في نفس الأمر وسبحان الله ما أعظم ظلم الإنسان وجهله فإنه لو اعترض على أي صاحب صناعة كانت ممن تقصر عنها معرفته وإدراكه على ذلك وسأله عما اختصت به صناعته من الأسباب والآلات والأفعال والمقادير وكيف كان كل شيء من ذلك الوجه الذي هو عليه لا أكبر ولا أصغر ولا على شكل غير ذلك يسخر منه ويهزأ به وعجب من سخف عقله وقلة معرفته هذا ما تهيئه بمشاركته له في صناعته ووصوله فيها إلى ما وصل إليه والزيادة عليه والاستدراك عليه فيها هذا مع أن صاحب تلك الصناعة غير مدفوع عن العجز والقصور وعدم الإحاطة والجهل بل ذلك عنده عتيد حاضر ثم لا يسعه إلا التسليم له والاعتراف بحكمته وإقراره بجهله وعجزه عما وصل إليه من ذلك فهلا وسعه ذلك مع أحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أتقن كل شيء فأحكمه وأوقعه على وفق الحكمة والمصلحة
وقد كان هذا الوجه وحده كافيا في دفع كل شبهة وجواب كل سؤال وهذا غير الطريق التي سلكها نفاة الحكم والتعليل ولكن مع هذا فنتصدى للجواب المفصل بحسب الاستعداد وما يناسب علومنا الناقصة وأفهامنا الجامدة وعقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة فنقول وبالله التوفيق
ولكم في القصاص حياة
أما قوله كيف تردعون عن سفك الدم بسفكه وإن ذلك كإزالة النجاسة بالنجاسة سؤال في غاية الوهن والفساد وأول ما يقال لسائله هل ترى ردع المفسدين والجناة عن فسادهم وجناياتهم وكف عدوانهم مستحسنا في العقول موافقا لمصالح العباد أو لا تراه كذلك فإن قال لا أراه كذلك كفانا مؤنة جوابه بإقراره على نفسه بمخالفة جميع طوائف بني آدم على اختلاف مللهم ونحلهم ودياناتهم وآرائهم ولولا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضهم بعضا وفسد نظام العالم وصارت حال الدواب والأنعام والوحوش أحسن من حال بني آدم وإن قال بل لا تتم المصلحة إلا بذلك
قيل له من المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة ومن المعلوم ببدائه العقول أن التسوية في العقوبات مع تفاوت الجرائم غير مستحسن بل مناف للحكمة والمصلحة فإنه إن ساوى بينهم في أدنى العقوبات لم تحصل مصلحة الزجر وإن ساوى بينها في أعظمها كان خلاف الرحمة والحكمة إذ لا يليق أن يقتل بالنظرة والقبلة ويقطع بسرقة الحبة والدينار وكذلك التفاوت بين العقوبات مع استواء الجرائم قبيح في الفطر والعقول وكلاهما تأباه حكمة الرب تعالى وعدله وإحسانه إلى خلقه فأوقع العقوبة تارة بإتلاف النفس إذا انتهت الجناية في عظمها إلى غاية القبح كالجناية على النفس أو الدين أو الجناية التي ضررها عام فالمفسدة التي في هذه العقوبة خاصة والمصلحة الحاصلة بها أضعاف أضعاف تلك المفسدة كما قال تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون فلولا القصاص لفسد العالم وأهلك الناس بعضهم بعضا ابتداء واستيفاء فكأن في القصاص دفعا لمفسدة التجري على الدماء بالجناية وبالاستيفاء وقد قالت العرب في جاهليتها القتل أنفى للقتل وبسفك الدماء تحقن الدماء فلم تغسل النجاسة بالنجاسة بل الجناية نجاسة والقصاص طهرة وإذا لم يكن بد من موت القاتل ومن استحق القتل فموته بالسيف أنفع له في عاجلته وآجلته والموت به أسرع الموكات وأوحاها وأقلها ألما فموته به مصلحة له ولأولياء القتيل ولعموم الناس وجرى ذلك مجرى إتلاف الحيوان بذبحه لمصلحة الآدمي فإنه حسن وإن كان في ذبحه إضرار بالحيوان فالمصالح المرتبة على ذبحه أضعاف أضعاف مفسدة إتلافه ثم هذا السؤال الفاسد يظهر فساده وبطلانه بالموت الذي حتمه الله على عباده وساوى فيه بين جميعهم ولولاه لما هنأ العيش ولا وسعتهم الأرزاق ولضاقت عليهم المساكن والمدن والأسواق والطرقات
وفي مفارقة البغيض من اللذة والراحة ما في مواصلة الحبيب والموت مخلص للحي والموت مريح لكل منهما من صاحبه ومخرج من دار الابتلاء والامتحان وباب للدخول في دار الحيوان ... جزى الله عنا الموت خيرا فإنه ... أبر بنا من كل بر وأعطف ... يعجل تخليص النفوس من الأذى ... ويدني إلى الدار التي هي أشرف ...
فكم لله سبحانه على عباده الأحياء والأموات في الموت من نعمة لا تحصى فكيف إذا كان في طهرة للمقتول وحياة للنوع الإنساني وتشف للمظلوم وعدل بين القاتل والمقتول فسبحان من تنزهت شريعته عن خلاف ما شرعها عليه من اقتراح العقول الفاسدة والآراء الضالة الجائرة
مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال مفسدة
وأما قوله لو كان ذلك مستحسنا في العقول لاستحسن في تحريق ثوبه وتخريب داره وذبح حيوانه مقابلته بمثله
فالجواب عن هذا أن مفسدة تلك الجنايات تندفع بتغريمه نظير ما أتلفه عليه فإن المثل يسد مسد المثل من كل وجه فتصير المقابلة مفسدة محضة كما ليس له أن يقتل ابنه أو غلامه مقابلة لقتله هو ابنه أو غلامه فإن هذا شرع الظالمين المعتدين الذي تنزه عنه شريعة أحكم الحاكمين على أن للمقابلة في إتلاف المال بمثل فعله مساغا في الاجتهاد وقد ذهب إليه بعض أهل العلم كما تقدم الإشارة إليه في عقوبة الكفار بإفساد أموالهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا أو كان يغيظهم وهذا بخلاف قتل عبده إذا قتل عبده أو قتل فرسه أو عقر فرسه فإن ذلك ظلم لغير مستحق ولكن السنة اقتضت التضمين بالمثل لا إتلاف النظير كما غرم النبي ص - إحدى زوجتيه التي كسرت إناء صاحبتها إناء بدله وقال إناء بإناء ولا ريب أن هذا أقل فسادا وأصلح للجهتين لأن المتلف ماله إذا أخذ نظيره صار كمن لم يفت عليه شيء وانتفع بما أخذه عوض ماله فإذا مكناه من إتلافه كان زيادة في إضاعة المال وما يراد من التشفي
وإذاقة الجاني ألم الإتلاف فحاصل بالغرم غالبا ولا التفات إلى الصور النادرة التي لا يتضرر الجاني فيها بالغرم ولاشك أن هذا أليق بالعقل وأبلغ في الصلاح وأوفق للحكمة وأيضا فإنه لو شرع القصاص في الأموال ردعا للجاني لبقي جانب المجني عليه غير مراعي بل يبقى متألما موتورا غير مجبور والشريعة إنما جاءت بجبر هذا وردع هذا
المصلحة في تخيير المجني عليه في بعض الأحوال دون بعض
فإن قيل فخيروا المجني عليه بين أن يغرم الجاني أو يتلف عليه نظير ما أتلفه هو كما خيرتموه في الجناية على طرفه وخيرتم أولياء القتيل بين إتلاف الجاني النظير وبين أخذ الدية
قيل لا مصلحة في ذلك للجاني ولا للمجني عليه ولا لسائر الناس وإنما هو زيادة فساد لا مصلحة فيه بمجرد التشفي ويكفي تغريبه وتعزيره في التشفي والفرق بين الأموال والدماء في ذلك ظاهر فإن الجناية على النفوس والأعضاء تدخل من الغيظ والحنق والعداوة على المجني عليه وأوليائه مالا تدخله جناية المال ويدخل عليهم من الغضاضة والعار واحتمال الصنم والحمية والتحرق لأخذ الثأر مالا يجبره المال أبدا حتى إن أولادهم وأعقابهم ليعيرون بذلك ولأولياء القتيل من القصد في القصاص وإذاقة الجاني وأوليائه ما أذاقه للمجني عليه ما ليس لمن حرق ثوبه أو عقرت فرسه والمجني عليه موتور هو وأولياؤه فإن لم يوتر الجاني وأولياؤه ويجرعوا من الألم والغيظ ما يجرعه الأول لم يكن عدلا وقد كانت العرب في جاهليتها تعيب على من يأخذ الدية ويرضى بها من درك ثأره وشفاء غيظه كقول قائلهم يهجو من أخذ الدية من الإبل ... وإن الذي أصبحتم تحلبونه ... دم غير أن اللون ليس بأشقرا ...
وقال جرير يعير من أخذ الدية فاشترى بها نخلا ... ألا أبلغ بني حجر بن وهب ... بأن التمر حلو في الشتاء
وقال آخر ... إذا صب ما في الوطب فاعلم بأنه ... دم الشيخ فاشرب من دم الشيخ أو دع ...
وقال آخر ... خليلان مختلف شكلنا ... أريد العلاء ويبغي السمن ... أريد دماء بني مالك ... ورأى المعلى بياض اللبن ...
وهذا وإن كانت الشريعة قد أبطلته وجاءت بما هو خير منه وأصلح في المعاش والمعاد من تخيير الأولياء بين إدراك الثأر ونيل التشفي وبين أخذ الدية فإن القصد به أن العرب لم تكن تعير من أخذ بدل ماله ولم تعده ضعفا ولا عجزا البتة بخلاف من أخذ بدل دم وليه فما سوى الله بين الأمرين في طبع ولا عقل ولا شرع والإنسان قد يخرق ثوبه عند الغيظ ويذبح ماشيته ويتلف ماله فلا يلحقه في ذلك من المشقة والغيظ ولازدراء به ما يلحق من قتل نفسه أو جدع انفه أو قلع عينه
فصل الحكمة في إتلاف بعض الأعضاء التي وقعت بها المعصية دون بعض
وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة وليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كل عضو عصاه به فيشرع قلع عين من نظر إلى المحرم وقطع أذن من استمع إليه ولسان من تكلم به ويد من لطم غيره عدوانا ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأتي ذلك وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة وأن يكون إلى كف عدوانه
أقرب وأن يعتبر به غيره وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحا وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة إلى غير ذلك من الحكم والمصالح
الحكمة في قطع السارق
ثم إن في حد السرقة معنى آخر وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرا كما يقتضيه اسمها ولهذا يقولون فلان ينظر إلى فلان مسارقة إذا كان ينظر إليه نظرا خفيا لا يريد أن يفطن له والعازم على السرقة مختف كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران ولهذا يقال وصلت جناح فلان إذا رأيته يسير منفردا فانضممت إليه لتصحبه فعوقب السارق بقطع اليد قصا لجناحه وتسهيلا لأخذه إن عاود السرقة فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفا في العدو ثم يقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفا في عدوه فلا يكاد يفوت الطالب ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة ورجله الأخرى في الرابعة فيبقى لحما على وضم فيستريح ويريح
الحكمة في حد الزنا
وأما الزاني فإنه يزني بجميع بدنه والتلذذ بقضاء شهوته يعم البدن والغالب من فعله وقوعه برضا المزني بها فهو غير خائف ما يخافه السارق من الطلب فعوقب بما يعم بدنه من الجلد مرة والقتل بالحجارة مرة ولما كان الزنا من أمهات الجرائم وكبار المعاصي لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل معه التعارف والتناصر على إحياء الدين وفي هذا هلاك الحرث والنسل فشاكل في معانيه أو في أكثرها القتل الذي فيه هلاك ذلك فزجر عنه بالقصاص ليرتدع عن مثل فعله من يهم به فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم الموصل إلى إقامة العبادات الموصلة إلى نعيم الآخرة
ثم إن للزاني حالتين إحداهما أن يكون محصنا قد تزوج فعلم ما يقع به من العفاف عن الفروج المحرمة واستغنى به عنها وأحرز نفسه عن التعرض لحد
الزنا فزال عذره من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى مواقعة الحرام والثانية أن يكون بكرا لم يعلم ما علمه المحصن ولا عمل ما عمله فحصل له من العذر بعض ما أوجب له التخفيف فحقن دمه وزجر بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد ردعا على المعاودة للاستمتاع بالحرام وبعثا له على القنع بما رزقه الله من الحلال وهذا في غاية الحكمة والمصلحة جامع للتخفيف في موضعه والتغليظ في موضعه وأين هذا من قطع لسان الشاتم والقاذف وما فيه من الإسراف والعدوان
ثم إن قطع فرج الزاني فيه من تعطيل النسل وقطعه عكس مقصود الرب تعالى من تكثير الذرية وذريتهم فيما جعل لهم من أزواجهم وفيه من المفاسد أضعاف ما يتوهم فيه من مصلحة الزجر وفيه إخلاء جميع البدن من العقوبة وقد حصلت جريمة الزنا بجميع أجزائه فكان من العدل أن تعمه العقوبة ثم إنه غير متصور في حق المرأة وكلاهما زان فلا بد أن يستويا في العقوبة فكان شرع الله سبحانه أكمل من اقتراح المقترحين
الجزاء من جنس العمل
وتأمل كيف جاء إتلاف النفوس في مقابلة أكبر الكبائر وأعظمها ضررا وأشدها فسادا للعالم وهي الكفر الأصلي والطاريء والقتل وزني المحصن وإذا تأمل العاقل فساد الوجود رآه من هذه الجهات الثلاث وهذه هي الثلاث التي أجاب عنها النبي ص - لعبد الله بن مسعود بها حيث قال له يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل الله ندا وهو خلقك قال قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال قلت ثم أي قال أن تزاني بجليلة جارك فأنزل الله تعالى تصديق ذلك والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون الآية
اختلاف الحد لاختلاف الجريمة
ثم لما كان سرقة الأموال تلي ذلك في الضرر وهو دونه جعل عقوبته قطع
الطرف ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجلد ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حده دون حد هذه الجنايات كلها ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة جعلت عقوبتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بحسب المصلحة في كل زمان ومكان وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم فمن سوى بين الناس في ذلك وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكمة الشرع واختلفت عليه أقوال الصحابة وسيرة الخلفاء الراشدين وكثير من النصوص ورأى عمر قد زاد في حد الخمر على أربعين والنبي ص - إنما جلد أربعين وعزر بأمور لم يعزر بها النبي ص - وأنفذ على الناس أشياء عفا عنها النبي ص - فيظن ذلك تعارضا وتناقضا وإنما أتى من قصور علمه وفهمه وبالله التوفيق
فصل جعل حد الرقيق على النصف من حد الحر يوافق القياس
وأما قوله وجعل حد الرقيق على النصف من حد الحر وحاجتهما إلى الزجر واحدة فلا ريب أن الشارع فرق بين الحر والعبد في أحكام وسوى بينهما في أحكام فسوى بينهما في الإيمان والإسلام ووجوب العبادات البدنية كالطهارة والصلاة والصوم لاستوائهما في سببهما وفرق بينهما في العبادات المالية كالحج والزكاة والتكفير بالمال لافتراقهما في سببهما وأما الحدود فلما كان وقوع المعصية من الحر أقبح من وقوعها من العبد من جهة كمال نعمة الله تعالى عليه بالحرية وأن جعله مالكا لا مملوكا ولم يجعله تحت قهر غيره وتصرفه فيه ومن جهة تمكنه بأسباب القدرة من الاستغناء عن المعصية بما عوض الله عنها من المباحات فقابل النعمة التامة بضدها واستعمل القدرة في المعصية فاستحق من العقوبة
أكثر مما يستحقه من هو أخفض منه رتبة وأنقص منزلة فإن الرجل كلما كانت نعمة الله عليه أتم كانت عقوبته إذا ارتكب الجرائم أتم ولهذا قال تعالى في حق من أتم نعمته عليهن من النساء يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين واعتدنا لها رزقا كريما وهذا على وفق قضايا العقول ومستحسناتها فإن العبد كلما كملت نعمة الله عليه ينبغي له أن تكون طاعته له أكمل وشكره له أتم ومعصيته له أقبح وشدة العقوبة تابعة لقبح المعصية ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه فإن نعمة الله عليه بالعلم أعظم من نعمته على الجاهل وصدور المعصية منه أقبح من صدورها من الجاهل ولا يستوي عند الملوك والرؤساء من عصاهم من خواصهم وحشمهم ومن هو قريب منهم ومن عصاهم من الأطراف والبعداء فجعل حد العبد أخف من حد الحر جمعا بين حكمة الزجر وحكمة نقصه ولهذا كان على النصف منه في النكاح والطلاق والعدة إظهارا لشرف الحرية وخطرها وإعطاء لكل مرتبة حقها من الأمر كما أعطاها حقها من القدر ولا تنتقض هذه الحكمة بإعطاء العبد في الآخرة أجرين بل هذا محض الحكمة فإن العبد كان عليه في الدنيا حقان حق لله وحق لسيده فأعطي بإزاء قيامه بكل حق أجرا فاتفقت حكمة الشرع والقدر والجزاء والحمد لله رب العالمين
فصل شرع اللعان في حق الزوجة دون غيرها يوافق القياس
وأما قوله وجعل للقاذف إسقاط الحد باللعان في الزوجة دون الأجنبية وكلاهما قد ألحق بهما العار فهذا من اعظم محاسن الشريعة فإن قاذف الأجنبية مستغن عن قذفها لا حاجة إليه البتة فإن زناها لا يضره شيئا ولا يفسد عليه فراشه ولا يعلق عليه أولادا من غيره وقذفها عدوان محض وأذى لمحصنة
غافلة مؤمنة فترتب عليه الحد زجرا له وعقوبة وأما الزوجة فإنه يلحقه بزناها من العار والمسبة وإفساد الفراش وإلحاق ولد غيره به وانصراف قلبها عنه إلى غيره فهو محتاج إلى قذفها ونفي النسب الفاسد عنه وتخلصه من المسبة والعار لكونه زوج بغي فاجرة ولا يمكن إقامة البينة على زناها في الغالب وهي لا تقر به وقول الزوج عليها غير مقبول فلم يبق سوى تحالفهما بأغلظ الأيمان وتأكيدها بدعائه على نفسه باللعنة ودعائها على نفسها بالغضب إن كانا كاذبين ثم يفسخ النكاح بينهما إذ لا يمكن أحدهما أن يصفو للآخر أبدا فهذا أحسن حكم يفصل به بينهما في الدنيا وليس بعده أعدل منه ولا أحكم ولا أصلح ولو جمعت عقول العالمين لم يهتدوا إليه فتبارك من أبان ربوبيته ووحدانيته وحكمته وعلمه في شرعه وخلقه
فصل تخصيص المسافر بالرخص دون غيره يوافق القياس
وأما قوله وجوز للمسافر المترفه في سفره رخصة الفطر والقصر دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة فلا ريب أن الفطر والقصر يختص بالمسافر ولا يفطر المقيم إلا لمرض وهذا من كمال حكمة الشارع فإن السفر في نفسه قطعة من العذاب وهو في نفسه مشقة وجهد ولو كان المسافر من أرفه الناس فإنه في مشقة وجهد بحسبه فكان من رحمة الله بعباده وبره بهم أن خفف عنهم شطر الصلاة واكتفى منهم بالشطر وخفف عنهم أداء فرض الصوم في السفر واكتفى منهم بأدائه في الحضر كما شرع مثل ذلك في حق المريض والحائض فلم يفوت عليهم مصلحة العبادة بإسقاطها في السفر جملة ولم يلزمهم بها في السفر كإلزامهم في الحضر وأما الإقامة فلا موجب لإسقاط بعض الواجب فيها ولا تأخيره وما يعرض فيها من المشقة والشعل فأمر لا ينضبط ولا ينحصر فلو جاز لكل مشغول وكل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب واضمحل بالكلية وإن جوز للبعض دون البعض لم ينضبط
فإنه لا وصف يضبط ما تجوز معه الرخصة وما لا تجوز بخلاف السفر على أن المشقة قد علق بها من التخفيف ما يناسبها فإن كانت مشقة مرض وألم يضر به جاز معها الفطر والصلاة قاعدا أو على جنب وذلك نظير قصر العدد وإن كانت مشقة تعب فمصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب ولا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها ومصالحها بحمد الله ومنه
فصل الفرق بين نذر الطاعة والحلف عليها يوافق القياس
وأما قوله وأوجب على من نذر لله طاعة الوفاء بها وجوز لمن حلف عليها أن يتركها ويكفر يمينه وكلاهما قد التزم فعلها لله فهذا السؤال يورد على وجهين
أحدهما أن يحلف ليفعلنها نحو أن يقول والله لأصومن الاثنين والخميس ولأتصدقن كما يقول لله على أن أفعل ذلك
والثاني أن يحلف بها كما يقول إن كلمت فلانا فلله علي صوم سنة وصدقة ألف
فإن أورد على الوجه الأول فجوابه أن الملتزم الطاعة لله لا يخرج التزامه لله عن أربعة أقسام أحدها التزام بيمين مجردة الثاني التزام بنذر مجرد الثالث التزام بيمين مؤكدة بنذر الرابع التزام بنذر مؤكد بيمين فالأول نحو قوله والله لأتصدقن والثاني نحو لله علي أن أتصدق والثالث نحو والله إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا والرابع نحو إن شفى الله مريضي فوالله لأتصدقن وهذا كقوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فهذا نذر مؤكد بيمين وإن لم يقل فيه فعلي إذ ليس ذلك من شرط النذر بل إذا قال إن سلمني الله تصدقت
أو لأتصدقن فهو وعد وعده الله فعليه أن يفي به وإلا دخل في قوله فأعقهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون فوعد العبد ربه نور يجب عليه أن يفي له به فإنه جعله جزاء وشكرا له على نعمته عليه فجرى مجرى عقود المعاوضات لا عقود التبرعات وهو أولى باللزوم من أن يقول ابتداء لله علي كذا فإن هذا التزام منه لنفسه أن يفعل ذلك والأول تعليق بشرط وقد وجد فيجب فعل المشروط عنده لالتزامه له بوعده فإن الالتزام تارة يكون بصريح الإيجاب وتارة يكون بالوعد وتارة يكون بالشروع كشروعه في الجهاد والحج والعمرة والالتزام بالوعد آكد من الالتزام بالشروع وآكد من الالتزام بصريح الإيجاب فإن الله سبحانه ذم من خالف ما التزمه له بالوعد وعاقبه بالنفاق في قلبه ومدح من وفى بما نذره له وأمر بإتمام ما شرع فيه له من الحج والعمرة فجاء الالتزام بالوعد آكد الأقسام الثلاثة وإخلافة يعقب النفاق في القلب وأما إذا حلف يمينا مجردة ليفعلن كذا فهذا حض منه لنفسه وحث على فعله باليمين وليس إيجابا عليها فإن اليمين لا توجب شيئا ولا تحرمه ولكن الحالف عقد اليمين بالله ليفعلنه فأباح الله سبحانه له حل ما عقده بالكفارة ولهذا سماها الله تحلة فإنها تحل عقد اليمين وليست رافعة لإثم الحنث كما يتوهمه بعض الفقهاء فإن الحنث قد يكون واجبا وقد يكون مستحبا فيؤمر به أمر إيجاب أو استحباب وإن كان مباحا فالشارع لم يبح سبب الإثم وإنما شرعها الله حلا لعقد اليمين كما شرع الله الاستثناء مانعا من عقدها فظهر الفرق بين ما التزم لله وبين ما التزم بالله فالأول ليس فيه إلا الوفاء والثاني يخير فيه بين الوفاء وبين الكفارة حيث يسوغ ذلك وسر هذا أن ما التزم له آكد مما التزم به فإن الأول متعلق بإلهيته والثاني بربوبيته فالأول من أحكام إياك نعبد والثاني من أحكام إياك نستعين وإياك نعبد قسم الله من هاتين الكلمتين وإياك نستعين قسم
العبد كما في الحديث الصحيح الإلهي هذه بيني وبين عبدي نصفين وبهذا يخرج الجواب عن إيراد هذا السؤال على الوجه الثاني وأن ما نذره لله من هذه الطاعات يجب الوفاء به وما أخرجه مخرج اليمين يخير بين الوفاء به وبين التفكير لأن الأول متعلق بإلهيته والثاني بربوبيته فوجب الوفاء بالقسم الأول ويخير الحالف في القسم الثاني وهذا من أسرار الشريعة وكمالها وعظمها
ويزيد ذلك وضوحا أن الحالف بالتزام هذه الواجبات قصده ألا تكون ولكراهته للزومها له حلف بها فقصده ألا يكون الشرط فيها ولا الجزاء ولذلك يسمى نذر اللجاج والغضب فلم يلزمه الشارع به إذا كان غير مريد له ولا متقرب به إلى الله فلم يعقده لله وإنما عقده به فهو يمين محضة فإلحاقه بنذر القربة إلحاق له بغير شبهه وقطع له عن الإلحاق بنظيره وعذر من ألحقه بنذر القربة شبهه به في اللفظ والصورة ولكن الملحقون له باليمين أفقه وأرعى لجانب المعاني وقد اتفق الناس على أنه لو قال إن فعلت كذا فإنا يهودي أو نصراني فحنث أنه لا يكفر بذلك إن قصد اليمين لأن قصد اليمين منع من الكفر وبهذا وغيره احتج شيخ الإسلام ابن تيمية على أن الحلف بالطلاق والعتاق كنذر اللجاج والغضب وكالحلف بقوله إن فعلت كذا فأنا يهودي او نصراني وحكاه إجماع الصحابة في العتق وحكاه غيره إجماعا لهم في الحلف بالطلاق على أنه لا يلزم
قال لأنه قد صح عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة ولا يعرف له في الصحابة مخالف ذكره ابن بزيزة في شرح أحكام عبد الحق الإشبيلي فاجتهد خصومه في الرد عليه بكل ممكن وكان حاصل ما ردوا به قوله أربعة أشياء أحدها وهو عمدة القوم أنه خلاف مرسوم السلطان والثاني أنه خلاف الأئمة الأربعة والثالث أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء
المقصودين كقوله إن أبرأتني فأنت طالق ففعلت والرابع أن العمل قد استمر على خلاف هذا القول فلا يلتفت إليه فنقض حججهم وأقام نحوا من ثلاثين دليلا على صحة هذا القول وصنف في المسألة قريبا من ألف ورقة ثم مضى لسبيله راجيا من الله أجرا أو أجرين وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون
فصل الفرق بين الضبع وغيره من كل ذي ناب يوافق القياس
وأما قولهم وحرم كل ذي ناب من السباع وأباح الضبع ولها ناب فلا ريب أنه حرم كل ذي ناب من السباع وإن كان بعض العلماء خفي عليه تحريمه فقال بمبلغ علمه وأما الضبع فروي عنه فيها حديث صححه كثير من أهل العلم بالحديث فذهبوا إليه وجعلوه مخصصا لعموم أحاديث التحريم كما خصت العرايا لأحاديث المزابنة وطائفة لم تصححه وحرموا الضبع لأنها من جملة ذات الأنياب وقالوا وقد تواترت الآثار عن النبي ص - بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وصحت صحة لا مطعن فيها من حديث علي وابن عباس وأبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني قالوا وأما حديث الضبع فتفرد به عبد الرحمن بن أبي عمارة وأحاديث تحريم ذوات الأنياب كلها تخالفه قالوا ولفظ الحديث يحتمل معنيين أحدهما أن يكون جابر رفع الأكل إلى النبي ص - وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيدا فقط ولا يلزم من كونها صيدا جواز أكلها فظن جابر أن كونها صيدا يدل على أكلها فأفتى به من قوله ورفع إلى النبي ص - ما سمعه من كونها صيدا
ونحن نذكر لفظ الحديث ليتبين ما ذكرناه فروى الترمذي في جامعه من حديث عبيد بن عمير الليثي عن عبد الرحمن بن أبي عمارة قال قلت لجابر ابن عبد الله آكل الضبع قال نعم قلت أصيد هي قال نعم
قلت أسمعت ذلك من رسول الله ص - قال نعم قال الترمذي سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال هو صحيح وهذا يحتمل أن المرفوع منه هو كونها صيدا ويدل على ذلك أن جرير بن حازم قال عن عبيد بن عمير عن ابن أبي عمارة عن جابر عن رسول الله ص - أنه سئل عن الضبع فقال هي صيد وفيها كبش قالوا وكذلك حديث إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر يرفعه الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن ويؤكل قال الحاكم حديث صحيح وقوله ويؤكل يحتمل الوقف والرفع وإذا احتمل ذلك لم تعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تبلغ مبلغ التواتر في التحريم قالوا ولو كان حديث جابر صريحا في الإباحة لكان فردا وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة ادعى الطحاوي وغيره تواترها فلا يقدم حديث جابر عليها قالوا والضبع من أخبث الحيوان وأشرهه وهو مغرى بأكل لحوم الناس ونبش قبور الأموات وإخراجهم وأكلهم ويأكل الجيف ويكسر بنابه قالوا والله سبحانه قد حرم علينا الخبائث وحرم رسول الله ص - ذوات الأنياب والضبع لا يخرج عن هذا وهذا وقالوا وغاية حديث جابر يدل على أنها صيد يفدي في الإحرام ولا يلزم من ذلك أكلها وقد قال بكر بن محمد سئل أبو عبد الله يعني الإمام أحمد عن محرم قتل ثعلبا فقال عليه الجزاء هي صيد ولكن لا يؤكل وقال جعفر بن محمد سمعت أبا عبد الله سئل عن ثعلب فقال الثعلب سبع فقد نص على أنه سبع وأنه يفدي في الإحرام ولما جعل النبي ص - في الضبع كبشا ظن جابر أنه يؤكل فأفتى به
والذين صححوا الحديث جعلوه مخصصا لعموم تحريم ذي الناب من غير فرق بينهما حتى قالوا ويحرم أكل كل ذي ناب من السباع إلا الضبع وهذا لا يقع مثله في الشريعة أن يخصص مثلا على مثل من كل وجه من غير فرقان بينهما
وبحمد الله إلى ساعتي هذه ما رأيت في الشريعة مسألة واحدة كذلك أعنى شريعة التنزيل لا شريعة التأويل ومن تأمل ألفاظه ص - الكريمة تبين له اندفاع هذا السؤال فإنه إنما حرم ما اشتمل على الوصفين أن يكون له ناب وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المغتذي بها شبهها فإن الغاذي شبيه بالمغتذي ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم ولا تعد الضبع من السباع لغة ولا عرفا والله أعلم
فصل الحكمة في جعل شهادة خزيمة بشهادتين
وأما قوله وجعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادتين دون غيره ممن هو أفضل منه فلا ريب أن هذا من خصائصه ولو شهد عنده ص - أو عند غيره لكان بمنزلة شاهدين اثنين وهذا التخصيص إنما كان لمخصص اقتضاه وهو مبادرته دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول ص - أنه قد بايع الأعرابي وكان فرض على كل من سمع هذه القصة أن يشهد أن رسول الله ص - قد بايع الأعرابي وذلك من لوازم الإيمان والشهادة بتصديقه ص - وهذا مستقر عند كل مسلم ولكن خزيمة تفطن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه في كل ما يخبر به فلا فرق بين ما يخبر به عن الله وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا وهذا ولا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا فلما تفطن خزيمة دون من حضر لذلك استحق أن تجعل شهادته بشهادتين
فصل الحكمة في تخصيص أبي بردة بإجزاء تضحيته بعناق
وأما تخصيصه أبا بردة بن نيار بإجزاء التضحية بالعناق دون من بعده فلموجب أيضا وهو أنه يذبح قبل الصلاة متأولا غير عالم بعدم الإجزاء فلما أخبره النبي ص - أن تلك ليست بأضحية وإنما هي شاه لحم أراد إعادة الأضحية فلم يكن عنده إلا عناق هي أحب إليه من شايي لحم فرخص له في التضحية بها لكونه معذورا وقد تقدم منه ذبح تأول فيه وكان معذورا بتأويله وذلك كله قبل استقرار الحكم فلما استقر الحكم لم يكن بعد ذلك يجزيء إلا ما وافق الشرع المستقر وبالله التوفيق
فصل الحكمة في التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار
وأما التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار في الجهر والإسرار ففي غاية المناسبة والحكمة فإن الليل مظنة هدو الأصوات وسكون الحركات وفراغ القلوب واجتماع الهمم المشتتة بالنهار فالنهار محل السبح الطويل بالقلب والبدن والليل محل مواطأة القلب للسان ومواطأة اللسان للأذن ولهذا كانت السنة تطويل قراءة الفجر على سائر الصلوات وكان رسول الله ص - يقرأ فيها بالستين إلى المائة وكان الصديق يقرأ فيها بالبقرة وعمر بالنحل وهود وبني إسرائيل ويونس ونحوها من السور لأن القلب أفرغ ما يكون من الشواغل حين انتباهه من النوم فإذا كان أول ما يقرع سمعه كلام الله الذي فيه الخير كله بحذافيره صادفه خاليا من الشواغل فتمكن فيه من غير مزاحم وأما النهار فلما كان بضد ذلك كانت قراءة صلاته سرية إلا إذا عارض في ذلك معارض أرجح منه كالمجامع العظام في العيدين والجمعة والإستسقاء والكسوف
فإن الجهر حينئذ أحسن وأبلغ في التحصيل المقصود وأنفع للجمع وفيه من قراءة كلام الله عليهم وتبليغه في المجامع العظام ما هو من أعظم مقاصد الرسالة والله أعلم
فصل الحكمة في تقديم العصبة البعداء على ذوي الأرحام الأقربين
وأما قوله وورث ابن ابن العم وإن بعدت درجته دون الخالة التي هي شقيقة للأم فنعم وهذا من كمال الشريعة وجلالتها فإن ابن العم من عصبته القائمين بنصرته وموالاته والذب عنه وحمل العقل عنه فبنوا أبيه هم أولياؤه وعصبته والمحامون دونه وأما قرابة الأم فإنهم بمنزلة الأجانب وإنما ينتسبون إلى آبائهم فهم بمنزلة أقارب البنات كما قال القائل ... بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد ...
فمن كمال حكمة الشارع أن جعل الميراث لأقارب الأب وقدمهم على أقارب الأم وإنما ورث معهم أقارب الأم من ركض الميت معهم في بطن الأم وهم أخواته أو من قربت قرابته جدا وهن جداته لقوة إيلادهن وقرب أولادهن منه فإذا عدمت قرابة الأب انتقل الميراث إلى قرابة الأم وكانوا أولى من الأجانب فهذا الذي جاءت به الشريعة أكمل شيء وأعدله وأحسنه
فصل الحكمة في الفرق بين الشفعة و أخذ مال الغير
وأما قوله وحرم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه ثم سلطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة ثم شرع الشفعة فيما يمكن التخلص من ضرر الشركة فيه بالقسمة دون مالا يمكن قسمته كالجوهرة والحيوان فهذا السؤال قد أورده على وجهين أحدهما على أصل الشفعة وأن الاستحقاق بها مناف لتحريم أخذ مال الغير
إلا بطيب نفس منه والثاني أنه خص بعض المبيع بالشفعة دون بعض مع قيام السبب الموجب للشفعة وهو ضرر الشركة
ونحن بحمد الله وعونه نجيب عن الأمرين فنقول
الحكمة في تشريع الشفعة
من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة ولا يليق بها غير ذلك فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على حاله وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخلطاء يكثر فيهم بغى بعضهم على بعض شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة وانفراد كل من الشريكين بنصيبه وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي ويزول عنه ضرر الشركة ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد ومن هنا يعلم أن التحيل لإسقاط الشفعة مناقض لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضاد له
ثم اختلفت أفهام العلماء في الضرر الذي قصد الشارع رفعه بالشفعة
فقالت طائفة هو الضرر اللاحق بالقسمة لأن كل واحد من الشريكين إذا طالب شريكه بالقسمة كان عليه في ذلك من المؤنة والكلفة والغرامة والضيق في مرافق المنزل ماهو معلوم فإنه قبل القسمة ربما ارتفق بالدار والأرض كلها وبأي موضع شاء منها فإذا وقعت الحدود ضاقت به الدار وقصر على موضع منها وفي ذلك من الضرر عليه مالا خفاء به فمكنه الشارع بحكمته ورحمته من رفع هذه المضرة عن نفسه بإن يكون أحق بالمبيع من الأجنبي الذي يريد الدخول عليه
وحرم الشارع على الشريك أن يبيع نصيبه حتى يؤذن شريكه فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به وإن أذن في البيع وقال لا غرض لي فيه لم يكن له الطلب بعد البيع هذا مقتضى حكم رسول الله ص - ولا معارض له بوجه وهو الصواب المقطوع به وهذه طريقة من يرى أنه لا شفعة إلا فيما يقبل القسمة
وقالت طائفة أخرى إنما شرعت الشفعة لرفع الضرر اللاحق بالشركة فإذا كانا شركين في عين من الأعيان بإرث أو هبة أو وصية أو ابتياع أو نحو ذلك لم يكن رفع ضرر أحدهما بأولى من رفع ضرر الآخر فإذا باع نصبيه كان شريكه أحق به من الأجنبي إذ في ذلك إزالة ضرره مع عدم تضرر صاحبه فإنه يصل إلى حقه من الثمن ويصل هذا إلى استبداده بالمبيع فيزول الضرر عنهما جميعا وهذا مذهب من يرى الشفعة في الحيوان والثياب والشجر والجواهر والدور الصغار التي لا يمكن قسمتها وهذا قول أهل مكة وأهل الظاهر ونص عليه الإمام أحمد في رواية حنبل قال قيل لأحمد فالحيوان دابة تكون بين رجلين أو حمار أو ما كان من نحو ذلك قال هذا كله أو كد لأن خليطه الشريك أحق به بالثمن وهذا لا يمكن قسمته فإذا عرضه على شريكه وإلا باعه بعد ذلك وقال إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عن الرجل يعرض على شريكه عقارا بينه وبينه أو نخلا فقال الشريك لا أريد فباعه ثم طلب الشفعة بعد قال له الشفعة في ذلك واحتج لهذا القول بحديث جابر الصحيح قضى رسول الله ص - بالشفعة في كل ما لم يقسم وهذا يتناول المنقول والعقار وفي كتاب الخراج عن يحي بن آدم عن زهير عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله ص - من كان له شرك في نخل أو ربعه فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن رضي أخذ وإن كره ترك وهذا الإسناد على شرط مسلم وفي الترمذي من حديث عبد العزيز بن رفع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال
قال رسول الله ص - الشريك شفيع والشفعة في كل شيء تفرد به أبو حمزة السكري عن عبد العزيز بهذا الإسناد ورواه أبو الأحوص سلام بن سليم عن عبد العزيز ولم يذكر ابن عباس ولفظه قضى رسول الله ص - بالشفعة في كل شيء الأرض والدار والجارية والخادم وكذلك رواه أبو بكر بن عياش وإسرائيل بن يونس عن عبد العزيز مرسلا فهذا علة هذا الحديث على أن أبا حمزة السكري ثقة احتج به صاحبا الصحيح وإن قلنا الزيادة من الثقة مقبولة فرفع الحديث إذا صحيح وإلا فغايته أن يكون مرسلا عضدته الآثار المرفوعة والقياس الجلي وقد روى أبو جعفر الطحاوي عن محمد بن خزيمة عن يوسف بن عدي عن عبيد الله بن إدريس عن ابن جريح عن عطاء عن جابر قال قضى رسول الله ص - بالشفعة في كل شيء ورواة هذا الحديث ثقات وهو غريب بهذا الإسناد قالوا ولأن الضرر بالشركة فيما لا ينقسم أبلغ من الضرر بالعقار الذي يقبل القسمة فإذا كان الشارع مريدا لرفع الضرر الأدنى فالأعلى أولى بالرفع قالوا ولو كانت الأحاديث مختصة بالعقار والعروض المنقسمة فإثبات الشفعة فيها تنبيه على ثبوتها فيما لا يقبل القسمة
وقال الآخرون الأصل عدم انتزاع الإنسان مال غيره إلا برضاه ولكن تركنا ذلك في الأرض والعقار لثبوت هذا النص فيه وأما الآثار المتضمنة لثبوتها في المنقول فضعيفة معلولة وقوله في الحديث الصحيح فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة يدل على اختصاصها بذلك وقول جابر عن النبي ص - الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط يقتضي انحصارها في ذلك قالوا وقد قال عثمان بن عفان لا شفعة في بئر ولا فحل والأرف يقطع كل شفعة
والفحل النخل والأرف بوزن الغرف المعالم والحدود وقال أحمد ما أصحه من حديث قالوا والفرق بين المنقول وغيره أن الضرر في غير المنقول يتأبد بتأبده وفي المنقول لا يتأبد فهو ضرر عارض فهو كالمكيل والموزون قالوا والضرر في العقار يكثر جدا فإنه يحتاج الشريك إلى إحداث المرافق وتغيير الأبنية وتضييق الواسع وتخريب العامر وسوء الجوار وغير ذلك مما يختص بالعقار فأين ضرر الشركة في العبد والجوهرة والسيف من هذا الضرر
قال المثبتون للشفعة إنما كان الأصل عدم انتزاع ملك الإنسان منه إلا برضاه لما فيه من الظلم له والإضرار به فأما ما لا يتضمن ظلما ولا إضرارا بل مصلحة له بإعطائه الثمن فلشريكه دفع ضرر الشركة عنه فليس الأصل عدمه بل هو مقتضى أصول الشريعة فإن اصول الشريعة توجب المعاوضة للحاجة والمصلحة الراجحة وإن لم يرض صاحب المال وترك معاوضته ههنا لشريكه مع كونه قاصدا للبيع ظلم منه وإضرار بشريكه فلا يمكنه الشارع منه بل من تأمل مصادر الشريعة ومواردها تبين له أن الشارع لا يمكن هذا الشريك من نقل نصيبه إلى غير شريكه وأن يلحق به من الضرر مثل ما كان عليه أو أزيد منه مع أنه لا مصلحة له في ذلك
وأما الآثار فقد جاءت بهذا وهذا ولو قدر عدم صحتها بالشفعة في المنقول فهي لم تنف ذلك بل نبهت عليه كما ذكرنا وأما تأبد الضرر وعدمه ففرق فاسد فإن من المنقول ما يكون تأبده كتأبد العقار كالجوهرة والسيف والكتاب والبئر وإن لم يتأبد ضرره مدى الدهر فقد يطول ضرره كالعبد والجارية ولو بقي ضرره مدة فإن الشارع مريد لدفع الضرر بكل طريق ولو قصرت مدته وأما تفريقكم بكثرة الضرر في العقار وقلته في المنقول فلعمر الله
إن الضرر في العقار يكثر من تلك الجهات ولكن لا يمكن رفعه بالقسمة وأما الضرر في المنقول فإنه لا يمكن رفعه بقسمته على أن هذا منتقض بالأرض الواسعة التي ليس فيها شيء مما ذكرتم
فصل رأي من يقصر الشفعة على الجوار
وقالت طائفة ثالثة بل الضرر الذي قصد الشارع رفعه هو ضرر سوء الجوار والشركة في العقار والأرض فإن الجار قد يسيء الجوار غالبا أو كثيرا فيعلى الجدار ويتبع العثار ويمنع الضوء ويشرف على العورة ويطلع على العثرة ويؤذي جاره بأنواع الأذى ولا يأمن جاره بوائقه وهذا مما يشهد به الواقع وأيضا فالجار له من الحرمة والحق والذمام ما جعله الله له في كتابه ووصى به جبريل رسول الله ص - غاية الوصية وعلق النبي ص - الإيمان بالله واليوم الآخر بإكرامه وقال الإمام أحمد الجيران ثلاثة جار له حق وهو الذمي الأجنبي له حق الجوار وجار له حقان وهو المسلم الأجنبي له حق الجوار وحق الإسلام وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم القريب له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة ومثل هذا ولو لم يرد في الشريك فأدنى المراتب مساواته به فيما يندفع به الضرر لا سيما والحكم بالشفعة ثبت في الشركة لإفضائها إلى ضرر المجاورة فإنهما إذا اقتسما تجاورا
قالوا ولهذا السبب اختصت بالعقار دون المنقولات إذ المنقولات لا تتأتى فيها المجاورة فإذا ثبتت في الشركة في العقار لإفضائها إلى المجاورة فحقيقة المجاورة أولى بالثبوت فيها
قالوا وهذا معقول النصوص لو لم يرد الثبوت فيها فكيف قد صرحت بالثبوت فيها أعظم من تصريحها بالثبوت للشريك ففي صحيح البخاري من حديث
عمر بن الشريد قال جاء المسور بن مخرمة فوضع يده على منكبي فانطلقت معه إلى سعد بن أبي وقاص فقال أبو رافع ألا تأمر هذا أن يشتري مني بيتي الذي في داره فقال لا أزيده على أربعمائة منجمة فقال قد أعطيت خمسمائة نقدا فمنعته ولولا أني سمعت رسول الله ص - يقول الجار أحق بصقبه ما بعتك وروى عمرو بن الشريد أيضا عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي قال قلت يا رسول الله أرض ليس لأحد فيها قسم ولا شريك إلا الجوار قال الجار أحق بسقبه أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وإسناده صحيح وقال البخاري هو أصح من رواية عمرو عن أبي رافع يعني المتقدم وقال أيضا كلا الحديثين عندي صحيح وعن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله ص - جار الدار أولى بالدار رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح انتهى وقد صح سماع الحسن من سمرة وغاية هذا أنه كتاب ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديما وحديثا وأجمع الصحابة على العمل بالكتب وكذلك الخلفاء بعدهم وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب فإن لم يعمل بما فيها تعطلت الشريعة وقد كان رسول الله ص - يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي فيعمل بها من تصل إليه ولا يقول هذا كتاب وكذلك خلفاؤه بعده والناس إلى اليوم فرد السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل والحفظ يخون والكتاب لا يخون وروى قتادة عن أنس أن رسول الله ص - قال جار الدار أحق بالدار رواه ابن ماجه من طريق عيسى بن يونس عن سعيد عن قتادة وكلهم أئمة ثقات وروى أهل السنن الأربعة من حديث ميزان الكوفة عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ص - الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا وهذا حديث صحيح فلا يرد
فإن قيل قد قال الترمذي تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث وقال وكيع عنه لو أن عبد الملك روى حديثا آخر مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه وكذلك قال يحيى القطان وقال أحمد هو حديث منكر وقال يحيى ابن معين هو حديث لم يحدث به إلا عبد الملك فأنكر الناس عليه ولكنه ثقة صدوق
فالجواب أن عبد الملك هذا حافظ ثقة صدوق ولم يتعرض له أحد بجرح البتة وأثنى عليه أئمة زمانه ومن بعدهم وإنما أنكر عليه من أنكر هذا الحديث ظنا منهم أنه مخالف لرواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي ص - الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ولا يحتمل مخالفة العرزمي لمثل الزهري وقد صح هذا عن جابر من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه ومن رواية ابن جريج عن أبي الزبير عنه وعن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه فخالفهم العرزمي ولهذا شهد الأئمة بإنكار حديثه ولم يقدموه على حديث هؤلاء قال مهنا بن يحيى الشامي سألت أحمد بن حنبل عن حديث عبد الملك هذا فقال قد أنكره شعبة فقلت لأي شيء أنكره فقال حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي ص - خلاف ما قال عبد الملك عن عطاء عن جابر عن النبي ص - وسنبين إن شاء الله أن حديث عبد الملك عن جابر لا يناقض حديث أبي سلمة عنه بل مفهومه يوافق منطوقه وسائر أحاديث جابر يصدق بعضها بعضا
وروى جرير بن عبد الحميد عن منصور عن الحكم عن علي وعبد الله قالا قضى رسول الله ص - بالشفعة للجوار وهذا وإن كان منقطعا فإن الثوري رواه عن منصور عن الحكم عمن سمع عليا وعبد الله فهو يصلح للاستشهاد وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد وفي سنن ابن ماجه من حديث شريك القاضي
عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي ص - قال من كان له أرض وأراد بيعها فليعرضها على جاره ورجال هذا الإسناد محتج بهم في الصحيح وفي سنن النسائي من حديث أبي الزبير عن جابر قال قضى رسول الله ص - بالشفعة للجوار رواه عن الفضلي بن موسى الشيباني عن الحسين بن واقد عن أبي الزبير وهو على شرط مسلم وقال شعيب بن أيوب الصريفيني ثنا أبو أمامة عن سعيد بن أبي عروبة ثنا قتادة عن سليمان اليشكري عن جابر ابن عبد الله أن النبي ص - قال من كان له جار في حائط أو شريك فلا يبعه حتى يعرضه عليه وهؤلاء ثقات كلهم وعلة هذا الحديث ما ذكره الترمذي قال سمعت محمدا يعني البخاري يقول سليمان اليشكري يقال إنه مات في حياة جابر بن عبد الله قال ولم يسمع منه قتادة ولا أبو بشر قال ويقال إنما يحدث قتادة عن صحيفة سليمان اليشكري وكان له كتاب عن جابر بن عبد الله قلت وغاية هذا أن يكون كتابا والأخذ عن الكتب حجة وقال محمد بن عمران بن أبي ليلى عن أبيه حدثني ابن أبي ليلى يعني محمد بن عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر عن النبي ص - قال الجار أحق بسقبه ما كان وقال ابن أبي شيبة ثنا وكيع عن هشام بن المغيرة الثقفي قال سمعت الشعبي يقول قال رسول الله ص - الشفيع أولى من الجار والجار أولى من الجنب وإسناده إلى الشعبي صحيح قالوا ولأن حق الأصيل وهو الجار أسبق من حق الدخيل وكل معنى اقتضى ثبوت الشفعة للشريك فمثله في حق الجار فإن الناس يتفاوتون في الجوار تفاوتا فاحشا ويتأذى بعضهم ببعض ويقع بينهم العداوة ما هو معهود والضرر بذلك دائم متأبد ولا يندفع ذلك إلا برضاء الجار إن شاء أقر الدخيل على جواره له وإن شاء انتزع الملك بثمنه واستراح من مؤنة المجاورة ومفسدتها
وإن كان الجار يخاف التأذي بالمجاورة على وجه اللزوم كان كالشريك
يخاف التأذي بشريكه على وجه اللزوم قالوا ولا يرد علينا المستأجر مع المالك فإن منفعة الإجارة لا تتأبد عادة وأيضا فالملك بالإجارة ملك منفعة ولا لزوم بين ملك الجار وبين منفعة دار جاره بخلاف مسألتنا فإن الضرر بسبب اتصال الملك بالملك كما أنه في الشركة حاصل بسبب اتصال الملك بالملك فوجب بحكم عناية الشارع ورعايته لمصالح العباد إزالة الضررين جميعا على وجه لا يضر البائع وقد أمكن ههنا فيبعد القول به فهذا تقرير قول هؤلاء نصا وقياسا
رد المبطلين لسفعة الجوار
قال المبطلون لشفعة الجوار لا تضرب سنة رسول الله ص - بعضها ببعض فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال إنما جعل رسول الله ص - الشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر قال قضى رسول الله ص - بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق قال الشافعي ثنا سعيد بن سالم ثنا ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي ص - أنه قال الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ص - إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها وفي الوطأ من حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قضى رسول الله ص - بالشفعة فيما لم يقسم فإذا صرفت الطرق ووقعت الحدود فلا شفعة وقال سعيد بن منصور ثنا إسماعيل بن زكريا عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عوف بن عبد الله عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال إذا صرفت الحدود وعرف الناس حدودهم فلا شفعة بينهم وقال أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عثمان بن عفان إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها وهذا قول ابن العباس
قالوا لا ريب أن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والإحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسم الموجب لنقض قيمة ملكه عليه
قالوا وقد فرق الله بين الشريك والجار شرعا وقدرا ففي الشركة حقوق لا توجد في الجوار فإن الملك في الشركة مختلط وفي الجوار متميز ولكل من الشريكين على صاحبه مطالبة شرعية ومنع شرعي أما المطالبة ففي القسمة وأما المنع فمن التصرف فلما كانت الشركة محلا للطلب ومحلا للمنع كانت محلا للاستحقاق بخلاف الجوار فلم يجز إلحاق الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف
والمعنى الذي وجبت به الشفعة رفع مؤنة المقاسمة وهي مؤنة كثيرة والشريك لما باع حصته من غير شريكه فهذا الدخيل قد عرضه لمؤنة عظيمة فمكنه الشارع من التخلص منها بانتزاع الشقص على وجه لا يضر بالبائع ولا بالمشتري ولم يمكنه الشارع من الانتزاع قبل البيع لأن شريكه مثله ومساو له في الدرجة فلا يستحق عليه شيئا إلا ولصاحبه مثل ذلك الحق عليه فإذا باع صار المشتري دخيلا والشريك أصيل فرجح جنابه وثبت له الاستحقاق
قالوا وكما أن الشارع يقصد رفع الضرر عن الجار فهو أيضا يقصد رفع الضرر عن المشتري ولا يزيل ضرر الجار بإدخال الضرر على المشتري فإنه محتاج إلى دار يسكنها هو وعياله فإذا سلط الجار على إخراجه وانتزاع داره منه أضر به إضرارا بينا وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا وتطلبه دارا لا جار لها كالمتعذر عليه أو كالمتعسر فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق لئلا يضر الناس بعضهم بعضا ويتعذر على من أراد شراء دار لها جار أن يتم له مقصوده وهذا بخلاف
الشريك وإن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها والشريك يمكنه ذلك بانضمامها إلى ملكه فليس على المشتري ضرر في انتزاعها منه وإعطائه ما اشتراها به
قالوا وحينئذ فتعين حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة فيكون لفظ الجار فيها مرادا به الشريك ووجه هذا الإطلاق المعنى والاستعمال أما المعنى فإن كل جزء من ملك الشريك مجاور لملك صاحبه فهما جاران حقيقة وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران ولذا سميت الزوجة جارة كما قال الأعشى ... أجارتنا بيني فإنك طالقة ...
فتسمية الشريك جارا أولى وأحرى وقال حمل بن مالك كنت بين جارتين لي هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة فأما إن كان المراد بالحق فيها حق الجار على جاره فلا حجة فيها على إثبات الشفعة وأيضا فإنه إنما أثبت له على البائع حق العرض عليه إذا أراد البيع فأين ثبوت حق الانتزاع من المشتري ولا يلزم من ثبوت هذا الحق ثبوت حق الانتزاع فهذا منتهى إقدام الطائفتين في هذه المسألة
خير الأقوال في شفعة الجوار
والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة وإن لم يكن بينهما حق مشترك البتة بل كان كل واحد منهما متميز ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة وهذا الذي نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فإنه سأله عن الشفعة لمن هي فقال إذا كان طريقهما واحدا فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة وهو قول عمر بن عبد العزيز وقول القاضيين سوار بن عبيد الله وعبيد الله بن الحسن العنبري وقال أحمد في رواية
ابن مشيش أهل البصرة يقولون إذا كان الطريق واحدا كان بينهم الشفعة مثل دارنا هذه على معنى حديث جابر الذي يحدثه عبد الملك انتهى
فأهل الكوفة يثبتون شفعة الجوار مع تميز الطرق والحقوق وأهل المدينة يسقطونها مع الاشتراك في الطريق والحقوق وأهل البصرة يوافقون أهل المدينة إذا صرفت الطرق ولم يكن هناك اشتراك في حق من حقوق الأملاك ويوافقون أهل الكوفة إذا اشترك الجاران في حق من حقوق الأملاك كالطريق وغيرها وهذا هو الصواب وهو أعدل الأقوال وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
وحديث جابر الذي أنكره من أنكره علي عبد الملك صريح فيه فإنه قال الجار أحق بسقبه ينتظر به وإن كان غائبا اذا كان طريقهما واحدا فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ونفاها به مع اختلاف الطريق بقوله فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فمفهوم حديث عبد الملك هو بعينه منطوق حديث أبي سلمة فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه لا يعارضه ويناقضه وجابر روى اللفظين فالذي دل عليه حديث أبي سلمة عنه من إسقاط الشفعة عند تصريف الطرق وتمييز الحدود هو بعينه الذي دل عليه حديث عبد الملك عن عطاء عنه بمفهومه والذي دل عليه حديث عبد الملك بمنطوقه هو الذي دلت عليه سائر أحاديث جابر بمفهومها فتوافقت السنن بحمد الله وائتلفت وزال عنها ما يظن بها من التعارض وحديث أبي رافع الذي رواه البخاري يدل على مثل ما دل عليه حديث عبد الملك فإنه دل على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق فإن البيتين كانا في نفس دار سعد والطريق واحد بلا ريب
والقياس الصحيح يقتضي هذا القول فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة
في الملك أو أقرب اليه ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة وأقربها الى العدل وعليه يحمل الاختلاف عن عمر رضي الله عنه فحيث قال لا شفعة ففيما إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق وحيث أثبتها ففيما إذا لم تصرف الطرق فإنه قد روي عنه هذا وهذا وكذلك ما روي عن علي كرم الله وجهه فإنه قال إذا حدت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ومن تأمل أحاديث شفعة الجوار رآها صريحة في ذلك وتبين له بطلان حملها على الشريك وعلى حق الجوار غير الشفعة وبالله التوفيق
فإن قيل بقي عليكم أن في حديث جابر وأبي هريرة فإذا وقعت الحدود فلا شفعة فأسقط الشفعة بمجرد وقوع الحدود وعند أرباب هذا القول إذا حصل الاشتراك في الطريق فالشفعة ثابتة وإن وقعت الحدود وهذا خلاف الحديث
فالجواب من وجهين أحدهما أن من الرواة من اختصر أحد اللفظين ومنهم من جود الحديث فذكرهما ولا يكون إسقاط من اسقط أحد اللفظين مبطلا لحكم اللفظ الآخر الثاني أن تصريف الطرق داخل في وقوع الحدود فإن الطريق إذا كانت مشتركة لم تكن الحدود كلها واقعة بل بعضها حاصل وبعضها منتف فوقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق والله أعلم
فصل السر في الفرق بين بعض الأيام وبعضها الآخر
وأما قوله وحرم صوم أول يوم من شوال وفرض صوم آخر يوم من رمضان مع تساويهما فالمقدمة الأولى صحيحة والثانية كاذبة فليس اليومان
متساويين وإن اشتركا في طلوع الشمس وغروبها فهذا يوم من شهر الصيام الذي فرضه الله على عباده وهذا يوم عيدهم وسرورهم الذي جعله الله تعالى شكران صومهم وإتمامه فهم فيه أضيافه سبحانه والجواد الكريم يحب من ضيفه أن يقبل قراه ويكره أن يمتنع من قبول ضيافته بصوم أو غيره ويكره للضيف أن يصوم إلا بإذن صاحب المنزل فمن أعظم محاسن الشريعة فرض صوم آخر يوم من رمضان فإنه إتمام لما أمر الله به وخاتمة العمل وتحريم صوم أول يوم من شوال فإنه يوم يكون فيه المسلمون أضياف ربهم تبارك وتعالى وهم في شكران نعمته عليهم فأي شيء أبلغ وأحسن من هذا الإيجاب والتحريم
فصل السر في تحريم بعض القريبات وتحليل البعض الآخر
وأما قوله وحرم عليه نكاح بنت أخيه وأخته وأباح له نكاح بنت أخي أبيه وبنت أخت أمه وهما سواء فالمقدمة الأولى صادقة والثانية كاذبة فليستا سواء في نفس الأمر ولا في العرف ولا في العقول ولا في الشريعة وقد فرق الله سبحانه بين القريب والبعيد شرعا وقدرا وفطرة ولو تساوت القرابة لم يكن فرق بين البنت وبنت الخالة وبنت العمة وهذا من أفسد الأمور والقرابة البعيدة بمنزلة الأجانب فليس من الحكمة والمصلحة أن تعطى حكم القرابة القريبة وهذا مما فطر الله عليه العقلاء وما خالف شرعه في ذلك فهو إما مجوسية تتضمن التسوية بين البنت والأم وبنات الأعمام والخالات في نكاح الجميع وإما حرج عظيم على العباد في تحريم نكاح بنات أعمامهم وعماتهم وأخوالهم وخالاتهم فإن الناس ولاسيما العرب أكثرهم بنو عم بعضهم لبعض إما بنوة عم دانية أوقاصية فلو منعوا من ذلك لكان عليهم فيه حرج عظيم وضيق فكان ما جاءت به الشريعة أحسن الأمور وألصقها بالعقول السليمة والفطر المستقيمة والحمد لله رب العالمين
فصل السر في الفرق بين تحميل العاقلة دية الخطأ في النفوس دون الأموال
وأما قوله وحمل العاقلة جناية الخطأ على النفوس دون الاموال قد تقدم أن هذا من محاسن الشريعة وذكرنا من الفرق بين الأموال والنفوس ماأغنى عن إعادته
فصل السر في الفرق بين الحائض والمستحاضة
وأما قوله وحرم وطء الحائض لأجل الأذى وأباح وطء المستحاضة مع وجود الأذى وهما متساويان فالمقدمة الأولى صادقة والثانية فيها إجمال فإن أريد أن أذى الاستحاضة مساو لأذى الحيض كذبت المقدمة وإن أريد أنه نوع آخر من الأذى لم يكن التفريق بينهما تفريقا بين المتساويين فبطل سؤاله على كلا التقديرين
ومن حكمة الشارع تفريقه بينهما فإن أذى الحيض أعظم وأدوم وأضر من أذى الاستحاضة ودم الاستحاضة عرق وهو في الفرج بمنزلة الرعاف في الأنف وخروجه مضر وانقطاعه دليل على الصحة ودم الحيض عكس ذلك ولا يستوي الدمان حقيقة ولاعرفا ولاحكما ولاسببا فمن كمال الشريعة تفريقها بين الدمين في الحكم كما افترقا في الحقيقة وبالله التوفيق
فصل السرفى الفرق بين اتحاد الجنس واختلافه في تحريم الربا
وأما قوله وحرم بيع مد حنطة بمد وحفنة وجوز بيعه بقفيز شعيره فهذا من محاسن الشريعة التي لايهتدي إليها إلا أولو العقول الوافرة ونحن نشير
إلى حكمة ذلك إشارة بحسب عقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة وشرع الرب تعالى وحكمته فوق عقولنا وعباراتنا فنقول
الربا نوعان والحكمة في تحريم النوعين الربا نوعان جلى وخفى فالجلى حرم لما فيه من الضررالعظيم والخفى حرم لأنه ذريعة إلى الجلى فتحريم الأول قصدا وتحريم الثاني وسيلة
ربا النسيئة
فأما الجلى فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافا مؤلفة وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس ويدافع من وقت إلى وقت فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه على غاية الضرر فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله ولم يجيء مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ولهذا كان من أكبر الكبائر
وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه فقال هو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل وقد جعل الله سبحانه الربا ضد الصدقة فالمرابي ضد المتصدق قال الله تعالى يمحق الله الربا ويربي الصدقات وقال وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون وقال يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين ثم ذكر الجنة التي
أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء وهؤلاء ضد المرابين فنهى سبحانه عن الربا الذي هو ظلم للناس وأمر بالصدقة التي هى إحسان إليهم
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال إنما الربا في النسيئة ومثل هذا يراد به حصر الكمال وأن الربا الكامل إنما هو في النسيئة كما قال تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون إلى قوله أولئك هم المؤمنون حقا وكقول ابن مسعود إنما العالم الذي يخشى الله
فصل ربا الفضل والحكمة في تحريمه
وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ص - لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرما والرما هو الربا فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة وذلك أنهم إذا باعوا درهما بدرهمين ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين إما في الجودة وإما في السكة وإما في الثقل والخفة وغير ذلك تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر وهو عين ربا النسيئة وهذه ذريعة قريبة جدا فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدا ونسيئة فهذه حكمة معقولة مطابقة للعقول وهي تسد عليهم باب المفسدة
آراءالعلماء في الأنواع التي يحرم فيها ربا الفضل
فإذا تبين هذا فنقول الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس وتنازعوا فيما عداها فطائفة قصرت التحريم عليها وأقدم من يروي هذا عنه قتادة وهو مذهب أهل الظاهر واختيار
ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس قال لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة وإذا لم تظهر فيه علة امنتع القياس وطائفة حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه وهذا مذهب عمار وأحمد في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة وطائفة خصته بالطعام وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا وهو قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد وطائفة خصته بالطعام إذا كان مكيلا أو موزونا وهو قول سعيد بن المسيب ورواية عن أحمد وقول للشافعي وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه وهو قول مالك وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة العلة فيهما كونهما موزونين وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة وطائفة قالت العلة فيهما الثمنية وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى وهذا هو الصحيح بل الصواب فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ولو جعلت ثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به مددت الأشيام ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرة أو خفافا
ويأخذ ثقالا أكثر منها لصارت متجرا أو جر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع فإذا صارت في أنفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات
فصل السر في تحريم ربا النساء في المطعوم وما يصلح المطعوم
وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها لأنها أقوات العالم وما يصلحها فمن رعاية مصالح العباد أن منعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف ومنعوا من بيع بعضها ببعض حالا متفاضلا وإن اختلفت صفاتها وجوز لهم التفاضل فيها مع اختلاف أجناسها
وسر ذلك والله أعلم أنه لو جوز بيع بعضها ببعض نساء لم يفعل ذلك أحد إلا إذا ربح وحينئذ تسمح نفسه ببيعها حالة لطمعه في الربح فيعز الطعام على المحتاج ويشتد ضرره وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير لا سيما أهل العمود والبوادي وإنما يتناقلون الطعام بالطعام فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النساء فيها كما منعهم من ربا النساء في الأثمان إذ لو جوز لهم النساء فيها لدخلها إما أن تقضي وإما أن تربي فيصير الصاع الواحد لو أخذ قفزانا كثيرة ففطموا عن النساء ثم فطموا عن بيعها متفاضلا يدا بيد إذ تجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نساء وهو عين المفسدة وهذا بخلاف الجنسين والمتباينين فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدها مختلفة ففي إلزامهم المساواة في بيعها إضرار بهم ولا يفعلونه وفي تجويز النساء بينها ذريعة إلى إما أن تقضي وإما أن تربي فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يدا بيد كيف شاءوا فحصلت لهم مصلحة المبادلة واندفعت عنهم مفسدة إما أن تقضي وإما أن تربي وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نساء فإن الحاجة داعية إلى ذلك فلو منعوا
منه لأضر بهم ولامتنع السلم الذي هو من مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيرهم والشريعة لا تأتي بهذا وليس بهم حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نساء وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم وليس بذريعة إلى مفسدة راجحة ومنعوا مما لا تدعو الحاجة إليه ويتذرع به غالبا إلى مفسدة راجحة
يوضح ذلك أن من عنده صنف من هذه الأصناف وهو محتاج إلى الصنف الآخر فإنه يحتاج إلى بيعه بالدراهم ليشتري الصنف الآخر كما قال النبي ص - بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا أو تبيعه بذلك الصنف نفسه بما يساوي وعلى كلا التقديرين يحتاج إلى بيعه حالا بخلاف ما إذا أمكن من النساء فإنه حينئذ يبيعه بفضل ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل لأن صاحب ذلك الصنف يربى عليه كما أربي هو على غيره فينشأ من النساء تضرر بكل واحد منهما والنساء ههنا في صنفين وفي النوع الأول في صنف واحد وكلاهما منشأ الضرر والفساد
وإذا تأملت ما حرم فيه النساء رأيته إما صنفا واحدا أو صنفين مقصودهما واحد أو متقارب كالدراهم والدنانير والبر والشعير والتمر والزبيب فإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النساء كالبر والثياب والحديد والزيت
يوضح ذلك أنه لو مكن من بيع مد حنطة بمدين كان ذلك تجارة حاضرة فتطلب النفوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته فمنعوا من ذلك حتى منعوا من التفرق قبل القبض إتماما لهذه الحكمة ورعاية لهذه المصلحة فإن المتعاقدين قد يتعاقدان على الحلول والعادة جارية بصبر أحدهما على الآخر وكما يفعل أرباب الحيل يطلقون العقد وقد تواطئوا على أمر آخر كما يطلقون عقد النكاح وقد اتفقوا على التحليل ويطلقون بيع السلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن فلو جوز لهم التفرق قبل القبض لأطلقوا
البيع حالا وأخروا الطلب لأجل الربح فيقعوا في نفس المحذور
وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها فهو بمنزلة الدراهم التي يقصد الشارع ألا يفاضل بينها ولهذا قال تبرها وعينها سواء فظهرت حكمة تحريم ربا النساء في الجنس والجنسين وربا الفضل في الجنس الواحد وأن تحريم هذا تحريم المقاصد وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة
فصل السر في إباحة العرايا ونحوها من ربا الفضل
وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا فإن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه وبيع هذا هو الذي أنكره عبادة على معاوية فانه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان وهذا لا يجوز كآلات الملاهي وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها فإنه سفه وإضاعة للصنعة والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه فلم يبق إلا أن يقال لا يجوز بيعها بجنسها البتة بل يبيعها بجنس آخر وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تتقيه الشريعة فإن أكثر الناس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر والحيل باطلة في الشرع وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب وأين هذا من الحاجة إلى بيع
المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس والنصوص الواردة عن النبي ص - ليس فيها ما هو صريح في المنع وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة والجمهور يقولون لم تدخل في ذلك الحلية ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير كقوله الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير وفي الزكاة قوله في الرقة ربع العشر والرقة هي الورق وهي الدراهم المضروبة وتارة بلفظ الذهب والفضة فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيا عن الربا في النقدين وإيجابا للزكاة فيهما ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما بل فيه تفصيل فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها وفي هذا توفية الأدلة حقها وليس فيه مخالفة بشيء لدليل منها
يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان ولهذا لم تجب فيها الزكاة فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع وإن كانت من غير جنسها فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة فلا محذور في بيعها بجنسها ولا يدخلها إما أن تقضي وإما أن تربي إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل ولا ريب أن هذا قد يقع فيها لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين وتضرروا بذلك غاية الضرر
يوضحه أن الناس على عهد نبيهم ص - كانوا يتخذون الحلية وكان النساء يلبسنها وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها والمعلوم بالضرورة أنه كان يعطيها للمحاويج ويعلم أنهم يبيعونها ومعلوم قطعا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارا ولم يكن
عندهم فلوس يتعاملون بها وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه وأعلم بمقاصد رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس
يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه والمنقول عنهم إنما هو في الصرف
يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدا للذريعة كما تقدم بيانه وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا من ربا الفضل وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبيه بالنساء الملعون فاعله وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وتحريم التفاضل إنما كان سدا للذريعة فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع ولاتتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل والحيل باطلة في الشرع وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة المتقومة بالأثمان في الغصوب وغيرها وإذا كان أرباب الحيل يجوزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسا ويقولون الخمسة في مقابلة الخرقة فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلا ورحمة وجلالة بإباحة هذا وتحريم ذلك وهل هذا إلا عكس للعقول والفطر والمصلحة والذي يقضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة حتى منعوا بيع رطل زيت برطل زيت وحرموا بيع الكسب بالسمسم وبيع النشا بالحنطة وبيع الخل بالزبيب ونحو ذلك وحرموا بيع مد حنطة ودرهم بمد ودرهم وجاءوا إلى ربا الفضل النسيئة ففتحوا للتحيل عليه كل باب فتارة بالعينة وتارة بالمحلل وتارة بالشرط المتقدم المتواطأ عليه ثم يطلقون العقد من غير اشتراط
وقد علم الله والكرام الكاتبون والمتعاقدان ومن حضر أنه عقد ربا مقصوده وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة بعشرة نقدا ليس إلا ودخول السلعة كخروجها حرف جاء لمعنى في غيره فهلا فعلوا ههنا كما فعلوا في مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم وقالوا قد يجعل وسيلة إلى ربا الفضل بأن يكون المد في أحد الجانبين يساوي بعض مد في الجانب الآخر فيقع التفاضل فيالله العجب كيف حرمت هذه الذريعة إلى ربا الفضل وأبيحت تلك الذرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتا خالصا وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها ومقابلة الصياغة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الروية التي هي أساس كل مفسدة وأصل كل بلية وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء وبالله التوفيق
فإن قيل الصفات لا تقابل بالزيادة ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر منها من الرديئة وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء ولما أبطل الشارع ذلك علم أنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة
قيل الفرق بين الصنعة التي هي أثر فعل الآدمي وتقابل بالأثمان ويستحق عليها الأجرة وبين الصفة التي هي مخلوقة لله لا أثر للعبد فيها ولا هي من صنعته فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة إذ ذلك يفضي إلى نقض ما شرعه من المنع من التفاضل فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر والعاقل لا يبيع جنسا بجنسه إلا لما هو بينهما من التفاوت فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل ذلك فلو جوز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرم عليهم ربا الفضل وهذا بخلاف الصياغة التي جوز لهم المعاوضة عليها معه
يوضحه أن المعاوضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها مضمونة إلى غير أصلها وجوهرها ولا فرق بينهما في ذلك
يوضحه أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة بع هذا المصوغ بوزنه واخسر صياغتك ولا يقول له لا تعمل هذه الصياغة واتركها ولا يقول له
تحيل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل ولم يقل قط لا تبعه إلا بغير جنسه ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئا من الأشياء بجنسه
فإن قيل فهب أن هذا قد سلم لكم في المصوغ فكيف يسلم لكم في الدراهم والدنانير المضروبة إذا بيعت بالسبائك مفاضلا وتكون الزيادة في مقابلة صناعة الضرب
قيل هذا سؤال قوي وارد وجوابه ان السكة لا تتقوم فيه الصناعة للمصلحة العامة المقصودة منها فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة وإن كان الضارب يضربها بأجرة فإن القصد بها أن تكون معيارا للناس لا يتجرون فيها كما تقدم والسكة فيها غير مقابلة بالزيادة في العرف ولو قوبلت بالزيادة فسدت المعاملة وانتقضت المصلحة التي ضربت لأجلها واتخذها الناس سلعة واحتاجت إلى التقويم بغيرها ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه وإذا أخذ الرجل الدراهم رد نظيرها وليس المصوغ كذلك ألا ترى أن الرجل يأخذ مائة خفافا ويرد خمسين ثقالا بوزنها ولا يأبي ذلك الآخذ ولا القابض ولا يرى أحدهما أنه قد خسر شيئا وهذا بخلاف المصوغ والنبي ص - وخلفاؤه لم يضربوا درهما واحدا وأول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار
فإن قيل فيلزمكم على هذا أن تجوزوا بيع فروع الأجناس بأصولها متفاضلا فجوزوا بيع الحنطة بالخبز متفاضلا والزيت بالزيتون والسمسم بالشيرج
قيل هذا سؤال وارد أيضا وجوابه أن التحريم إنما يثبت بنص أو إجماع أو تكون الصورة المحرمة بالقياس مساوية من كل وجه للمنصوص على تحريمها والثلاثة منتفية في فروع الأجناس مع أصولها وقد تقدم أن غير الأصناف الأربعة لا يقوم مقامها ولا يساويها في إلحاقها بها وأما الأصناف الأربعة ففرعها إن خرج عن كونه قوتا لم يكن من الربويات وإن كانت قوتا كان جنسا قائما بنفسه
وحرم بيعه بجنسه الذي هو مثله متفاضلا كالدقيق بالدقيق والخبز بالخبز ولم يحرم بيعه بجنس آخر وإن كان جنسهما واحدا فلا يحرم السمسم بالشيرج ولا الهريسة بالخبز فإن هذه الصناعة لها قيمة فلا تضيع على صاحبها ولم يحرم بيعها بأصولها في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا حرام إلا ما حرمه الله كما أنه لا عبادة إلا ما شرعها الله وتحريم الحلال كتحليل الحرام
الكلام في بيع اللحم بالحيوان
فإن قيل فهذا ينتقض عليكم ببيع اللحم بالحيوان فإنكم إن منعتموه نقضتم قولكم وإن جوزتموه خالفتم النص وإذا كان النص قد منع من بيع اللحم بالحيوان فهو دليل على المنع من بيع الخبز بالبر والزيت بالزيتون وكل ربوي بأصله
قيل الكلام في هذا الحديث في مقامين أحدهما في صحته والثاني في معناه أما الأول فهو حديث لا يصح موصولا وإنما هو صحيح مرسلا فمن لم يحتج بالمرسل لم يرد عليه ومن رأى قبول المرسل مطلقا أو مراسيل سعيد بن المسيب فهو حجة عنده قال أبو عمر لا أعلم حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان متصلا عن النبي ص - من وجه ثابت وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب كما ذكره مالك في موطئه وقد اختلف الفقهاء في القول بهذا الحديث والعمل به والمراد منه فكان مالك يقول معنى الحديث تحريم التفاضل في الجنس الواحد حيوانه بلحمه وهو عنده من باب المزابنة والغرر والقمار لأنه لا يدري هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلا فكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المغيب في جلده بلحم إذا كانا من جنس واحد قال وإذا اختلف الجنسان فلا خلاف عن مالك وأصحابه أنه جائز حينئذ بيع اللحم بالحيوان وأما أهل الكوفة كأبي حنيفة وأصحابه فلا يأخذون بهذا الحديث
ويجوزون بيع اللحم بالحيوان مطلقا وأما أحمد فيمنع بيعه بحيوان من جنسه ولا يمنع بيعه بغير جنسه وإن منعه بعض أصحابه وأما الشافعي فيمنع بيعه بجنسه وبغير جنسه وروى الشافعي عن ابن عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر الصديق فقسمت على عشرة أجزاء فقال رجل أعطوني جزءا منها بشاة فقال أبو بكر لا يصلح هذا قال الشافعي ولست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفا من الصحابة والصواب في هذا الحديث إن ثبت أن المراد به إذا كان الحيوان مقصودا للحم كشاة يقصد لحمها فتباع بلحم فيكون قد باع لحما بلحم أكثر منه من جنس واحد واللحم قوت موزون فيدخله ربا الفضل وأما إذا كان الحيوان غير مقصود به اللحم كما إذا كان غير مأكول أو مأكولا لا يقصد لحمه كالفرس تباع بلحم إبل فهذا لا يحرم بيعه به بقي إذا كان الحيوان مأكولا لا يقصد لحمه وهو من غير جنس اللحم فهذا يشبه المزابنة بين الجنسين كبيع صبرة تمر بصبرة زبيب وأكثر الفقهاء لا يمنعون من ذلك إذ غايته التفاضل بين الجنسين والتفاضل المتحقق جائز بينهما فكيف بالمظنون وأحمد في إحدى الروايتين عنه يمنع ذلك لا لأجل التفاضل ولكن لأجل المزابنة وشبه القمار وعلى هذا فيمتنع بيع اللحم بحيوان من غير جنسه والله أعلم
فصل الفرق بين مدة الإحداد على الزوج وغيره
وأما قوله ومنع المرأة من الإحداد على أمها وأبيها فوق ثلاث وأوجبه على زوجها أربعة أشهر وعشرا وهو أجنبي فيقال هذا من تمام محاسن هذه الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح العباد على أكمل الوجوه فإن الإحداد على الميت من تعظيم مصيبة الموت التي كان أهل الجاهلية يبالغون فيها أعظم مبالغة
ويضيفون إلى ذلك شق الجيوب ولطم الخدود وحلق الشعور والدعاء بالويل والثبور وتمكث المرأة سنة في أضيق بيت وأوحشه لا تمس طيبا ولا تدهن ولا تغتسل إلى غير ذلك مما هو تسخط على الرب تعالى وأقداره فأبطل الله سبحانه برحمته ورأفته سنة الجاهلية وأبدلنا بها الصبر ومحمد والاسترجاع الذي هو أنفع للمصاب في عاجلته وآجلته ولما كانت مصيبة الموت لا بد أن تحدث للمصاب من الجزع والألم والحزن مما تتقاضاه الطباع سمح لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك وهو ثلاثة أيام تجدبها نوع راحة وتقضي بها وطرا من الحزن كما رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا وما زاد على الثلاث فمسدته راجحة فمنع منه بخلاف مفسدة الثلاث فإنها مرجوحة مغمورة بمصلحتها فإن فطام النفوس على مألوفاتها بالكلية من أشق الأمور عليها فأعطيت بعض الشيء ليسهل عليها ترك الباقي فإن النفس إذا أخذت بعض مرادها قنعت به فإن سئلت ترك الباقي كانت إجابتها إليه أقرب من إجابتها لو حرمت بالكلية
ومن تأمل أسرار الشريعة وتدبر حكمها رأى ذلك ظاهرا على صفحات أوامرها ونواهيها باديا لمن نظره نافذ فإذا حرم عليهم شيئا عوضهم عنه بما هو خير لهم وأنفع وأباح لهم منه ما تدعو حاجتهم إليه ليسهل عليهم تركه كما حرم عليهم بيع الرطب بالتمر وأباح لهم منه العرايا وحرم عليهم النظر إلى الأجنبية وأباح لهم منه نظر الخاطب والمعامل والطبيب وحرم عليهم أكل المال بالمغالبات الباطلة كالنرد والشطرنج وغيرهما وأباح لهم أكله بالمغالبات النافعة كالمسابقة والنضال وحرم عليهم لباس الحرير وأباح لهم منه اليسير الذي تدعو الحاجة إليه وحرم عليهم كسب المال بربا النسيئة وأباح لهم كسبه بالسلم وحرم عليهم في الصيام وطء نسائهم وعوضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلا فسهل عليهم تركه بالنهار وحرم عليهم الزنا وعوضهم بأخذ ثانية
وثالثة ورابعة ومن الإماء ما شاءوا فسهل عليهم تركه غاية التسهيل وحرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم عنه بالاستخارة ودعائها ويا بعد ما بينهما وحرم عليهم نكاح أقاربهم وأباح لهم منه بنات العم والعمة والخال والخالة وحرم عليهم وطء الحائض وسمح لهم في مباشرتها وأن يصنعوا بها كل شيء إلا الوطء فسهل عليهم تركه غاية السهولة وحرم عليهم الكذب وأباح لهم المعاريض التي لا يحتاج من عرفها إلى الكذب معها البتة وأشار إلى هذا ص - بقوله إن في المعاريض مندوحة عن الكذب وحرم عليهم الخيلاء بالقول والفعل وأباحها لهم في الحرب لما فيها من المصلحة الراجحة الموافقة لمقصود الجهاد وحرم عليهم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وعوضهم عن ذلك بسائر أنواع الوحوش والطير على اختلاف أجناسها وأنواعها وبالجملة فما حرم عليهم خبيثا ولا ضارا إلا أباح لهم طيبا بإزائه أنفع لهم منه ولا أمرهم بأمر إلا وأعانهم عليه فوسعتهم رحمته ووسعهم تكليفه
والمقصود أنه أباح للنساء لضعف عقولهن وقلة صبرهن الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام وأما الإحداد على الزوج فإنه تابع للعدة وهو من مقتضياتها ومكملاتها فإن المرأة إنما تحتاج إلى التزين والتجمل والتعطر لتتحبب إلى زوجها وترد لها نفسه ويحسن ما بينهما من العشرة فإذا مات الزوج واعتدت منه وهي لم تصل إلى زوج آخر فاقتضى تمام حق الأول وتأكيد المنع من الثاني قبل بلوغ الكتاب أجله أن تمنع مما تصنعه النساء لأزواجهن مع ما في ذلك من سد الذريعة إلى طمعها في الرجال وطمعهم فيها بالزينة والخضاب والتطيب فإذا بلغ الكتاب أجله صارت محتاجة إلى ما يرغب في نكاحها فأبيح لها من ذلك ما يباح لذات الزوج فلا شيء أبلغ في الحسن من هذا المنع والإباحة ولو اقترحت عقول العالمين لم تقترح شيئا أحسن منه
فصل الحكمة في مساواة المرأة للرجل في بعض الأحكام دون بعض
وأما قوله وسوى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والحدود وجعلها على النصف منه في الدية والشهادة والميراث والعقيقة فهذا أيضا من كمال شريعته وحكمتها ولطفها فإن مصلحة العبادات البدنية ومصلحة العقوبات الرجال والنساء مشتركون فيها وحاجة أحد الصنفين إليها كحاجة النصف الآخر فلا يليق التفريق بينهما نعم فرقت بينهما في أليق المواضع بالتفريق وهو الجمعة والجماعة فخص وجوبهما بالرجال دون النساء لأنهن لسن من أهل البروز ومخالطة الرجال وكذلك فرقت بينهما في عبادة الجهاد التي ليس الإناث من أهلها وسوت بينهما في وجوب الحج لاحتياج النوعين إلى مصلحته وفي وجوب الزكاة والصيام والطهارة وأما الشهادة فإنما جعلت المرأة فيها على النصف من الرجل لحكمة أشار إليها العزيز الحكيم في كتابه وهي أن المرأة ضعيفة العقل قليلة الضبط لما تحفظه وقد فضل الله الرجال على النساء في العقول والفهم والحفظ والتمييز فلا تقوم المرأة في ذلك مقام الرجل وفي منع قبول شهادتها بالكلية إضاعة لكثير من الحقوق وتعطيل لها فكان من أحسن الأمور وألصقها بالعقول أن ضم إليها في قبول الشهادة نظيرها لتذكرها إذا نسيت فتقوم شهادة المرأتين مقام شهادة الرجل ويقع من العلم أو الظن الغالب بشهادتهما ما يقع بشهادة الرجل الواحد وأما الدية فلما كانت المرأة أنقص من الرجل والرجل أنفع منها ويسد ما لا تسده المرأة من المناصب الدينية والولايات وحفظ الثغور والجهاد وعمارة الأرض وعمل الصنائع التي لا تتم مصالح العالم إلا بها والذب عن الدنيا والدين لم تكن قيمتهما مع ذلك متساوية وهي الدية فإن دية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال فاقتضت حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته لتفاوت ما بينهما
فإن قيل لكنكم نقضتم هذا فجعلتم ديتهما متساوية سواء فيما دون الثلث
قيل لا ريب أن السنة وردت بذلك كما رواه النسائي من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله ص - عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها وقال سعيد بن المسيب إن ذلك من السنة وإن خالف فيه أبو حنيفة والشافعي والليث والثوري وجماعة وقالوا هي على النصف في القليل والكثير ولكن السنة أولى والفرق فيما دون الثلث وما زاد عليه أن ما دونه قليل فجبرت مصيبة المرأة فيه بمساواتها للرجل ولهذا استوى الجنين الذكر والأنثى في الدية لقلة ديته وهي الغرة فنزل ما دون الثلث منزلة الجنين
وأما الميراث فحكمة التفضيل فيه ظاهرة فإن الذكر أحوج إلى المال من الأنثى لأن الرجال قوامون على النساء والذكر أنفع للميت في حياته من الأنثى وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله بعد أن فرض الفرائض وفاوت بين مقاديرها آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا وإذا كان الذكر أنفع من الأنثى وأحوج كان أحق بالتفضيل
فإن قيل فهذا ينتقض بولد الأم
قيل بل طرد هذه التسوية بين ولد الأم ذكرهم وأنثاهم فإنهم إنما يرثون بالرحم المجرد فالقرابة التي يرثون بها قرابة أنثى فقط وهم فيها سواء فلا معنى لتفضيل ذكرهم على أنثاهم بخلاف قرابة الأب
وأما العقيقة فأمر التفضيل فيها تابع لشرف الذكر وما ميزه الله به على الأنثى ولما كانت النعمة به على الوالد أتم والسرور والفرحة به أكمل كان الشكران عليه أكثر فإنه كلما كثرت النعمة كان شكرها أكثر والله أعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق