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ثنا مالك بن أنس
قال كان ربيعة يقول لابن شهاب إن حالي ليس يشبه حالك أنا أقول برأيي من شاء أخذه وعمل به ومن شاء تركه
وقال الفريابي ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال سمعت عبد الرحمن ابن مهدي يقول سمعت حماد بن زيد يقول قيل لأيوب السختياني مالك لا تنظر في الرأي فقال أيوب قيل للحمار مالك لا تجتر قال أكره مضغ الباطل
وقال الفريابي ثنا العباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي قال سمعت الأوزاعي يقول عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول
وقال أبو زرعة ثنا أبو مسهر قال كان سعيد بن عبد العزيز إذا سئل لا يجيب حتى يقول لا حول ولا قوة إلا بالله هذا الرأي والرأي يخطىء ويصيب
وقد روى أبو يوسف والحسن بن زياد كلاهما عن أبي حنيفة أنه قال علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه
وقال الطحاوي ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ثنا أشهب بن عبد العزيز قال كنت عند مالك فسئل عن البتة فأخذت ألواحي لأكتب ما قال فقال لي مالك لا تفعل فعسى في العشي أقول إنها واحدة
وقال معن بن عيسى القزاز سمعت مالكا يقول إنما أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في قولي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق االكتاب والسنة فاتركوه
فرضي الله عن أئمة الإسلام وجزاهم عن نصيحتهم خيرا ولقد امتثل وصيتهم وسلك سبيلهم أهل العلم والدين من أتباعهم
المتعصبون يعكسون القضية
وأما المتعصبون فإنهم عكسوا القضية ونظروا في السنة فما وافق أقوالهم منها قبلوه وما خالفها تحيلوا في رده أو رد دلالته وإذا جاء نظير ذلك أو أضعف منه سندا ودلالة وكان يوافق قولهم قبلوه ولم يستجيزوا رده واعترضوا به على منازعيهم وأشاحوا وقرروا الاحتجاج بذلك السند ودلالته فإذا جاء ذلك السند بعينه أو أقوى منه ودلالته كدلالة ذلك أو أقوى منه في خلاف قولهم دفعوه ولم يقبلوه وسنذكر من هذا إن شاء الله طرفا عند ذكر غائلة التقليد وفساده والفرق بينه وبين الاتباع
وقال بقي بن مخلد ثنا سحنون والحارث بن مسكين عن بن القاسم عن مالك أنه كان يكثر أن يقول إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين
وقال القعنبي دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه فسلمت عليه ثم جلست فرأيته يبكي فقلت له يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك فقال لي يا ابن قعنب وما لي لا أبكي ومن أحق بالبكاء مني والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت فيها بالرأي سوطا وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه وليتني لم أفت بالرأي
وقال ابن أبي داود ثنا أحمد بن سنان قال سمعت الشافعي يقول مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برأ فأعقل ما يكون قد هاج به
وقال ابن أبي داود حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سمعت أبي يقول لا تكاد ترى أحدا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل
وقال عبد الله بن أحمد أيضا سمعت أبي يقول الحديث الضعيف أحب إلي من الرأي فقال عبد الله سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وأصحاب الرأي فتنزل به
النازلة فقال أبي يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي ضعيف الحديث أقوى من الرأي
أبو حنيفة يقدم الحديث
وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي وعلى ذلك بنى مذهبه كما قدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرآى وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس ومنع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم والحديث فيه ضعيف وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف وشرط في إقامة الجمعة المصر والحديث فيه كذلك وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيها غير مرفوعة فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي قوله وقول الإمام أحمد وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين بل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفا كما تقدم بيانه
والمقصود أن السلف جميعهم على ذم الرأي والقياس المخالف للكتاب والسنة وأنه لا يحل العمل به لا فتيا ولا قضاء وأن الرأي الذي لا يعلم مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه من غير إلزام ولا إنكار على من خالفه
قال أبو عمر بن عبد البر ثنا عبد الرحمن بن يحيى ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا عبد الله بن يحيى عن أبيه أنه كان يأتي ابن وهب فيقول له من أين فيقول له من عند ابن القاسم فيقول له ابن وهب اتق الله فإن أكثر هذه المسائل رأي
وقال الحافظ أبو محمد ثنا عبد الرحمن بن سلمة ثنا أحمد بن خليل ثنا خالد ابن سعيد أخبرني محمد بن عمر بن كنانة ثنا أبان بن عيسى بن دينار قال كان أبي
قد أجمع على ترك الفتيا بالرأي وأحب الفتيا بما روى من الحديث فأعجلته المنية عن ذلك
وقال أبو عمر وروى الحسن بن واصل أنه قال إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق وتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا
قال أبو عمر وذكر نعيم بن حماد عن أبي معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق من يرغب برأيه عن أمر الله يضل
وذكر بن وهب قال أخبرني بكر بن نصر عن رجل من قريش أنه سمع ابن شهاب يقول وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن فقال إن اليهود والنصارى إنما انسخلوا من العلم الذي كان بأيديهم حين اشتقوا الرأي وأخذوا فيه
وذكر ابن جرير في كتاب تهذيب الآثار له عن مالك قال قبض رسول الله ص - وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن تتبع آثار رسول الله ص - ولا تتبع الرأي فإنه من اتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى منه في الرأي فاتبعه فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته
وقال نعيم بن حماد ثنا ابن المبارك عن عبد الله بن وهب أن رجلا جاء إلى القاسم بن محمد فسأله عن شيء فأجابه فلما ولى الرجل دعاه فقال له لا تقل إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ولكن إذا اضطررت إليه عملت به
وقال أبو عمر قال ابن وهب قال لي مالك بن أنس وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل يا أبا عبد الله ما علمته فقل به ودل عليه وما لم تعلم فاسكت وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء
وقال أبو عمر وذكر محمد بن حارث بن أسد الخشني أنبأنا أبو عبد الله محمد ابن عباس النحاس قال سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد الحداد يقول سمعت
سحنون بن سعيد يقول ما أدري ما هذا الرأي سفكت به الدماء واستحلت به الفروج واستحقت به الحقوق غير أنا رأينا رجلا صالحا فقلدناه
وقال سلمة بن شبيب سمعت أحمد يقول رأي الشافعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله عندي رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار
وقال أبو عمر بن عبد البر أنشدني عبد الرحمن بن يحيى أنشدنا أبو علي الحسن بن الخضر الأسيوطي بمكة أنشدنا عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه ... دين النبي محمد أثار ... نعم المطية للفتى الأخبار ... لا تخدعن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار ... ولربما جهل الفتى طرق الهدى ... والشمس طالعة لها أنوار ...
ولبعض أهل العلم ... العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه ... ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين النصوص وبين رأي سفيه ... كلا ولا نصب الخلاف جهالة ... بين الرسول وبين رأي فقيه ... كلا ولا رد النصوص تعمدا ... حذرا من التجسيم والتشبيه ... حاشا النصوص من الذي رميت به ... من فرقة التعطيل والتمويه ...
فصل في أنواع الرأي المحمود
النوع الأول رأي أفقه الأمة وأبر الأمة قلوبا وأعمقهم وأقلهم تكلفا وأصحهم قصودا وأكملهم فطرة وأتمهم إدراكا وأصفاهم أذهانا الذين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل فهموا مقاصد الرسول فنسبة آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسول ص - كنسبتهم إلى صحبته
والفرق بينهم وبين من بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل فنسبه رأى من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم
قال الشافعي رحمه الله في رسالته البغدادية التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني وهذا لفظه وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ص - في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم على لسان رسول الله ص - من الفضل ما ليس لأحد بعدهم فرحمهم الله وهنأهم بما أتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين أدوا إلينا سنن رسول الله ص - وشاهدوه والوحي ينزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله ص - عاما وخاصا وعزما وإرشادا وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم ليعلموا لرسول الله ص - فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرقوا وهكذا نقول ولم نخرج عن أقاويلهم وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله
ولما كان رأي الصحابة عند الشافعي بهذه المثابة قال في الجديد في كتاب الفرائض في ميراث الجد والإخوة وهذا مذهب تلقيناه عن زيد بن ثابت وعنه أخذنا أكثر الفرائض وقال والقياس عندي قتل الراهب لولا ما جاء عن أبي بكر رضي الله عنه فترك صريح القياس لقول الصديق وقال في رواية الربيع عنه والبدعة ما خالف كتابا أو سنة أو أثرا عن بعض أصحاب رسول الله ص - فجعل ما خالف قول الصحابي بدعة وسيأتي إن شاء الله تعالى إشباع الكلام في هذه المسألة وذكر نصوص الشافعي عند ذكر تحريم الفتوى بخلاف ما أفتى به الصحابة ووجوب اتباعهم في فتاويهم وأن لا يخرج من جملة أقوالهم وأن الأئمة متفقون على ذلك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق