والوسوسة تصير إرادة والارادة تقوي فتصير عزيمة ثم نصير فعلا ثم تصير صفة لازمة وهيئة ثابتة راسخة وحينئذ يتعذر الخروج منهما كما يتعذر عليه الخروج من صفاته القائمة به والمقصود انه كلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس وقد تضعف في القلب جدا لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره واذا وصل الى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له ويدعوه اليه ويحثه عليه ويسعي له فى تحصيله ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله والجنة عليه حرام وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه لغيره فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح فتدفع السوء والفواحش وعدم الغيرة تميت القلب فتموت الجوارح فلا يبقى عندها دفع البتة ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه فاذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلا ولم يجد دافعا فتمكن فكان الهلاك ومثلها مثل صياصي الجاموس التي تدفع بها عن نفسه وعن ولده فاذا تكسرت طمع فيها عدوه فصل
ومن عقوباتها ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب وهو أصل كل خير وذهاب كل خير بأجمعه وفى الصحيح عنه انه قال الحياء خير كله وقال ان مما أدرك الناس من كلام النبوة الاولى اذا لم تستح فاصنع ماشئت وفيه تفسيران أحداهما انه على التهديد والوعيد والمعنى من لم يستح فانه يصنع ما شاء من القبائح اذا لحامل على تركها الحياء فاذا لم يكن هناك حياء نزعه من القبائح فانه يواقعها وهذا تفسير أبي عبيدة والثاني ان الفعل اذا لم تستح فيه من الله فافعله وانما الذى ينبغي تركه ما يستحي فيه من الله وهذا تفسير الامام أحمد في رواية ابن هاني فعلى الاول يكون تهديدا كقوله إعملوا ما شئتم وعلى الثاني يكون إذنا وإباحة فان قيل فهل من سبيل الى حمله على المعنيين قلت لاولا على قول من يحمل المشترك على جميع لما بين الاباحة والتهديد من المنافات ولكن اعتبار أحد المعنيين يوجب إعتبار الآخر والمقصود ان الذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية حتى ربما انه لايتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم عليه بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبح ما يفعله والحامل على ذلك انسلاخه من الحياء وإذا وصل العبد الى هذه الحالة لم يبق في صلاحه مطمع واذا رأى ابليس طلعة وجهه
حياء وقال فديت من لايفلح والحياء مشتق من الحياة والغيث يسمى حيا بالقصر لان به حياة الارض والنبات والدواب وكذلك سميت بالحياة حياة الدنيا والآخرة فمن لا حياء فيه ميت في الدنيا شقى في الآخرة وبين الذنوب وبين قلة الحياء وعدم الغيرة تلازم من الطرفين وكل منهما يستدعي الآخر ويطلبه حثيثا ومن استحي من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه ومن لم يستح من الله تعالى من معصيته لم يستح الله من عقوبته
فصل ومن عقوباتها أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله وتضعيف
وقاره في قلب العبد ولابد شاء أم أبى ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرء على معاصيه وربما اغتر المغتر وقال إنما يحملنى على المعاصى حسن الرجاء وطمعي فى عفوه لا ضعف عظمته في قلبي وهذا من مغالطة النفس فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد وتعظيم حرمانه يحول بينه وبين الذنوب والمتجرؤن على معاصيه ما قدروه حق قدره وكيف يقدره حق قدره أو يعظمه أو يكبره أو يرجو وقاره ويجله من يهون عليه أمره ونهيه هذا من أمحل المحال وأبين الباطل وكفى بالعاصى عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله وتعظيم حرماته ويهون عليه حقه ومن بعض عقوبة هذا أن يرفع الله تعالى مهابته من قلوب الخلق ويهون عليهم ويستخفون به كما هان عليه أمره واستخف به فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس وعلى قدر خوفه من الله يخافه الناس وعلى قدر تعظيمه الله وحرماته يعظم الناس حرماته وكيف ينهك عبد حرمات الله ويطمع أن لا ينهك الناس حرماته أم كيف يهون عليه حق الله ولايهونه الله على الناس أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق وقد أشار سبحانه إلى هذا فى كتابه عند ذكر عقوبات الذنوب وأنه أركس أربابها بما كسبوا وغطي على قلوبهم وطبع عليها بذنوبهم وأنه نسيهم كما نسوه وأهانهم كما أهانوا دينه وضيعهم كما ضيعوا أمره ولهذا قال تعالى في آية سجود المخلوقات له ومن يهن الله فماله من مكرم فانهم لما هان عليهم السجود له واستخفوا به ولم يفعلوه أهانهم فلم يكن لهم من مكرم بعد إن أهانهم ومن ذا يكرم من أهانه الله أو يهن من أكرم فصل
ومن عقوباتها انها تستدعى نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه وهنالك الهلاك الذي لا يرجي معه نجاة قال الله يا أيها الذين آمنوا أتقوا الله ولتنظر نفس
ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولاتكونوا كالذين نسوا الله فانساهم أنفسهم اولئك هم الفاسقون فامر بتقواه ونهي أن يتشبه عباده المؤمنون بمن نسيه بترك تقواه واخبر أنه عاقب من ترك التقوي بان أنساه نفسه أي أنساه مصالحها وما ينجيها من عذابه وما يوجب له الحياة الابدية وكمال لذتها وسرورها ونعيمها فانساه الله ذلك كله جزاء لما نسيه من عظمته وخوفه والقيام بأمره فترى العاصى مهملا لمصالح نفسه مضيعا لها قد أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا قد انفرطت عليه مصالح دنياه وآخرته وقد فرط في سعادته الابدية واستبدل بها أدني ما يكون من لذة إنما هي سحابة صيف أو خيال طيف
أحلام نوم أو كظل زائل ... إن اللبيب بمثلها لا يخدع وأعظم العقوبات نسيان العبد لنفسه وإهمال لها وإضاعته حظها ونصيبها من الله وبيعها ذلك بالضن والهوان وأبخس الثمن فضيع من لا غني له عنه ولا عوض له منه واستبدل به من عنه كل الغني أو منه كل العوض
من كل شيء إذا ضيعته عوض ... وليس في الله أن ضيعت من عوض فالله سبحانه يعوض عن كل شيء ما سواه ولا يعوض منه شيء ويغني عن كل شيء ولايغني عنه شيء ويمنع من كل شىء ولا يمنع منه شىء ويجبير من كل شيء ولا يجير منه شى كيف يستغني العبد عن طاعة من هذا شأنه طرفة عين وكيف ينسى ذكره ويضيع أمره حتي ينسبه نفسه فيخسرها ويظلمها أعظم الظلم فما ظلم العبد ربه ولكن ظلم نفسه وما ظلمه ربه ولكن هو الذي ظلم نفسه فصل
ومن عقوباتها أنها تخرج العبد من دائرة الاحسان وتمنعه من ثواب المحسنين فان الاحسان إذا باشر القلب منعه عن المعاصي فان من عبد الله كانه يراه لم يكن كذلك الالاستيلاء ذكره ومحبته وخوفه ورجائه علي قلبه بحيث يصير كانه يشاهده وذلك سيحول بينه وبين إرادة المعاصى فضلا عن مواقتها فاذا خرج من دائرة الاحسان فاته صحبه رفقته الخاصة وعيشهم الهنيء ونعيمهم التام فان أراد الله به خيرا أقره فى دائرة عموم المؤمنين فان عصاه بالمعاصى التى تخرجه من دائرة الايمان كما قال النبي لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربه وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع اليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن إياكم إياكم والتوبة معروضة بعد
فصل ومن فاته رفقةالمؤمنين وخرج عن دائرة الايمان فاته حسن دفاع الله عن المؤمنين فان الله يدافع عن الذين آمنوا وفاته كل خير رتبه الله في كتابه على الايمان وهو نحو مائة خصلة كل خصلة منها خير من الدنيا وما فيها فمنها الاجر العظيم وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما ومنها الدفع عنهم شرور الدنيا والآخرة إن الله يدافع عن الذين آمنوا ومنها استغفار حملة العرش لهم الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين امنوا ومنها موالات الله لهم ولايذل من والاه الله قال الله تعالى الله ولى الذين آمنوا ومنها أمره ملائكته بتثبيتهم إذ يوحي ربك الى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا ومنها إن لهم الدرجات عند ربهم والمغفرة والرزق الكريم ومنها العزة ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ومنها معية الله لأهل الايمان وإن الله لمع المؤمنين ومنها الرفعه في الدنيا والآخرة يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ومنها أعطاهم كفلين من رحمته وأعطاهم نورا يمشون به ومغفرة ذنوبهم ومنها الود الذي يجعله سبحانه لهم وهو انه يحبهم يحبهم الى ملائكته وأنبيائه وعباده الصالحين ومنها أمانهم من الخوف يوم يشتد الخوف فمن آمن وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ومنها انهم المنعم عليهم الذين أمرنا ان نسأله ان يهدينا الى صراطهم في كل يوم وليلة سبع عشرة مرة ومنها ان القرآن انما هو هدى لهم وشفاء قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد والمقصود ان الايمان سبب جالب لكل خير وكل خير فى الدنيا والآخرة فسببه الايمان فكيف يهون على العبد ان يرتكب شيئا يخرجه من دائرة الايمان ويحول بينه وبينه ولكن لا يخرج من دائرة عموم المسلمين فان استمر علي الذنوب وأصر عليها خيف عليه ان يرين علي قلبه فيخرجه عن الاسلام بالكلية ومن هنا أشتد خوف السلف كما قال بعضهم أنتم تخافون الذنوب وأنا أخاف الكفر
فصل ومن عقوبتها أنها تضعف سير القلب الى الله والدار الآخرة أو تعوقه
وتوقفه وتعطفه عن السير فلا تدعه يخطوا الى الله خطوة هذا إن لم ترده عن وجهته الى ورائه فالذنب يحجب الواصل ويقطع السائر وينكس الطالب والقلب انما يسير الى الله بقوته فاذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيره فان زالت بالكلية إنقطع عن الله إنقطاعا يبعد تداركه
والله المستعان فالذنب أما يميت القلب أو يمرضه مرضا مخوفا أو يضعف قوته ولا بد حتى ينتهي ضعفه الى الاشياء الثمانية التي إستعاذ منها النبي وهي الهم والحزن والكسل والعجز والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجل وكل اثنين منها قرينان فالهم والحزن قرينان فان المكروه والوارد على القلب إن كان من أمر مستقبل يتوقعه احدث الهم وإن كان من أمر ماض قد وقع احدث الحزن والعجز والكسل قرينان فان تخلف العبد عن أسباب الخير والفلاح ان كان لعدم قدرته فهو العجز وإن كان لعدم إرادته فهو الكسل والجبن والبخل قرينان فان عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن وان كان بماله فهو البخل وضلع الدين وقهر الرجال قرينان فان إستيلاء الغير عليه إن كان بحق فهو من ضلع الدين وإن كان بباطل فهو من قهر الرجال والمقصود إن الذنوب من أقوى الاسباب الجالبة لهذه الثمانية كما إنها من أقوى الاسباب الجالبة لجهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الاعداء ومن أقوى الاسباب الجالبة لزوال نعم الله تعالي وتقدس وتحول عافيته وفجاءة نقمته وجميع سخطه
فصل ومن عقوبات الذنوب إنها تزيل النعم وتحل النقم فما زالت عن العبد
نعمة الا لسبب ذنب ولا حلت به نقمة إلا بذنب كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة وقد قال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير وقال تعالى ذلك بان الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها علي قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فأخبر الله تعالى إنه لايغير نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه فيغير طاعة الله بمعصيته وشكره بكفره وأسباب رضاه باسباب سخطه فاذا غير غير عليه جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد فأن غير المعصية بالطاعة غير الله عليه العقوبة بالعافية والذل بالعز قال تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له ومالهم من دونه من وال وفي بعض الآثار الألهية عن الرب تبارك وتعالى إنه قال وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب ثم ينتقل عنه إلى ما أكره إلا إنتقلت له مما يجب عبيدي الى ما يكره ولا يكون عبد من عبيدي على ما أكره فينتقل عنه الى ما أحب الا إنتقلت له مما يكره الى ما يحب وقد أحسن القائل
إذا كنت في نعمة فارعها ... فان الذنوب تزيل النعم
وخطها بطاعة رب العباد ... فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما إستطعت ... فظلم العباد شديد الوحم
وسافر بقلبك بين الورى ... لتبصرى آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم ... شهود عليهم ولاتتهم
وما كان شىء عليهم اضر ... من الظلم وهو الذي قد تصم
فكم تركوا من جنان ومن ... قصور وأخرى عليهم اطم
صلوا بالجحيم وفات النعم ... وكان الذي نالهم كالحلم فصل
ومن عقوباتها ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي فلا تراه الا خائفا مرعوبا فان الطاعة حصن الله الاعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب فمن أطاع الله إنقلبت المخاوف في حقه أمانا ومن عصاه إنقلبت مأمنه مخاوف فلا تجد العاصي إلا وقلبه كانه بين جناحي طائران حركت الريح الباب قال جاء الطلب وان سمع وقع قدم خاف أن يكون نذيرا بالعطب يحسب كل صيحة عليه وكل مكروه قاصد اليه فمن خاف الله آمنه من كل شيء ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء
بدا قضاء الله بين الخلق مذ خلقوا ... إن المخاوف والاجرام في قرن ومن عقوباتها انها توقع الوحشة العظيمة في القلب فيجد المذنب نفسه مستوحشا قد وقعت الوحشة بينه وبين ربه وبينه وبين الخلق وبينه وبين نفسه وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة وأمر العيش عيش المستوحشين الخائفين وأطيب العيش عيش المستأنسين فلو نظر العاقل ووازن بين لذة المعصية وما تولد فيه من الخوف والوحشة لعلم سوء حاله وعظيم غبنه اذ باع أنس الطاعة وأمنها وحلاوتها بوحشة المعصية وما توجبه من الخوف
اذا كنت قد أوحشتك الذنوب ... فدعها اذا شئت واستأنس وسر المسألة ان الطاعة توجب القرب من الرب سبحانه وكلما اشتد القرب قوى الانس والمعصية توجب البعد من الرب وكلما زاد البعد قويت الوحشة ولهذا يجد العبد وحشة بينه وبين عدوه للبعد الذي بينهما وإن كان ملابسا له قريبا منه ويجد أنسا قويا بينه وبين من يجب وإن كان بعيدا عنه والوحشة سببها الحجاب وكلما غلظ الحجاب زادت الوحشة فالغفلة توجب الوحشة واشد واشد منها وحشة المعصية واشد منها وحشة الشرك الكفر ولا تجد أحدا يلابس شيئا من ذلك إلا ويعلوه من الوحشة بحسب مالابسه منه فتعلوا الوحشة وجهه وقلبه فيستوحش ويستوحش منه
فصل
ومن عقوباتها انها تصرف القلب عن صحته واستقامته الى مرضه وانحرافه فلا يزال مريضا معلولا لا ينتفع بالاغذية التي بها حياته وصلاحه تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الامراض في الابدان بل الذنوب أمراض القلوب ودائها ولادواء لها الا تركها وقد أجمع السائرون الى الله أن القلوب لا تعطي مناها حتى تصل الى مولاها ولا تصل الى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها فتصير نفس دوائها ولا يصح لها ذلك الا بمخالفة هواها وهواها مرضها وشفاؤها مخالفته فان استحكم المرض قتل أو كاد وكما أن من نهى نفسه عن الهوى كانت الجنة مأواه كذلك يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لايشبه نعيم أهلها نعيم البتة بل التفاوت الذي بين النعيمين كالتفاوت الذى بين نعيم الدنيا والآخرة وهذا أمر لايصدق به الا من باشر قلبه هذا وهذا ولا تحسب ان قوله تعالى إن الابرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط بل في دورهم الثلاثة كذلك أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم وهل النعيم إلا نعيم القلب وهل العذاب إلا عذاب القلب وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن الله والدار الآخرة وتعلقه بغير الله وانقطاعه عن الله بكل واد منه شعبة وكل شيء تعلق به وأحبه من دون الله فانه يسومه سوء العذاب فكل من أحب شيئا غير الله عذب به ثلاث مرات في هذه الدار فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل فاذا حصل عذب به حال حصوله بالخوف من سلبه وفواته والمتغيص والتنكيد عليه وأنواع المعارضات فاذا سلبه اشتد عذابه عليه فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار وأما في البرزخ فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لايرجي عوده وألم فوات ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده وألم الحجاب عن الله وألم الحسرة التي تقطع الاكباد فالهم والغم والحسرة والحزن تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى بردها الله الى أجسادها فحينئذ ينتقل العذاب الى نوع هو أدهى وأمر فأين هذا من نعيم من يرفص قلبه طربا وفرحا وأنسا بربه واشتياقا اليه وارتياحا بحبه وطمأنينة بذكره حتى يقول بعضهم في حال نزعه واطرباء ويقول الآخر ان كان أهل الجنة في مثل هذا الحال انهم لفي عيش طيب ويقول الآخر مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها وما ذاقوا أطيب ما فيها ويقول الآخر لو علم الملوك أبناءالملوك ما نحن فيه لخالدونا
عليه بالسيوف ويقول الآخران في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة فيامن باع حظه الغالي بأبخس الثمن وغبن كل الغبن في هذا العقد وهو يرى انه قد غبن اذا لم يكن لك خبرة بقيمة السلعة فاسئل المقومين فياعجبا من بضاعة معك الله مشتريها وثمنها جنة المأوي والسفير الذي جرى على يده عقد التبايع وضمن الثمن عن المشتري هو الرسول وقد بعتها بغاية الهوان
اذا كان هذا فعل عبد نفسه ... فمن ذاله من بعده ذلك يكرم ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاء فصل
ومن عقوباتها انها تعمي بصر القلب وتطمس نوره وتسد طرق العلم وتحجب مواد الهداية وقد قال مالك للشافعي رحمهما الله تعالى لما اجتمع به ورأى تلك المخايل إني أرى الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمه المعصية ولايزال هذا النور يضعف ويضمحل وظلام المعصية يقوى حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم فكم من مهلك يسقط فيه وهو لا يبصر كأعمى خرج بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب فياعزة السلامة وياسرة العطب ثم تقوى تلك الظلمات وتفيض من القلب الى الجوارح فيغشى الوجه منها سواد بحسب قوتها وتزايدها فاذا كانت عند الموت ظهرت في البرزخ فامتلأ القبر ظلمة كما قال النبي ان هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة وإن الله ينورها بصلاتي عليهم فاذا كان يوم المعاد وحشر العباد وعلت الظلمة الوجوه علوا ظاهرا يراه كل أحد حتى يصير الوجه أسود مثل الجمعه فيالها من عقوبة لا توازن لذات الدنيا بأجمعها من أولها الى آخرها فكيف يقسط العبد المنغص المنكد المتعب في زمن انما هو ساعة من حلم والله المستعان فصل
ومن عقوباتها انها تصغر النفس وتقمعها وتدسيها وتحقرها حتى تصير أصغر كل شيء وأحقره كما ان الطاعة تنمها وتزكيها وتكبرها قال تعالى قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها والمعنى قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية الله وأصل التدسية الاخفاء منه قوله تعالى يدسه في التراب فالعاصي يدس نفسه في المعصية ويخفي مكانها ويتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به قد انقمع عند نفسه وانقمع عند الله وانقمع عند الخلق فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها وتعليها حتى تصير أشرف شيء وأكبره وأزكاء وأعلاه ومع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله تعالى
وبهذا الذل حصل لها هذا العز والشرف والنمو فما صغر النفس مثل معصية الله وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله فصل
ومن عقوباتها أن العاصي دائما في أسر شيطانه وسجن شهواته وقيود هواه فهو أسير مسجون مقيد ولا أسير أسوء حال من أسير من أسير أسره أعدى عدوله ولا سجن أضيق من سجن الهوى ولا قيد أصعب من قيد الشهوة فكيف يسير الى الله والدار الآخرة قلب ماسور مسجون مقيد وكيف يخطو خطوة واحدة وإذا تقيد القلب طرقته الآفات من كل جانب بحسب قيوده ومثل القلب الطائر كلما علا بعد عن الآفات وكلما نزل استوحشه الآفات وفي الحديث الشيطان ذئب الانسان وكما أن الشاة التي لا حافظ لها وهي بين الذئاب سريعة العطب فكذا العبد إذا لم يكن عليه حافظ من الله فذئبه مفترسه ولا بد وإنما يكون عليه حافظ من الله بالتقوى فهي وقاية وجنة حصينة بينه وبين ذئبه كما هي وقاية بينه وبين عقوبات الدنيا والآخرة وكلما كانت الشاة أقرب من الراعى كانت أسلم من الذئب وكلما بعدت عن الراعي كانت أقرب الى الهلاك فاحمي ما تكون الشاة إذا قربت من الراعى وإنما يأخذ الذئب القاصي من الغنم وهي أبعدهن من الراعي وأصل هذا كله إن القلب كلما كان أبعد من الله كانت الآفات اليه أسرع وكلما كان أقرب من الله بعدت عنه الآفات والبعد من الله مراتب بعضها أشد من بعض فالغفلة تبعد العبد عن الله وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله
فصل ومن عقوباتها سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه فان
أكرم الخلق عند الله أتقاهم وأقربهم منه منزلة أطوعهم له وعلى قدر طاعة العبد تكون له منزلة عنده فاذا عصاه وخالف امره سقط من عينه فاسقطه من قلوب عباده وإذا لم يبق له جاه عند الخلق وهان عليهم عاملوه علي حسب ذلك فعاش بينهم أسوء عيش خال الذكر ساقط القدر زرى الحال لاحرمة له فلا فرح له ولاسرور فان خمول الذكر وسقوط القدر والجاه معه كل غم وهم وحزن ولاسرور معه ولافرح وأين هذا الالم من لذة المعصية لولا سكر الشهوة ومن أعظم نعم الله علي العبد أن يرفع له بين العالمين ذكره ويعلى قدره ولهذا خص أنبياءه ورسله من ذلك بما ليس لغيرهم كما قال تعالى وأذكر عبادنا ابراهيم وأسحاق ويعقوب أولى الايدي والابصار أنا أخلصنا هم بخالصة ذكر الدار أي خصصناهم
بخصيصة وهو الذكر الجميل الذي يذكرون به في هذه الدار وهو لسان الصدق الذي سأله ابراهيم الخليل E حيث قال واجعل لي لسان صدق في الآخرين وقال سبحانه وتعالى عنه وعن نبيه ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا وقال لنبيه ورفعنا لك ذكرك فاتباع الرسل لهم نصيب من ذلك بحسب ميراثهم من طاعتهم ومتابعتهم وكل من خالفهم فانه من ذلك بحسب مخالفتهم ومعصيتهم
فصل ومن عقوباتها انها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف وتكسوه أسماء
الذم والصغار فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمنقي والمطيع والمنيب والولى والورع والمصلح والعابد والخائف والاواب والطيب والرضى ونحوها وتكسوه اسم الفاجر والعاصى والمخالف والمسىء والمفسد والخبيث والمسخوط والزاني والسارق والقاتل والكاذب والخائن واللوطي والغادر وقاطع الرحم وأمثالها فهذه أسماء الفسوق وبئس الاسم الفسوق بعد الايمان التي توجب غضب الديان ودخول النيران وعيش الخزى والهوان وتلك أسماء توجب رضاء الرحمان ودخول الجنان وتوجب شرف المسمي بها على سائر أنواع الانسان فلو لم يكن في عقوبة المعصية الا إستحقاق تلك الاسماء وموجباتها لكان في العقل ناه عنها ولو لم يكن في ثواب الطاعة الا الفوز بتلك الاسماء وموجباتها لكان في العقل أمر بها ولكن لا مانع لما أعطي الله ولا معطى لما منع ولا مقرب لمن باعد ولا مبعد لمن قرب ومن يهن الله فماله من مكرم وإن الله يفعل ما يشاء فصل
ومن عقوباتها إنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل فلا تجد عاقلين أحدهما مطيع لله والآخر عاص الا وعقل المطيع منهما أو فر وأكمل وفكره أصح ورأيه أمد والصواب قرينه ولهذا تجد خطاب القرآن إنما هو مع أولي الألباب والعقول كقوله فاتقون يا أولي الألباب وقوله فاتقوا الله ياأولي الألباب وقوله وما يذكر الا أولوا الالباب ونظائر ذلك كثيرة وكيف يكون عاقلا وافر العقل من يعصي من هو في قبضته وفي داره وهو يعلم إنه يراه ويشاهده فيعصيه وهو بعينه غير متوار عنه ويستعين بنعمه علي مساخطه ويستدعي كل وقت غضبه عليه ولعنته له وإبعاده من قربه وطرده عن بابه وإعراضه عنه وخذلانه له والتخليه بينه وبين نفسه وعدوه وسقوطه من عينه وحرمانه وروح رضاه وحيه وقرة العين بقربه والفوز بجواره والنظر الى وجهه في زمرة أوليائه الى أضعاف أضعاف ذلك
من كرامة أهل الطاعة وأضعاف أضعاف ذلك من عقوبة أهل المعصية فاي عقل لمن آثر لذة ساعة أو يوم أو دهر ثم تنقضي كانها حلم لم يكن على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم بل هو سعادة الدنيا والآخرة ولولا العقل الذي تقوم عليه به الحجة لكان بمنزلة المجانين بل قد يكون المجانين أحسن حالا منه وأسلم عاقبة فهذا من هذا الوجه وأما ما تأثيرها في نقصان العقل العيشي فلولا الاشتراك في هذا النقصان لظهر لمطيعنا نقصان عقل عاصينا ولكن الجائحة عامة والجنون فنون وياعجبا لو صحت العقول لعلمت أن الطريق الذى يحصل به اللذة والفرحة والسرور وطيب العيش إنما هو في رضاء من النعم كله في رضاه والالم والعذاب كله في سخطه وغضبه ففي رضاه قرة العيون وسرور النفوس وحياة القلوب ولذة الأرواح وطيب الحياة ولذة العيش وأطيب النعيم مما لو وزن منه مثقال ذرة بنعيم الدنيا لم تف به بل إذا حصل للقلب من ذلك أيسر نصيب لم يرض بالدنيا وما فيها عوضا منه ومع هذا فهو يتنعم بنصيبه من الدنيا أعظم من تنعم المترفين فيها ولايشوب تنعمه بذلك الحظ اليسير ما يشوب تنعم المترفين من الهموم والغموم والاحزان والمعارضات بل قد حصل له على النعيمين وهو ينتظر نعيمين آخرين أعظم منهما وما يحصل له فى خلال ذلك من الآلام فالامر كما قال سبحانه إن تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون فلا إله إلا الله ما أنقص عقل من باع الدر بالبعر والمسك بالرجيع ومرافقة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بمرافقة الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدلهم جهنم وساءت مصيرا فصل
ومن أعظم عقوباتها أنها توجب القطيعة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير واتصلت به أسباب الشرفاي فلاح وأي رجاء وأي عيش لمن انقطعت عنه أسباب الخير وقطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غني له عنه طرفة عين ولا بدل له منه ولا عوض له عنه واتصلت به أسباب الشر ووصل ما بينه وبين أعداء عدوله فتولاه عدوه وتخلي عنه وليه فلا تعلم نفس ما فى هذا الانقطاع والاتصال من أنواع الآلام وأنواع العذاب قال بعض السلف رأيت العبد ملقى بين الله سبحانه وبين الشيطان فان أعرض الله عنه تولاه الشيطان وإن تولاه الله لم يقدر عليه الشيطان وقد قال تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا الآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا يقول سبحانه لعباده أنا أكرمت آباكم ورفعت قدره وفضلته على غيره فامرت ملائكتي كلهم أن يسجدوا له تكريما وتشريفا
فاطاعوني وابي عدوي وعدوه فعصى أمري وخرج عن طاعتي فكيف يحسن بكم بعد هذا أن تتخذونه وذريته أولياء من دوني فتطيعونه في معصيتى وتوالونه في خلاف مرضاتى وهم أعدا عدولكم فواليتم عدوي وقد أمرتكم بمعاداته ومن والى أعداء الملك كان هو وأعداؤه عنده سواء فان المحبة والطاعة لاتتم إلا بمعادات أعداء المطاع وموالات أوليائه وأما ان توالى أعداء الملك ثم تدعي انك موال له فهذا محال هذا لو لم يكن عدو الملك عدوا لكم فكيف إذا كان عدوكم على الحقيقة والعدواة التي بينكم وبينه أعظم من العداوة التى بين الشاة وبين الذئب فكيف يليق بالعاقل أن يوالى عدوه وعدو وليه ومولاه الذي لا مولى له سواه ونبه سبحانه على قبح هذه الموالات بقوله وهم لكم عدو وكما نبه على قبحها بقوله تعالى ففسق عن أمر ربه فتبين أن عداوته لربه وعداوته لنا كل منهما سبب يدعو الى معاداته فما هذه الموالات وما هذا الاستبدال بئس للظالمين بدلا ويشبه أن يكون تحت هذا الخطاب نوع من العقاب نظيفا عجيبا وهو اني عاديت إبليس إذ لم يسجد لابيكم آدم مع ملائكتى فكانت معاداته لاجلكم ثم كان عاقبة هذه المعادات أن عقدتم بينكم وبينه عقدا المصالحة فصل
ومن عقوباتها انها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة وبالجملة أنها تمحق بركة الدين والدنيا فلاتجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصي الله وما محت البركة من الارض إلا بمعاصى الخلق قال الله تعالي ولو أن اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض وقال تعالى وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه وأن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وفي الحديث أن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب فإنه لا ينال ما عند الله الا بطاعته وإن الله جعل الروح والفرح في الرضاء واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط وقد تقدم الاثر الذي ذكره أحمد في كتاب الزهد أنا الله إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى وإذا غضبت لعنت ولعنتي تدرك السابع من الولد وليست سعة الرزق والعمل بكثرته ولا طول العمر بكثرة الشهور والاعوام ولكن سعة الرزق والعمر بالبركة فيه وقد تقدم أن عمر العبد هو مدة حياته ولاحياة لمن أعرض عن الله واشتغل بغيره بل فحياة البهائم خير من حياته فإن حياة الانسان بحياة قلبه وروحه ولاحياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره ومحبته وعبادته وحده أو الانابة اليه والطمانينة بذكره والانس بقربه ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كله ولو تعوض عنها بما تعوض به الدنيا بل ليست
الدنيا بأجمعها عوضا عن هذه الحياة فمن كل شيء يفوت العبد عوض وإذا فاته الله لم يعوض عنه شيء البتة وكيف يعوض الفقير بالذات عن الغنى بالذات والعاجز بالذات عن القادر بالذات والميت عن الحي الذي لا يموت والمخلوق عن الخالق ومن لا وجود له فلا شيء له من ذاته البتة عمن غناء وحياته وكماله ووجوده ورحمته من لوازم ذاته وكيف يعوض من لا يملك مثقال ذرة عمن له ملك السموات والارض وإنما كانت معصية الله سببا لمحق بركة الرزق والاجل لان الشيطان موكل بها وبأصحابها فسلطانه عليهم وحوالته على هذا الديون وأهله وأصحابه وكل شيء يتصل به الشيطان ويقارنه فبركته ممحوقة ولهذا شرع ذكر إسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللبس والركوب والجماع لما في مقارنة إسم الله من البركة وذكر إسمه يطرد الشيطان فتحصل البركة ولا معارض لها وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة فان الرب هو الذي يبارك وحده والبركة كلها منه وكلما نسب اليه مبارك فكلامه مبارك ورسوله مبارك وعبده المؤمن النافع لخلقه مبارك وبيته الحرام مبارك وكنانته من أرضه وهى الشام أرض البركة وصفها بالبركة في ست آيات من كتابه فلا مبارك الا هو وحده ولا مبارك الا ما نسب اليه أعنى إلى محبته وألوهيته ورضاه وإلا فالكون كله منسوب إلى ربوبيته وخلقه وكلما باعده من نفسه من الاعيان والاقوال والاعمال فلا بركة فيه ولا خير فيه وكلما كان منه قريبا من ذلك ففيه من البركة علي قدر قربه منه وضد البركة اللعنة فأرض لعنها الله أو شخص لعنه الله أو عمل لعنه الله أبعد شيء من الخير والبركة وكلما اتصل بذلك وارتبط به وكان منه بسبيل فلا بركة فيه البتة وقد لعن عدوه إبليس وجعله أبعد خلقه منه فكل ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه وإتصاله فمن ههنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق بركة العمر والرزق والعلم والعمل فكل وقت عصيت الله فيه أو مال عصى الله به أو بدن أو جاه أو علم أو عمل فهو على صاحبه ليس له فليس له من عمره وماله وقوته وجاهه وعلمه وعمله الا ما أطاع الله به ولهذا من الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أو نحوها ويكون عمره لايبلغ عشرين سنة أو نحوها كما أن منهم من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ويكون ماله في الحقيقة لا يبلغ ألف درهم أو نحوها وهكذا الجاه والعلم وفي الترمذي عنه الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه أو عالم أو متعلم وفي آثر آخر ملعونة ما فيها الا ما كان لله هذا هو الذي فيه البركة خاصة والله المستعان
فصل
ومن عقوباتها أنها تجعل صاحبها من السفلة بعد ان كان مهيئا لان يكون من العلية فان الله خلق خلقه قسمين علية وسفلة وجعل عليين مستقر العلية وأسفل سافلين مستقر السفلة وجعل أهل طاعته الاعليين في الدنيا والاخرة وأهل معصيته الاسفلين في الدنيا والآخرة كما جعل أهل طاعته أكرم خلقه عليه وأهل معصيته أهون خلفه عليه وجعل العزة لهؤلاء والذلة والصغار لهؤلاء كما في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر عن النبي أنه قال جعلت الذلة والصغار على من خالف أمرى وكلما عمل العبد معصية نزل الى أسفل درجة ولا يزال في نزول حتي يكون من الاسفلين وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الاعليين وقد يجمتع للعبد في أيام حياته الصعود من وجه والنزول من وجه وأيهما كان أغلب عليه كان من أهله فليس من صعد مائة درجة ونزل درجة واحدة كمن كان بالعكس ولكن يعرض ههنا للنفوس غلط عظيم وهو أن العبد قد ينزل نزولا بعيدا أبعد مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والارض ولا يفيء بصعوده ألف درجة بهذا النزول الواحد كما فى الصحيح عن النبي أنه قال إن العبد ليتكلم بالكلمة الواحدة ولا يلقى لها بالا يهوى بها فى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب فأي صعود يوازن هذه النزلة والنزول أمر لازم للانسان ولكن من الناس من يكون نزوله الى غفلة فهذا متى استيقظ من عفلته عاد الى درجته أو الى أرفع منها بحسب يقظته ومنهم من يكون نزوله الى مباح لاينوى به الاستعانة على الطاعة فهذا اذا رجع الى الطاعة قد يعود الي درجته وقد لا يصل اليها وقد يرتفع عنها فانه قد يعود أعلي همة مما كان وقد يكون اضعف همة وقد تعود همته كما كانت ومنهم من يكون نزوله الي معصية إما صغيرة أو كبيرة فهذا يحتاج فى عوده الي درجته الي توبة نصوح وانابه صادقة واختلف الناس هل يعود بعد التوبة الى درجته التي كان فيها بناء على أن التوبة تمحو أثر الذنب وتجعل وجوده كعدمه فكانه لم يكن أولا يعود بناء على أن التوبة تأثيرها فى إسقاط العقوبة وأما الدرجة التي فاتته فانه لايصل اليها قالوا وتقرير ذلك انه كان مستعدا باشتغاله بالطاعة في الزمن الذى عصى فيه لصعود آخر وارتفاعه بجملة أعماله السابقة بمنزلة كسب الرجل كل يوم بجملة ماله الذي يملكه وكلما تضاعف المال تضاعف الربح فقد راح عليه في زمن المعصية ارتفاع وربح بجملة أعماله فاذا استأنف العمل استأنف صعودا من نزول وكان قبل ذلك صاعدا من أسفل الى اعلى وبينهما بون عظيم قالوا ومثل ذلك
رجلان مرتقيان في سليمن لا نهاية لهما وهما سواء فنزل أحدهما الى أسفل ولو درجة واحدة ثم استأنف الصعود فإن الذي لم ينزل يعلو عليه ولا بد وحكم شيخ ابن تيمية بين الطائفتين حكما مقبولا فقال التحقيق ان من التائبين من يعود الى أرفع من درجته ومنهم من يعود الى من مثل درجته ومنهم من لا يصل الى درجته ومنهم من يعود الى درجته قلت وهذا بحسب قدر التوبة وكما لها وما أحدثت المعصية للعبد من الذل والخضوع والانابة والحذر والخوف من الله والبكاء من خشية الله وقد تقوى على هذه الامور حتى يعود التائب الى زرفع من درجته ويصير بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة فهذا قد تكون الخطيئة في حقه رحمة فانها نفت عنه داء العجب وخلصته من ثقته بنفسه وأعماله ووضعت خد ضراعته وذله وإنكساره على عتبة باب سيده ومولاه وعرفته قدره واشهدته فقره وضرورته الى حفظ سيده له ومولاه وعرفته قدره واشتهدته فقره وضرورته الى حفظ سيده له ومولاه والى عفوه عنه ومغفرته له وأخرجت من قلبه صولة الطاعة وكسرت أنفه من أن يشمخ بها أو يتكبر بها أو يرى نفسه بها خيرا من غيره وأوقفته بين يدي ربه موقف الخطائين المذنبين ناكس الرأس بين يدي ربه مستحيا خائفا منه وجلا محتقرا لطاعته مستعظما لمعصيته عرف نفسه بالنقص والذم وربه متفرد بالكمال والحمد والوفي كما قيل
استأثر الله بالوفى وبالحم ... د وولي الملامة الرجلا فصل
فاي نعمة وصلت من الله اليه استكثرها على نفسه ورأى نفسه دونها ولم يرها أهلا لها وأي نقمة أو بلية وصلت اليه رأي نفسه أهلا لما هو أكبر منها ورأى مولاه قد أحسن اليه إذ لم يعاقبه على قدر جرمه ولاشطره ولا أدني جزء منه فان ما يستحقه من العقوبة لاتحمله الجبال الراسيات فضلا عن هذا العبد الضعيف العاجز فان الذنب وان صغر فان مقابله العظيم الذى لاشيء أعظم منه الكبير الذي لاشيء أكبر منه الجليل الذى لا أجل منه ولا أجمل المنعم بجميع أنواع النعم دقيقها وجليلها من أقبح الامور وافظعها واشنعها فان مقابلة العظماء والاجلاء وسادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كل أحد مؤمن وكافر وأرذل الناس واسقطهم مرؤة من قابلهم بالرذائل فكيف بعظيم السموات والارض وملك السموات والارض وإله أهل السموات والأرض ولولا أن رحمته سبقت غضبه ومغفرته سبقب عقوبته والا لتزلزلت الارض بمن قابله بمالا تليق مقابلته به ولولا حلمه ومغفرته لزالت السموات والارض من معاصي العباد قال تعالى ان الله يمسك السموات والارض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا فتأمل ختم ! هذه الآية
بأسمين من أسمائه وهما الحليم والغفور كيف تجد تحت ذلك انه لولا حلمه عن الجناة ومغفرته للعصاة لما استقرت السموات والارض وقد أخبر سبحانه عن كفر بعض عباده أنه تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هذا وقد أخرج الله سبحانه الأبوين من الجنة بذنب واحد ارتكباه وخالفا فيه نهيه ولعن إبليس وطرده وأخرجه من ملكوت السموات بذنب واحد ارتكبه وخالف فيه أمره ونحن معاشرا الحمقاء كما قيل
نصل الذنوب الى الذنوب ونرتجى ... درج الجنان لذي النعيم الخالد
ولقد علمنا أخرج الابوين من ... ملكوتها الأعلى بذنب واحد
والمقصود أن العبد قد يكون بعد التوبة خيرا مما كان قبل الخطيئة وأرفع درجة وقد تضعف الخطيئة همته وتوهن عزمه وتمرض قلبه فلا يقوى ذو التوبة على إعادته الى الصحة الاولى فلا يعود الى درجته وقد يزول المرض بحيث تعود الصحة كما كانت ويعود الى مثل عمله فيعود الى درجته هذا كله إذا كان نزوله الى معصيته فان كان نزوله الى أمر يقدح في أصل إيمانه مثل الشكوك والريب والنفاق فذاك نزول لا يرجى لصاحبه صعود الا بتجديد إسلامه من رأسه فصل
ومن عقوباتها أنها تجتريء على العبد ما لم يكن يجتريء عليه من أصناف المخلوقات فتجتري عليه الشياطين بالاذي والأغواء والوسوسة والتخويف والتعزيز وإنسانه ما مصلحته في ذكره ومضربه في نسيانه فتجترىء عليه الشياطين حتي تؤزه الى معصية الله أزا وتجترىء عليه شياطين الانس بما تقدر عليه من الأذى في غيبته وحضوره وتجترىء أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتي الحيوان البهيم قال بعض السلف اني لاعصي الله فاعرف ذلك في خلق امري ودابتي وكذلك تجترى عليه نفسه فتأسد عليه وتصعب عليه فلو أرادها لخير لم تطاوعه ولم تنقد له وتسوقه الى ما فيه هلاكه شاء أم أبي وذلك لان الطاعة حصن الرب تبارك وتعالى الذى من دخله كان من الآمنين فاذا فارق الحصن اجترىء عليه قطاع الطريق وغيرهم وعلى حسب اجترائه على معاصى الله يكون اجتراء هذه الآفات والنفوس عليه وليس شيء يرد عنه فان ذكر الله وطاعته والصدقة وإرشاد الجاهل والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وقاية ترد عن العبد بمنزلة القوة التي ترد المرض وتقاومه فاذا سقطت القوة غلب وارد المرض وكان الهلاك ولا بد للعبد من شيء يرد عنه فان موجب السيئات والحسنات يتدافع ويكون الحكم للغالب كما تقدم وكلما قوى جانب الحسنات كان الرد أقوي كما تقدم
فان الله يدافع عن الذين آمنوا والايمان قول وعمل فيحسب قوة الايمان تكون قوة الدفع والله المستعان فصل
ومن عقوباتها أنها تخون العبد أحوج ما يكون الى نفسه فأن كل أحد محتاج الى معرفة ما ينفعه وما يضره في معاشه ومعاده وأعلم الناس أعرفهم بذلك على التفصيل وأقواهم وأكيسهم من قوى على نفسه وإرادته فاستعملها فيما ينفعه وكفها عما يضره وفي ذلك تفاوت معارف الناس وهممهم ومنازلهم فاعرفهم من كان عارفا باسباب السعادة والشقاوة وأرشدهم من آثر هذه على هذه كما ان أسفههم من عكس الامر والمعاصي تخون العبد أحوج ما كان الى نفسه في تحصيل هذا العلم وإيثار الحظ الاشرف العالي الدائم على الحظ الخسيس الادني المنقطع فتحجبه الذنوب عن كمال هذا العلم ومن الاشتغال بما هو أولى به وأنفع له في الدارين فاذا وقع مكروه واحتاج الى التخلص منه خانه قلبه ونفسه وجوارحه وكان بمنزلة رجل معه سيف قد غشيه الحرب ولزم قرابه بحيث لا ينجذب مع صاحبه اذا جذبه فعرض له عدو يريد قتله فوضع يده على قائم سيفه واجتهد ليخرجه فلم يخرج معه فدهمه العدو وظفر به كذلك القلب يصدىء بالذنوب ويصير مثخنا بالمرض فاذا احتاج الى محاربة العدو لم يجد معه منه شيئا والعبد انما يحارب ويصاول ويقدم بقلبه والجوارح تبع للقلب فاذا لم يكن عند ملكها قوة يدفع به فما الظن بها عند عدم ملكها وكذلك النفس فانها تخبث بالشهوات والمعاصي وتضعف أعني النفس المطمئنة وإن كانت الامارة تقوى وتتأسد وكلما قويت هذه ضعفت هذه فبقى الحكم والتصرف للامارة وربما ماتت نفسه المطمئنة موتا لايرجي معه حياة فهذا ميت في الدنيا ميت في البرزخ غير حي في الآخرة حياة ينتفع بها بل حياته حياة يدرك بها الالم فقط والمقصود أن العبد إذا وقع في شدة أو كربة أوبلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله تعالى والانابة اليه والجمعية عليه والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه ولا يطاوعه لسانه لذكره وان ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه فلا ينحبس القلب على اللسان بحيث يؤثر فيه الذكر ولا ينحبس اللسان والقلب علي المذكور بل إن ذكر أو دعا ذكر بقلب غافل لاه ساه ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه وهذا كله أثر الذنوب والمعاصي كمن له جند يدفع عنه الاعداء فاهمل جنده وضيعهم وأضعفهم وقطع أخبارهم ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة هذا وثم أمر أخوف من
ذلك وأدهي وأمر وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال الى الله تعالى فربما تعذر عليه النطق بالشهادة كما شاهد الناس كثيرا من المحتضرين أصابهم ذلك حتى قيل لبعضهم قل لا إله إلا الله فقال آه آه لا أستطيع أن أقولها وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فقال شاه رخ غلبنك ثم قضى وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فقال
يارب قائلة يوما وقد تعبت ... أين الطريق الى حمام منجاب
ثم قضى وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء ويقول تاتا ننتنتا فقال وما ينفعني ما تقول ولم أدع معصية الا ركبتها ثم قضى ولم يقلها وقيل لآخر ذلك فقال وما يغني عني وما أعلم اني صليت لله تعالى صلاة ثم قضى ولم يقلها وقيل لآخر ذلك فقال هو كافر بما تقول وقضي وقيل لآخر ذلك فقال كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها وأخبرني من حضر بعض الشحاذين عند موته فجعل يقول لله فليس لله فليس حق قضي وأخبرني بعض التجار عن قرابة له انه احتضر وهو عنده فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله وهو يقول هذه القطعة رخيصة هذا مشتري جيد هذه كذا حتى قضي وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرا والذي يخفي عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من المعاصي وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى وعطل لسانه من ذكره وجوارحه عن طاعته فكيف الظن به عند سقوطه قواه واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع وجمع الشيطان له كل قوته وهمته وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرضته فان ذلك آخر العمل فاقوي ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة فمن تري يسلم علي ذلك فهناك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا فبعيد من قلب بعيد من الله تعالى غافل عنه متعبد لهواه مصير لشهواته ولسانه يابس من ذكره وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصية الله أن يوفق لحسن الخاتمة ولقد قطع خوف الخاتمة ظهور المتقين وكأن المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعا بالايمان أم لكم أيمان علينا بالغة الي يوم القيامة ان لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم
يا آمنا من قبيح الفعل يصنعه ... هل أتاك تواقيع أم أنت تملكه
جمعت شيئين أمثا واتباع هوى ... هذا وإحداهما في المرء تهلكه
والمحسنون على درب المخاوف قد ... ساروا وذلك درب لست تسلكه
فرطت في الزرع وقت البذر من سفه ... فكيف عند حصاد الناس تدركه
هذا وأعجب شىء منك زهدك في ... دار البقاء بعيش سوف تتركه
من السفيه اذا بالله أنت أم السمغبون ... في البيع غبنا سوف تدركه فصل
ومن عقوباتها أنها تعمي القلب فان تعمه أضعفت بصيرته ولا بد وقد تقدم بيان أنها تضعفه ولابد فاذا عمي القلب وضعف فانه من معرفة الهدى وقوته على تنفيذه في نفسه وفي غيره بحيث تضعف بصيرته وقوته فان كمال الانسان مداره في أصلين معرفة الحق من الباطل وإيثاره عليه وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة الا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين وهما اللذان أثني الله بهما سبحانه على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام في قوله تعالى واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار فالأيدي القوة في تنفيذ الحق والأبصار البصائر في الدين فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق وأكرمهم على الله تعالى القسم الثاني عكس هؤلاء من لا بصيرة له في الدين ولا قوة على تنفيذ الحق وهم أكثر هذا الخلق الذين رؤيتهم قذي للعيون وحمي الأرواح وسقم القلوب يضيقون الديار ويغلون الأسعار ويستفارد من صحبتهم الا العار والشنار القسم الثالث من له بصيرة في الهدى ومعرفة به لكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه ولا الدعوة اليه وهذا حال المؤمن الضعيف والمؤمن القوي خير واحب الى الله منه القسم الرابع من له قوة وهمة وعزيمة لكنه ضعيف البصيرة في الدين لا يكاد يميز بين أولياء الرحمن من أولياء الرحمن الشيطان بل يحسب كل سوداء تمرة وكل بيضاء شحمة يحسب الورم شحما والدواء النافع سما وليس في هؤلاء من يصلح للامامة فى الدين ولا هو موضعا لها سوي القسم الأول قال الله تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فاخبر سبحانه ان بالصبر واليقين نالوا الامامة فى الدين وهؤلاء هم الذين استثناهم الله سبحانه من جملة الخاسرين وأقسم بالعصر الذي هو زمن سعى الخاسرين والرائحين على ان عداهم فهو من الخاسرين فقال تعالى والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر فلم يكتف منهم بمعرفة الحق والصبر عليه حتي يوصى بعضهم بعضا ويرشده اليه ويحثه عليه فاذا كان من عدا هؤلاء فهو من الخاسرين فمعلوم ان المعاصي والذنوب تعمي بصيرة القلب فلا يدرك الحق كما ينبغي وتضعف قوته وعزيمته فلا يصبر عليه بل قد تتوارد على القلب حتي ينعكس
إدراكه كما ينعكس سيره فيدرك الباطل حقا والحق باطلا والمعروف منكرا والمنكر معروفا فينتكس في سيره ويرجع عن سفره الى الله والدار الآخرة الى سفره الى مستقر النفوس المبطلة التي رضيت بالحياة الدنيا واطمأنت بها وغفلت عن الله وآياته وتركت الاستعداد للقائه ولو لم يكن في عقوبة الذنوب الا هذه وحدها لكانت كافية داعية الى تركها والبعد منها والله المستعان وهذا كما ان الطاعة تنور القلب وتجلوه وتصقله وتقويه وتثبته حتى يصير كالمرآة المجلوة في جلائها وصفائها فيتمليء نورا فاذا دني الشيطان منه أصابه من نور ما يصيب مسترق السمع من الشهب الثواقب فالشيطان يفرق من هذا القلب أشد من فرق الذئب من الاسد حتى ان صاحبه ليصرع الشيطان فيخر صريعا فيجتمع عليه الشياطين فيقول بعضهم لبعض ما شأنه فيقال أصابه أنسي وبه نظرة من الأنس
فيا نظرة من قلب حر منور ... يكاد لها الشيطان بالنور يحرق أفيستوي هذا القلب وقلب مظلم أرجاؤه مختلفة أهواؤه قد أتخذه الشيطان وطنه وأعده مسكنه اذا تصبح بطلعته حياه وقال فديت من لا يفلح في دنياه ولا في اخراه
انا قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها ... فانت قرين لى بكل مكان
فان كنت في دار الشقاء فانني ... وأنت جميعا في شقا وهوان قال الله تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وأنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذا ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون فاخبر سبحانه ان من عشي عن ذكره وهو كتابه الذي أنزل علي رسول وبارك فيه فاعرض عنه وعمى عنه وغشت بصيرته عن فمه وتدبره ومعرفة مراد الله منه قيض الله له شيطانا عقوبة له في إعراضه عن كتابه فهو قرينه الذي لا يفارقه لا في الاقامة ولا في المسير ومولاه وعشيره الذي هو بئس المولى وبئس العشير
رضيعي لبان ثدي أن تقلما ... بأسحم واج عوض لا يتفرق ثم أخبر سبحانه ان الشيطان ليصد قرينه ووليه عن سبيله الموصل اليه والى جنته ويحسب هذا الضال المضل الصدود أنه على طريق هدي حتي اذا جاء القرينان يوم القيامة يقول أحدهما للآخر ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين كنت لى في الدنيا أضللتني عن الهدى يعد إذ جاءني وصددتنى عن الحق واغوايتني حتى هلكت وبئس القرين أنت لى اليوم ولما كان المصاب إذا شاركه غيره في مصيبة حصل بالتأسي نوع تخفيف وتسلية أخبر الله سبحانه أن هذا غير موجود وغير حاصل في حق المشتركين في العذاب وأن
القرين لا يجد راحة ولا أدنى فرح بعذاب قرينه معه وإن كانت المصائب في الدنيا إذا عمت صارت مسلاة كما قالت الخنساء فى أخيها صخر
ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى
وما يبكون مثل أخى ولكن ... أغري النفس عنه بانأسي
الا يا صخر لا أنساك حتى ... أفارق عيشتي وورود رمسي
فمنع الله سبحانه هذا القدر من الراحة على أهل النار فقال ولن ينفعكم اليوم اذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون فصل
ومن عقوباتها إنها مدد من الانسان يمد به عدوه عليه وحبش يقويه به على حربه وذلك أن الله سبحانه ابتلى هذا الانسان بعدو لا يفارقه طرفة عين صاحبه ينام ولا ينام عنه ويغفل ولا يغفل عنه يراه هو وقبيله من حيث لا يراه يبذل جهده في معاداته بكل حال لا يدع أمر يكيده به يقدر على إيصاله اليه الا أوصله ويستعين عليه ببني جنسه من شياطين الانس وغيرهم من شياطين الجن وقد نصب له الحبائل وبغي له الغوائل ومد حوله الاشراك ونصب له الفخاخ والشباك وقال لا عوانه دونكم عدوكم وعدو أبيكم لا يفوتكم ولا يكون حظه الجنة وحظكم النار ونصيبه الرحمة ونصيبكم اللعنة وقد علمتم إن ما جرى علي وعليكم من الخزي واللعن والابعاد من رحمة الله بسببه ومن أجله فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاءنا في هذه البلية اذا قد فاتنا شركة صالحيهم في الجنة ولما علم سبحانه أن آدم وبنيه قد بلوا بهذا العدو وسلطوا عليهم أمدهم بعساكر وجند يلقون بها وأمد عدوهم أيضا بجند وعساكر يلقاهم به وأقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر التي هي بالاضافة الى الآخرة كنفس واحد من أنفاسها واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وأخبر ان ذلك وعد مؤكد عليه في أشرف كتبه وهي التوارة والانجيل والقرآن ثم أخبر انه لا أوفى بعهده منه سبحانه ثم أمرهم أن يستبشروا بهذه الصفة التي من أراد أن يعرف قدرها فلينظر الى المشتري من هو والى الثمن المبذول في هذه السلعة والى من جرى على يديه هذا العقد فاي فوز أعظم من هذا وأي تجارة أربح منه ثم أكد سبحانه معهم هذا الامر بقوله ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات
تجري من تحتها الانهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ولم يسلط سبحانه هذا العدو على عبده المؤمن الذي هو أحب المخلوقات اليه إلا لان الجهاد أحب شيء اليه وأهله أرفع الخلق عنده درجات وأقربهم اليه وسيلة فعقد سبحانه لواء هذا الحرب لخلاصة مخلوقاته وهو القلب الذي محل معرفته ومحبته وعبوديته والاخلاص له والتوكل عليه والانابة اليه فولاه أمر هذا الحرب وأيده بجند من الملائكة لا يفارقونه له معقبات من بين يده ومن خلفه يحفظونه من أمر الله يعقب بعضهم بعضا كلما جاء جند وذهب جاء بدله آخر يثبتونه ويأمرونه بالخير ويحضونه عليه ويعدونه بكرامة الله ويصبرونه ويقولون إنما هو صبر ساعة وقد استرحت راحة الأبد ثم أيده سبحانه بجند آخر من وحيه وكلامه فارسل إليه رسوله وأنزل اليه كتابه فازداد قوة إلى قوته ومددا الى مدده وعدة الى عدته وأمده مع ذلك بالعقل وزيرا له ومدبرا وبالمعرفة مشيرة عليه ناصحة له وبالايمان مثبتا له ومؤيدا وناصرا وباليقين كاشفا له عن حقيقة الامر حتى كأنه يعاين ما وعد الله تعالى أولياءه وحزبه على جهاد أعدائه فالعقل يدبر جيشه والمعرفة تصنع له أمور الحرب وأسبابها ومواضعها اللائفة بها والايمان يثبته ويقويه ويصبره واليقين يقدم به ويحمل به الحملات الصادقة ثم مد سبحانه القائم بهذا الحرب بالقوى الظاهرة والباطنة فجعل العين طليعة والأذن صاحب خبرة واللسان ترجمانه واليدين والرجلين أعوانه وأقام ملائكته وحملة عرشه يستغفرون له ويسئلون له أن يقيه السيئات ويدخله الجنات وتولى سبحانه الدفع والدفاع عنه بنفسه وقال هؤلاء حزب الله وحزب الله هم المفلحون وهؤلاء جنده وإن جندنا لهم الغالبون وعلم عباده كيفية هذا الحرب والجهاد فجمعها لهم في أربع كلمات فقال يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ولا يتم هذا امر الجهاد الا بهذه الامور الاربعة فلا يتم الصبر الا بمصابره العدو وهو مقاومته ومنازلته فاذا صابر عدوه احتاج الى أمر آخر وهي المرابطة وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل منه العدو ولزوم ثغر العين والاذن واللسان والبطن واليد والرجل فهذه الثغور يدخل منه العدو فيجوس خلال الديار ويفسد ما قدر عليه فالمرابطة لزوم هذه الثغور ولا يخلى مكانها فيصادف العدو والثغر خاليا فيدخل منها فهؤلاء أصحاب رسول الله خير الخلق بعد النبيين والمرسلين أجمعين وأعظم حماية وحراسة من الشيطان الرجيم وقد خلوا المكان الذي أمروا بلزومه يوم أحد فدخل منه العدو فكان ما كان وإجماع هذه الثلاثة وعمودها الذي تقوم به هو تقوى الله فلا ينفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة الا بالتقوى ولا تقوم التقوى الا علي ساق الصبر
فانظر الآن فيك الى التقاء الجيشين واصطدام العسكرين وكيف تداله مرة ويدال عليك أخري أقبل ملك الكفرة بجنوده وعساكره فوجد القلب في حصنه جالسا على كرسي مملكته أمره نافذ في أعوانه وجنده قد حصنوا به يقاتلون عنه ويدافعون عن حوزته فلم يمكنهم الهجوم عليه الا بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه فسأل عن أخص الجند به وأقربهم منه منزلة فقيل له هي النفس فقال لاعوانه أدخلوا عليها من مرادها وانظروا موقع محبتها وما هو محبوبها فعدوها به ومنوها اياه وانقشوا صورة المحبوب فيها في يقظتها ومنامها فاذا اطمأنت اليه وسكنت عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها ثم جروها بها اليكم فاذا خامرة على القلب وصارة معكم عليه ملكتم ثغر العين والاذن واللسان والفم واليد والرجل فرابطوا على هذا الثغور كل المرابطة فمتي دخلتم منها الى القلب فهو قتيل أو أسير أو جريح مثخن بالجراحات ولا تخلوا هذه الثغور ولا تمكنوا سرية تدخل منها الى القلب فتخرجكم منها وان غلبتم فاجتهدوا في إضعاف السرية ووهنها حتي لاتصل الى القلب فان وصلت اليه وصلت ضعيفة لا تغني عنه شيئا فاذا استوليتم على هذه الثغور فامنعوا اثغر العين أن يكون نظره إعتبارا بل أجعلوا نظره تفرحا واستحسانا وتلهيا فان استرق نظرة عبرة فافسدوهم عليه بنظر الغفلة والاستحسان والشهوة فانه أقرب اليه وأعلق بنفسه وأخف عليه ودونكم ثغر العين فان منه تنالون بغيتكم فاني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر فاني أبذر به في القلب بذر الشهوة ثم أسقيه بماء الامنية ثم لا أزال أعده وامنية حتى أقوى عزيمته وأقوده بزمام الشهوة إلى انخلاع من العصمة فلا تهملوا أمر هذا الثغر وأفسدوه بحسب استطاعتكم وهو نوا عليه أمره وقولوا له مقدار نظرة تدعوك الى تسبيح الخالق والرازق البديع والتأمل والتجمل صفته وحسن هذه الصورة التي إنما خلقت ليستدل بها الناظر عليه وما خلق الله لك العينين سدي وما خلق الله هذه الصورة ليحجبها عن النظر وإن ظفر تم به قليل العلم فاسد العقل فقولوا له هذه الصورة مظهر من مظاهر الحق ومجلى من مجاليه فادعوه الى القول بالاتحاد فإن لم يقبل فالقول بالحلول العام والخاص ولا تقنعوا منه بدون ذلك فانه يصير به من إخوان النصارى فمروه حينئذ بالعفة والصيانة والعبادة والزهد في الدنيا واصطادوا عليه الجهال فهذا من أقرب خلفائي وأكبر جندي بل أنا من جنده وأعوانه
فصل ثم أمنعوا ثغر الاذن أن يدخل عليه مايفسد عليكم الأمر فاجتهدوا أن
لا تدخلوا منه الا الباطل فانه خفيف على النفس تستحليه وتستملحه وتخيروا له أعذاب الالفاظ
وأسحرها للالباب أمزجوه بما تهوي النفس مزجا وألقوا الكلمة فان رأيتم منه إصغاء اليها فزيدوه باخوانها فكلما صادفهم صادقتم منه استحسان شيء فالهجوا له بذكره وإياكم أن يدخل من هذا الثغر شىء من كلام الله أو كلام رسوله أو كلام النصحاء فان غلبتم على ذلك ودخل شىء من ذلك فحولوا بينه وبين فهمه وتدبره والتفكر فيه والعظة به و إما بادخال ضده عليه وإما بتهويل ذلك وتعظيمه وإن هذا أمر قد حيل بين النفوس وبينه فلا سبيل لها اليه وهو حمل ثقيل عليها لا تستقل به ونحو ذلك وإما بار خاصه على النفوس وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أعلى عند الناس وأعز عليهم وأغرب عندهم وزبونه أكثر وأما الحق فهو مهجور والقائل به معرض نفسه للعدوان ولا ينبغي والربح بين الناس أولى بالايثار ونحو ذلك فيدخلون الباطل عليه في كل قالب يقبله ويخف عليه ويخرجون له الحق في كل قالب يكرهه ويثقل عليه وإذا شئت أن تعرف ذلك فانظر الى إخوانهم من شياطين الانس كيف يخرجون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب كثرة الفضول وتتبع عثرات الناس والتعرض من البلاء ما لا يطيق وإلفاء الفتن بين الناس ونحو ذلك ويخرجون إتباع السنة ووصف الرب تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله في قالب التشبيه والتجسيم والتكليف ويسمون علوا الله على خلق خلقه واستوائه على عرشه ومباينته لمخلوقاته تحيزا ويسمون نزوله الى سماء الدنيا وقوله من يسألني فاعطيه تحركا وانتقالا ويسمون ما وصف به نفسه من اليد والوجه أمضاء وجوارح ويسمون ما يقوم به من أفعاله حوادث وما يقوم من صفاته أعراضا ثم يتوصلون الى نفي ما وصف به نفسه بهذه الامور ويوهمون الاغمار وضعفاء البصائر أن إثبات الصفات التي نطق بها كتاب الله وسنة رسوله تستلزم هذه الامور ويخرجون هذا التعطيل في قالب التنزيه والتعظيم وأكثر الناس ضعفاء العقول يقبلون الشيء بلفظ ويردونه بعينه بلفظ آخر قال الله تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرور فسماه زخرفا وهو القول الباطل لان صاحبه يزخرفه ويزينه ما استطاع ويلقيه الى سمع المغرور فيغتر به والمقصود أن الشيطان قد لزم ثغر الاذن أن يدخل فيها ما يضر العبد ويمنع أن يدخل اليها ما ينفعه وإن دخله بغير اختياره أفسد عليه
فصل
ثم يقول قوموا على ثغر اللسان فانه الثغر الاعظم وهو قبالة الملك فاجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه من ذكر الله واستغفاره وتلاوة كتابه ونصيحته عباده او التكلم بالعلم النافع ويكون لكم في هذا الثغر أثر ان عظيمان لا تبالون بايهما ظفرتم أحدهما التكلم بالباطل فانما المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن أكبر جندكم وأعوانكم الثاني السكوت عن الحق فان الساكت عن الحق أخ لكم أخرس كما أن الاول أخ لكم ناطق وربما كان الاخ الثاني أنفع إخوانكم لكم أما سمعتم قول الناصح المتكلم بالباطل شيطان ناطق والساكت عن الحق شيطان أخرس فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق واعلموا يا بني ان ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بنو آدم وأكبهم منه على مناخرهم في النار فكم لي من قتبل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر وأوصيكم بوصية فاحفظوا لينطق أحدكم على لسان أخيه من الانس بالكلمة ويكون الآخر على لسان السامع فيبنطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها ويطلب من أخيه إعادتها وكونوا أعوانا على الانس بكل طريق وأدخلوا عليهم من كل باب واقعدوا لهم كل مرصد أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت فيما أغويتني لاقعدن لهم صراصك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولاتجد أكثرهم شاكرين أما تروني قد قعدت لابن آدم بطرقه كلها فلا يفوتني من طريق الا قعدت له من طريق غيره حتى أصبت منه حاجتي أو بعضها و قد حذرهم ذلك رسول الله وقال لهم إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها قعد له بطريق الاسلام فقال له أتسلم وتذر دينك ودين آبائك فخالفه وأسلم فقعد له بطريق الهجرة فقال أتهاجر وتذر أرضك وسماءك فخالفه وهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال أتجاهد فتقتل ويقسم المال وتنكح الزوجة فخالفه وجاهد فكهذا فاقعدوا لهم بكل طريق الخير فاذا أراد أحدهم ان يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة فقولوا له في نفسه أتخرج المال وتبقى مثل هذا السائل وتصير بمنزلته أنت وهو سواء أو ما سمعتم ما القيته على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه قال أموالنا اذا أعطيناكم وها صرنا مثلكم واقعدوا له بطريق الحج فقولوا له طريقه مخوفة مشقة يتعرض سالكها لتلف النفس والمال وهكذا فاقعدوا له على سائر طرق الخير بالتنفير منها وذكر صعوبتها وآفاتها ثم أقعدوا على المعاصي فحسنوها في عين بني آدم وزينوها في قلوبهم
واجعلوا أكبر أعوانكم على ذلك النساء فمن أبوابهن فادخلوا عليهم فنعم العون هن لكم ثم الزموا ثغر اليدين والرجلين فامنعوها ان تبطش بما يضركم أو تمشى فيه وأعلموا إن أكبر أعوانكم على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الامارة فاعينوها واستعينوا بها وأمدوها واستمدوا منها وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة فاجتهدوا في كسرها وابطال قواها ولا سبيل الى ذلك الا بقطع موادها عنها فاذا إنقطعت موادها وقويت مواد النفس الامارة وطاعت لكم اعوانكم فاستنزلوا القلب من حصنه وأعزلوه عن مملكته وولوا مكانه النفس فانها لا تأمر الا بما تهوونه وتحبونه ولا تحببكم بما تكرهونه البتة مع إنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت الى فعله فان أحسستم من القلب منازعة الى مملكته وأردتم الامن من ذلك فاعقدوا بينه وبين النفس عقد النكاح فزينوها وجملوها وأروها إياه في أحسن صورة عروس توجد وقولوا له ذق حلاوة طعم هذا الوصال والتمتع بهذه العروس كما ذقت طعم الحرب وباشرت مرارة الطعن والضرب ثم وازن بين لذة هذه المسألة ! ومرارة تلك المحاربة فدع الحرب تضع أوزارها فليست بيوم وينقضي وإنما هو حرب متصل بالموت وقواك يضعف عن الحرب دائم واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما أحدهما جند الغفلة فاغفلوا قلوب بني آدم عن الله تعالى والدار الآخرة بكل طريق فليس لكم شيء أبلغ من تحصيل غرضكم من ذلك فان القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه ومن أعوانه الثاني جند الشهوة فزينوها في قلوبهم وحسنوها في أعينهم وصولوا عليهم بهذين العسكرين فليس لكم في بني آدم أبلغ منهما واستعينوا على الغفلة بالشهوات وعلى الشهوات بالغفلة وأقرنوا بين الغافلين ثم استعينوا بهما على الذاكر ولايغلب واحد خمسة فان مع الغافلين شيطانين صاروا أربعة وشيطان الذاكر معهم واذا رأيتم جماعة مجتمعين علي ما يضركم من ذكر الله ومذاكرة أمر ونهيه ودينه ولم تقدورا على تفريقهم فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الانس البطالين فقربوهم منهم وشوشوا عليهم بهم وبالجملة فاعدوا للامور أقرانها وادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته فساعدوه وعليها وكونوا له أعوانا على تحصيلها وإذا كان الله قد أمرهم بالصبر أن يصبروا لكم ويصابرونكم ويرابطوا عليكم الثغور فاصبروا أنتم وصابروا ورابطوا عليهم بالثغور وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة والغضب فلا تصطادوا بني آدم في أعظم من هذين الموطنين واعلموا أن منهم من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب وسلطان غضبه ضعيف مقهور فخذوا عليه طريق الشهوة ودعوا طريق الغضب ومنهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب فلا تخلوا طريق الشهوة عليه ولا تعطلوا ثغرها فان من لم يملك نفسه
عند الغضب فانه بالحري لا يملكها عند الشهوة فزوجوا بين غضبة وشهوته وأمزجوا أحدهم بالآخر وادعوه إلى الشهوة من باب الغضب والى الغضب من طريق الشهوة واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين وإنما أخرجت ابويهم من الجنة بالشهوة وإنما ألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب فبه قطعت أرحامهم وسفكت دماؤهم وبه قتل أحدا اني آدم أخاه واعلموا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم والشهوة نار تثور من قلبه وإنما تطفي النار بالماء والصلاة والذكر والتكبير وإياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه وشهوته من قربان الوضوء والصلاة فان ذلك يطفي عنهم نار الغضب والشهوة وقد أمرهم نبيهم بذلك وقال إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم من إحمرار عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بذلك فليتوضأ وقال لهم إنما تطفي النار بالماء وقد أوصاهم الله أن يستعينوا عليكم بالصبر والصلاة فحولوا بينهم وبين ذلك وانسوهم إياه واستعينوا عليهم بالشهوة والغضب وأبلغ أسلحتكم فيهم وأنكاها الغفلة واتباع الهوى وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنهم حصونهم ذكر الله ومخالفة الهوى فاذا رأيتم الرجل مخالفا لهواه فاهربوا من ظلمه ولا تدنوا منه والمقصود ان الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداه ويعينهم بها علي نفسه فيقاتلونه بسلاحه والجاهل يكون معهم على نفسه وهذا غاية الجهل قال ما يبلغ الاعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه ومن العجائب أن العبد يسعي بنفسه في هوان نفسه وهو يزعم أنه لها مكرم ويجتهد في حرمانها من حظوظها وإشرافها وهو يزعم أنه يسعى في حظها ويبذل جهده في تحقيرها وتصغيرها وتدنيسها وهو يزعم أنه لها مكبر ومضيع لنفسه وهو يزعم أنه يسعي في صلاحها ويعليها ويرفعها ويكبرها وكان بعض السلف يقول في خطبته ألارب مهين لنفسه وهو يزعم أنه لها مكرم ومذل لنفسه وهو يزعم أنه لها معز ومصغر لنفسه وهو يزعم أنه لها مكبر ومضيع لنفسه وهو يزعم أنه مراع لحقها وكفي بالمرأ جهلا أن يكون مع عدوه على نفسه يبلغ منها بفعله مالا يبلغه عدوه والله المستعان
فصل ومن عقوباتها أنها تنسى العبد نفسه فاذا نسي نفسه أهملها وأفسدها
وأهلكها فان قيل كيف ينسي العبد نفسه وإذا نسى نفسه فاى شيء يذكره وما يعني نسيانه نفسه قيل نعم ينسى نفسه أعظم نسيان قال تعالى ولاتكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون فلما نسوا ربهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم كما قال تعالى نسوا الله فنسيهم فعاقب
سبحانه من نسيه عقوبتين أحدهما أنه سبحانه نسيه والثانية أنه أنساه نفسه ونسيانه سبحانه للعبد إهماله وتركه وتخليه عنه وإضاعته ونسيانه فالهلاك أدنى اليه من اليد للفم وأما إنساؤه نفسه فهو إنساؤه لحظوظها العالية وأسباب سعادتها وفلاحها وإصلاحها وما يكملها بنسيه ذلك كله جميعه فلا يخطر بباله ولا يجعله على ذكره ولا يصرف اليه همته فيرغب فيه فانه لا يمر بباله حتي يقصده ويؤثره وأيضا فينسيه عيوب نفسه ونقصها وآفاتها فلا يخطر بباله إزالتها واصلاحها وأيضا فينسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامها فلا يخطر بقلبه مداواتها ولا السعى في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول بها الى الفساد والهلاك فهو مريض مثخن بالمرض ومرضه مترام به إلى التلف ولا يشعر بمرضه ولا يخطر بباله مداواته وهذا من أعظم العقوبة للعامة والخاصة فاي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها وأسباب سعادتهما وصلاحها وفلاحها وحياتها الابدية في النعيم المقيم ومن تأمل هذا الموضع تبين له أن أكثر هذا الخلق قد نسوا أنفسهم حقيقة وضيعوها وأضاعوا حظها من الله وباعوها رخيصة بثمن بخس بيع الغبن وإنما يظهر لهم هذا عند الموت ويظهر كل الظهور يوم التغابن يوم يظهر للعبد أنه غبن في العقد الذي عقده لنفسه في هذه الدار والتجارة التى أتجر فيها لمعاده فان كل أحد يتجر في هذه الدنيا لآخرته فالخاسرون الذين يعتقدون أنهم أهل الربح والكسب إشتروا الحياة الدنيا وحظهم فيها فأذهبوا طيباتهم ولذاتهم بالآخرة وحظهم فيها في حياتهم الدنيا وحظهم فيها ولذاتهم بالآخرة واستمتعوا بها ورضوا بها واظمأنوا اليها وكان سعيهم لتحصيلها فباعوا وأشتروا وأتجروا وباعوا آجلا بعاجل ونسيئة بنقد وغائبا بناجز وقالوا هذا هو الزهرة ويقول أحدهم خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به فكيف أبيع حاضرا نقداشا هذا في هذه الدار بغائب نسيئه في دار أخري غير هذه وينضم الى ذلك ضعف الايمان وقوة داعي الشهوة ومحبة العاجلة والتشبه ببني الجنس فاكثر الخلق في هذه التجارة الخاسرة التي قال الله في أهلها أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وقال فيهم فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين فاذا كان يوم التغابن ظهر لهم الغبن في هذه التجارة فتنقطع عليهم النفوس حسرات وأما الرابحون فانهم باعوا فانيا بباق وخسيسا بنفيس وحقيرا بعظيم وقالوا ما مقدار هذه الدنيا من أولها الى آخرها حتي نبيع حظنا من الله تعالي والدار الآخرة بها فكيف بما ينال العبد منها في هذا الزمن القصير الذي هو في الحقيقة كغفوة حلم لانسبة له إلى الدار القرار البتة قال تعالى ويوم نحشرهم كأن لم يلبسوا إلا ساعة من النهار بتعارفون بينهم وقال تعالى يسألونك عن الساعة
أيان مرساها فيم أنت من ذكراها الى ربك منتاها إنما أنت منذر من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا غشية أو ضحاها وقال تعالى كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار وقال تعالى كم ليتم في الارض عدد سنين قالوا لبثنا يوم أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون وقال تعالى ويوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم أن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذا يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم الا يوما فهذه حقيقة هذه الدنيا عند موافاة يوم القيامة فلما علموا قلة لبثهم فيها وإن لهم دار غير هذه الدار دار الحيوان ودار البقاء رأوا من أعظم الغبن بيع دار البقاء بدار الفناء فاتجروا تجارة الاكياس ولم يغتروا بتجارة السفهاء من الناس فظهر لهم لتغابن ربح تجارتهم ومقدار ماشتروه وكل أحد في هذه الدنيا بائع مشتر متجر وكل الناس يغد فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا بيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم فهذا أول نقد من ثمن هذا التجارة فتاجروا أيها المفلسون ويامن لا يقدر علي هذا الثمن ههنا ثمن آخر فان كنت من أهل هذه التجارة فأعط هذا الثمن التائبون العابدون والحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون والمقصود أن الذنوب تنسى العبد حظه من هذه التجارة الرابحة وتشغله بالتجارة الخاسرة وكفى بذلك عقوبة والله المستعان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق