قال قلت للبراء بن عازب حدثني ما كره أو نهى عنه النبي ص - فقال أربع لا تجزىء في الأضاحي فذكر الحديث قال فإني أكره أن تكون ناقصة القرن أو الأذن قال فما كرهت منه فدعه ولا تحرمه على أحد ولم يأذن له في القياس على الأربع ولم يقس عليها هو ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم
وقال عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه ص - وأنزل عليه كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو
وقال عمر بن الخطاب قد وضحت الأمور وتبينت السنة ولم يترك لأحد منكم متكلم إلا أن يضل عبد
وقال ابن مسعود من أتى الأمر على وجهه فقد بين له وإلا فوالله مالنا طاقة بكل ما تحدثون ولو كان القياس من الدين لكان له ولغيره طاقة بقياس كل ما يرد عليهم على نظيره بوصف جامعي شبهي وإذا كان القياسيون لا يعجزون عن ذلك فكيف الصحابة ولو كان القياس من الدين لكان الجميع مبينا ولما قسم ابن مسعود وغيره ما يرد عليهم إلى ما بينه الله وإلى ما لم يبينه فإن الله على قولكم قد بين الجميع بالنص والقياس
فإن قيل فهذا ينقلب عليكم فإنكم تقولون إن الله سبحانه قد بين الجميع
قلنا ما بينه الله سبحانه نطقا فقد بين حكمه وما لم يبينه نطقا بل سكت عنه فقد بين لنا أنه عفو وأما القياسيون فيقولون ما سكت عنه بين أن حكمه حكم ما تكلم به وفرق عظيم بين الأمرين ونحن أسعد بالبيان النطقي والسكوتي منكم لتعميمنا البيانين وعدم تناقضنا فيهما وبالله التوفيق
وقد تقدم قول ابن مسعود ليس عام إلا والذي بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم
وتقدم قول عمر العلم ثلاثة كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري وقوله لأبي الشعثاء لا تفتين إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية
وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني قال سمعت عبد الله بن أبي أوفي يقول نهى رسول الله ص - عن نبيذ الجر الأخضر قلت فالأبيض قال لا أدري ولم يقل وأي فرق بين الأخضر والأبيض كما يبادر أليه القياسيون
وقال الزهري كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله ص - فأولئك جهالكم ومعلوم أن القياس خارج عن كليهما
وتقدم قول معاذ تكون فتن يكثر فيها المال ويفتح القرآن حتى يقرأه الرجل والمرأة والكبير والصغير والمؤمن والمنافق ويقرأه الرجل فلا يتبع فيقول والله لأقرأنه علانية فيقرأه علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا ويبتدع فكل ما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله فإياكم وإياه فإنها بدعة وضلالة
وقال عبد العزيز بن المطلب عن ابن مسعود إنكم إن عملتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم عليكم وحرمتم كثيرا مما أحل لكم
وقال الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عباس من أحدث رأيا
ليس من كتاب الله ولم تمض به سنة رسول الله ص - لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله تعالى
وقال أبو حنيفة حدثنا جرير عن مجاهد أن عمر نهى عن المكايلة يعني المقايسة
وقال الأثرم ثنا أبو بكر بن أبي سيبة ثنا جعفر بن غياث عن أبيه عن مجاهد قال قال عمر إياك والمكايلة يعنى المقايسة وقال الأثرم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن حبيب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال قال عبد الله يا أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثا فعليكم بالأمر الأول
فصل التابعون يذمون القياس
وكذلك أئمة التابعين وتابعوهم يصرحون بذم القياس وإبطاله والنهي عنه
قال الطحاوي ثنا ابن علية حدثني عمرو بن أبي عمران ثنا يحيى بن سليمان الطائفي حدثني داود بن أبي هند قال سمعت محمد بن سيرين يقول القياس شؤم وأول من قاس إبليس فهلك وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس
وقال ابن وهب أخبرني مسلم بن علي أن شريحا الكندي هو القاضي قال إن السنة سبقت قياسكم
وقال ابن أبي حاتم ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ثنا وهب بن إسماعيل عن داود الأودي قال قال لي الشعبي احفظ عني ثلاثا لها بيان إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك أرأيت فإن الله قال في كتابه أرأيت من اتخذ إلهه هواه حتى فرغ من الآية الأولى والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشيء فربما حرمت حلالا أو حللت حراما وإذا سئلت عما لا تعلم فقل لا أعلم وأنا شريكك
وقال ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن أبي عيسى عن الشعبي أنه سمعه يقول إياكم والمقايسة فوالذي نفسي بيده إن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال ولكن ما بلغكم من أصحاب رسول الله ص - فاحفظوه
وقال الطحاوي ثنا يوسف بن يزيد القراطيسي ثنا سعيد بن منصور ثنا جرير بن عبد الحميد عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي قال السنة لم توضع بالقياس
وقال الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا صالح بن مسلم قال قال لي عامر الشعبي يوما وهو آخذ بيدي إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس
وقال عباس بن الفرج الرياشي عن الأصمعي أنه قيل له إن الخليل بن أحمد يبطل القياس فقال أخذ هذا عن إياس بن معاوية
وقال علي بن عبد العزيز البغوي ثنا أبو الوليد القرشي أخبرنا محمد بن عبد الله بن بكار القرشي ثنا سليمان بن جعفر ثنا محمد بن يحيى الربعي عن ابن شبرمة أن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال لأبي حنيفة اتق الله ولا تقس فإنا غدا نقف نحن ومن خالفنا بين يدي الله فنقول قال رسول الله ص - قال الله وتقول أنت وأصحابك رأينا وقسنا فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء
وبهذا الإسناد إلى ابن شبرمة قال دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد بن الحنفية فسلمت عليه وكنت له صديقا ثم أقبلت على جعفر وقلت له أمتع الله بك هذا رجل من أهل العراق وله فقه وعقل فقال لي جعفر لعله الذي يقيس الدين برأيه ثم أقبل علي فقال أهو النعمان فقال له أبو حنيفة نعم أصلحك الله فقال له جعفر اتق الله ولا تقس الدين برأيك
فإن أول من قاس إبليس إذ أمره الله بالسجود لآدم فقال أنا أخير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ثم قال لأبي حنيفة أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان فقال لا أدري قال جعفر هي لا إله إلا الله فلو قال لا إله ثم أمسك كان مشركا فهذه كلمة أولها شرك وآخرها إيمان ثم قال له ويحك أيهما أعظم عند الله قتل النفس التي حرم الله أو الزنا قال بل قتل النفس فقال له جعفر إن الله قد قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة فكيف يقوم لك قياس ثم قال أيهما أعظم عند الله الصوم أو الصلاة قال بل الصلاة قال فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة اتق الله يا عبد الله ولا تقس فإنا نقف غدا نحن وأنت بين يدي الله فنقول قال الله تعالى وقال رسول الله ص - وتقول أنت وأصحابك قسنا ورأينا فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء
وقال ابن وهب سمعت مالك بن أنس يقول الزم ما قاله رسول الله ص - في حجة الوداع أمران تركتهما لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه
قال ابن وهب وقال مالك كان رسول الله ص - إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء فإذا كان رسول رب العالمين لا يجيب إلا بالوحي وإلا لم يجب فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب برأيه أو قياس أو تقليد من يحسن به الظن أو عرف أو عادة أو سياسة أو ذوق أو كشف أو منام أو استحسان أو خرص والله المستعان وعليه التكلان
وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو ثنا يزيد بن عبد ربه قال سمعت وكيع بن الجراح يقول ليحيى بن صالح الوحاظي يا أبا زكريا احذر ا لرأي فإني سمعت أبا حنيفة يقول البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم
وقال عبد الرزاق قال لي حماد بن أبي حنيفة قال أبي من لم يدع القياس في مجلس القضاء لم يفقه
فهذا أبو حنيفة يقول إنه لا يفقه من لم يدع القياس في موضع الحاجة إليه وهو مجلس القضاء قالوا فتبا لكل شيء لا يفقه المرء إلا بتركه
وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن شبرمة ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس
وقال داود بن الزبرقان عن مجالد بن سعيد قال حدثنا الشعبي يوما قال يوشك أن يصير الجهل علما والعلم جهلا قالوا وكيف يكون هذا يا أبا عمرو قال كنا نتبع الآثار وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فأخذ الناس في غير ذلك وهو القياس
وقال وكيع حدثنا عيسى الخياط عن الشعبي قال لأن أتعنى بعنية أحب إلي من أن أقول في مسألة برأي
قلت رواه أبو محمد بن قتيبة بالعين المهملة وعنية بوزن غنية ثم فسره بأن العنية أخلاط تنقع في أبوال الإبل حينا حتى تطلى بها الإبل من الجرب
وقال الأثرم حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن جابر عن الشعبي عن مسروق قال لا أقيس شيئا بشيء قيل لم قال أخشى أن تزل رجلي
وسئل عن مسألة فقال لا أدري فقيل له فقس لنا برأيك فقال أخاف أن تزل قدمي
وكان يقول إياكم والقياس والرأي فإن الرأي قد يزل
وكان الشعبي يقول لا تجالس أصحاب القياس فتحل حراما أو تحرم حلالا
وقال الخلال ثنا أبو بكر المروزي قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل ينكر على أصحاب القياس ويتكلم فيه بكلام شديد
وقال الأثرم ثنا محمد بن كناسة ثنا صالح بن مسلم عن الشعبي قال لقد بغض إلي هؤلاء القوم هذا المسجد حتى لهو أبغض إلى من كناسة داري قلت من هم يا أبا عمرو قال هؤلاء الآرائيون أرأيت أرأيت
وقال حماد بن يزيد عن مطر الوراق قال ترك أصحاب الرأي الآثار والله
وقال محمد بن خاقان سمعت ابن المبارك في آخر خرجة خرج فقلنا له أوصنا فقال لا تتخذوا الرأي إماما
فصل تناقض القياس
قالوا ولو كان القياس حجة لما تعارضت الأقيسة وناقض بعضها بعضا فترى كل واحد من المتنازعين من أرباب القياس يزعم أن قوله هو القياس فيبدي منازعه قياسا آخر ويزعم أنه هو القياس وحجج الله وبيناته لا تتعارض ولا تتهافت
قالوا فلو جاز القول بالقياس في الدين لأفضى إلى وقوع الاختلاف الذي حذر الله منه ورسوله بل عامة الاختلاف بين الأمة إنما نشأ من جهة القياس فإنه إذا ظهر لكل واحد من المجتهدين قياس مقتضاه نقيض حكم الآخر اختلف ولا بد وهذا يدل على أنه من عند غير الله من ثلاثة أوجه أحدهما صريح قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا الثاني أن الاختلاف سببه اشتباه الحق وخفاؤه وهذا لعدم العلم الذي يميز بين الحق والباطل الثالث أن الله سبحانه ذم الاختلاف في كتابه ونهى عن التفرق والتنازع فقال شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقال
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقال إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقال وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وقال فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون والزبر الكتب أي كل فرقة صنفوا كتبا أخذوا بها وعملوا بها ودعوا إليها دون كتب الآخرين كما هو الواقع سواء وقال يوم تبيض وجوه وتسود وجوه قال ابن عباس تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف
وقال النبي ص - لا تختلفوا فتختلف قلوبكم وقال اقرأوا القرآن ما ائتلف عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا وكان التنازع والاختلاف أشد شيء على رسول الله ص - وكان إذا رأى من الصحابة اختلافا يسيرا في فهم النصوص يظهر في وجهه حتى كأنما فقىء فيه حب الرمان ويقول أبهذا أمرتم ولم يكن أحد بعده أشد عليه الاختلاف من عمر رضي الله عنه وأما الصديق فصان الله خلافته عن الاختلاف المستقر في حكم واحد من أحكام الدين وأما خلافة عمر فتنازع الصحابة تنازعا يسيرا في قليل من المسائل جدا وأقر بعضهم بعضا على اجتهاده من غير ذم ولا طعن فلما كانت خلافة عثمان اختلفوا في مسائل يسيرة صحب الاختلاف فيها بعض الكلام واللوم كما لام علي عثمان في أمر المتعة وغيرها ولامه عمار بن ياسر وعائشة في بعض مسائل قسمة الأموال والولايات فلما أفضت الخلافة إلى علي كرم الله وجهه في الجنة صار الاختلاف بالسيف
مضار الاختلاف
والمقصود أن الاختلاف مناف لما بعث الله به رسوله قال عمر رضي الله عنه لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا ولما سمع أبي ابن كعب وابن مسعود يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين
صعد المنبر وقال رجلان من أصحاب النبي ص - اختلفا فعن أي فتياكم يصدر المسلمون لا أسمع اثنين اختلفا بعد مقامي هذا إلا صنعت وصنعت وقال علي كرم الله وجهه في الجنة في خلافته لقضاته اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف وأرجو أن أموت كما مات أصحابي
وقد أخبر النبي ص - أن هلاك الأمم من قبلنا إنما كان باختلافهم على أنبيائهم وقال أبو الدرداء وأنس وواثلة بن الأسقع خرج علينا رسول الله ص - ونحن نتنازع في شيء من الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله قال ثم انتهرنا قال يا أمة محمد لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار ثم قال أبهذا أمرتم أو ليس عن هذا نهيتم إنما هلك من كان قبلكم بهذا وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا جلسنا مجلسا في عهد رسول الله ص - كأنه أشد اغتباطا فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر فلما رأيناهم اعتزلناهم ورسول الله ص - خلف الحجرة يسمع كلامهم فخرج علينا رسول الله ص - مغضبا يعرف في وجهه الغضب حتى وقف عليهم وقال يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضا ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به ثم التفت فرآني أنا وأخي جالسين فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم قال البخاري رأيت أحمد بن حنبل وعلي ابن عبد الله والحميدي وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقال أحمد بن صالح أجمع آل عبد الله على أنها صحيفة عبد الله
لا قياس أولى من قياس
قالوا وأيضا فإذا اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين فإما أن يقال كل مجتهد مصيب فيلزم أن يكون الشيء وضده صوابا وإما أن يقال المصيب
واحد وهو القول الصواب ولكن ليس أحد القياسين بأولى من الآخر ولا سيما قياس الشبه فإن الفرع قد يكون فيه وصفان شبيهان للشيء وضده فليس جعل أحدهما صوابا دون الآخر بأولى من العكس
قالوا وأيضا فالنبي ص - قال أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا وجوامع الكلم هي الألفاظ الكلية العامة المتناولة لأفرادها فإذا انضاف ذلك إلى بيانه الذي هو أعلى رتب البيان لم يعدل عن الكلمة الجامعة التي في غاية البيان لما دلت عليه إلى لفظ أطوال منها وأقل بيانا مع أن الكلمة الجامعة تزيل الوهم وترفع الشك وتبين المراد
فكان يقول لا تبيعوا كل مكيل ولا موزون بمثله إلا سواء بسواء فهذا أخصر وأبين وأدل من أن يذكر ستة أنواع ويدل بها على مالا ينحصر من الأنواع فكمال علمه ص - وكمال شفقته ونصحه وكمال فصاحته وبيانه يأبى بذلك
قالوا وأيضا فحكم القياس إما أن يكون موافقا للبراءة الأصلية وإما أن يكون مخالفا لها فإن كان موافقا لم يفد القياس شيئا لأن مقتضاه متحقق بها وإن كان مخالفا لها امتنع القول به لأنها متيقنة فلا ترفع بأمر لا تتيقن صحته إذ اليقين يمتنع رفعه بغير يقين
قالوا وأيضا فإن غالب القياسات التي رأينا القياسيين يستعملونها رجم بالظنون وليس ذلك من العلم في شيء ولا مصلحة للأمة في اقتحامهم ورطات الرجم بالظنون حتى يخبطوا فيها خبط عشواء في ظلماء ويحكموا بها على الله ورسوله
قالوا وأيضا فقول القياسي هذا حلال وهذا حرام هو خبر عن الله سبحانه أنه أحل كذا وحرمه وأنه أخبر عنه بأنه حلال أو حرام فإن حكم الله خبره فكيف يجوز لأحد أن يشهد على الله أنه أخبر بما لم يخبر به هو ولا رسوله قال الله تعالى فإن شهدوا فلا تشهد معهم
قالوا وأيضا فالقياس لا بد فيه من علة مستنبطة من حكم الأصل والحكم في الأصل احتمل أن يكون لنا طريق إلى العلم بعلته واحتمل أن لا يكون لنا طريق وإذا كان لنا طريق احتمل أن يكون معللا وأن يكون غير معلل وإذا كان معللا احتمل أن تكون العلة هي هذه المعينة وأن تكون جزء علة وأن تكون العلة غيرها وإذا ظهرت العلة احتمل أن لا تكون في الفرع وإذا كانت فيه احتمل أن يتخلف الحكم عنها لمعارض آخر وما هذا شأنه كيف يكون من حجج الله وبيناته وأدلة الأحكام التي هدى الله بها عباده
قالوا وأيضا فلو كان القياس حجة لأفضى ذلك إلى تكافؤ الأدلة الشرعية وهو محال فإنه قد يتردد فرع بين أصلين أحدهما التحريم والآخر الإباحة فإذا ظهر في نظر المجتهد شبه الفرع بكل واحد منهما لزم الحكم بالحل والحرمة في شيء واحد وهو محال
قالوا وأيضا فليس قياس الفرع على الأصل في تعدية حكمه إليه أولى من قياسه عليه في عدم ثبوته بغير النص فحينئذ فنقول حكم الفرع حكم من أحكام الشرع فلا يجوز ثبوته بغير النص كحكم الأصل فما الذي جعل قياسكم أولى من هذا ومعلوم أن هذا أقرب إلى النصوص وأشد موافقة لها من قياسكم وهذا ظاهر
قالوا وأيضا فحكم الله بإيجاب الشيء يتضمن محبته له وإرادته لوجوده وعلمه بأنه أوجبه وكلامه الطلبي والخبري وجعل فعله سببا لمحبته لعبده ورضاه عنه وإثباته عليه وتركه سببا لضد ذلك ولا سبيل لنا إلى العلم بهذا إلا من
خبر الله عن نفسه أو خبر رسوله عنه فكيف يعلم ذلك بقياس أو رأي هذا ظاهر الامتناع
لم يستعمل القياس كحجة في زمن الرسول
قالوا ولو كان القياس من حجج الله وأدلة أحكامه لكان حجة في زمن النبي ص - كسائر الحجج فلما لم يكن حجة في زمنه ص - لم يكن حجة بعده
وتقرير هذه الحجة بوجهين أحدهما أن الصحابة لم يكن أحد منهم يقيس على ما سمع منه ص - ما لم يسمع ولو كان هو معقول النصوص لكان تعدية الحكم به وشمول المعنى كتعدية الحكم باللفظ وشموله لجميع أفراده وذلك لا يختص بزمان دون زمان فلما قلتم لا يكون القياس في زمن النص علم أنه ليس بحجة الوجه الثاني أن تعلق النصوص بالصحابة كتعلقها بمن بعدهم ووجوب اتباعها على الجميع واحد
قالوا ولأنا لسنا على ثقة من عدم تعليق الشارع الحكم بالوصف الذي بيديه القياسيون وأنه إنما علق الحكم بالاسم بحيث يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه بل تعليق الحكم بالاسم تعليق بما لنا طريق إلى العلم به طردا وعكسا بخلاف تعليقه بالوصف الشبهي فإنه خرص وحزر وما كان هكذا لم ترد به الشريعة
قالوا ولأن الأصل عدم العمل بالظنون إلا فيما تيقنا أن الشرع أوجب علينا العمل به للأدلة الدالة على تحريم اتباع الظنون فمعنا منع يقيني من اتباع الظن فلا نتركه إلا بيقين يوجب اتباعه
قالوا ولأن تشابه الفرع والأصل يقتضي ألا يثبت الفرع إلا بما يثبت به الأصل فإن كان القياس حقا لزم توقف الفرع في ثبوته على النص كالأصل فالقول بالقياس من أبين الأدلة على بطلان القياس
قالوا ولأن الحكم لا يخلو إما أن يتعلق بالاسم وحده أو بالوصف المشترك وحده أو بهما فإن تعلق بالاسم وحده أو بهما بطل القياس وإن تعلق
بالوصف المشترك بينهما لزم أمران محذوران أحدهما إلغاء الاسم الذي اعتبره الشارع فإن الوصف إذا كان أعم منه وكان هو المستقل بالحكم كان الأخص وهو الاسم عديم التأثير الثاني أنه إذا كان الاسم عديم التأثير لم يكن جعل ما دل عليه أصلا لما سكت عنه أولى من العكس إذ التأثير للوصف وحده بل يلزم أن لا يكون هناك فرع وأصل بل تكون الصورتان فردين من أفراد العموم المعنوي كما يكون أفراد العام لفظا كذلك ليس بعضها أصلا لبعض
قالوا ولا ريب أن البيان بالألفاظ العامة أعلى من البيان بالقياس فكيف يعدل الشارع مع كمال حكمته عن البيان الجلي إلى البيان الأخفى
قالوا ونسأل القياسي عن محل القياس أيجب في الشيئين إذا تشابها من كل وجه أم إذا اشتبها من بعض الوجوه وإن اختلفا في بعضها فإن قال بالأول ترك قوله وادعى محالا إذ ما من شيئين إلا وبينهما جامع وفارق وإن قال بالثاني قيل له فهلا حكمت للفرع بضد حكم الأصل من أجل الوجه الذي خالفه فيه فإن كانت تلك جهة وفاق تدل على الائتلاف فهذه جهة افتراق تدل على الاختلاف فليس إلحاق صور النزاع بموجب الوفاق أولى من إلحاقه بموجب الافتراق
قالوا ولا ينفعه الاعتذار بأنه متى وقع الاتفاق في المعنى الذي ثبت الحكم من أجله عديت الحكم وإلا فلا
قيل له إذا كان في الأصل عدة أوصاف فتعيينك أن هذا الوصف الذي من أجله شرع الحكم قول بلا علم وقد عارضك فيه منازعوك فادعوا أن الحكم شرع لغير ما ذكرت مثاله أن الشارع لما نص على ربا الفضل في الأعيان المذكورة في الحديث فقال قائل إن المعنى الذي حرم التفاضل لأجله هو الكيل في المكيلات والوزن في الموزونات قال له منازعه لا بل كونها مطعومة
فقال آخر لا بل هو كونها مقتاتة ومدخرة فقال آخر لا بل كونها تجري فيها الزكاة فقال آخر لا بل كونها جنسا واحدا وكل فريق يزعم أن الصواب ما ادعاه دون منازعه ويقدح فيما ادعاه الآخر ولا يتهيأ له قدح في قول منازعه إلا ويتهيأ لمنازعه مثله أو أكثر منه أو دونه فلو ظن آخرون فقالوا العلة كونه مما تنبته الأرض واحتج بأن الله سبحانه امتن على عباده بما تنبته لهم الأرض وقال يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وقال إن من تمام النعمة فيه أن لا يباع بعضه ببعض متفاضلا لكان قوله واحتجاجه من جنس قول الآخرين واحتجاجهم وما هذا سبيله فكيف يكون من الدين بسبيل
قالوا وأيضا فإذا كان النص في الأصل قد دل على شيئين ثبوت الحكم فيه نطقا وتعديته إلى ما في معناه بالعلة فإذا نسخ الحكم في الأصل هل يبقى الحكم في الفرع أو يزول فإن قلتم يبقى فهو محال وإن قلتم يزول تناقضتم إذ من أصلكم أن نسخ بعض ما يتناوله النص لا يوجب نسخ جميع ما يتناوله كالعام إذا خص بعض أفراده لم يوجب ذلك تخصيص غيره فإذا كان حكم الأصل قد دل على شيئين فارتفع أحدهما فما الموجب لارتفاع الثاني وإن قلتم يثبت بالقياس ويرتفع بالقياس قيل إنما أثبتموه لوجود العلة الجامعة عندكم والعلة لم تزل بالنسخ وهي سبب ثبوته وما دام السبب قائما فالمسبب كذلك ولو زالت العلة بالنسخ لأمكن تصحيح قولكم
فإن قلتم نسخ حكم الأصل يقتضي نسخ كون العلة علة
قيل هذه دعوى لا دليل عليها فإن النص اقتضى ثبوت حكم الأصل وكون وصف كذا علة مقتضي التعدية على قولكم فهما حكمان متغايران فزوال أحدهما لا يستلزم زوال الآخر
قالوا ولو كان القياس من الدين لقال النبي ص - لأمته إذا
أمرتكم بأمر أو نهيتكم عن شيء فقيسوا عليه ما كان مثله أو شبهه ولكان هذا أكثر شيء في كلامه وطرق الأدلة عليه متنوعة لشدة الحاجة إليه ولا سيما عند غلاة القياسيين الذين يقولون إن النصوص لا تفي بعشر معشار الحوادث وعلى قول هذا الغالي الجافي عن النصوص فالحاجة إلى القياس أعظم من الحاجة إلى النصوص فهلا جاءت الوصية باتباعه ومراعاته والوصية بحفظ حدود ما أنزل الله على رسوله وأن لا تتعدى ومعلوم أن الله سبحانه حد لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه وذم من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله والذي أنزله هو كلامه فحدود ما أنزله الله هو الوقوف عند حد الاسم الذي علق عليه الحل والحرمة فإنه هو المنزل على رسوله وحده بما وضع له لغة أو شرعا بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه ولا يخرج منه شيء من موضوعه ومن المعلوم أن حد البر لا يتناول الخردل وحد التمر لا يدخل فيه البلوط وحد الذهب لا يتناول القطن ولا يختلف الناس أن حد الشيء ما يمنع دخول غيره فيه ويمنع خروج بعضه منه وقد تقدم تقرير هذا وأعدناه لشدة الحاجة إليه فإن أعلم الخلق بالدين أعلمهم بحدود الأسماء التي علق بها الحل والحرمة والأسماء التي لها حدود في كلام الله ورسوله ثلاثة أنواع نوع له حد في اللغة كالشمس والقمر والبر والبحر والليل والنهار فمن حمل هذه الأسماء على غير مسماها أو خصها ببعضه أو أخرج منها بعضه فقد تعدى حدودها ونوع له حد في الشرع كالصلاة والصيام والحج والزكاة والإيمان والإسلام والتقوى ونظائرها فحكمها في تناولها لمسمياتها الشرعية كحم النوع الأول في تناوله لمسماه اللغوي ونوع له حد في العرف لم يحده الله ورسوله بحد غير المتعارف ولا حد له في اللغة كالسفر والمرض المبيح للترخص والسفه والجنون الموجب للحجر والشقاق الموجب لبعث الحكمين والنشوز المسوغ لهجر الزوجة وضربها والتراضي المسوغ لحل التجارة والضرار المحرم بين المسلمين وأمثال ذلك وهذا النوع في تناوله لمسماه العرفي كالنوعين
الآخرين في تناولهما لمسماهما ومعرفة حدود هذه الأسماء ومراعاتها مغن عن القياس غير محوج إليه وإنما يحتاج إلى القياس من قصر في هذه الحدود ولم يحط بها علما ولم يعطها حقها من الدلالة
مثاله تقصير طائفة من الفقهاء في معرفة حد الخمر حيث خصوه بنوع خاص من المسكرات فلما احتاجوا إلى تقرير تحريم كل مسكر سلكوا طريق القياس وقاسوا ما عدا ذلك النوع في التحريم عليه فنازعهم الآخرون في هذا القياس وقالوا لا يجري في الأسباب وطال النزاع بينهم وكثر السؤال والجواب وكل هذا من تقصيرهم في معرفة حد الخمر فإن صاحب الشرع قد حده بحد يتناول كل فرد من أفراد المسكر فقال كل مسكر خمر فأغنانا هذا الحد عن باب طويل عريض كثير التعب من القياس وأثبتنا التحريم بنصه لا بالرأي والقياس
ومن ذلك أيضا تقصير طائفة في لفظ الميسر حيث خصوه بنوع من أنواعه ثم جاءوا إلى الشطرنج مثلا فراموا تحريمه قياسا عليه فنازعهم آخرون في هذا القياس وصحته وطال النزاع ولو أعطوا لفظ الميسر حقه وعرفوا حده لعلموا أن دخول الشطرنج فيه أولى من دخول غيره كما صرح به من صرح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وقالوا الشطرنج من الميسر
ومن ذلك تقصير طائفة في لفظ السارق حيث أخرجوا منه نباش القبور ثم راموا قياسه في القطع على السارق فقال لهم منازعوهم الحدود والأسماء لا تثبت قياسا فأطالوا وأعرضوا في الرد عليهم ولو أعطوا لفظ السارق حده لرأوا أنه لا فرق في حده ومسماه بين سارق الأثمان وسارق الأكفان وأن إثبات الأحكام في هذه الصور بالنصوص لا بمجرد القياس
ونحن نقول قولا ندين الله به ونحمد الله على توفيقنا له ونسأله الثبات عليه
إن الشريعة لم تحوجنا إلى قياس قط وإن فيها غنية وكفاية عن كل رأي وقياس وسياسة واستحسان ولكن ذلك مشروط بفهم يؤتيه الله عبده فيها وقد قال تعالى ففهمناها سليمان وقال علي كرم الله وجهه إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وقال النبي ص - لعبد الله بن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقال أبو سعيد كان أبو بكر أعلمنا برسول الله ص - وقال عمر لأبي موسى الفهم الفهم
فصل تناقض القياسيين دليل على فساد القياس
قالوا ومما يبين فساد القياس و بطلانه تناقض أهله فيه و اضطرابهم تأصيلا و تفصيلا
أما التأصيل فمنهم من يحتج بجميع أنواع القياس و هي قياس العلة و الدلالة والشبه و الطرد و هم غلاتهم كفقهاء ما وراء النهر و غيرهم فيحتجون في طرائقهم على منازعهم في مسألة المنع من إزالة النجاسة بالمائعات بأنه مائع لاتبنى عليه القناطر ولا تجري فيه السفن فلا تجوز إزالة النجاسة به كالزيت والشيرج وأمثال ذلك من الأقيسة التي هي إلى التلاعب بالدين أقرب منها إلى تعظيمه
وطائفة يحتجون باللأقيسة الثلاثة دونه وتقول قياس العلة أن يكون الجامع هو العلة التي لأجلها شرع الحكم في الأصل و قياس الدلالة أن يجمع بينهما بديل العلة و قياس الشبه أن يتجاذب الحادثة أصلان حاظر و مبيح و لكل واحد من الأصلين أوصاف فتلحق الحادثة بأكثر من الأصلين أوصاف فتلحق الحادثة بأكثر الأصلين شبها بها
مثل أن يكون بالإباحة أشبه بأربعة أوصاف و بالحظر بثلاثة فيلحق بالإباحة
وقد قال الإمام أحمد في هذا النوع في راوية أحمد بن الحسين القياس أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فأردت أن تقيس عليه فهذا الخطأ و قد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعضها فإذا كان مثله في كل أحواله فما أقبلت به وأدبرت به فليس في نفسي منه شيء و بهذا قال أكثر الحنفية والمالكية و الحنابلة و قالت طائفة لا قياس إلا قياس العلة فقط و قالت فرقة بذلك و لكن إذا كانت العلة منصوصة
ثم اختلف القياسيون في محل القياس فقال جمهورهم يجرى في الأسماء و الأحكام وقالت فرقة لا بل لا تثبت الأسماء قياسا و إنما محل القياس الأحكام
ثم اختلفوا فأجراه جمهورهم في العبادات واللغات و الحدود و الأسباب و غيرها ومنعته طائفة في ذلك واستثنت طائفة الحدود والكفارات فقط واستثنت طائفة أخرى معها الأسباب
وكل هؤلاء قسموه إلى ثلاثة أقسام قياس أولى وقياس مثل وقياس أدنى ثم اضطربوا في تقديمه على العموم أو بالعكس على قولين واضطربوا في تقديمه على خبر الآحاد الصحيح فجمهورهم قدم الخبر
وقال أبو بكر بن الفرج القاضي وأبو بكر الأبهري المالكيان هو مقدم على خبر الواحد ولا يمكنهم ولا أحد من الفقهاء طرد هذا القول البتة بل لا بد من تناقضهم واضطربوا في تقديمه على الخبر المرسل وعلى قول الصحابى فمنهم من قدم القياس ومنهم من قدم المرسل وقول الصحابى
وأكثرهم بل كلهم يقدمون هذا تارة وهذا تارة فهذا تناقضهم في التأصيل
وأما تناقضهم في التفصيل فنذكر منه طرفا يسيرا يدل على ما وراءه من قياسهم في المسألة قياسا وتركهم فيها مثله أو ما هو أقوى منه أو تركهم نظير ذلك القياس أو أقوى منه في مسألة أخرى لا فرق بينهما البتة
أمثلة من تناقض القياسيين
فمن ذلك أنهم أجازوا الوضوء بنبيذ التمر وقاسوا في أحد القولين عليه سائر الأنبذة وفي القول الآخر لم يقيسوا عليه فإن كان هذا القياس حقا فقد تركوه وإن كان باطلا فقد استعملوه ولم يقيسوا عليه الخل ولا فرق بينهما وكيف كان نبيذ التمر تمرة طبية وماء طهورا ولم يكن الخل عنبة طيبة وماء طهورا والمرق لحما طيبا وماء طهورا ونقيع المشمش والزبيب كذلك فإن ادعوا الإجماع على عدم الوضوء بذلك فليس فيه إجماع فقد قال الحسن بن صالح بن حي وحميد بن عبد الرحمن يجوز الوضوء بالخل وإن كان الإجماع كما ذكرتم فهلا قستم المنع من الوضوء بالنبيذ على ما أجمعوا عليه من المنع من الوضوء بالخل فإن قلتم اقتصرنا على موضع النص ولم نقس عليه قيل لكم فهلا سلكتم ذلك في جميع نصوصه واقتصرتم على محالها الخاصة ولم تقيسوا عليها فإن قلتم لأن هذا خلاف القياس قيل لكم فقد صرحتم أن ما ثبت على خلاف القياس يجوز القياس عليه ثم هذا يبطل أصل القياس فإنه إذا جاز ورود الشريعة بخلاف القياس علم أن القياس ليس من الحق وأنه عين الباطل فإن الشريعة لا ترد بخلاف الحق أصلا ثم من قاعدتكم أن خبر الواحد إذا خالف الأصول لم يقبل وفي أي الأصول وجدتم ما يجوز التطهير به خارج المصر والقرية ولا يجوز التطهير به داخلهما فإن قالوا اقتصرنا في ذلك على موضع النص قيل فهلا اقتصرتم به على خارج مكة فقط حيث جاء الحديث وكيف ساغ لكم قياس الغسل من
الجنابة في ذلك على الوضوء دون القياس داخل المصر على خارجه وقياس العنبة الطيبة والماء الطهور واللحم الطيب والماء الطهور والدبس الطيب والماء الطهور على التمرة الطيبة والماء الطهور فقستم قياسا وتركتم مثله وما هو أولى منه فهلا اقتصرتم على مورد الحديث ولا عديتموه إلى أشباهه ونظائره
ومن ذلك أنكم قستم على خبر مروي يا بني المطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس فقستم على ذلك الماء الذي يتوضأ به وأبحتم لبني المطلب غسالة أيدي الناس التي نص عليها الخبر وقستم الماء المستعمل في رفع الحدث وهو طاهر لاقى أعضاء طاهرة على الماء الذي لاقى العذرة والدم والميتات وهذا من أفسد القياس وتركتم قياسا أصح منه وهو قياسه على الماء المستعمل في محل التطهير من عضو إلى عضو ومن محل إلى محل فأي فرق بين انتقاله من عضو المتطهر الواحد إلى عضوه الآخر وبين انتقاله إلى عضو أخيه المسلم وقد قال النبي ص - مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ولا ريب عند كل عاقل أن قياس جسد المسلم على جسد أخيه أصح من قياسه على العذرة والجيف والميتات والدم
ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي توضأ به الرجل على العبد الذي أعتقه في كفارته والمال الذي أخرجه في زكاته وهذا من أفسد القياس وقد تركتم قياسا أصح في العقول والفطر منه وهو قياس هذا الماء الذي قد أدى به عبادة على الثوب الذي قد صلي فيه وعلى الحصى الذي رمى به الجمار مرة عند من يجوز منكم الرمي بها ثانية وعلى الحجر الذي استجمر به مرة إذا غسله أو لم يكن به نجاسة ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي وردت عليه النجاسة فلم تغير له لونا
ولا طعما ولا ريحا على الماء الذي غيرت النجاسة لونه أو طعمه أو ريحه وهذا من أبعد القياس عن الشرع والحس وتركتم قياسا أصح منه وهو قياسه على الماء الذي ورد على النجاسة فقياس الوارد على المورود مع اسوائهما في الحد والحقيقة والأوصاف أصح من قياس مائة رطل ماء وقع فيه شعرة كلب على مائة رطل خالطها مثلها بولا وعذرة حتى غيرها
ومن ذلك أنكم فرقتم بين ماء جار بقدر طرف الخنصر تقع فيه النجاسة فلم تغيره وبين الماء العظيم المستبحر إذا وقع فيه مثل رأس الإبرة من البول فنجستم الثاني دون الأول وتركتم محض القياس فلم تقيسوا الجانب الشرقي من غدير كبير في غربيه نجاسة على الجانب الشمالي والجنوبي وكل ذلك مماس لما قد تنجس عندكم مماسة مستوية
وقاسوا باطن الأنف على ظاهره في غسل الجنابة فأوجبوا الاستنشاق ولم يقيسوه عليه في الوضوء الذي أمر رسول الله ص - فيه بالاستنشاق نصا ففرقوا بينهما وأسقطوا الوجوب في محل الأمر به وأوجبوه في غيره والأمر بغسل الوجه في الوضوء كالأمر بغسل البدن في الجنابة سواء
ومن ذلك أنكم قستم النسيان على العمد في الكلام في الصلاة وفي فعل المحلوف عليه ناسيا وفيما يوجب الفدية من محظورات الإحرام كالطيب واللباس والحلف والصيد وفي حمل النجاسة في الصلاة ثم فرقتم بين النسيان والعمد في السلام قبل تمام الصلاة وفي الأكل والشرب في الصوم وفي ترك التسمية على الذبيحة وفي غير ذلك من الأحكام وقستم الجاهل على الناسي في عدة مسائل وفرقتم بينهما في مسائل أخر ففرقتم بينهما فيمن نسى أنه صائم فأكل أو شرب لم يبطل صومه ولو جهل فظن وجود الليل فأكل أو شرب فسد صومه
مع أن الشريعة تعذر الجاهل كما تعذر الناسي أو أعظم كما عذر النبي ص - المسيء في صلاته بجهله بوجوب الطمأنينة فلم يأمره بإعادة ما مضى وعذر الحامل المستحاضة بجهلها بوجوب الصلاة والصوم عليها مع الاستحاضة ولم يأمرها بإعادة ما مضى وعذر عدي بن حاتم بأكله في رمضان حين تبين له الخيطان اللذان جعلهما تحت وسادته ولم يأمره بالإعادة وعذر أبا ذر بجهله بوجوب الصلاة إذا عدم الماء فأمره بالتيمم ولم يأمره بالإعادة وعذر الذين تمعكوا في التراب كتمعك الدابة لما سمعوا فرض التيمم ولم يأمرهم بالإعادة وعذر معاوية بن الحكم بكلامه في الصلاة عامدا لجهله بالتحريم وعذر أهل قباء بصلاتهم إلى بيت المقدس بعد نسخ استقباله بجهلهم بالناسخ ولم يأمرهم بالإعادة وعذر الصحابة والأئمة بعدهم من ارتكب محرما جاهلا بتحريمه فلم يحدوه
وفرقتم بين قليل النجاسة في الماء وقليلها في الثوب والبدن وطهارة الجميع شرط لصحة الصلاة وترك الجميع صريح القياس في مسألة الكلب فطائفة لم تقس عليه غيره وطائفة قاست عليه الخنزير وحده دون غيره كالذئب الذي هو مثله أو شر منه وقياس الخنزير على الذئب أصح من قياسه على الكلب وطائفة قاست عليه البغل والحمار وقياسهما على الخيل التي هي قرينتهما في الذكر وامتنان الله سبحانه على عباده لها بركوبها واتخاذها زينة وملامسة الناس لها أصح من قياس البغل على الكلب فقد علم كل أحد أن الشبه بين البغل والفرس أظهر وأقوى من الشبه بينه وبين الكلب وقياس البغل والحمار على السنور بشدة ملامستهما والحاجة إليهما وشربهما من آنية البيت أصح من قياسهما على الكلب
وقستم الخنافس والزنابير والعقارب والصردان على الذباب في أنها لا تنجس
بالموت بعدم النفس السائلة لها وقلة الرطوبات والفضلات التي توجب التنجيس فيها ونجس من نجس منكم العظام بالموت مع تعريها من الرطوبات والفضلات جملة ومعلوم أن النفس السائلة التي في تلك الحيوانات المقيسة أعظم من النفس السائلة التي في العظام
وفرقتم بين ما شرب منه الصقر والبازي والحدأة والعقاب والأحناش وسباع الطير وما شرب منه سباع البهائم من غير فرق بينهما قال أبو يوسف سألت أبا حنيفة عن الفرق في هذا بين سباع الطير وسباع ذوات الأربع فقال أما في القياس فهما سواء ولكني أستحسن في هذا
وتركتم صريح القياس في التسوية بين نبيذ التمر والزبيب والعسل والحنطة ونبيذ العنب وفرقتم بيم المتماثلين ولا فرق بينهما البتة مع أن النصوص الصحيحة الصريحة قد سوت بين الجميع
وفرقتم بين من معه إناءان طاهر ونجس فقلتم يريقهما ويتيمم ولا يتحرى فيهما ولو كان معه ثوبان كذلك يتحرى فيهما والوضوء بالماء النجس كالصلاة في الثوب النجس ثم قلتم فلو كانت الآنية ثلاثة تحري ففرقتم بين الاثنين والثلاثة وهو فرق بين متماثلين وهذا على أصحاب الرأي وأما أصحاب الشافعي ففرقوا بين الإناء الذي كله بول وبين الإناء الذي نصفه فأكثر بول فجوزا الاجتهاد بين الثاني والإناء الطاهر دون الأول وتركوا محض القياس في التسوية بينهما
وقستم القيء على البول وقلتم كلاهما طعام أو شراب خرج من الجوف ولم تقيسوا الجشوة الخبيثة على الفسوة ولم تقولوا كلاهما ريح خارجة من الجوف
وقستم الوضوء وغسل الجنابة على الاستنجاء وغسل النجاسة في صحته بلا نية
ولم تقيسوهما على التيمم وهما أشبه به من الاستنجاء ثم تناقضتم فقلتم لو انغمس جنب في البئر لأخذ الدلو ولم ينو الغسل لم يرتفع حدثه كما قاله أبو يوسف ونقض أصله في أن مس الماء لبدن الجنب يرفع حدثه وإن لم ينو وقال محمد بل يرتفع حدثه ولا يفسد الماء فنقض أصله في فساء الماء الذي يرفع الحدث
وقستم التيمم إلى المرفقين على غسل اليدين إليهما ولم تقيسوا المسح على الخفين إلى الكعبين على غسل الرجلين إليهما ولا فرق بينهما البتة وأهل الحديث أسعد بالقياس منكم كما هم أسعد بالنص
وقستم إزالة النجاسة عن الثياب بالمائعات على إزالتها بالماء ولم تقيسوا إزالتها من القذر بها على الماء فما الفرق ثم قلتم تزال من المخرجين بكل مزيل جامد ولا تزال من سائر البدن إلا بالماء وقلتم من المخرجين بالروث اليابس ولا تزال بالرجيع اليابس مع تساويهما في النجاسة
وقستم قليل القيء على كثيره في النجاسة ولم تقيسوه عليه في كونه حدثا وقستم نوم المتورك على المضطجع في نقض الوضوء ولم تقيسوا عليه نوم الساجد وتركتم محض القياس المؤيد بالسنة المستفيضة في مسح العمامة وهي ملبوس معتاد ساتر لمحل الفرض ويشق نزعه على كثير من الناس إما لحنك أو لكلاب أو لبرد على المسح على الخفين والسنة قد سوت بينهما في المسح كما هما سواء في القياس ويسقط فرضهما في التيمم وقستم مسح الوجه واليدين في التيمم على الوضوء في وجوب الاستيعاب ولم تقيسوا مسح الرأس في الوضوء على الوجه في وجوب الاستيعاب والفعل والباء والأمر في الموضعين سواء وقستم وجود الماء في الصلاة على وجوده خارجها في بطلان صلاة المتيمم به ولم تقيسوا القهقهة في الصلاة على القهقهة في خارجها وفرقتم بين تقديم الزكاة قبل وجوبها
فأجزتموه و بين تقديم الكفارة قبل وجوبها فمنعتموه وقستم وجه المرأة في الإحرام على رأس الرجل و تركتم قياس وجهها على يديها أو على بدن الرجل وهو محض القياس و موجب السنة فإن النبي صلى الله عليه و سلم سوى بين يديها ووجهها و بين يدي الرجل ووجهه حيث قال لا تلبس القفازين ولا النقاب و كذلك قال لا يلبس المحرم القميص ولا السراويل ولا تنتقب المرأة فتركتم محض القياس و موجب السنة
وقستم المزارعة و المساقاة على الإجارة الباطلة فأبطلتموهما و تركتم محض القياس وموجب السنة وهو قياسهما على المضاربة و المشاركة فإنهما أشبه بهما منهما بالإجارة فإن صاحب الأرض و الشجر يدفع أرضه و شجره لمن يعمل عليهما وما رزق الله من نماء فهو بينه و بين العامل وهذا كالمضاربة سواء فلو لم تأت السنة الصحيحة بجوازها لكان القياس يقتضي جوازها عند القياسيين
واشترط أكثر من جوزها كون البذر من رب الأرض وقاسها على المضاربة في كون المال من واحد والعمل من واحد وتركوا محض القياس وموجب السنة فإن الأرض كالمال في المضاربة والبذر يجرى مجرى الماء والعمل فإنه يموت في الأرض ولهذا لا يجوز أن يرجع إلى ربه مثل بذره ويقتسما الباقي ولو كان كرأس المال في المضاربة لجاز بل اشترط أن يرجع إليه مثل بذره كما يرجع إلى رب المال مثل ماله فتركوا القياس كما تركوا موجب السنة الصحيحة الصريحة وعمل الصحابة كلهم
وقستم إجارة الحيوان للانتفاع بلبنه على إجارة الخبز للأكل وهذا من أفسد القياس وتركتم محض القياس وموجب القرآن فإن الله سبحانه قال فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن فقياس الشاة والبقرة والناقة للانتفاع
بلبنها على الظئر أصح وأقرب إلى العقل من قياس ذلك على إجارة الخبز للأكل فإن الأعيان المستخلفة شيئا بعد شيء بعد شيء تجرى مجرى المنافع كما جرت مجراها في المنيحة والعارية والضمان بالإتلاف فتركتم محض القياس
وقستم على ما لا خفاء بالفرق بينه وبينه وهو أن الخبز والطعام تذهب جملته بالأكل ولا يخلفه غيره بخلاف اللبن ونقع البئر وهذا من أجلى القياس
وقستم الصداق على ما يقطع فيه يد السارق وتركتم محض القياس وموجب السنة فإنه عقد معاوضة فيجوز بما يتراضى عليه المتعاوضان ولو خاتما من حديد
وقستم الرجل يسرق العين ثم يملكها بعد ثبوت القطع على ما إذا ملكها قبل ذلك وتركتم محض القياس وموجب السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقط القطع عن سارق الرداء بعد ما وهبه إياه صفوان وفرقتم بين ذلك وبين الرجل يزني بالأمة ثم يملكها فلم تروا ذلك مسقطا للحد مع أنه لا فرق بينهما
وقستم قياسا أبعد من هذا فقلتم إذا قطع بسرقتها مرة ثم عاد فسرقها لم يقطع بها ثانيا وتركتم محض القياس على ما إذا زنى بامرأة فحد بها ثم زنى بها ثانية فإن الحد لا يسقط عنه ولو قذفه فحد ثم قذفه ثانيا لم يسقط عنه الحد
وقستم نذر صوم يوم العيد في الانعقاد ووجوب الوفاء على النذر صوم اليوم القابل له شرعا وتركتم محض القياس وموجب السنة ولم تقيسوه على صوم يوم الحيض وكلاهما غير محل الصوم شرعا فهو بمنزلة الليل وقستم وجعلتم المحتقن بالخمر كشاربها في الفطر بالقياس ولم تجعلوه كشاربها
في الحد وقستم الكافر الذمي والمعاهد على المسلم في قتله به ولم تقيسوه على الحربي في إسقاط القود
ومن المعلوم قطعا أن الشبه الذي بين المعاهد والحربي أعظم من الشبه الذي بين الكافر والمسلم والله سبحانه وتعالى قد سوى بين الكفار كلهم في إدخالهم نار جهنم وفى قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين وفى عدم التوارث بينهم وبين المسلمين وفي منع قبول شهادتهمعلى المسلمين وغير ذلك وقطع المساواة بين المسلمين والكفار فتركتم محض القياس وهو التسوية بين ما سوى الله بينه وسويتم بين ما فرق الله بينه
ومن العجب أنكم قستم المؤمن على الكافر في جريان القصاص بينهما في النفس والطرف ولم تقيسوا العبد المؤمن على الحر في جريان القصاص بينهما في الأطراف فجعلتم حرمة عدو الله الكافر في أطرافه أعظم من حرمة وليه المؤمن وكأن نقص المؤمن العبودية الموجب للأجرين عند الله أنقص عندكم من نقص الكفر وقلتم يقتل الرجل بالمرأة ثم ناقضتم فقلتم لا يؤخذ طرفه بطرفها وقلتم يقتل العبد بالعبد وإن كانت قيمة أحدهما مائة درهم وقيمة الآخر مائة ألف درهم ثم ناقضتم فقلتم لا يؤخذ طرفه بطرفه إلا أن تتساوى قيمتهما فتركتم محض القياس فإن الله سبحانه ألغى التفاوت بين النفوس والأطراف في الفضل لمصلحة المكلفين ولعدم ضبط التساوي فألغيتم ما اعتبره الله سبحانه من الحكمة والمصلحة واعتبرتم ما ألغاه من التفاوت وقستم قوله إن كلمت فلانا أو بايعته فامرأتي طالق وعبدي حر علي ما إذا قال أن أعطيتني ألفا فأنت طالق ثم عديم ذلك إلى قوله الطلاق يلزمني لا أكلم فلانا ثم كلمه ولم تقيسوه على قوله إن كلمت فلانا فعلي صوم سنة أو حج إلى بيت الله أو فمالى صدقة وقلتم هذا يمين لا تعليق مقصود فتركتم محض القياس فإن قوله الطلاق يلزمني لا أكلم فلانا يمين
لا تعليق وقد أجمع الصحابة على أن قصد اليمين في العتق يمنع من وقوعه وحكي غير واحد إجماع الصحابة أيضا على أن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق إذا حنث وممن حكاه أبو محمد بن حزم وحكاه أبو القاسم عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التميمي المعروف بابن بزيزة في كتابه المسمى بمصالح الأفهام في شرح كتاب الأحكام في باب ترجمة الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه
وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والشرط وغير ذلك هل يلزم أم لا فقال علي بن أبي طالب وشريح وطاوس لا يلزم من ذلك شيء ولا يقضي بالطلاق على من حلف به فحنث ولم يعرف لعلي كرم الله وجهه في الجنة في ذلك مخالف من الصحابة قال وصح عن عطاء فيمن قال لامرأته أنت طالق إن لم أتزوج عليك قال إن لم يتزوج عليها حتى يموت أو تموت فإنهما يتوارثان وهو قول الحكم بن عتبة ثم حكى عن عطاء فيمن حلف بطلاق امرأته ليضربن زيدا فمات أحدهما أو ماتا معا فلا حنث عليه ويتوارثان وهذا صريح في أن يمين الطلاق لا يلزم ولا تطلق الزوجة بالحنث فيها ولو حنث قبل موته لم يتوارثا فحيث أثبت التوارث دل على أنها زوجة عنده وكذلك عكرمة مولى ابن عباس أيضا عنده يمين الطلاق لا يلزم كما ذكره عنه سنيد بن داود في تفسيره في سورة النور عند قوله يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن العجب أنكم قلتم إذا قال إن شفى الله مريضي فعلي صوم شهر أو صدقة أو حجة لزمه لأنه قاصد للنذر فإذا قال إن كلمت فلانا فعلي صوم أو صدقة لم يلزمه لأنه نذر لجاج وغضب فهو يمين فيه كفارة اليمين فجعلتم قصده لعدم الوقوع مانعا من ثلاثة أشياء إيجاب ما التزم ووجوبه عليه ووقوعه
وقلتم لو قال إن فعلت كذا فعلي الطلاق وفعله لزمه ولم يمنع قصد الحلف من وقوعه وهو أبغض الحلال إلى الله ومنع من وجوب القربات التي هي أحب شيء إلى الله فخالفتم صريح القياس والمنقول عن الصحابة والتابعين بأصح إسناد يكون ثم ناقضتم القياس من وجه آخر فقلتم إذا قال الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله ثم لم يفعله لم يحنث لأنه أخرجه مخرج اليمين وقد قال النبي ص - من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك فجعلتموه يمينا ثم قلتم يلزمه وقوع الطلاق لأنه تعليق فليس بيمين ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم لو قال الطلاق يلزمني لا أجامعها سنة فهو مول فيدخل في قوله تعالى للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر والألية والإيلاء والائتلاء هو الحلف بعينه كما فىالحديث تألى على الله أن لا يفعل خيرا وقال تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى وقال الشاعر ... قليل الألايا حافظ ليمنيه ... وإن بدرت منه الألية برت ...
ثم قلتم وليس بيمين فيدخل في قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فيالله العجب ما الذي أحله عاما وحرمه عاما وجعله يمينا وليس بيمين ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم إن قال إن فعلت كذا فأنا كافر وفعله لم يكفر لأنه لم يقصد الكفر وإنما قصد مع نفسه من الفعل بمنعها من الكفر وهذا حق لكن نقضتموه في الطلاق والعتاق مع أنه لا فرق بينهما البتة في هذا المعنى الذي منع من وقوع الكفر ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم لو قال إن فعلت كذا فعلي أن أطلق امرأتي فحنث لم يلزمه أن يطلقها ولو قال إن فعلته فالطلاق يلزمني فحنث وقع عليه الطلاق ولا تفرق اللغة ولا الشريعة بين المصدر وأن الفعل
فإن قلتم الفرق بينهما أنه التزم في الأول التطبيق وهو فعله وفي الثاني وقوع الطلاق وهو أثر فعله
قيل هذا الفرق الذي تخيلتموه لا يجدي شيئا فإن الطلاق هو التطليق بعينه وإنما أثره كونها طالقا وهذا غير الطلاق فههنا ثلاثة أمور مرتبة التزام التطليق وهذا غير الطلاق بلا شك والثاني إيقاع التطليق وهو الطلاق بعينه الذي قال الله فيه الطلاق مرتان وقال النبي ص - الطلاق لمن أخذ بالساق الثالث صيرورة المرأة طالقا وبينونتها فالقائل إن فعلت كذا فعلي الطلاق لم يرد هذا الثالث قطعا فإنه ليس إليه ولا من فعله وإنما هو إلى الشارع والمكلف إنما يلزم ما يدخل تحت مقدرته وهو إنشاء الطلاق فلا فرق أصلا بين هذا اللفظ وبين قوله فعلي أن أطلق فالتفريق بينهما تفريق بين متساويين وهو عدول عن محض القياس من غير نص ولا إجماع ولا قول صاحب
يوضحه أن قوله فالطلاق لازم لي إنما هو فعله الذي يلزمه بالتزامه وأما كونها طالقا فهذا وصفها فليس هو لازما له وإنما هو لازم لها ا فلينظر اللبيب المنصف الذي العلم أحب إليه من التقليد إلى مقتضى القياس المحض واتباع الصحابة والتابعين في هذه المسألة ثم ليختر لنفسه ما شاء والله الموفق
ثم ناقضتم أيضا من وجه آخر فقلتم لو قال إن حلفت بطلاقك أو وقع مني يمين بطلاقك أو لم يقل بطلاقك بل قال متى حلفت أو أوقعت يمينا فأنت طالق ثم قال إن كلمت فلانا فأنت طالق حنث وقد وقع عليه الطلاق لأنه قد حلف وأوقع اليمين فأدخلتم الحلف بالطلاق في اسم اليمين والحلف في كلام المكلف ولم تدخلوه في اسم اليمين والحلف في كلام الله ورسوله وزعمتم أنكم اتبعتم في ذلك القياس والإجماع وقد أريناكم مخالفتكم لصريح القياس مخالفة لا يمكنكم
الانفكاك عنها بوجه ومخالفتكم للمنقول عن الصحابة والتابعين كأصحاب ابن عباس فظهر عند المنصفين أنا أولى بالقياس والاتباع منكم في هذه المسألة وبالله التوفيق
وقلتم لو شهد عليه أربعة بالزنا فصدق الشهود سقط عنه الحد وإن كذب لهم أقيم عليه الحد وهذا من أفسد قياس في الدنيا فإن تصديقهم إنما زادهم قوة وزاد الإمام يقينا وعلما أعظم من العلم الحاصل بالشهادة وتكذيبه وتفريقكم بأن البينة لا يعمل بها إلا مع الإنكار فإذا أقر فلا عمل للبينة والإقرار مرة لا يكفي فيسقط الحد تفريق باطل فإن العمل هاهنا بالبينة لا بالإقرار وهو إنما صدر منه تصديق البينة التي وجب الحكم بها بعد الشهادة فسواء أقر أم لم يقر فالعمل إنما هو بالبينة
وقلتم لو وجد الرجل امرأة على فراشه فظن أنها امرأته فوطئها حد حد الزنا ولا يكون هذا شبهة مسقطة للحد ولو عقد على ابنته أو أمه ووطئها كان ذلك شبهة مسقطة للحد ولو حبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد وولدت مرة بعد مرة لم تحد ولو تقيأ الخمر كل يوم لم يحد فتركتم محض القياس والثابت عن الصحابة ثبوتا لا شك فيه من الحد بالحبل ورائحة الخمر
وقلتم لو شهد عليه أربعة بالزنا فطعن في عدالتهم حبس إلا أن تزكى الشهود ولو شهد عليه اثنان بمال فطعن في عدالتهما لم يحبس قبل التزكية فتركتم محض القياس وقستم دعوى المرأتين الولد وإلحاقه بهما وجعلهما أمين له على دعوى الرجلين وهذا من أفسد القياس فإن خروج الولد من أمين معلوم الاستحالة وتخليقه من ماء الرجلين ممكن بل واقع كما شهد به القائف عند عمر وصدقه
وقلتم لو قال الأجنبي طلق امرأتي فله أن يطلق في المجلس وبعده ولو قال لامرأته طلقي نفسك فلها أن تطلق نفسها ما دامت في المجلس ثم فرقتم بينهما بأن طلقي نفسك تمليك لا توكيل لاستحالة أن يكون وكيلا في التصرف لنفسه فيقيد بالمجلس وأما بالنسبة إلى الأجنبي فتوكيل فلا يتقيد وهذا الفرق دعوى مجردة ولم تذكروا حجة على أن قوله طلقي نفسك تمليك وقولكم الوكيل لا يتصرف لنفسه جوابه له أن يتصرف لنفسه ولموكله ولهذا كان ألا الشريك وكيلا بعد قبض المال والتصرف وإن كان متصرفا لنفسه فإن تصرفه لا يختص به ثم ناقضتم هذا الفرق فقلتم لو قال أبرىء نفسك من الدين الذي عليك فإنه لا يتقيد بالمجلس ويكون توكيلا مع أنه تصرف مع نفسه ففرقتم بين طلقي نفسك وأبرىء نفسك مما عليك من الدين وهو تفريق بين متماثلين فتركتم محض القياس
وقالوا من أقام شهود زور على أن زيدا طلق امرأته فحكم الحاكم بذلك فهي حلال لمن تزوجها من الشهود وكذلك لو أقام شهود زور على أن فلانة تزوجته بولي ورضى فقضى القاضي بذلك فهي له حلال وكذلك لو شهدوا عليه بأنه أعتق جاريته هذه فقضى القاضي بذلك فهي حلال لمن تزوجها ممن يدري باطن الأمر فتركوا محض القياس وقواعد الشريعة ثم ناقضوا فقالوا لو شهدوا له زورا بأنه وهب له مملكته هذه أو باعها منه لم يحل له وطؤها بذلك ثم ناقضوا بذلك أعظم مناقضة فقالوا لو شهد بأنه تزوجها بعد انقضاء عدتها من المطلق وكانا كاذبين فإنها لا تحل وحبسها على زوجها أعظم من حبسها على عدته فأحلوها في أعظم العصمتين وحرموها في أدناهما وحرمة النكاح أعظم من حرمة العدة
وقلتم لا يحد الذمي إذا زنا بالمسلمة ولو كانت قرشية علوية أو عباسية ولا بسب الله ورسوله وكتابه ودينه جهرة في أسواقنا ومجامعنا ولا بتخريب مساجد المسلمين ولو أنها المساجد الثلاثة ولا ينتقض عهده بذلك وهو معصوم المال والدم حتى إذا منع دينارا واحدا مما عليه من الجزية وقال لا أعطيكموه انتقض بذلك عهده وحل ماله ودمه ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم لو سرق لمسلم عشرة دراهم لقطعت يده ولو قذفه حد بقذفه فيا للقياس الفاسد الباطل المناقض للدين والعقل الموجب لهذه الأقوال التي يكفي في ردها تصورها كيف استجاز المستجيز تقديمها على السنن والآثار والله المستعان
وأجزتم شهادة الفاسقين والمحدودين في القذف والأعميين في النكاح ثم ناقضتم فقلتم لو شهد فيه عبدان صالحان عالمان يفتيان في الحلال والحرام لم يصح النكاح ولم ينعقد بشهادتهما فمنعتم انعقاده بشهادة من عدله الله ورسوله ص - وعقد تموه بشهادة من فسقه الله ورسوله ومنع من قبول شهادته
وقلتم لو شهد شاهد على زيد أنه غصب عمر مالا أو شجه أو قذفه وشهد آخر بأنه أقر بذلك ولم يتم النصاب لم يقض عليه بشيء ولو شهد شاهد بأنه طلق امرأته أو أعتق عبده أو باعه وشهد آخر بإقراره بذلك تمت الشهادة وقضي عليه
وقلتم لو قال له بعتك هذا العبد بألف فإذا هو جارية أو بالعكس فالبيع باطل فلو قال بعتك هذه النعجة بعشرة فإذا هي كبش أو بالعكس فالبيع صحيح ثم فرقتم بأن قلتم المقصود من الجارية والعبد مختلف والمقصود من النعجة والكبش متقارب وهو اللحم وهذا غير صحيح فإن الدر والنسل المقصود من الأنثى لا يوجد في الذكر وعسب الفحل وضرابه المقصود منه لا يوجد في الأنثى ثم ناقضتم أبين مناقضة بأن قلتم لو قال بعتك هذا القمح فإذا هو شعير أو هذه الألية فإذا هي شحم لم يصح للبيع مع تقارب القصد
وقلتم لو باعه ثوبا من ثوبين لم يصح البيع لعدم التعيين فلو كانت ثلاثة أثواب فقال بعتك واحد منها صح البيع فيالله العجب كيف أبطلتموه مع قلة الجهالة والغرر وصححتموه مع زيادتهما أفترى زيادة الثوب الثالث خففت الغرر ولا دفعت الجهالة وتفريقكم بأن العقد على واحد من اثنين يتضمن الجهالة والتعزير لأنه قد يكون أحدهما مرتفعا والآخر رديئا فيفضي إلى التنازع والاختلاف فإذا كانت ثلاثة فالثلاثة تتضمن الجيد والردىء والوسط فكأنه قال بعتك أوسطها وذلك أقل غررا من بيعه واحدا من اثنين ردىء وجيد وإذا أمكن حمل كلام المتعاقدين على الصحة فهو أولى من إلغائه وهذا الفرق ما زاد المسألة إلا غرارا وجهالة فإن النزاع كان يكون في ثوبين فقط وأما الآن فصار في ثلاثة وإذا قال إنما وقع العقد على الوسط قال الآخر بل على الأدنى أو على الأعلى
وقلتم لو اشترى جارية ثم أراد وطأها قبل الإستبراء لم يجز ولو تيقنا فراغ رحمها بأن كانت بكرا أو كانت بائعتها امرأة معه في الدار بحيث تيقن أنها غير مشغولة الرحم أو باعها وقد ابتدأت في الحيضة ونحو ذلك ثم قلتم لو وطئها السيد البارحة ثم زوجها منه الغد جاز له وطؤها ورحمها مشتغل على ماء الوطء فتركتم محض القياس والمصلحة وحكمة الشارع لفرق متخيل لا يجدى شيئا وهو أن النكاح لما صح كان ذلك حكما بفراغ الرحم فإذا حكم بفراغ رحمها جاز له وطؤها فيقال يا لله العجب كيف يحكم بفراغ رحمها وهو حديث عهد بوطئها وهل هذا إلا حكم باطل مخالف للحس والعقل والشرع نعم لو أنكم قلتم لا يحل له تزوجها حتى يستبرئها ويحكم بفراغ رحمها لكان هذا فرقا صحيحا وكلاما متوجها ويقال حينئذ لا معنى لاستبراء الزوج فله أن يطئها عقيب العقد فذا محض القياس وبالله التوفيق
وقلتم من طاف أربعة أشواط من السبع فلم يكمله حتى رجع إلى أهله
أنه يجبره بدم وصح حجه إقامة للأكثر مقام الكل فخرجتم عن محض القياس لأن الأركان لا مدخل للدم في تركها وما أمر به الشارع لا يكون المكلف ممتثلا به حتى يأتى بجميعه و لا يقوم أكثره مقام كله كما لا يقوم الأكثر مقام الكل في الصلاة والصيام والزكاة والوضوء وغسل الجنابة فهذا هو القياس الصحيح والمأمور ما لم يفعل ما أمر به فالخطاب متوجه إليه بعد وهو في عهدته والنبي ص - لم يسامح المتوضىء بترك لمعة في محل الفرض لم يصبها الماء ولا أقام الأكثر مقام الكل والذي جاءت به الشريعة هو الميزان العادل لا هذا الميزان العائل وبلله التوفيق
وقستم الأدهان بالخل والزيت في الإحرام على الأدهان بالمسك والعنبر في وجوب الفدية ويا بعد ما بينهما ولم تقيسوا نبيذ التمر على نبيذ العنب مع قرب الأخوة التي بينهما
وقلتم لو أفطر في نهار رمضان فلزمته الكفارة ثم سافر لم تسقط عنه لأن سفره قد يتخذ وسيلة وحيلة إلى إسقاط ما أوجب الشرع فلا تسقط وهذا لخلاف ما إذا مرض أو حاضت المرأة فإن الكفارة تسقط لأن الحيض والمرض ليس من فعله ثم ناقضتم أعظم مناقضة فقلتم لو احتال لإسقاط الزكاة عند آخر الحول فملك ماله لزوجته لحظة فلما انقضى الحول استرده منها واعتذاركم بالفرق بأن هذا تحيل على منع الوجوب وذلك تحيل على إسقاط الواجب بعد ثبوته والفرق بينهما ظاهر اعتذار لا يجدي شيئا فإنه كما لا يجوز التحيل لإسقاط ما أوجبه الله ورسوله لا يجوز التحيل لإسقاط أحكامه بعد انعقاد أسبابها ولا تسقط بذلك
وإذا انعقد سبب الوجود لم يكن للمكلف لإسقاطه بعد ذلك سبيل وسبب الوجوب هنا قائم وهو الغنى بملك النصاب وهو لم يخرج عن الغنى بهذا التحيل
ولا يعده الله ولا رسوله ولا أحد من خلقه ولا نفسه فقيرا مسكينا 2بهذا التحيل يستحق أخذ الزكاة ولا تجب عليه الزكاة
هذا من أقبح الخداع والمكر فكيف يروج على من يعلم خفايا الأمور وخبايا الصدور وأين القياس والميزان والعدل الذي بعث الله به رسله من التحيل على المحرمات وإسقاط الواجبات وكيف تخرج الحيلة المفسدة التى في العقود المحرمة عن كونها مفسدة أم كيف يقلل بها مصلحة محضة ومن المعلوم أن المفسدة تزيد بالحيلة ولا تزول وتتضاعف ولا تضعف فكيف تزول المفسدة العظيمة التي اقتدت لعنة الله ورسوله للمحلل والمحلل له بأن يشترطا ذلك قبل العقد ثم يعقدا بنية ذلك الشرط ولا يشرطاه في صلب العقد فإذا أخليت صلب العقد من التلفظ بشرطه حسب والله ورسوله والناس وهما يعلمون أن العقد إنما عقد على ذلك فيالله العجيب أكانت هذه اللعنة على مجرد ذكر الشرط فى صلب العقد تقدم على العقد انقلبت اللعنة رحمة وثوابا وهل الاعتبار في العقود إلا بحقائقها ومقاصدها وهل الألفاظ إلا مقصودة لغيرها قصد الوسائل فكيف يضاع المقصود ويعدل عنه في عقد مساو لغيره من كل وجه لأجل تقديم لفظ أو تأخيره أو إبداله بغيره والحقيقة واحدة هذا مما تنزه عنه الشريعة الكاملة المشتملة على مصالح العباد في دينهم ودنياهم فأصحاب الحيل تركوا محض القياس فإن ما احتالوا عليه من العقود المحرمة مساو من كل وجه لها في القصد والحقيقة والمفسدة والفارق أمر صوري أو لفظي لا تأثير له البتة فأي فرق بين أن يبيعه تسعة دراهم بعشرة ولا شيء معها وبين أن يضم إلى أحد العوضين خرقة تساوي فلسا أو عود حطب أو أذن شاة ونحو ذلك فسبحان الله ما أعجب حال هذه الضميمة الحقيرة التي لا تقصد كيف جاءت إلى المفسدة التي أذن الله ورسوله بحرب من توسل إليها بعقد الربا فأزالتها ومحتها بالكلية بل قلبتها مصلحة وجعلت حرب الله ورسوله سلما ورضا وكيف جاء محلل الربا المستعار الذي
هو أخو محلل النكاح إلى تلك المفاسد العظيمة فكشطها كشط الجلد عن اللحم بل قبلها مصالح بإدخال سلعة بين المرابيين تعاقدا عليها صورة ثم أعيدت إلى مالكها ولله ما أفقه ابن عباس في الدين وأعلمه بالقياس والميزان حيث سئل عما هو أقرب من ذلك بكثير فقال دراهم بدراهم دخلت بينهما جريرة فيالله العجب كيف اهتدت هذه الجريرة لقلب مفسدة الربا مصلحة ولعنتة آكله رحمة وتحريمه إذنا وإباحة
ثم أين القياس والميزان في إباحة العينة التي لا غرض للمرابيين في السلعة قط وإنما غرضهما ما يعلمه الله ورسوله وهما والحاضرون من أخذ مائة حالة وبذل مائة وعشرين مؤجلة ليس لهما غرض وراء ذلك البتة فكيف يقول الشارع الحكيم إذا أردتم حل هذا فتحيلوا عليه بإحضار سلعة يشتريها آكل الربا بثمن مؤجل في ذمته ثم يبيعها للمرابي بنقد حاضر فينصرفان على مائة بمائة وعشرين والسلعة حرف جاء لمعنى في غيره وهل هذا إلا عدول عن محض القياس وتفريق بين متماثلين في الحقيقة والقصد والمفسدة من كل وجه بل مفسدة الحيل الربوية أعظم من مفسدة الربا الخالي عن الحيلة فلو لم تأت الشريعة بتحريم هذه الحيل لكان محض القياس والميزان العادل يوجب تحريمها ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى من احتال على استباحة ما حرمه بما لم يعاقب به من ارتكب ذلك المحرم عاصيا فهذا من جنس الذنوب التي يتاب منها وذاك من جنس البدع التي يظن صاحبها أنه من المحسنين
والمقصود ذكر تناقض أصحاب القياس والرأي فيه وأنهم يفرقون بين المتماثلين ويجمعون بين المختلفين كما فرقتم بين ما لو وكل رجلين معا في الطلاق فقلتم لأحدهما أن ينفرد بإيقاعه ولو وكلهما معا في الخلع لم يكن لأحدهما أن ينفرد به وفرقتم بين الأمرين بما لا يجدي شيئا وهو أن الخلع كالبيع
وليس لأحد الوكيلين الانفراد به لأنه أشرك بينهما في الرأي ولم يرض بانفراد أحدهما وأما الطلاق فليس المقصود منه المال وإنما هو تنفيذ قوله وامتثال أمره فهو كما لو أمرهما بتبليغ الرسالة وهذا فرق لا تأثير له البتة بل هو باطل فإن احتياج الطلاق ومفارقة الزوجة إلى الرأي والخبرة والمشاورة مثل احتياج الخلع أو أعظم ولهذا أمر الله سبحانه ببعث الحكمين معا وليس لأحدهما أن ينفرد بالطلاق مع أنهما وكيلان عند القياسيين والله تعالى جعلهما حكمين ولم يجعل لأحدهما الانفراد فما بال وكيلي الزوج لأحدهما الانفراد وهل هذا إلا خروج عن محض القياس وموجب النص
وقلتم لو قال لامرأته طلقي نفسك ثم نهاها في المجلس ثم طلقت نفسها وقع الطلاق ولو قال ذلك لأجنبي ثم نهاه في المجلس ثم طلق لم يقع الطلاق فخرجتم عن موجب القياس وفرقتم بأن قوله لها تمليك وقوله للأجنبي توكيل وقد تقدم بطلان هذا الفرق قريبا
وقلتم لو وصى إلى عبد غيره فالوصية باطلة وإن أجاز سيده ولو وكل عبد غيره فالوكالة جائزة وإن ردها السيد ولكن تكره بدون إذنه
وقلتم إذا أوصى بأن يعتق عنه عبدا بعينه فأعتقه الوارث عن نفسه وقع عن الميت ولو أعتقه الوصي عن نفسه لم يجز عن نفسه ولا عن الميت وفرقتم بأن تصرف الوارث بحق الملك فنفذ تصرفه وإن خالف الموصي وتصرف الوصي بحق الوكالة فلا يصح فيما خالف الموصي وهذا فرق لا يصح فإن تعيين الموصي للعتق في هذا العبد قطع ملك الوارث له فهو كما لو أوصى إلى أجنبي بعتقه سواء وإنما ينتقل إلى الوارث من التركة ما زاد على الدين والوصية اللازمة
وقلتم لو قال ثلث مالي لفلان وفلان وأحدهما ميت فالثلث كله للحي ولو قال بين فلان وفلان وأحدهما ميت فللحي نصفه وهذا تفريق بين متماثلين لفظا ومعنى وقصدا واقتضاء الواو للتشريك كاقتضاء بين ولهذا
وقلتم لو أوصى له بثلث ماله وليس له من المال شيء ثم اكتسب مالا فالوصية لازمة في ثلثه ولو أوصى له بثلث غنمه ولا غنم له ثم اكتسب غنما فالوصية باطلة فتركتم محض القياس وفرقتم تفريقا لا تأثير له ولا يتحصل منه عند التحقيق شيء والله المستعان وعليه التكلان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق